المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 22 - بتاريخ: 04 - 12 - 1933 - مجلة الرسالة - جـ ٢٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 22

- بتاريخ: 04 - 12 - 1933

ص: -1

‌حجاج ودوس.

. . .

حلّقا في السماء الغائمة البعيدة! والأمل الطلق يبسم لهما خلال السحاب، والمستقبل الوضاء يشرق عليهما بين الضباب، والاستقبال المنتظر ينثر الأحلام على جناحي الطائرة! فالنسر الحديدي يزف في الهواء الندي زفيف الكوكب، والطيار الشاب وصاحبه يسبقانه بالخيال العجيب إلى أرض الوطن، فيريان البشر الفخور بفيض على جنبات الوادي، والمجد الاثيل ينبعث لهفان من غيابات الماضي، والشعب النبيل يتقاطر مزهوا إلى المطار الحاشد، والأعلام الخضر تخفق بالتحيات خفوق القلوب بالإكبار والحب، والطوائر العشر يهبطن على الثرى الحبيب هبوط المخيلة والعجب، واللقاءالحماسي الهاتف يغمر السرب الأول بالترحاب والإعجاب والشكر، وأكاليل القبل والغار تتوج الجباه المجلية في ميدان البطولة والنصر. . .!

كل أولئك كان يتمثله فؤاد، ويتخيله شهدى، حين غفا الحظ تلك الغفوة المشؤمة فإذا بالقدر الراصد يثب من بين أطباق الضباب فيصرع الأمل الناهض، ويراد النسر الطائر حطام حريق، والمستقبل الزاهر ساعة هول وضيق، والاستقبال الباهر مناحة أمة، وأكاليل الغار أكاليل نعش!!

اللهم لا رادّ لقضائك، ولا معقب لحكمك! جعلت الشهادة روح الجهاد، والتضحية طريق المجد، والفداء عبادة المثل الأعلى! ومصر ذات التاريخ الأزلي والتراث الخالد، قد كتبت هذا التاريخ بدماء شهدائها وأثلّت هذا التراث بجهاد أبنائها، وعرفت السماء قبل أن يعرف غيرها الأرض، فلا يشتد جزعها لهذا الحكم، ولا يرفض صبرها لهذا البلاء؛ وما حجاجٌ ودوس إلا شهيدان كتبت لهما السعادة أن يكونا في أول سجل من نوع جديد.

أن شهداءنا الذين قضوا في سبيل الوطن والحرية والعلم والطيران هم القوة الملهمة للشباب العامل، والحجة المفحمة على النشئ الخامل، والدلالة البينة على أن مصر لا تزال تعرف كيف تموت لتحيا، وكيف تشقى لتسعد! وأن الذين شهدوا أبناءنا يوم جنازة الشهيدين يتسعرون بالحماسة، ويتفجرون بالوطنية، ويهتفون بالتضحية، ليوقنون أن هذه النفوس الحرة التي تظاهرت على كبتها وإذلالها شتى العوامل تأبى أن تتكشف للخطوب إلا عن جوهر خالص وفطرة نقية.

أن الوادي يوم ضم إلى أحشائه بقايا ولديه الصريعين قد قوى في صدره نبض الحياة، ودب

ص: 1

في جسمه دبيب الفتوة، لأن الوطن تميته الدموع وتحييه الدماء! فكلما كثرت القرابين على مذبحة، وفاضت النفوس على ثراه، أزداد قداسة واتقد حماسة وأشتد قوة، فتقريب الفداء المختار نكبة لأسرته وحياة لأمته، ومجد لوطنه!

التضحية بالنفس أو بالمال هي الوطنية الصادقة والزعامة الحق، لأنها أثر الإيمان الصحيح، ودليل الجهاد المخلص، ومتى بلغت النفوس حد الإيثار أعْيَت على الظلم، ونبَت على المذلة، فلا تجد حاكما يجور، ولا عالما يدجي، ولا سائسا يخاتل، ولا قائدا يَهن، ولا غنياً يشح، ولا وطنا يشقى، فهل لسادتنا وكبرائنا أن يكفكفوا ِشّرةَ الحرص في نفوسهم بالتضحية ? ومعاذ الله أن أقصد التضحية بالدم فليست من طبع الكهولة، إنما أقصد التضحية بالتهالك على الرآسة، والتهافت على المنصب، والتكالب على المال، ليصح الخلق المريض، ويأتلف الأمر الشتيت، ويعود الجائر إلى سواء السبيل.

برَد الله بالرضوان ثراكما يا شهيدي الواجب! لقد هززتما للمعالي همماً توشك أن تهمد، وذكّرتما المجد نفوسا تكاد أن تنسى، وأضفتم اسم مصر إلى أسماء الأمم التي روت بدمائها أصول الخير المشترك! ولئن كان مصرعكما عثرة أليمة في أول الطريق الجديد، فأنه حريّ أن يسدد خطانا فيه، ويظهر قوانا عليه، بحسن الاقتداء بالبطولة، وصدق الاعتبار بالخطأ؛ وما مات من رجالك من أحياك، ولا ذهب من مالك ما علمك.

طأطئوا الرؤوس يا قوم إجلالا لمصرع البطولة!!

إن شهيدينا قُتلا في السماء، وغسلا بالنار لا بالماء، ودُرجا في علم لا في كفن، وحُملا على مدفع لا على نعش، وكتبا في سجل الخلد في دفتر (الصحة). فهل هذه الموته العظمى تفت في الاعضاد وتفل من غرب العزيمة؟

ان الأمة التي لم تكد تأخذ بأسباب الطيران حتى يبادر إلى خوض أهواله فتاة من فتيانها، ويسبق إلى الشهادة في سبيله فتيان من فتيانها، لا يستطيع أن يكسر من ذرعها حادث، ولا يتكاءدها في طريقها إليه عقبة.

سلام الله على أشبالنا في الجهاد، وعلى أبطالنا في الاستشهاد، وعلى شهدائنا في قدس الخلود!

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌الأساليب

للأستاذ أمين الخولي

المدرس بكلية الآداب

في مصر اليوم أساليب تمتاز بامتياز البيئات، وتختلف باختلاف الثقافات، ويذهب كل أناس بأسلوبهم لا يعدلون به أسلوبا، ولا يرضون منه بديلا، بل لا يرون له مثيلا؛ ونحن بين ذلك كله في حيرة مما نأخذ وندع.

وما أعني الأساليب الأدبية ولا الأنماط الفنية، فلعل الأمر في ذلك هين يسير، إنما أعني أساليب التفكير وطرائق التعقل ومذاهب الناس في تقرير الحقائق، وتقبل ما يقبلون منها ورفض ما يرفضون في مصر اليوم بيئات فكرية متعددة، وطرائق تهذيب مختلفة الأصول متباعدة الأسس، حتى لترى المسلمات المقررة عند فريق، تنكر في عنف بل في سخرية أحيانا عند آخرين، ونحن على هذا في مفترق طرق متشابكة؛ وشباننا الآخذون سبل الحياة في حيرة، لا يجدون معالم واضحة، ولا يدرون أين يذهبون، وحين يلتمس أولئك الشبان الحقيقة من هدأة إدلاء يحملون الأقلام في هذا البلد لا يجدون إلا من يداوى الاختلاف بالفرقة؛ ولا تستقر الحياة الفكرية لأمة هذا شأنها. وإذا كانت مصر قد خلصت من تعدد العناصر، وتكاثر اللغات؛ واختلاف الأديان والنحل فأنها لما تظفر بوحدة المزاج النفسي، وتجانس الأسلوب الفكري؛ وليس ذلك على أمة ناهضة بايسر خطرا وأهون شأنا من النواحي الأخرى في الاختلاف.

وما جردت اليوم قلمي لأكتب سداً لفراغ أو تلبية لطلب كأكثر ما يكتب الآن، بل تأثرا بحالة أشهدها كل يوم حين أغدو وأروح بين الجامعتين الأزهرية والمصرية، وأعانيها كلر يوم مع هؤلاء الشبان الذين لا يكاد يهون معهم التفاهم المنظم، بل يشق ويعسر إن لم أقل يستحيل. أرى في الجامعتين محافظين مسرفين، ومجددين مسرفين، وقد أرى هؤلاء، حيث لا يتوقع أن أراهم، وأجد أولئك حيث لا يدور بخلدي أن تقع عيني عليهم، كما أرى في الناحتين من لم يتجددوا ولم يحافظوا، ولكل أسلوب فكري مضطرب فاسد ينتهي به إلى نتائج تزيد مسافة الخلف بينه وبين الآخرين. وما إدخال القارئ في حاجة إلى شيء من المثال على ذلك، فهو وأجده حيث يرسل بصره، ويصيخ بإذنه جليا واضحا في صحافتنا

ص: 4

اليومية والأسبوعية والشهرية، وفي أنديتنا ومجامعنا، وفي المناقشة تجري بين متعلمين في أي مكان؛ وهي حال لا ينخدع عنها أحد مهما تجاهلها؛ يشعر بها كل ذي أسلوب من تلك الأساليب فتجد صداها في أسف صاحب القديم أسفا عميقا على ما يكون من طيش أولئك الذين لا يبرءون عن الهوى والنزف، ولا يعفون من الاتهام في دينهم ووطنيتهم. كما تجد صورة ذلك الافتراق في ضجر المشتطين وتبرمهم بتلك التقهقرات التي تصيب التدرج العقلي، وتعوق الحرية الفكرية؛ وفي سخطهم على هاتيك الرجعات التي تنتكس بها النهضة ; وكما تجد هذا الافتراق في الأساليب عند المترددين بين الطريقين المحاولين التوسط، حين يقصون من الجديد ويمطون في القديم، يرجون أن يتقابل هذا وذاك ويتوافقا؛ في كل هؤلاء تجد أساليب من التفكير مختلفة، فتشعر في ألم باضطراب كياننا الفكري، وتجد هذا الاضطراب يزداد شدة وخطورة، حين تتحكم في التفكير نزوة سياسية، أو يصل أصحاب الرأي حبلهم باعتبارات دينية، عند ذلك يشتد اضطراب أسلوب الفكر حتى يصير قلقا مزعجا وانتكاسا عجيبا، والويل كل الويل للحقيقة؛ بل الويل كله لشبابنا خاصة حين يضيع منه جيل وجيل ضحية هذا الاضطراب، وحين يقبع الخائفون من هوى السياسة، ومجازفة أهل الدين، فيسكتون طمعا في السلامة؛ أو يروجون لما هو في سريرتهم خطأ بل ضلال. فتضيع الحقيقة ويضيع الشبان قربانا لهذا الحذر وحب السلامة.

لقد أخشى أن يتلكأ قلمي أو يتوقف حين ثارت ذكرى هذه التهديدات، فيؤثر الإخلاد الوديع إلى الهدوء؛ لكني حامله على إلا يفعل، وماض في نقد تلك الأساليب مهما غضب أصحابها ومصطنعوها مبتغيا وجه الحقيقة وحدها. غير ملوث ما أقول بشيء من هذه المهاترة التي تسود جو المناقشات عندنا فتكون شرا على شر.

في مصر نفر أسلوبهم الفكري أن يضعوا العقل في مكان الإنسان من يد الموت كما يشبهه طرفة بن العبد في قوله:

لعمرك أن الموت ما أخطأ الفتى

لكأ لطول المرخى وثنياه باليد

يجول العقل في مسارح الكون على أن يظل حبله في يدهم، أويد الدين كما يفهمونه هم لا كما هو في طبيعته وحقيقته، فحيث خلوه سرح، وحيث كفوه انكف، وحيثما هزوا حبله فهو خاطئ. وتقول لهم أن عنيتهم بهذا التحكم في العقل أنه عاجز عن استكناه كل شيء والنفاذ

ص: 5

إلى صميم الحقائق كلها فنحن معكم، لكن دعوا العقل يشعر من نفسه بهذا العجز، ولا تفرضوا عليه العجز فرضا وسيطرة؛ بل دعوه يعرفه، بالتجربة، فيأبون إلا أخذه بالحبل. وتنبئهم أن مسالك العقل في الوصول إلى الحقائق مختلفة، ومنا ما لا سبيل إلى رد نتائجه، ولا حيلة في نقضها، فهو حين يعتمد التجربة ويحدث عن واقع لا خير لكم في مناقشته، ولا سبيل لكم إلى كفه وأن تفعلوا فهو متمرد يخشى عليكم خطره، فيأبون ألا الحبل. تتحدث إليهم مثلا عند تدرج المعارف البشرية وترقيها وما يشاهد من مظاهر ذلك البارزة في طبقات الناس، فيجابهونك بأن آدم أبو البشر قد علمه الله الأسماء (وعلمه الله المسميات أيضا) وهو رسوله، فليس يصح بعد ذلك ما تقولون من هذا التدرج. وليس الأمر عندهم إلا أن رأس الدنيا في قدمها وعقلها في عقبها؛ ولا يجديك أن تفرق بين الخيرية الخلقية النفسية، والمعرفة العلمية؛ ومهما تساهلت أو تنازلت لا تصل منهم إلى رضا واطمئنان. يسمعون أن الكائن المادي والمعنوي يتأثر ببيئته؛ ويتبادل التأثير مع جميع ما حوله؛ فلا يرضون أن يكون الفقه الإسلامي مثلا قد جرى عليه ذلك وإصابته هذه الفضيحة! ويضربون الأرض برءوسهم معلنين أنهم لن يسمحوا بأن يقال ذلك.

مثل هذا الأسلوب خاطئ. يضيع ما يريد الدين أن يخفف به غلواء العقل ونزقه، ويزج أصحابه بالدين فيما ليس من شأنه؛ ويضيعون معالم الأشياء، وحدود الحقائق ليوجدوا تحكما في العقول البشرية، ويبنوا لها محابس ويضعوا عليها إغلاقا؛ وقد طبعها الله وثابة نفاذة متغلغلة محلقة.

وفي مصر قوم أسلوبهم أن يرسلوا العقل، أو قل يرسلون أنفسهم إرسالا، فيقولون بالظنة، ويحكمون بالشبهة، ويقطعون بالبداء، ويجزمون باللمحة؛ هذا إذا كان الحكم لهم، فأن كان من غيرهم طلبوا من الدليل ما لا يطلب، وجعلوا العقلي التجريبي ; في موضع الظني، فتارة يقلبون الحقيقة، فكما يسمون النتيجة التجريبية علما، يسمون النتيجة النظرية علما، ويسمون الفرض الاضطراري علما، ويسون الحل المؤقت الذي يبعثه العجز عن الحقيقة الصحيحة علما، فيزعمون أن ذلك كله من مملكة العقل التي هو فيها حر مسيطر ليس لأحد أن يحد من سلطته. يريدون أن تكون الحقيقة الطبيعية، والنتيجة الرياضية، والرواية التاريخية والخاطرة الفنية، كل أولئك عقليات علميات لا فارق بينها؛ ولها جميعا أن

ص: 6

تضرب وجه الدين، وتصفع قفاه ساخرة في غير حياء ولا تقدير حتى لآداب اللياقة؛ وطورا على أساس هذه التسوية الغريبة يرون أن العلم إذا لم يلمس وجود شيء فليس موجودا ولا يصح لعاقل أن يتحدث عنه، ومادام الإله لم يختبر في المعمل فلا معبود ولا دين؛ يشكون والشك حق فطري لا ينكر عليهم؛ لكنهم لا يلتمسون الأدلة كما هي الخطوة الأولى بعد الشك، بل يطرحون ما شكوا فيه ويهملونه. وكذلك يفعلون حين يشتبهون ويقوى في تقديرهم الاشتباه، فيعدون اشتباههم آية عجز كل محاولة للإثبات، وفشل كل دليل، فيطمئنون إلى بطلان ما اشتبهوا فيه؛ وتقول لهم ان الأسلوب التجريبي لا يقبل مادون التجربة مادامت مستطاعة، فاحتكموا إليه متى أمكن، وهاتوه إذا ما ادعيتم؛ أولا فأحسنوا تقدير ما دونه من الأدلة فأساليب البحث مختلفة، ولكل فرع أسلوبه؛ ونحن في أساس التجمع، ونظامه، والشريع له، وفي حقبة الحق، وخيرية الخير، وغير ذلك لا نملك التجربةولا المعادلة الرياضية فنثبت بما عداها ونسلم؛ فلا هم مثبتون بالتجربة إذا ادعوا، ولا هم قابلون من غيرهم مثل دليلهم إذا أدعى؛ وتحدثهم عن أن بطلان الدليل لا يستلزم بطلان المدلول، وأن ما تجهل أكثر مما تعلم فيسخرون بهذه العبارات القديمة؛ ويناقضون أنفسهم في تقرير ما يرفضون مثله، ورفضمثل الذي يقررون.

ذلك أسلوب خاطئ؛ لا يحدد قيم المعلومات، ولا يطلب لكل دعوى دليل مثلها، ويضيع معالم الحقائق في النفس، فيخضع الإنسان للفرض والظن إخضاعه إياه للمجرب المطرد فيفسد التقدير، ويسلح أعداد الحرية الفكرية بأغلاط أولئك المتحررين خطأ، ويضيع هيبة العلم. ويعكر ما بينه وبين الدين، بل ما بين العلم والأخلاق مما له أثره العنيف الخطر في حياة الجماعة.

في مصر من أسلوبهم أن يهجموا على مخالفهم في الفكرة قبل تأييد فكرتهم؛ ولو كان هذا المخالف يتناول الموضوع من غير الناحية التي يتناولونه هم منها، وبطريق غير طريقهم؛ فتراهم يوازنون بين الفكرتين ويفاضلون بين الرأيين؛ ولما يبحثوا أو لابد لهم بأن يبحثوا إلا واحدا منهما؛ بل هم لم يفرغوا بعد من بحثهم وتأييد رأيهم، ويزيدون ذلك بالا يجعلوا الموازنة علمية، بل يقلبونها موازنة خلقية أو فنية، فلا يبينون الخطأ ولكن يقولون هذا تغرير أو هذا سخيف وما إلى ذلك مما يغضب ويؤلم، دون أن يقدم نحو الصواب أو

ص: 7

يؤخر. تكون مسألة بحثهم تاريخية او أدبية أو هبها عالمية بحتة قد تولوا درسها على أساس لهم في ذلك فانتهوا إلى نتيجة ما، فهم لا يشتغلون بتقريرها وتأييدها، وتقوية مواضع الضعف فيها، على ما تتطلبه أمانة البحث، ويقضى به نظام الإحصاء والتفرد، بل يدعون ذلك إلى الاشتغال بأن ما تقره ناحية أخرى أو باحث آخر ليس إلا تضلاً مثلا، أو هو خداع أو ما أشبه؛ وهذه الناحية وذاك الباحث قد عرض للموضوع بغير طريقتهم وعلى غير اساسهم، ويزيد النار تأججا أن يكون الموضوع مما للعقيدة مثلا به صلة؛ فنحن نعرف أن الوشائج متصلة بين الدين والفن، وبين الدين والعلم في أشياء كثيرة؛ فالأنبياء والرسل مثلا من حق التاريخ، والقرآن من متناول الأدب والتاريخ فلا جدوى على الحقيقة مطلقا في أن ينتهي باحث في مثل هذه الأشياء إلى رأى استقرائي أو حكم تاريخي فيكون همه تأكيد أن غيره من كلام الدينيين خداع أو اتجار أو نحو ذلك مما يعزز حكما ولا يدعم رأيا؛ بل لا ينفي عنه مظاهر ضعفه على حين يثير المعتقدين في غير طائل؛ ويفقد الحقيقة فرص الظهور والاتضاح، ولو قرر ما يقرر من ذلك في أسلوب سليم وبحث مستقيم ثم لوح ملوح بمخالفة ذلك للدين، لوجب عندي أن يترك لأهل الدين أمر التوفيق او التأويل؛ أو مالهم مخلص فحمل كل عبئه. ولو رؤى وصل الناحتين لا بد مع التزام حدود التخصص، والاحترام الحقيقي للحرية العقلية للزم السعي أولا إلى رال الدين بهذه الشبهة يسألون كشفها ويكلفون دفعها، فعليهم في ذلك واجبهم يحسنونه أو يحرجون بعجزهم، ويمضي العالم او المؤرخ أو الأديب وقد سلم له أنصاره ووقته وبحثه لا يخسر في ذلك شيئا على غير جدوى، ولا يثير إلا مخالفة عاقلة قد تكشف له عن نقص في رأيه أو تثبيت صحته حين تتهاوى السبة عنه.

تلك أساليب بحث وضروب تفكير لها خطرها في تمزيق وحدة الشبان وإفساد الجيل، وقطع أواصر التآلف النفسي والتمازج الروحي قطعاً يعوق التعاون الاجتماعي الذي يتطلبه الوطن ملحا من هذا الجيل، فليست الخسارة من وراء اختلاف تلك الأساليب عقلية فحسب، ولا فنية فحسب، ولا خلقية فحسب، ولا إجماعية فحسب، بل هي كل أولئك مجتمعة، وما أهولها!!

وفي مصر أساليب أخرى فكرية أفردها بمقال آخر؟

ص: 8

أمين الخولي

ص: 9

‌الذوق العام

للأستاذ أحمد أمين

يظهر لي أن للأمة ذوقا عاما كما أن لها رأيا عاما وعرفا عاما لكل دائرة اختصاص لا يتعداها. فالرأي العام مداره الآراء والأفكار والمعقولات، والعرف العام، مداره العادات أما الذوق العام فمداره الفن والجمال.

وكما أن هناك قدرا مشترك بين المصريين مثلا في لونهم وتقاطيع وجوههم، وملامحهم، فنستطيع في سهولة ويسر أن نميز المصري من الأجنبي حتى في البلاد الأجنبية، وكما أن هناك قدرا مشتركا في الرأي العام المصري في النواحي السياسية والاجتماعية يميزه من غيره من الرأي العام الأوربي، فكذلك الشأن في الذوق العام.

يتجلى هذا في كل أنواع الفنون كالطعوم، فلكل أمة أنواع من الطعوم تستلذها وتغرم بها، هي نتيجة ذوقها، ومن أجل هذا كان طهي كل أمة يخالف طهي الأمة الأخرى، ولا يقتصر هذا على نوع المأكول بل يتعداه إلى كيفية أعداده، وبذا نستطيع أن نحكم على الأمة بأنها تستجيد كذا من ألوان الطعام وأنواعه، على حين أن الأمة الأخرى لا تستسيغه ولا تتذوقه.

ومثل الطعوم غيرها من الفنون، فالذوق العام المصري يقدر الموسيقى المصرية أكثر مما يقدر الموسيقى الغربية، بل لا يستلذها ولا يرى فيها جمالا، كما أن أكثر الغربيين لا يجد في الموسيقى الشرقية طعما، ولا يقيم لها وزنا.

وكذلك أشكال البناء وما يستجاد منها وما لا يستجاد وأنواع الملابس وألوانها وما يستجمل منها وما يستهجن: كلها خاضعة للذوق العام في الأمة. ولكل أمة في هذه الشؤون ذوقها يميزها من غيرها ويضعها في درجة خاصة من سلم الرقي. وهذا الذوق العام في كل أمة هو الذي يقومّ الأدب ويتذوقه، وهو الذي يجعل لكل أمة أدبا خاصا، فالأدب المصري مثله مثل الطعوم المصرية، والغناء المصري والبناء المصري إنما يتذوقه المصريون بذوقهم الهام ولا يتذوقه الغربيون بذوقهم العام، كما لا يتذوقون طعومنا وغناءنا، فالنوادر المصرية التي تعجب المصري حتى تبعثه على أشد الضحك وأعمقه قد لا تحمل الأجنبي على التبسم، والقصص و (الحواديت) المصرية التي تسترق لب المصري وتستهويه، قد لا يأبه لها الأوربي ولا يعيرها التفاتا إذا ترجمت له، نعم قد يعجب المصري بآيات من الآداب

ص: 10

الغربية ولكنه لا يتم له ذلك إلا بعد أن يحور ذوقه ويمرنه تمرينا طويلا على تذوق هذا الأدب، كما يمرن المصري ذوقه على استجادة الموسيقى فيستجيدها بعد طول المران، ولكن هذا ليس من الذوق العام في شيء.

كما لا نستيطع أن ننكر أن هناك نوعا من الأدب عالميا إذا ترجم إلى أية لغة أستجيد كنوع من القصص، ونوع من الأمثال، ولكن سبب ذلك أن هناك قدرا مشتركا بين الأذواق، كما أن هناك قدرا مشتركا بين العقول، فاستجادة المصريين لبعض الأدب الغربي أو الغربيين لبعض الأدب العربي، شأنها شأن اشتراك الناس جميعا في استجادة بعض الطعوم أو بعض قطع الموسيقى، وهذا لا يغير فيما ادعينا شيئا من أن لكل أمة ذوقا عاما خاصا بها.

وهذا الذوق العام للامة يستبد بالأفراد استبدادا لأحد له، فالناس جميعا خاضعون لأنواع شتى من الاستبداد كاستبداد النظم السياسية، واستبداد العقول، واستبداد الرؤساء ولكن هذه كلها محدودة الدائرة، أما استبداد الذوق العام فلا حد له، ولا سلطان يشبه سلطانه، ذلك أنه بجانب الذوق العام للأمة ذوق خاص بالفرد، فكل فرد له ذوقه الخاص يستجيد به بعض الأشياء ولا يستجيد بعضا، ويستحسن به ويستهجن، ويستجمل ويستقبح، ولكنه في ذلك مسلوب الحرية خاضع خضوعا تاما للذوق العام. قد يشتد الحر فلا يطيق الإنسان نفسه، وقد يكون في نوع من اللبس ما يخفف وطأته ويكسر من حدته، ولكن لابد أن تخضع للذوق العام، فتلبس الخناق ورباط الرقبة وما إلى ذلك خضوعا للذوق العام وخشية من استهجانه، فليس إنسان يلبس ما يجب ولا يأكل ما يحب على النمط الذي يحب، ولا يتكلم كما يحب على النمط الذي يحب، إنما هو في كل ذلك عبد أسير ذليل مقيد مغلول، في كل خطوة يخطوها، وفي كل نفس يتنفسه (لقد قيدتنا القوانين بأعمال يجب أن نعملها، وأعمال يجب أن نتجنبها، ولكنها ليست بشيء بجانب أوامر الذوق العام ونواهيه) وعقوبات الذوق العام سريعة فاتكة متنوعة، فهو يعاقب بالاحتقار والازدراء ويعاقب بالنظر الشزر، والكلمة الجارحة القاسية، ويعاقب بالنقد والتجريح، وهو في كل ذلك لا يسمع دفاعا ولا يقبل عذراً، ولا يؤجل عقوبة، ولا يقبل حكمة نقضا وإبراما، ولا يعرف حكما مع إيقاف التنفيذ، لا شيء من ذلك كله ولكن حكمه حكم صارم، قاس ظالم.

وكذلك الشأن في كل نوع من أنواع الفنون، فإذا أشتهر مغن وأعجب ذوق الجمهور فلا حق

ص: 11

لك أن تعيبه، وإذا عبته فعبه سرا، وحذار أن تجهز بذلك فيكون دليلا على فساد ذوقك وضعف حسك.

ومثل ذلك في الأدب، إذا قال الناس أن سحبان وائل خطيب يضرب به المثل في البيان، فيقال أفصح من سحبان فقل مثلهم وإن كنت لم تقف على شيء يثبت فصاحته ويبرهن على بلاغته، وأن فتشت عن كل أقواله فلم تجد إلا اسطرا ثلاثة قال فيها أن الدنيا دار بلاغ، والآخرة دار قرار، الخ ولم تستجد هذا فاتهم ذوقك وكرر قولهم:(أبلغ من سحبان)

وإذا قالوا أن من أبلغ خطب العرب خطبة قس بن سادة: أيها الناس اسمعوا وعوا، وإذا وعيتم فأنتفعوا، الخ، فقل كما قالوا إن لم تتذوق وإذا قالوا إن النابغة الذبياني فضل الشعراء بقوله:

هذا غلام حسنٌ وجهه

مستقبل الخير سريع التمام

للحارث الأكبر والحارث ال

أصغر والأعرج خير الأنام

ثم لهند ولهند وقد

أسرع في الخيرات منه أمام

خمسة آباءهمُ وأماتهُم

همْ خير من يشرب صوب الغمام

ثم قرأتها ولم تشعر لها بطعم، ولم ترعك ألفاظها ومعانيها فقل أن النابغة فضّل الشعراء بها، وإلا أتهمت في ذوقك ورميت بضعف أدبك.

وكذلك فأخضع دائما لحكمهم وذوقهم، فمن قالوا فيه أنه إمام الأدب أو سيد الشعراء غير مدافع، أو قالوا أنه شاعر متكلف، أو أديب متخلف، فإياك أن تحدثك نفسك بأن تقلب أوضاعهم أو تخالف إجماعهم.

هكذا استبداد الذوق العام، ولست تستطيع الخروج عليه وإعلان استقلال ذوقك عنه إلا بثورة عنيفة على الذوق وتعرض لكل أنواع العقوبات الذوقية.

ثم أن كل ما ترى في الأمة من مظاهر القبح وإقراره فعلته ضعف الذوق العام، فإذا رأيت الأمة تصدِف عما في بلادها من ازدهار، ولا يخفق قلبها لرؤية جمالها وجمال طبيعتها، ولا تتغزل في محاسنها، فأعلم أن سبب ذلك ضعف الذوق العام، وإذا رأيت الأمة لا تقدس النظافة ولا تشمئز من القذارة اشمئزازها من أبغض شيء وأقبحه، فلعل ذلك بضعف الذوق العام، وإذا رأيتنا في المجتمعات لا نرعى نظاما ولا ننصت لفن أو ممثل ولا نتقيد بأدب

ص: 12

اللياقة فقل أنه ضعف الذوق العام وهكذا.

ومن الغريب أن هذا الذوق العام الذي يستبد بي في مأكلي وملبسي ومسمعي وأدبي (كما رأيت) لا يستبد في هذه الأشياء، ولا يبدي أي سلطان على هذا النوع من الضعف، فهو لا يحتقر المرء لايقوّم الزهر، ولا يزدري من يسيء في المجتمعات العامة، ولكن يزدريني إذا خرجت من غير طربوش أو رباط رقبة في يوم حار، وسبب ذلك أن الذوق العام لا يعاقب إلا على ما يتذوق، وفي دائرة ما يفهم، فهو إذا قوم مناظر الطبيعة عاقب من لم يتذوقها، وإذا أدرك جمال النظام وآداب المجتمعات عاقب من مسها بسوء، ولما يصل إلى هذه الدرجة.

وبعد فشأن الذوق العام شأن الرأي العام كلاهما قابل للإصلاح والرقي، فالرأي العام ضعيف وسخيف إذا صدر عن أمة جاهلة، ويرقى الرأي العام بانتشار الثقافة وتعميم التربية، ويدل تاريخ كل أمة على أنها في أول أمرها لا يكون لها رأي عام، ثم تمنح أفراد قليلين أقوياء، زعماء مثقفين يوفقون في دعوتهم فيخلقون رأيا عاما، وأن هؤلاء، القادة يجب أن يُسبقوا بنوع من الثقافة العامة في الأمة حتى تستطيع أن تفهم قادتها وآراءهم، فيأتي هؤلاء القادة ويكوّنون إرادة عامة للأمة، ويؤلفون بين اتجاهاتها ويكونون منها وحدة. ومما نأسف له أن مجهودات كبيرة بذلت في ترقية الثقافة العقلية، وبرامج كثيرة وضعت في تعميم التربية العقلية وفي تكوين الرأي العام، ولكن لم توضع برامج لتربية الذوق العام، ولا بذل مجهود في ترقيته ورفع مستواه، فكانا لنا زعماء سياسيون وزعماء عقليون ولكن لم يكن لنا زعماء ذوقيون.

وفي ظني أن الذين يبحثون في ترقية الفنون عامة من موسيقى ونقش وتصوير وأدب مخطئون كل الخطأ، لأنهم يحاولون أن يصلحوا النتائج من غير أن يصلحوا المقدمات، فليس الفنان في الأمة الا صدى لذوقها العام، فإذا صح الذوق صح الفن وإلا فلا ليس الفن والأدب من جنس النباتات التي تنبت من تلقاء نفسها. ولا هو مما يظهر مصادفة واتفاقا وإنما هو نتيجة لازمة لعوامل طبيعية سأحاول أن أبينها في مقال تال.

أحمد أمين

ص: 13

‌صور من التاريخ الإسلامي

(4)

محمد بن القاسم الثقفي

73 -

96هـ

للأستاذ عبد الحميد العبادي

لو أن من يدرس تاريخ الأمة العربية فتش في ثنايا هذا التاريخ عن شخصية تتمثل فيها سجايا تلك الأمة الكبيرة وعناصر قوتها لما وجد أجمع لتلك السجايا وهذه العناصر من شخصية الفتى الشهيد والفاتح العظيم، والشاعر الحساس، محمد بن القاسم الثقفي الذي شرع في غزو السند في السابعة عشرة من عمره وأتمه لما يتجاوز الثالثة والعشرين فأدخل بذلك في الهند الثقافة الإسلامية التي يدين بها في الوقت الحاضر زهاء ثمانين مليونا من أهلها. أنها شخصية تجمع إلى فتاء السن حنكة الكهولة، وإلى خشونة الجندي رقة الشاعر وإلى الحرص على الدنيا زهد الفيلسوف وطمأنينة الحكيم. . وكل هذه صفات أتصف بها العرب في نهضتهم التاريخية الكبرى التي رجت العالم القديم فنبهته من سباته ورسمت للتاريخ وجرى جديداً! وهو محمد بن القاسم بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي، فهو من ثقيف المشهورة في الجاهلية والإسلام بقوة الدهاء وسعة الحيلة ومضاء العزيمة، ثم هو أبن عم الحجاج أمير العراق ورجل الدولة الإسلامية في الربع الأخير من القرن الأول الهجري. يلتقي نسبهما في الحكم بن أبي عقيل. ولد حوالي سنة 73هـ، ونقع الحوادث مثار وريح الفتن نكباء، والسيوف يتجاوب صليلها في فارس والعراق والحجاز وأفريقيا، فجعل غلامنا يتنفس في جو مكفهر عابس ولقف صناعة الحرب سماعا وعيانا، ثم شاء ربك رحمة منه بالناس أن يكون إلى جانب هذه الحياة القلقة المضطربة الخائفة حياة أخرى آمنة هادئة هي حياة الأدب الذي يتمثل في الشعر الغنائي الرقيق المأثور عن أبي ربيعة وجميل وكثير والنميري وغيرهم من شعراء ذلك الزمان. فعشا نظر الفتى الثقفي الحائر إلى ذلك النور المشرق. فجاءه واهتدى به، وعفت نفسه العطشى إلى ذلك المورد العذب فورده وارتوى منه، وبذلك أعتدل مزاجه، ورقت حواشي نفسه وأصبح وهو في السابعة عشرة من عمره أشرف ثقفي في زمانه كما يقول صاحب الأغاني، وأقبل الحجاج وهو هو في نقد الرجال

ص: 14

وتمييز الكفايات بعقد به آمالا كباراً، ويرشحه على حداثة سنه للأمر الجليل بعد الأمر الجليل.

لم يكد ينتصف العقد التاسع من القرن الأول الهجري حتى كانت الفتن التي صدعت وحدة الدولة الإسلامية من بعد معاويةقد ركدت ريحها، فانتهت ثورة ابن الزبير بالحجاز، وكسرت شوكة الخوارج بفارس، وسكنت العاصفة الهوجاء التي أثارها أبن الأشعث بالعراق. هنالك عاود العرب حبهم القديم للفتح والتغلب، وكان الحجاج واضع سياسة ذلك الاتجاه الجديد ومنفذها، فغزا قتيبة بن مسلم ما وراء النهر وأوغل فيها، وتوطد سلطان الدولة ببلاد عمان وغزا موسى بن نصير المغرب وقرع أبواب الأندلس نفسها. وقد أراد الحجاج أن تأخذ ثقيف بنصيبها من شرف هذه الفتوح الجسام، فأغزى أبن عمه محمد بن القاسم السند التي هي مدخل ذلك العالم الزاخر بالناس والحافل بالخيرات، والذي يسمى بلاد الهند. الحق أن الحجاج لم يبتكر سياسة غزو الهند فقد عرف هذه البلاد عرب شرقي الجزيرة منذ الجاهلية، وطالما ركبوا البحر إلى شواطئها مستبضعين وتجارا، فلما قامت الدولة الإسلامية طمعوا في غزوها وتملكها. يروي صاحب فتوح البلدان (أن عمر بن الخطاب ولى عثمان بن أبي العاص الثقفي البحرين وعمان سنة 15هـ فوجه أخاه الحكم إلى البحرين ومضى إلى عمان، فأقطع جيشا إلى تانه (قريب من موقع بومباي الحاضرة) فلما رجع الجيش كتب إلى عمر، فكتب إليه عمر: يا أخا ثقيف حملت ذودا على عود، وأني أحلف بالله أن لو أصيبوا لأخذت من قومك مثلهم)، وتتابعت غارات عرب البحرين من عبد القيس وغيرها على شواطئ الهند وجزائرها وخاصة جزيرة سيلان التي كان يقال لها إذ ذاك (جزيرة الياقوت) لحسن وجوه نسائها، فمن هؤلاء العرب من أفلح في المقام بها ومنهم من عاد إلى بلاده وملء يديه السبي الرائع والمغنم الوافر. هذا من ناحية العرب، أما من ناحية الهند أنفسهم فقد (هاجرت منهم في الجاهلية طوائف إلى رأس الخليج الفارسي وخضعت للدولة الفارسية القديمة، فلما مصرت البصرة نزلوهاوحالفوا من بها من العرب.)

فلما كان زمن الحجاج أغزى عماله على مكران ثغر السند فكلهم كان ينكب أو يقتل، وأرض السند عبارة عن حوض نهر السند العظيم تنزلها قبائل عديدة قوية نذكر منها الزط والسيابجة والميد والبرهة. وكان بالسند بلدان كثيرة منتشرة في أهضام الأودية ورؤوس

ص: 15

الجبال منها الديبل، وكانت ثغر السند قبل كراتشي الحاضرة وبرهمنا باذوراور والملتان. وكانت هذه البلدان قوية بمعابدها البوذية القديمة وخاصة معبد الملتان. قال البلاذري (وكان بُد الملتان تهدى إليه الأموال، وتنذر له النذور، ويحج إليه السند، ويطوفون به ويحلقون رؤوسهم ولحاهم عنده، ويزعمون أن صنما فيه هو أيوب النبي صلعم) أما من الناحية السياسية فقد كان يتوزع بلدان السند وقبائلها عدة ملوك متقاطعي الكلمة مختلفي الأهواء وكان أقواهم سلطاناً إبان غزو العرب للسند ملك يقال له داهر، فهو الذي أشجى قواد الحجاج وأذاقهم مرارة الهزيمة المرة بعد المرة. والطريف أن مصرع هؤلاء القواد لم يحمل الحجاج على الجد في قتال داهر بمقدار ما حمله عليه استغاثة امرأة عربية اعتدى عليها وعلى نسوة عربيات كن معها بعض قراصين البحر من أهل السند التابعين لداهر.

وذلك أن ملك جزيرة الياقوت فيما يروي البلاذري، أراد التقرب من الحجاج فأهدى إليه نسوة ولدن في بلاده مسلمات ومات آباؤهن وكانوا تجارا، فعرض للسفينة التي كن فيها قراصين من ميدالديبل فاخذوا السفينة بما فيها، فنادت امرأة منهن من بني يربوع: يا حجاج! وبلغ الحجاج ذلك، فقال يا لبيك! وأرسل من فوره إلى داهر يسأله تخلية النسوة. فأجاب بأنه أخذهن لصوص لا قدرة له عليهم. فأغزى الحجاج اثنين من عماله ثغر السند فكلاهما قتل، فأهتاج الحجاج وتجرد لقتال داهر، وكان قد أعد محمد بن القاسم لغزو الري فلما حدث ما حدث على حدود السند رأى في هذا الشاب من يرأب الصدع ويدرك الثأر، فرده عن غزو الري وعقد له على مكران وثغر السند، وأمره أن يقيم بشيراز حتى توافيه القوة التي أخذ يعدها لقتال داهر.

كانت هذه القوة مؤلفة من جيش وأسطول، أما الجيش فكانت عدته زهاء عشرين ألف مقاتل منهم ستة آلاف فارس من جند الشام الذين كانوا عدة الدولة الأموية ومعولها والذين وطئوا للأمويين أكناف ملكهم شرقا وغربا وشمالا وجنوبا. وأما الأسطول فكان يحمل المشاة والمؤن وعدد الحرب الثقيلة. ومن هذه خمس مجانيق ضخام، يقال لأكبرها (العروس) ويروي البلاذري أنه كان يمد فيها خمسمائة رجل. وبالغ الحجاج على عادته في إعداد الجيش حتى انه (. . . جهزه بكل ما أحتاج من الخيوط والمسال وعمد إلى القطن المحلوج فنقع في الخل الخمر الحاذق ثم جفف في الظل، فقال إذا صرتم إلى السند فأن

ص: 16

الخل بها ضيق فانقعوا هذا القطن ثم أطبخوا به وأصطبغوا، ثم تقدم إلى محمد ألاّ يقطع عنه أخباره بحيث يختلف البريد بينهما مرة كل ثلاثة أيام.

خرج محمد بن القاسم بجيشه من شيراز عام سنةهـ590 فسار مشرقا متبعاً ساحل البحر يطوي الحزون والسهول، ويجوب المهامه والقفار، ويحدوه ما يحدوه الشباب الحي من حب للمجد وتعلق بأسباب المعالي، فتغلب على صحارى كرمان ومكران، وبلغ الديبل سالما. ولم يكد يحط رحاله حتى كان الأسطول قد وافاه بها. فشرع من فوره في مهاجمة المدينة. قال صاحب فتوح البلدان، (فقدم الديبل يوم جمعة ووافته سفن كان حمل فيها الرجال والسلاح والأداة فخندق حين نزل الديبل وركزت الرماح على الخندق ونشرت الأعلام وأنزل الناس على راياتهم ونصب منجنيقاً تعرف بالعروس كان يمد فيها خمسمائة رجل.) وكان بالديبل (بد) عظيم عليه دقل طويل وعلى الدقل (سهم السفينة) راية حمراء إذا هبت الريح أطافت بالمدينة وكانت تدور. . . وكانت كتب الحجاج ترد على محمد وكتب محمد ترد عليه بصفة ما قبله واستطلاع رأيه فيما يعمل به في كل ثلاثة أيام. فورد على محمد من الحجاج كتاب أن انصب العروس واقصر منها قامة، ولتكن مما يلي المشرق، ثم أدع صاحبها فمره أن يقصد برميته الدقل الذي وصفت لي. فرمى الدقل فكسر، فاشتد طرة (جزع) الكفر من ذلك ثم أن محمد ناهضهم وقد خرجوا اليه فهزمهم حتى ردهم أمر بالسلاليم فوضعت وصعد عليها الرجال. . . ففتحت عنوة. . . وهرب عامل داهر عنها. . . واختط محمد للمسلمين بها وبنى مسجداً وأنزلها أربعة آلاف، ثم سار محمد مصعداً مع النهر يريد داهر، وعظم جيشه فاستولى على مدينة الرور صلحاً. وأنضم اليه على اثر ذلك أربعة آلاف من الزط، وصار كثير من قبائل السند عونا له في حربه مع داهر. ثم عبر نهر مهران والتقى بداهر وجيشه. وكان على فيل عظيم ومن حوله الجند على فيلة تنذر محمداً وجيشه بفتك ذريع، ولكن محمدا أنقى شر الفيلة، بقذائف النفط الملتهب يرميها بها فهاجت واحترقت هوادجها بمن فيها من الجند، وانتشب بين الفريقين قتال هائل انجلى عن قتل داهر وتمزق جيشه، وتراجع فلوله إلى مدينة برهمنا باذ واقتفي محمد اثر تلك الفلول فاستولى على مدينة رور فبرهمنا باذ نفسها، ومن ثم زحف إلى مدينة الرور فحاصرها اشهرا ثم دانت له على أن يحقن دماء أهلها وألا يعرض لبدهم، وأن يؤدوا إليه الخراج. وقد وفي لهم بشرطهم وبنى

ص: 17

بالمدينة مسجداً. ثم قطع نهر بياس إلى الملتان أعظم بلدان السند العليا فامتنعت عليه أول الأمر ثم استولى عليه بممآلاة رجل من أهلها له. ووضع يده على أموال جسيمة كانت بمعبدها البوذى.

كانت الملتان أقصى ما وصل إليه ابن القاسم من ناحية الشمال، قال البلاذري:(ونظر الحجاج فإذا هو قد أنفق على محمد بن القاسم ستين ألف ألف درهم، ووجد ما حمل إليه عشرين ومائة ألف ألف، فقال: شفينا غيظنا وأدركنا أثارنا وازددنا ستين ألف ألف درهم ورأس داهر).

أخذت الملتان سنة 95هـ وعلى أثر ذلك أتت محمدا وفاة الحجاج فقفل راجعا نحو الجنوب مستولياً في طريقه على مدن لملوك آخرين غير داهر، وكان آخر ما فتح مدينة يقال لها (الكيرج) استولى عليها عنوة سنة 96هـ ثم أتاه نعي الخليفة الوليد بن عبد الملك وولاية أخيه سليمان، فلم يبرح تلك المدينة، وقلب له الدهر من ذلك الوقت ظهر المجن، وأخذ نجمه في الأفول.

لا شك أن الحجاج كان موفقا عندما عهد إلى ذلك الشاب قيادة تلك الحملة الخطيرة. فأن محمداً بحداثة سنه وصدق فروسيته قد ملك زمام أصحابه فلا نسمع أن أحدا منهم حدثته نفسه بخلاف عليه أو عصيان له. ثم أنه بهذه الخلال نفسها وبرجاحة عقله وسعة حلمه اجتذب قلوب السند أنفسهم، فقد قارنوا بينه وبين ملوكهم المترفين المتجبرين المتخاذلين فلم يتمالك كثير من قبائلهم أن إعطاء الطاعة وأخذ جانبه في الحرب كما سبق القول. ويروى أنه عندما شرط عليه أهل المدينة الرور ألا يقرب بدهم وفي لهم بذلك وقال:(ما البد إلا ككنائس النصارى واليهود وبيوت نيران المجوس)، وكانت حكومته اياهم عادلة رفيقة إذا قيست بحكومة ملوكهم وأمرائهم، فقد تقدم إلى عماله بهذه النصيحة: أنصفوا الناس من أنفسكم، وإذا كانت قسمة فأقسموا بالسوية، وراعوا في فرض الخراج مقدرة الناس على أدائه ولا تختلفوا ولا تنازعوا فتشقى بكم البلاد. ثم أنه كان مدركا كل الإدراك أن عليه واجبين عظيمين: عليه أن ينشر في البلدان التي فتحها الثقافة الإسلامية، وأن يصل بين الشرق والغرب الإسلاميين، من أجل ذلك كان إذا فتح مدينة أنزلها بعض أصحابه، وبنى بها مسجداً. ومن أجل ذلك نقل طوائف من الزط والسيابجة إلى العراق فانزل الحجاج

ص: 18

بعضهم كورة كسكر بفارس، ووجه بقيتهم إلى الخليفة، فانزلهم أنطاكية وسواحل الشام لينتفع بخبرتهم البحرية في قتال الروم، كذلك أرسل إلى الحجاج فيلة سميت ببعضها مشرعة الفيل التي كانت بواسط، كما بعث إليه بآلاف من الجواميس السندية، فاطلق الحجاج بعضها في آجام كسكر وكور دجلة، وبعث كثيرا منها إلى الخليفة فاطلقها في الآجام التي بين أنطاكية والمصيصة، واتقى بها سباع تلك الآجام وكانت قد كثرت وأخافت السابلة. وقد نمت هذه الماشية بالعراق على مر الزمن حتى أصبحت من أسباب ثروته الاقتصادية في الوقت الحاضر.

تلك غزوة محمد بن القاسم للسند. أنها لا شك تذكرنا بغزو الاسكندر المقدوني لتلك البلاد نفسها في أخريات القرن الرابع قبل الميلاد. فالغزوتان تتشابهان من عدة وجوه، تتشابهان من حيث أن كلتيهما برية بحرية إلى حد بعيد، ومن حيث حداثة كلا الفاتحين وكفايته، ومن حيث أن كليهما نهج في نشر ثقافته بالسند نفس المنهج الذي نهجه الآخر، ومن حيث أن كليهما كان يهدي إلى أستاذه طرفا من طرف فتوحه ويراسله مستطلعاً رأيه، فالفاتح المقدوني كان يهدي إلى أرسطو ويراسله، والفاتح العربي كان يهدي إلى الحجاج ويراسله مصدراً في بعض المواقف عن رأيه. ولو أن أهل السند الذين غزاهم ابن القاسم، والذين قد يكون منهم من يدين بشرعة التناسخ ذكروا تاريخ بلادهم القديم فربما رأوا في الفاتح العربي الحديث انبعاث روح الفاتح المقدوني القديم.

وبعد فماذا كان مصير ذلك الفاتح العظيم؟ لقد جوزى جزاء سنمار وصار إلى شر مصير، فقد نكبه الخليفة سليمان بن عبد الملك نكبة كان فيها تلف مهجته وبوار نفسه. والمصادر القديمة مختلفة في تعليل تلك النكبة، فالمصادر الفارسية، وهي حديثة نسبياً غير موثوق بها تزعم أن بنات داهر أفضين إلى الخليفة بأن أبن القاسم عبث بهن، فأضطرم الخليفة غيظا وأمر بمحمد فوضع في أديم بقرة ثم خيط عليه الأديم وحمل إلى دمشق ففاضت روحه بالطريق فلما بلغ بنات داهر مصرع الفتى استشعرن الندم وقلن أنهن تجنين على ابن القاسم انتقاما ممن قتل أباهن وثل عرشه، فاشتد غضب الخليفة عند ذلك وأمر بهن فقتلهن شر قتلة: أما المصادر العربية وهي أقدم من المصادر الفارسية وأوثق فلا تذكر شيئا من أمر النسوة، ويؤخذ منها أن الخليفة سليمان بن عبد الملك كان مضطغنا على الحجاج لأنه

ص: 19

كان قد زين للخليفة الوليد ابن عبد الملك خلع سليمان من ولاية العهد: أما وقد فارق الحجاج هذه الدنيا فقد رأى سليمان أن يشفي غيظه من أقربائه متأثرا في ذلك بنظام الثأر عند العرب. وقد أذكى نار الحقد والموجدة في صدره رجلان كلاهما قد وتره الحجاج وكلاهما كان متأثرا بالعصبية القبلية بين قيس واليمن: أحدهما يزيد ابن المهلب وكان أثيرا مكينا لدى الخليفة، والآخر صالح بن عبد الرحمن وقد ولاه سليمان خراج العراق.

عزل محمد عن السند وولى مكانه يزيد بن أبي كبشه السكسكي فأخذ محمدا وقيده وسيره إلى العراق مع رجل من بني المهلب على حال حركت قلوب أهل السند فبكوا عليه وصوره أهل الكيرج بمدينتهم التي كان منها شخوصه، وقد تلقى محمد المحنه صابراً محتسبا ولم يكن في محنته أقل شجاعة وصبرا أو أنفة منه وقت الحرب وحين البأس. والغريب أنه على إخلاص أصحابه له وعطف السند عليه لم تحدثه نفسه بالخلاف والانتقاض. والظاهر أنه أيقن أن قد أدى واجبه وأن الحياة أصبحت بعد ذلك لغوا وفضولا لا طائل فيه. وقد جعل يسري عن نفسه بمقطوعات من الشعر ضمنها آلامه وخواطر نفسه. فمن ذلك قوله مشيرا إلى أنه لو أراد الثورة لشق على أعدائه تهضمه.

ولو كنت أجمعت القرار لوطئت

إناث أعدت للوغى وذكور

وما دخلت خيل السكاسك أرضنا

ولا كان من عك على أمير

ولا كنت للعبد المزوني تابعاً

فيالك دهر بالكرام عثور

ولما صار إلى واسط حبسه صالح بن عبد الرحمن فقال:

فلئن ثويت بواسط وبأرضها

رهن الحديد مكبلا مغلولا

فلرب قينة فارس قد رعتها

ولرب قرن قد تركت قتيلا

وعذبه صالح في رجال من أقرباء الحجاج حتى قتلهم، فطفق الشعراء يرثون محمدا ويذكرون فضائله، فمن ذلك قول بعضهم:

أن المروءة والسماحة والندى

لمحمد بن القاسم بن محمد

ساس الجيوش لسبع عشرة حجة

يا قرب ذلك سؤددا من مولد

وقال آخر:

ساس الجيوش لسبع عشرة حجة

ولداته عن ذاك في أشغال

ص: 20

تلك خاتمة فتى فتيان العرب وسيد فرسانهم غبر مدافع. فمن مبلغ مسلمي الأرض عامة والهند خاصة ان الدوحة الإسلامية العالية التي أظلت بلاد الهند طوال العصور الوسطى، إنما كانت غرس ذلك الفتى العربي النبيل؟ فليذكر ذلك الذاكرون فقد تبل الذكرى رفات ذلك الشهيد في قبره، بعد أن عدم في حياته من يحمد بلاده أو يرحم شبابه؟

ص: 21

‌000 ثم أرادت أن تجعل منه رجلا!

للدكتور محمد عوض محمد

لقد قض الأمر، وزوجت منه!. . .

فيا للعجب! كيف ألم بالدهر هذا الحادث الخطير، والشمس ما برحت في السماء تجري لمستقر لها، والأرض مازالت تدور حول محورها المائل المنحرف، وتطوف من حول الشمس وتمعن في الطواف؟ والقمر ? أجل القمر ولميزل ينتقل بين منازله المقدرة له من الأزل. . فكيف إذن نزل ذلك الخطب؟

أكبر الظن أن القمر المذكور هوسبب تلك النكبة. أجل هو وحده المسئول عن تلك الكارثة. فأن ليلى قد التقت بأحمد من قبل مرار، في وضح النهار، فلم تر فيه إلا فتى حسن الصورة، ولم تحس نحوه ميلا ولا حبا. . لكنها التفت به بعد ذلك على شاطئ النيل، في ليلة يلمع فيها بدر التمام؛ فإذا القمر يوسوس في صدرها، ويثير في فكرها الأوهام، ويريها صورة ذلك الفتى، وكأنها تمثال لكل ما يتوق إليه قلب المرأة التواق من سحر وجمال وشعر وأحلام أما صوته المتكسر الواهي، فكان يرن في إذنيها كالموسيقى العذبة لكنها كانت من طراز موسيقى شوبرت الرقيقة، لا موسيقى وأغنر العنيفة القوية. . ولقد ساورها الشك لحظة، وأرادت أن تسأل نفسها:(أنى لرجل كامل الرجولة أن يكون في صوته كل هذه الرقة وهذا التكسر؟) لكن القمر لم يدعها طويلا تتلاعب بها الشكوك، بل أوحي اليها بسرعة أن ذلك من أثر العشق الذي استحوذ على أحمد، فرقق من صوته وأكسبه كل هذا اللين والعذوبة والغور!. وكان القمر في هذا كاذبا؛ والحقيقة أن أحمد كان من ذلك الجنس الناعم الخائر الذي يبرأ منه الرجال والنساء على السواء.

فلم تنقض تلك الليلة المقمرة الساحرة حتى كان الحب مالئا قلب ليلى؛ وقد جعل على عينيها غشاوة لن يزيلها الا تعاقب الليل والنهار.

وهكذا تم النصر للقمر الماكر! وياليت الزهرة كانت في السماء تلك الليلة، إذن لمحضت ليلى النصح، وفتحت عينيها لما هو محدق بها من الخطر؛ لكن الزهرة لم تكن (ياللاسف!) في السماء. وهل في الدهر سواها نصير للفتيات يرد عنها الغوائل، ويهديهن سواء السبيل، ويأخذ بأيديهن كي لا يتردين في كل هوة مخيفة ? أما القمر فنصير الفتيان، وعلى

ص: 22

الخصوص اولئك الفتيان الخائرون المتكسرون، الذين يشبهونه بوجوههم المليحة الناعمة الشاحبة الخالية من كل قوة ونخوة. . ولم تك إلا أسابيع قلائل، حتى زوجت منه وقضي الأمر! والشمس ما برحت في السماء تجري لمستقر لها، والأرض ما انفكت تدور حول محورها المائل المنحرف

ثم كان شهر العسل!

فأما الشهر فلم يكن كشهري وشهرك أيها القارئ، مؤلفا من ثلاثين يوما، أو أحد وثلاثين يوما على أكبر تقدير. بل لقد استطاع الحب (وهو ذلك الساحر البارع) أن يمسه بعصاه، فإذا هو يمتد من أول مايو إلى آخر أكتوبر؛ وإن يوما عند الحب كألف يوم مما تعدون!

هذا ما كان من أمر الشهرّ وأما ما كان من أمر العسل فقد كان أريا شهيا، وشهدا جنيا، وحلاوة وعذوبة ليس وراءهما حلاوة ولا عذوبة، وخمرة سائغة، لم تتناولها بالتحريم شرائع السماء، ولا قوانين الولايات المتحدة.

وظلا غارقين في ذلك البحر الخضم، فلم تنتبه ليلى، ولم تشأ أن تنتبه. وإن كان في الغرقكل هذه السعادة والنعيم، فالويل لمن يفكر في إنقاذ الغرقى!

وسيقول الناس: أن الحب يعمى ويصم، وأنا أربأ بالقارئ أن يكون ممن يرون هذا الرأي، فأن العمى والصم هما (فيما يقال) عاهتان، وما أبعد الحب (وأبعد به) أن يكون مسببا للآفات والعاهات وإنما الصواب أن نقول أن الحب يضع على العينين عصابة من ذلك الطراز الجميل الذي يعصبون به عيني الثور حين يدور بالساقية، فلا يزال يدور ثم يدور، وهو يحسب نفسه قد طاف حول الكرة الأرضية.

وكذلك قد صور الحب لليلى أنها قد طافت العالم وأحرزت الدنيا بأسرها.

كل هذا، والشمس ما برحت في السماء تجري لمستقر لها، والأرض مازالت تدور حول محورها المائل المنحرف.

ثم لم يكن بد من أن يجيء اليوم الهائل المحتوم بعد أن ولى الربيع، وذهب في أثره الصيف، وأتى بعدهما الخريف الذي لا يدارى ولا يمارى، بل يظهر الحقيقة عارية مجردة جافة.

وفي يوم من أيام الخريف بسط الدهر يديه القويتين فجأة، وكشف الغطاء عن عيني ليلى!

ص: 23

نظرت، فلم تصدق الرؤيا التي رأتها. . أجل وقد حسبتها رؤيا مما يراه النائم الغارق في نومه. وكبر مقتاً عندها أن يكون هذا مما تراه هي. . حتى في الحلم. . . فجعلت تغمض عينيها، ثم تفتحهماّ، مرارا. . . لا الفارق أنها ليست نائمة، وهذا الذي تراه ليس حلما. . هو الحقيقة إذن ? أجل وليس بمجديها أن تحاول إنكارها. . صحيح إذن أنها رضيت أحمد هذا زوجا، وأنه (يا للهول!) قد شغفها حبا فلم تكترث للناصحين والعذال. . رضيت بذلك الكائن الممسوخ زوجا، ليكون لها في الحياة رفيقا وعدة وذخرا. ذلك المخلوق اللين المتكسر الخائر، الذي ليس في قلبه همة، ولا في رأسه نخوة، ولا مطمح له في الحياة ولا مأرب، ولا عزمة له ولا إرادة! أن الناس تصفه ظلما بأنه يشبه النساء، وهذا كذب، بل كفر، بل شر من الكفر. أن النساء أجل وأكرم من أن ينتسب إليهن هذا المخلوق، هذا اللين المستخذي، هذا الناعم الخائر، هذا التافه ذو الوجه (الكارت بوستال). ذو الصورة السينمائية الفاترة، الخالية من كل روح ومعنى.

أيمثل هذا الشيء تجن هي. . ليلى؟ ليلى التي طالما جشم أبوها نفسه وجشمها كل عناء وبلاء في سبيل تأديبها وتثقيفها، لايألو في ذلك جهدا ولا مالاً ولا وسيلة! ألم يهيئ لها الأسباب لتتلقى العلم في مصر على خير أساتذة مصر، وفي إنجلترة في خير معاهد إنجلترة وأعظمها جميعا؟. . أجل وما أشد سرورها يوم ألفت نفسها، وهي بنت النيل، في نيونهام كولدج تتلقى العلم هي وبنات النبلاء جنبا لجنب؛ وكان نجمها الساطع محلقا في السماء لا يعلو عليه نجم، ولها بين صواحبها منزلة ومكانة وشهرة قد جاوزت نيونهام إلى جميع دور العلم بكامبردج؛ وملأ الإعجاب بليلى المصرية صدور الشباب من الطلبة، والشيب من الأساتذة المحنكين. . ولقد طالما حاول الكثير من كرام الفتيان أن يتقرب إليها، فكانت ترده في حزم ولطف وتواضع لم يزدها إلا سموا وتقديرا.

ثم تلك الرسالة البديعة التي كتبتها عن الفلسفة العربية؛ فكانت نصرا باهرا، وتاجا براقا لتلك السنين الخمس، التي قضتها في جد ودأب لا تعرف الدعة ولا الهوادة.

وهبطت مصر، تزدحم في صدرهم الآمال، وتريد أن تتبوأ مكانها بين قومها لكي تعمل على نصرهم وسؤددهم، بكل ما أوتيت من قوة وهمة؛ ولم تجد بأسا في أن يكون لها في جهادها العنيف رفيق يشد أزرها ساعدها. ولم تكن ليلى من النساء اللواتي أغلقت قلوبهم

ص: 24

دون الحب برتاج غليظ. . ولكن شاءت المقادير العجيبة أن يكون رفيقها الذي تختاره وترتضيه هو ذلك المخلوق الناعم الخائر، ذلك اللين المستخذي، ذا الوجه الكارت بوستال.

والشمس مازالت في السماء تجري لمستقر لها، والأرض ما برحت تدور حول محورها المائل المنحرف.

وجلست ليلى وهي تطل من نافذتها، تنظر إلى النيل إذ يندفع تياره من الجنوب إلى الشمال، وإلى أشجار الصفصاف، وقد تدلت غصونها إلى الماء كأنها عبرات تسيل؟ وإلى السحب الحمراء قد خلفها الغروب. ومن دونها الأهرام قائمة على الأفق، وإلى الزهرة في السماء تتألق وترقص بين السحاب.

أدركت ليلى أنها أخطأت. . أجل أخطأت برغم كل ما وعاه صدرها من علم وأدب وحكمة وفلسفة، وارتكاب الخطأ حق طبيعي لكل رجل، بل ولكل أمراءه أيضا. . الحيوانات لا تخطيء، لأنها تصدر في أعمالها عن الغريزة، والغريزة معصومة عن الزلل. أما أبناء آدم وبناته فيصدرون عن العقل، وهو كثير العثرات.

إذن ليس ببدع أن تكون ليلى قد ارتكبت خطأ، وليس بعد الخطأ إلا محاولة الإصلاح. . لكن كيف السبيل إلى إصلاح هذا الخطأ؟ ليست الأمراض سواء في قبولها للعلاج، وليست الأخطاء سواء في قبولها للإصلاح.

حاولت ليلى أن تلتمس الإلهام مما تعلمه من حكمة وفلسفة. ولكنها لم تلبث أن تبينت أن ليس هذا بمجديها نفعا. إن للفلاسفة في هذا الموضوع الخطير آراء قلما تسمن أو تغني. . .

إن (نيتشه) الذي تحبه لم يتزوج و (كانت) العظيم عاش عمره الطويل لم يتزوج، وأبو العلاء لم يجن على أحد، و (شوبنهاور) كثيرا ما كان يؤثر صحبة الكلاب على الخلان والأصدقاء، وسقراط وافلارطون؟. . أولى بها ألا تفكر الآن في سقراط وأفلاطون. . . لا. . ليس بنافعها أن ترجع إلى القدماء، كي يحلوا لها مشكلتها الحديثة. . لا بد لها أن تركن إلى نفسها وأن تعتمد على فلسفتها هي. .

أجل وأن لها في هذا الأمر لفلسفة خاصة، ورأيا ستحاول إنفاذه: أنها سوف تصلح أمر أحمد، وسوف تقوم معوجة، وسوف تجعل منه رجلا. . هذا المرام البعيد، الذي يراه الناس

ص: 25

محالا، كانت تحس في أعماق صدرها أنه ليس بمحال، أتراها وفقت إلى العثور على ذلك الحجر العزيز: حجز الفلاسفة فأمست قادرة على أن تحيل الخسيس نفيسا، والدنيء رفيعا؟

كلا! أن ليلى لن تحاول أن تنال بغيتها عن طريق المعجزات بل لقد رأت في أمر زوجها رأيا، حسبته رأيا سديدا، وكان وليد تدبير طويل، وتفكير عميق. . رأت أن أحمد تعوزه الرجولة، في مظهره ومخبره، وفي جسده وفي روحه، في حركاته وتفكيره. وقد عملت أن ليس إصلاح الروح بالشيء اليسير: لكنها تستطيع (على الأقل) أن تكسبه مظهر الرجال. فلتأمره إذن (وهو لها طيع ذلول) أن يلبس الخشن من الثياب: وأن ينعل الخشن من الأحذية: وأن ينطلق إلى ضيعة أبيها فيقيم هنالك شهرين أو ثلاثة أشهر؛ يعمل في حقولها كل يوم، حارثا وزارعا حاصدا، وعليه أن يرسل لحيته وشاربه حتى يغطي الشعر وجهه. . ثم يعود إليها بعد ذلك، وقد لبس حلة الرجولة سابغة شاملة، فمن يد خشنة الملمس، إلى ذراع قوية متينة؛ إلى وجه قد لوحته الشمس يكسوه شارب طويل ولحية مرسلة. أما صوته الناعم الفاتر، فلا بد أن يكتسب شيئا من الخشونة من كثرة ندائه للثيرة، وصياحه خلف المحاريث.

وكانت ليلى تعلم أن هذه كلها ظواهر، ليس فيها نفع ولا غناء، ولكنها كانت مؤمنة بأن إصلاح العرض سيفضي إلى إصلاح الجوهر، الصلاح الإناء وسيلة لإصلاح الشراب؛ وأن أحمد لا يلبث أن يكتسب مظهر الرجولة، حتى تتسرب بعد ذلك إلى لحمه ودمه بفضل ما بين الروح والجسد من رباط متين.

وأحسبها قد اقتبست هذا الرأي من بعض ما درسته من فلسفة وحكمة؛ لكنها كانت أشد أيمانا به من الحكماء الذين قالوا به. وما هي إلا أيام قلائل حتى مضت في تنفيذه، فانطلق أحمد إلى الريف وبقيت ليلى وحدها الليالي والأيام ترقب دورة الفلك؛ والشمس ما برحت في السماء تجري لمستقر لها، والأرض ما فتئت تدور حول محورها المائل المنحرف.

وفي مساء يوم عبوس متجهم من أيام أمشير؛ تلبدت السماء بسحاب أسود قاتم، وكان يعدو من المغرب إلى المشرق؛ طبقات بعضها فوق بعض؛ تحمله في السماء ريح عاصف. . وعلى الأرض زعزع نكباء تثير الموج على صفحات النيل، وتهز جذوع الصفصاف هزا عنيفا، وقد ثارت الزوابع تحمل العثير المطار إلى كل عين وكل أنف. . ومشت ليلى نحو

ص: 26

النافذة فأغلقتها في بطء شديد وحزن شديد، مطأطئة رأسها في كآبة وكمد. ثم سقطت على سرير ممدود وجعلت تسفك العبرات وتعول بالبكاء. . بصوت لولا دوي الريح لأسمع من بالدار. وما أشد حاجتها في ذلك المساء إلى الوحدة وإلى البعد عن الناس وإلى البكاء تطفئ به ذلك الجحيم المستعمر في صدرها وفي أحشائها.

مسكينة ليلى! إن فلسفتها قد خابت، وتجربتها قد فشلت! وكل هذا التقدير والتدبير والسعي والاحتيال لم يصادف إلا حبوطا أليما، وخيبة قاتلة. إن الداء كان عضالا، والسم قد سرى إلى الرأس والأوصال، والعرق والعصب؛ فاستفحل واستمكن، ولات حين علاج، ولات حين شفاء. .

واختلط الحزن في قلبها، وألح عليها من كل جانب، فليس يدرى أي خطبيها أشد وأقتل؛ فشل تلك التجربة وذلك الرأي السديد الذي حسبته زبدة الحكمة وخلاصة الفلسفة، أم كارثتها في هذا المخلوق الذي بات حتما عليها أن ترضاه، وهو دون الرضى، وأن تعتمد عليه في الحياة، وهو ذلك الرطب العاجز المائع.

لقد فشل تدبيرها فشلا ذريعا، فأن المسكين لم يطق الريف، ولم يلبث أن أسأمه وأضناه، فقضى أيامه هناك بين سقم وبين الإفاقة من سقم، حتى أشفقت عليه ليلى وأذنت له أن يعود. أما ذلك الشعرالقليل الذي نبت على خديه وشفتيه، فلم يك الاغشاءً رقيقا تافها، لم يقربه من الرجولة قيد شعرة.

مسكينة ليلى! أن الرزء الذي رزئته لشديد. ولم يبق لها من وسيلة تتوسل بها سوى الصبر، والصبر أوهى الوسائل. . وما أشد حاجتها لأن يكون لديها من هذه الوسيلة الواهية ذخيرة لا تنفذ، ذخيرة تكفيها العمر كله. . لا بد أن يكون في العالم شهداء يحملون الأرزاء، فلا رأى اليوم إلا أن تكون كأحدهم. ولئن كان رزؤها هذا من صنع يديها، فما أحقها بحمله والاضطلاع به. . مدى الحياة.

لقد سخرت منها المقادير، حين أرتها الحياة حلما زاهيا، وزهرا نظيرا، واليوم وقد آن للزهر أن يحول ثمرا وللدوحة أن تؤتي أكلها، إذا الأقدار تسلط عليها هذا السقم العضال يذويها ويفنيها. لم يبق لها بد إذن من أن تودع هذه الأحلام جوف الثرى، في غير رحمة ولا هوادة، وتستقبل هذا العهد الجديد، عهد الشهداء الصابرين في قوة وجلد.

ص: 27

لا جرم أن الانتقال إلى تلك الحال ليس بالشيء اليسير، ولكن لعل أسابيع تقضيها (هي) في الريف، وتفكير، أن تعدها لهذا العهد الجديد، هذا العهد القاسي الشديد.

ونهضت متماسكة من سريرها، وسارت إلى النافذة ففتحتها، وجلست على كرسي صغير بجانبها. . وجعلت تنظر إلى الغيث وقد أخذ ينهمر مدرارا، وإلى الرياح وهي تميله يمنا وشمالا. .

ثم أخذ ينهمر على خديها مطر (غزير) لم يكن مما أسقطه السحاب، أو دفعته الرياح. .

والشمس من خلف الأفق تجري لا مستقر لها، والأرض ما برحت تدور حول محورها المائل المنحرف.

فيا عجبا لهذا الكوكب السخيف! كيف آثر الانحراف على الاعتدال، والميل على الاستقامة؟

ص: 28

‌العرب والفرس قبل الإسلام

للدكتور عبد الوهاب عزام

سأجمل في هذا المقال، ما يعرفه التاريخ وترويه الأساطير من الصلات بين العرب والفرس قبل الإسلام، وعسى أن يكشف التاريخ عن صلات أخرى بين الأمتين، أو يبين عن حقائق تفسر بعض هذه الأساطير.

ويمكن تقسيم الروايات إلى قسمين: ما قبل العهد الساساني وهي أساطير، وما بعده وهي تاريخ أو قريب من التاريخ.

أ. قبل عهد الساسانيين

الأساطير تتفق عليها الكتب العربية والفارسية، وأعظم مصادرها كتاب الشاهنامة للفردوسي، ومنها:

1.

أسطورة الضحاك

وأجمالها أن الضحك هذا كان أبن أمير عربي من أمراء اليمن أسمه مزداس تمثل له الشيطان في صورة شاب صبيح وزين له قتل أبيه فقتله. ثم تمثل له في صورة طباخ وأعلمه أنه حاذق في تجويد الأطعمة، خبير بأصنافها، فأتخذه الضحاك طباخا له فطبخ له اللحم، وكان الناس من قبل لا يأكلونه، فاستطاب الضحاك ألوان اللحم التي قدمها له طباخه فقربه وركن إليه.

ثم سأل الطباخ سيده أن يأذن له تقبيل كتفيه، فقبلهما ثم ساخ في الأرض فلم يعرف أثره، ونبت على منكبي الضحاك سلعتان كأنهما حيتان فذعر لذلك وأستدعى الأطباء فلم يهتدوا في أمرهما إلى دواء، وكان الضحاك يحس لهما وجعا. فتمثل الشيطان في صورة طبيب وأشار على الأمير أن يطلي السلعتين بأدمغة البشر، ففعل وسكن الألم، فدأب على ذلك لا يستريح إلا أن يقتل بعض الناس فيدهن بدماغهم حيتيه.

وكان جمشيد ملك الفرس قد عتا وتجبر وادعى الألوهية، ففزع الفرس إلى الضحاك يستغيثونه، فسار اليهم في جند كثيف وتعقب جمشيد حتى قتله. ثم تسلط على بلاد الفرس وسام الناس ألوان العذاب حتى ثار به جاوه الحداد ودعا الناس إلى تمليك أفريدون. وحارب أفريدون الضحاك فهزمه، ثم أخذه فقيده وسجنه على جبال دماوند. ويقال أن جاءوه

ص: 29

الحداد حينما أزمع الثورة أخذ الجلدة التي كان يضعها على حجره حين طرق الحديد فعلقها في عصا وجعلها علم الثورة، وأتخذها الفرس من بعد لواءً مقدسا سموه (العلم الجاوى)(دوفش كاوباني).

وإذا نظرنا إلى تواريخ الشهنامة وجدنا الضحاك يتملك على إيران قبل الميلاد بألفين وثمانمائة سنة: وذلك يوافق عهد الدولة البابلية. فإن كان وراء هذه الأسطورة حقيقة فهي تسلط الساميين على إيران. ويؤيد هذا أن كتاب الابستاق يجعل مقر الضحاك مدينة بوري، وهي بابل، وكذلك نجد في نزهة القلوب للقزويني أن بابل كانت مستقر الضحاك ونمرود.

وقد أشار إلى قصة الضحاك أبو تمام إذ قال:

ما نال ما قد نال فرعون ولا

هامان في الدنيا ولا قارون

بل كان كالضحاك في سطواته

بالعالمين وأنت أفريدون

وأفتخر أبو نواس في قصيدته التي يفخر فيها بقومه القحطانيين:

وكان منا الضحاك يعبده ال

خابل والجن في مساريها.

2.

وفي الشاهنامة وغيرها من الكتب العربية والفارسية أن أفريدون زوج أبناءه الثلاثة (تورا) و (سلما) و (ايرج) من ثلاث بنات لملك من ملوك اليمن، وأفريدون عند الآريين يشبه نوحا عند الساميين، نسل من أبنائه الثلاثة خلق كثير، فتور أبو ملوك توران! وايرج ابو ملوك إيران وسلم أبو ملوك الروم، فالمصاهرة بين أفريدون وملك اليمن تجعل العربأخوال كل من نسل من بني أفريدون.

3.

وكذلك نجد في الأساطير الفارسية أن مهراب ملك كابل في عهد الملك منوجهر عربي من نسل الضحاك، وأن (زال) بن سام تزوج بنت مهراب فولدت له رستم بطل أبطال الفرس، فرستم إذن له خؤولة في العرب.

4.

ومن الروايات التي هي أقرب إلى التاريخ مما تقدم حرب كيكاوس وملك هاماوران (حمير) وأسر كيكاوس في بلاد اليمن، وتنازع أفراسياب ملك التورانيين، العرب على ملك إيران، ثم ذهاب رستم إلىاليمن وتخليص كيكاوس. ويقول أبو نواس في القصيدة التي ذكرتها آنفا:

وقاض قابوس في سلاسلنا

سنين سبعا وفت لحسابها

ص: 30

وكان الكيكاوس، في القرن العاشر قبل الميلاد في حساب الشاهنامه. وفي بعض الكتب العربية أن ملك اليمن اذ ذاك كان ذا الأزعار أبن أبرهة ذي المنار بن الرائش.

5.

ومما تقصه الروايات في هذا العهد عهد الكيانيين، الحرب بين داراب وبين رجل عربي أسمه شعيب بن قتيب. وداراب هذا هو، في غالب الظن، داريوس أخوس (424 - 404 ق. م) وأعظم الحوادث في عهد الساسانيين وهو أقرب إلى التاريخ وكثير من حوادثه واقعات تأريخيه:

ب - بعد عهد الساسانيين

1.

قصة سابور الأول (241 - 272م) وملك الحضر، وهو الضيزن بن معاوية القضاعي، أو الساطرون كما في بعض الكتب. وذلك أن الضيزن أغار على فارس وأسر أخت سابور أو عمته، فسار سابور إليه وحاصر الحضر حتى استولى عليه بخيانة بنت الضيزن.

والحضر كان مدينة بالجزيرة الفراتية على أربعين ميلا من دجلة نحو الغرب إزاء تكريت، وعلى مائتي ميل إلى الشمال من بغداد. ولا تزال أطلالها بما كان من عظمها ومنعتها. ويقول الهمذاني في كتاب البلدان:

(كانت مبنية بالحجارة المهدمة بيوتها وسقوفها وأبوابها. وكان فيها ستون برجا كبارا. وبين البرج والآخر تسعة صغار) ويقول ياقوت:

(فأما في هذا الزمان فلم يبق من الحضر إلا رسم السور وآثار تدل على عظمه وجلاله.) وقد حاصره الإمبراطور تراجان وسفريوس فلم يقدرا عليه.

وقد روى ياقوت في قصة الحضر شعرا لعدى بن زيد والأعشى وروى الطبري شعرا لأبي دؤاد الأيادي. والشاهنامة تجعل الواقعة في زمن سابور ذي الأكتاف وتخلط بعض الحادثة ببعض.

2.

ومن ذلك ما وقع بين أذينة ملك تدمر وسابور الأول أيضا: فقد أغار أذينة على جيش سابور وهو راجع مظفراً من حرب فلريان إمبراطور الروم، فانهزم الجيش الفارسي وتعقبه أذينة. وقد أغتبط الروم بما فعل أذينة فاثابوه ولقبوه (اغسطس).

3.

ومن قصة سابور ذى الاكتناف (309 - 379) والعرب.

ص: 31

يروى أن بعض العرب أغار على بلاده فحاربهم في خوزستان ثم عبر الخليج إلى البحرين وهجر واليمامة، ثم سار إلى الشمال فحارب بني بكر وغيرهم، وأنزل بعض القبائل غير منازلهم:

أنزل بني تغلب بدارين والخط، وبعض بكر بصحارى كرمان، وبعض عبد القيس وتميم في هجر واليمامة، وبني حنظلة بالصحارى التي بين الأهواز والبصرة.

ويقال أنه سمى ذا الأكتاف لأنه خرق أكتاف الأسرى من العرب ونظمهم في الحبال.

وكذلك كانت أحداث بين العرب ولا سيما أياد وبين سابور بن سابور ذي الأكتاف. ذكر بعضها المسعودي في الجزء الأول من المروج. وفيها يقول بعض الشعراء:

على رغم سابور بن سابور أصبحت

قباب أياد حولها الخيل والنعم

ويقول الحارث بن جنده (الهرمزان):

هم ملكوا جميع الناس طراً

وهم ربقوا هرقلا بالسواد

وهم قتلوا أبا قابوس عصبا

وهم أخذوا البسيطة من أياد

وتكثر الأحداث بين الفرس وقبائل الشمال عامة ولا سيما ربيعة التي كانت تسمى ربيعة الأسد لجرأتها على الأكاسرة.

4.

والصلات بين أمراء الحيرة والفرس منذ نشأت الدولة الساسانية في القرن الثالث الميلادي ليست في حاجة إلى البيان، فحسبي أن أذكر من الحوادث ما يبين عن مكانة المناذرة في دولة الفرس وقوتهم:

عهد يزدجرد (399 - 402) إلى المنذر الأول بتربية ابنه بهرام فنشأ في الحيرة حتى بلغ الثامنة عشرة، وتعلم الفروسية والرماية حتى صار مضرب المثل في الرمي بالنشاب، ثم رجع إلى أبيه فغلبه الشوق إلى الحيرة، حتى توسل برسول ملك الروم إلى أبيه ليأذن له في العودة إلى الحيرة فبقي بها حتى توفي يزدجرد. وأزمع أعيان الفرس ألا يولوا من بني يزدجرد أحدا. فأيد المنذر وأبنه النعمان بهرام وأمداه بالجند حتى أرغما الكارهين على تمليكه.

وفي روايات الأدب الفارسي أن بهرام هذا أول من شعر بالفارسية، أخذ الشعر عن العرب. وفي كتب الأدب شعر فارسي مروى عن بهرام، وكذلك تروى الكتب العربية شعراً عربياً

ص: 32

كما روى المسعودي في المروج:

أقول له لما فضضت جموعه

كأنك لم تسمع بصولات بهرام

فأني حامي ملك فارس كلها

وما خير ملك لا يكون له حامي

ويروى المسعودي أبياتا أخرى ويقول. . وله أشعار كثيرة بالفارسية والعربية أعرضنا عن ذكرها في هذا الموضع طلبا للإيجاز.

وقد حارب المنذر الرومان انتصارا للفرس وهزم جيوشهم سنة 421م، وكذلك حاربهم المنذر الثالث ابن ماء السماء وتعقبهم إلى إنطاكية حتى أستنجد جستنيان الحارث الأعرج الغساني، فكانت وقائع بين الأميرين العربيين أسر فيها المنذر إبناً للحارث فقربه للعزى (صنم) وانتهت بقتل المنذر في موقعة عين أباغ أو يوم حليمة.

5.

وفي عهد قباذ حينما اضطرب أمر الفرس بفتنة مزدك أغار الحارث بن عمرو الكندي على الحيرة وأخرج منها المنذر أبن ماء السماء، وصادف ذلك هوى في نفس قباذ فأيد الحارث. ويروى أنه أرسله لحرب أحد تبابعة اليمن، فلما ولى كسرى أنوشروان رد إمرة الحيرة إلى المنذر.

6.

وفي عهد كسرى برويز حوالي 610م كانت موقعة ذي قار. وذلك أن كسرى برويز قتل النعمان أبا قابوس. وطلب ودائعه عند هانئ بن مسعود الشيباني فأبى إسلامها، وكان كسرى قد ولى أياس ابن قبيصة الطائي على الحيرة. فسار أياس في جموع من الفرس والعرب: طئ وبهراء وأياد وتغلب والنمر، فلقيهم بنو شيبان في جموع من بكر ووقعت الحرب وتمادت ثلاثة أيام آخرها يوم ذي قار، ودارة الدائرة على الفرس وأنصارهم.

وفي يوم ذي قار يقول أبو تمام يمدح أبا دلف الشيباني:

إذا افتخرت يوماً تميم بقوسها

وزادت على ما وطدت من مناقب

فأنتم بذي قار أمالت سيوفكم

عروش الذين استرهنوا قوس حاجب

ويقول مادحا يزيد بن مزيد الشيباني:

أولاك بنو الأفضل لولا فعالهم

درجن فلم يوجد لمكرمة عقب

لهم يوم ذي قار مضى وهو مفرد

وحيد من الأشباه ليس له صحب

به علمت صهب الأعاجم أنه

به أعربت عن ذات أنفسها العرب

ص: 33

هو المشهد الفرد الذي ما تجابه

لكسرى بن كسرى لاسنام ولاصلب

هذه صلات الفرس وعرب الشمال. وكان للفرس مع هذا سلطان على ساحل الجزيرة الشرقي واليمن:

حاول الحبش الاستيلاء على اليمن في القرن الثاني الميلادي وأتيح لهم أن يستولوا على بعض مدنه في القرن الثالث، ثم أخرجهم الحميريون، فلما تنصر الحبش في القرن الرابع أيدهم الرومان على الحميريين ففتحوا اليمن سنة 374. ويظهر أن الفرس طمحوا إلى اليمن منذ ذلك الحين، فقد كان النزاع الذي شجر بينهم وبين الروم منذ قامت الدولة الساسانية حرياً أن يلفت الفرس إلى اليمن بعد أن تألب عليه أعداؤهم الألداء والحبش. ولسنا ندري من أخبار الفرس في اليمن شيئا قبل القرن السادس الميلادي، إذ تهود تبع ذونواس وأكره النصارى على التهود وعذبهم، فغضب لهم الروم والحبشوأمد الإمبراطور جستنيان الحبش وسلطهم على اليمن، حتى استغاث سيف بن ذي يزن كسرى أنو شروان فأمده بجيش حملته السفن في الخليج الفارسي إلى عمان، ثم سار في البر وأنحاز إليه أهل اليمن فهزموا الجيش، وتولى الفرس البلاد وجعلوا عليها أميراً عربياً فقتله حرسه الحبشي فاستقل بأمر البلاد ولاة من الفرس توالوا عليها حتى جاء الإسلام والوالي يومئذ بأذان. وقد أسلم الفرس في اليمن وأخلصوا للإسلام وكانوا عوناً على الثائرين في حروب الردة وهم قتلوا الأسود العنسي، وعرف من رؤسائهم النعمان بن بزرك وفيروز الديلمي ومركبود، وهو أول من حفظ القرآن في صنعاء فيما يقال.

وكذلك كان للفرس سلطان على البحرين وجاء الإسلام وفي اليمن فرس مستوطنون ومرزبان اسمه سيبخت، ويروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كتب اليه فاسلم، وكان لفيروز المعروف بالمكعبر زعامة في حروب الردة هنالك.

وكانت التجارة تتردد بين بلاد الفرس واليمن في حفارة قبائل لها جعل من ملوك الفرس: قال صاحب الأغاني في الحرب التي كانت بين بني تميم والفرس وأحلافهم: (وأما ما وجد عن ابن الكلبي في كتاب حماد الراوية، فان كسرى بعث إلى عاملة باليمن بعير، وكان بأذان على الجيش الذي بعثه كسرى على اليمن. وكانت العير تحمل نبعا فكانت تبذرق من المدائن حتى تدفع إلى النعمان ويبذرقها النعمان بخفراء من ربيعة ومضر حتى يدفعها إلى

ص: 34

هوذة بن علي الحنفي فيبذرقها حتى يخرجها من أرض بني حنيفة ثم تدفع إلى سعد (من تميم) وتجعل لهم جعالة فتسير فيها فيدفعونها إلى عمال بأذان باليمن).

هذا خلاصة ما يريه التاريخ والاساطير، ولعله يكون مقدمة لبحث واسع في صلات الأمتين العظيمتين قبل الإسلام.

ص: 35

‌سؤال.

.

إلى الأستاذ الزيات وإلى أدباء الرسالة.

سيدي الأستاذ

أنني (وإن لم أتشرف بمعرفتك) أمت إليك بصلة الرحم. فأنا من صغار أسرة أنت من كبارها. ولي عليك حق الصغير على الكبير. يسأله ويفيد منه. ويلح في هذا السؤال ويناقش من أجل هذه الفائدة. ويكون فيسؤاله ومناقشته واقفاً عند حد الأدب، متنكباً سبيل التكلف و (الرسميات).

أفتأذن لي في ذلك:

إذن فأخبرني يا سيدي. هل تنشر الآثار الأدبية، إذ تنشرها في رسالتك، لأنها وافقت خطة معروفة اختطتها لنفسها الرسالة في الأدب، وطريقة معينة اتخذتها، أم أنت تنشر كل جيد يبعث به اليك، ولا تبالي منه إلا بشرف القول، وحسن الأداء، والبلاغة في التعبير عن الغرض. وهل تفعل هذا إلى أمد قريب ثم تطلع على الناس بخطتك الأدبية، وتحمل كتابك عليها، أم أنت تفعله أبدا؟ ثم ألا ترى يا سيدي أن الأديب العربي قد شب ولم يعد طفلا يدلل ويرقص، ويكون له عند أهله بكل خطوة حظوة وأن الإيمان به قد خالط قلوب الأدباء. فلم يعودوا من المؤلفة قلوبهم الذين يسترضون ويعطون لئلا يجنحوا إلى الردة بعد الايمان؟ وأن من مصلحة هذا الأدب، بل من الواجب فيه أن يتفق طائفة من شيوخه وقادته على مذهب واحد فيه. ثم يعلنوا هذا المذهب للناس. ليتبعوه ويؤثروه؟

ومذاهب الأدب كثيرة. ولكنا منها بين اثنين: مذهب (الأدب للفن) ومذهب (الأدب للحياة):

أنعمل وغايتنا (الجمال الفني) وحده. وسواء لدينا أكان هذا الجمال في قطعة ماجنة، أم في قصيدة شعوبية، أم في مقالة ملحدة؟ وسواء لدينا أكانت القطعة الجميلة تصور آلام النفس وآمالها. وصور الحياة وأشكالها، فتصدق في هذا التصوير. أم (تخلق) من نفس صاحبها دنيا غير هذه الدنيا وعالما غير هذا العالم؟

أم نعمل وغايتنا تسخير الأدب للقضية الكبرى، واتخاذه عدة على تحقيقها، ووسيلة من وسائل الإصلاح الأخلاقي والسياسي والاجتماعي. وبالعبارة الثانية وسيلة إلى الحياة؟

ثم. . ألا ترى يا سيدي أن هناك حقيقة أسمى من الحقيقة الفنية. . وواجبا أعلى من واجب

ص: 36

الفن هو الواجب الوطني. واجب (السعي للحياة وخوض معركة التنازع على البقاء) وأنه لا يجوز لنا أن نقول بمقالة بعض الفرنجة (الفن للفن) لأن هذا هو القياس مع الفارق.

فأن لأولئك مدافع وأساطيل، وأن لهم كيانا واستقلالا، ونحن قوم يبنون لأنفسهم كيانا واستقلالا، فيجب أن نجمع قوانا كلها على هذا البناء، وأن نجعل الأدب في مقدمة هذه القوى، ونجعل الحوادث القومية موضوعا لآثارنا، أو لطائفة من آثارنا الأدبية. وكيف لعمري يهيج الشاعر العربي ويضيق الدنيا عليه حبيب يعرض عنه، وليلة وصل يخسرها، وابتسامة يحتجب عنه نورها، ولا يهيجه ويؤلمه مجد كان ينطح السماء أنهار في الأندلس، وأمل كان يملأ الدنيا ضاع في بواتيه. وأمة بقضها وقضيضها تفنى اليوم في فلسطين.!؟

أيجوز للشاعر وهو قلب الأمة الخافق أن يعيش في نفسه، ويقنع بأحلامه وعواطفه؟ أيعقل أن يعيش قلب منفردا مبتوراً لا تربطه بالجسد رابطة؟

الشاعر قائد في أمته، فهل يجوز للقائد أن يدع جنده، ويترك حربه ويغفل عن النار والحديد، ثم يجلس ليحلم بطيف حبيبه، أو يبكي على أنه لم يمنحه جسمه ساعة من زمان. أو يجلس ليصف (الجمال الفني) في ساحة المعركة؟

الأمة العربية جمعاء في نضال على الحياة. فكيف يفر الأديب من المعركة فيصب وهو الجندي الأول فيها مواهبه وقوته على قدمي امرأة؟

أو لست تعلم يا سيدي أن زعماء الفن الرومانطيقي في أوربا كهوجو ولامارتين، كانوا في رأس الوطنيين العاملين، والخطباء المفوهين، وكانوا إذا جد الجد شمروا عن ساعد العمل، وإذا أمن الناس ووضعت الحرب أوزارها ناموا فحلموا، فكان هذا الأدب مجموعة أحلامهم في منامهم. أن لامارتين نفسه يقول:(ما قيمة الرجل ينفق عمره، في التنقل بين أحلامه الشعرية في حين أن إخوانه يجاهدون بكل ما أوتوا من قوة وأيد في سبيل الوطن والعمران؟ أليس أليق يمثل هذا أن يكون ضحكة (مهرجا) وأن يبعث به مع العدد الموسيقية إلى الفرق العسكرية؟)

وأن الشعر القومي أبعد الشعر أثرا في نفس قارئه، لأن الشعور به مشترك بين أفراد الأمة جميعا، وأننا نقرأ القصيدة الأندلسية النونية فتبلغ منا على ضعف تأليفها ما لا تبلغه منا أي قصيدة؟

ص: 37

فلماذا إذن لا ينحو بعض أدبائنا هذا المنحي. ويكون لنا ديوان في الأدب القومي، كما للفرنسيس ديوان، وللإنجليز ديوان، وللأتراك ديوان، ولماذا لا تنبذ هذا الأدب الرخو المخدر الذي ينزع الرجولة من نفوس شبابنا ويجعل المثل الأعلى للحياة في آرائهم، أن ينفقوا الحياة في عبادة امرأة يعشقونها، أو يتخيلون أنهم يعشقونها. ويقطع بأساليبه الأعجمية العجيبة الصلة بيننا وبين أدبنا القديم، ويضيع علينا هذا التراث القيم الذي تظاهرت على إيجاده ثلاثة عشر قرنا؟ ولماذا لا يجهر الشيوخ والمصلحون في الأدب العربي، بالدعوة إلى (الأدب القومي) وينقذوننا من هذا الأدب المخدر السام؟ ولماذا لا تكون أنت في الرسالة. صاحب هذه الرسالة؟ ثم. . إلا ترى يا سيدي أن هذا الضعف والخور في غزلنا سخف ماله مبرر، وأن المرأة والرجل إنسان واحد، كلاهما فيه عنصر القوة وعنصر الأنوثة، والحب جامع العنصرين، فالرجل يحب ليكمل قوته بأنوثة المرأة. أي أنه يحب أنوثتها وهي تحب قوته، فإذا أضاع هذه القوة، ولم يحظ بأنوثة المرأة، لم يكن رجلا ولا أمرأة، ولكن مخلوقا شيطانيا بغيضا، وكان كالغراب والقبرة، أو (كصاحبة الماء) لا هي أبقت ماءها. ولا هي أصابت طهرها؟ وما بالرجل من يحب من بأس، ولكن على أن يظل رجلا يقوم على قدميه، ويدل بعضلات من حديد وإرادة من فولاذ، وأمل في الحياة يملأ الحياة، ثم يقول لمن يحب: أنا قوي وأنا أحبك فتعالي لا أن يجيئها ضعيفا مسهدا.

والمرأة لو خيرت لما اختارت على الرجل القوي الحي بأمله ولمستقبله الرجل الأصفر النحيل الباكي البائس الميت من قبل الممات. هذا خليق به القبر وذاك الذي يستحق الحياة.

فالام إذن يثير شعراؤنا على هذا الغزل السخيف، ويغني مغنونا به ويكون لجيل المستقبل سما زعافا؟. .

هذه هي القضية التي جئت استفتيك فيها. واستفتي أدباء الرسالة؛ وأني لأعتقد أنها من الخطر بالمكان الاسمى. وبين لا ونعم فيها فرق ما بين الحياة والموت؛ لأن الأدب كالسيف القاطع، شتان بين أن تضرب به لترى وميضه في الجو و (الجمال الفني) في هذا الوميض ثم لا تبالي أذراعاك أصاب فقطع أم هو قد أصاب الجدار، وبين أن تجلل به خصما لك فاتكا أو وحشا كاسرا. على إن هذا ضرب وذاك ضرب وهذا أدب وذاك أدب. .

فإذا تفضلتم يا سيدي بنشر هذه الرسالة في الرسالة وتفضلتم بالجواب كان لكم الفضل

ص: 38

والشكر.

دمشق - علي الطنطاوي - ليسانسيه في الحقوق من المجمع

الأدبي

يسأل الأستاذ الفاضل أتنشر الرسالة ما تنشر من الأدب لأنه يسير في طريقها المرسومة إلى غايتها المعلومة، أم تنشره لأنه أمتاز بشرف القول وبلاغة العرض وحسن الأداء، ثم يصوغ هذا السؤال نفسه صيغة فنية فيقول: نعمل وغايتنا (الأدب للأدب) أم نعمل وغايتنا (الأدب للحياة) ثم حصر حياتنا اليوم في النضالالمقدس عن القضية العربية الكبرى. وأنحي باللائمة على شعرائنا الغزليين الذين غلبت على طباعهم الميوعة فذابوا على أقدام الغيد، وتركوا جيش الجهاد يسير من غير موسيقى! ثم شرح الأستاذ أسئلته بطائفة من الآراء الحماسية يدعو بعضها إلى جدال طويل. أما خطة الرسالة وغايتها فلعل الأستاذ يذكر أننا رسمناها في استهلال العهد الأول منها، وما نشرنا ولن ننشر إلا ما يساير هذه الخطة ويقابل هذه الغاية بوجه من الوجوه. فنقول بوجه من الوجوه لأن القول بأن:(يتفق طائفة من شيوخ الأدب وقادته على مذهب واحد فيه، ثم يعلنوا هذا المذهب للناس ليتبعوه) قول تأباه الطبيعة وتنكره أصول الفطرة مادام الأدب بمعناه الأخص هو التعبير الجميل عن العواطف والأخيلة والأفكار. وذلك التعبير يختلف بالضرورة في كل كاتب باختلاف تربيته وطبيعته وذوقه. وفي ظننا أن تحديد الغاية من الأدب وتوحيد الطريق إلىهذه الغاية لا يدخلان في حدود الإمكان إلا إذا استطعت أن توجه أهواء النفوس في متجه لا تتنكبه، وتحصر خواطر الذهن في مضطرب لا تعدوه.

وأما (أن الأدب العربي الحديث قد شب ولم يعد طفلا يدلل ويرقص) فرأي يخامرني فيه كثير من الشك، لأن أدبنا لا يزال يطلب من النقد أن يهدهده كالأم، ويربت على ظهره كالأب، فإذا حذره مزالق الهوى والطيش، بشيء من الجد صاح وأعول ودبدبت رجلاه في الأرض، وراح يرسل السباب ويعلن الشكوى في غير سداد ولا فطنة. هذه جملة قصيرة من الجواب عجل بها إليك مساسها بخطة الرسالة. أما سائر الجواب فستقرأه في العدد المقبل؟

ص: 39

‌الصهيونية

نشأتها وتطورها

1.

قبل عهد بلفور

للأستاذ محمد عبد الله عنان

لفتت حوادث فلسطين الأخيرة أنظار العالم مرة أخرى إلى ذلك النظام السياسي الاجتماعي الغريب الذي فرض على فلسطين تحقيقا لمشاريع السياسة الاستعمارية. ففي فلسطين أمة عربية تعيش في ذلك الوطن منذ آماد بعيدة. ولكنها تجد اليوم نفسها أمام خطر داهم على كيانها القومي، وترى اليهودية تمكن من غزو هذا الوطن بطريقة منظمة مستمرة، تنفيذا لعهد قطعته بريطانيا العظمى على نفسها إبان الحرب الكبرى، بأن تعاون على إنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين.

وفكرة الوطن القومي اليهودي قديمة ترجع إلى العصور الوسطى. ولكنها لم تكن في تلك العصور التي كانت بالنسبة لليهودية (عصرها الحديدي) أو عصر الاضطهاد الشنيع أكثر من مثل أعلى أو أمنية مقدسة غامضة. ولكنها منذ القرن الثامن عشر تغدو نظرة سياسية اجتماعية ترمى إلى غايات عملية. وكان أقطاب اليهودية في ذلك العصر وعلى رأسهم رجال ممتازون مثل مندلزون ولسنج يرون أن تتخذ القومية اليهودية صيغة محلية، فيغدو اليهود من أبناء البلد الذي استوطنوه مع احتفاظهم بتراثهم الروجي. ولكن هذه القومية المعتدلة التي أملى بها جو التسامح الذي نعمت به اليهودية يومئذ لم تلق كبير تأييد، ولم يطل أمدها، واستمرت الفكرة القديمة على قوتها وتأثلها. ومنذ أوائل القرن التاسع عشر نجد يهود إنكلترا يعملون على تقويتها وتلمس السبل لتنفيذها بالدعوة إلى إحياء التراث اليهودي وإنشاء المستعمرات اليهودية في فلسطين. ومن ذلك الحين تتجه اليهودية ببصرها إلى فلسطين؛ وتتكرر جهودها لإقناع السياسة البريطانية بإمكان قيام وطن قومي يهودي في فلسطين تحت الحماية البريطانية، وأن قيامه يغدو ضمانا قويا لتأمين طريق الهند البري وهنا تتخذ فكرة القومية اليهودية صبغة سياسية واضحة؛ وتبدو الفكرة الصهيونية في شكلها الحديث. والصهيونية هي القومية اليهودية. اشتقت من (سيون) العبرية أو صهيون وهي

ص: 41

الأكمة أو المعقل. وقد أطلقت أولاً على موقع التل الذي بني عليه الهيكل ثم أطلقت على بيت المقدس؛ ثم على الأمة اليهودية كلها، وتراثها الروحي؛ وأصبح معناها الحديث عود القومية اليهودية واستردادها لتراثها الغابر. وبهذا تفهم الصهيونية في عصرنا ولهذا تعمل.

وإذا فالصهيونية الحديثة ترجع إلى أواسط القرن التاسع عشر. وفي هذا الحين نفسه تلقى الصهيونية مادتها وقوتها: ذلك أن خصومة السامية أو نزعة التعصب ضد اليهود قد اضطرمت يومئذ بفورة جديدة في معظم الدول الأوربية، وأسفرت عن مذابح مروعة في روسيا والمجر. وعصفت باليهود في ألمانيا ثم عصفت بهم في فرنسا حيث بلغت الحركة ذروتها في قضية دريفوس الشهرية (سنة 1896).

ورأت اليهودية أنها رغم حصولها على الحقوق المدنية والسياسية في معظم الدول الغربية، مازالت عرضة للبغض القديم الذي أصبح تقليداً راسخا في المجتمعات الغربية. عندئذ بدت فكرة الوطن القومي اليهودي ضرورة يجب تحقيقها لخير اليهودية وسلامها. وأخذ أقطاب اليهودية على إذاعة الفكرة واتخاذ الخطوات العملية الأولى في سبيل تحقيقها. فألفت جمعية لإنشاء المستعمرات اليهودية وزودت بالمال. وبدأت مساعي الماليين اليهود لدى الباب العالي لإنشاء هذه المستعمرات في فلسطين. ثم لقيت الفكرة روحها المضطرم في كاتب يهودي نمسوي فتى هو تيودور هرتسل. وقد ولد هرتسل ببودابست سنة 1860 وظهر في الصحافة والتأليف المسرحي وظهر بالأخص بكتاباته القوية الملتهبة في سبيل القضية اليهودية. وكان هرتسل يرى أن الوطن القومي ضرورة لليهودية لا أمنية فقط، وفي سنة 1896 أخرج رسالته الشهيرة (الدولة اليهودية) يعرض فيها فكرة الوطن القومي عرضا قوياً، ويرى أن يتخذ هذا الوطن صورة دولة يهودية في فلسطين تكون تحت سيادة الباب العالي وتؤدي له الجزية وتكون البقاع المقدسة منطقة مستقلة ذات نظام خاص، فكان لدعوته وقع عظيم في اليهودية بأسرها، وأيده أقطاب المفكرين اليهود مثل مكس نورداو وإسرائيل زنجويل وغيرهما. وكانت اليهودية على إثر ما عانته من اضطهاد الخصومة السامية في معظم البلاد تتحفز يومئذ للذود عن نفسها، وتستجمع جهودها للقيام بحركة إيجابية منتجة. وسرعان ما انتظمت هذه الحركة تحت لواء هرتسل وزعامته، وفي أغسطس سنة 1897 عقد مؤتمر يهودي عام في بازل (سويسرا) برآسة هرتسل وفيه

ص: 42

وضع برنامج الصهيونية الرسمي وعرفت غايتها ووسائلها على النحو الآتي:

(تسعى الصهيونية لتحقق للشعب اليهودي إنشاء وطن في فلسطين، يتمتع بالضمانات التي قررها القانون العام، لكي يمكن تحقيق هذه الغاية، يرى المؤتمر الوسائل الآتية:

1.

أن يشجع استعمار فلسطين بواسطة الزراع والعمال والصناع التشجيع الواجب.

2.

أن ينظم العالم اليهودي بأسره وأن يحشد في المجتمعات المحلية أو العامة طبقا لقوانين البلاد المختلفة.

3.

أن تقوى لدى اليهود عواطف الكرامة القومية والاعتزاز بالجنس.

4.

أن تبذل المساعي التمهيدية اللازمة للحصول على التصريحات الحكومية الضرورية لتحقيق غاية الصهيونية.)

ثم توالت المؤتمرات الصهيونية في كل عام وبدأت مساعي اليهودية العملية واتصل هرتسل بالباب العالي، فاظهر نحو الفكرة ميلا في البداية باعتقاد أن تأييدها يكسبه نفوذا جديدا، حاول أن يجعل من ذلك وسيلة لحل المسألة الأرضية بشروط عرضها على اليهود الإنكليز ولكنه أخفق في هذه المحاولة. وزار هرتسل السلطان عبد الحميد في سنتي 1901و 1902 فآنس منه إعراضا وأخفق في سعيه. فاتجه هرتسل إلى إنجلترا وعرض أن ينشأ الوطن القومي اليهودي في أية منطقة من البلاد الواقعة تحت النفوذ البريطاني، واقترحت خلال ذلك منطقة سيناء المصرية ثم منطقة في الشرق افريقا البريطاني. ولكن أغلبية المؤتمر الصهيوني (سنة 1903) رفضت فكرة التحول عن فلسطين إلى غيرها وعدتها تراجعا وهزيمة للفكرة القومية الأهلية، ثم توفي هرتسل سنة 1904 في عنفوان قوته وجهوده فكانت وفاته ضربة قوية للحركة الصهيونية، ولم تجد الحركة من بعده مدى أعوام من يقودها بمثل قوته ونفوذه. وتزعمها مدى حين فولفزون المالي الألماني، وإسرائيل زنجويل الكاتب الإنكليزي، وجددت المساعي لدى الباب العالي، ولكن اضطراب الأحوال السياسية في تركيا حال دون كل مسعى. وجددت المساعي لدى إنكلترا. واقترحت أثناء ذلك برقة أو الجزيرة في العراق لتكون مركزا، للوطن القومي، ولكن هذه المساعي أخفقت أيضا ففت هذا الفشل المتكرر في عضد الصهيونية وخبت حماستها، فترت جهودها حنى نشوب الحرب الكبرى.

ص: 43

وفي أثناء الحرب سعت اليهودية إلى غايتها بجد ومثابرة، وقدمت إلى الحلفاء كل معونة ممكنة فامدتها بالقروض المالية، والفت فرق يهودية عسكرية تحارب إلى جانبهم. وتولى الزعماء اليهود: لورد روتشيلد والدكتور ويزمان ومسيو سوكولوف تنظيم هذه الحركة والسعي لدى دول الحلفاء وبخاصة إنجلترا في تحقيق مشروع الوطن القومي، وأسدى الدكتور ويزمان، وهو علامة كيمائي ومخترع بارع إلى إنجلترا أثناء الحرب خدمات جلية، بتولي المباحث الكيميائية في المعامل الإنجليزية: واختراع مادة جديدة للمفرقعات القوية. وأسندت إليه منذ سنة 1917 رآسة الهيئة الصهيونية العالمية. وكانت إنجلترا تجد يومئذ هجومها على فلسطين، وأمل اليهودية يبدو على وشك التحقيق. وكانت فرنسا أول من تقدم من الحلفاء لتأييد مشروع الوطن القومي اليهودي بصفة رسمية: ففي يونيه سنة 1917 وجه مسيو كامبون وزير الخارجية الفرنسية إلى مسيو سوكولوف رئيس اللجنة الصهيونية التنفيذية يؤكد فيه عطف الحكومة الفرنسية على القضية اليهودية والوطن القومي، وفي 2 نوفمبر سنة 1917 أصدرت الحكومة البريطانية عهدها الشهير بإنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين، وعرف هذا العهد باسم اللورد بلفور وزير الخارجية البريطانية يومئذ؛ وتلى في مجلس العموم البريطاني في النصف الثاني من نوفمبر في خطاب رسمي وجه إلى اللورد روتشيلد كبير اليهودية الإنجليزية وهذا نصه:

عزيزي اللورد روتشيلد: يسرني أعظم السرور أن أوجه إليك باسم الحكومة البريطانية التصريح الآتي بالعطف على الأماني الصهيونية اليهودية وهو تصريح عرض على الحكومة البريطانية وأقرته وهو:

(أن حكومة جلالته تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين: وسوف تبذل ما في وسعها لتحقيق هذه الغاية. ومن المفهوم أنه لن يعمل شيء مما قد يضر بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهدوية الموجودة في فلسطين ولا بالحقوق أو المركز السياسي التي يتمتع بها اليهود في أي بلد آخر)

ص: 44

‌المقبرة البحرية

للشاعر الفرنسي بول فاليرى

تلوت المقالة المنشورة بعنوان (حول قصيدة) للدكتور طه حسين فأعجبت به إعجابي بكل ما تسطره براعة أستاذنا المفكر، فثارت رغبة نفسي في الاطلاع على هذه القصيدة المحاطة بالأسرار والتي اختلف النقاد والأدباء في تفهمها. فرجعت إلى كتبي التي اعتدت أن أتزود بها في سفري، فلم اعثر على القصيد جميعها ولكنني وقعت على قسم منها لعله يكون (خيرها) لأنه أدنى إلى الإفهام ولعله (أسوأها) إن كانت روعة هذه القصيدة تتجلى في ألغازها وطلاسمها، ولكنني حتى في هذا القسم الواضح (لم أقع إلا على ما تتنازع في تفهمه الخواطر فقلت: أمر هذه القصيدة غريب عند أصحابها فكيف عند ما يريدون أن يقرءوها مترجمة وكل مترجم قد أنتحي ناحية قد لا تجمعه بالآخر إلا رموز! ولكن الروعة الغالبة في القصيدة لا ترجع إلى ألوانها القاتمة وصورها الغامضة وإنما تعود إلى فنها. وطريقتها التي جاءت بها.

في القصيدة غموض شامل! وهل كان الغموض سراً من أسرار البيان؟ وهل في استطاعتنا أن نجعل من الغموض مرادفا للبيان؟ ولكن هل كان البيان كله مستوعبا للفن كله ? أليس من الفن الشيء الغامض والشيء المعجب والشيء المثير؟ وهو بعد ذلك كله غامض جد الغموض لا ينفتح على النفوس إلا بقدر استقرائها واستجلائها للخطوط والألوان. . وهل كان اختلاف الناس في تفهم القصيدة الواحدة عيبا من عيوبها البيانية أم قيمة رائعة للقصيدة التي يتشعب من فنها فنون ومن سبيلها الواحد سبل متعددة.

أنا أحب الكتاب الذي يصرع قارئه طوراً وطوراً يصرعه قارئه كما يحبه أستاذنا الجليل. واحب القصيدة التي لا تتركنا إلا بعد أن تموج أنفسنا بشتى أهوائها وميولها، ولكني لا أحب (ولن أحب) أن يرجى الغموض في الفن لمجرد الغموض، لأن الآمر لا يؤول إلا إلى فوضى تعمل على تقويض الفن من حيث نحسب أننا عاملون عل رفعه.

هنالك آثار فنية واضحة كل الوضوح، ولكن المطلع عليها لا يلبث أن يرتد عنها ضيّق الصدر مظلم القلب، وهنالك آثار غامضة كل الغموض لا ينظر إليها الإنسان حتى تملأ نفسه روعة وجلالا. وتفتح أمامه من لانهاية الوجود. ما سر ذلك؟ العل في الفن شيئا

ص: 45

غامضاً غموض النفس؟ أما تحديدي لهذا الغموض وهذا البيان فهو أمر لا أقدر على إبداءرأيي فيه بعد أن أثبتت الحياة أننا كلما زدنا قيودها اتسعت آماد حريتها. وكلما قبضنا عليها من مكان أفلتت من أماكن. . ومادام هذا شأن الحياة فليس غريبا أن يكون للفن أيضا مثل هذا الشأن، والفن أسمى ما في الحياة. وإنما روعة الفن في انطلاقه لا في قيوده.

وأخيراً أخذت هذا الجزء اليسير من القصيدة وآثرت ترجمته برغم غموض معانيه، مرتقبا من أحد شعرائنا الأفذاذ أن يؤدي نجوى أستاذنا الدكتور حق تأديتها، لأنها (في الحقيقة) كما فكر الدكتور، ستخلق نوعا جديدا في الشعر يأتي على هذه الألوان البالية الباهتة. ويخلق في الأدب العربي هذه المدارس الجديدة الشعرية التي تحمل طياتها البيان الرمزي وغير الرمزي. وهذه القصيدة نظمها (بول فاليرى) في مقبرة مشرفة على البحر، فكانت خطرة فلسفية تأميلة يصف بها حالة الكون وذاتية العالم المادي الذي يرجع إليه تراب الموتى، وراحة العالم الراقد في (اللاشعور) وحالة القلق النفسي الذي يعكر علينا صفاء هذا العالم. مريداً من وراء ذلك أن تأخذ النفس نصيبها من هذه اللحظات المتتالية الحينية.

ولا أدري أأحسنت العمل أم كنت سيئا؟ ولكنها جرأة أريد بها أن أستثير غيري ممن هم أمت مني صلة بالقصيدة وصاحب القصيدة.

القصيدة

. . إنها قدسية، مغلقة

نارها توقد من غير غذاء

خيم الصمت على أرجائها

وعلى صفحتها رف الضياء

سطعت أضواؤها وهاجة

وأثارت فيّ أسباب الطرب

فظلال (كالدجى) ممدودة

وقبور رصَّعوها بالذهب

أرأيت الظل في أكنافها

حيث يرتج على الظل الرخام

وهناك البحر في غفوته

قد ترامى قرب أجداثي ونام

هاهنا أمواتنا قد جثموا

مدفئا أجسادهم هذا التراب

طاوياً أسرارهم في جوفه

النشر ينطوي هذا الكتاب؟

الوجود ائتلفت أعيانه

وتآخت فيه ألوان الصور

واستقرت لكمالٍ، وأنا

قيد تبديل خفي مستمر

ص: 46

وحياة قد طواها ما طوى

وزعوها في غيابات القبور

جسد يأكله هذا الثرى

ودماء هي قوتٌ للزهور

أين ذاك الفن في روعته

عند ناس غالهم صرف الزمان؟

أين أرواح لهم سامية

أين ما أوتوه من سحر البيان ?

هل علا حيث علت أصواتهم=ومشت روعتهمإلا سكون؟

نثرت كف البلى أبدانهم

وسطا الدود على تلك العيون

هل لنفس أمل في حلم

ضاحك. صادقة ألوانه؟

لم يمثله لعيني خادع

طال في تمثيله بهتانه

وغداً أن ذهبت هائمة

أتراها تملأ الجو غناء؟

قدك! فالأكوان يطويها البلى

ووجودي مسرع نحو الفناء

أيها الخلد المعزى للورى

أنت جهم وجميل كالربيع

توَّجوه لعيون عشيت

عن هداها، غرَّها التاج الشنيع

حيلة الله ما أجملها

وأكاذيب ارتدت ثوب التقى

كان في الخلد عزائي فقضى

وطوى اليأس رجائي في البقا

من درى الأمر ولا يمقته؟

يتجلى كله في جمجمة!

كيفما قّلبت أبصرتَ بها

ضحكة دائمةً مرتسمه

وبقايا ببقايا بُدِّلت

رب لحد فوق لحد يجثم

خجلت أقدامها من وطئها

ما أديم الأرض إلا أنتم!

ليس للدود اتصال بكم

يا جسوما أُدرجت في الكفن

هو بالأحياء يحيا أبدا

هو يحيا فيّ لا يبرحني!

خليل هنداوي

ص: 47

‌من طرائف الشعر

آثار شوقية

فرديات من المنظر الثاني في الفصل الثالث من رواية البخيلة

تظهر حسنى الخادمة في ثوب أسود على باب حجرة من حجر منزل المرحومة الست نظيفة (البخيلة) حسنى لنفسها تتذكر ما وهبته لها الست نظيفة قبل وفاتها.

عيني أحقٌّ أنني في منزلي؟

لا. كان لي فوهبته لجمال

غاليت في شغب الفؤاد بحبه

حتى وهبت له الثمينَ الغالي

أعطيته ما كان أصبح في يدي

من مال جَدتَّه فليس بمالي

لم يرض أن أعيش سعيدةً

ويعيش في بؤسٍ ورقة حال

أتُراه يقدُرُ خدمتي ومحبتي

أولا يمرُّ له الصنيع ببال

رحمة الله على سيدتي

وسقى الله ثراها وجزاها

حرمتني الشاش حتى ذهبت

فكستني الخَزّ في الموت يداها

وحَمتني الماء حتى احتجبت

فسقيتُ الشهدَ من فيض نداها

صار لي من بعدها منزلها

والدكاكين وآلت ضيعتاها

ثروةٌ قد نهض الجوعُ بها

ومشى الحرمانُ فيها فبناها

وهبَتْ لي كل ما قد ملكت

لم تدع من ذاك شيئاً لفتاها

ثم بعد لحظة:

لا. ذاك مال جمال

تركته لجمال

وعدتُ ما كنت من قب

لُ فوطتي هي مالي

أجل أنا الخادم والطاهية

وما أنا السارقةُ الباغية

ولا على الناس طفيلية

أجعل أموالهُمُ مالية

سمعت حديث البخل حتى صحبته

زماناً أراه كل حين واسمع

يروح ويغدو بين عينَّي صورة

ويأتي حيالي بالحياة ويرجع

سيدتي ونجعلها في

الحظ سسارا كالمثل

وانتقلت وذكرها

بالبخل فيه ما انتقل

ص: 48

يرحمها الله فما

أنسى لها تلك الجمل

في غضب عند الحوا

ر واضطراب (وزعل)

وما واختلفنا مرة في

حَمل ولا جمل

لكن لأجل الثوم كا

ن لخلف أو حول البصل

ولم نكن من الدقي

ق وتنتهي ولا العسل

يرحمها الله وأن

لم تأت يوما يحسن

عاشت بثوب واحد

كالميت عاش بكفن

أما أنا فالشاش أو

مادون ذاك في الثمن

وبذلتي وفوطتي

طال عليهما الزمن

وأجرتي عشرون قر

شاً مع كثرة المهن

البئر لا أبرحها

خارجة وداخلة

صاعدة كالدلو ك

ل ساعة ونازله

طباخة أصنع من

لا شيء شيئاً نأكله

وانحنى على البلا

ط كل حين أغسله

وكل دكان عليّ

أجرها أُحصِّله

ص: 49

‌ساعة الرضى

للشاعر الوجداني رامي

أنظري!

هذه دموع البشر جالت في عيوني

أسمعي هذا نشيد الروح فياض الحنين

يا لعينيك إذا أرسلتا

في فؤادي بارقات الأمل!

ما لخديك أضاءا وهجا؟

الرضى! أم بادرات الخجل؟

صارحيني

لم يعد يخفي الهوى ما بيننا

بعد أن ذقناه هجراً ووصال

نادميني

كم سهرت الليل في نجوى المنى

وسألت النوم عن طيف الخيال

بادليني بالرضى رضا

أسعديني فالقضا قضى

أنا في دنيا

المنى هيمان

أنا ولهان

أنا فرحان

جمعتنا ساعة هفافة

بجناحين وداد وسلام

هذه روح الهوى رَفافةً

فاسمعي منها أناشيد الغرام

ص: 50

‌من الأدب الإنجليزي:

المؤقت هو الكل

لتوملس هاردي

هدتني صروفُ الجَّد (إذا أنا يافع)

وأحداثُ دهرٍ دائماتُ التقلُّبِ

إلى صاحبٍ في الناس لم أبغ وُدُّهُ

ولم أتخيّرهُ ولم أتطلَّبُ

وقرَّ بن أسباب التواصل بيننا

أظلُّ أراه كُلّ ُصبحٍ ومغرب

ووثقنَ عهدَ الودِّ بيني وبينه

برغم اختلاف في مرامٍ مشرَبِ

فقلت: أساقيه المودة آنةً

وأوليه آيات الولا والتحبُبِ

إلى يومَ يأتي الصاحبُ المفرَدُ الذي

أرى فيه قصدي في الصحَّاب ومذهبي

فأنَ صروفَ الدهرَ شتّى كثيرةٌ

ومازالتُ ذا عمرٍ مديدٍ مُرحَّبِ

وألقي إليّ الدهر إذ أنا راتعٌ

أتيهُ وألهو في الشباب واصطبي

بحسناء رودٍ يُعجبُ الظّرفَ حُسنها

وإن لم يكن يزرى على كُلِّ معجبِ

فقلت: لي بلاغٌ إلى حينَ التقي

بمن اصطفيها في الحسان وأجتبي

وكنتُ أرجَّى منزلاً طيباً به

أعيشُ وحيداً عيشةُ المتَّرهب

فأول دارٍ صادفتني سكنتها

وإن لم تكن في الدور غايةَ مرغبي

وقلت: أدارى العيشَ فيها هنية

إلى يوم يهديني الزمان لأ طيبِ

وإذ ذاك أدلى للورى برسالتي

وأكشُف عن نور الهدى كُلّ غيهبِ

وحسبي إلى أن يسنح الزمن الذي

أميطُ به عن كل حقٍ محجَّبِ

فضولٌ من الأشغال شتى طوارقٌ

أجيل بها حيناً بنان المجرَّبِ

فهاتيك آرائي التي عشت طالباً

فأينَ حياتي من ِطلابي ومأربي؟

فلا أنا أداني اجتهادي لبغُيتي

ولا الدهرُ مما عشتُ أبغي مُقرَّبي

وما ُفزتُ من خدنٍ بخير مِنَ الذي

لديَّ ومن خودٍ ودارٍ ومطلَبِ

ولم أَرَها الا طُيوفاً تباعَدَت

مدى العمر ما تدنو إلى مُترقِّبِ

فخري أبو السعود

ص: 51

(مقرظ لا مقرطق)

نشرت الرسالة الغراء الصادرة في أول نوفمبر سنة 1933 كلمة تحت عنوان (قصة الشعر في الأدب العربي) بقلم الأستاذ علي شرف الدين جاء فيها (. . فقد كانوا يضعون الأقراط في آذان سقاتهم من الغلمان ويطلقون على كل منهم (غلام مقرطق) الخ.

فالأستاذ يريد بهذا أن يقول: أن الغلام الذي يوضع القرط في إذنه يسمى مقرطقاً وهو خطأ منشؤه عدم التفرقة بين القرط والقرطق، وبين المتحلي بالقرط ولابس القرطق. فالمتحلي بالقرط يسمى مقرطاً ولابس القرطق مقرطقاً، والقرطق ملبوس من ملابس العجم يشبه القباء. قال الفيروزأبادى في القاموس: القرطق كجندب لبس معروف معرب كرته، وقرطقته فتقرطق ألبسته إياه فلبسه (أهـ) وفي المصباح القرطق مثال جعفر ملبوس يشبه القباء وهو من ملابس العجم.

فأنت ترى أنهم لم يختلفوا في معنى القرطق فهم متفقون على أنه ملبوس يشبه القباء وإنما الخلاف في ضبطه فجعله صاحب القاموس كجندب وجعله الفيومي في المصباح كجعفر. (وقد حرفه المولدون) في أشعارهم كقول بن المعتز:

ومقرطق يسعى إلى الندماء

بعقيقة في درة بيضاء

وأخطأ عمر الوداعي فظن مقرطق ذي قراط في قوله:

قلت لهم لمّا بدا

مقرطق يحكي القمر

هذا أبو لؤلؤة

منه خذوا ثار عمر

وإنما هو مقرط كما في شرح الفصيح (أهـ) ولعل الخطأ تطرق إلى الأستاذ من الوداعي صاحب هذين البيتين فظن المقرطق ذا القرط كما ظن هو نفسه وعلمت عدم صحته؟

برهان الدين الداغستاني

ص: 53

‌رواية الأبناء والمحبين

للكاتب الإنجليزي د. هـ. لورنس

نقد وتحليل

أراد د. هـ. لورنس في روايته أن يصور لنا فتى خيالي النزعة دقيق المشاعر في دور الانتقال الأول من حياة الصبي إلى حياة الرجل.

وليس الفتى (بول) في هذه الرواية الا فتى د. هـ. لورنس نفسه، فأبوه عامل خشن من عمال المناجم يعول أسرته بعمل ذراعيه ولا يعرف من لذات الحياة غير المأكل والمشرب ولا سيما الأخير منهما. وأما مسز موريل أمه فامرأة من أسرة من الطبقات المتوسطة، كان أبوها مهندسا وكان رجلا كبير الجثة جميلا باديالعظمة فخوراً بلون بشرته الأبيض وزرقة عينيه وفخوراً أكثر باستقامته، وقد شابهت جرترود (اي مسز موريل) أمها في ضآلة البنية ولكنها ورثت خلقها بما فيه من تكبر وشدة حساسية من أسرة أبيها.

ومع ذلك تزوجت هذه المرأة المهذبة من ذلك العامل الخشن، فقد قابلت وهي في الثالثة والعشرين من عمرها فتى من وادي أرواش في حفلة من حفلات عيد الميلاد، وكان موريل عندئذ في السابعة والعشرين من عمره، وكان جميل الجسم معتدل القامة ظاهر النشاط ذا شعر أسود متوج لامع ولحية سوداء قوية لم تحلق قط، وتلوح على خديه علائم الصحة، ويلفت النظر فمه الأحمر الرطب لأنه كان يضحك كثيرا ويضحك من أعماق قلبه، وقد وهب، تلك الموهبة النادرة أعني الضحكة القوية الرنانة، ولاحظته جرترود فسحرت به، وكان مليئا بالألوان والحياة ويتنقل صوته بسهولة إلى المضحك الغريب، وكان سريع الخاطر ظريفا مع الجميع، وكان أبوها يميل إلى الفكاهة النازعة إلى السخرية، ولكن هذا الرجل يختلف عنه، ففكاهته ناعمة بعيدة عن التعمق الذهني وحارة فيها نوع من اللعب.

أما هي فكانت على الضد من ذلك ذات عقل دائم التساؤل قابل للمعلومات يجد لذة كبيرة في الإصغاء إلى الآخرين وكانت ذكية في جر الناس إلى الكلام، تحب الآراء وتعتبر مثقفة تثقيفا كبيرا، وتحب بنوع خاص المناقشة في الدين والفلسفة والسياسة مع رجل مهذب، ولكنه لم تكن تمتع بهذه الفرصة كثيرا، لذلك تحمل الناس على أن يتكلموا معها عن أنفسهم وتجد في ذلك لذة كبرى، وكانت في شخصها ضئيلة ورقيقة ذات جبهة عريضة تتساقط

ص: 54

عليها عناقيد من الحرير الأسمر المجعد، وعيناها الزرقاوان مستقيمتان أمينتان باحثتان، يداها جميلتان كسائر أهلها وملابسها دائما ذات لون قاتم فتلبس رداء من الحرير الأزرق الغامق، وتضع سلسلة فضية ذات شكل خاص ودبوس كبير من الذهب المجدول، هذا كل ما تتزين به، وكانت بعيدة عن الأهواء شديدة التمسك بالدين، مليئة بالصراحة الجميلة.

فتن والتر موريل عندما التقى ناظراه بناظريها فكانت عند هذا موضع غرابة وسحر إذ كانت سيدة فهي إذا كلمته نطقت في لفظ جنوبي وفي إنجليزية يرتعش لسماعها.

ليس موضوع الرواية حب ولتر موريل عامل المناجم أو تزوجه من جرترود كوبارد، وإنما موضوعها أجل من ذلك، ولكنن أردنا أن نسوق شيئا من وصف الرواية لهما كي نتعرف إليهما قبل أن نتعرف إلى أبنهما الصبي بول موريل.

وليس بول بكر أولادهما، فوليم موريل كان أكبر الأولاد واليه تحول حب الام حين حل الجفاء بينها وبين زوجها محل الحب الأول، إذ لم تلبث السيدة موريل، وهي المهذبة المثقفة أن أكتشفت حقيقة زوجها ورأت وراء ذلك الجسد الذي سحرها بفتوته روحا خشنة غير مهذبة، وأخذ زوجها كزملائه يقبل على الكأس فلا يذهب إلى البيت إلا ثملاً وإذا كان ثملا، كان جافا تبدو خشونة طباعه.

تحول حب الأم إلى الأبناء ولا سيما الابن الأكبر وليم وصممت بعزيمتها الفولاذية على أن يكون أبناؤها مثقفين بارزين في مضمار الحياة، وكان وليم فتى طموحا يميل إلى التعليم وقد تمكن من أن يجد عمل كاتب في أحد المحال القريبة من قريتهم ثم انتقل إلى عمل في لندن وصارت زيارته للأسرة عيداً من الأعياد.

واحب وليم فتاة من الكاتبات في لندن وعزم على الزواج منها فقدمها إلى عائلته وكانت فتاة كثيرة الأهواء محبة للمظاهر ورأت الام بعين الحنو أنها لا تصلح لابنها ولكن بعين الحنو أيضا سكتت على مضض.

على أن الفتى كان يكتشف حبيبته شيئا فشيئاً، ورفع الستر عن عينيه كما يدل على ذلك حديثه في زيارته الأخيرة لأسرته، وكان ذلك في مساء يوم السبت.

وقد خاطب أمه مرة واحدة ذلك المساء وكان يتكلم عن حبيبته في لهجة الحزن والألم:

ولكنك تعلمين يا أماه لو مت لتألمت شهرين ثم تأخذ في النسيان، وسترين إنها لن تأتي إلى

ص: 55

هذا المسكن لتنظر إلى قبري لن تأتي مرة واحدة.

فقالت أمه: ولكنك لا تموت يا وليم، فلماذا تتكلم عن الموت؟) على أن القدر رسم له أن يموت، فقد عاد إلى لندن في منتصف ليل الأحد وفي يوم الثلاثاء تسلمت مسز موريل برقية بأن أبنها مريض، فأسرعت إلى القطار ولا ريب في أن الام كانت تشعر ذلك الشعور الخفي بالكارثة، ولا ريب في أنها كانت تقاوم ذلك الشعور وتغالبه فلا تستطيع، ووصلت إلى لندن لتراه يموت بين أحضانها دون أن يتعرف على أمه.

أن الصفحات التي وصف فيها د. هـ. لورنس دخول الموت إلى هذه الأسرة من أروع ما كتبه.

تحطمت آمال الأم في وليم فتحولت إلى ابنها بول ونشأ بول كما نشأ جميع أفراد العائلة على حب الأم وعلى أن يعتبر أباه خارجا عن الأسرة، ونجد صورة من ذلك في مرض حدث له وهولا يزال صبيا:

(أصيب الغلام بنزلة صدرية ولكن لم يهتم لها كثيرا، فأن ما حدث قد حدث، وليس ثمة فائدة من مقاومة الأشواك، وكان يحب المساء بعد الساعة الثامنة عندما تطفأ الأنوار ويستطيع ان يترقب لهيب نيران الموقد يبدد ظلام الحائط والسقف، ويرى ظلالاً عظيمة تتموج وتضطرب، وكأن الغرفة امتلأت برجال يتقاتلون في سكون. كان الاب يدخل غرفة المريض قبل أن يأوي إلى فراشه ومن عادته أن يكون في نهاية الرقة إذا مرض أحد في البيت ولكنه كان يعكر جو الغرفة لدى الغلام.

سأل موريل في رفق: هل أنت نائم يا بني؟

فأجاب الغلام: لا! هل أمي آتية؟

أنها انتهت الآن من طي الملابس، أتريد شيئا؟ وكان موريل يخاطب أولاده بلهجة الاحترام.

- لا أريد شيئا ولكن هل تغيب طويلاً؟

- لا تغيب طويلا يا بني

ووقف الاب برهة في تردد فوق الطنفسة المبسوطة أمام الموقد وقد شعر أن أبنه لا يريده، ثم ذهب إلى أعلى السلم وقال لزوجته:

ص: 56

- أن الطفل يريدك! هل يستغرق عملك وقتا طويلا؟

- لن أتركه حتى أنتهي منه، قل له ينام.

فقال الوالد لابنه في لطف: أنها تقول لك نم.

فألح الغلام: أنني أريد أن تأتي.

فنادى موريل من السلملن ينام حتى يراك.

- كفي! فلن آتي حتى أنتهي من عملي، ثم كفاك صياح من أعلى السلم، فأن الاطفال الآخرين. . .

فقال الاب: لن تغيب طويلاً

وظل الاب يجول في الغرفة، وبدأ على الغلام القلق وكأن وجود أبيه زاد من نفاد صبره، وأخيراً وقف موريل أمام أبنه لحظة ثم قال في صوت رقيق: ليلة سعيدة أيها العزيز.

فأجاب بول: ليلة سعيدة ودار بجسمه إلى جانبه الآخر وقد شعر بالارتياح لأنه صار وحيدا.

وكان بول يحب أن تنام أمه معه، ومازال النوم في أكمل حالاته على الرغم من أقوال الأطباء عندما يشترك فيه المحبوب فأن حرارة الروح وطمأنينتها وأمنها والراحة الكبرى في تلامس الجسدين تربط النائم بالنوم بحيث يكون الجسد والروح في غايته وقد رقد بول إلى جانبها ونام وتحسنت حالته، أما هي والنوم لا يزورها سريعا فقد نامت بعد ذلك نوما عميقا أعاد إلى نفسها قوة الإيمان).

ولكن الأمهات لا يلبثن أن يجدن منافسات لهن في أبنائهن، ورواية الأبناء والمحبين، إن هي إلا قصة ذلك النضال الخفي الذي يقوم بين الام وبين تلك التي تريد أن تحول قلب ابنها إليها.

ففي مزرعة ويلي وجد بول حبه الأول: فتاة هي أخت لأصدقائه أولاد أصحاب المزرعة.

كانت مريم ذات نزعة خيالية وكانت كبيرة التعلق بأمها (وكان كل منهما ذات عينين عسليتي اللون، وذات نزعة صوفية؛ فكانت من أولئك النساء اللاتي يكتنزن الدين ويتنفسنه من أنوفهن، وكانت مريم تظن الله والمسيح شخصاً واحد تحبه حبا شديدا وتخشاه). . . .

(وكانت هذه المخلوقة لا تهتم لجمالها الخجل المتوحش المتوقد الحساسية بل لا تكفيها تلك الروح ذات النزعة الشعرية فكانت، تبحث عن شيء أخر يقوي ما طبعت عليه من

ص: 57

كبرياء، لأنها شعرت بأنها تخالف غيرها من الناس، ولكنها نظرت لبول نظرة أخرى فهي بوجه عام تكره الرجال، على أنه رأته من نوع آخر، سريعا خفيفا رقيقا قد يكون أحيانا آية في اللطف ويتغلب عليه الحزن أحيانا، وهو ذكي يعرف الشيء الكثير وقد طاف الموت مرة بعائلته، ورفعه في عينيها إلى السماء ما حصل عليه من المعلومات الضئيلة. .) أحبته الفتاة وأخذ الفتى ينفتح قلبه للحب، ولكنه كان حبا غريبا خفيا ممزوجا بكل ما فيها من مشاعر الدين والتقوى، وأما حب الفتى فكان فطريا ممزوجاً بتلك العاطفة التي يمتزج بها الحب كثيراً في نفس فتى تحول قريبا من دور الصبي إلى دور الرجل، وقد رأت فيه الفتاة مثلا أعلى للرجل المتصف بأكمل الصفات، أما الشاب ذو الشفة المرتعشة بحرارة الشهوة فكان ينظر إلى الحب من ناحية أخرى. لم يلبث الفتى أن مل هذا الحب، وأراد حبا أكثر إنسانية وأقل تطلعا إلى الملائكة، ووجده عند كلارا التي كان يعمل معها في محل واحد.

تعلق الفتى بها وتعلقت به، وتجاذب النفسان تلك العاطفة تجاذبا، نقرأه بدقائقه في هذه الرواية، ولكن شيئاً واحداً كان يحول بين توافق هذين القلبين كما كان يحول بين توافق بول ومريم. الواقع ان هناك حبا آخر عنيفا محطما كان يعمل دائما على التفريق، وهذا الحب المحطم هو حب الام لولدها، فبول كان شديد التعلق بأمه وأمه شديدة التعلق به والحنو عليه، فلما أن طمحت نفسه إلى حب آخر لم يجد إلى التخلص سبيلا، إنه لم يشعر بذلك لأن هذا الحب كان يجتذبه بخيوط دقيقة خفية لا يراها ولا يستطيع إلا أن يظل فريسة، فعندما تحول حب بول عن مريم كانت الأم تجتذبه، وعندما تحول حبه عن كلارا كانت الأم تجتذبه.

ولم تكن الأم تعمل على إبعاده ولا هي تسعى لذلك سعيا ظاهرا، بل هو تود سعادته وخيره، وتود أن يصل إلى كل ما يرضيه، وإنما نفوذها القوي عليه وحمايتها الشديدة له وعنايتها به منذ صغره وإلى أن مرضت مرضها الأخير وإلى أن لفظت آخر أنفاسها أمامه، هذا النفوذ هو الذي حطمه في صباه وقد يحطمه في رجولته.

فموضوع الرواية الحقيقي قد لا يكون حياة بول وانتقاله إلى الرجولة وتفتح عينيه إلى سر الحياة، وإنما هو: نفوذ الأم وعطفها الذي قد يكون أشد خطراً على حياة الشاب من جميع الأخطار.

ص: 58

وتعتبر هذه الرواية من أوائل روايات (د. هـ. لورنس) ويضعها البعض في مقدمة رواياته لكن أسلوبها المصقول الحذر يتم على يد لم تكن من المران بحيث تطلق عنانها وإن كنا نرى في التحليل النفساني نبوغا لا يقل عن نبوغه في خير رواياته.

حسن محمود

ص: 59

‌العلوم

نور الشمس في منتصف الليل

للدكتور علي مصطفي مشرفة

في الأقطار القطبية الشمالية لا تغرب الشمس وقت الانقلاب الصيفي (أي حوالي 21 يونية) بل تبقى فوق الأفق طول الأربع والعشرين ساعة. ويذهب حينئذ كثير من عشاق الطبيعة إلى الجزء الشمالي من شبه جزيرة اسكاندوناوه أو إلى اسبتزبرجن لرؤية (الشمس في منتصف الليل) كما يسمونها. ولكي نفهم إمكان حدوث هذه الظاهرة يكفي أن نتذكر أن القطب الشمالي للكرة السماوية (موضع النجم القطبي تقريبا) يرتفع عن الأفق كلما تحركنا شمالاً على سطح الأرض. حتى إذا دخلنا الدائرة القطبية صار ارتفاعه عن الأفق أكثر من 66. 33ْ أي أكثر من بعد الشمس عن القطب الشمالي عند الانقلاب الصيفي. وبذلك يصير شأن الشمس حينئذ شأن النجوم المحيطة بالقطب والتي تدور في حركتها اليومية في دوائر محيطة بالقطب دون أن تشرق أو تغرب. ومع أن أمر هذه الظاهرة معلوم لدى الخاص والعام إلا أن القليل منا من يعرف أنه من الممكن رؤية الشمس (لا الشمس ذاتها) في منتصف الليل دون أن نتطرف شمالا إلى أبعد من خط عرض باريس أو جنوب إنجلترا. فالشمس بعد أن يختفي قرصها المنير تحت الأفق تبقى أشعتها مضيئة للطبقات العليا من الهواء الجوي وينشأ عن ذلك نور منتشر هو الذي يعرف بالشفق. ويظهر الشفق كقطعة من دائرة تنخفض مع الشمس في انخفاضها تحت الأفق نحو 18 درجة أي بمقدار القطر الظاهري لقرص الشمس نحو 36 مرة، ويجب أن نميز بين هذا النوع من الشفق وبين نوع آخر ناشئ عن وقوع ظل الأرض على الهواء الجوي، يظهر في الناحية الشرقية للسماء كقطعة من دائرة منيرة ذات لون أزرق قاتم يحيط بها قوس ضارب إلى الحمرة ثم يرتفع تدريجيا ويتلاشى سريعا حتى ينعدم قبل أن يصل إلى سمت الرأس. كما يجب أيضا أن يميز بين شفق الغروب وشفق الشروق الذي يظهر عند الفجر وفيه تبدو جميع مظاهر الشفق بترتيب عكسي لما ذكرناه آنفا.

وفي مصر كما في سائر البلدان القريبة من خط الاستواء تهبط الشمس عند الغروب سريعا ولذا فأن الشفق لا يبقى طويلا، ففي مصر يصل انخفاض الشمس عن الأفق وقت الانقلاب

ص: 60

الصيفي إلى 18ْ بعد الغروب بنحو الساعة والنصف وعندها يحل الليل ويزول الشفق تماما.

أما في البلاد البعيدة عن خط الاستواء فأن الشمس تنحدر في غروبها صيفا انحدارا بطيئاً فيمتد أمد الشفق. وإذا راعينا أن غروب الشمس ذاته يجيء متأخرا صيفا في البلاد الشمالية أدركنا نتيجة هذين الظرفين مجتمعين في إطالة النهار. وأذكر أنني أثناء إقامتي في إنجلترا كنت أستطيع أن أطالع كتبي وقت الصيف في حديقة المنزل على ضوء النهار إلى ما بعد الساعة العاشرة مساء.

ومن الممكن إذا عُلم خط عرض المكان حساب مدة بقاء الشفق. فعند خط عرض باريس مثلا يمكن بحسبة بسيطة معرفة أن انخفاض الشمس وقت الانقلاب يصل إلى 18ْ عند منتصف الليل، فأن شفق الغروب يبقى إلى منتصف الليل، وعندها يبدأ شفق الشروق وبعبارة أخرى لا يكون هناك ليل حقيقي في ذلك اليوم. وفي شمال إنجلترا تبدأ هذه الظاهرة بشكل أوضح إذ يمتزج الشفقان ويبقى نور الشمس (المنعكس عند طبقات الهواء العليا) واضحاً طول الليل. وإذا قلنا إن نور الشمس يمكن رؤيته عند منتصف الليل عند خطوط العرض التي تقع شمال باريس فيجب إن نذكر ان هذا النور يكون ضئيلا، ومن السهل أن تكسفه أنوار المدينة أو نور القمر، ولذا يحسن إذا اريدت رؤيته أن يخرج المرء إلى الريف البعيد عن الأضواء الصناعية بشرط أن يكون الشهر القمري في أوائله أو آخره. ومما يساعد على حسن رؤيته وجود أجسام معتمة كالأشجار مثلا على الأفق.

ص: 61

‌نوبل

للدكتور أحمد زكي

في اليوم الحادي والعشرين من أكتوبر الماضي أحتفل القوم بمرور مائة عام على ميلاد (الفريد برناد نوبي) وما كان العالم في حاجة إلى التذكير بميلاد نوبيل أو بموته فذكراه تتجدد كل عام. تجددها تلك الجوائز السنوية الخمس التي تحمل أسمه والتي أنشأها عند وفاته عام 1896 ووقف عليها ريع ثروته الهائلة. وقد يبلغ الخمسين ألفا من الجنيهات في السنة الواحدة. قال نوبيل في وصيته. . ويقسم هذا الريع هكذا: نصيب للفرد الذي يأتي بأخطر استكشاف في الفيزياء، ونصيب للفرد الذي يأتي بأخطر ابتداع في الكيمياء أو بتجديد خطير لابتداع قديم، ونصيب للفرد الذي يأتي بأكبر جديد في الطب أو في الفسلجة ونصيب للفرد الذي ينتج في عالم الأدب أجل نتاج على أن ينحو فيه صاحبه منحي الادياليين والنصيب الخامس والأخير للشخص الذي زاد أكثر من غيره في إخاء الأمم، وجاهد في أكثر من سواه في إلغاء الجيوش أو في إنقاصها وفي جميع المؤتمرات وزيادتها تحقيقا للسلام. . وأني أعلن رغبتي الصريحة في ألا تكون لجنسية المترشحين أي اعتبار مهما قل عند القرار يمنح هذه الجوائز).

هذا نوبل كما يتراءى في وصيته: رجل حباه الله الثروة الواسعة، ومنحه العقل الذي يدرك به خطر العلوم الطبيعية في تقدم الإنسان واسعاده. ووهبه قلب الشاعر الذي يزهد في صور الكون الواقعة، وحقائقه الراهنة، لقبحها ولنقصها، ويستلذ صورا من خلق الخيال لا حقيقة لها، لأنها تمثل الكون على ما يجب أن يكون، والإنسان على أتم حال من جمال ونيل، والأشياء على أكمل اتساق وانتظام، فالنتاج الأدبي الذي يجيز عليه يجب أن يكون ادياليا كماليا لا حقيقيا واقعيا، واتسع هذا القلب حتى وسع الأمم جمعاء فخشى عليها مهالك القتال وأشفق عليها من متالف الحروب.

أما نويل قبل الوصاة، نويل القرن التاسع عشر فرجل عالم مهندس كيميائي، صرف مواهبه في استكشاف بوائق الحروب والتفنن في أساليب الموت وتشجيع القتال بأبحاثه حتى كفل للحكومات الحجة التي لا تدفع في فض الخصومات.

ولد نوبل في استكهولم عاصمة السويد عام 1833 وذهب أبوه به صغيرا إلى عاصمة

ص: 62

روسيا حيث أنشأ معملا لصناعة الطوربيد، ثم عاد به إلى السويد وخلَّف أخاه الأكبر قوّاما على ذلك المعمل فوسعه ومدده. وفي السويد بدأ نوبل بدراسة الناسفات. وكان الوقت ملائما لهذا الدراسة، فأن النزاع بين الدول كان يشتد وأسباب الخصام تتكاثر، وزادت الريبة وأشكل المستقبل ورأت كل أمة خلاصها من الحرب في العدة للحرب. ومن الغريب أن العالم لم يكن يعرف ويألف من الناسفات إلى ذلك العصر غير البارود، وكانت الكيمياء الحديثة قد بدأت تشب. والتفاعلات الكيماوية تدرس فتعرف فكان من الطبيعي أن تتجه الأمم في تنافسها إلى الكيمياء علها تجد عندها سلاحا جديدا أمضى من الحديد، أو مرادفا أقوى وأفتك من البارود. فدرس الدارسون وأجتهد المستنبطون، تارة يستحثهم المجد، وتارة يغريهم المال، وتارة أخرى تلهبهم القومية وما تتضمنه من ضرورة في دفاع، أو إشباع لأطماع، فكشفوا في النصف الأخير من القرن الماضي عن طائفة من الناسفات طالعنا آثارها في الحروب التي تتابعت من ذلك العهد، رأينا فعلها وسمعنا دويها في الحرب الكبرى الأخيرة التي ذهبت ببضعة ملايين من بني الإنسان.

بدأ نوبل دراسته فوقع على مادة اسمها (النترو - جلسرين) وذلك عام 1864. وهذا المادة كان قد وقع عليها من قبله كيماوي آخر يدعى سبريرو عام 1846 وحضرها بأسترة الجلسرين وحامض الأزوتيك الا أنه لم يحقق ماهيتها ولم يدرك خطرها في النسف وشدتها عند الإلهاب والطرق. فاتجه نوبل إلى دراستها رجاء إحلالها محل البارود، وإلى تحضيرها جملة، وإلى تعرف أسباب الحيطة لتجنب أخطارها أثناء التجهيز. ونجح في كل هذا بعد أن أصابه من مخاطرها ما لا بد منه، فحضرها مادة مائعة ثقيلة تشبه الزيت، فبدأ يشيع استخدامها في المرافق الحربية والمدنية. وهي إذا تفرقعت استحالت فجأة إلى أحجام كبيرة من غازات أهمها غاز الكربونيك والازوت والأوكسجين وبخار الماء تزيدها حرارة التحلل تمددا. حسب نوبل مقدار ما ينبعث من غاز فوجد أن الحجم الواحد من الزيت يخرج 1200 حجم من الغاز، هذا باحتسابه في حرارة الجو العادية وتحت الضغط العادي، أما وهو في حرارة التفاعل فيبلغ ثمانية أضعاف ذلك. وعلى ذلك فهذا الزيت أقوى من البارود ثلاث عشرة مرة. إلا أنه لم يكن كالبارود لينطلق بسهولة. ومع هذا كان إحساسه عند الاصطدام كبير. ففكر نوبل ثم فكر، فخال أن يدس فيه شيئا قليلاً من البارود يصله

ص: 63

بفتيل قابل للالتهاب يطيله كيف شاء، ثم يشعله فتسري فيه النار، حتى إذا وصلت إلى البارود في خزانته الصغيرةفانطلق بانطلاقه (النتروجلسرين). وهذه أول مرة عُرفت أطلق فيها ناسف يناسف، وهو احتيال لعب دوره الكبير في الناسفات، ولا يزال يلعبه كبيرا إلى وقتنا هذا، وبه أفلت (النتروجلسرين) من خيبة محققة، إلا أنه ما كاد يذيع حتى ذاعت بذيوعه فواجع ونكبات لوصول أيدٍ غير خبيرة إليه. وزاد في خطرة قوامه المائع ومظهره الرطب الهادئ، فطمأن اليه بلهاء نالوا منه حتوفهم. كان ينقل على عربات تجرّ، فذات مرة صرت العجل وصرّ فما كان من صاحبنا الحوذي الطيب القلب إلا أن شحمها بالزيت الذي يحمل. وكان الحطابون يزيتون به أحذيتهم ويدهنون به أعنة خيولهم، وبعد ذلك يحكونها ويلمعونها. وتكررت الحوادث وتتابعت انفجارات ذهبت إحداها بأخي نوبل، فسنت الحكومات القوانين بتحريم بضاعته، وثار حنق الجماهير على نوبل إذ تمثلوه رجلا لا قلب له يسعى لصالح نفسه، ويطلب المال مما فيه دمار الناس. عندئذ ضاعف نوبل جهده وحشده قواه ليؤمن الناس من شر تلك النكبات. فبحث عن جسم صلب مساميّ يمتص النتروجلسرين. وبعد تجارب عدة في هذا السبيل وجد أن (الكيزلجور) يمتص أكثر من سواه. والكيزلجور طفيل ذو مسام كثيرة، أصلة نباتات من الطحالب العائمة التي تعيش في البحار والأنهار على السواء ذات خلية واحدة متسلس جدارها، ماتت فرسيت هياكلها فتكونت منها طبقات كثيرة ُتستعدن الآن. وهي في الجلاء وفي أراض أخرى. فخلط نوبل سحيق هذا الطفل بثلاثة أمثاله من النتروجلسرين فتشربه وتكون منها خليط ناسف أسماه (الديناميت) كان أضعف من النتروجلسرين قوة ولكنه كان أكثر أتزانا منه وأقل حسا بالصدمات وآمن في النقل، فأطمئن الناس إليه وذاع أمره في البلاد شرقا وغربا.

الا أن هذه الرخاوة في مزاج الديناميت والهدوء في طبعه لم تعجبا نوبل (وساءه) أن يُحصِّل الأمن بإضاعة شدة الناسف ويشتري الطمأنينة ببيع شيء من قوة الانفجار، فقام لساعته ينقب عن مفجر جديد يجمع إلى شدة النتروجلسرين وأمن الديناميت، يشفع قوة الأول بطمأنينة الثاني، فخرج بعد الكد والصبر والتعرض للأخطار إلى مخلوق جديد أسماه (الجيلاتين الناسف) وهو مزيج من مادتين كلتاهما ناسفة، أولاهما (النتروجلسرين) وأخرهما (النتروسليولوز) وهو القطن بعد معالجته بحامض الازوتيك، ويتألف من خلطهما

ص: 64

جسم كالفالوذج مظهرا، وهو الموت والدمار مخبرا.

وعالج نوبل هذا الفالوذج الجديد (بالسليولويد) أو (الطبخ) فوقع على مفجّر جديد أسماه (باليستيت) من خواصه أنه إذا انفجر لا يملأ الجو بالدخان، وهو من نوع الناسفات الشائعة في الجيوش اليوم. وكان قد أتصل بالحكومة الإنجليزية يعمل معها، فسجلت هذه الحكومة ناسفاً جديداً أسمته (كورديت) كان يشبه (الباليستيت) شبها قويا، فخاصم نوبل عليه وادعاه لنفسه واتفقا معا على رفع الأمر للقضاء والرضاء بما يقسم دون أن يعكر ذلك ما بينهما من صفاء، وكانت قضية فيها تعقد وفيها إبهام، وكان فيها للقضاة لا شك حيرة كبيرة، وأخيراً فازت الحكومة، فغرم نوبل ثلاثين ألفا من الجنيهات، فغاظة ذلك وترك في نفسه أعقابا.

أن الناسفات أداة للدمار السريع الشامل تنزل على البلد ذي الأهل الكثير والسكن المشيد فلا تترك فيه لا أهلا ولا سكنا، وتذهب في ساعات أو أيام بآثار للمدنية ظل المجهود الإنساني يعمل فيه القرون، آثار لا تقتصر على أبنية ضخمة، ومكاتب مشيدة، ودور للتحف مليئة، ومنشآت للصناعات وسيعة، بل تشمل أكبر أثر وأثمن خلف، ذلك الإنسان نفسه، تلك الجماجم البشرية التي تَطيح وبها تراث الأمم وثقافات الأجيال وودائع الدهور. والناسفات كذلك أداة للخير فقد أفادت الإنسان ونفعت العمارة والمدنية بتكسير الصخر وتفكيك الحجر وخرق الأنفاق وثقب الجبال وفي حفر القنوات حيث الأرض صلدة لا ينفع فيها عضل السواعد. والمقدار الذي يستنفد منها في ذلك أضعاف ما يستهلك في الحروب. والمنشآت الهندسية الكبرى كقناة بنما والسكة الحديدية الكبرى في أمريكا الشمالية التي تصل المحيط الأطلسي بالهادي، وبناؤها برغم الجبال العاتية التياعترضت بناءها، وغير ذلك من المستحدثات العالمية الخطيرة شواهد لا تنازع على ما أدت الناسفات من خدمات جليلة يرد نصيب كبير من الفضل فيها إلى نوبل.

استخدم نوبل في شبابه وكهولته رأس الشاب وحيلة الكهل في فك قيود عن قوى للطبيعة عاتية، ولعله رجا ان تكون وسيلة لمغالبة الطبيعة لا مغالبة الإنسان، ثم رأى حقيقة ما صنع شيخاً، وأحس خيبة ما أمل، فصرف أواخر أيامه في بث الدعوة إلى السلام، وتخيل فعلاً للأمم نظاما أشبه شيء بجامعة الأمم الحاضرة وقد ولدت بعد وفاته بربع قرن. وكأنما أراد أن يكفر عن الخراب الذي جاء الأمم على يديه في حياته، والخراب الذي خال أن

ص: 65

يجيئها بما اقترف بعد مماته، فوقف كل ما جمع من صناعة الدمار لدره الدمار، فلنستقبل ذكراه معجبين منه برأس العالم المحتال، وقلب الإنسان النبيل.

ص: 66

‌العالم النسائي

رسالة المرأة

للآنسة أسماء فهمي

درجة الشرف في الأدب

أختص الرجال بالنبؤة دون النساء، وعد الرجال ذلك الاختصاص بطبيعة الحال بابا للتفاوت بينه وبين المرأة ومبرراً للتعالي عليها، ولكن المرأة، وأن لم تنل هذا الشرف في الأديان السماوية فأنها في الأمم الوثنية القديمة كمصر واليونان قد بلغت من تقدير الإنسان حد التأليه فعبدها السنين الطوال. . وأقام لها أبدع الهياكل وأجمل التماثيل والنصب، فكانت مثلا المعبودة ايزيس التي عدها قدماء المصريين رمزا للفضائل النسوية من حنان وشجاعة وصبر ووفاء، تنافس الآلهة الآخرين بوفرة قرابينها وكثرة قاصديها. وكذلك عبد افروديت وفينوس ملايين البشر من إغريق ورومان، إذ كانتا رمزاً لصفة مرغوبة في المرأة وهي الجمال، منبع الوحي والإلهام. والعرب الذين لم يقيموا التماثيل للمرأة لا في جاهليتهم ولا في إسلامهم جعلوها حلية في صدر قصائدهم التي لهاما للهياكل المصرية من جلال وفخامة وما للتماثيل الإغريقية من خلود وجمال، فجرت العادة أن يترنم الشاعر باسم المرأة في مطلع قصيدته وإن لم يكن الموضع موضع غزل وهيام، وذلك اعتراف بليغ بما للمرأة من أثر في عبقريتهم وفنهم.

والعالم الحديث يقدر ما في المرأة من قوة الوحي والإلهام بطريقة لا تختلف كثيرا عن طريق الأقدمين. ففي الفن مثلا تستخدم المرأة للتعبير عن العواطف السامية والمعاني الرقيقة فنرى، وات الفنان القدير يمثل الأمل في غادة فتانة تجلس على سطح الكرة الأرضية تحت سماء لا يبزغ فيها غير نجمة واحدة ترسل قبسا ضئيلا من الضوء، تحاول أن تعزف نغما على قيثارة ليس بها غير وتر واحد. . كذلك تشان يمثل الربيع بما فيه من حيوية متدفقة، وأمل باسم، وجمال فاتن في (فلورا) الشهيرة ذات الحسن الرائع. والمثال المصري (مختار) في تمثال نهضة مصر، يمثل مصر الحديثة التي أخذت تلقى جانبا أغلال الخمول بفتاة قروية ممتلئة جمالا ونشاطا ولم نذهب بعيداً في ضرب الأمثلة وبين

ص: 67

أيدينا غلاف مجلة (الرسالة) ترى فيه المرأة حاملة شعلة الوعي والثقافة؟ على أن وحي المرأة ورسالتها لا يقتصران على عالم الفن وإنما يلعبان كذلك دورا خطيرا في الحياة العملية وخصوصا في أشد ظروف الحياة صعوبة وخطرا، فترى المرأة تصحب الجيوش إلى ميادين القتال لا لتضميد الجراح فحسب، بل لتقوية العزائم وبث روح الاستبسال والتضحية في النفوس أيضا.

ذلك هو المكان الرفيع الذي تشغله المرأة في الحياة فضلا عن وظيفة الأمومة التي تستدعي الإيحاء باستمرار إلى الأبناء، والمرأة الصمرية بصرف النظر عن وظيفتها الخاصة تحمل رسالة مزدوجة لبنات جنسها ولأبناء وطنها وهم في فترة التطور الحرجة.

وماذا عسى أن تكون هذه الرسالة التي تضطلع بأعبائها المرأة؟ أن الشهد لا يصنع إلا من رحيق الزهر، ونموذج الفن لا يوحي إلى النفس بالكمال إلا إذا بلغ نهاية الإجادة. . فمن الطبيعي إذن أن تكون رسالة المرأة هي حثها على أتباع ما يجعلها أهلا للوحي والإلهام بان تعمل على تجميل النفس قبل تجميل الوجه والثوب، فإذا لم تسم روح الفتاة وتعل همتها لا تصلح للقيام بمهمتها. فالفتاة العابثة المستهترة التي تكتفي بالقشور من ألف صنف للتمويه والتغرير. والفتاة التي لا تعيش لمثل أعلى بل لا تخرج عن عالمها المادي المحسوس وضروريات الحياة الأولية، لا يمكن ان ترفع إلى سماء الوحي لأن المادة المتغلغلة فيها تقعد بها عن النهوض والسمو.

ورسالة المرأة للرجل تنسجم مع رسالتها السالفة وتتفق مع أغراض وحيها، فتيار المادة في نفس الرجل ونفس المرأة قد طغى وأقام حجابا بينهما وبين المثل العليا. وأصبحنا في عصر قلما يصغي فيه لوحي غير وحي المنفعة الذاتية، ونتج عن ذلك ضعف روح الاستبسال من أجل الوطن والمبدأ والعقيدة، وصرنا نفر من المقاومة إذا أبصرنا الخصم أكثر منا عددا وأعظم عدة، فكأن الغرض مجرد الانتصار لا تأدية الواجب وإراحة الضمير بصرف النظر عن النتائج. فرسالة المرأة في هذه الحال هي الحث على العودة إلى تعاليم الفروسية، لأن أهم ما يفتقر إليه الرجال حقا هو تلك الروح السامية التي أكسبت العصور الوسطى جل مالها من جلال ووقار. فقد كان الفارس يخوض المخاطر ويركب الأهوال في سبيل عقيدته ووطنه، وكان يضع الشرف والكرامة فوق الحياة نفسها، ويرتبط بالعهد

ص: 68

ارتباطه بدينه. وليس معنى الرجوع إلى ذلك العصر هو أمحاء تلك الفضائل في عصرنا، فالواقع أن تلك الصفات تسود اليوم أكثر بلاد العرب، وهي مصدر ما يعتز به من إباء وكبرياء واستقلال وحرية.

وهناك غرض آخر لاختيار ذلك العصر، فقد كان على رغم خشونته وقسوته مدينا بالكثير من فضائله إلى وحي المرأة. إذ قضت التقاليد أن يتطلع كل فارس إلى سيدة شريفة يتوسم فيها العظمة والنبل فيعمل على كسب إعجابها بأن يخوض الغمار باحثا عن المجد مدفوعا بروحها مترنما بذكرها.

فإذا كانت المرأة قد قامت بمثل هذا الدور برغم انحطاط مركزها وفي عصور امتازت بقسوتها وبأن الكلمة العليا فيها كانت للسيف، فهل تعجز المرأة الراقية في عهد الاستقرار والأمن عن أن تلهم أشبال السلم هي التي على ضعفها قد ألهمت أسود الحرب؟

ص: 69

‌ليلى الاخيلية

آخر منظر من حياتها

للآنسة سهير القلماوي. ليسانسيه في الآداب.

الصحراء هادئة نائمة لا يحرك رمالها إلا ريح خفيفة ناعمة تهب بين آونة وأخرى. والليل ساكن صاف، والسماء سوداء قائمة لولا نجوم تضيء هنا وهناك: وأقبل المسافران يتهاديان على جمليهما، وعلى مسافة منهما سار قومهما. وكأنما كان هذان المسافران رسولي حركة وحياة لهذا السكون المهيب، فقد هبت بقدومهما رياح عنيفة شيئا، فأزعجت رمال الصحراء المستكينة الهادئة.

ولو أن ليلى الاخيلية سلمت

عليّ ودوني جندل وصفائح

لسلمت تسليم البشاشة أو زقى

إليها صدى من جانب القبر صائح

المسافران أمراءه وزوجها، والتفت الرجل إلى المرأة وكأنما وجد في هذه الرياح الجديدة سببا يقطع به هذا الصمت الذي لازمهما منذ بدء رحلتهما. ولكن المرأة كانت ساهمة ذاهلة فلم يقو على الكلام. لقد كانت تشع منها قوة عجيبه تضطره بل تضطر كل شيء حولهما إلى السكون والهدوء احتراما لتفكيرها وحزنها. ورفعت المرأة رأسها في هدوء، واتسعت عيناها متجهتين نحو نقطة صغيرة لاحت لها في الأفق القاتم من بعيد. وظلت عيناها عالقتين بهذه النقطة وكأنما ربطتا إليها ربطا. ثم اتضحت هذه النقطة شيئا فشيئافإذا بها أكمة صغيرة. هذه هي الأكمة التي كانت تفكر فيها، هذه هي الأكمة التي كانت تتحرق شوقا للوصول إليها ورنت الأبيات للمرة المائة في إذنيها بصوت عميق هادئ. ترى أيجيب حقا؟ لقد كان صادقا لم تعرف له كذبة قط ولكن من سمع بميت يجيب حياً. .؟ توبة.! لقد مات! نعم مات فبكيته ورثيته. . أأكون حالمة؟ وهل أفيق من حلمي فوق هذه الأكمة؟ نعم سأفيق، سيجيبني، سأخلص من هذا العذاب الذي يحرق أعصابي حرقا. . ولو أن ليلى الأخيلية سلمت. . لسلمت تسليم البشاشة. .

ظلت ليلى تردد الأبيات مفكرة وعيناها عالقتان بالأكمة التي لاحت الآن واضحة ظاهرة، ورأى الزوج الأكمة فعبس وقال لنفسه لن تمر ليلى بهذه الأكمة حتى تصعد إلى قبر توبة. وثارت في نفسه ثورة الغيرة وأخذ يتساءل ساخطا حانقا: أيمكن أن يكون حب كهذا؟ لقد

ص: 70

أحبته فتاة، ولكنه تزوج غيرها وتزوجت غيره فلم يضعف هذا الحب، وهاهو ذا الآن قد مات ودفن ويلي جسمه ولكنها مازالت تحبه، لم أقو أنا على محو ذكراه، لم أقو أنا على ملء فراغ تركه بموته، نعم لم أستطع إزاء هذا الحب شيئا. .

ظل يغلي في ثورته، وظلت هي في تفكيرها الحزين المؤلم، حتى وصلا إلى الأكمة، فاتجهت إليها صاعدة، ولكن زوجها صاح بها حانقا ثائرا. .

- ليلى! إرجعي لن تصعدي

ولكنها أجابته بصوت حزين وكأنها لم تلحظ ثورته

- أتمر ليلى بقبر توبة فلا تجيبه؟ وصاح بها ثانية!

- ليلى! بربك لا تصعدي، لقد مات توبة ولن تجديه تحيتك شيئا.

وصدمتها كلماته صدمة عنيفة. لقد مات توبة ولن تجديه تحيتي! كلا كلا توبة لم يمت! إن روحه حية، إن صوته مازال يرن في إذنيها، فلو أن ليلى الاخيلية سلمت لسلمت. . نعم سيسلم علي، سيجيب.

لم تجبه واستمرت في طريقها صاعدة، ناداها، فلم تجب، وتوسل إليها فلم تسمع، وهددها فلم تحفل له، إن توبة يدعوها من فوق الأكمة ولن يصدها عن دعوة توبة أحد.

وقفت جانب القبر خاشعة حزينة مضطربة تنصت لدقات قلبها وقد خيل إليها أن صداها يملأ السهل، لم تكن تحس الا أن توبة هنا، فهذا قبره حيث رقد من زمن. إن روحه تملأ المكان وصورته تملأ عينيها، وصوته يرن في إذنيها، ستناديه

وسيجيب، ولكن لم تقو على فتح فمها. . تجلدت قليلا قليلا ثم استطاعت أن تفتح فاها، وأخيرا أن تقول همساً:

- السلام عليك يا توبة.!

وأنصتت الإذن وظلت هكذا مرهفة، كل ما فيها يترقب، لقد أحست أنها معلقة من علو شاهق ستهبط منه بعد حين. ولكن الصمت طال وبدأت تعود إلى نفسها رويدا، بدأت تحس أن دبيباً موجعاً هو دبيب اليأس. توبة لم يجب! أخذت شفتاها تلفظان دون أي صوت: توبة لم يجب. . ثم التفتت إلى القوم في صوت يائس مخزون وكأنها تحدث نفسها:

- والله ما عرف له كذبة قط قبل هذه! ألم يقل:

ص: 71

ولو أن ليلى الاخيلية سلمت

عليّ ودوني جندل وصفائح

لسلمت تسليم البشاشة أو زقى

إليها صدى من جانب القبر صائح

فما باله لا يسلم عليه كما قال؟

وأحس امجمل بوجود ليلى ووجوم القوم معهما فاضطرب واضطرب الهودج معه. ولكن ليلى لم تحس شيئا، لقد كانت تنتظر في أيمان صادق قوي جوابا من القبر، ولم تستطع الحقيقة أن تقتلع هذا الإيمان بعد. . فهي مازالت منتظرة. . توبة لم يسلم عليها ولكنه لن يتركها هكذا. .

وكانت إلى جانب القبر بومة كامنة، فلما رأت الهودج واضطرابه فزعت وطارت في وجه الجمل فنفر فرمى ليلى على رأسها فماتت من وقتها فدفنت إلى جنبه

أن توبة لم يكذب في حياته، فكيف يكذب في مماته؟

ص: 72

‌النجم أقرب

قال الصغير وقد رأى

في الليل نجما قد تلهب

أبتي، بربك هاته

كيما أسرّ به وألعب

فأجابته هذا بعي

د، ليس كل مناك يطلب

فمشى ولاحت دوننا

سيّارة للأرض تنهب

روعاهُ يجتذب العيو

ن كأنها في الأرض كوكب

فدنا وقال: إذن فمر

كبة كهذي حيث أركب

فوجمت، ثم أجبته:

النجم يا أبني كان أقرب!!

محمود عمار

ص: 73

‌القصص

قصة مصرية

تقاليد

للأستاذ محمد سعيد العريان

لم يكن حامد قد أتم دراسته العالية حيث بدأت تقوى صلته بصديقه حسين أفندي، ولم يكن الحديث يبنهما كلما تقابلا يتجاوز السؤال عن الصحة والأنجال، والذكريات القريبة عن جهادهما في صفوف الشباب الوطنيين، ولا يذكر حامد أنه زار صديقه حسينا في منزله غير بضع مرات كان في معضمها مريضا، وما أكثر ما يشكو المرض! ومرة دعاه حسين أفندي إلى زيارة منزله فلبى. وكانت هذه أولى زيارات متتابعة قوت بينهما رابطة الإخاء والود، وزادت إخلاصهما تمكينا وقوة.

كانت منيرة بنت حسين أفندي فتاة فارعة الجسم، معتدلة القامة، خمرية اللون، فاتنة النظرة، عذبة نغم الحديث، تبدو في انوثة فاتنة نضجت في شعاع ثمانية عشر ربيعا. ورآها حامد فأعجبه أن يتحدث إليها، وأن تتحدث إليه، وأن يشعر في أثناء ذلك أنه موضوع اهتمامها حين تسأله عن حياته في القاهرة وحيدا أيام الدراسة، وابتدأ أهل البيت يرتاحون لزياراته في ثقة واطمئنان، وابتدأ هو يحس الشوق كلما اخلف موعد هذه الزيارة. وصار من المألوف أن يزورهم كل يوم، وأن يسألوا عنه كلما غاب. وانتهى الصيف وعاد حامد إلى القاهرة يستقبل العام الثاني من دراسته في كلية العلوم، ولكنه لم يشعر بالاستقرار وهدوء البال اللذين كان يشعر بهما في العام الماضي، وإنما كان كثير الحنين إلى البلد حيث قضى أيام الصيف. أهو شعور السأم من الوحدة في بلد تذوق كل ما حل من لذاته، أو ملل الدارس طال به انتظار الثمرة، والحنين إلى أهله والصفوة من أصحابه في البلد الذي نشأ فيه؟

لم يستطع حامد أن يجيب على هذا السؤال إلا بعد أيام حين وصلته رسالة من صديقه حسين، أودعها شوقه وتحيته، يخبره أن منيرة مريضة منذ أيام. ما كان أسرع صاحبنا حينئذ إلى كتابة جواب هذه الرسالة، على كسله وتوانيه في كتابة الرسائل! لم يذكر شيئا

ص: 74

من رسالة صديقه الطويلة ذات الصفحات الأربع غير مرض منيرة، ولم يكتب شيئا في جوابه غير السؤال عن منيرة والاهتمام بها، والدعاء لها! وفي صندوق البريد ألقى الجواب، ثم خرج منفردا في نزهة وراح يفكر. . . وبدا له انه كان متسرعا كل التسرع، عجلا كل العجلة، فيما ضمن جوابه من عبارات، أي صلة بينه وبين حسين أفندي تسمح له ان يهتم كل الاهتمام ببنته، وأن يصرح بالشوق إليها، والألم الموجع لمرضها في كتاب لأبيها وليس من التقاليد أن يتكلم الشبان عن بنات أصدقائهم بهذه اللهجة الناعمة المفتونة؟ ولكن حامد نفسه لم يكن يعرف لماذا كتب ذلك، ولا كيف اندفع إليه ونسى التقاليد والأدب اللائق، أكان يحبها وهذا وحي عاطفته ودافع وجدانه؟ ربما!

بلغته رسالة أخرى من صديقه حسين أفندي، فلم يكن بها ذكر لمنيرة أو نبأ عنها. أكان تجاهلا مقصودا؟ وهل كان ذلك عن أثر رسالته؟ ترى ماذا كتب فيها؟ لقد نسى كل ما جرى به قلمه، ولم يذكر إلا أنها كانت رسالة تجاوز بها التقاليد التي يدين بها حسين أفندي أكثر مما يحرص حامد على نبذها. .

وكأنما انقطعت عنه أخبار صاحبته منذ أمد طويل لا منذ أيام، وابتدأت تغزو فكره مرات في اليوم الواحد، أو أخذ يذكر حديثها ويستعيد الكثير مما ينكره ويردده بلسانه في لحن عذب الإيقاع، وطارت حولها أمانيه، وعقد بها مستقبلة. لقد كانت وهي بعيدة أفتن منها بين عينيه! ولم يشغله فيما تلا ذلك من أيام إلا أن يحصى كما بقى من الزمن ليعود إلى هناك. . .

وكثرت زياراته للبلد: زارها مرتين في الشهر الأول، وثلاثا في الشهر الثاني، وكان في كل زيارة من هذه الزيارات يجد نفسه مسوقا إلى ناحية بيح حسين أفندي، فيقضي هناك بعض الوقت قبل أن يزور أمه وأخوته. ورأى في ترحيب صاحبته به، وسرورها بمقدمه معنى لم تنكره عيناها، واعترفت به ضغط يدها عند اللقاء وعند الوداع. لم تعد به حاجة لأن يسأل نفسه عن سر ذلك، فقد أيقن أنه وأنها. . .

وأضمر أمرا وأسره إلى صديق، فقد كان يفكر في أن يختارها لنفسه زوجة، ولكن أتراه يستطيع أن يقدم على ذلك وهو ما يزال طالبا بينه وبين رجولة الأزواج أعوام ثلاثة؟ وماذا عليه لو خطبها إلى أبيها وطلبه إليه أن ينتظر حتى يتخرج، أتراه يقبل ذلك ويرضاه لها؟

ص: 75

وكيف يبدؤه الحديث، بل كيف يتحدث الناس في هذا الشأن؟ لقد مات أبوه منذ سنوات، والأب هو الذي يستطيع أن يتحدث بأسم ولده في مثل هذه الشئون. . . ولم يطل به التفكير في ذلك، فقد ذاع ما حسبه سراً بينه وبين صديقه حتى وصل إلى مسمع الوالد!

وزار البلد بعد ذلك ولكنه لم يسعد بلقاء حبيبته، فقد حجبوها عنه، وأقاموا بينها وبينه التقاليد، أي أغلقوا دونهما الأبواب وأرخوا الستور. قد تكون أسعد منه الآن. فهي تستطيع أن تزيح السجف لتراه كلما زارها، ولكنه لا يراها وليس إلى لقائها من سبيل! وأبتدأ الدور الثاني من أعراض الحب، وعصف الشوق بقلبه، وعبث بلبه، وسيطر على ذات نفسه. وانصرم العام لا يذكر أنه رآها في خلاله أو استمتع بها غير نظرات كجسو الطير، ما كان أفرحه باجازت الصيف! لقد كان يظن أنه يستطيع في إبانه أن يصل ما انقطع من لذاته باللقاء (عهده الأول) ولكن ما كان أبعد أمانيه. .! وضاقت نفسه بما يجد، وأحس الشوق يفري كبده، والحسرة تشوي قلبه. وانقضى الصيف، وعاد إلى القاهرة لم يتزود بتسليمة مشتاق أو نظرة وداع، وحسب أنه هناك يستطيع أن ينشد السلوة ويلتمس العزاء في جوها الصاخب، فقضى أيامه الأولى بها على شر ما يقضيها العاشق. ولكن شأنا خاصاً دعا صاحبته أن تزور القاهرة وقتئذ، وتنزل في ضيافة بعض ذوي قرباها هناك، فتجدد الأمل عنده، وأحس كأنما نسيم القاهرة أصبح ندياً عبقا بعد أن كان نارا حامية يصلاها بعيدا عن الأهل والأحباب. . وكان من حظه أن لم تجيء معها التقاليد فتلاقيا غير مرة، وخرجا للنزهة مرات، فلم يتركا بين منازه القاهرة موضعا لم يشهداه على حبهما، ثم عادت إلى البلد وخلفت له الشوق والحنين، وكلما لج به هواه وألح عليه الشوق أنس في وحدته بذكرى تلك الايام القليلة، أو خرج يلتمس العزاء هناك. . . حيث كانا يجلسان، لعله يسمع في همس النسيم صدى ما كان يتناجيان، أو يستوحي عيون الزهر سر ما استودعاه لديها من عهود الماضي، ويتسمع في خرير الماء رسالة ضلت الطريق إليه، او يتفيأ في ظلال الخمائل مجلساً طالما بسط ذراعيه وضم. هيهات! لقد صمت النسيم إلا حنين المهجور، وجف الزهر إلا عبرة الأسى، وخرس الماء إلابكاء الواجد، وسكن الشجر إلا هزة الشيخ حطمته السنون، ليته لم يلقها بعد إذ أيأسه ذلك البعد الطويل، لقد كان من يأسه في راحة!. . كيف تمر الأيام على الغريب أوحشت نفسه وأنقطع ما بينه وبين الناس؟ انه ليخيل إليه

ص: 76

أن الزمن عبء ثقيل على كتفيه يجاهد للخلاص منه ولو بالخلاص من الحياة، وكلما عاد بنظره إلى الخلف عجب كيف استطاع أن يقطع كل ذلك الماضي وكيف انصرمت أيامه والحمل لم يخف عن كتفيه، ولم يزل بينه وبين الخلاص أمد لا يمتد النظر إلى نهايته؟

الآن لم يبقى بينه وبين الحصول على إجازة كلية العلوم غير عام واحد يستطيع بعده أن يتقدم في ثقة بنفسه واطمئنان إلى مستقبله ليخطبها إلى أبيها، ولكنه حسب إن هو تعجل الحديث في هذا الشأن تفتحت أمامه الأبواب، وانزاحت الحجب، وانكشفت الستور، واستطاع أن يظفر بلقاء (خطيبته) على عين أهلها وأن يتحدث إليها بينهم. واغتنم فرصة سانحة، وما هي إلا أن استجمع شجاعته، فانطلق يحدث أباها، وأبوها ينصت إليه في هدوء. . لا شك أنه كان ينتظر أن يسمع هذا الحديث منذ زمن طويل، وأنه هيأ في خياله صورة هذا المجلس من قبل، فلم يلبثا أن تصافحا في حرارة وعزم، وقلباهما مفعمان بالسرور، وعلى أساريرهما بشر ناطق.

منذ ذلك اليوم أصبح حامد خطيب منيرة، وان لم تتناقل الأفواه هذا الخبر لأنهما حاولا أن يبقياه سراً بينهما حتى يحين يوم إعلانه، وأحس حامد بعض إحساس الملكية لشيء في هذا البيت الذي كان الناس يرونه كثير التردد عليه، ويدفعهم الفضول إلى البحث عن دواعيه، ولكن لم يتغير شيء مما ألفه حامد ونقم عليه وحاول الخلاص منه من قبل، فلا هو استطاع أن يرى خطيبته أو يتحدث إليها، أو يسأل عنها سؤال الشخص عمن يهمه، لقد زاد الحجاب بينهما. وزاد التكلف، وبدأ حديث حسين أفندي عن بعض شؤونه الخاصة فيه بعض الحذر وبعض التأنق، وهو مالم يكن معهودا بينه من قبل، وأصبح صاحبنا حامد يخجل أن يبدو منه بعض الاهتمام بشأن منيرة، حتى ليتحاشى أن ينطق باسمها، كأنه يحس في اختلاج شفتيه عندئذ لهفة مشتاق، وفي نبرات صوته رنين قبلة مكتومة، وإذا نطق به مرة ففي مثل مناجاة الحالم أو إقرار الخاطئ. ولم يكن حامد ليسره ذلك أو ترتاح إليه نفسه، لقد كان يريد بتعجيل الخطبة أن يكون أقرب اتصالا بصاحبته فإذا هو أبعد مما كان، ولقد صرح عن رغبته مرة أو مرتين فكان اعتذار حسين أفندي مضحكا حين نسب إلى أبنته الخجل والتأبي على ذلك فكأنما تأبى شيئا ترضاه، لقد كان حامد يريد أن يستوثق من حب صاحبته وثباتها على العهد قبل أن يسافر إلى القاهرة، ولعله كان يريد يتزود من حبها بما

ص: 77

يقوي عزمه على المضي في جهاده المدرسي مرحلته الأخيرة. عجيب! لقد كان إلى قريب يستطيع ان يراها وأن يبادلها الحديث ولو بابتسامة أو إيماءة على بعد، ولم يكن غير ذلك الشخص الذي يزورهم كثيراً لأنه صديق أبيها، حتى إذا أرتبطا بعهد وثيق على أن تكون زوجته، وأن يكون أقرب الناس إليها حيل بينهما وضوعفت الحجب والستور! تقاليد؟ لو أنه لم يكن قدر رآها من قبل ولم يجلس إليها يتحدثان الساعات، ويمتد تعرفهما السنين لكان من حق التقاليد أن تسيطر على عواطفهما وتمليء أرادتها! تقاليد؟ أن الجهل بعض تقاليد الماضي. . . إن الموتى لا يملكون أن يتصرفوا في شؤون الأحياء!

ولم تنقطع زياراته، ولكنها كانت زيارات جافة مملولة، لقد كان يذهب إلى هناك كل يوم، لا يكاد يرى في الطريق من يحييه، لأنه لا يرى غير صورة واحدة يبتكرها خياله لتصحبه إلى هناك، وحين يعود، ما كان أتعسه! هو آدم، ولكنه هبط من الجنة قبل أن يذوق الثمرة، على وجهه علائم الخيبة واليأس والسخط والتبرم بكل شيء، ولكنه كان يذهب كل يوم. . .!

وأحس حامد وخزا أليما بين جنبيه حين علم ان التقاليد المعكوسة لا تجعلها تحتجب عن غيره من شبان الأسرة، وحين سمع صوتها تتحدث إلى واحد منهم في الغرفة المجاورة، لم يحرم عليه ما يحل لغيره؟ ألأنها خطيبته؟ لقد كان ذلك أجدر أن يرفع بينهما الحجاب؟ وابتدأت الغيرة تدب في صدره. أليست تخرج من المنزل قليلا أو كثيرا لمثل ما يخرج له الفتيات من لداتها زائرة أو متفرجة؟ أليست تسير في الطريق ينتهب من حسنها كل ذي عينين، ويستمتع بمرآها كل من أسعده الحظ أن تلتقي بها عيناه؟ يحسبه مثل متع هؤلاء: نظرة عابرة، أو نهلة عارضة، ولكنهم يسعدون بما يتمناه وهو به أحق ومنه محروم!!

أي معنى لهذه التقاليد إلا أن يكون من مثل تصرف الأم مع صغارها إذ تمنع عنهم الطعام حرصا على صحتهم، أو حرصا على الطعام. .! ولكن الأم لا تمنع أولادها الطعام إلى أن يشفي بهم الجوع على الهلاك، ولا هي تمنعه لتطعمه قطط الحي وكلابه، ليس قريبها الذي فتحت له الباب ورفعت الحجاب ووقفت تحدثه جديرا بهذه الوقفة على مرمى نظراتها الفاتنة، ومن دون خطيبها الذي يتلهف شوقا إليها أبواب موصدة وحجب مضاعفة، لماذا لم تمتنع عليه قبل أن يهمس القدر في أذنه بأمنية الزواج منها؟ ليته رضى أن يبقى صديق

ص: 78

الأسرة زمنا آخر فلم يخطبها ولم يجر حديث الزواج على لسانه، إذ لبقى كما كان (مأمون الجانب) لا تدق أجراس الحذر لقدمه، ولا تغلق دونه الأبواب! ولا يعرف التقاليد ولا تعرفه. .

ولم يطل حامد مجلس في غرفة الاستقبال بعد، فخرج مغضبا وفي عزمه ألا يعود! ولكنه عاد بعد أيام. . وما دام بينه جنبيه قلبه الواهي فلن يستطيع أن يدبر أمراً أو يحكم خطة.

ومرت أيام، ومحا جديد الشوق ماضي الغضب، وجلس مع أبيها يتحدثان في غرفة على الردهة لا يحتجب من يمر قبالتهما، ودق باب البيت، وفتحت الخادم، وقام أبوها فأوصد باب الغرفة، لقد كانت آتية من زيارة إحدى قريباتها، فأبت التقاليد إلا أن يقوم أبوها فيغلق الباب دونهما حتى تمر، وماذا يكون لو رآها كما يراها آلاف الناس في الطريق؟ بل كما يراها ذلك الساب الذي جاء يشيعها إلى دارها؟ وماذا لو كان هو الذي يصحبها ذاهبة لبعض شأنها أو عائدة؟ تقاليد؟ لتسحق هذه التقاليد قبل أن تسحقه، إن كان لا بد أن يكون أحدهما ضحية، لقد كانت تذهب إلى السينما فأي حرج في أن يكون بجوارها هناك، وهي حين تجلس في مقعدها وترفع النقاب عن وجهها لا تبالي من يجلسون بجوارها، وفيهم الفتيان وفيهم الكهول. وعادت الغيرة تأكل قلبه، وتوقد النار في صدره، وجاهر بغضبه، وعادت تمتمة الاعتذار. وأبوا عليها أن تسافر في موعد خاص حددوه لها من قبل، لأن صاحبنا قد حدد هو أيضا ذلك الموعد نفسه لسفره، وماذا لوعدوه رجلا ككل الرجال الذين تقدر كل مسافرة أن تراهم يرافقونها في القطار؟ وأخلفت موعدها وسافرت وحدها وسافر وحده، حذر أن يراها أو يجلس إليها، كما يراها ويجلس إليها كل الناس!

وقدر حامد أنه لا يستطيع أن يصبر طويلا على ذلك البعد الغيور، ورأى أن يتعجل أمره حتى إذا ظفر بزوجه استطاع أن يقف من هذه التقاليد موقفا آخر. ولكن التقاليد أشارت بسبابتها مرة أخرى ووقفت تعترض الطريق؛ لقد كان هناك بعض أمور لها في رأي رجال الماضي شأن واعتبار تأبى هذا التعجيل، وخضع صاحبنا للأمر مرة أخرى ووقف ينتظر والنار تأكله، والتقاليد تذيبه.

ترى كيف حالها في إسارها بين هؤلاء الذي يحصون عليها النظرة والابتسامة، وهي المشبوبة العاطفة الدقيقة الحس، التي يعلم أنها لا تصبر عن لقائه أكثر مما يصبر؟ لقد

ص: 79

استطاعا مرة أو مرتين أن يتلاقيا على غير رقبة، وعلى غير موعد أيضا، فلما نمت عيناها بمكنون قلبها، وافتضح السر لديهم، كان سؤال فيه إعنات، وجواب فيه حرج، فلم يشفع لها غير الدموع!

لقد مر بعد ذلك سنتان أو يزيد، وموقف صاحبنا لم يتغير، وتأبى التقاليد أن تتزحزح من موقفها لتفسح الطريق لزوجين يريدان أن يتمتعا بسعادة العيش قبل فوات الأوان والشباب، وشعر أن فؤاده يهرم. وأن ذلك الحب الذي كان يعمر قلبه أبتدأ يتحول إلى ذكرى حزينة بائسة، وصور الماضي الجميل التي كانت ترف ناضرة أمام عينيه تذوى وتتعرى من فتنة الحياة، والمستقبل الباسم الذي صوره لنفسه من أطياف الأمل تطمس رواءه آلام الحاضر العابس، ويئس وقنع من غرامه الأول والأخير بالذكرى يستبعدها ليعيش فيها لحظات. لقد كان يكره التقاليد لأنها صورة الماضي البالية، ولكنه عاد لا يؤمن إلا بالماضي، ولا يرضى إلا أن يعيش فيه. .!

أراد أن يروض نفسه على السلوان، وأن يدفن ذلك الماضي في أعماق النسيان، ولكن نارا بين ضلوعه كانت تشعل هذه الذكرى كلما هم أن يطفئها، وقلبه بين جنبيه لا يفتر ينبض، وريشة في الخيال تمحو صورا وتبعث صورا.

أيقن أن سلطان التقاليد أقوى من سلطانه، فكيف يحتال على هذه التقاليد حتى تسلس له قيادها، ويملي فيها إرادته؟ لو كان يدري متى تأذن له أن يحتضن خطيبته إليه لاستطاع أن يحمل نفسه على الصبر، ولكنها تؤجل دائما إلى الغد، والغد لا يتحقق.

لقد رأى أختها أمس؛ نهض صدرها، وتحير في خديها ماء الشباب؛ لقد أصبحت هي أيضا عروسا، أصبحت تنظر نظرتها. . ولو فتش فيها وراء هاتين العينين لظهر من خلفهما في مرآة الأمل الزوج الذي أبدعت تخيله وأجادت رسمه. . .

وخطر لها خاطر: لو أن شابا تقدم غدا إلى حسين أفندي يطلب يد (سعاد) ورأى فيه ما يحمله على قبوله، فماذا يكون من أمره؟ ستأبى التقاليد ولا شك أن يزوجها قبل زفاف أختها، وأنه لحريص على التقاليد، وسيأبى عليه أيضا بر الوالد أن يفلت منه هذا الخاطب، وجه التدبير إذن أن يعمل على تعجيل أمر حامد ومنيرة ليخلي الطريق لسعاد، فينتهي من تقاليد ليبدأ تقاليد غيرها. .

ص: 80

ياله من أمل! إذن لاستطاع حامد أن يتغلب على التقاليد بالتقاليد نفسها، بل أن يملي عليها إرادته ويهزأ بها كما أملت عليه إرادتها من قبل هازئة جبارة.!

ومرت أيام، وتلتها أيام. . وفجأة وقعت المعجزة وكان وقعها سعيداً، لقد تقدم الخاطب الوجيه يطلب يد سعاد.

كيف تقدم. .؟ من أين تقدم.؟ من يدري. .؟

وابتدأت التقاليد دورتها في فلك جديد، ترمي إلى هدف آخر، أما حامد أفندي فقد هدأت نفسه، وتفيء ظل الطمأنينة. لقد ظفر بأمنية الحياة. . .!

ولكن. . هل تزوجت سعاد بهذا الخاطب. .؟

ص: 81

‌الكتب

الأعاصير

نظم الشاعر القروي رشيد سليم الخوري

للدكتور عبد الوهاب عزام

قال عمي الكريم عبد الرحمن عزام؛ قد أهدي إليّ من وراء البحار ديوان اسمه الأعاصير فأحسست في كل حرف منه ناراً، وفي كل بيت إعصاراً، وذكرت قصائده المتنبي الذي يقول فيها

مدحت قوما وأن عشنا نظمت لهم

قصائدا من إناث الخيل والحصن

تحت العجاج قوافيها مضمرة

إذا تنوشدن لم يدخلن في إذن

قلت: فأعرنيه لأقرأه. قال: على شرط أن تكتب عنه في الرسالة، قلت: إن وجدته جديراً بالكتابة.

قرأت الديوان كله فإذا قلب ثائر، ونفس طامحة، ألفت عليه العربية فكرها وإحساسها فليس بها إلا الفخر بماضي العرب، والأنفة من حاضر العرب، والرجاء في مستقبل العرب، وإذا الكتاب كاسمه أعاصير ثارت في البرازيل، وأنطقت كقصائد المتبني

إذا سرن عن مقولي مرة

وثبن الجبال وخضن البحارا

حتى وافت بلاد العرب تذكى في خمودها نارا، وتنفث في كل نفس إعصارا. تتبع الشاعر أحداث حوران ودمشق وفلسطين، فأشاد يذكر أبطالها، ونعى على من خذلوهم، وخص أهل لبنان قومه، بأوفى نصيب من لومه، وهو في شعره كله عربي لا يفرق بين دين ودين وقوم وآخرين، بل هو على مسيحيته يعتز بالعرب المسلمين ويعجب بمفاخرهم. ويعذل المسيحيين على أن لم يساهموا إخوانهم في الثورة على الباطل، والاستجابة لدعوى الوطن.

والشعر جملته معمود بالمعاني الجيدة. حال بالأسلوب السهل المتين. ولا أطيل على القارئ وصفي، ولكن أدع الشاعر يعرب عن آلامه وآماله. وضع على غلاف الديوان سبع أبيات منها:

إلهي رد مالك من أياد

على وطني ورد لها الأيادا

ص: 82

خلعتَ على رُباه الحسن فذا

وألبست القطين به الحدادا

شبول الأرز باتَ الحلم عجزاً

وبعض الصبر موت إن تمادى

فكونوا النار تحرق أو قذى في

عيون البطل إن كنتم رمادا

وأهدى الكتاب إلى الشهداء الوطنيين في بيتين:

يا رفاتا تحت الرمال دفينا

مبعدا عاطل الرموس نسيا

لك أهدي هذا الكتاب لأني

لم أجد في البلاد غيرك حيا

ويقول في قصيدته (بطل الصحراء) التي ألقاها في حفلة للإعانة أبطال المجاهدين، والخطاب لسلطان باشا الأطرش

يا شريدا عن البلاد طريدا

أنت في كل معبد من بلادك

كل ما في أقلامنا من مضاء

مستمد من مرهفات حدادك

كل ما في صدورنا من لهيب

هو إضرام ورية من زنادك

كل ما في هتافنا من دوى

هو ترجيع نبضة من فؤادك

كل ما في آثارنا من خلود

هو تاريخ ساعة من جهادك

أيها المنجد المحاويج عار

أن تصم الأسماع عن إمدادك

لو فرشنا لك الجفون مهادا

وجعلنا الأهداب حشو وسادك

ما جزيناك ساعة من ليال

بت عنا على حراب سهادك

كل حر فداك يا فادي الش

م وأولاده فدى أولادك

وفي قصيدته التي يصف فيها هجوم سلطان باشا على الدبابة الفرنسية وقتل من فيها:

وثبت إلىسنام التنك وثبا

عجيبا علم النسر الوقوعا

وكهربت البطاح بحد عضب

بهرت به العدا فهووا ركوعا

كأن به إلى الإفرنج جوعا

وسيفك مثل ضيفك لن يجوعا

تكفل للثرى بالخصب لما

هفا برقا فأمطره نجيعا

وفجر للدماء بهم عيونا

تجارى من عيونهم الدموعا

فخر الجند فوق التنك صرعى

وخر التنك تحتهم صريعا

ومن قصيدته التي عنوانها (الاستقلال حق لا هبة) يصف فيها مجاهدي حوران:

ص: 83

ولئن نسيت فلست أنسى بينهم

رجل الرجال وفارس الفرسان

فكأنهم منه مكان قناته

وكأنه منهم مكان سنان

يرمي بهم قلب الوطيس كأنهم

حمم الحمام قذفن من بركان

يفني الرجال بأحدب ومقوم

ضدين في اللبات يلتقيان

ويكاد يفترس العدو جواده

فكأنه أسد على سرحان

وفي عيد استقلال لبنان:

تروى بدجلة مدمعي وفراته

يا موطنا لم يبق غير رفاته

خلت المحافل من بلابله فلا

تقع العيون على سوى حشراته

حسب الحزين عليك أنك مائت

قد عيدت أحبابه لمماته

شقوا لها الأعلام من أكفانه

وتبادلواالأنخاب من عبراته

أعلام إذلال كأن خفوقها

في وجوه لطم على وجناته

ملفوحة بتحسرات سراته

خفاقة بتنهدات هداته

ومن قوله في لوم قومه:

رضينا للتعصب أن نهونا

فأغمضنا على الضيم العيونا

نقول المسلمون المسلمونا

فنرميهم ونحن الخائنونا

نبيع بدرهم مجد البلاد

فتى حوران لا لاقيت ضرا

لأنت أحق أهل الشام فخرا

لئن لم يؤتك الرحمن نصرا

فحسبك أن غضبت ومت حرا

ولم تسلس لقيد أو قياد

بربك قل متى لبنان ثارا

ليدرك من علوج الغرب ثارا

متى نفرت إلى السيف النصارى

لتغسل بالدم المسفوك عارا

وتحرز مرة شرف الجهاد

ويقول بعنوان (صيحة الجهاد):

ولو لم تكوني فرنجية

لكنت سعادي قبل سعاد

ولكنني عربي المنى

عربي الهوى عربي الفؤاد

ص: 84

لعمرك يا مود لولا ذووك

لما ميز الحب بين العباد

ولا أكرهوا شاعرا أن يق

ول لهذى البلاد وتلك البلاد

فهم أوغروا بالعداء الصدور

وهم أضرموا النار تحت الرماد

فلا تعذلي شاعرا زاهدا

وكم هام بالحب في كل واد

فأني حرام على هواك

وفي وطني صيحة للجهاد

ويقول في حفلة عيد الفطر التي أقامتها الجمعية الخيرية الإسلامية بالبرازيل:

أكرم هذا العيد تكريم شاعر

يتيه بآيات النبي المعظم

ولكنني أصبو إلى عيد أمة

محررة الأعناق من رق أعجمي

إلى علم من نسج عيسى وأحمد

و (آمنة) في ظله أخت (مريم)

هبوني عيداً يجعل العرب أمة

وسيروا بجثماني على دين برهم!

فقد مزقت هذي المذاهب شملنا

وقد حطمتنا بين ناب ومنسم

سلام على كفر يوحد بيننا

أهلا وسهلا بعده بجهنم!

وفي قصيدة الأطرش والدبابة:

إذا حاولت رفع الضيم فأضرب

بسيف محمد وأهجر يسوعا

(أحبوا بعضكم) بعضاً وعظنا

بها فما نجت قطيعا

وبعد فللشاعر القروي رشيد سليم الخوري الثناء والإعجاب من العرب والعربية، والتحية من كل نفس حرة وقلب بالمعالي خفاق.

ص: 85