المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 219 - بتاريخ: 13 - 09 - 1937 - مجلة الرسالة - جـ ٢١٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 219

- بتاريخ: 13 - 09 - 1937

ص: -1

‌معاملة الناس

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

لو أني صدقت ما حدثني به شيوخ الجيل الماضي الذين هم في منزلة آبائنا وأعمامنا، وما رووه لي في وصف حياتهم المنقرضة ومعاملاتهم وعلاقاتهم، لكنت حرياً أن أعتقد أن ذاك الجيل الذي انقضى كان أفضل وكان حظه من الرجولة أعظم، ونصيبه من البساطة التي يستقيم بها النظر أوفر وأجزل؛ فقد كان الفقر لا يعيب أحداً في ذلك الزمان. ولا يغري الصديق بالفرار من صديقه أو اجتنابه؛ وكان حسن الأدب والتواضع ولين الجانب لا يعرض المرء للاستخفاف أو قلة المبالاة به؛ وكان للعلم شأنه وكرامته، وكانت المعاملات تقوم على الصدق والثقة ولا تحتاج إلى الصكوك وما إليها؛ وكان الصغير يوقر الكبير، ولا يغمط الكبير فضل الصغير أو يبخسه حقه، إلى آخر ذلك مما لا حاجة إلى التقصي فيه. وقد أدركت بعض ذلك ففي وسعي أن أطمئن إلى الصدق في سائره، فمن ذلك أنه بعد وفاة أبي بشهور ثقيلة، دق علينا الباب رجل من العلماء كان زميلاً لأبي، وقال إن (الأفندي) - يعني والدي فقد اتخذ زي الأفندية في آخر زمانه - ترك معه قبيل وفاته مبلغاً من المال، وإنه لا علم لأحد بذلك، وإنه يخشى أن يزوره الأجل، ودفع إلينا المال ومضى مرتاح الضمير. ولا أدري ما شأن غيري، ولكن الذي أدريه أنه لو ائتمنني أحد على مال له لكان حقيقاً أن ييأس من رده!

وقد وجدت بالتجربة أنه لا كرامة لمن لا مال له، وأن صاحب المال، وإن كان قد جمعه بشر الوسائل وأرذلها وأسفلها، قد يغتابه الناس ويبسطون فيه ألسنتهم ولكنهم لا يلقونه بغير الحفاوة ولا يبدون له غير التعظيم والتوقير، وأن من شاء أن يضمن إكبار الناس له فليشعرهم بالاستغناء عنهم، وأن الناس ينزلونك حيث أنزلت نفسك، ولا يخطر لهم أن يرفعوك عنه، فإذا كنت معهم عف اللسان مكفوف السلاطة مأمون الغضب، لم يهابوك ولم يبالوك، ولم يتقوا أن يسيئوا إليك وإن كانوا يرون منك أنك تكره أن تسيء إلى نملة؛ وقد يظهرون لك الاحترام ولكنهم يعدون ذلك فضلاً منهم وإيثاراً للصنع الجميل، لا حقاً لك عليهم. أما إذا كانوا يعرفون أن أدبَك لا يمنعك أن تهيج بهم وأن لينك قد ينقلب صلابة وعنفاً، ورقة ملمسك خليقة أن تحور شوكاً حاداً كشوك القنفد، إذا خطر لهم أن يجاوزوا

ص: 1

معك الحدود التي ترسمها لهم في علاقتك بهم، وتفرضها عليهم، فأيقن أنهم لا يكونون معك في حال من الأحوال إلا على ما تحب وترضى، وقد يسخطون عليك في سريرتهم ويكتمونك ما ينطوون عليه لك من المقت والحقد، ولكن هذا لا قيمة له، فأن الخوف من عصفك بهم يظل يقيك أذاهم. وماذا يضيرك أن يجدوا ويضطغنوا إذا كانوا لا يجرءون أن يكشفوا لك عن هذه الصفحة المستورة؟؟ وإنك لتعلم أنهم ينافقون ويبدون غير ما يبطنون، ولكن الحيلة في ذلك قليلة، والشأن شأنهم لا شأنك، وعلى أنه ما داعي الغيظ والنقمة؟ وما موجب الكراهية والمقت؟ وما الحاجة إلى النفاق؟ إن كل ما تبغيه منهم أن يجنبوا الإساءة إليك كما تجنبها إليهم، فإذا بدءوك بذلك فانهم الظالمون، والشاعر القديم يقول:

لا تطمعوا أن تهينونا، ونكرمَكم

وأن نكفّ الأذى عنكم، وتؤذونا!

فإذا كانوا يأبون إلا أن ينتحلوا الحق في الإساءة بلا مسوغ، فذنبهم على جنبهم. وتالله ما أسرع ما يرتد الناس إلى الواجب وحسن الأدب إذا رأوا منك تمرداً على سوء الخلق وقلة الحياء!! كان كبير من الكبراء يدخل حيث أكون، فيمر بي وكأني قطعة أثاث، وكنت ألقاه كثيراً، فحملت هذا في أول الأمر على الذهول أو نحوه، ولكنه تكرر وباخ وتبينت فيه سخافة الكبرياء والنفخة الكذابة، فقلت: أكيل له بصاعه، وصرت أتعمد أن أدخل عليه وهو مع الناس فأحييهم وأهمله، وأتخطاه بيدي وعيني كأنه ليس هناك، ولم يكن له غير هذه النفخة، فلما خرقت القربة المنفوخة، لم يبق شيء، فلم يطق صبراً، وأقبل يوماً فهممت أن أشيح بوجهي عنه، فإذا هو يطوقني بذراعيه!!

وليست هذه المبادئ التي يُلقنها التلاميذ في المدارس، ولكنها هي المبادئ التي ألقنها ابني، وأحرص على أن يفهمها ويعمل بها، وقليل من رياضة النفس عليها تكفيه، لا مثلي، فقد نشأت على غير ذلك واعتدت خلافه، فخيب الناس والدنيا أملي في كل ناحية، وأحدثوا لي رجات نفسية أتلفت أعصابي. وكنت أعتقد مثلاً أن في وسعي أن أسير في الحياة من غير أن أسيء إلى أحد أو أخشى أن يسيء إلي أحدٌ، وأن عليَّ أن أعطي الناس حقوقهم في صراحة وبأخلاص، وأن لي أن أثق أن سيعطيني الناس حقي ولا يقصرون في أدائه إلي كاملاً؛ فإذا الأمر على خلاف ذلك ونقيضه. أنا أكف أذاي عن الناس، ولكنهم هم لا يعنون بمثل ذلك، حتى لصرت مضطراً أن أحتال لاتقاء أذى الناس، وأنا أؤدي للغير حقه غير

ص: 2

منقوص، ولا أبخل عليه بالإسراف في الأداء، ولكنه هو لا يخطر له أن لي حقاً يؤدى، أو كرامة تحفظ، لا لسبب إلا أني لا أتقحم على الناس ولا أركبهم بالغطرسة، ولا ألح عليهم ببيان ما يجب لي، ومن هنا تغير رأيي في كل ما نشأت عليه، وأدركت أنه لا يوافق هذا الزمان؛ وتغير سلوكي مع الناس، واختلفت سيرتي وتربيتي لأبنائي، وما زلت أجنب أن أبدأ بعدوان، فما لهذا معنى، ولكني لا أتردد في دفع الأذى، ولهذا مزيته، وتلك أن ترغم الناس على أن يكونوا خيّرين!

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 3

‌المحاكمات التاريخية الكبرى

4 -

الحركة النهلستية ومصرع القيصر اسكندر الثاني

صفحة رائعة من صحف الثورة على الطغيان

للأستاذ محمد عبد الله عنان

خاتمة البحث

وكانت مرافعة جليابوف عن نفسه خاتمة المناظر العاصفة في تلك القضية الشهيرة. وكان هذا الزعيم الثوري المضطرم حسبما يصفه مكاتب التيمس، يحدج قضاته بنظرات ملتهبة كأنها نظرات وحش يُطَارد، وكانت ألفاظه وعباراته الرنانة تحدث أثرها في المحكمة والنظارة؛ وكلما ضجت الجلسة ألقى على الجمهور نظرته الملتهبة حتى يعود إلى سكينته. ولما انتهى من مرافعته، أذنت المحكمة للمتهمين تباعاً بأن يقول كل منهم كلماته الأخيرة. فكرر كبالتشش أقواله عن نيات حزبه السلمية، وأنهم لم يسفكوا الدم رغبة في السفك، ونوه بأنه قد اخترع جهازاً للطيران يرجو أن ينسب له بعد موته إذا أخرج إلى حيز التطبيق. ونفت صوفيا عن نفسها ما اتهمها به النائب من القسوة وفساد الخلق واحتقار الرأي العام. وحاول ريساكوف أن يكرر نظرياته السياسية؛ وأصر ميخايلوف على نفي اشتراكه في الجريمة

وبذا اختتمت المرافعات في هذه القضية الشهيرة ولم تستغرق في الواقع سوى ثلاثة أيام. وفي صباح يوم 29 مارس أصدرت المحكمة حكمها وهو يقضي بإعدام المتهمين الستة شنقاً. فاستقبل المتهمون مصيرهم في سكينة وثبات. وهل كانوا يتوقعون مصيراً آخر؟ إن الحكم بالإعدام كان قاعدة مقررة في جميع الجرائم السياسية التي جرت في الفترة الأخيرة، ولم يلفت من هذا المصير المروع سوى قلائل من الثوريين الذين اشتروا حياتهم بالاندماج في سلك البوليس السياسي؛ ولم يطعن أحد من الستة المحكوم عليهم في الحكم بطريق النقض، ولكن ريساكوف وميخايلوف رفعا طلباً بالعفو لم تر المحكمة أن تراجع القيصر في شأنه؛ وحاول ريساكوف ليلة التنفيذ أن يلجأ إلى الخطوة الأخيرة فعرض أن يندمج في البوليس السياسي وأن يفتدي حياته بالعمل على مقاومة الإرهاب والمرهبين، وأفضى

ص: 4

بأسماء وبيانات جديدة عن الثوريين ونظم الحركة الثورية، فلم يقبل طلبه وخاب مسعاه

وقدمت جسيا هلفمان إلى المحكمة بلاغاً قالت فيه أنها حامل لأربعة أشهر، وطلبت إرجاء التنفيذ حتى تضع حملها؛ فانتدبت لفحصها لجنة طبية أيدت دعواها، فقررت المحكمة أن ترجئ التنفيذ حتى تضع حملها ويمضي على وضعها أربعون يوماً

وكان التنفيذ في اليوم الثالث من أبريل سنة 1881 ففي نحو الساعة الثامنة من صباح ذلك اليوم حمل المتهمون الخمسة على عربتين عاليتين إلى ميدان سيمونفسكي حيث نصبت المشنقة وكانت والدة صوفيا قد سعت إلى رؤيتها فلم توفق إلى ذلك إلا عند خروج الموكب من السجن. وكان المتهمون قد ألبسوا أردية سوداء، وأوثق كل منهم في مكانه في العربة، وظهره إلى الخيل وقد وضعت على صدره لوحة كتب عليها بحروف بيضاء ظاهرة:(قاتل الملك) وكان يتبع المحكوم عليهم عربة بها خمسة قسس؛ وكان الموكب رهيباً يحف به حرس قوي من الفرسان والمشاة، وقد اصطف الجند على طول الطريق من السجن حتى ميدان التنفيذ. وكان الميدان غاصاً بعشرات الألوف من النظارة إذ كان تنفيذ الإعدام يجري في ذلك العصر بطريقة علنية؛ وكان الشعب يهرع دائماً إلى رؤية هذه المناظر المؤسية. وفي نحو الساعة التاسعة وصل موكب المحكوم عليهم إلى ساحة التنفيذ فأنزلوا من العربات وتلا عليهم سكرتير مجلس الشيوخ الحكم؛ ثم قرعت الطبول إذاناً بالإجراءات الأخيرة، فكشف النظارة رؤوسهم وتقدم القسس من المحكوم عليهم وفي يدهم الصلبان فقبلوها. وأبدى المحكوم عليهم في تلك اللحظات الرهيبة ثباتاً يثير الإعجاب والخشوع إلا ريساكوف فإنه كان مضطرباً ممتقع اللون؛ وبعد إجراء المراسيم الدينية قبل كل صاحبه وودعه الوداع الأخير

وقبل الساعة العاشرة بقليل تقدم الجلاد فرولوف بثوبه الأحمر إلى فرائسه يحيط به معاونوه وألبس المحكوم عليهم الأكفان والقلنسوات. وبدئ التنفيذ بإعدام كبالتشش ثم تلاه ميخايلوف فصوفيا فجليابوف فريساكوف؛ وحدث حين إعدام ميخايلوف أن قطع حبله وسقط على النطع ثلاث مرات قبل أن يزهق، فثار الجمهور لهذا المنظر المروع، وعلت غمغمة السخط والروع. ولكن الجلاد أتم مهمته بهدوء ولم يحدث حادث. وكان هذا آخر إعدام علني في روسيا القيصرية. وكان له في الرأي العام أيما أثر. ووجه كاتب روسيا الأكبر

ص: 5

يومئذ الكونت ليون تولستوي إلى القيصر اسكندر الثالث خطاب احتجاج على هذه الفظائع المثيرة

وأما جسيا هلفمان فكان لها قصة أليمة أخرى، ذلك أن حزب إرادة الشعب لجأ إلى الرأي العام الخارجي ليحاول إنقاذ هذه الفتاة المنكودة من براثن الموت، وأذاع شاعر فرنسا وكاتبها الأكبر يومئذ فكتور هوجو في الصحف الفرنسية خطاباً مفتوحاً إلى القيصر يناشده فيه الرأفة بآلام الفتاة؛ ورددت صحافات القارة هذا النداء. وفي الثالث من يوليه سنة 1881 عدلت عقوبة الإعدام إلى الأشغال الشاقة المؤبدة. وفي شهر سبتمبر نقلت جسيا إلى مستشفى السجن ووضعت طفلة لم يعرف مصيرها. وتوفيت الأم بعد ذلك بأشهر قلائل في فبراير سنة 1882 من جراح أصابتها وقت الوضع وقيل إنها أحدثت فيها عمداً

هذه صفحة مؤسية مروعة معاً من صحف الثورة على الطغيان، وقد كانت النهلستية بلا ريب من أعظم الحركات التحريرية العنيفة التي عرفها التاريخ، وكانت من أحفلها بمواطن النضال الدموية وكانت القيصرية من جانبها من أشد النظم الطاغية إمعاناً في القسوة والعنف وإخماد النزعات الحرة. وكان هذا النضال الذي يخضب أرض روسيا بدماء الفريقين، ويدفع بآلاف من الشباب المستنير إلى ظلمات السجن والنفي مسألة حياة أو موت للقيصرية ولروسيا الجديدة معاً؛ وقد سار هذا النضال حيناً بعد مصرع اسكندر الثاني ومصرع قاتليه. ولكن القيصرية ضاعفت أهباتها ووسائلها لقمع الإرهاب. ومع أن المرهبين استطاعوا أن ينزلوا بالقيصرية وأعوانها عدة ضربات دموية أخرى وأن يدبروا اعتداءين جديدين على حياة القيصر، فأن القيصرية استطاعت بوسائلها الذريعة أن تمزق شمل الحركة الثورية؛ وركدت ريح النهلستية في أواخر القرن الماضي بعد أن هلكت زهرة دعاتها وأنصارها؛ ثم استعادت شيئاً من نشاطها في أوائل هذا القرن، ولكن القيصرية استطاعت من جانبها أن تجنب العاصفة بتحقيق بعض الإصلاحات الدستورية المنشودة، وإصدار الدستور الروسي الجديد سنة 1906. على أن المثل الثورية التي بعثتها النهلستية في روسيا الجديدة لم تخمد جذوتها بل لبثت على اضطرامها حتى مهدت الحرب الكبرى أخيراً لانفجارها الرائع في سنة 1917. وعندئذ لم تقف العاصفة عند سحق القيصرية وكل نظمها القديمة، بل دكت نظم المجتمع الروسي القديم كله وقامت البلشفية على أنقاضه

ص: 6

تطمح إلى إضرام نار الثورة العالمية وتحقيق مثل ماركس ولنين

كانت النهلستية حركة فريدة بين الحركات التحريرية. وكانت وسائلها العنيفة من طراز لم يعهد التاريخ كثيراً من أمثاله؛ ذلك أنها جعلت من الثورية ديناً تدين به الشبيبة المستنيرة، ينبث إلى أعمق عقولها وأرواحها، وجعلت من الحرية هيكلاً مقدساً تتفانى هذه الشبيبة في الحج إليه، وتسقط في سبيله صرعى لا تلوى على شيء إلا أن تموت في سبيل العقيدة الجديدة؛ وقد كانت ضحايا النهلستية عظيمة فادحة. ومن الصعب أن نقدم عن هذه الضحايا بياناً شافياً لأن الأساليب الهمجية والرسائل السرية التي كانت تتبعها القيصرية في مقاومة الحركة كانت تحصد المئات والألوف في خفاء وصمت؛ يهلكون ألوفا في أعماق السجون أو في معسكرات الاعتقال النائية في أعماق سيبريا، هذا عدا من حصدتهم المشانق وهم وحدهم ألوف؛ وليس من المبالغة أن نقول إن المناظر الدموية التي يقدمها إلينا كفاح النهلستية، تفوق في روعتها مناظر عصر الإرهاب أبان الثورة الفرنسية؛ ذلك أن الثورة الفرنسية كانت بالرغم من اضطرامها وعنفها قصيرة الأجل محدودة المدى، وكانت آثارها المعنوية تفوق أحداثها المادية بكثير. أما الثورة النهلستية فقد استطاعت نحو أربعين عاماً؛ تضطرم آنا وتخبو آنا، ولكنها لبثت دائماً تلتهم فرائسها من الجانبين. هذا إلى أن نزعة الكفاح في الحركة الثورية الروسية كانت أعرق أصولاً وأبعد مدى. وبينما نرى الثورة الفرنسية تستسلم بعد أعوام قلائل إلى الحركة العسكرية الرجعية وتغدو أداة ذلولاً في يد جندي طموح هو نابليون، إذا بالحركة الثورية الروسية تمضي في طريقها برغم كل مقاومة حتى تفوز بتحقيق كل مثلها وغاياتها. بيد أنه كان ظفرا سلبياً فقط، وكان ظفراً قصير المدى؛ فقد مهدت الحركة النهلستية كما قدمنا إلى الانقلاب العظيم الذي درج زعماؤه وقادته في غمارها وتغذت عقولهم وأرواحهم بتعاليمها ومثلها، وكان ظفر الثورة البلشفية كاملاً شاملاً، ولكن شتان بين تلك المثل الحرة الإصلاحية التي تنشدها النهلستية، وبين ذلك الهدم الشامل الذي انحدرت إليه الثورة البلشفية. أجل سقطت القيصرية صرعى المثل الجديدة وأعلنت سيادة الشعب أو الكتلة العامة في عبارات ضخمة، ونودي بالحريات والحقوق العامة، واستطاعت الثورة الجديدة أن تحتفظ بانتصارها الظافر مدى حين كان شعارها فيه مكافحة الخطر الخارجي؛ ولكنها ما كادت تثبت أقدامها حتى استحالت بسرعة

ص: 7

إلى نوع جديد من الطغيان لا يقل في أساليبه ووسائله فظاعة عن أساليب القيصرية ووسائلها؛ ولم تلبث أن غدت سيادة الشعب اسماً بلا مسمى؛ واستطاعت الزعامة الجديدة أن تفرض سلطانها المطلق على ذلك العالم الروسي القديم الذي كان يطمح إلى عالم جديد من النور والحريات المثلى؛ وانتهت الثورة التحريرية بعد كفاح طويل إلى تلك النتيجة المحزنة التي أشرنا إليها في فاتحة هذا البحث. ذلك أن النظم التي تسود روسيا الآن بأسم البلشفية ليست في الواقع إلا صورة من أشنع صور الطغيان الدموي التي عرفها التاريخ

(تم البحث - النقل ممنوع)

محمد عبد الله عنان

ص: 8

‌في تاريخ الأدب المصري

أبن الصيرفي

أبو القاسم علي بن منجب بن سليمان الصرفي

مات بعد سنة 542

للأستاذ محمد كرد علي

كان أبن الصيرفي من كتاب الدولة الفاطمية، ومن عظماء المنشئين والمؤلفين من المصريين في عهده؛ جزل حظه من البلاغة والشعر والخط الجميل، وأخذ صناعة الترسل عن صاعد بن مفرج صاحب ديوان الجيش، ثم انتقل منه إلى ديوان الإنشاء وبه الحسين الزبدي ثم تفرد بالديوان. ولابن الصيرفي تصانيف تجعله فوق أقدار رؤساء الدواوين وكتاب الملوك والسلاطين، ومنها في الأدب والتاريخ الترسل كتاب (عمدة المحادثة) و (عقائل الفضائل) و (استنزال الرحمة) و (منائح القرائح) و (رد المظالم) و (لمح الملح) ومنها (الإشارة إلى من نال الوزارة) و (قانون ديوان الرسائل) وهذان الكتابان مطبوعان. وله غير ذلك من التصانيف منها اختيارات كثيرة لدواوين الشعراء كديوان ابن السراج وأبي العلاء المعري وغيرهما. وله شعر جيد لكنه أشتهر بالكتابة. وقد ضمن كتابه الإشارة إلى من نال الوزارة ذكر من تقدم من سفراء الدولة ووزرائها وسلاطينها، ولم ير أن يتوسع إشباع الموضوع قائلاً:(إذا كان الاستقصاء لا يليق بكل تصنيف لاسيما إذا خدم به سلطان ينفق أوقاته في تدبير دولة وإقامة سنة واستضافة مملكة، وإذا بقيت من زمانه فضلة استعجل بها جزءاً من الراحة، يستعين به على ما يستأنفه من مهماته) بدأه بترجمة الوزير ابن كلس الآمري وإليه أهدى كتابه. وفي هذا الكتاب مثال واضح من سوء إدارة الفاطميين أخرياتِ أيامهم، وما توسعوا فيه من الألقاب، وما أوغلوا فيه من المصادرات، وما كان لهم وعليهم. وكان من لوازم الدعاء الذي يستعمله أبن الصيرفي في كل سجل ورسالة وتقليد وكتاب، بل يستعمله الإسماعيلية الفاطميون عامة أن يقال بعد الصلاة على النبي (وعلى أخيه وابن عمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب)

وذكر في مقدمة قانون الرسائل ما ننقله بحرفه: (ولما رأيت أولى الفطر الصحيحة،

ص: 9

والعقول الرجيحة، قد سبقوا إلى النظر في سائر العلوم، ووضعوا فيها المصنفات، ونظموا ذكرها في الكتب المؤلفات، ثم انتقلوا عن ذلك إلى قوانين الأشياء فقرروا في كل منها ما كان أصلاً يعتمد عليه، ونهوا عما كان فساداً لنظامها أو أدى إليه، وخالفوا بين أحكام تلك التصنيفات لاختلاف الأزمنة وتباين البلاد والأوقات، فوجدتهم قد صنفوا في كتابة الخراج كتباً كثيرة، وعُنوا بكتابة الجيش عناية كبيرة، فألف كل من العراقيين والمصريين في ذلك ما وصلت إليه طاقته واقتضاه ما أوجبه وقته والبلد الذي يحتله. فأما صناعة الشعر وذكر بديعه وسائر أنواعه وتقاسيمه، فقد أكثر كل منهم فيه المقال، وتوسع في تصنيفه وأطال، ورأيتهم أهملوا الكلام في الكتابة الجليلة قدراً، النبيهة ذكراً، الرفيعة شأناً، العلية مكاناً، التي هي كتابة حضرة الملك المشتملة على الإنشاء إلى ملوك الدول، والمكاتبة عنه إلى من قلّ من الأمم وجلّ، وكيف يجب أن يكون متوليها وما يخصه من الأخلاق والأدوات، وما يجب أن يكون فيه من الفضائل، وأن يجتنبه من القبائح والرذائل، وكيف ينبغي أن تكون أمور أتباعه ومعينيه، وأي الحالات ينبغي أن يكون عليها ديوانه الذي يتولاه وينظر فيه)

وكتاب قانون ديوان الرسائل درة نفيسة قدمه إلى الأفضل ابن أمير الجيوش وقال: (يجب أن يكون هذا الكتاب مخلداً في ديوان الرسائل يقتدي به كل من يخدم فيه، ويستضيء بهدايته ويحتذي أمثلته وأن يؤخذ المستخدمون في الديوان بفهمه وبحفظه) ثم قال: (ثم ينتفع بهذا الكتاب إذا جعل بحيث استقر مخزوناً بديوان الرسائل للقراءة فيه وتدبره كل من تصفحه أو يعمل بمقتضاه على مرور السنين وكرور الأحقاب والأعوام، فيكون كالمعلم لهم، والمهذب لأخلاقهم، والهادي لهم إلى سنن الصواب الذي قد درست معالمه وتنوسيت أحكامه)

ومما رأى أن يكون رئيس الديوان من المسلمين (ومع ذلك فيجب أن يكون متمذهباً بالمذهب الذي عليه الملك ليكون أنقى جيباً وأنصح غيباً، فان المسلمين وإن جمعتهم كلمة الإسلام، فقد أختص كل واحد منهم بمذهب يباين به بعضهم بعضاً، حتى حدث بذلك بينهم من التباعد والتنافر قريب مما بين المسلمين والمشركين) وعاد فأكد هذا المعنى في موضع آخر من أن الكاتب ينبغي أن يكون على دين الملك ومذهبه لكونه يكاتب الملوك المخالفة ملتهم ملة ملكه، وربما احتاج في مكاتباته إلى تفخيم ملة ملكه والاحتجاج لها وإقامة الدلائل

ص: 10

على صحتها، ولن يحتج لملة من اعتقد خلافها، بل المخالف للملة إنما يبدو له مواضع الطعن ومواضع الحجاج، فان اعترض معترض بالصابي وأنه كان يكتب عن ملوك مسلمين وهو على غير ملتهم، فالجواب أنه كان من أهل ملة قليل أهلها، ليس لهم ذكر ولا مملكة، ولا لهم دولة قائمة، ولا منهم محارب لأهل الإسلام، ولا من يكاتِب ويكاتَب، ولا من يخشى من الكاتب الميل إليه، والانحراف معه. ثم إن المشهور من أحوال ذلك الكاتب أنه كان قد حفظ من ملة الإسلام وسنتها مما يحتاج إليه في كتابته ما لا يوجد عند كثير من المسلمين في زمانه، وكان في صناعته الغاية في وقته فقادت ملوك عصره الضرورة إليه، إذ لم يجدوا من المسلمين من يغني غناءه ولا ليسد مسده)

قال: (ومما يحتاج أن يفهمه هذا الكاتب أن يعرف الفرق بين مخاطبة الملوك الإسلامية وبين مخاطبة الملوك المخالفين للملة واللسان، لأن مخاطبة من يتكلم باللسان العربي مشهورة المقاصد معروفة الطرائق يستعمل فيها الأسجاع وتنميق الألفاظ وتحسينها وزخرفتها وترتيبها مع ضبط المعنى وحسن التأليف. وأما مكاتبة المخالفين للسان فإنه لا ينبغي أن يهتم فيها بالألفاظ المسجوعة، ولا ضرب الأمثال والتشبيهات والاستعارات، فإن ذلك إنما يستحسن ما دام مفهوماً في تلك اللغة وغير منقول إلى غيرها، وأكثر هذه الضروب إذا نقلت من لغة إلى لغة فسدت معانيها، وعاد حسنها قبيحاً؛ ومنها ما لا يفهم بعد نقله ببتة؛ ومنها ما إن فهم له معنى كان غير ما قصد، لا سيما إن كان الناقل لها مقصراً في اللغتين المنقول منها والمنقول إليها. وأرى أن الأفضل في هذا الباب أن يتولى هذا الكاتب نقل ما يكاتب به إن كان عارفاً بها فينقل ما يكتب به ويكتبه بخط أهل تلك اللغة ولسانهم، إما في ذيل الكتاب أو في كتاب طيه، لأنه قد لا يجد الملك الذي يصل إليه الكتاب ناقلاً ماهراً عالماً باللغتين، فربما أفسد الناقل المعنى فعاد الكتاب المصلح مفسداً فيبطل الغرض الذي قصد به. وهذا باب يجب صرف العناية إليه جداً، وليس يحتاج في مكاتبة أهل اللغات المخالفة بغير المعاني السديدة البريئة من الاستعارات، والكتابات الصائبة لمواضع الحجج التي تبقى جزاتها ونضارة معانيها وبهجتها مع النقل والترجمة.)

وذكر فصلاً في عمل من يستخدم خازناً لديوان الرسائل فقال: (ينبغي أن يؤخذ بجعل كل شيء من الرسائل مع شبهه، وجعل كل سنة على حدتها، ويجعل لكل شهر إضبارة، ولكل

ص: 11

صفقة من الأعمال إضبارة وعليها بطاقة في مضمونها) قال: (وينبغي لهذا الخازن أن يحتفظ بجميع ما في هذا الديوان من الكتب الواردة. وينسخ الكتب الصادرة والتذاكير وخرائط المهمات، وضرائب الرسوم وغير ذلك مما فيه - احتفاظاً شديداً، ويكون بالغاً في الأمانة والثقة إلى الحد الذي لا مزيد عليه، فإن زمام كل شيء بيده؛ ومتى كان قليل الأمانة أمالته الرشوة إلى إخراج شيء من المكاتبات من الديوان، وتسليمه إلى من يكون عليه فيه ضرر أو لمن يأخذه نفع. وهذا أمر متى أعتمده الخازن أضر بالدولة ضرراً كثيراً من حيث لا يعلم الملك ولا أحد. ومن أحسن ما سمعته في أمانة خازن ما رواه علي بن الحسن الكاتب المعروف بابن الماشطة في كتابه المعروف بجواب المعنت في الخراج من أنه كانت تجمع الأعمال والحسابات بالعراق بعد كل ثلاث سنين إلى خزانة تعرف بالخزانة العظمى، وكان يتولى في وقته ذلك رجل يعرف بمحمد بن سليمان الكانجار. وكان شديد الأمانة بالغاً فيها إلى المبلغ الأقصى، وكان رزقه كل شهر خمسمائة درهم تكون بخمسين ديناراً من صرفهم ذلك؛ وكان لهذا الخازن خازن يعينه يقال له إبراهيم، فحدث إبراهيم أن رجلاً لقيه في بعض طرقه من أسباب أبي الوليد أحمد بن أبي دؤاد فقال له: هل لك في الغنى بقية عمرك وأعمار عقبك من بعدك من حيث لا يضرك؟ فقال: هذا لا يكون. فقال: بلى، في خزائنك دفتر في قراطيس أعرف موضعه من بعض الخزائن من رفوفها، وأسألك أن تنقله من ذلك الرف إلى رف غيره ولا تخرجه ولا تغيره وأحمل إليك مائة ألف درهم وأعطيك كتاب ضيعة تغل لك كل سنة ألف دينار وتخرج عن الديوان. قال: فارتعد من هول ما سمعه وقال: ليس يمكنني في هذا شيء إلا بأمر صاحبي، فقال له: فاعرض ذلك على صاحبك وأجعل هذا الشيء له ونجعل لك شيئاً آخر. فعرف محمد بن سليمان الخازن صاحبه بالخبر، وكان في منزله آخر نهار، فقال له: ماذا قلت للرجل؟ قال: قلت له إني أستأمرك، فأمر ابناً له وابن أخ بالتوكيل به، فلم يفارقاه طول ليلته، فلما أصبح صار معه إلى الديوان فوقفه على الدفتر، فأخذه محمد بن سليمان الخازن وحمله في قبائه ولم يزل يترقب علي بن حسين صاحب الديوان حتى حضر، فلما حضر صار إليه، وكان أبو الوليد في حبسه فقص عليه القصة، ودفع إليه الدفتر فنظر فيه فوجده نسخة كتاب من بعض النظار بما وقف عليه من فضل ما بين القوانين التي كانت تلزم ضياع أحمد بن أبي دؤاد

ص: 12

وبين ما يلزمها على معاملة العامة لجميع السنين، أن جملته أكثر من ثلاثين ألف ألف درهم (ثلاثة ملايين دينار) فأحضر علي بن عيسى أبا الوليد وأسمعه كل غليظ على جلالة رتبته، وأمر بأخذ قلنسوته وأن يضرب بها رأسه ويطالب بالمال. فلولا أمانة هذا الخازن، ونزاهة نفسه وصدفها عن المال الذي بذل مع كثرته لرغب فيه، ولرأى أن لا شيء عليه في نقل دفتر من مكان إلى مكان، وهو في الخزانة لم يبرح منها، فيتوجه عليه بذلك ضرر، ولا خرج من يده فيظهر في يد غيره، ولا يعرف موضوعه فيطلب منه، ورأى وجوه السلامة واضحة، ونيل الغنى قريباً فكان يضيع على هذا السلطان ذلك المبلغ الكثير من المال)

محمد كرد علي

ص: 13

‌بين العلم والأدب

للأستاذ علي الطنطاوي

قرأت منذ أيام في صحيفة يومية، مقالة يسأل فيها كاتبها عن العلم والأدب والقول فيهما، والمفاضلة بينهما، فوجدته قد حمل الكلام على غير محمله، وساقه في غير مساقه، فأفتى وهو المستفتى، وحكم وهو المدعي، فلم يدع مذمة إلا ألحقها بالأدب، ولم يترك مزية إلا نحلها العلم، وزعم بأن الأمر قد انتهى، والقضية قد فصلت، وحكم للعلم على الأدب. . . فلم أدر متى كانت هذه المنافرة وأين كانت هذه المفاخرة، ومن هو الذي جلس في منصة القضاء، ومن الذي زعم أنه وكيل الأدب حتى أخزاه الله على يديه، وأذله به؟. . .

ومتى كان بين العلم والأدب مقاربة، حتى تكون بينهما (مقارنة)، ومتى كان بينهما مناضلة، حتى تكون بينهما مفاضلة؟ وهل يفاضل بين الهواء الذي لا يحيا حي إلا به، وبين الذهب الذي هو متاع وزينة وحلية، ولو كان الذهب أغلى قيمة، وأعلى ثمناً، وأندر وجوداً؟

إن الأدب ضروري للبشر ضرورة الهواء. ودليل أن البشرية قد عاشت قروناً طويلة من غير علم، وما العلم إلا طفل ولد أمس ولا يزال يحبو حبواً. . . ولكن البشرية لم تعش ساعة واحدة من غير أدب، وأظن أن أول كلمة قالها الرجل الأول للمرأة الأولى، كلمة الحبّ، لمكان الغريزة من نفسه، ولأنها (أعني غريزة حفظ النوع) كانت أقوى فيه، والحاجة إليه أشد وبقاء النوع معلق بها، فكانت كلمة الحب الأولى أول سطر في سفر الآداب، كتبت يوم لم يكن علم، ولا عرفت كلمة العلم. . . ودرج البشر على ذلك فلم يستغن أحد عن الأدب، ولم يعش إلا به، ولكن أكثر البشر استغنوا عن العلم ولم يفكروا تفكيراً علمياً، وهؤلاء هم الأكابر من العلماء كانوا يضطرون في ساعات من ليل أو نهار، إلى مطالعة ديوان شعر، أو النظر في قصة أدبية، أو صورة فنية ليبلوا صوت العاطفة، ويستمعوا نداء الشعور، وأكثرهم قد أحب، وملأ نفسه الحب، فهل بلغ أحداً أن أديباً نظر في معادلة جبرية، أو قانون من قوانين الفيزياء أو أحس الحاجة إلى النظر فيها؟ وهذا أكبر عالم في مختبره، يسمع نغمة موسيقية بارعة، أو يرى صورة رائعة، أو تدخل عليه فتاة جميلة عارية مغرية، فيترك عمله ويقبل على النغمة يسمعها، أو الصورة يمعن فيها، أو الفتاة يداعبها، فهل رأيت شاعراً متأملاً يدع تأمله، أو مصوراً يترك لوحته ليستمع منك

ص: 14

قوانين الرقاص ونظرية لابلاس؟

هذه مسألة ظاهرة مشاهدة؛ وتعليلها بين واضح هو أن المثل العليا كلها تجمعها أقطاب ثلاثة: الخير والحقيقة والجمال. فالخير تصوره الأخلاق، والحقيقة يبحث عنها العلم والجمال يظهره الأدب. فإذا رأيت الناس يميلون إلى الأدب أكثر من ميلهم إلى العلم فأعلم أن سبب ذلك كون الشعور بالجمال أظهر في الإنسان من تقدير الحقيقة. . . وانظر إلى الألف من الناس كم منهم يهتم بالحقيقة ويبحث عنها؟ وكم يعني بالجمال ويسعى للاستمتاع به؟ إن كل من يعني بالجمال ويتذوقه بل إن كل من يذكر الماضي ويحلم بالمستقبل ويحس اللذة والألم واليأس والأمل يكون أديباً، ويكون الأدب - بهذا المعنى - مرادفاً للإنسانية. فمن لم يكن أديباً لم يكن إنساناً.

ولندع هذا التفريق الفلسفي ولنفاضل بين العلم والأدب من الناحية النفسية (السيكولوجية) إننا نعلم أن العلم يبحث عن الحقيقة فهو يستند إلى العقل. أما الأدب فيتكئ على الخيال. فلننظر إذن في العقل والخيال: أيهما أعم في البشر وأظهر؟ لا شك أنه الخيال. . فكثير من الناس تضعف فيهم المحاكمات العقلية، ولا يقدرون على استعمال العقل على وجهه؛ أو تكون عقولهم محدودة القوى، ولكن ليس في الناس من لا يقدر على استعمال الخيال، وليس فيهم من يعجز عن تصور حزن الأم التي يسمع حديث ثكلها، أو لا يتخيل حرارة النار، وامتداد ألسنة اللهب، عندما يسمع قصة الحريق؛ بل أن الخيال يمتد نفوذه وسلطانه إلى صميم الحياة العلمية فلا يخرج القانون العلمي حتى يمر على المنطقة الخيالية (الأدبية). ولا يبني القانون العلمي إلا على هذا الركن الأدبي. وبيان ذلك أن للقانون العلمي أربع مراحل: المشاهدة والفرضية والتجربة والقانون. فالعالم يشاهد حادثة طبيعية، فيخيل القانون تخيلاً مبهماً ويضع الفرضية ثم يجربها فأما أن تكذبها التجربة فيفتش عن غيرها، وإما أن تثبتها فتصير قانوناً، فالمرحلة التي بين المشاهدة والفرضية مرحلة أدبية لأنها خيالية. وقد شبه هنري بوانكاره الرياضي الفرنسي (أو غيره فلست أذكر) شبه عمل الذهن في هذه المرحلة بعمل الذي يبني جسراً على نهر، فهو يقفز أولاً إلى الجهة المقابلة قفزة واحدة ثم يعود فيضع الأركان ويقيم الدعائم. وكذلك الفكر يقفز إلى القانون على جناح الخيال، ثم يعود فيبنيه على أركان التجربة؛ فالقانون العلمي نفسه مدين إذن للخيال أي للأدب.

ص: 15

ثم أن الخيال يخدم العلم من ناحية أخرى هي أن أكثر الكشوف العلمية والاختراعات قد وصل إليها الأدباء بخيالهم، ووصفوها في قصصهم قبل أن يخرجها العلماء؛ فبساط الريح هو الطيارة، والمرآة المسحورة هي التلفزيون، والحياة بعد قرن هي هي خيال وِلْز في روايته مستقبل العالم. . .

أنا إلى هنا في القول بأن الحقيقة في صف العلم والجمال مع الأدب؛ ولكني أقول ذلك متابعة للناس، وسيراً على المألوف، والواقع غير ذاك. ذلك أن العلم في تبدل مستمر، وتغير دائم؛ فما كان يظن في وقت ما قانوناً علمياً ظهر في وقت آخر أنه نظرية مخطئة؛ والكتاب العلمي الذي ألف قبل خمسين سنة، لم يعد الآن شيئاً ولا يقبله طالب ثانوي، في حين أن الأدب باق في منزلته، ثابت في مكانته مهما اختلف الأعصار، وتناءت الأمصار. فإلياذة هوميروس، أو روايات شكسبير، أو حكم المتنبي؛ كل ذلك يقرأ اليوم كما كان يقرأ في حينه، ويتلى في الشرق كما يتلى في الغرب، ولا يعتريه تبديل ولا تغيير

فأين هي الحقيقة؟ وأي الشيئين هو الثابت؟ وأيهما المتحول؟

وعد عن هذا. . . وخبرني يا سيدي الكاتب: ما هي فائدة هذا العلم الذي تطنطن به وتدافع عنه؟ وماذا نفع البشرية؟

تقول: إنه خدم الحضارة بهذه الاختراعات وهذه الآلات؛ إن ذلك احتجاج باطل، فالاختراعات ليست خيراً كلها، وليست نفعاً للبشرية مطلقاً، والعلم الذي اخترع السيارة والمصباح الكهربائي، هو الذي اخترع الديناميت والغاز الخانق، وهذه البلايا الزرق، فشره بخيره والنتيجة صفر

ودع هذا. . . ولنأخذ الاختراعات النافعة: لنأخذ المواصلات مثلاً. . . لا شك أن العلم سهلها وهوَّنها، فقرب البعيد، وأراح المسافر، ووفر عليه صحته ووقته، ولكن هل أسعد ذلك البشرية؟

أحيلك في الجواب على (شبنكلر) لترى أن البشرية قد خسرت من جرائها أكثر من الذي ربحته: كان المسافر من بغداد إلى القاهرة، أو الحاج إلى بيت الله، ينفق شهرين من عمره أو ثلاثة في الطريق، ويحمل آلاماً، وتعرض له مخاوف، ولكنه يحس بمئات من العواطف، وتنطبع في نفسه ألوف من الصور، ويتغلغل في أعماق الحياة، ثم يعود إلى بلده، فيلبث

ص: 16

طول حياته يروي حديثها، فتكون له مادة لا تفنى، ويأخذ منها دروساً لا تنسى، أما الآن فليس يحتاج المسافر (إن كان غنياً) إلا إلى الصعود على درجة الطيارة، والنزول منها حيث شاء بعد ساعات قد قطعها جالساً يدخن دخينة، أو ينظر في صحيفة، فهو قد ربح الوقت، ولكنه خسر الشعور، فما نفعتنا المواصلات إلا في شيء واحد، هو أننا صرنا نقطع طريقنا إلى القبر عدواً، ونحن مغمضو عيوننا. . . لم نر من لجة الحياة إلا سطحها الساكن البراق!

ولنأخذ الطب. . . وليس من شك أن الطب قد ارتقى وتقدم، وتغلب على كثير من الأمراض، ولكن ذلك لا يعد مزية للعلم لأنه هو الذي جاء بهذه الأمراض، جاءت بها الحضارة؛ فإذا سرق اللص مائة إنسان، ثم رد على تسعين منهم بعض أموالهم أيعد محسناً كريماً، أم لا يزال مطالباً بالمال المسروق من العشرة؟

أنظر في أي مجتمع بشري لم تتغلغل فيه الحضارة، ولم يمتد إلى أعماقه العلم، وانظر في صحة أهله وصحة المجتمعات الراقية؟ هل الأمراض أكثر انتشاراً في فيافي نجد، أم في قصور باريز؟ أوليس في باريز أمراض لا أثر لها في البادية؟ فليس إذن من فضل للعلم في أنه داوى بعض الأمراض بل هو مسئول عن نشرها كلها؟

وتعال يا سيدي ننظر نظرة شاملة، هل البشر اليوم (في عصر العلم) أسعد أم في العصور الماضية؟ أنا لا أشك في أن سعادتهم في العصور الماضية، عصور الجهالة (كما يقولون) كانت أكبر وأعمق، ذلك لأن السعادة ليست في المال ولا القصور ولا الترف ولا الثقافة، ولكن السعادة نتيجة التفاضل بين ما يطلبه الإنسان، ويصل إليه، فإذا كنت أطلب عشرة دنانير وليس عندي إلا تسعة فأنا أحتاج إلى واحد، فسعادتي ينقصها واحد، أما روكفلر فسعادته ينقصها مليون، لأن عنده تسعة وتسعين مليوناً وهو يطلب مائة؛ فأنا بدنانيري التسعة أسعد من روكفلر. . وكذلك الإنسان في الماضي لم تكن مطاليبه كثيرة فكان سعيداً لأنه يستطيع أن يصل إليها، أو إلى أكثرها؛ أما مطاليبه اليوم فهي كثيرة جداً لا يستطيع أن يصل إلا إلى بعضها فهو غير سعيد!

هذا وأنا لا أعني الأدب الضيق، أي الكلام المؤلف نثراً أو نظماً، بل أعني الأدب بالمعنى الآخر؛ أريد كل ما كان وصفاً للجمال وتعبيراً عنه، لا فرق عندي بين أن تعبر عن جمال

ص: 17

الفتاة بصورة أو تمثال أو مقطوعة من الشعر؛ ولا فرق عندي بين أن تصور غروب الشمس بالريشة والألوان، أو بالألفاظ والأوزان، فالموسيقي أديب، والمصور أديب، والنحات أديب، والشاعر أديب؛ والأدب بهذا المعنى أهم من العلم، وأنفع للبشرية. . . ولو كره العالمون!

علي الطنطاوي

ص: 18

‌تحقيق تاريخي

مولاي إسماعيل والأميرة دوكنتي

للأستاذ ابن زيدان

ذكر بعض مؤرخي أوربا أنه لما رجع سفير مولاي إسماعيل، عبد الله بن عائشة الرئيس البحري الشهير من بعض سفاراته في فرنسا، وتلاقى بمولاي إسماعيل، كان من جملة ما وصف له عند الإفضاء إليه بنتائج سفارته جمال الفتاة دوكنتي بنت لويز الرابع عشر، فكان ذلك أعظم باعث لمولاي إسماعيل على خطبتها من والدها بواسطة سفيره المذكور. غير أن والدها لم يحقق رغبته، ولم يعر أدنى التفات خطبته، لأسباب: منها عدم ملاءمة طبعها لطبعه، ومباينة نبعها لنبعه، وتعدد أزواجه وسراريه، وكثرة حشمه وذراريه، إلى علل أخرى هي أولى بعدم الذكر، وأحرى لبعدها عن الحقيقة، ولتلون مغامزها ومغازيها الدقيقة

طالما بحثت ونقبت بتعطش لحجة يستند إليها في إثبات هذه الأحدوثة الغريبة في بابها. بالطرق الرسمية، فلم أعثر على شيء يستحق الذكر فيها، أو تطمئن إليه النفس، سوى ما جاء به بعض مؤرخي أوربا، مما لا سند لهم فيه، فيما علمت وقرأت غير كتاب ابن عائشة المذكور، ذلك الكتاب الذي سأفيض القول فيه وفي قيمته فيما يلي بحول الله. ثم جال بفكري أنه لا بد أن تكون هذه القضية، إن كان لها أصل، ثابتة مسجلة بوزارة الخارجية، فرحلت إلى فرنسا. ولما حللت بعاصمتها باريس ذهبت تواً إلى وزارة خارجيتها، فقوبلت من رؤسائها بمزيد الاحتفاء والاعتناء، وحملت على كاهل المبرة والاحترام، وسوعدت على تصفح كل ما يهمني في بحوثي التاريخية، من الوثائق والأوراق الرسمية. فجست خلالها أياماً أبحث وأنقب، وآخذ ما راقني بالتصوير والتقييد، فلم أجد من بين أخاير تلك الذخائر ضالتي المنشودة، فرجعت أدراجي، وأعملت الفكر في هذه القضية، وقابلت بين هذا الكتاب الملصق بابن عائشة، وبين غيره من المكاتيب الرسمية الرائجة إذ ذاك، حتى المكاتيب الصادرة من ابن عائشة، الممضاة بخط يده، فلم أجد بينها وبينه مناسبة ما، لا من حيث الأسلوب الدبلوماسي الجاري به العمل في ذلك العصر، ولا من حيث التقصير الواقع في هذا الكتاب، بالنسبة لأهمية هذا الأمر الجَلل

ص: 19

أما من حيث الأسلوب الدبلوماسي، فإن كل من يرجع إلى تاريخ العلائق السياسية الخارجية إذ ذاك وما صدر فيها من المكاتيب والوثائق الرسمية الإسماعيلية، يُدرك بالبداهة أن نسبة هذا الكتاب لابن عائشة المشتمل على هذا الأمر المهم، إنما هي خيالية فحسب، لجريانه وصدوره على غير المألوف والمعهود من الأساليب الكتابية والدبلوماسية المتبعة إذ ذاك

وأما من الحيثية الأخرى، فإنه يبعد كل البعد أن يخطب ملك عظيم إلى ملك عظيم بنته وهو أجنبي عنه بهذه الوسيلة المخلة بعظمتها معاً، إذ التقاليد تقضي في مثلها ألا يصدر فيها مثل هذا الكتاب الذي هو أشبه برسالة تكتب لمطلق إنسان، بأسلوب يزري بعظمة السلطان، ويقضي ببله هذا السفير العظيم الشأن، إذن فما يقتضيه الحال حينئذ؟ يقتضي أن يحرر في ذلك كتاب رسمي، باسم جلالة الخاطب لجلالة المخطوب إليه، ويرسل صحبة سفير عظيم ماهر كابن عائشة، مع هدايا نفيسة، وتحف مغربية تستلفت الأنظار، وتحف المخطوبة من الاعتبار بإطار، وتقضي بنيل الأوطار، طبق المقرر المعتاد في السفارات المتبادلة بين الملكين فيما هو أو هي وأوهن من هذا الأمر

لابد أن أعرض على القراء نص هذا الكتاب، وكيف وجد وبأي لغة كتب، ولأي لغة نقل، وبشهادة من يراد إثباته، مما لم تجر به عادة، ولا ارتكب مثله لا في البدء ولا في الإعادة، لتعلموا قيمته:

هذا الكتاب نقل عن مجلة فرنسية، سميت مجلة فرنسا، وكتب لأول مرة باللغة الأسبانية، ولم يحرر أصله الموهوم باللغة العربية، التي هي لغة من ألصقت نسبته به، والتي هي لغة الدولة المغربية الرسمية، والتي كانت تخاطب بها الدول الأجنبية، ونقل من اللغة الأسبانية إلى اللغة الفرنسية، والذي شهد على أبن عائشة به كاتب أجنبي لتاجر أجنبي كان مقيماً بسلا في ذلك العهد، وإذا تحققت هذا وأحطت به علماً. فإليك نص هذا الكتاب منقولاً عن المجلة المذكورة عدد 62 مترجماً بقلم رئيس الترجمة العلمية بالرباط سابقاً الكمندار إسماعيل حامد الأشهر:

(وبعد فقد أمرني مولانا السلطان على أنه إن كان جواب ملك فرنسا موافقاً لما تضمنه كتابنا هذا فأتجهز للسفر على أي مركب من المراكب الحربية الفرنسوية ترد عل مرسى سلا أو غيره لأتوجه إلى حضرة سمو ذلك الملك الفخيم وأعرض على جنابه العلي المعاهدة التي

ص: 20

يرغب سيدنا عقدها معه بمزيد الاشتياق والفرح، وأن أحقق لديه بكل التأكيد بأنه يفتخر سيدنا بمصاهرة أعز الملوك وأجلهم، وأن يبيح له الدخول في جميع مراسي الإيالة الشريفة وسائر مدنها وأقطارها، وكذلك لكافة رعيته، وعليه أشهد أن القبطان عبد الله بن عائشة هو الذي أملى عليّ هذا الكتاب باللغة الأسبانية، ثم ألزمني بترجمته إلى اللغة الفرنسوية ولأجله وضع فيه خاتمه والسلام. الإمضاء: جان ماني دولا كلوازري النازل بمدينة سلا في مقابلة تجارة المسيو جوردا، وكتبه في 14 نوفمبر سنة 1699 موافق 21 جمادي الأولى سنة 1111)

هذا أصل الكتاب. وهذه ترجمته حرفياً فلنبحث الآن فيما يُعَضِّده أو يَعْضِده، لنكون على بينة من أمره، ولنميز بين خله وخمره، فنقول: هل يمكن لأبن عائشة، وهو ذلك السفير الخطير أن يملي على كاتب أجنبي نص هذا الكتاب الخاص بمولاه، المتعلق بأمر يهمه، من الواجب أن يكون سرياً لا يتجاوز الخاطب، والسفير يمليه عليه باللغة الأسبانية، ويلزمه بترجمته إلى اللغة الفرنسية؟ هذا ما لا يوافق عليه عظمة الخاطب ومهنة السفير، ولا يقبله العقل السليم، ولا يصدقه الواقع، حتى فيما هو أقل من هذا الأمر الخطير، وإلا فأين كتاب الدولة ومترجموها، المعتنون بتنميق مكاتبتها، وتطريزها بالذهب، وتلوينها بأصباغ مبهجة خلابة رائقة، بطرق فنية، امتاز بها كتاب المملكة المغربية؟ ما بقي لنا إلا أن نتساءل قائلين:

هل يمكن أن يكون ابن عائشة وضع هذا الكتاب افتياتاً منه على ولي نعمته وهو لا يعلم، ووجهه للملك لويز ليجس نبضه في الأحدوثة التي لم تعزز بثانية في بابها، حتى يعرف من أين تؤكل الكتف، فان نجح مسعاه قدمه قرباناً لمولاه، بين يدي نجواه، رجاء ازدياد تمكن وتقرب منه، وإن أخفق وخاب كتم الأمر عنه وقنع بالحالة التي كان عليها معه، ولذلك كله تجشم مشقة الالتجاء إلى ذلك الكاتب الأجنبي، وإملاء الكتاب عليه بنص أسباني أجنبي، وإلزامه بنقله إلى نص فرنسي أجنبي. واكتفى بوضع الخاتم عن الإمضاء بخطه، ولكن هناك عقبة كأداء تعترضه في هذا السبيل، وهي أن هذا الأمر من الأهمية بمكان، وليس بالأمر الهين الذي يمكن تمشيه والوصول إليه في طي الخفاء؛ ولا يؤدي به إذا أخفق فيه إلى عقاب سلطانه وجفاه

ص: 21

إننا نعلم جيداً كغيرنا أن المغرب كان إذ ذاك طافحاً بكتاب بارزين هم أولى بإسناد هذه المهمة إليهم، وأحق بإلقائها عليهم، لو كانت تخطر ببال، فكيف عدل أبن عائشة عنهم إلى هذا الكاتب دون سواه، وهو كاتب أجنبي لتاجر أجنبي، لا علاقة له بمطلق شؤون الدولة، ولا بالبلاط السلطاني وكيف اطمأن إليه في هذه القضية المهمة، التي يتوقف علاجها على كاتب ماهر من كتاب أسرار الدولة الممارسين لها العارفين بأساليبها ممن يتلاعب بأطراف الكلام، ويداوي ببلسم بلاغته الكلام، ويوصب بسحر بيانه إلى هدف القصد والمرام؟ فهل بلغ البله بابن عائشة إلى هذا الحد، فخاطب أعظم ملوك أوربا إذ ذاك بمثل هذا الخطاب الصبياني في خطبة فلذة كبده، وريحانة قصره وقرة عين ملكه لملك عظيم، عرف بعلو الهمة والشهامة والغيرة، والمحافظة على أبهة الملك وسطوة السلطان؟ هذا يسأل عنه من درس حياة الخاطب، وسيرة سفيره ابن عائشة معه، وما لسفيره هذا من المكانة المكينة في العقل والدهاء ونفوذ البصيرة، وعدم الدخول في ميادين الفضول، والبصر بما يصلح من الشئون الدولية، وما لا يصلح، وعدم تجاوزه لحدود وظيفته، وما تقتضيه رسوم مرتبته، فلم يكن ابن عائشة مغفلاً ولا أبله ولا إمعة ولا فضولياً ولا ثرثاراً حتى يأتي بسر من أسرار سيده، لو كان، ويضعه بين يدي كاتب أجنبي لتاجر أجنبي، ويتبرع بإطلاعه عليه والإفضاء به إليه ليفضي به لدولته، فيذيع وينتشر قبل وصوله لصاحبه المخاطب به، ويشهده مع ذلك على نفسه، وهو يعلم قيمة شهادته عنده وعند غيره إذ ذاك

نحن لا نشك في أن المصاهرة هي من آكد العلائق وأوثقها بين ملوك الدول، ولا زال الملوك يرغبون فيها، توطيداً لدعائم عروشهم، وتثبيتاً لمراكزهم، وتسييراً لنفوذهم، وسعياً وراء تأمين ممالكهم، فليس هناك من عارٍ يلحق الجد أبا النصر إسماعيل لو ثبتت خطبته لبنت أعظم ملوك أوربا في عصره، سعياً وراء ربط علائقه معه برباط من المصاهرة وثيق، واستطلاعه على أسرار دولته، الذي لا يتأتى إلا بالمصاهرة، وليس في الدين الإسلامي مانع منه؛ ومن الضروري لدى كل المسلمين أن الشرع الإسلامي، يبيح التزوج بالكتابية، وفرنسا من أهل الكتاب، فحينئذ لا داعي لتستر الجد مولاي إسماعيل، وتكتمه في هذا الأمر الذي يبيحه شرعه القويم لو شاء، ولا موجب لالتجائه إلى هذه الخطبة بهذا الأسلوب المريب الغريب المخل بعظمته وعظمة المخطوب إليه، كما أنه لا داعي لارتكاب

ص: 22

ابن عائشة هذه الهفوة، وهو ذلك السفير الحازم (الضابط) المجرب العارف بمقتضيات أحوال الملوك وما تتطلبه مناصبهم ومراسيمهم، وما تتنافس فيه نفوسهم الطماحة من التنافس فيما يظهرهم بمظاهر العظمة والجلال والفخار المطلق، على أن ابن عائشة إنما كان سفيراً في الشئون الراجعة إلى وظيفته، ولا شك أن هذا الأمر ليس منها في قبيل ولا دبير، فلم يكن ابن عائشة في الدولة الإسماعيلية وزير خارجية، وإنما كان رئيس البحرية، يترأس الأساطيل المغربية التي كانت تمخر عباب البحر إلى شواطئ الدانمارك، وفرنسا، وغيرهما، فكيف يمكن أن يكلفه مخدومه بهذا الأمر، وهو بعيد عنه تمام البعد؟ بل كيف يمكن تدخله فيه، وهو بهذه المثابة، مع وجود من تسيغ التقاليد الدولية تكليفه بذلك من وزراء ورؤساء الدولة الإسماعيلية المدنيين السياسيين؟ بل كيف لا يفطن مولاي إسماعيل لذلك، وهو ذلك الملك الألمعي (الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا) يندب لكل مهمة أهل بلواها، حسبما شهد له بذلك غير واحد، حتى من ساسة أوربا؟ قال الأب بيستوفي مؤلفه المعنون بحكاية حوادث بالمغرب، صفحة 35 منه في حقه: يدرك ما يدور في ضمير مخاطبه قبل أن ينطق بمراده. إلى أن قال: بصير بعواقب الأمور، آخذ بالأحوط في متوقع الحوادث، وبصفحة 60 منه لا يسند تدبير أموره بغيره من قواد وكتاب، ولكن يستشيرهم فيما عزم عليه فيحبذون.

لو كان هذا الكتاب صحيحاً، لجاء على صورة المكاتبة الدولية، وبأسلوبها، ولكانت له أهمية كبرى، وطنين ورنين في الدوائر الإدارية الفرنسية ذات الشأن، ولاحتفظ بأصله، كما احتفظ بغيره، مما هو أتفه منه في السجلات الدولية والفرنسية المعدة لذلك، ولتناقله كتاب ذلك العصر من مؤرخي الشرقيين، والغربيين، فقد تتبعت بغاية اليقظة والتثبت جل المصادر المتعلقة بتاريخ دولتنا الإسماعيلية، مغربية وفرنسية، وغيرها مما كتب بلغات مختلفة، وأساليب متعددة في ذلك العصر، كرحلة مويط، وتاريخه للدولتين، الرشيدية والإسماعيلية، سواه كثير، فلم نعثر على شيء، ولم نقف لهذه الأحدوثة على أثر ولا خبر يسمع وتطمئن النفس إليه، ولطالما تباحثت في ذلك مع جماعة من علية المستشرقين وغيرهم، فلم يفيدوا بما يحسن السكوت عليه، ومنهم من وعد بالبحث في مواطنه، وبعد مدة أجاب سلبياً، وغاية ما هنالك، رواج القضية حتى استفاضت بدون استناد لأصل أصيل

ص: 23

يثبتها، ولقد أجهد نفسه البحاثة الكبير الكنت هنري دوكستري، وهو من هو في البحث، والتنقيب، عسى أن يصل إلى أصل يعتمد عليه في الإثبات، بصفة رسمية، فلم يظفر بشيء كسابقيه، ومن أتى بعده، وكل من ذكرته في هذا الموضوع من المؤرخين المستشرقين وغيرهم، وبينت له وجهة نظري في إبطال القضية، ودحضها بالحجج الواضحة، حبذ النظرية واقتنع بها

والباحث المولع مثلي بالبحث والتنقيب عن الآثار والوثائق التاريخية، ولا سيما ما كان متعلقاً منها بسلفنا الطاهر، لا بد أن يكون جد مسرور لو عثر على ما يطمئن نفسه، ويقر في قرارتها ثبوت هذا الأمر الخطير بالطرق الرسمية المعروفة المتبعة. هذا ولا عار يلحق الخاطب العظيم، لو كان هذا الكتاب صحيحاً، وحبذا ذلك، وأبى لويز الرابع عشر أن يحقق له هذه الأمنية لأسباب ارتآها، وعلل خارجية يعقلها من يعلم بوقوع هذه الشئون بين من لا يعد من الخاطبين ومخطوباتهم في سائر الطبقات، ولكننا ويا للأسى والأسف لم نقف ولا وقف غيرنا ممن أجهد نفسه في البحث قبلنا على ما يثبت ذلك، فليس هنالك نص محفوظ في الدوائر الرسمية يتضمن ذلك، وليس هنالك جواب يدل على وجود هذا الكتاب من والد المخطوبة، والجواب ضروري ولا شك حسب القواعد الجارية، ولا سيما في مثل هذه المهمة التي أصبحت الشغل الشاغل لكثير من الباحثين، والتي يريد إثباتها كثير من المستشرقين، بل والشرقيون كذلك من غير التفات إلى مصدر وثيق، ولا نص رسمي صريح يحمل على اليقين. على أنه لو كان هنالك كتاب لكان عنه جواب بالطبع؛ ولو كان هنالك جواب لحفظ أصله من غير ارتياب؛ ولو كانت هنالك رغبة حقيقية من جلالة الخاطب في هذا الأمر لوقع منه ما يؤيده من مراجعة الملك المخطوب إليه بواسطة نائبه الذي كان بمثابة وزير الخارجية إذ ذاك، وكان يقيم، في الغالب، بثغر طنجة، وكانت الأمور الخارجية، كيفما كانت، منوطة به من جانب السلطان في ذلك العهد، وما ذاك إلا لكون هذا الكتاب يقتضي بنصه الصريح شدة رغبة مولاي إسماعيل في ذلك، فكيف يمكن أن يكون راغباً فيه متعلقاً كل التعلق به ولا يراجع المخطوب إليه، ولا يخاطبه في شأنه بمكاتيب رسمية تفصح عن مراده تمام الإفصاح؟ ذلك مما ينقض هذه القضية بوضوح، ويصيرها في حيز العدم. جعل مؤرخو أوربا لهذه القضية سبباً غريباً نعده نحن، بحسب

ص: 24

تقاليدنا الدينية وتقاليد ملوكنا الغيورين العظماء، من قبيل الروايات والتشبث بالخيال الكاذب. أتدري ما هو هذا السبب؟ هو وصف ابن عائشة تلك الفتاة الجميلة لمولاي الجد إسماعيل وصفاً كاشفاً جعله ينزو هذه النزوة التي تقضي على ما عرف به من الثبات الذي يحطم النزوات والوثبات والمشهود له به من كتاب عصره سواء في ذلك الأوربيون وغيرهم، بل صيره ينزع هذه النزعة التي تجعله في صف الذين تقودهم غرائزهم إلى الهيام بما يرضيها ويشبع نهمها بأي وسيلة كانت، مع أنه كان بقصره الفاخر العامر من الأزواج الطاهرات والسراري وأمهات الأولاد الأعجميات الجميلات ما يغنيه ولاشك عن التعلق بفتاة وإن كانت أميرة بعيدة عنه تمكن أحد سفرائه من وصفها بكل دقة؛ فقد نص (بيدجان مكان) في تعليقه على ما كتبه (سان أولون) على أن مولاي إسماعيل، وإن كان ولوعاً بالنساء، فإنه لم يكن من الذين يستهويه حبهن، ويستولي على فكره، بل كان مقتصراً على ما تدعو إليه الحاجة إليهن، ولم تشغله كثرة نسائه عن تدبير شئون مملكته، والنظر في مصالحها، إلى آخر ما قال من هذا القبيل فلينظر في كتابنا (المنزع اللطيف، في التلميح لمفاخر مولاي إسماعيل بن الشريف) وليس سفيره ابن عائشة بذلك المتهور السخيف، الذي يتجرأ على مولاه وسيده، بوصف هذه الفتاة له وجهاً لوجه، وهو الذي كان يقف بين يديه وقوف المملوك بين يدي مالكه، بأدب واحتشام، وتهيب لمقامه واحترام

والذي يرفع نقاب الغموض عن هذه القضية، هو ما كان بين الخاطب والمخطوب إليه من غاية الرعاية وتمام المودة، وحسن العلائق، والمخاطبات التي كانت أكبر عنوان على تعظيم أحدهما للآخر والتنويه به، واعتناء كل منهما بإجابة صاحبه عن كل أمر له علاقة بتوثيق العلائق السياسية بينهما، وأي علاقة تضاهي علاقة المصاهرة في هذا الباب أو تحل محلها؟ فكيف إذن تصح خطبة سيدنا الجد إسماعيل الأكبر منه بهذه الصفة؟ وكيف لا يجيبه جواباً يعبر فيه عما تكنه نفسه للجد من إجلال وتقدير عهدا منه في غير هذا الأمر؟

هذا ما ظهر لي في هذه الأحدوثة أبديته، راجياً من الباحثين والمؤرخين أن يرشدونا إلى أصل ثابت غير الكتاب الذي أبديت فيه رأيي، ولهم مزيد الشكر مني سلفاً

(الرباط)

ابن زيدان

ص: 25

‌الفلسفة الشرقية

بحوث تحليلية

بقلم الدكتور محمد غلاب

أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين

- 21 -

الفلسفة الصينية

يلاحظ الباحثون أن لديهم مصادر لا بأس بها عن جميع الفلسفات الشرقية القديمة ما عدا الفلسفة الصينية فإنها ظلت إلى ما قبل هذه السنين الأخيرة مدروسة دراسة ناقصة، إذ لم يوفق قبل هذا العصر أحد لأن يكتب عنها كتاباً وافياً يعالج نواحي فلسفتها العميقة المتشعبة، ولكن ليس معنى ذلك أن هذه الفلسفة ظلت مجهولة تماماً إلى أن ظهرت تلك البحوث الأخيرة، كلا، فهذه الفلسفة قد عرفت في العالم الأوربي المتمدين قبل الفلسفة الهندية مثلاً، إذ ترجم (كونفيشيوس) سنة 1687 و (مانسيوس) سنة 1711، ولكن الذي ظل ينقص الباحثين إلى هذا العهد الأخير هو الكتب الشاملة لجميع نواحي هذه الحياة العقلية القيمة؛ غير أن هذه الثغرة قد أخذت تضيق على أثر شعور العلماء المحدثين بوجوب استيفاء هذه الدراسة الهامة، ذلك الشعور الذي تجلى بوضوح في كتاب العالم الكبير والمُستَصْين الخطير (ا. ف. زانكير). ولا ريب أن هذا المؤلف وأمثاله قد كشفوا للعقل الحديث عن ناحية هامة من نواحي الفكر البشري كانت مجهولة لدى العامة، ومعروفة معرفة مشوهة لدى الخاصة. ولهذا الجهل أو التشويه ثلاث أسباب: الأول صعوبة اللغة الصينية إلى حد يصعب معه إتقانها واكتشاف أسرارها. الثاني فقدان الثقة نهائياً من جميع الترجمات التي نقلت النصوص الصينية إلى اللغات الأوربية لما وجد بينها من تباين واختلاف جديرين بإسقاطها كلها من صف الحقائق العلمية. السبب الثالث هو ذلك الغرور الأوربي المتعجرف الذي ظل إلى ما قبل هذه السنوات الأخيرة يجزم في طفولة بأن أول فلاسفة الدنيا هو (تاليس) وأن العقلية الشرقية - ولا سيما الجنس الأصفر - غير قادر البتة على أن تنتج آراء فلسفية ذات قيمة عالية، إلى غير ذلك من الدعاوى السطحية التي

ص: 27

أنزلتها البحوث الأخيرة عن الفلسفة الصينية منزلة الخجل والسخرية، إذ كشفت الدراسات الحديثة عن أن للصين فلسفة عميقة مبتدعة جديرة بالاحترام يرجع تاريخها إلى عشرين قرناً قبل المسيح، وأنها استطاعت أن تلون الحياة العملية العامة للأمة جمعاء بلونها الراقي، وأنها استطاعت كذلك أن تحفظ الكيان الخلقي الكامل لهذه البلاد مدى أربعة آلاف سنة، بل إن بعض العلماء يعتقد أن الفضل في هذا التماسك الاجتماعي والمقاومة السياسية واحتفاظ الصين باستقلالها إلى الآن يرجع إلى تمسكها بالأخلاق العالية المسجلة في فلسفتها

على أن هذا لا يمنعنا من أن نعترف مع الأستاذ زانكير بأن الفلسفة الصينية لم تعرف علم النفس التجريبي على النحو الذي يدرس عليه الآن، وأن العقلية الصينية لم تعرف المناهج العلمية، بل وأنها لم تنجح تماماً في تأليف كتاب منظم متقن في علم المنطق وإن كان هذا كله يجب أن ينظر إليه بعين التحفظ والأحتياط، لأننا سنشير فيما بعد إلى المنطق الصيني، وسنبين بعض ما فيه من عمق وسمو كما أننا سنشير كذلك إلى ما لهم من مجهود لا بأس به في العلوم المختلفة الأخرى

غير أن أولئك العلماء الذين استهانوا بالفلسفة الصينية ورموها بالخلو من النظريات لهم في ذلك بعض العذر، وهو أنهم لاحظوا في جميع الأطوار التاريخية لهذه الأمة أن الفلسفة العملية هي التي تفوز بأهم الأدوار فخدعهم ذلك عن الفلسفة النظرية التي هي أساس كل هذه الأخلاق العملية. وفي الواقع أن من طلائع مميزات الأمة الصينية تحوُّل النظريات بسرعة إلى أخلاق عامة في الشعب كله، ولهذا قال (سوزوكي) الياباني ما نصه:(إذا كان الدين ممثلاً في اليهود، والتنسك في الهنود، والتفلسف في الإغريق، فإن الأخلاق هي الثقافة الروحية التي التقت في إمبراطورية الوسط بممثليها الحقيقيين وبنموها المنظم المحدود)

بلغت الأخلاق الصينية من السمو إلى حد أن يروي لنا الأستاذ (زانكير) أن المبشرين المسيحيين حين اتصلوا بالصينيين في القرن التاسع عشر ورأوا ما عندهم من أخلاق بهتوا خجلاً من عقيدتهم القديمة عن هذه الأمة ولم يجدوا لهم من هذه الورطة مخلصاً إلا أن يعلنوا أن الإله قد أوحى إلى الصينيين كما أوحى إلى الإسرائيليين، وأن (شانج - تي) ليس إلا الرب السماوي المذكور في الكتاب العبري المقدس، بل إن أحد (اليسوعيين) في القرن

ص: 28

التاسع عشر اشتغل بجمع بعض النصوص الصينية، ليثبت منها هذا الوحي الإلهي، وإن عدداً كبيراً من القسس والعلماء قد حاولوا أن يربطوا بين التوارة وبين الكتب الصينية تارة في الأخلاق وتارة في أصول العقيدة، وثالثة في اللغة على نحو ما رأينا من التحككات اللفظية التي قام بها العلماء بين الفلسفتين: الهندية والفارسية. ويستطرد هذا العالم فيقول ما ملخصه: وقد ظلت الفلسفة الصينية مجهولة القيمة في وربا إلى القرن التاسع عشر، وهذا طبيعي، لأن الفلسفة التي تسمو فيها الأخلاق إلى هذا الحد لا يمكن أن تفهم حق الفهم في العصور التي - مع الأسف الشديد - لا تعني بالأخلاق كثيراً؛ ولكن العجيب في رأيه هو هذا التناقض البارز الذي وجد كثيراً في كتب (المُستصْيِنين) والذي أنزل أولئك الباحثين في نظر (زانكير) منزلة العوام والأميين كما يصرح بذلك بعد أن يسرد طائفة كبيرة من آرائهم المتضاربة المتناقضة ثم يسأل أولئك المتعاليين متهكماً فيقول: تقولون إن العقلية الصينية غير جديرة بالأحترام، لأنها لم تترك تراثاً علمياً، فهل تستطيعون أن تنبئوني متى عرفت أوروبا العلم؟ وهل كان لديها أقل فكرة قبل القرن السادس عشر عن العلم أو عن مناهجه الحديثة؟ وهل كل شعوب أوروبا لم تكن مستوية مع الصين في هذه النقطة تمام الاستواء إلى عهد النهضة؟

على أن هذه التهمة التي رموا بها العقلية الصينية هي باطلة من أساسها؛ فالصينيون قد عرفوا منذ أكثر من ثلاثين قرناً الرياضة والفلك إلى حد أم كان لهم فيهما بحوث قيمة تدور حول بعض معقدات فروع هذين العلمين مثل معرفة الفروق الدقيقة بين السنتين: الشمسية والقمرية، ومعرفة أوقات دورات هذه الأفلاك الثلاثة: الأرض والشمس والقمر بالنسبة إلى بعضها. وفوق ذلك فقد كانت لهم دراية عظيمة بالأدب ونقد النصوص والتاريخ والجغرافيا وتاريخ الفنون وعلم اللغات. كل هذه المواد كانت معروفة ومدروسة في الصين بدرجة من العناية لم تكن تبلغها أوروبا قبل القرن السادس عشر

أما العلوم الطبيعية فيكفي لإثبات نبوغهم فيها أن نلعن في فخر أنهم هم الذين اخترعوا البوصلة وأحجار المناظير ورواسم (كليشهات) الطباعة المصنوعة من الخشب، وأنهم عرفوا الورق والحرير و (البورسيلين) والطلاءات الثابتة وبرزوا في كل هذا على أوروبا قبل عصر النهضة

ص: 29

نعم إن أوربا قد سبقت الصين في هذه العصور الحديثة، ولكن ذلك ليس معناه نقص العقلية الصينية أو عدم استعدادها للنبوغ في هذه العلوم، كلا، وإنما هو ناشئ من أن الصينيين لم يحتكوا بأوروبا احتكاكاً مباشراً متواصلاً، فلم ينلهم نصيب كبير من هذا النمو العلمي الحديث، ويدل على ذلك أن الشبان الصينيين الذين أخذوا بحظ من العلوم العصرية لم يكونوا أقل نبوغاً من شباب أي شعب آخر

ثم يعلق الأستاذ زانكير على هذا بقوله: والآن نعود إلى النقاش في مشكلة الفلسفة المنهجية فنسأل أولئك المتجنين على الصينيين: ماذا يقصدون بهذه العبارة؟ إن كانوا يريدون بها تطبيق مناهج العلوم التجريبية على الفلسفة، فنحن نوافقهم على أن الصينيين لم يعرفوا هذا الفن، ولكننا نعود فنهمس في آذانهم بأن أوروبا لم تنجح في هذه الطريقة إلى الحد الذي يبرز هذه الطنطنة، ويستدعي تلك الكبرياء. بل بالعكس إن أحدث الآراء الفلسفية المحترمة قد عدلت نهائياً عن هذه الفكرة، وآمنت بأن العلم قد عجز أن يكون أستاذ الفلسفة وملهمها، وأعلن استعداده إلى العودة من جديد إلى بنوتها والتتلمذ عليها، واعترف أن مناهجه الميكانيكية ليست إلا جزءاً من مناهج الفلسفة ابتدعته هي حينما ألجأتها الحاجة إلى دراسة المظاهر الخارجية التي لا تعرف إلا عن طريق هذه المناهج التجريبية. وأخيراً فهل سقراط وأفلاطون والقديس أوجستان والقديس توماس - ولم يعرف واحد منهم المنهج التجريبي - لم يكونوا فلاسفة في نظر أولئك المتجنين؟

نحسب أننا بعد هذا كله قد رسمنا لك صورة واضحة للفلسفة الصينية في شكلها العام، ولِمَا أصدر عليها الباحثون من أحكام متسرعة لم تلبث أن انهارت أمام النقد العصري النزيه

مصادرنا عن الفلسفة الصينية

يرى العلماء أن أهم مصادر فلسفة شعب من الشعوب هو الكتب التي سجلت فيها آراؤه الفكرية وأخلاقه العملية، وأن أصدق ما يحقق هذه الغاية عند الشعوب القديمة هي الكتب الدينية، لأن الدين والفلسفة توءمان في النفس البشرية لا يستطيع أحدهما أن يستغني عن الآخر، إذ لا تكاد العقيدة الدينية تستقر في النفس حتى توقظ التفكير الذي هو مبدأ الفلسفة، ولا تكاد الفلسفة تبدأ في مهمتها دون أن تفتتحها بالبحث عن الإله، وهو الجوهر الأساسي في العقائد. وإذن فنستطيع أن نجزم بأن الدين والفلسفة شقيقان مستقلان بدآ من مصدر

ص: 30

واحد متجهين إلى غاية واحدة وإن اختلفت أثناء الطريق وسائلهما، بل قد يعظم هذا الاختلاف حتى يصل إلى درجة الخصومة كما حدث بين (أنا جزاجور) ورجال الدين في أتينا، أو بين الفلاسفة ورجال الكنيسة في أوروبا في القرون الوسطى، ولكن الصينيين لحسن حظهم لم يعرفوا هذه المعارك الدامية التي شهدتها أوروبا المتمدينة بين الفلسفة والدين مراراً عدة، بل ظل العقل والدين عندهم في وئام وسلام يتعاونان تعاون الشقيقين على حل خفايا الكون ومشكلات الوجود.

لهذا كله كان من الطبيعي في الصين - أكثر منه في أي بلد آخر - أن نبحث عن مصادر الفلسفة بين صفحات الكتب الدينية وفي تقاليد الشعب وعاداته الشفهية، وهذا هو الذي كان بالفعل، إذ اعتمد الباحثون العصريون في الفلسفة الصينية على ما يأتي:

(ا) العادات والتقاليد الدينية التي ظلت - بفضل العزلة - كما كانت منذ آلاف السنين، ولم تنل منها هذه العصور الطويلة كما نالت من تقاليد الشعوب الأخرى، والتي لا تزال قادرة على إعطائنا صورة أمينة لما كان عليه العقل الصيني منذ تلك العهود.

(ب) الكتب الدينية الخمسة المسماة: (وو - كينج) والتي يمكن أن تعد بين أقدم الكتب الإنسانية، ومع ذلك فلا يستطيع العالم الدقيق أن يطمئن إلى هذه الكتب كمصادر موثوق بها عن العصر الأول، إذ قد ثبت أن أكثرها كتبه (كونفيشيوس) ملخصاً بأسلوبه الخاص، ولهذا ينبغي للباحث الاحتياط من هذه الكتب كما يقول أحد العلماء الألمان، ولكن ليس معنى هذا أننا نتهم (كونفيشيوس) بتشويه هذه الكتب، كلا، ولكنه لما صرح بأنه لم يأت في مذهبه بجديد، وإنما أقر أنقى وأطهر ما كان في العقيدة القديمة، فقد خشي الباحثون المحدثون أن يكون قد ألغى من هذه الكتب كل ما ليس نقياً في نظره، وهذه خسارة علمية كبرى، لأن العالم يهمه أن يجد الآثار التاريخية بقضها وقضيضها، ليستطيع أن يستخلص منها الحقائق في حياد تام. وفوق ذلك فإن تلاميذ (كونفيشيوس) قد شرحوا هذه النصوص وعلقوا عليها، وربما يكونون قد حذفوا منها أو أضافوا إليها.

يوجد بين هذه الكتب الخمسة ثلاثة جديرة بالعناية، وهي:(شو - كينج)، و (شي - كينج) و (إي - كينج)؛ فأما (إي كينج) فهو أهم هذه الكتب من حيث تصوير الناحية العقلية للأمة، وقد حوى كثيراً من التطورات الفكرية المختلفة وهو لهذا يدعى:(كتاب التغير)

ص: 31

وعليه أكثر من غيره يعتمد (المستصينون) في فهم الحياة الفلسفية لهذه الأمة، لأن التطور الذي وقع له ليس تطور حذف ولا تشويه، وإنما هو تطور إضافة وتأويل للنصوص القديمة بما يتفق مع سير العصور المختلفة. أما نصوصه فقد أثبت العلماء أن بعضها يرجع إلى القرن الثاني عشر قبل المسيح، وأن هذا البعض قد وجد عليه الطابع النحوي واللغوي لتلك العصور التي كتب فيها. والفضل في هذا التحقيق العلمي يرجع إلى العالم الدقيق (أليز) الذي استطاع بمعونة علوم اللغة أن يحدد - ولو على وجه التقريب - العصور التي كتبت فيها هذه النصوص. وإذاً، فنحن نرى أنه اجتمعت في هذا الكتاب المحافظة الدقيقة مع التطور المستمر.

وأما (شو - كينج) فأهميته كلها تنحصر في احتوائه على جميع النواحي الأخلاقية إذ أنه ضم بين دفتيه أسمى أنواع الفضائل والخيرات التي أتصف بها حكماء ملوك الصين فيما قبل التاريخ تلك الفضائل التي اتخذها (كونفيشيوس) فيما بعد نموذجا احتذاه وسار على منواله.

كان هذا الكتاب أكثر الكتب الصينية تعرضاً إلى التشويه والتبديل، إذ تحدثنا القصص الشعبية أنه كان في عهد (كونفيشيوس) مائة فصل كاملة نسخها هذا الحكيم بخطه، وأنه لما أمر الإمبراطور (اتسين - شي - هوانج - تي) بإحراق الكتب افتقد الناس كتابي:(شو - كينج) و (شي - كينج) فلم يجدوهما، فاضطروا إلى أن يستنسخوهم من جديد. وقد اعتمدوا في هذا على ذاكرة شيخ قدير وعالم جهبذ كان قد اشتهر في عصره بالدقة وقوة الذاكرة، وهو (فو - سانج). ولهذا السبب قد أصبح كتاب (شو - كينج) ثمانية وخمسين فصلاً بعد أن كان مائة.

ومهما يكن من الأمر، فإن هذا الكتاب له أهمية عظمى من الناحية الأخلاقية، لاحتوائه على كثير من الحكم والمواعظ والأمثال والقصص التي تعلي من شأن الفضيلة والخير.

هذه هي المصادر القديمة التي يعتمد عليها. وهناك كتب أخرى قد كتبت في العصور المتأخرة وسنشير إليها عندما نعرض لعصورها في شيء من التفصيل.

(يتبع)

محمد غلاب

ص: 32

‌فقيد الأدب السوداني

التيجاني يوسف بشير

للأديب المبارك إبراهيم

في أواخر شهر يوليو المنصرم، منيت النهضة الأدبية الحديثة في السودان بخسارة جد فادحة قل أن يأتي الزمان لها بعوض، وذلك بوفاة شاعر هو من أفحل شعراء النهضة، هذا إن لم أقل إنه أرهفهم إحساساً أجمعين!

يعد الفقيد من أصغر شعرائنا المجيدين سناً، إذ كان مولده في مدينة أم درمان عام 1912

وقد تلقى علومه بمعهد أم درمان العلمي؛ وبعد تخرجه ساهم في تحرير جريدة (ملتقى النهرين)، قبل اندماجها في جريدة (حضارة السودان). ثم حرر في مجلة (أم درمان)، ومجلة (الفجر)

وكان الشاعر الشاب يؤمل أن تواتيه الظروف، فينزح إلى القطر المصري الشقيق، للانتظام في أحد معاهده العالية، غير أن جده العاثر لم يمكنه من إدراك هذه البغية

ومن رقيق شعره في الحنين إلى أرض الكنانة: -

عادني من حديثك اليوم يا مصر

رَئِيٌّ وطوفت بي ذكرى

وهفا باسمك الفؤاد ولجت

بسمات على المباسم سكرى

إنما مصر والشقيق الأخ السو

دان كانا لخافق النيل صدرا!

نضر الله وجهها فهي ما تز

داد إلا بعداً عليّ وعسرا!

والتيجاني لم يكن كأولئك النظامين الذين إذا ما شاءوا أن يؤلفوا القوافي أتوا بالتعابير الجاهزة الجافة، فقوموا قصيدهم منها كما يقوم البناءون البيت أو البناء بقوالب من الطوب. . . كلا لم يكن شاعرنا كأولئك، وإنما كان رحمه الله أشبه ما يكون بالمثال الماهر الذي يعمد إلى المواد الأولية البكر فينحت منها في غير محاكاة، تماثيل هي آية من آيات الفن الخالد على الزمن

وإليك أغرودة من أغاريد الشاعر المرقصة، وقد أسماها (النائم) قال:

أيها النائم في مه

د أغانيّ ولحني!

هكذا يدفق يا نا

عس في حسنك حسني

ص: 34

أنت يا واهب ألحا

ني ويا ملهم فني

إنما أصنع من كرْم

ك صهبائي ودني!

يا أمانيّ التي أعب

دها في كل لون

وأغانيّ التي ألهمه

املهم جن!

والتي ذوبها المط

رب في الصوت الأغن

كلما طار بها اللح

ن وفراها المغني!

خفقت ذات جناحي

ن: مدوٍ ومرن!

عبرت كل فؤاد

وتغشت كل أذن!

وكل أثار الفقيد من هذا الضرب الذي يمتاز بالرصانة في الأسلوب، والسمو في الخيال، والتجديد في المعاني

وفن التيجاني في مجموعه، مزاج من الأحاسيس العاطفية المتناهية في الدقة، والتأملات الروحية الفلسفية الصوفية: التي تُرى أن كل الكائنات، كبيرها وصغيرها، جليلها وحقيرها، تحدث عن جلال الخالق عز وجل

وليس أدل على صدق هذا القول من قصيدة شاعرنا التي نشرتها له (الرسالة) في العدد 38 من سنتها الثانية، تحت عنوان (الصوفي المعذب)، وهذه القصيدة تمثله صوفياً من الطراز الأول، ومنها: -

الوجود الحق ما أو

سع في النفس مداه

والسكون المحض ما أو

ثق بالروح عراه

كل ما في الكون يمـ

شي في حناياه الإله

هذه النملة في رقتها

رجع صداه!

هو يحيا في حواشيـ

ها وتحيا في ثراه!

وهي إن أسلمت الرو

ح تلقتها يداه!

لم تمت فيها حياة الله

إن كنت تراه!

وله من نفس القصيدة، وكأني به كان يصور شعوره عند دنو الساعة الأخيرة:

أذني. . . لا ينفذ اليو

م بها غير العويل

ص: 35

نظري. . . يقصر عن كل

دقيق وجليل

غاب يا نفسي إشرا

قك والفجر الجميل

واستحال الماء فاستحـ - جر في كل مسيل

يرجع اللحن إلى أو

تاره بعد قليل!

وكان حب الشاعر المفرط للبحث والتنقيب في أمهات الكتب الأدبية والفلسفية يحمله على أن يقطع ليالي برمتها ساهراً: يقلب صفحات كتبه تارة، وصفحات أفكاره تارة أخرى، أو يغازل عرائس أشعاره وقوافيه، البارعات الجمال، ذلك دون أن يقيم لصحته وزناً، أو يعطي جسمه الضاوي راحته من الهجود وفي ذلك يقول: -

ويح نفسي تنام من دونها الأنـ

فس شوطاً وما تهم بشوط!

أنا والنجم ساهران نعد الصبح

خيطاً من الشعاع لخيط!

كم صباح نسجته أنا والنجـ

م وأرسلت شمسه من محطي!

وكان من جراء هذه الجهود المتواصلة التي كان يبذلها الشاعر في الانكباب على الدرس والتحصيل أن أصيب بداء (السل) الذي أودى بحياته في أقل من نصف عام. فرجع هذا اللحن الجميل إلى أوتاره، على حد تعبير الشاعر. والشاعر لما يزل في ريعان الشباب، ولما يتجاوز الخامسة والعشرين

هذا وقد خلف الشاعر ديوان شعره، الذي كان يعده للطبع بعنوان (إشراقة). وقد قدم له بقصيدة شيقة جاء فيها:

قطرات من الندى رقراقه

يشرق البشر دونها والطلاقة

قطرات من الصبا والشباب الغض (م)

منسابة به منساقه

ورذاذ من روحي الهائم الولهان (م)

أمكنت في الزمان وثاقه!

قطرات من التأمل حيرى

مطرقات على الدجى براقه

يترسلن في جوانب آفاقي (م)

شعاعاً أسميته (إشراقه)

في سنة 1027، نشرت له مجلة (البلاغ الأسبوعي) أولى قصائده، وهو يومذاك طالب حديث السن في الخامسة عشرة من عمره، ومطلعها: -

تبدي الصدود وإنني أهواها

حسناء ما عرف الهوى لولاها!

ص: 36

وأما آخر ما نظمه الشاعر وهو على فراش الموت، فقصيدة بليغة مؤثرة، يخاطب فيها صديقه الشاعر السوداني المشهور: محمود أنيس. وفيما يلي جانب منها: -

أرأيت الصديق يأكله الدا

ء ويشوي عظامه المحراق؟

جف من عوده الندى فتعرى

وتنفت من حوله الأوراق!

وأنا اليوم لا حراك كأن قد

شد في مكمن القوى أوثاق

بت استنشق الهواء اقتساراً

نفس ضيق وصدر مطاق

وحنايا معروقة، وعيون،

غائرات، ورجفة، ومحاق!

مالنا دون ذا احتيال فإن الله (م)

في علمه الشئون الدقاق!

كيف أجزيك يا (أنيس) ومالي

من يد بالجزاء مثلي تساق

فالقريض الذي تقدر لا أعلم (م)

إن كان في الجزاء يستشاق

فاحتفظها ذكرى فإن مت فأقرأ

بينها الحب ما عليه مذاق

أو حيينا فسوف نقرأ فيها

فترة لا أعادها الخلاق!

ألا رحم الله فقيد الأدب السوداني، فلو عاش لغدت له شهرة مدوية بين قراء العربية في شرقنا العزيز.

(أم درمان سودان)

المبارك إبراهيم

ص: 37

‌همس وعزلة

للأديب يوسف البعيني

إلى أخي وصديقي الأستاذ فليكس فارس

مرَّ عليكِ الخريف بحزنهِ وكآبته. . .

ثم كفنكِ الشتاء بضبابهِ وثلوجه. . .

ومع أنك تسمعين هَمهمة الرياح، وتشاهدين تناثر الأوراق في الأودية والمنحدرات، أراكِ لا تحركين شفتيك ولا تهمسين بكلمة. فهل أخرَسَ الموتُ لسانكِ؟ لسانكِ الذي كنتُ أسمعهُ شادياً مغرداً يُفعم القلبَ حباً، والروح فرحاً وانتعاشاً!

واأسفاهُ. . . إن ليالي الانزواء والانفراد قد حوَّلتْ رائعَ إنشادكِ إلى وحشة خرساء صامتة. . . فما عدتِ تغازلين القمر، والجدول، والزهر، والشمس المطلة من وراء جدائل الشفق فسلامٌ على أيَّامك الغُرِّ الحسان. . .

أيام زهوكِ وسرورك!!

عجباً. .!

أهكذا يذوي الانفراد زهرة الأرواح؟

ويحوِّلُ إيناعها الناضر إلى ذبولٍ مؤلم وإطراقٍ مخيف؟

عجباً. .!

أهكذا تجرد العزلة زهرة الأرواح من زهوها الأنيق لتتعرى كالحُلم الحزين في برودة الموت؟

وافجيعتاه عليك. . . لم تعد حرارةُ أنفاسك تدفئك! إني أخشى عليك من تجمُّدِ العناصر، وظلمة ليالي الخريف الحالكة!

دمعةٌ فابتسامة،

ليلٌ فصباح،

هذا هو قانونُ الحياة

فلا حزنٌ يبقى، ولا يأس يدوم

فاستعدي لكي تنفضي عن مناكبك غبار العزلة والأنفراد، وأن تفتحي للفجر قلبك الطافح

ص: 38

بخمرة الحب والجمال

فعمَّا قريب يأتي الربيعُ بنسماتهِ العليلة،

وزهورهِ البيضاء،

وأندائهِ النابعة من أجفان النجوم!

كفاك صمتاً. . .

فالصمتُ للعظام والجماجم،

وليس لكِ يا ابنة الآلهة!

فهل تستيقظين وتنزعين عن وجهك نقاب الموت أيتها الموحيةُ الحبيبة

المتسربلة بالضباب،

والمتَّشحة بالشعور والعواطف،

والمصغية إلى أغاني الكواكب؟

نعم. . سوف تستيقظين،

وسوف ترافقين ذاتي الخفيِّة. .

فنفرحُ معاً عندَ أقدام الوادي، ونحتسي كؤوس الحياة منفردين

إنَّ الربيعَ حياةٌ. .

ومن لا يشارك الربيع في سروره وأفراحه، فليس من أبناء الحياة!!

(البرازيل)

يوسف البعيني

ص: 39

‌تشريع ولز للزواج وأثره الاجتماعي

للأستاذ خليل جمعه الطوال

إن الإنسان مدني بفطرته ميال بطبيعته إلى تفهم نواميس الكون التي تحيط به، والوصول إلى عللها ونتائجها؛ وهو إلى جانب ذلك قلما يطمئن إلى نظم معينة، أو يستقر على حالة ثابتة. ولعل مسألة الهيئة الاجتماعية كانت أولى المسائل التي أكب على دراستها دراسة جدية لما لها من الأثر البليغ المباشر في مشاكل حياته اليومية التي يصطدم بها صباح مساء حتى لينوء بحملها. وإذا كان لا بد من نتيجة مرضية لدراسته هذه التي أعارها جزءاً من اهتمامه غير يسير، فقد انتهى إلى أن المجتمع يرتكز على نظم واهية لا تماشي البيئة في سرعة تضخمها، ولا الأحوال في استمرار تطورها، فجاءت هذه النتيجة حدثاً جديداً بل صدمة عنيفة ألقت الرعب في قلوب الكثيرين من علماء الاجتماع الذين انقسموا إزاءها إلى ثلاث فرق رئيسية لكل منها في الأمر وجه نظر خاصة لا تقرها الفرقتان الأخريان وهي:(1) فرقة المتشائمين (2) فرقة المحايدين (3) فرقة المتفائلين

فالفرقة الأولى: هم الذين تسرب إليهم اليأس من الإصلاح فالقوا حبل الأمور على غاربها وانكفئوا على أنفسهم يتوقعون انطلاق رصاصة الدمار الأخيرة التي لا يستطيعون لدرئها سبيلا فمنهم من مال إلى الزهد من عقيدة دينية واكتفى من العيش باليسير؛ ومنهم من لزم عقر بيته يصابح الفجر بنكده ويشحن الزمن بزفرات بؤسه

والفرقة الثانية: وهم سواد المجتمع الأعظم، فقد شغلتهم أعمالهم الشخصية وسعادتهم الوقتية التي راحوا يهتبلون لها السوانح كلما طرأت - عن التفرغ لدراسة أحوال المجتمع، ووقفوا من تقلب أوضاعه واضطراعها موقف المتفرج في حومة القتال لا يبدون رأياً، ولا يدفعون عادية، ولا يقرون أمراً

أما الفرقة الثالثة فهم الذين هالهم ما رأوه في جوف هذه النظم والأوضاع من البؤس المسرع إليهم، فأحدث هذا المنظر في نفوسهم آثاراً شتى ليست على مستوى واحد من العمق والتأثير، ولذلك هبوا من غفوتهم واستيقظوا من رقدتهم مشمرين للأمر ليدفعوا عن البشرية عدوانه وليسدوا ثلمة الشقاء قبل أن تتسع، فمنهم من استل سيفه وقام بحركة إصلاح عنيفة، كما حدث في روسيا الشيوعية وإيطاليا الفاشية. ومنهم من لزم حد الاعتدال

ص: 40

فقام يدعو تارة بلسانه وطوراً بيراعه كأفلاطون ومور وسبنسر وموريس وبرناردشو وإبسن وكثير غيرهم من أساطين علم الاجتماع

ومن كبار دعاة هذا الرهط في إنكلترا اليوم الكاتب العالمي الفذ هربرت جورج ولز الذي جاءت آراؤه ونظرياته خلاصة وافية ضافية ونتيجة صادقة صائبة لدراسات سابقيه ومتقدميه

دعوة ولز

صنف ولز قرابة الخمسين كتاباً بأسلوب يستهوي القارئ ويغريه، بعيداً عن التقعر والإسفاف، خالياً من اللبس والإبهام ومن مستهجن اللفظ وزركشة العبارة التي قد تزيد الفكرة تعقيداً. وتجعل المعنى ملتاثاً سقيما، وذلك لأنه يكتب مؤلفاته للخاصة والعامة على السواء، ويدعو لآرائه رعاع القوم ودهماءهم كما يدعو سراة الناس وأمراءهم. وقد تناول في كتبه معظم البحوث الاجتماعية التي اصطبغ بها أسلوب الأدب الإنكليزي الحاضر من سياسية وعلمية وتشريحية، ولا سيما البحوث الدينية إذ تناول كثيراً من مسائل الدين المسيحي وعقائده بمشرط النقد والتجريح، فجردها بطريقة علمية من معظم السفاسف والترهات التي حاكها حولها إنكشارية الدين من القساوسة والرهبان ليجعلوا منها ذريعة إلى أطماعهم الشخصية وأغراضهم الذاتية. وله في التاريخ مؤلف لم يسبق لغيره أن نسج على منواله، لا ترى فيه أثراً للدعوة القومية والعصبية الوطنية، إذ هو عدوهما الأزرق وخصمهما الألد، في الجهر والخفاء. ومما يستوقف النظر ويدل على سعة علمه ومعرفته بنتائج الظروف والتطورات قبل وقوعها هو صدقُ تكهنهِ عن كثير من الحوادث، فقد تنبأ عن مصير الاشتراكية الحاضر وعن الحرب الكبرى فجاء حدوثهما دليلاً على صدق نبوءته ونفوذ بصيرته. وعلاوة على ما ضمنه هذه الكتب من الآراء السديدة التي قضى في دراستها طول العمر وريق الشباب فقد كتب على صفحات الجرائد والمجلات كثيراً من المقالات التي كان ينتزعها من صفحة الحياة اليومية، وتمليها عليه مستلزمات البيئة الاجتماعية

وخلاصة القول أن ولز يدعو في جميع كتاباته (البيولوجية) و (السيكولوجية) إلى مقت الحروب وتحطيم آلاتها المدمرة وإلى إزالة الاستعمار والروح الوطنية، وينادى بالحرية

ص: 41

والعلم والعالمية؛ وهو في دعوته هذه إنما يُهيئ السبيل السوي للحوادث التي لا بد من وقوعها في المستقبل القريب

أما خير كتب ولز في هذا الموضوع وأحدثها فهو كتابه الطوبى العصرية الذي يرمي به إلى أيجاد مدينة كبرى فاضلة لتكون وطناً للهيئة الاجتماعية بأسرها ووافية بحاجات السعادة البشرية، وقد رشحت مادة هذا الكتاب من دراساته للفلسفة الأفلاطونية التي تغلغل في ثناياها واتسم بطابعها. ولولز في هذا الكتاب آراء طريفة في المرأة والزواج أعرضها على صفحات الرسالة الغراء لا لأنها تلائم روح عصرنا وتتمشى مع حضارتنا، ولا لأنها وقعت من نفسي موقع القبول والاستحسان، بل لأطلع جمهور القراء على ناحية جديدة من مناحي التفكير الغربي

يرى ولز أن ناموس الطبيعة في كائناتها قائم على أن تتوالد وتتكاثر، وعلى أن يفترس القوي الضعيف بأنياب محددة ومخالب قوية طبقاً لنظام تنازع البقاء وبقاء الأفضل، وما الحياة في نظره إلا حلبة تتصارع فيها الكائنات الحية على اختلاف أنواعها وأجناسها فيخرج منها القوي ظافراً منصوراً، ويولي الضعيف منهزماً مكسوراً. وليس ما نشاهده من فتك الإنسان بأخيه في مجاهل أفريقيا وغابات الهند وفي جزر زيلندا أو يماثله بين شعوب الإسكيمو التي تقتات باللحوم البشرية حيث يقيمون في كل يوم مجزرة هائلة من بني الإنسان تتفطر لهولها القلوب الجلامد، وتسح لها العيون الجوامد، أو ما نشاهده من تطاحن الأمم والشعوب على استعمار الأمم الضعيفة، واقتسام ثروتها؛ ومن فتك الحيوانات بعضها ببعض - إلا مظهراً من مظاهر تنازع البقاء ونوع من حكم الطبيعة على الضعيف بالموت والفناء. وعليه فلا سبيل لتقدم البشرية، وقد أصبحت مشاكلها تشغل الحيز الأكبر من عقول مفكريها، كشوبنهور، ونيتشه، وبرناردشو، وهكسلي إلا إذا أسندت أمرها وألقت مقالديها ووكلت بشوؤنها حكومة عالمية واحدة تسيطر على هذه الحركة وتبيدها، لئلا تصبح الهيئة الاجتماعية أشبه بأجمة للافتراس. ويتم ذلك بمنعها الضعيف عن التناسل والتكاثر وجعلها عدد الوفيات منه يزيد في كل عام على المواليد زيادة مطردة؛ وهكذا فلا تمضي حقبة من الزمن حتى تصبح الهيئة البشرية بكاملها كتلة واحدة من القوة متجانسة الأجزاء متماسكة الذرات، ولا يكون بعد ثمة تنازع على البقاء، الذي يشبهه ولز بشوكة في جانب حق

ص: 42

الضعيف والمدنية، أو حسكة في لهاة العدل والإنسانية.

فولز في هذا الموضوع يناقض زميله ومعاصره برناردشو الذي يذهب إلى أن خيرَ وسيلة للخلاص من هذا الضعيف هي أن ندعه فريسة في يدي القوي ونتركه يتمرغ في حمأة الموبقات والشرور المهلكة التي ينقاد إليها بضعفه، وهكذا يكون كمن بحث عن حتفه بظلفه

أما كيف يتسنى للحكومة إخراج ما يقترحه عليها من الآراء إلى حيز العمل فيراه في أن تهيمن على الزواج وتجعله شريعة مدنية لا دينية، وخاضعاً لقوانين معلومة تضمن بها صيانة المجتمع من الضعف والانحلال

ويقول بعضهم تعليقاً على آراء ولز: إن بعض الناس - وقد رأوا أنه يسلبهم بشريعته هذه حق الزواج وهو جل ما بقي لديهم من ذلك التراث النفيس الذي ورثوه عن تلك الإمبراطورية الرومانية المقدسة، يوم كانوا فيها قابضين على زمام السلطتين الدينية والمدنية ومن ورائهم محاكم التفتيش بسراديبها المخيفة، وأقبائها الموحشة - أخذوا ينسبونه إلى الكفر والإلحاد والجنون، لا لأنه هتك ستر الدين وخرج على عقيدة من عقائدهم الجوهرية، بل لأنه أذاقهم مرارة الحق إذ غمز مطامعهم الشخصية، وحاول أن ينتزع من أفواهم لقمة دسمة يرون فيها وهم يتشدقون بمضغها هيبة الدين وجلاله، وسلاح الإيمان وسطوته، ولأنه ليس لأكثرهم أيضاً من حرية الفكر وانطلاق الذهن ما يدركون به كارثة الهيئة الاجتماعية التي تنتج من الزواج في غالب الأحيان. ويقول أيضاً بأن الزواج في عرفهم ليس إلا رباطاً مقدساً لا تبلى جدته ولا تنحل عقدتُه لسبب من الأسباب إلا بالموت ما دام الكاهن قد أعطى الزوجين بركته القدسية وربطهما بحباله الأزلية

فولز إذاً من أشد خصوم البابوية خاصة والكنسية الرومانية عامة - وهي التي يسميها بالكنيسة الأفلاطونية لما بينها وبين طبقة أفلاطون الحاكمة من العلاقة المشتركة من حيث الزواج - لإصرارها على أن الزواج لا يتم إلا بالإكليل الذي يضعه هو من الأهمية على الهامش فقط.

أما خلاصة ما يضعه من التشريع: فأن يكون طالب الزواج بالغاً سِناً تؤهله لذلك (الرجل 27 سنة، والمرأة 20 سنة) مؤدياً ما عليه من الديون والضرائب القانونية، ذا دخل ثابت معلوم - تحدد الحكومة نهايته الصغرى - يمكنه من أن يعيش مع زوجه وأولاده عيشة

ص: 43

رخية، وذا شخصية فعالة قادراً على العمل، وألا يكون مجرماً عند زواجه، ومكفراً عن الأجرام التي سبق أن ارتكبها، وبالغاً من التهذيب درجة عالية. على أن أهم هذه الشروط أن يكون كلا الزوجين خالياً من الأمراض المعدية والوراثية كالسل والجنون والسرطان.

هذه هي الشروط الأساسية التي يريد ولز وضعها، ويشترط على كل من طالبي الزواج أن يقدم بها شهادة للجنة المسؤولة عنه، وهذه بعد أن تطالعها وتبحثها تعين لهما يوماً معلوماً يحضران فيه لإجراء بعض المراسم القانونية لكل منهما بانفراد عن رفيقه، وبحضور الشهود والمميزين. . . وكل اثنين يتعاقدان على غير هذه الكيفية يكون عقدهما فاسداً بحكم القانون، وترتب عليهما الحكومة عند أول مولود لهما مبلغاً مقرراً من المال يدفعانه للخزينة حتى يبلغ المولد سن الرشد، وذلك لقاء عنايتها به، وضماناً لمستقبله، وجزاء لتحديهما القانون، وذلك بعد أن تمنعهما من أن يتناسلا مرة ثانية

الطلاق

لا يحق للزوجة في حالة زواجها من الرجل زواجاً مدنياً بالشريعة الولزية أن تطلب طلاقها منه إلا إذا أقامت عليه البينة أنه شيء الخلق فظ الطباع يعاملها معاملة قاسية، أو أنه قالٍ لفراشها ومنصرف عن الاهتمام بأمرها إلى السكر والدعارة والفسق، إلى ما هنالك من الصفات المستنكرة؛ فمتى توافرت هذه الأسباب أو بعضها يتقيد كل من الزوجين برفيقه مدة معلومة وذلك حتى يصبح أصغر أولادهما غنياً عن عناية أمه به، وبعدها يتم الطلاق. ويحق لكل منهما أن يتزوج ثانية بمن يريده. على أن ولز لا يميل حقيقة إلى الطلاق؛ وذلك لما ينتج عنه للأسرة - وهي التي تمثل الهيئة الاجتماعية بأصغر أشكالها - من وخيم العواقب التي تفت في عضدها وتجعلها مشوشة النظام، مفكفكة الأوصال، واهية الروابط التي ترتبط بها أفرادها ربطاً محكما؛ ولكنه يستحسنه في مثل هذه المناسبات الاضطرارية، والأحوال الشاذة لعلمه أن ما ينتج عن عَدمَه من تنغيص حياة الزوجين أضر بهناء الأسرة من وخيم عواقب الطلاق

الزواج المؤقت (المتعة)

يبيح ولز (المتعة) في كتابه: (الطوبى العصرية) وهي أن يتزواج اثنان لمدة أربع

ص: 44

سنوات أو خمس مثلاً وبعدها يكون لهما الحق في الانفصال أو في تجديده ثانية على ألا يكون لهما الحق في التناسل في مثل هذا النوع من الزواج المؤقت

مساواة المرأة بالرجل

يقول ولز إن مساواة المرأة بالرجل وعدمها من الأمور الرئيسية التي كانت ولا تزال مثار البحث والاختلاف بين كبار العلماء والفلاسفة. فقد ذهب أفلاطون قديماً إلى أن المرأة خلقت وهي غاية بنفسها وموازية للرجل في الحقوق والواجبات، وإلى أنها حرة في جميع أمورها وتصرفاتها لا فرق بينها وبين الرجل إلا في الجنس فحسب، فباب العمل والتنافس على الجاه والثروة يجب أن يكون مفتوحاً على مصراعيه للجنسين على السواء كما أنه أباح للمرأة التي في الطبقة الحاكمة حق ممارسة الألعاب الرياضية والتدرب على حمل السلاح في سلك الجندية. ولكن أرسطو طاليس ذهب إلى عكس هذا المذهب وقال: لم تخلق المرأة إلا لتحفظ النوع من الفناء، وإن هي للرجل إلا أمة صاغرة تسير بإرادته دون أن يكون لها حق الاعتراض عليه؛ فهو ينكر على أفلاطون مساواته للجنسين بلهجة شديدة ملؤها الهزء والاستخفاف. أما هو وإن كان له مذهب ثالث وسط بين هذين المذهبين إلا أنه يفضل النظرية الأفلاطونية على تلك الأرسطوطاليسية التي يعيب على العرب خاصة وعلى الشعوب الشرقية عامة شدة تعصبها لها والعمل بها لما هم فيه من التأخر والانحطاط، على حين أن الشعوب الغربية وهي التي تعمل بالنظرية الأفلاطونية قد قطعت شوطاً بعيداً في مضمار المدنية

يحمل ولز على العرب مثل هذه الحملة الشعواء كشأن غيره من الشعوبيين الذين يحاولون إفساد التاريخ العربي والنيل من المدنية الإسلامية التي ظلت تسود العالم مدة من الزمن ليست قليلة، وهو لو درى أن أوربا بأسرها قد أخذت تضيق قليلا قليلا من نطاق مساواة المرأة بالرجل بعد أن أطلقت لها العنان إلى جانب الرجل مدة قرن ونيف، وذلك لما انغمست فيه من فساد الأخلاق وخشية من أن يتسرب هذا الداء منها إلى بنيها. أجل لو عرف هذا وأشباهه ودرس البيئة العربية لأنصفهم ولما عاب عليهم شدة محافظتهم على المرأة

المرأة والعمل

ص: 45

يرى ولز أن المرأة خلقت ضعيفة الجسم والتركيب لا تقدر على تحمل الأعمال الشاقة ومزاولتها كالرجل، وأن الطبيعة إنما أعدتها بهذه الكيفية لتقصر مهمتها على إدارة البيت وتربية الأطفال؛ فعليها أن تنصرف بكليتها نحو هذه الغاية السامية التي خلقت لها، وأن تجعل سعيها موجهاً نحو إغراء الرجل وحمله على الزواج منها، وبذلك تصبح شريكة له في سرائه وضرائه ومساهمة معه في حلو الحياة ومرها. أما إذا وكلت أمر بيتها وإعالة أطفالها إلى من يقوم بهما تحت إشرافها وكانت فيها مواهب القدرة على العمل والتفوق على الرجل فلا بأس من أن تمارس ما هي كفؤ له من الأعمال على أن يكون ذلك لها من الأحوال الشاذة لا قاعدة مطردة. فولز في هذا الموضوع يقف موقف الحيرة والتردد وهو أيضاً كما يشاهد القارئ يخالف آراءه السابقة بعض المخالفة في شدة تحفظه

المرأة والحكومة

ينظر ولز إلى الأمومة نظره إلى وظائف الحكومة، ولذا يريد أن تدفع الحكومة لها عند كل ولادة مبلغاً مقرراً من المال يزيد بزيادة ما تلده من الأولاد، وتبقى مستحقة لهذا المبلغ حتى يبلغ أصغرُ أولادها سِنَّ الرشد، وذلك لكي تصرفها عن التطلع إلى الوظائف المدنية. وهي بهذه الطريقة أيضاً تشجع على الزواج أولئك الذين يحجمون عنه بسبب الفقر وتنقذ من وهدة الشقاء والبؤس الأراملَ اللواتي ينفصلن عن الحياة الزوجية بموت أزواجهن ولا يكون لهن من المال ما يقوم بأودهن وأود أولادهن حيث يصبحن فريسة تنتاشها مخالب البؤس وبراثنُ الفقر، أو يُطوحنَ بعفافهن وشرفهن في سوق الدعارة والموبقات

ولولز عدا ما تقدم آراء متطرفة في شيوعية النساء وفي النظرية اليوجينية أو التأصيل لا نرى ضرورة للتبسط فيها لأنها تنبو عن الذوق العربي الذي لم تفسده الحضارة الغربية بعد

خليل جمعة الطوال

ص: 46

‌للأدب والتاريخ

مصطفى صادق الرافعي

1880 -

1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 8 -

الطور الثاني من حياة الرافعي

هل كان للرافعي خِيَرَة في المذهب الجديد الذي ذهب إليه عندما شرع يكتب (تاريخ آداب العرب)؟

وهل كان يعني ما يفعل حين انحرف عن الهدف الذي كان يسعى إليه في إمارة الشعر إلى المنحى الجديد في ديوان الأدب والإنشاء!

هل كان عن قصد ونية أن يتخلى الرافعي عن أماني الشباب وأوهام الصبا وأخيلة الفتيان وأحلام الشعراء، ليقف نفيه على العربية وتراث العربية يستبطن أسرارها ويغوص على فرائدها، وعلى الإسلام وأبطال الإسلام يكشف عن مآثرهم وينشر آثارهم؟. . .

الحق أن الرافعي لم يكن له خِيرة في شيء من ذلك ولا كان يعنيه ولا توجهت إليه نيته؛ ولكنه ألف تاريخ آداب العرب لأنه وجد في نفسه رغبة إلى أن يؤلف في تاريخ آداب العرب، وكتب في إعجاز القرآن لأن إعجاز القرآن باب في تاريخ الأدب؛ فلما أخرج كتابيه إلى الناس لم يلبث أن ارتد إليه الصدى مما يقول الناس؛ فإذا هو عندهم أديب ليس مثله في أدباء العربية، وإذا هو عندهم كاتب من الطراز الأول بين كتاب العربية، وإذا هو صاحب القلم الذي يكتب عن إعجاز القرآن فيُعجز، ويتحدث عن الإسلام حديث المؤمن إلى المؤمن، حديثَ قلب إلى قلب ليس بينهما حجاب فكل ما ينطق يُبين. . . ووجد الرافعي كأنما أكتشف نفسه. . .

وهنا بدأ الرافعي الكاتب الذي يعرفه اليوم قراء العربية، على حين أخذ الرافعي الشاعر يتصاغر ويختفي رويداً رويداً حتى نسيه الناس أو كادوا، لا يتحدثون عنه إلا كما يتحدثون عن شاعر استمعوا حيناً إلى أغاريده العِذاب ثم ترك دنياهم إلى العالم الثاني ليتحدث إليهم

ص: 47

من صفحات التاريخ. . .

لقد عرف الرافعي من يومئذ أن عليه رسالة يؤديها إلى أدباء الجيل، وأن له غاية أخرى هو عليها أقدر وبها أجدر؛ فجعل الهدف الذي يسعى إليه أن يكون لهذا الدين حارسه وحاميه، يدفع عنه أسباب الزيغ والفتنة والضلال، وأن ينفخ في هذه اللغة روحاً من روحه يردُّها إلى مكانها ويردّ عنها، فلا يجترئ عليها مجترئ ولا ينال منها نائل ولا يتندر بها ساخر إلا انبرى له يبدد أوهامه ويكشف عن دخيلته.

ونظر فيما يكتب الكُتاب في الجرائد، وما يتحدث به الناس في المجالس، فرأى عربية ليست من العربية، هي عامية متفاصحة، أو عجمة مستعربة، تحاول أن تفرض نفسها لغة على أقلام المتأدبين وألسنتهم، فقر في نفسه أن هذه اللغة لن تعود إلى ماضيها المجيد حتى تعود (الجملة القرآنية) إلى مكانها مما يكتب الكتاب وينشئ الأدباء، وما يستطيع كاتب أن يشحذ قلمه لذاك إلا أن يتزود له زاده من الأدب القديم.

وعاد الرافعي يقرأ من جديد، ينظر فيما كتب الكتاب وأنشأ المنشئون في مختلف عصور العربية؛ يبحث عن التعبير الجميل والعبارة المنتقاة واللفظ الجزل والكلمة النادرة، ليضيفها إلى قاموسه المحيط ومعجمه الوافي، فتكون له عوناً على ما ينشئ من الأدب الجديد الذي يريد أن يحتذيه أدباء العربية.

هذا سبب مما عدل بالرافعي عن مذهبه في الشعر إلى مذهبه الجديد في الأدب والإنشاء. وثمة سبب آخر كان الرافعي يصرح به كثيراً لمن يعرفه: ذلك أنه كان يرى في الشعر العربي قيوداً لا تتيح له أن ينظم بالشعر كل ما يريد أن يعبر به عن نفسه الشاعرة. هكذا كان يقول هو، وأقول أنا: إنه كان يعجز أن يصب في قصيدة من الشعر ما كان يستطيع أن يكتبه في سهولة ويسر مقالاً من مقالاته الشعرية الرائعة التي يعرفها قراء العربية فيما قرءوا للرافعي. والحق أن الرافعي بطبعه شاعر في الصف الأول من الشعراء، لا أعني الشعر المنظوم، فذلك ميدان سبقه فيه كثير من شعراء العصر، بل أعني الشعر الذي هو التعبير الجميل عن خلجات النفس وخطرات القلب ووحي الوجدان ووثبات الروح. ولقد كان رحمه الله بما فيه من اعتداد بالنفس، يكتب المقال الفني المصنوع فيقيس لفظه بمعناه ويربط أوله بآخره ويجمع بين أطرافه كل ما ينبض به قلبه من معاني السرور

ص: 48

والألم، والرجاء واليأس، والرغبة والحرمان؛ فإذا فرغ من إنشائه جلس يترنم به ويعيده على سمعه الباطن، ثم لا يلبث أن يلتفت إلى جليسه قائلاً:(أسمعت هذا الشعر؟ أرأيت شاعراً في العربية يملك من قوة البيان ما يجمع به كل هذه المعاني في قصيدة منظومة. . .؟)

هذه العبارة التي كان يسمعها جلساء الرافعي كثيراً، تفسر لنا قول الرافعي إن في الشعر العربي قيوداً لا تُتيح له أن ينظم بالشعر كل ما يريد أن يعبر به عن نفسه الشاعرة، أو تؤيد ما أدعيه أنا، من أنه كان يشعر بالعجز عن الإبانة عن كل خواطره الشعرية في قصيدة من المنظوم ولا يعجزه البيان في المنثور. نعم، كان شعر الرافعي أقوى من أداته، وكانت قوالبه الشعرية تضيق عن شعوره. . .

افترى في العربية شاعراً يستطيع أن ينظم ورقة واحدة من (أوراق الورد) في قصيدة منظومة دون أن يتحيف المعنى ويختل الميزان؟

لا أحسب أن الرافعي كان يعني ما يقول حين يزعم أن القيود في الشعر العربي من أسباب الضعف في الشعر؛ فهو نفسه لم يكن يستطيع أن يجهر بهذا الرأي، بل أحسبه في بعض نقداته الأدبية أنكر مثل هذا القول على بعض الأدباء وراح يتهمه بمحاولة الغض من قدر الشعر في العربية؛ فما أراه كان يقول ذلك إلا تعبيراً عن معنىً تأبى كبرياؤه الأدبية أن يصرح به.

ذلك هو السبب الثاني الذي عدل بالرافعي عن الاستمرار في قرض الشعر معنياً به مقصوراً عليه.

لم يهجر الرافعي الشعر هجراً باتاً بعد أن اتخذ لنفسه هذا المذهب الجديد، ولكنه لم يجعل إليه كل همهه، واتجه بقلبه ولسانه إلى الهدف الجديد، فلا يقول الشعر إلا بين الفينة والفينة إذا دعته داعية من دواعي النفس أو من دواعي الاجتماع. وسنرى فيما سيأتي بعد، أنه قد صبا إلى الشعر ثانية عندما مس الحب قلبه واتقدت جذوته في أعصابه سنة 1923، فدعته نفسه؛ وعندما اتصل ببلاط الملك فؤاد رحمه الله سنة 1926، فدعته داعية الجماعة.

حديث القمر

قلت إن الرافعي بطبعه كان شاعراً، ولكن شعره كان أقوى من أداته، وكانت قوالبه الشعرية

ص: 49

تضيق عن شعوره فنزع إلى النثر الفني. وقلت إنه كان يرمي إلى أن يعيد (الجملة القرآنية) إلى مكانها مما يكتب الكتاب وينشئ الأدباء لتعود اللغة على أولها فصيحة جزلة مبينة، وإنه أخذ على نفسه أن يكون نموذجاً في هذا الأدب الجيد يحتذيه أدباء العربية. وقدمت في المقال السابق أن الرافعي كان على نية إصدار كتاب مدرسي سماه (ملكة الإنشاء) يكون عوناً للمتأدبين وطلاب المدارس على الاقتباس لإجادة الإنشاء. فكل أولئك ما دفعه إلى إصدار كتابه (حديث القمر) من بعد

كتاب (حديث القمر) هو أول ما نشر الرافعي من أدب الإنشاء؛ أصدره بعد كتابيه: تاريخ آداب العرب، وإعجاز القرآن. وما بي أن أصف حديث القمر لقراء العربية، فهو مشهور متداول، وهو ضرب من النثر الشعري، أو الشعر النثري؛ يصف من عواطف الشباب وخواطر العاشق وما إليهما في أسلوب فني مصنوع أحسبه لا يطرب الناشئين من قراء العربية في هذه الأيام، إلا أن يقرءوه على أنه زاد من اللغة، وذخر من التعبير الجميل، ومادة لتوليد المعاني وتشقيق الكلام في لفظ جزل وأسلوب بليغ

ومن هذا الكتاب كانت أول التهمة للرافعي بالغموض والإبهام واستغلاق المعنى عند فريق من المتأدبين؛ ومنه كان أول زادي وزاد فريق كبير من القراء الذين نشأوا على غرار في الأدب لا يعرفه ناشئة المتأدبين اليوم

شيوخه في الأدب

أما إذ وصلت إلى هذا المكان من تاريخ الرافعي فإني أسأل نفسي: عمن أخذ الرافعي هذا المذهب في الكتابة، وبمن تأثر من كتاب العربية القُدامى والمحدثين؟

هذا سؤال لا أجد جوابه فيما حدثني به الرافعي أو أحد من أهله وصحابته؛ وما أستطيع أن أثبت شيئاً في هذا المقام يعتمد عليه الباحث. واكبر ظني أن الرافعي نفسه كان لا يعرف أستاذ في الأدب والإنشاء؛ فما كان همه أول همه أن يكون كاتباً أو منشئاً، ولكن تطورات الزمن هي ردته من هدف إلى هدف وألزمته أن يكون ما كان. وقد قرأ الرافعي كثيراً وأخذ عن كثير، فمذهبه في الكتابة من صنع نفسه، وهو ثمرة درس طويل وجهاد شاق اختلطت فيه مذاهب بمذاهب وتداول عليه أدباء وأدبا من كتاب العربية الأولين. ولكني أجد من الفائدة هنا أن أشير إلى اثنين من أدباء العربية كان يقرأ لهما الرافعي أكثر ما يقرأ إلى آخر

ص: 50

أيامه: هما الجاحظ وصاحب الأغاني، وكان يعجب بأدبهما ويعجب لأحاطتهما عجباً لا ينقضي وإعجاباً لا ينتهي، وكان لا بد له حين يهم بالكتابة بعد أن يجمع عناصر موضوعه في فكره أو في مذكراته - أن يفتح جزءاً من الأغاني، أو كتاباً من كتب الجاحظ يقرأ فيه شيئاً مما يتفق، ليعيش فترة ما قبل الكتابة في جو عربي فصيح.

ومما لا يفوتني إثباته في هذا المجال أن مجلة (الهلال) قد استفتت أدباء العربية يوماً منذ سنوات، في أي الكتب العربية تعين الناشئ الأديب على مادته؟ وكان للرافعي في هذا الاستفتاء جواب لا أذكره، أحسبه يفيد الباحث عن المصدر لأدب الرافعي

وسمعت الرافعي مرة يقول: (إن كلمة قرأتها لفكتور هوجو كان لها أثر في الأسلوب الأدبي الذي اصطنعته لنفسي؛ قال لي الأستاذ فرح أنطون مرة: إن لهوجو تعبيراً جميلاً يعجب به الفرنسيون كل الإعجاب، قوله يصف السماء ذات صباح: (وأصبحت السماء صافية كأنما غسلتها الملائكة بالليل)

قال الرافعي: (وأعجبني بساطة التعبير وسهولة المعنى، فكان ذلك حذوي من بعد في الإنشاء)

أفندعي بهذا أننا عرفنا واحداً من شيوخ الرافعي في الأدب والإنشاء. . .!

(شبرا)

محمد سعيد العريان

ص: 51

‌هكذا قال زرادشت

للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه

ترجمة الأستاذ فليكس فارس

نشيد القبور

هنالك جزيرة القبور، جزيرة الصمت والسكون، وهنالك أيضاً أجداث شبابي، فلأحملن إليها إكليلاً من الأزاهر الخالدات

بهذا ناجيت نفسي، فقررت أن أقتحم الغمر

يا لصور الشباب وأشباح أحلامه، يا للحظات الغرام! يا لأويقات الحياة الإلهية! لقد تراميت سريعاً إلى الزوال، فأصبحت أستعرض ذكرياتك كما أستعرض خيال الأحبة الراقدين في القبور.

إن نفحات الطيب تهب منك يا أعز المضيعات فتروح عن قلبي وتستقطر مدامعي، إنها لنفحات تستنبض قلب العائم وحيداً على العباب.

أنا المنفرد أراني أغنى الناس وأجدرهم بالغبطة لأنك كنت لي يوماً أيتها الذكريات ولما أزل أنا لك، فقولي لي: على مَ تساقطت ثمراتك الذهبية عن أغصانها؟

إنني لم أزل منبتا لغرامك الذي أورثتنيه يا أيام الشباب وبذكرك تنور فضائلي بعد وحشتها بعديد ألوانها الزاهية

وآ سفاه، ما كان أولاك بألاَّ تفارقينني، أيتها الأيام الساحرات فقد اقتربت إليَّ وإلى شهواتي لا كأطيار يسودها الذعر بل كأطيار تستأنس بالواثق بنفسه

أجل لقد كنتِ معدة مثلي للبقاء على العهد إلى الأبد، يا أويقات الشباب، وليس لي أن أدعوك خائنة وقد وصفتك بالأويقات الإلهية. لقد مررت سِراعاً أيتها الأويقات الهاربات وما هربت مني ولا أنا هربتُ منك، فما أنا مسؤول ولا أنت أيضاً عن خيانتك وعن خيانتي

لقد أماتوك طلباً لقتلي، يا أطيار آمالي وصوبت الشرور سهامها نحوك لتصل مخضبة بالدماء إلى قلبي فأصابت هذه السهام مقتلاً مني لأنك كنت أعز شيء لدي بل كنت كل ما أملك، لذلك قضي عليك بالذبول في صباك والزوال قبل أوانك

ص: 52

لقد صُوبت السهامُ إليك وأنت أنعم من الحرير وأضعف من ابتسامة تمحوها نظرة قاسية

فليسمع أعدائي ما أقول:

- إن القتل أخف جرماً من جنايتكم علي، فقد سلبتموني ما لا قبل لي بالاستعاضة عنه بشيء، ذلك ما أقوله لكم، أيها الأعداء. أفما قتلتم أحلام شبابي وحلتم دون إتياني بمعجزاني؟ لقد سلبتم مني تفكيري، وهأنذا أحمل هذا الإكليل لتذكاره حاملاً معه لعنتي لكم، أيها الأعداء، لأنكم قصرتم مدى أبديتي فانقطعت كأنها صوت ينقطع في الزمهرير تحت جنح الظلام فما تسنى لي أن أنظر إلى هذه الأبدية إلا لمحا لأنها توارت عني بطرفة عين

وأتت ساعة ناجتني فيها طهارتي قائلة:

- يجب أن تكون جميع الكائنات إلهية، وأنتِ أرسلتِ إلي الأشباح المدنسة، يا أيام الشباب؛ فانقضت تلك السانحة وعادت حكمة الشباب تقول لي:(يجب أن تكون جميع الأيام مقدسة في نظري) وما هذه الكلمة إلا كلمة الحكمة المرحة. وعندئذ أتيتم أيها الأعداء فحولتم ليالي راحتي إلى أرق وهموم، فأين توارت هذه الحكمة المرحة؟

لقد كنت فيما مضى أتوقع السعادة فأرسلتم على طريقي بومة مروعة مشئومة فتبددت أماني العِذاب

نذرت يوماً أن أرتجع عن كل كراهة، فحولتم كل ما حولي إلى قروح، فأين مضت مخلصات نذوري الطاهرات؟

لقد مررت على سبيل السعادة كفيف البصر فرميتم على طريق الأعمى كوماً من الأقذار فأصبحت كارهاً للطريق القديم الذي تلمسته. وعندما توصلت إلى القيام بأصعب أعمالي، عندما تمكنت من الاحتفال بالانتصارات التي تغلبت فيها على ذاتي أهبتم بمن يحبونني إلى الهتاف قائلين بأنني أوقعت بهم اشد الآلام

والحق أنكم لم تنقطعوا عن تشريد خير العاملات في قفيري وتحويل جناها إلى علقم مرير؛ ولكم أرسلتم إلى إحساني أشد المتسولين إلحاحاً ودفعتم أهل القحة ليطوفوا بإشفاقي وهكذا نلتم من فضليتي وهي ممنعة بإيمانها

وكنت كلما قدمت أقدس ما عندي محرقة للتضحية تسارعون في تقواكم إلى إحراق أدسم ذبائحكم لتتصاعد أبخرة شحمها مدنسة خير ما قدست

ص: 53

وطمحت يوماً إلى الرقص متعالياً بفني إلى ما وراء السبع الطباق فأفسدتم على أعز المنشدين لدي، فرفع عقيرته بأفظع الأناشيد وقرع أسماعي بنغمات الأبواق الحزينة الباكية

لقد كنت قائلا أيها المنشد البريء، إذ غدوت آلة في يد الغدر فقضت نغماتك على خشوعي بينما كنت أتهيأ للقيام بأروع رقصي

وما أنا بالمعبر عن أسمى المعاني بالرموز إلا عندما أدور راقصا، لذلك عجزت أعضائي عن رسم أروع الرموز بحركاتها. فأرتج عليَّ وامتنع عليَّ أن أبوح بسر آمالي. لقد ماتت أحلام شبابي وفقدت معانيها المعزيات

إنني لأعجب لتحملي هذه الصدمات وأعجب لصبري على ما فتحت فيَّ من جراح، فكيف أمكن لروحي أن تبعث من مثل هذه القبور؟

أجل إن فيَّ شيئاً لا تنال منه السهام مقتلا، ولا قبل لأحد بدفنه لأنه يزحزح الصخور عنه فتتحطم، وما هذا الشيء إلا إرادتي؛ والأرادة تجتاز مراحل السنين صامتة لا يعتريها تحول وتغير. إن إرادتي قديمة لا تني تدفع قدمي إلى السير فهي القوة المتصلبة المتعالية عن الفناء

ليس فيَّ من عضو لا يصاب إلا قدمي السائرة إلى الأمام تدفعها هذه الإرادة الثابتة الصامدة المتجلدة التي تخترق المدافن دون أن تنطرح تحت لحودها

إن فيكِ وحدكِ يا إرادتي يصمد ما لا تبدده أيام الشباب، فأنت لا تزالين حية وفتية تملأك الآمال، تجلسين على ركام المدافن وقد طبع الزمان عليها قبلاته الصفراء. إنك لن تزالي أيتها الإرادة هدامة لجميع القبور، فسلام عليك يا إرادتي، لأنه لا بعث إلا حيث تكون القبور

هكذا تكلم زارا. . . . . .

فليكس فارس

ص: 54

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي

198 -

صرت في راحة ابن أيوب أقرا

(أعظم مروحة في الدنيا)

في (ثمرات الأوراق): قال أبو الفوارس بن إسرائيل الدمشقي: كنت يوماً عند السلطان صلاح الدين بن أيوب، فحضر رسول صاحب المدينة ومعه قَوْد وهدايا، فلما جلس أخرج من كمه مروحة بيضاء عليها سطران بالسَّعَف الأحمر وقال: الشريف يخدم مولانا السلطان ويقول: هذه المروحة ما رأى السلطان ولا أحد من بني أيوب مثلها، فاستشاط السلطان صلاح الدين غضباً، فقال الرسول: يا مولانا السلطان، لا تعجلْ قبل تأملها، وكان السلطان صلاح الدين ملكا حليما فتأملها فإذا عليها مكتوب:

أنا من نخلةٍ تجاوزُ قَبْرا

ساد من فيه سائرَ الخلْق طُرا

شملتني عناية (القبر) حتى

صرت في راحة ابن أيوبَ أُقرا

فإذا هي من خوص النخل الذي في مسجد الرسول فقبلها السلطان صلاح الدين، ووضعها على رأسه، وقال لرسول صاحب المدينة النبوية: صدقتَ فيما قلتَ من تعظيم هذه المروحة!!!

199 -

لم يحلني إلا على الأزهار

قال أبو جعفر الذهبي لفاضل أديب جمع بينه وبين فاضل أديب:

أيها الفاضلُ الذي قد هداني

نحوَ من قد حمِدُتهُ باختيار

شكر اللهُ ما أتيتَ وجازاك

ولا زلتَ نجمَ هَدْى لسارِ

أيُّ برقٍ أفاد أيّ غمامٍ

وصباح أدّى لضوءِ نهارِ

وإذا ما غدا النسيمُ دليلي

لم يُحِلني إلا على الأزهار

200 -

الشغل للقلب ليس الشغل للبدن

العباس بن الأحنف:

تعتل بالشغل عنا ما تكلمنا

الشغل للقلب ليس الشغلُ للبدنِ

ص: 55

قال أبو الفرج الأصفهاني: لا أعلم شيئاً من أمور الدنيا خيرها وشرها إلا وهو يصلح أن يُتمثل به بهذا النصف الأخير

201 -

يستر المحاسن كما يستر القبائح

نقل ابن الجوزي عن بعضهم قال:

قلت لجاريتي: ألا تلبسين الحلي؟

قالت: لا، لأنه يستر المحاسن كما يستر القبائح

ابن الرومي:

وما الحْليُ إلا زينة لنقيصة

يتمم من حسن إذا الحسن قصَّرا

وأمَا إذا كان الجمال موفَّراً

كحسنك لم يحتج إلى أن يٌزوّرا

202 -

كلنا في الهوى سوا

ابن زريق المقدسي:

كلّ من جئتُ أشتكي

أبتغي عنده دَوا

يتشكّى شكيّتي

كلّنا في الهوى سوا!!!

203 -

فترجمت العيون عن القلوب

في (ديوان المعاني): عن أبي عكرمة قال: أنشدت أعرابياً قول جرير:

أبدّل الليل لا تسري كواكُبه

أم طال حتى حسبت الليل حيرانا؟!

فقال: هذا حسن، وأعوذ بالله منه! ولكن أنشدك في ضده من قولي، وأنشدني:

وليلٍ لم يقصره رقادٌ

وقصّره لنا وصْلُ الحبيبِ

نعيمُ الحبّ أورق فيه حتى

تناولنا جناه من قريبِ

بمجلس لَذَّة لم نقوَ فيهِ

على الشكوى ولا عدّ الذنوبِ

يخلنا أن نقطعَه بلفظٍ

فترجمتِ العيونُ عن القلوبِ

فقلت له: زدني فما رأيت أظرفَ منك شعراً. فقال: حسبك.

204 -

فأين عنها نعزف؟

قال الحسين بن الحسين بن مطير:

ص: 56

إنّ الغوانيَ جنّةٌ ريحانُها

نَضِرُ الحياة فأين عنها نعزف؟

لولا ملاحتُهن ما كانت لنا

دنيا نلذّ بها ولا نتصرّف

205 -

دواء اللبس الحبس

كان بعض الولاة إذا اشتبه عليه حكم حبس الخصمين حتى يصطلحا، ويقول: دواءُ اللبْس الحبْس. . .

206 -

ما يصنع الشيطان بين الحيطان؟

رأى أبو نؤاس غلاماً جميلاً يمشي في بعض السكك فقال له:

ما تصنع الحور بين الدور؟

فقال الصبي: ما يصنع الشيطان بين الحيطان؟!

207 -

كأني في عيونهم السماح

بكر بن النطاح:

تراهم ينظرون إلى المعالي

كما نظرت إلى الشيب الملاحُ

يُحِدّون العيونَ إليّ شَزْراً

كأني في عيونهم السماحُ

وهذا بديع في حسنه، بليغ في تشبيهه

208 -

لم يجد أحمق يقبله سواك

أنشد رجل الفرزدق شعراً، وقال: كيف تراه؟

فقال: لقد طاف إبليس بهذا الشعر في الناس فلم يجد أحمق يقبله سواك

209 -

إنما سرق محجني

قال الجاحظ في (كتاب الحيوان): حدثنا حماد بن سلمة

قال: كان رجل في الجاهلية معه محجن يتناول به متاع الحاج سرقة

فإذا قيل له: سرقت قال: لم أسرق إنما سرق محجني. فقال حماد: لو كان هذا اليوم حياً لكان من أصحاب أبي حنيفة.

210 -

دف ومزمار ونغمة شادن

ص: 57

ابن سيد الناس:

يا عصبة ما ضرّ دين محمدٍ

وسعى إلى إفساده إلا هي

دفٌ ومزمازٌ ونغمة شادن

أرأيت قطّ عبادةً بملاهِ؟!

211 -

إذا انقطع وصلته

قيل لأعرابي كان يُسهب في حديثه: أما لحديثك هذا آخر

قال: إذا انقطع وصلته. . .

212 -

قد جاءك بالشمال فأته باليمين

في (نزهة الألباء في طبقات الأدباء) للأنباري: حكي أبو زكرياء (التبريزي) أن المتنبي كان بواسط جالساً وعنده أبنه مُحسَّد قائماً وجماعة يقرءون عليه فورد إليه بعض الناس

فقال: أريد أن تجيز لنا هذا البيت وهو:

زارنا في الظلام يطلب سراً

فافتضحنا بنوره في الظلام

فرفع رأسه وقال: يا مُحسَّد، قد جاءك بالشمال فأته باليمين فقال:

فالتجأنا إلى حنادِس شَعْرٍ

سترتنا عن أعين اللوّام

قال أبو الجوائز (الحسن بن علي الواسطي): معنى قول المتنبي لولده قد جاءك بالشمال فأته باليمين أن اليسرى لا يتم بها عمل وباليمنى تتم الأعمال، فأراد أن المعنى يحتمل زيادة فأوردْها. وقد ألطف المتنبي في الإشارة، وأحسن ولده في الأخذ

213 -

أنتم الأطباء ونحن الصيادلة

سأل الأعمش أبا حنيفة عن مسائل فأجاب، فقال الأعمش: من أين لك هذا؟

قال: مما حدّثتَنا

فقال: يا معشر الفقهاء، أنتم الأطباء ونحن الصيادلة

ص: 58

‌مختارات من أدب الرافعي

أغاني الشعب

(لم يوفق شاعر من شعراء العربية توفيق الرافعي في تأليف الأناشيد، ولم يكتب لنشيد وطني أو طائفي من الذيوع والشهرة والانسجام مع الألحان ما كتب لأناشيد الرافعي؛ فكان بذلك خليقاً أن نسميه (شاعر الأناشيد)

وهذا نشيد الكشافة المصرية (اسلمي يا مصر)، ونشيد شباب الوفد (حماة الحمى)، ونشيد الشبان المسلمين، ونشيد بنت النيل، ونشيد تلاميذ المدارس الثانوية (مجداً مجداً مدرستي) كلها من تأليف الرافعي، وهي دائرة على كل لسان في كل حفل أو ناد

(وعرف الرافعي لنفسه هذه الميزة التي فاق بها شعراء العربية عامة في باب هو من الشعر في هذا العصر صلبه وقوامه، فاجمع أمره على إخراج ديوان (أغاني الشعب) يضع فيه لكل جماعة أو طائفة من طوائف الشعب نشيداً أو أغنية عربية تنطق بخواطرها وتعبر عن أمانيها؛ وقد جرى الرافعي في هذا الميدان شوطاً بعيداً، وأنجز طائفة كبيرة من أغاني الشعب نشر بعضها وما يزال سائرها في طي الكتمان بين أوراقه الخاصة ومؤلفاته التي لم تنشر بعد، ولا أدري متى يقدر لها أن تنشر. . .!

(والذي أنشره اليوم نشيد من هذه الأناشيد، وضعه الرافعي على لسان الفلاحة المصرية، وسيجد القراء في أسلوبه ومعانيه شيئاً مأنوساً يحببه إلى الشعب ويخفف وقعه على فؤاده ولسانه)

محمد سعيد العريان

نشيد الفلاحة المصرية

الفجر قد غبّر ثم لاحا

والديك قد أذّن ثم صاحا

وأطلقتْ حمامتي الجناحا

والكلبُ بالباب غدا نبَّاحا

واشتاقت البهائم السَّراحا

هيا إلى غيطك، سُقْها: حَا، حَا

ص: 59

أروح والجارةَ نَمْلَا الجَرَّهْ

نمرّ بالغيط القريب مَرّه

نرى الهنا والفرْحَ والمسَرَّه

يا رب لا تنزل بنا مَضَرَّه

واكتب لداري عزَّ والأفراحا

هيا إلى غيطك، سقها: حَا، حَا

البنتُ يا مَولى الدعا المجابِ

إحفظ عليها صحةَ الشبابِ

وافتح على أولاديَ الأحبابِ

مَن راح للغيط والكُتَّابِ

ذا يقرأ الغيطَ وذا الألواحا

هيا إلى غيطك، سُقها: حَا، حَا

يا نخلة الغيط احذري الغرابا

بانعجة الغيط احذري الذئابا

يا صاحب الغيط احذر العذابا

من الربا، والفقرَ والخرابا

إن الربا ليس لنا مُباحا

هيا إلى غيطك، سًقها: حَا، حَا

إياكَ أن تذكر لي (الخواجا)

فقد رأيتُ جارنا المحتاجا

راحَ إليه مالُهُ وماجآ

وباع حتى البطَّ والدَّجَاجا

لا خير فيمن جانب الصلاحا

هيا إلى غيطك، سُقها: حَا، حَا

إياك والرهن على الغيطانِ

فتُنْزِل الدود على الأقطانِ

وتفتح الأبواب للشيطان

وتجعل الهدمَ على حيطاني

الشمس جاءت والصباح راحا

هيا إلى غيطك، سُقها: حَا، حَا

ص: 60

أنا ابنةُ الفلاح أمُّ النصرِ

فلاحة يا بنت هذا العصرِ

لكن كوخي من أساس مصرِ

يُسْنِدُ فيها ركن كل قصر

هَلُمَّ غَنَّي معنا الفلاحا

هيا إلى غيطك، سُقها: حَا، حَا

1907

مصطفى صادق الرافعي

ص: 61

‌الغدير

على صفحتَيْك تلوح النجومْ

وفوق لجينك يلهو القمرْ!

مياهك راكدة كالهمومْ!

أأضنى مياهك طول السهرْ؟

ترف عليها طيوف النخيلْ

وترقص فيها ظلال الغصونْ

وتنسابُ منهوكة كالعليل

طواه الأسى واحتواه السكونْ!

وتمضي الهوينى رويداً كما

يمر الزمان على اليائسِ!

وتسبح في صمتها مثلما

يجوب الكرة مقلة الناعسِ!!

فيا سارياً ما ينام الدجى

وما يستطيب الكرى والوسَنْ

في سائل عيني عنك الحجا:

أهذا الغدير رقيب الزمَنْ؟!

تلف الحقول وتطوي القرى

وما لك من صاحب أو رفيقْ

أما يا غدير سئمتَ السُّرَى

وبُعد المطاف وطول الطريق؟!

فأيان تلقى غبار المسيرْ؟

وأنى تلبي نداء العدَمْ؟!

وحتام تحيا حياة الأسيرْ

وفيها الملال ومنها السأمْ؟

طويت القرون ولما تزلْ

فتياً كما كنتَ منذ القدَمْ!

كأنك في الأرض نور الأمَلْ

ينير الدياجي ويمحو الظُّلَمْ!!

تقبِّلك الوردةُ الهائمهْ

وترشف من فيكَ معني الأملْ

وتغضى فتحسبُها نائمهْ

ولكنها أسكرتْها القبلْ!!

وتحضنك النسْمة المترفَهْ

وتشكو إليك لهيبَ الجوى

وتهمسُ في أذنْك المرَهفه

حديث العتاب ونجوى الهوى

وترقى وئيداً إلى الرابيهْ

وتعدو حثيثاً إلى المنحدَرْ

ونفسك دائبة ساعيهْ

وغيرك يشكو الونَى والخوَرْ!

وتشرق في الظلمة الدامسهْ

كأنك في الأرض معنى الهدَى

وتضحك في الليلة العابسهْ

فعش هانئاً قد أمِنت الردَى

وأمواهك العذبة الشادَيهْ

ترتل لحن المنى باسمَهْ

هنا الشعر والسحر والعافيهْ

هنا الحب والفتنة الهائمهْ!!

هنا قد عَرَفْتُ الهوى والجمالْ

وأدركْتُ كيف يكون الخلودْ

ص: 62

هنا قد درَى القلب معني الكمالْ

ومعنى الحياة وسِرَّ الوجودْ!!

بربك صِف ما وراء الغيوبْ

وحدِّثْ عن المقبل المنتظرْ

أناخت على كاهليَّ الخطوبْ

فجئتك أشكو إليك القدرْ!!

فيا معهد الحب أينَ الحبيبْ؟

ويا موطن الحسن أين الهوى؟!

تنكرْتَ لي فكأني غريبْ

وما غيرتْني صروف النوى!

سأغمض عينيَّ حتى أرى

خيالك يملأ لي خاطري

وأحيا بذكرك بين الورى

فهل أنت إن لم أعُدْ ذَاكِري؟!

(إسكندرية)

محمود السيد شعبان

ص: 63

‌تليد من جمال

رائعٌ والله هذا الو

جه حالي القسمات

مُعجِبُ الحسنِ وسيم

رغم حيف السنوات

رغم شيْب قد تَمَشَّى

في المعاني والسِّمَات

وتراَءى مستطيراً

طائفاً بالشعرات

لم يزل حُسنُك رغم الشـ

يْب يسبى المُهُجَات

يأسر اللب ويُنْسى

كلَّ عذراَء مَهاة

غضةِ الجسم توافت

كنضير الزهرات

غرةِ القلب لعوبٍ

خطرت كالنسمات

رائعٌ حسنًك من بيـ

ن وجوه الغانيات

ووضىءٌ يجذب الأعـ

ين دون الأخْرَيَات

رائعٌ كالشفق الغا

رب يُذكي اللهفات

ينبئ الناظرَ عن ما

ضي الحُلَي والحَسنات

وتليدٍ من جمالٍ

كان ممنوعَ اللدات

كان شغلَ العابديه

وعناَء العاذلات

لم يزل ينبئ عنه

عذبُ تلك البسمات

وأرى أطيافه في

حُسن تلك اللحظات

إن يكن قد ودع الطيـ

شَ وسحرَ اللفتات

وغريرَ الضحكاتِ

وطروبَ الثرثرات

فقد اعتاضَ بحلم

ووقار وأناة

رائعٌ ينبئ عن قلـ

بٍ مليءٍ بالعظات

وبأشتات التجار

يب وجمّ الذكريات

قد جنَى حلواً من العيـ

ش ومُرَّ الحادثات

فهو يَسبي اليوم بالحًسْـ

نِ ويسبى بالصفات

وأحاديثَ عِذابٍ

كشهي الثمرات

زانت الغيدَ رزانٌ

ذات حُسنٍ وحَصاة

ص: 64

فخري أبو السعود

ص: 65

‌رسالة العلم

مملكة النحل

عيشة النحل وتربيته الحديثة

بقلم جمال الكرداني

أفراد الخلية

كلنا لا نجهل هذه الحشرة الصغيرة التي تعطينا العسل، وقد يعدها من ليس على علم بمعيشتها من الحشرات الحقيرة مع أنها في الواقع تنشئ من جموعها مملكة هي مثال الاستقلال والرقي والنشاط. يعيش النحل معيشة اشتراكية في جماعات تقدر زنة الجماعة منها بما يقرب من خمسة إلى ستة أرطال، والجماعة تملأ ثلاثة أو أربعة أقداح، وتتميز في أفراد الجماعة الواحدة ثلاثة أنواع هي اليعسوب والذكر والشغالة

وقد يكون أوفق أن نعطي اليعسوب لقب ملكة الجماعة لجلالها وحسن سيطرتها على مثل هذا العدد الكبير - وهي وحيدة في الحالة العادية للخلية - ولكن تتعارض معيشتها بين الأفراد الأخرى للجماعة مع هذا اللقب إذ أنها تختلف عن عيشة ملوكنا بيننا، فالأجدر إذن تسميتها أم الخلية، ويعزز هذه التسمية أنها والدة كل نحلة في الخلية تقريباً

والملكة لا تترك مدينتها إلا مرة أو مرتين للإخصاب فقط بل تمضي معظم حياتها في ظلام الخلية، وإن كان هذا حكم واجبها وهو وضع البيض. وقد يشغلها هذا الواجب الدقيق عن التفات إلى شيء سواه فلها خدم بمرتبة الوصيفات لملكاتنا تحرسها وتقدم إليها الطعام وتؤدي لها غير ذلك من الخدمات. وإذا ساعدتنا الظروف على رؤية ملكة الخلية يتضح لنا جلالها إذ نجدها على القرص وحولها ما يقرب من عشرين نحلة تواجهها دائماً وتأبى أن توليها ظهرها تأدباً، وهذا الحرس ككل أفراد الجماعة يقدم حياته فداء اليعسوب إذا لزم ذلك

ويمكننا تمييز اليعسوب بطول مؤخرها لوضع البيض وقصر جناحيها، لأنها كما قلنا لا تطير خارج الخلية كثيراً. وللملكة حمة بلغ من عفافها أنها تأبى أن تلدغ بها من هو أقل منها وأضعف سلطاناً، فهي لذلك لا تستعملها إلا لمحاربة مثيلاتها الملكات إذا اقتضت الضرورة

ص: 66

والذكر ليس كبيراً كاليعسوب وإن كان منظره أضخم وليس له حمة. ولكون وظيفته تقتصر على إخصاب الملكات الصغيرة لا يوجد منه في الخلية غير بضع مئات. يعيش الذكر في الخلية عيشة رخاء وراحة، لا يشترك بقسط من العمل، فلا يجمع هباء النبات ولا رحيق الأزهار بل تطعمه العملة؛ وإذا أراد الزيادة انقض على ما هو مخزون بالخلية. ويتخذ الذكر له ركناً بعيداً عن جلبة الخلية فينام حتى منتصف النهار، ويخرج بعد تناول الطعام شاقاً صفوف العملة محدثاً حركة بين باقي النحل ولا يبالي حتى بالحراس فيطير إلى الأزهار البعيدة ليعرض جسمه لأشعة الشمس وهناك يشاكس الرعاة من النحل فيقلبها أثناء جمع قوتها. وفي الأصيل يرجع إلى الخلية بطنين عال فيتناول غذاءه وينام إلى اليوم الثاني. وهذه الحياة حياة كسل ولابد أن تنتهي ككل شيء لذيذ في وقت قريب، ففي الشتاء عند قلة الغذاء تنقض عليه العملة فتقتله وينتهي الرخاء بالفناء

أما العاملة أو الشغالة فهي أصغر أفراد النحل جسماً، وقد يكون ذلك استعداداً طبيعياً يساعدها على تأدية أعمالها الشاقة في خفة ونشاط. والشغالة أكثر أفراد النحل عدداً فقد يصل عددها 30000 في الخلية الواحدة. وكل واحدة لها واجبات خاصة وعندها استعداد طبيعي لأدائها. فمنها يتكون حرس الخلية ورعاة الحقول والمربيات إلى غير ذلك. ويخيل إلينا أن كل عاملة تنافس غيرها بالسعي والجد فهي تقضي حياتها لا تميل إلى الكسل ولا تعرف الرفاهية

وأهم عمل لشغالة تموين الخلية بالغذاء فتطير الرعاة من زهرة إلى أخرى ومن حقل إلى حقل يساعدها على ذلك زوجان قويات من الأجنحة، الأماميان منهما أكبر من الخلفيين، وإذا ما زارت زهرة تدخل لسانها الطويل المغطى بالشعر في قاعدتها وتمتص الرحيق. وأحب الأزهار إلى النحل هي ذات اللون الأزرق والأرجواني والأصفر؛ وتحب كذلك الأزهار الحمراء المشوبة بألوان أخرى زاهية مثل حنك السبع. وللنحلة غير العينين المركبتين ثلاث أخرى بسيطة على شكل مثلث (() ويختلف شكلها في الذكر هكذا (?)، وهذه العيون تساعدها على اختيار ما تريده من الأزهار. وطبيعي أن تعاود النحلة زهرة أو حقلاً عدة مرات لأن قدرتها على الحمل لا تمكنها من أخذ كل ما يروق لها من زهرة ما مرة واحدة. ويساعدها على زيارة الزهرة نفسها مرات عدة تفرزه عليها من رائحة خاصة

ص: 67

تميز منطقة هذه الزهرة عن بقية مناطق الحقل. ومن هنا نقدر قوة حاسة الشم عند النحل. وأثناء انتقال الرعاة في الحقل وزحفها على أزهاره المختلفة يجتمع هباء النبات في شبه كيس في الرجلين الخلفيتين للنحلة، فإذا دخلت أخرى تركت بعض هذا الهباء بدون قصد، وبذلك يحدث الإخصاب بين الأزهار. وكثيراً ما يربى النحل في المزارع لهذا الغرض. وعلاوة عل جمع رحيق الأزهار تقوم الشغالة بصنع أقراص العسل الشمعية وملئها بالشهد نفسه. ومن واجبات المربيات حراسة البيض وتقديم الطعام للصغار. وعلى عاتق العملة تقع حراسة الخلية وأقراصها ومليكتها من كل معتد أو فضولي كالذباب والعثة. وألد أعداء النحل هو الزنبور الأحمر (زنبور البلح)

وينقسم النحل بحسب الجهة التي يعيش فيها إلى عدة أقسام ويتميز كل نوع من الآخر بحجمه ولونه، فالنحل البلدي أو المصري صغير مائل إلى البياض، أما القبرصي فلونه أحمر وأضخم من المصري. وهناك نوع يعيش في إيطاليا وهو أطول قليلاً من القبرصي. أما النحل الكرنيولي ويعيش في يوغسلافيا فلونه أسود وهو أطول من الإيطالي وأضخم من القبرصي

الاستعمار والخراب

نواة مستعمرة النحل ملكة ملقحة لوضع البيض، فبعد ستة أيام من خروجها من العذراء تطير إلى علو بعيد ويطير وراءها الذكور؛ وأثناء هذه المسافة الطويلة تخور قوى بعض الذكور فيسقط إلى الأرض؛ وفي النهاية تختار الملكة أحدها وهو الذكر المثابر على الطيران ويكون عادة من خلية غير التي أنتجت هذه الملكة. ويموت الذكر بعد عملية التلقيح، وتقتل العملة ما بقي من الذكور في الخلية وعند عودة الملكة ملقحة تظهر أعضاء التذكير البيضاء اللون متصلة بفتحتها التناسلية إذ تنفصل عن جسم الذكر عقب السفاد.

وإذ ما وصلت الملكة إلى الخلية استقبلتها (الشغالة) بالالتفاف حولها؛ وبعد يومين تبتدئ في تأدية وظيفتها فتضع ما يقرب من 400 بيضة كل 24 ساعة، وتستمر على نشاطها سنتين أو ثلاثا

وللملكة قدرة على وضع بيض ملقح وبيض غير ملقح؛ فالأول ينتج الملكات والخناث (العملة) تبعاً لنوع الغذاء الذي يقدم لليرقات بعد فقسها وتبعاً لشكل الثقوب التي تربى فيها،

ص: 68

والثاني ينتج الذكور

ومدة إفراخ البيض ثلاثة أيام في جميع الأفراد. وعند خروج اليرقات الصغيرة تتغذى جميعاً بالغذاء الملكي مدة ثلاثة أيام وهو سائل يشبه اللبن تفرزه الشغالة الصغيرة من غدد خاصة في رأسها؛ وبعد هذه المدة تتغذى الشغالة بمزيج مركب من العسل وحبوب الطلع يسمى بخبز النحل. أما يرقات الذكور فتتغذى بخبز النحل مع جزء من الغذاء الملكي وتستمر الملكات على غذائها. وتمكث يرقات الملكات خمسة أيام إلى أن تشرنق، وكذاك يرقات الخناث. أما يرقات الذكور فتمكث ستة أيام، وفي هذه الأثناء تنسج حولها شرنقة تتحول داخلها إلى عذراء. وبعد مضي سبعة أيام على عذراء الملكات وثلاثة عشر يوماً على عذارى الخناث وخمسة عشر يوماً على عذارى الذكور تخرج منها الحشرات الكاملة

وتعمر الملكة زمناً طويلاً قد يصل إلى أربع سنوات، وتضع في السنوات الأولى من حياتها ما متوسطه 400 بيضة في اليوم، ثم يقل شيئاً فشيئاً في السنوات التالية؛ ولذا يستحسن تغيير الملكة بأخرى جديدة كل سنتين أو ثلاث حتى لا تضعف الخلية

وتعيش الخنثي زمناً يختلف من عشرة أيام إلى ستة أسابيع تبعاً لمقدار الشغل ودرجة صعوبته: وغالباً تقضى الخناث التي تولد في الخريف فصل الشتاء في راحة قليلة، ثم تعاود عملها في فصل الربيع الذي تنتهي فيه حياتها. والذكور لا تعمر كثيراً وليس لها منفعة معظم السنة بل أنها فضلا عن ذلك تتطفل على ما تجمعه الشغالة

وهكذا تكون المستعمرة. وتستمر الملكة في وضع البيض والشغالة تخدم الخلية، فإذا مات جيل من الشغالة حل محله جيل يعقبه وهكذا. وفي حالة عدم تلقيح الملكة، وذلك ينشأ عن عدم رؤية الذكور لها أو عدم اللحاق بها عند طيرانها، تهدأ الملكة بعد ثلاثة أسابيع وتضع نوعاً من البيض غير ملقح يسمى بالبيض الكاذب وهنا تتعرض المستعمرة للخراب

أما إذا ماتت الملكة أو ضاعت فيبتدئ الضعف يتطرق إلى الخلية، وينتهز الأعداء فرصة هذا الضعف فتظهر دودة تفتك بالشمع، وتغير الزنانير والنمل على النحل فتأكله. وإذا استمر الحال كذلك شهرين فمصير الخلية الخراب إن لم تمد بملكة جديدة. وفي أغلب هذه الأحوال تبحث الشغالة عن بيضة ملقحة من بيض الملكة المفقودة وتنقلها إلى عين ملكية، وعند فقسها تعامل معاملة الملكات في المعيشة والتربية والغذاء فتنتج ملكه حقيقية. أما عند

ص: 69

عدم وجود بيض ملقح فتتطوع شغالة أو أكثر لوضع البيض ويكون غير ملقح طبعاً فتنتج ذكوراً فقط فتسير الخلية إلى الخراب. وتسمى مثل هذه الشغالة بالأم الكاذبة. ولا تستطيع الأم الكاذبة وضع البيض في صفوف متتالية وعيون متعاقبة كما هو شأن الملكة. كذلك تضع الأم الكاذبة أكثر من بيضة واحدة في كل عين؛ وقد يكون البيض على جدر هذه العيون وذلك لعدم وجود غريزة وضع البيض عند الأم الكاذبة لقصر بطنها. ونجد في مثل هذه الحالة طنيناً مستمراً بالخلية وهذا لأن الطمأنينة لا تدب في نفوس أفرادها. ويجب إسعاف مثل هذه الخلية ببرواز به بيت ملكي من خلية أخرى أو شراء ملكة جديدة ووضعها في الخلية، إلا أن ذلك يحتاج إلى مهارة ودراية

(البقية في العدد القادم)

جمال الكرداني

ص: 70

‌البريد الأدبي

حديث لأميل لودفيج مع الأديب المصري جورج قطاوي

تعد ضواحي سان موريتز قبلة الكتاب والفنانين منذ (نيتشه) فان منظر بحيرات سيلس ماريا في سفح جبال الألب مما يخلب النفوس؛ ولهذا أقام بها الكاتب المشهور أميل لودفيج منذ سنوات. ولقد تعرفت منذ ثلاث سنين بمؤرخ حياة الرجال العظماء حينما كان يعد كتابه الكبير عن ماء النيل. ويسرني أن أسمع منه أثر رحلاته العديدة في مصر والسودان. ولهذا انتهزت فرصة وجودي في ضيافته يوماً لأسأله عن الأسباب التي حملته على وضع كتابه هذا الأخير. وقد وجدت على مكتبه ست تراجم لكتاب النيل (بالإيطالية والمجرية والبرتغالية والفرنسية الخ) وغيرها الآن تحت التحضير، ولكن الذي يهمه أكثر من هذا كله هو الترجمة العربية

قال إميل لودفيج: (إن الشرق يجذبني إليه منذ كنت صبياً. فقد كنت أسمع أبي يتحدث عن مصر فتبتهج هذه الحكايات مخيلتي؛ ذلك أن أبي - وكان يدعى هرمان لودفيج كوهين - كان طبيباً للعيون، ودعاه السلطان عبد الحميد لاستشارته فاستمر في رحلته إلى مصر حيث أكتشف علاجاً للرمد، وتغلغل في بيوت القاهرة العريقة، وتعرف بأميرات عديدات من البيت المالك، وزار السودان، ودرس قبائل البشارية الذين كانوا يدعونه (حكيمباشي)

(وهأنذا قد عبرت وادي النيل من الحبشة إلى الدلتا بعد مضي نصف قرن على رحلة أبي. ولما أصبت بالملاريا في أثناء مقامي بالحبشة عند منبع النيل الأزرق كانت زوجتي هي التي قامت بوصف البحيرات الكبرى، ومن وصفها وضعت الخمسين صفحة المخصصة للنيل الأبيض. وقد حكم نقاد أمريكان عديدون بأن هذه الصفحات هي خير ما في الكتاب)

(المعروف أن مدام لودفيج هي نفسها إفريقية، فقد ولدت في دربان من أب ألماني وأم اسكتلندية وهي ساعد زوجها الأيمن)

وأضاف لودفيج قائلاً: (ولقد وضع جلالة الملك فؤاد تحت تصرفي خلال ثلاثة أسابيع باخرة تدعي (الكاشف) صعدت بها النيل، وهذه الأسابيع الثلاثة مع رحلتي إلى اليونان هي أسعد أيام حياتي

و (النيل) من بين جميع مؤلفاتي هو الذي اقتضى أكثر الجهد والعناء والبحث والعمل

ص: 71

الطويل، لأن مؤلفاتي الأخرى مثل (نابليون) و (بسمارك) و (لنكولن) و (غليوم الثاني) قد ألفتها خلال فصل صيف، من مارس إلى نوفمبر. وأما قصصي التمثيلية، فقد كان يلزمني يومان اثنان لأكتب كل فصل منها. وعلى الضد من ذلك قد قضيت عشر سنوات لأضع مأساة نهركم العظيم التي أردت أن تكون من القوة بحيث تمثل أبطالي من البشر، فخلصت من الوقائع والإحصاءات والوثائق لأعيد في ذهن القارئ جو ما عبرت من أماكن، وما استنشقت من عطر لا سبيل إلى نسيانه. . . لأن منشأ أكثر مؤلفاتي هو أثر شعور يتمكن مني؛ فكتاب (ابن الرجل) مثلاً قد تمثل إلى ذهني ذات مساء بينا كنا في طريقنا من بيت المقدس إلى الناصرة)

ولما سألته عن الشخصيات المصرية التي احتك بها، حدثني عن تشرفه بلقاء المغفور له الملك فؤاد فقال:

(لقد كان يتمنى لو وضعت حياة الخديو إسماعيل، ولما كان الموضوع لا يلهمني الإلهام الكافي فقد وعدته بأن أخصص بضع صفحات من (النيل) لذكرى والده

والحق أن خير رجال الحكم المصريين الذين أتيح لي لقياهم هو سفيركم في لندن: الدكتور حافظ عفيفي باشا؛ وفي خلال مروري بلندن في يونيه الماضي تحدثت طويلاً إليه. وقد أراد تقدمتي إلى جلالة (الملك فاروق) لولا أن سفري إلى أمريكا قد حرمني هذا الشرف)

وكان المسيو لودفيج عائداً فعلاً من الولايات المتحدة حيث قضى زمناً بالقرب من الرئيس روزفلت في بيته الخلوي بهايدبارك. وهو يحمل لرئيس الحكومة الأمريكية أشد الإعجاب، إذ قال:

(إنه رجل من نوع جديد، ظهر لأول مرة في الحياة العامة، رجل القرن العشرين، الباسم أبداً، المستبشر المتفائل على الدوام. فإنني ما رأيت قط نظرة أصفى من نظرته، ولا وجهاً أشد من وجهه حزماً وعزماً. وهو رجل الحكم الوحيد السعيد الذي عرفت. . . وسيكون أسم كتابي عن حياة روزفلت: (بحث في الهناء والمقدرة). والرئيس يود بكل جوارحه لو فرض على سياسة العالم التآلف والوفاق. وأعظم أمانيه وأعزها تدعيم السلام في أوربا

وله في هذا الصدد آراء دقيقة ثمينة، غير أني أخشى أن يكون قد سبق السيف العذل ولات حين تدخل؛ ولم أستطع أن أخفي عنه رأيي في هذا، فإني أرى أوربا تندفع، منخفضة

ص: 72

الرأس، نحو حرب جديدة؛ وأشفق من أن تقع الواقعة حتى قبلما يترك روزفلت الحكم

والبحث عن الكوارث المقبلة لا يكون في الصعوبات المادية التي تعانيها أوربا بل في روح الشر والعداء المشبعة بها بعض الدول، ولكن روزفلت ساهر؛ والفرق بينه وبين الديكتاتوريين أنهم يريدون أن يخافهم الناس وروزفلت يريد أن يحبوه)

وعبثا حاولت معرفة رأي المسيو لودفيج في المعاهدة الإنجليزية المصرية، فقد قال:

(إن كل شيء يتوقف على السياسة الدولية وعلى الحرب القادمة التي لا أرى مفراً منها)

ومع ذلك فهو لا يخفي عطفه الشديد على الفلاح المجاهد العنيف الذي يشتغل بقوة؛ وهو يعني كثيراً بما ينتظره من مصير. وكذلك يتمنى لو جمعت الأخوة يوماً ما بين العرب واليهود

على أن تشاؤمه لا يحول بينه وبين الأمل في مستقبل حضارتنا المهددة فهو يقول:

(إن ما ينبغي هو إنقاذ الميراث الأدبي المجيد للشاعر جيته من المتوحشين. وإذا عشت حتى عام 1939 فإنني سأعيد كتابة حياة مؤلف فاوست. فهو الرجل العظيم الوحيد الذي لا أمل الإعجاب به طرفة عين. أما الآن فقد أتممت كتاباً يختلف اختلافاً محسوساً عن كل ما كتبته حتى اليوم وهو (كليوباترة)، وقد كتبته في أربعة أسابيع، كأنني كنت في حلم)

وهكذا تراني قد ظللت وفياً لبلادكم وأرجو أن أسافر إلى القاهرة هذا الشتاء في شهر فبراير، وأتحدث في الجامعة.

ج. قطاوي

حول مهمة دار الكتب

تحتفظ دار الكتب المصرية، فضلاً عن مجموعة مخطوطاتها الحافلة، بطائفة كبيرة من المطبوعات النفيسة النادرة؛ ومنها ما يرجع تاريخ صدروه إلى القرن السادس عشر أو القرن السابع عشر، وكثير منها من مطبوعات القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر؛ وهذه المجموعة من المطبوعات القديمة هي في الواقع أنفس ما تحتفظ به دار الكتب بعد مخطوطاتها، من المصادر والمراجع القيمة التي لا يستغني باحث عن الرجوع إليها؛ ومنها معظم المراجع في المباحث الإسلامية والشرقية؛ ومنها مراجع عربية مثل تاريخ

ص: 73

العميد بن المكين المطبوع في القرن السادس عشر، ونزهة المشتاق للإدريسي المطبوع في أواخر هذا القرن، وتاريخ ابن عربشاه، وتاريخ ابن العبري المطبوعان في القرن السابع عشر، ومراجع نفيسة أخرى تعتبر في حكم النادر والمخطوط. وقد جرت دار الكتب حتى اليوم على تيسير سبيل البحث والمراجعة للباحثين القلائل الذين يعتمدون في مباحثهم على هذا التراث، وكانت تسمح لهم باستعارة هذه الكتب خارج الدار بإذن خاص، ولمدد محدودة؛ ولكن حدث أخيراً أنها قررت حبس هذه المراجع وعدم التصريح بخروجها من الدار وقصر المراجعة فيها على القراءة بالدار ذاتها؛ وحجة دار الكتب في ذلك المنع هو أن هذه المراجع أصبحت لندرتها كالمخطوطات يجب المحافظة عليها من الضياع، وإبقاؤها أبداً داخل الدار في متناول الباحثين

ونحن مع دار الكتب بلا ريب في المحافظة على نفائسها والحرص عليها من الضياع والتبديد؛ ولكنا نلاحظ أن هذا القرار معطل لمهمة دار الكتب الأصلية. ذلك أن دار الكتب لا تحتفظ فيما عدا هذه المجموعة من المطبوعات القديمة، بكثير من الكتب والمراجع الحديثة القيمة، وجل ما اقتنته الدار في الثلاثين عاماً الأخيرة من كتب القصص والأدب السائر والمؤلفات العادية، وأما ما اقتنته من الكتب والمراجع النفيسة في هذه الفترة فقليل جداً بالنسبة إلى الآلاف المؤلفة من كتب القصص الفرنسي والإنكليزي التي ما زالت تجد في اقتنائها؛ ومعظم ما يقرأ ويعار لا يخرج عن هذه الدائرة، وهذه نتيجة يؤسف لها، ولكن هذا هو الواقع؛ وخير ما تقوم به دار الكتب هو معاونة البحث العلمي وذلك بوضع مجموعتها من المراجع القيمة تحت تصرف الباحثين؛ فإذا كانت تريد اليوم أن تحبس هذه المجموعة بحجة المحافظة عليها فإن ذلك يعطل البحث والمراجعة، لأن معظم الذين يستفيدون من هذه المجموعة لا تسمح لهم ظروفهم بالمكث ساعات طويلة في دار الكتب، ومن المستحيل عليهم أن يترددوا عليها بلا انقطاع ليقوموا بمباحثهم في حجراتها. وخير لدار الكتب أن تعود إلى نظامها القديم في إباحة استعارة هذه الكتب، مع اتخاذ التحوطات والضمانات اللازمة. هذا مع سعيها في نفس الوقت إلى تجديد هذه المجموعة، وذلك بشراء الطبعات الجديدة للكتب التي صدرت لها طبعات جديدة وهي كثيرة تعد بالآلاف. أما إذا كانت دار الكتب تريد أن تغدو متحفاً آخر، وإذا كانت تريد أن تقتصر مهمتها الثقافية على

ص: 74

تقديم كتب القصص والأدب الخفيف للشباب، فذلك ما لا نسيغه ولا نعتقد أنه متفق مع وجودها ومهمتها الحقيقية.

تحقيق صحفي شائق

قال الرئيس جفرسون ذات مرة في تعليقه على مهمة الصحافة: (إن إلغاء الصحافة لا يجرد الأمة من مزاياها بقدر ما يجردها إغراقها في الكذب. وإن المرء لا يستطيع أن يصدق اليوم شيئاً تنشره الصحف)، وقد مضى منذ عهد الرئيس جفرسون عصر طويل تطورت فيه الصحافة وغدت قوة عالمية يخشى بأسها. بيد أنه يبقى أن نتساءل دائماً: هل تؤدي الصحافة دائماً مهمتها طبقاً لمبادئ الحق والخلاق؟ هذا ما تصدى لتحقيقه بالنسبة للصحافة الأمريكية اثنان من أكابر الصحفيين الأمريكيين هما مدام سوزان كنجسبوري وهورنل هارت؛ وقد نشرا نتيجة تحقيقهما في كتاب صدر أخيراً تحت عنوان (الصحف والأخبار) وجرى هذا التحقيق تنفيذاً لرغبة (محسن مجهول) رصد لهذا الغرض مبلغاً كبيراً من المال لدي كلية (برين مور)، وقدم إليها مجموعة كبيرة من قصاصات صحفية لبث يجمعها مدى أعوام. وقد استعرض المؤلفان في كتابهما حالة الصحافة الأمريكية اليوم، والقواعد الأخلاقية والثقافية التي تسير عليها طبقاً لدستور الصحافة الأمريكي؛ وخرجا من ذلك بأن الصحافة تجري في تغذية قرائها على أسلوب آلي محض، فتقصد قبل كل شيء إلى إثارة الشعور والحس، وإذكاء تطلع القراء؛ وإن معظم قراء الصحف الكبرى يستقون معلوماتهم ويكونون أفكارهم من قراءة العناوين ورؤوس الموضوعات. وأما من حيث الناحية الأخلاقية فان الصحف لا تسير على وتيرة واحدة، وكل منها تخرج الخبر المعين في الصيغة التي تناسب اتجاهها السياسي أو الاجتماعي؛ ويترتب على ذلك أن الخبر الواحد يحدث آثاراً شتى طبقاً للصيغ والتعليقات المختلفة التي أخرج بها؛ ومن هنا تضعف الحقيقة في رواية الأخبار. كذلك يتناول المؤلفان مسألة الإعلانات وما تحدثه من اثر في أذهان القراء. ومما يلاحظانه أن الصحف الزنجية تغرق في نشر إعلانات السحر؛ وبذلك تستمر على تغذية عقول الزنوج بهذا الضرب من التخريف. وإلى جانب ذلك تكثر الصحف البيضاء من نشر إعلانات المنجمين وقراء الطالع. وينوه المؤلفان في تحقيقهما بنتيجة خطيرة هي أن الصحافة كانت مسئولة في العصر الأخير عن زعزعة الإيمان

ص: 75

بالديمقراطية والثقة في مزاياها، وذلك لما تغرق فيه من تشويه نتائج الحكم الديمقراطي، ومن نشر الأنباء التي تسبغ الريب على صلاحيته من النواحي الاجتماعية والأخلاقية والسياسية.

نقول: وإنه ليجدر بأحد الصحفيين المصريين النابهين أن يقوم بمثل هذا التحقيق، فيحدثنا عن الآثار التي أحدثتها الصحافة في العصر الأخير في عقلية المجتمع المصري، وعن مدى التزام الصحافة المصرية في أساليبها وفي مقاصدها للقواعد الأخلاقية والثقافية الحقة.

توماس مان والجامعات الألمانية

كانت جامعة بون الألمانية ضمن الجامعات التي منحت كاتب ألمانيا الأكبر توماس مان درجاتها الفخرية، وكان ذلك قبل قيام الوطنية الاشتراكية في ألمانيا، وأيام أن كان الكاتب الكبير في إبان مجده؛ ولكن ألمانيا الهتلرية تنكرت لجميع الكتاب الأحرار، وكان توماس مان في مقدمة ضحايا النظام الحالي، فغادر ألمانيا إلى إنكلترا مع أخيه الكاتب الكبير هينريش مان؛ ثم نزعت عنه الحكومة الهتلرية جنسيته الألمانية؛ وعلى أثر ذلك سحبت جامعة بون منه درجتها الفخرية، وأعلنته بهذا التجريد في خطاب موجز جاف؛ فرد عليها توماس مان بخطاب مسهب يفيض وطنية ونبلا؛ وفيه يحمل على النظام الحالي في ألمانيا ويستعرض آثاره المخربة للحضارة الألمانية والتفكير الألماني؛ ثم يعرب عن حزنه لما أصاب الجامعات الألمانية في هذا العهد من الصغار والذل. ويقول:(إن الجامعات الألمانية تحمل قسطاً عظيماً من المسئولية في المحنة الحاضرة لأنها أساءت فهم مهمتها التاريخية، وسمحت بأن تكون مهاداً لتغذية القوى الهمجية التي خربت ألمانيا من الوجهات الأخلاقية والسياسية والاقتصادية. . . وإن كاتبا ألمانيا يدرك مسئوليته وتتوق وطنيته إلى الإعراب من الوجهة المعنوية عن كل ما يحدث في ألمانيا لا يستطيع أن يغض الطرف عن ذلك البلاء الذي يعصف بوطنه، والذي يسحق الأجسام والعقول والأرواح ويسحق الحق والصدق). وقد ظهرت رسالة توماس مان هذه إلى جامعة بون أخيراً بالإنكليزية وأحدث نشرها أثراً عميقاً في إنكلترا وأمريكا. وتوماس مان هو بلا ريب أعظم كتاب ألمانيا المعاصرين، وهو يحمل جائزة نوبل للآداب

مدرسة اللغات الشرقية وخلف السير دينسون روس فيها

ص: 76

أعلنت (الصنداي تيمس) أن مدرسة اللغات الشرقية قد ساعدها الحظ فوجدت خلفاً للسر دينسون روس من بين رجالها هو المستر رالف ترنر. وكان قد عين أستاذاً في جامعة (سانسكرت) بلندن سنة 1923 واشتغل مع السر دينسون روس في مدرسة اللغات الشرقية

ومن المحتمل أن يكون المستر ترنر أقل معرفة بالشرق الأوسط من السر دينسون، ولكنه من المستشرقين الذين لهم شهرة عالمية. وقد تخصص في فقه اللغات الهندية الآرية

كاتب فرنسي يزور مصر

وصل إلى الإسكندرية الأستاذ كلودفارير الكاتب القصصي الفرنسي المعروف. وسيزور القاهرة ويقضي يومين فيها ثم يبرحها عائداً إلى فرنسا

والمسيو كلودفارير ينتسب إلى جماعة من البارزين في المجتمع الفرنسي والمشتغلين بالثقافة؛ وتنظم هذه الجماعة الآن رحلة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط للدرس والسياحة

ص: 77

‌الكتب

الربع الخالي

تأليف الشيخ عبد الله فلبي

للأديب محمد عبد الله العمودي

المستر سنت جون فلبي، صديق العرب وخليفة لورنس، يعدُّ من أبرز شخصيات الاستشراق في العالم العربي

اتصل بالملك ابن السعود فأحبه وأخلص له، ورافق البدو في البوادي كثيراً فبهرته عظمة الصحراء فارتادها، وتقلب في كثير من أقاليمها، وتكاد آثاره تنحصر على قلب البلاد العربية حيث الملك ابن السعود وأقوامه الوهابيون.

له مؤلفات جليلة، ومجهودات جبارة، عرف فيها عالم الغرب بشعب العرب الفتى الناهض وقائدهم الأعظم

وهذه المؤلفات هي المرجع الوحيد لمن يبتغي تاريخ نجد، وحركة (الأخوان) الأخيرة، وكلها باللغة الإنجليزية منها:

(قلب جزيرة العرب) و (بلاد الوهابيين) و (تاريخ بلاد العرب) و (الربع الخالي) أخيراً. . .

وهذا السفر الذي نحن بصدده يعد بحق من أروع الأسفار وأخلد الآثار، وأدهش الأخبار، وإلا فهل يخطر ببال أحد أن هذه الصحراء العربية التي طالما تهيبها الغزاة، وارتدت عنها أنظار المستكشفين، يقتحمها المستر فلبي فيبرز لنا عالماً مجهولاً، وبقعة مسحورة؟!

هذا الربع الخالي يقع بين حضر موت ونجد، واليمن وعمان؛ وهو عبارة عن مفازة عظيمة، واسعة الأكناف، مترامية الأطراف تتناوح فيها الرياح، وتدوي بها الأعاصير؛ وللبدو فيها خرافات وأوهام يحار المرء في صحتها كقولهم بوجود قصور قائمة، وعيون جارية، ومدن مطمورة تحت الرمال! وما إلى ذلك من غريب الأخبار. . . والمؤرخ في مثل هذه الحال لا يمكنه أن يرفض كل أخبار هذه البقاع لما عُلِم من أنها كانت آهلة

ص: 78

بالعمران والسكان في عصور واغلة في القدم. . . وما نعلم أحداً طعن في هذه الرمال وكتب عنها تقارير قيمة، وأبحاثاً لها أهميتها في عالم الكشف سوى ثلاثة من الأوربيين هم: برترام توماس، وجيزمان والمستر فلبي أخيراً. . .

وكتبهم هذه لا تتعدى المشاهدة والملاحظة التي مرت بهم في أثناء سيرهم في طريق خاص، بل في طريق مأهول. فياليت شعري ما علم المناطق المجهولة التي لم تطأها حتى أقدام البدو من أبنائها؟؟

ومهما كانت الإحاطة محدودة وضيقة بهذه البقاع فإن المستر فلبي قد نشر لنا صفحة من صفحها المطلوبة، وصورة من صورها الغامضة، وقفنا على الشيء الكثير من أسرارها وخفاياها

وأمنيته في اختراق هذه الآفاق تعود إلى سنة 1918 حتى تحقق حلمه في عهد الملك ابن السعود بعد أن أخذ عليه إقراراً كتابياً إنه غير مسؤول إذا ما لحقه سوء في الطريق؛ فأمضى المستر فلبي وتوكل على الله. وانحدر من (الهفهوف) أو (الهفوف) بإقليم الحسا في عشرين رجلاً و32 جملاً محملة بالماء والزاد والمتاع، واستغرقت رحلته أكثر من شهرين، اخترق الجنوب ثم انعطف نحو الشمال حتى بلغ (السُّليِّل) من أعمال (نجران)

ومؤلفه هذا يقع في 400 صفحة من القطع المتوسط، ومحلى بصور رائعة تمثل مناظر ذلك العالم المجهول. وقد قسم كتابه إلى ثلاثة أقسام؛ الأول يشمل صحراء (جافوره) و (جبرين) وهاتان المنطقتان تقعان جنوب الحسا فيهما عيون ونخيل، وهِجر (للأخوان) ثم تليهما إلى الجنوب منطقة (الرمال) وهي عبارة عن مفاوز ذات سطح متموج؛ ويأتي القسم الثالث وهو (الربع الخالي) ويمضي المستر فلبي ويصور لنا شبحه المخيف كما يتصوره البدو وكيف يبتلع الأرواح، ويدفن الأشباح! وبعد هذا القسم في نهاية الكتاب تأتي شذرات قيمة، وملاحظات دقيقة، لبعض العلماء الطبيعيين في المتحف البريطاني بلندن عن النيازك التي سقطت في بقاع الربع الخالي، وعن أنواع غريبة الشكل من الطيور والحيوانات والحشرات، ومن الأخيرة جمع صناديق قدمها للمتحف البريطاني. . .

والقيمة العلمية لهذا الكتاب يلمسها المرء في ثنايا السطور، فهو يرسم لنا مناظر خلابة للصحراء، والأشياء المتصلة بمظاهر البادية تصويراً طبيعياً، قريب الانتزاع، صادق

ص: 79

النظرة، من وصف الأطلال التي مر عليها، ومراتع الوحوش التي أبرد فيها. وآفاق البادية المجلوة التي كانت من أمتع المناظر ساعة الأصيل!

وقد أفاض في حياة الأفراد والجماعات التي تعيش في ذلك العالم المجهول وأخصهم (بني مرة) و (المناصير) فعرض لحياتهم البسيطة الساذجة، ومراعيهم المتجهمة المتناثرة في عرض الصحراء، وكيف أنهم يعتمدون في قوتهم على لحوم الغزلان والوعول والأرانب التي تكثر في تلك البراري. .

وفي هذا الكتاب يكشف لنا المؤلف عن ناحية سياسية مجهولة بين حضرموت ونجد؛ فمن المجزوم به أن القبائل الحضرمية المتاخمة لحواشي الربع الخالي من الصعب عليها الاتصال والأمتيار من بلاد نجد، لوجود هذه الفلاة الفاصلة، ولكن المؤلف يميط اللثام، ويرفع الظن، ويعلمنا أن صلات القبائل الحضرمية في الشمال وأخصها الصّيْعر والعوامر والمناهيل متينة بالبلاد النجدية، ولابن السعود سلطة نوعية على هذه القبائل، فقد روي المؤلف في ص103 حادثة (سيف ابن طناف) شيخ مشايخ المناهيل في (حضرموت) وكيف فاض إلى نجد من أقصى حدود حضرموت ومعه هجين من الأصائل ليقدمه لأبن حلوي حاكم الحسا السابق دليلاً على الولاء والخضوع!

ومن عجيب ما حدثنا به المؤلف في ص116 أنه بينما كان يجوس خلال بعض الغياض يطارد الجعلان لاحظ سائلاً قرمزي اللون يسيل على لحاء إحدى الشجيرات؛ فتبينه فوجده مادة صمغية تشبه تلك المادة التي أنزلها الله في البرية على بني إسرائيل ليقتاتوا بها عند رحيلهم من مصر وهي (المن) الواردة في القرآن الكريم في قوله تعالى (وأنزلنا عليهم المن والسلوى). وقد ذهب العالم الإسرائيلي الدكتور يهودا إلى أن هذه اللفظة مصرية قديمة بمعنى (لا نعرف) وذلك أنه لما خفي أمرها على بني إسرائيل، ولم يدركوا حقيقتها وكنهها كسوها هذا اللفظ الذي معناه في المصرية ما تقدم. ويزيد هذا العالم أن هذه اللفظة لا تزال شائعة الاستعمال في اللسان العبري الدارج: فهل لأستاذنا الدكتور ولفنسون أن يتكرم بإماطة اللثام عن أصل هذه الكلمة ومصدر اشتقاقها، وشجرة المن وما ورد عنها في الآثار اليهودية؟

ويمضي المستر فلبي ويصف لنا الشيء الكثير من القصور المتهدمة، والآثار التي تشير

ص: 80

إلى الماضي السحيق وخاصة في منطقة جبرين، كما عثر هناك على حلق مفككة، وخرز مبعثر هنا وهناك، وشظايا خزف، وجرار مدفونة في الرمال!

ويعجبنا من المؤلف أنه كان أثناء الرحلة حركة فعالة، فقلما ترك فرصة إلا وشغلها في البحث والتنقيب، خلال الأشجار وثنايا المخارم، وادعاص الرمل؛ وكان في سيره لا يساير القافلة بل كان في اتجاه آخر يتعثر بين أنجاد الفلاة وأغوارها، عله يقع على جديد، أو يتوصل إلى شيء غريب، وقد كان له ما أراد فقد وضح لنا أن منابت الربع الخالي لا تنبت إلا العبل والعندب والعلقة والبركان والمرخ والحمض والغضا والحرمل والسمر والسرح، وهذه النباتات يقتات بها حيوان ذلك الإقليم وتساعف الجمال في رحلاتها الطويلة الشاقة. ومن أدهش ما حدثنا به المؤلف أنه توجد في تلك الصحارى الغبراء مروج مخضلة ومناضر ساحرة، لمسارح الإبل، ومراعي الشاء!

ولعل الظاهرة الطبيعية في ذلك البلقع من الأرض، هي الرياح فقد كانت شديدة الدوي، قوية الأعتكار، ومع هذا فلها موسيقى عذبة، ولحن مطرب، ترنحت لها أعطاف الشيخ عبد الله وخال نفسه في الـ وذلك عندما اعتلى قوزاً من الأقواز، وكانت الرياح تصفر حواليه، وهناك استرعى انتباهه لحن عذب، ظنه لأول وهلة صادراً عن أحد رفاقه، ولكن تبين له أخيراً أنها أغان مبعثها الرمل وقد استكتب المؤلف أحد العلماء الطبيعيين عن أسبابها في فصل أدرجه في خاتمة الكتاب

وهذه الرياح الهوج كانت من أكثر الصعاب في عرقلة سير الاستكشاف ومضايقة المؤلف في أبحاثه، فهو يحدثنا في ص188 كيف ثارت الطبيعة، فعصفت الرياح، وانبعثت الأعاصير، فزعزعت المضارب وحطمتها ثم استوى عليها الرمل وما أخرجوها إلا من بطن الأرض

وهذه الظاهرة ليس للشك فيها مجال، فكثيراً ما سمعنا في حضرموت أن الرجل يقف في وسط هذا الرمل فما تمضي عليه عشر دقائق حتى يصير مغروزاً فيها؛ والحضارمة لا يسمونه إلا (البحر السافي!)

ويمضي المؤلف ويصف لنا الآبار في هذه الأصقاع، فيحدثنا أنها كثيرة جداً، وما على البدوي إلا أن ينبش الأرض على بعد بعض قوائم، فيرى الماء وقد نزا من جوفها! وحفظ

ص: 81

هذه الآبار من سفى الرياح غريب، فيقول إن البدو يغطون أفواهها بالجلود العريضة وأغصان الشجر، وهم على اتفاق تام على رعاية هذه المصلحة العامة في جميع تطوافهم

وعندما دخل المؤلف منطقة (شنة) ص228 تراءت له منبسطات من الرمل محاطة بكثبان تكون شكل بحيرات وأخرى منها مستطيلة، أدى بحثه إلى أنها بحيرات كانت موجودة من العصر الجيولوجي الثالث، وكانت تتدفق إليها الأنهار من شتى أنحاء الربع الخالي، حاملة الطمي معها، ثم لم تلبث هذه البحيرات أن جفت وفاضت عليها أنفاس الرياح فغمرتها بكثبان الرمل!

ويظن المستر فلبي أن بلدة (شنة) لا تبعد عن البقعة التي كان وادي الدواسر يصب مياهه فيها في الأعصار القديمة؛ ويعزز رأيه بأن حفافي تلك البحار لا تزال محسوسة حتى هذه الساعة في الأجراف التي تعود إلى العصر الميوسيني في طرقات (جيبان) وأفاض المؤلف في هذه الظاهرة الجيولوجية العجيبة التي خرجنا منها بأن بقاع الربع الخالي كانت آهلة في عصور سحيقة بالسكان والعمار، وكانت حضرموت وظفار وجبال القرا، بل الشاطئ الجنوبي من الجزيرة العربية مغموراً بالمياه؛ وكانت وديان الدواسر وتثلث وحبونة وسحبة وبيشة أنهاراً تصب مياهها في رحاب الربع الخالي؛ فلما جفت هذه الأنهار، وأضحت ودياناً كما هي اليوم أنحسر الماء عنها فخلت تلك البقاع فلم يبق فيها إلا هذه الآثار من الأصداف وأحجار البحر، وفضلات الزجاج، والصخور الغريبة التي شاهدها المؤلف وشحن منها صناديق. وقال عن وادي الدواسر إنه أعظم الأنهار القديمة ينحدر من جبال عسير واليمن فيمر على (دام) و (السُّليِّل) فيلقي بنفسه في أحضان الربع الخالي!

وهذه النظرية المحيرة لم يقل بها المستر فلبي وحده، بل فطن لها كثير من علماء الجيولوجيا كملطبرون والعالم الإيطالي كاتاني داتيانو، إذ يعتقدون استناداً إلى الأدلة الجيولوجية أن الجزء الجنوبي من بلاد العرب كان في يوم ما مزدهراً بحضارة عظيمة تعود إلى ما قبل التاريخ، أيام كانت هذه البقاع تأهل بأقدام أمم الأرض وأشدها قوة من بني عاد. . .

وهذا السفر الجليل الذي خدم فيه المؤلف العرب لم يسلم من بعض الهنات، من ذلك ما جاء في ص77 عند الكلام على قبيلة (المناصير) فقال، استناداً إلى ضعف رواية، إنها قبيلة

ص: 82

كانت تدين بالمسيحية واسمها يدل عليها!

وفي ص78 تكلم عن أجود أنواع الإبل، فقال إنها الإبل التي تنتمي إلى قبيلة (آل بوشامس) من قبائل عمان، وهذه القبيلة لا تعد من المسلمين! بل تنتمي إلى المذهب الأباضي، ولهم صلاة عجيبة!

وهذه شطحة من (أخينا الشيخ عبد الله)، فالأباضية فرقة من فرق الإسلام!

وفي بقاع الربع الخالي يوجد حيوان من نوع الماعز يسميه الأهالي (الوضَيْحي) وقد أطلق المؤلف عليه اللفظ الإفرنجي وهذه اللفظة لا تعني إلا (الوعل) وهو يختلف عن (الوضيحي) في انتصاب قامته، وتقوس قرنيه مع انتظام عقد عليهما، وهذا الحيوان يوجد بكثرة في جبال حضرموت، أما الوضيحي فيظهر أن أسمه العلمي

وفي الكتاب نبدة عن رملة (وبار) الشهيرة إذا ساعفتنا الظروف نقلنا منها شيئاً لقراء الرسالة

وأخيراً، لا يسعنا إلا أن نهتف هتاف المعجبين بهذا المجهود الذي بذله المستر فلبي فقدم للعرب خدمة تذكر له أبد الدهر

محمد عبد اله العمودي

بدار العلوم

ص: 83