المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 220 - بتاريخ: 20 - 09 - 1937 - مجلة الرسالة - جـ ٢٢٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 220

- بتاريخ: 20 - 09 - 1937

ص: -1

‌حقيقة النفس

هل إليها من سبيل؟

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

كان (ويندل هولمز) يقول - ولا يزال، على الأقل في كتابه فقد شبع موتاً من زمان - إن الإنسان في حقيقته ثلاثة؛ وإن (أحمد) - مثلاً - توجد منه ثلاث صور: فهنا احمد كما يعتقد هو في نفسه، وهناك احمد ثان كما هو في رأي محمد، وهناك احمد ثالث هو الذي يتكون من اعتقاده في رأي محمد فيه، وعلى هذا القياس يمكن أن يكون هناك ألف احمد أو أكثر، ولا يكون لأحمد الحقيقي وجود في الواقع، لأنه ضائع بين شخصياته المتعددة، ولأنه هو نفسه قلما يعرف حقيقة نفسه فكيف بمعرفة غيره؟

كنت أفكر في هذا الذي قاله ويندل هولمز لأن صديقاً لي كان يبدو لي كأنه طائفة من النقائض جُمعت وخُلط بعضها ببعض وعُجن التراب فيها بالنار، ثم صيغ من هذا المزيج المتنافر وغيره، مما يخفى علينا، إنسان نعرفه باسمه، ولا نعرف كنهه وحقيقته؛ وابتسمت وقد خطر لي أنه كالمهربات التي يجد رجال الجمارك مكتوباً على صناديقها:(بطاطس) أو (زيتون) ويفتحونها فإذا البطاطس أو الزيتون هناك، ولكن حشوه حشيش أو رصاص أو غير ذلك من المحضورات! وكنت أعجب له هل يدرك، يا ترى، أن له بواطن وظواهر مختلفات، وأنه أشخاص كثر لا شخص واحد، وأن في أعماقه تيارات شتى تتلاقى لتتدافع لا لتتساير؟ فسألته عن ذلك فقال:(إنك لست أقل مني تعدداً، أنت أيضاً لك جوانب كثيرة) فبينت له أني لا أنتقد ولا أعيب، وإنما أريد أن أفهم، فكان مما سمعته منه:(إنك أنت أيضاً لك سيرة في حياتك العامة، وسيرة أخرى في حياتك الخاصة، ولك رأي تذيعه ورأي تضمره، وشخصية تكشف عنها وأخرى تسترها، ونزعة تبديها ونزعة تحجبها؛ أو لعلك لا تتعمد شيئاً من ذلك ولا تفطن إليه ولا تدريه ولكنك على التحقيق تغير جلدك في اليوم الواحد أكثر من مرة)

قلت: (إذن ما حقيقة الإنسان؟)

قال: (حقيقته يعلمها الذي خلقه وركبه فيما شاء من الصور)

قلت: (قد تؤدي هذه الحيرة إلى إنكار المرء لنفسه. أين أنا بين هذه الصور العديدة

ص: 1

المتناقضة التي تبدو لي كأنها لي؟)

قال: (وما المانع؟)

قلت: (وإذا ضاعت نفسي؟ إذا خفيت عني حقيقتها؟)

فصاح بي وهو يضحك: (إذا؟ تقول إذا؟ إن حقيقتها ضائعة يا صاحبي من قبل أن تفطن إلى احتمال ضياعها! تعال. . . تعال)

قلت: (إلى أين؟)

قال: (وما سؤالك هذه؟ أتكره أن تريح رأسك المتعب أو أن تنظر إلى صورة لجانب من نفسك الخفية المضمرة؟)

قلت: (ماذا تعني؟)

قال: (أعني أن النفس كتاب فيه ورق كثير. . . كثير جداً. . . ولكنه مطوي. . . يحتاج إلى يد تفتحه وتقلب صفحاته؛ هذه الأيدي هي المناسبات والظروف. وكثير من الناس تظل كتب نفوسهم مطوية لأن حياتهم لا تتيح لهم أسباباً تدعو إلى فتح الكتاب والنظر إلى ما فيه. . . وقد تكون نفيسة جداً، ولكنها تبقى مغلفة مجلدة، لأن حياتهم تتدفق بانتظام في مجرى مألوف مثلاً، لا يحوج إلى الرجوع إلى الكتاب والاستمداد من وحيه والاسترشاد بما فيه. . . ملايين وملايين من الخلق هكذا، وتراهم فترى البساطة والوضوح والجلاء. . . لاشيء يبدو خفياً أو معقداً. . . ولكن من يدري كيف يكونون لو أن الكتاب فتح مرة؟ وماذا ترى يبقى حينئذٍ من البساطة والوضوح؟ تعال، تعال).

قلت: (هل لي أن أعرف أي يد ستفتح لي اليوم كتابي وتقرئني بعض ما فيه؟)

قال: (فتاة رشيقة ظريفة تنسيك الدنيا والسعي والكدح وراء الرزق).

قلت: (ومعنا رابع أو رابعة؟)

قال: (رابع: أخوها)

فهممت بسؤال ولكنه زجرني عنه، وقال:(اركب اركب)

وبلغنا البيت فأطلق النفير فأطل الذي هو (أخوها) وصاح: (حالاً. حالاً)

وخرجنا إلى روضة على النيل وكانت جلسة ظريفة وممتعة، نعمنا فيها بالضحك والحديث وأنس المجلس ثم رجعنا، فسألني لما صرنا وحدنا:(ما رأيك؟)

ص: 2

قلت: (لا أدري ماذا تستفيد من هذه المجالس إلا الحسرة. أولى بك أن تقصر. . . هو أحجى وأرشد)

قال: (لا أستطيع. إني مدبر فعيني لا تزال تتلفت إلى ما أُوَلَّي عنه. أنت أصغر مني فالذي أمامك لا يزال إن شاء الله أطول مما خلفت وراءك. وهل وراءك إلا الطفولة الغافلة والحداثة الجاهلة والشباب الغرير؟ ولكني أنا ورائي خير ما في العمر. . . فلا يسعني إلا أن أنثني وأتلفت وأدور وأتوقف. غير أني لا أتحسر لأني أصح إدراكاً لحقائق الحياة من أن أفعل ذلك؛ وحسبي متعة النظر ولذة الحديث، ومن متعي أن أرى الشباب كيف يلهو كما كنت ألهو. ولست أحجم عن اللهو إذا تيسرت لي أسبابه وإلا ففي لهو العقل الكفاية)

قلت: (اسمع. إني لا أرى مما يليق بك أن. . .)

فصاح بي: (خل ما يليق بي لي، فإنه شأني. واسمع. إن لي حياتين: حياة العمل وهذه مشتركة بيني وبين الناس وأنا فيها جاد صارم، وحياتي الخاصة وهذه لي وحدي وليس للناس شأن بها فيما لا يمسهم منها. . . لا تعترض. . . إن الناس جميعاً كذلك ومنافق كذاب من يدعي غير هذا)

ومن آرائه أن أهل المدن المتحضرين ليسوا أقل خشونة وجلداً من أهل الريف، ولا أرق ولا أطرى كما يتوهمهم البعض. ومن قوله لي في ذلك:(إنكم تنظرون إلى أفراد معدودين من ذوي اليسار والترف، وتقيسون أهل المدن جميعاً على هؤلاء الآحاد وتنسون أن كثرة الناس من الفقراء الذين لا يكفون عن السعي والكدح في سبيل الرزق ليلاً ونهاراً. . . أين في الريف من يتعب كتعب أهل المدينة؟ أين في الريف من يعدم قوتاً، ويبيت طاوياً كما يبيت الكثيرون من سكان المدن؟ وأين هو هذا الترف في حياة المدينة؟ وليس في المدن رذيلة إلا وفي القرى مثلها؛ ولكن المدن مزدحمة غاصة، وتيار الحياة فيها زاخر، فالعيوب تبدو أبرز. كلا، الإنسان هو الإنسان سواء أكان في قرية سحيقة أم في المدينة، ولكن الحياة في القرية أهدأ وضغطها على الأعصاب وإتلافها لها أخف وأقل؛ فالناس في المدن أطلب للترفيه، وأكثر مصارحة بالرغبة فيه)

وآراؤه في مجالسه العامة غير آرائه في مجالسه الخاصة، فهو مثلاً في حياته العامة لا ينحرف مقدار شعرة عن تأييد التقاليد المقررة، ولا يكف عن الدعوة إلى مغالبة النفس

ص: 3

وضبطها وكبحها والحرص على الفضائل الاجتماعية، ولكنه حين يكون بين إخوانه الذين اصطفاهم لا يتردد في المعالنة بإنكار الخير والشر والفضيلة والرذيلة، ويذهب إلى أن هذه كلها أكاذيب يستعان بها على تنظيم حياة الجماعة ووقايتها ما تجره الفوضى؛ ويؤدي إليه إرسال النفس على السجية الساذجة بلا كابح. وعنده أن الإنسان حيوان مصقول لا أكثر، ولكن الصقل لا يمنع أن تطغى عليه حيوانيته إذا استفزها شيء، فلا تعود طبقة الدهان - وإن كانت سميكة - تنفع أو تصد. وما من إنسان في رأيه يحجم عن الشر حتى من غير استفزاز إذا وسعه أن يقدم عليه وهو آمن. وكل امرئ يشتهي أن يكون له مال الأغنياء، وقوة الأقوياء، وسطوة الحاكم، وبطش الظالم، وفجور الفجار؛ ولكنه يقيس قدرته إلى شهوته فبطلب ما في طوقه، ويقصر عما عداه، وتفعل العادة والنظام المألوف والشرائع فعلها أيضاً.

ولست أعرفه مشى في جنازة أو بكى على ميت، فأن هذه عنده سخافة. وحبه مع ذلك للحياة وجزعه من الموت أقوى ما عهدت، ووفاؤه لإخوانه وحدبه ورقة قلبه من الفلتات المفردة في هذه الدنيا. وهو حين يذكر نظرية قديمة ظهر بطلانها وعفي عليها الزمن، يخيل إليك أنه يؤبن ميتاً على قبره من فرط شعوره بالزوال؛ وإذا سمعته يبين فساد رأي رأيته يترفق بالرأي ولا يعنف في تفنيده كأنما يتقي إيلامه وجرحه.

وقد قلت له مرة: (إنك تهدم بيد ما تبني بالأخرى) فقال: (كلا، فإن الذين أصارحهم بما انطوي عليه من الآراء الخاصة - أو على الأصح أدع نفسي تتفتح على هواها بلا كابح في حضرتهم - يسعهم أن يفهموا ويقدروا، بل أن يهتدوا إلى أصح وأصدق من آرائي؛ أما سواد الناس فأصلح لهم أن يبقوا على التقاليد، وأن تتحدر حياتهم في المجاري المقررة المحفورة من قديم الزمان، وإلا ارتدوا إلى الهمجية. ثم إني أخشى أن أكون مخطئاً فكيف أستبيح أن أزلزل للناس نفوسهم؟ ألا يمكن أن يكون الناس على صواب وأكون أنا الذي ركبت من الغلط أبلد الحمير؟ جائز. . . كل شيء جائز).

صحيح! كل شيء جائز! ولهذا تضيع الحقيقة.

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 4

‌توارد الخواطر

للأستاذ عباس محمود العقاد

قبل أربع عشرة سنة كتب صديقنا الأستاذ المازني مقالاً عن الخيام ألمع فيه إلى تصوف الخيام واستغرب أن يدين رجل مثله بخيالات المتصوفة وشطحاتهم البعيدة عن تحقيق الحلم وتقرير الواقع لأنه (كانت له موهبة تنأى به عن التصوف: ذلك أنه كان رياضياً بارعاً؛ ومما يذكر له في هذا الباب تنقيحه التقويم السنوي تنقيحاً أظهر فيه من الحذق والأستاذية ما أطلق لسان جيبون المؤرخ الإنجليزي بالثناء عليه. وله كذلك طائفة من الجداول الفلكية ومؤلف في علم الجبر بالعربية؛ والذهن الرياضي مجاله وعمله ضبط الحدود والحصر وتعليق النتائج بأسبابها والمعلول بعلته، وهو عمل يتطلب من الدقة والعناية والترتيب والتبويب ما لا يطيقه أو يقوى عليه ذهن المتصوف. ومن العجيب أن فتزجرالد لم يفطن إلى دلالة هذا ولا خطر له أن يسوق هذه الحجة فيما ساقه لتبرئة الخيام من التصوف).

ومن رأيي الذي لا أزال أراه أن الملكات الرياضية أقرب الملكات إلى التصوف والفروض البعيدة والعقائد الخفية، فكتبت يومئذٍ بصحيفة البلاغ مقالاً عن القرائح الرياضية والتدين، ناقشت فيه رأي الأستاذ المازني وبينت فيه أسباب العلاقة بين القريحة الرياضية وبين التدين والإيمان بالغيب؛ وأهمها أن حقائق الرياضة ذهنية وليست خارجية، فهي أقرب إلى الفروض وأبعد عن مراجعة الواقع الذي يراجعه علماء الحس والتجربة والمشاهدات العملية؛ فاعتماد الرياضيين على البديهة أكثر من اعتمادهم على الملاحظة، واستعانتهم بالفرض أكثر من استعانتهم بالتجربة: وموقفهم أمام المجهول موقف يسلم به فرضاً ولا يستبعد فيه أي شيء، وهذا سر تدينهم وإخباتهم وميلهم إلى تصديق المعجزات والخفايا وما شاكلها مما يلي البديهة الغامضة ولا تكاد تجمعه بظواهر الأشياء صلة. وفي عصرنا هذا لم يشتهر أحد من الرياضيين كما اشتهر أوليفر لودج الإنجليزي وفلامريون الفرنسي وأديسون الأمريكي، وكلهم من أعظم علماء الرياضيات، وكلهم مسترسل في إثبات أسرار الروح وكشف غوامض الاستهواء.

قلنا: (لهذا تتآخى فروع هذه الحقائق أحياناً وتتآلف العلوم التي تبحث فيها وتتقارب الملكات التي تكون في المشتغلين بها، فيكثر من يجمع بين الفلسفة والرياضة ولا يندر أن ترى من

ص: 5

يجمع بينهما وبين الموسيقى معاً. فالفارابي مثلاً كان رياضياً مبتكراً في الموسيقى، وفيثاغورس أقدم فلاسفة ما وراء الطبيعة عند اليونان كان يبني فلسفة الكون كله على النسب الموسيقية بين الأعداد. وقد مر بمصر قبل أيام نابغة من أفذاذ الرياضة هو ألبرت اينشتين صاحب الفلسفة النسبية التي دهمت الناس ببدع في تعريف الوقت والفضاء يكفي أن نذكر منها أن الخط المستقيم ليس من اللازم أن يكون أقرب موصل بين نقطتين. وهو فيلسوف رياضي وموسيقار بارع في العزف على القيثار. وليس يخفى الشبه القريب بين ملامح العظماء من الفلاسفة والرياضيين وملامح العظماء من نوابغ الموسيقيين. فقد تلتبس عليك صورهم حتى لا تكاد تميز بعضهم من بعض ولا سيما في نظرات العين وسعة الجبهة وارتفاعها. . .) ومن ذلك أن ينبغ العازفون والحاسبون والعدادون في الطفولة الباكرة وفيما دون الخامسة أحياناً ولا يحصل ذلك في سائر العلوم.

ذكرني ذلك البحث القديم الجديد اتفاق عجيب بين أمور متعددة لا رابطة بينها في هذه الأيام.

فالأستاذ المازني يكتب عن توارد الخواطر، وفي مقالي الأخير بالرسالة كلمة عن الرياضيات واتصالها بعالم الروح، وبينما أفكر في هذه الموضوعات إذا بكتاب جديد يصدر من مطبعة (جولانكز) الإنجليزية عنوانه (عظماء الرياضيين) لمؤلفه الأستاذ (بل) الرياضي المشهور في الجامعات الأمريكية. فتصفحته واستقصيت بعض تراجمه فإذا به لا يقول ما قلته عن الصلة بين التدين والرياضة والموسيقى والحقائق الفرضية، ولكنه يعرض لنا تراجم العظماء الرياضيين وعجائب آرائهم ونوادر صباهم وطرائف أخبارهم فلا يسع القارئ إلا أن يخرج منه بتلك النتائج التي أجملناها قبل أربع عشرة سنة كأنها استقصاء ثم تلخيص لكل ما ورد في ذلك الكتاب.

من ذلك أن الرياضي الكبير سلفستر يقول: (ألا يجوز إذن أن توصف الموسيقى بأنها رياضيات الحس، وأن توصف الرياضيات بأنها موسيقى العقل، وأن يقال إن الموسيقار يحس رياضياً وأن الرياضي يفكر موسيقياً؟ فالموسيقى هي حلم الحياة، والرياضة هي عمل الحياة، وكلتاهما تستوفي نصيبها من الأخرى حين يرتقي الذهن البشري إلى أوجه الأعلى، ويسطع في مزدوج من العبقرية يجمع بين موزار وديرشليه، أو بين بيتهوفن

ص: 6

وجاوس، وهو الازدواج الذي تجلى وميض منه في عبقرية هلمهولتز وأعماله).

ومن ذلك أن الرياضي السويسري النادر المثال ليونارد إيلر الذي قيل فيه إنه يصنع المعادلات كما يتنفس الهواء، كان شديد التدين، وكان يصلي بالأسرة في منزله؛ وخطر له أن ينتقل من ألعوبة دبروها في البلاط الروسي للفيلسوف (ديدرو) إلى الجد كل الجد في إثبات وجود الله بالمعادلات الرياضية. فلما تمادى ديدرو في تكفير رجال الحاشية الروسية ومجادلتهم في وجود الله تعمدت كاترين الكبيرة أن تداعبه وتفحمه من طريق الرياضيات التي كان يجهلها كما يجهل اللغة الصينية، فوكلت به إيلر فواجهه في جد ورصانة ولفق له معادلة وتحداه أن يجيب إن استطاع الجواب. . . فلم يدر الفيلسوف بماذا يجيب، وكانت أضحوكة البلاط إلى حين.

قال الأستاذ (بل) مؤلف الكتاب: (ولم يقنع إيلر بفكاهته الفاخرة بل حاول بعد ذلك أن يجلو الزنبقة وراح وهو جاد غاية الجد يركب المعادلات والبراهين الرياضية التي تثبت أن الله موجود وأن الروح مجردة من المادة. وقيل إن هذه البراهين تسربت إلى فلسفة الفقه والتصوف على أيامه فكانت على الأرجح نخبة الأزاهير التي تتمثل فيها عبقريته الرياضية بمعزل عن الشؤون العملية).

ومن ذلك أن جاوس الملقب بملك الرياضيين عرف تصحيح الحساب قبل بلوغه الثالثة من عمره. وكان أبوه رئيساً لطائفة من العمال، فلما كان يوم السبت واستدعاهم لإحصاء ما لهم وما عليهم بمسمع من طفله الصغير غلط في الجملة فصاح به الطفل:(يا أبتاه! ليس هذا بصحيح، وإنما الصحيح كيت وكيت) وروجع الحساب فإذا هو على صواب.

ويقول المؤلف: (ومما تشوق ملاحظته - لما هو معهود في الرياضيين من الميل إلى الموسيقى - أن فيرستراس الكبير لم يكن يقبل الأنغام على ضروبها مع اتساع مشاركاته، فلم تكن تعنيه ولم يزعم هو أنها تعنيه).

وعندنا أن هذا غريب حقيق بالملاحظة كما قال المؤلف، إلا أن غرابته تهون كثيراً متى ذكرنا أن فيرستراس هو القائل إن الرياضي لا تستقيم له ملكة الرياضة إلا بقسط من الشاعرية فيه، وأنه كان يعارض إخوته في تعلم الموسيقى لأنهم كانوا يروضونه بها على الرقص وشهود المجتمعات.

ص: 7

وكان (كبلر) يزعم أنه اهتدى إلى نسبة بين حركات الكواكب السيارة ومواقعها تشابه النسب التي بين الأنغام الموسيقية والمقامات.

وتعددت الأقوال التي ترجع بتركيب الكون كله إلى النسب الرياضية ولا سيما بعد ما ظهر في السنوات الأخيرة من تحليل النور ورد المادة كلها إلى الإشعاع، ورد الإشعاع كله إلى مقدورات عددية يوشك أن تخرج به من عالم المادة إلى عالم الحساب. فبعد مقال أفلاطون:(إن الله يهندس) ومقال جاليلي: (إن كتاب الطبيعة العظيم مكتوب بلغة الرياضيات) ومقال جاكوبي: (إن الله يحسب) يقول الأستاذ جينس في كتابه (الكون الخفي) وهو من أقطاب العصر الحديث: (إن مهندس الكون الأعظم قد بدا لنا اليوم محض رياضي. . . وإن الكون يلوح لنا رياضياً على منوال مخالف لكل معنى تصوره الفيلسوف (كانت) أو كان في وسعه أن يتصوره في أيامه؛ فإن الرياضيات بالإيجاز تهبط إلى الكون من عل ولا تصعد إليه من الأدنى).

ومن الاتفاق الذي ينساق في هذا المساق ما رواه الأستاذ جينس في كتابه المتقدم عن رأي هكسلي في المصادفات وتوارد الخواطر. فهو يعتقد اعتقاده أننا لو أسلمنا الآلات الكاتبة إلى ستة قرود يدقون على حروفها بغير قصد ولا معرفة، ملايين بعد ملايين من السنين لكان لزاماً أن يجيء الوقت الذي (تنكتب) فيه بهذه الوسيلة جميع الكتب التي في المتحف البريطاني).

ولا يخفى ما يريده هكسلي بهذه النكتة المنطقية، ولكنه على كل حال قد خرج بالمسألة إلى (ما وراء الطبيعة) وأبطل حكم العقل والإرادة فيها. فمهما يطل عمر الإنسان فما هو ببالغ أن يفسر لنا على هذا النمط اتفاق الخواطر في صفحة واحدة بله الألوف من المجلدات التي تحويها دار الكتب البريطانية.

ولا حاجة إلى القرود الستة وملايين السنين والآلات الكاتبة لتعليل توارد الخواطر في الآراء أو في العبارات، فإن علم النفس يغنينا حيث لا يغني التطوح ملايين السنين وراء المشهود والمحسوس. وقد كان علم النفس كافياً حتى الآن لتعليل حفظ العقول صفحات عديدة في حالة (الغيبوبة) أو حالة التنويم المغناطيسي أو حالة (التنويم الذاتي) أو ما يشبه هذه الحالات من عوارض الحمى العصبية. فإذا رأينا حالة كالتي رواها صديقنا الأستاذ

ص: 8

المازني يستوعب فيها الإنسان بضع صفحات لا يخرم منها حرفاً ولا نقطة ثم يعيدها وهو معتقد أنه يمليها من وحي بديهته فلنرجع إلى علم النفس في وصف العوارض التي تأتي بهذه الغرائب فإنه لكفيل بتعليلها أو بإبداء مقطع الحق فيها.

وإنما العبرة من جميع ما تقدم أن نسأل: ترى لو صدر كتاب (عظماء الرياضيين) قبل كتابة المقال الذي ناقشت به الأستاذ المازني منذ أربع عشرة سنة، أما كان أقرب الاحتمالات إلى الذهن أنني قرأت ذلك الكتاب واستوحيت منه التحليل الذي فرقت به بين عقول الطبيعيين وعقول الرياضيين وعقول الموسيقيين؟ أم كان من المستغرب يومئذٍ أن يقال إنني لم أطلع على ذلك الكتاب وإن كان مؤلفه لم يبسط فيه الرأي الذي بسطته، ولم يتجاوز أن جمع أخبار الرياضيين وعجائبهم في سجل واحد؟

فأما وصدور الكتاب بعد كتابة المقال محقق لا شك فيه فهذا التوافق يبدو سهلاً جائزاً خلواً من الغرابة. ومن ثم ينبغي أن نقدم الاستقراء العقلي - في تمحيص الخواطر المتواردة - على استقراء التاريخ مع رجاحة هذا وصعوبة الاستغناء عنه، لأن استقراء التاريخ وحده لا يكفي للبت في جميع الأمور.

ونعني بالاستقراء العقلي أن نمتحن ذهن الكاتب وأن نتابع وجهته في تفكيره؛ فإذا عرفنا أنه قمين أن يقول ما قال، وأن يخوض حيث خاض، ويتوجه حيث توجه، فالاتهام بعد ذلك ضرب من اللغو والتمحل، وإن لم يكن كذلك فهو متهم ولو لم يكشفه استقراء التاريخ.

أما حين يقع الاتفاق في العبارات والحروف صفحات متواليات فليس من المروءة أن نجزم باستحالة ذلك قبل أن نحتكم إلى الاستقراء العقلي من طريق علم النفس ودرس الذهن الذي تقع له أمثال هذه الغرائب، فقد يهدينا الحكم الوئيد هنا حيث يضلنا الحكم السريع، ولا ضير علينا إذا تطابق الحكمان في النهاية بعد الموازنة والمقابلة بين جميع الفروض.

عباس محمود العقاد

ص: 9

‌1 - مصر في أواخر القرن الثامن عشر كما يصفها

‌الرحالة سافاري

للأستاذ محمد عبد الله عنان

كانت مصر خلال العصور الوسطى كعبة لطائفة كبيرة من الرحل والباحثين يفدون عليها من المشرق والمغرب، تجذبهم عظمتها وآثارها وعلومها وفنونها؛ وقد ترك لنا كثير من هؤلاء الرحل آثاراً قيمة عن مصر وأحوالها في مختلف العصور. ونستطيع أن نذكر من هؤلاء ابن حوقل وعبد اللطيف البغدادي وابن بطوطة، والبلوي، وابن خلدون من الرحل والعلماء المسلمين، ومركوبولو ودي جوانفيل وبيترو مارتيري من الرحل الغربيين. ولم ينقطع ورود هذا الرهط من الرحل بعد الفتح العثماني، بل نلاحظ بالعكس أن الرحل والباحثين الغربيين يفدون على مصر منذ القرن السابع عشر في فترات متقاربة ويضعون عنها المؤلفات والبحوث المطولة؛ ولدينا منهم في القرنين السابع عشر والثامن عشر ثبت حافل؛ ولدينا من آثارهم مجموعة نفيسة من الوثائق والصور عن مصر في هذه الفترة. وإذ كان العصر العثماني من أغمض عصور التاريخ المصري وأشدها ظلاماً، فإن هذه المجموعة من آثار الرحل الغربيين تعتبر من أهم مراجعنا في دراسته وتصويره.

بيد أنه مما تجدر ملاحظته هو أن القرن الثامن عشر كان بالنسبة للدولة العثمانية فترة انحلال وضعف؛ فقد كانت قواها العسكرية تنهار تحت ضربات روسيا القوية، وكانت الاضطرابات والمتاعب الداخلية تقوض من صرحها القديم الشامخ؛ وكانت مصر في ذلك الحين قد أخذت تتحرك من سباتها الطويل، وتترقب الفرص لتحطم ذلك النير الغاشم الذي يعصف بقواها المادية والروحية منذ قرنين. وفي منتصف القرن الثامن عشر استطاع زعماء مصر، بقية الأمراء من الشراكسة أن يستردوا نوعاً من الاستقلال المحلي، وأن يبسطوا حكمهم الفعلي على مصر، وأن يجعلوا سلطة الدولة العثمانية اسمية رمزية فقط؛ وتعاقب في حكم مصر منهم عدة بدأت بإبراهيم بك ورضوان بك، ثم علي بك الكبير. فمحمد بك أبي الذهب، فمراد وإبراهيم. على أن هذا الحكم الداخلي المستقل كان نوعاً من المغامرة التي لا تستند إلى قوة مادية يخشى بأسها أو تأييد شعبي حقيقي، وكانت مصر عاجزة عن مواجهة الأخطار الخارجية دون معاونة الدولة العثمانية. ففي تلك الفترة التي

ص: 10

انهارت فيها قوى الدولة العثمانية، والتي تركت مصر فيها مفتحة الأبواب دون حماية حقيقية، نرى ثبتاً من الرحل الغربيين يفدون عليها في فترات متقاربة، ويدرسون أحوالها وشئونها بعناية ودقة؛ وكان جل هؤلاء الرحل من الفرنسيين والإنكليز؛ فهل كان مقدمهم إلى مصر في تلك الظروف أمراً عرضياً؟ وهل كانوا طلاب سياحة وثقافة ودرس فقط؟ أم كانوا طلائع الاستعمار الغربي المتوثب يومئذٍ، قدموا إلى مصر يجوسون خلالها ويتفقدون شئونها وأسرارها تمهيداً لمشاريع يجيش بها هذا الاستعمار؟ ويلوح لنا أن هذه الرحلات والدراسات المستفيضة لم تكن بريئة كل البراءة، ولم تكن بعيدة كل البعد عن وحي الاستعمار ومشاريعه؟ ولقد ألفى الاستعمار في هذه الدراسات كل ما يرغب في معرفته عن مصر وعن أحوالها الاقتصادية والسياسية وبالأخص عن قواها الدفاعية. وفي خاتمة القرن الثامن عشر دبر الاستعمار الأوربي أول مشاريعه لافتراس مصر، وجاء بونابرت إلى مصر تحدوه أحلام إمبراطورية عظيمة، كان يعتقد أنه يستطيع أن يتخذ مصر قاعدة لتحقيقها.

وكان في مقدمة الرحل الذين قدموا إلى مصر قبل الفتح الفرنسي بقليل رحالة ومستشرق فرنسي ترك لنا عن مصر في أواخر القرن الثامن عشر أثراً من أنفس الآثار وأقيمها، فإن الرحالة العلامة هو كلود إتيان سافاري الذي قدم إلى مصر في سنة 1776، تحدوه أحلام مشرقية باهرة؛ وكان مولده في فتري سنة 1750، ودرس دراسة جامعية حسنة في رون وباريس، وكان في السادسة والعشرين من عمره حينما اعتزم الرحلة إلى المشرق يجذبه بهاء المشرق وروعته؛ وقضى في مصر ثلاثة أعوام طاف خلالها أرجاء الديار المصرية من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، وزار جميع معالمها ومعاهدها وآثارها، ودرس جميع أحوالها وشئونها ومجتمعاتها، ودرس اللغة العربية والدين الإسلامي: ثم زار الجزر اليونانية، وعاد إلى فرنسا سنة 1781 بعد غيبة دامت خمسة أعوام؛ ووضع عن رحلته ودراساته في مصر طائفة من الرسائل المستفيضة ملأت ثلاث مجلدات، ونشرت بين سنتي 1785 و 1789؛ ثم نشر ترجمة حسنة للقرآن وأتبعها بكتاب في تفسير قواعد الدين الإسلامي تحت عنوان وترجم بعض قصص ألف ليلة وليلة إلى الفرنسية، ووضع أجرومية للغة العربية والعامية ظهرت بعد وفاته. وتوفي في باريس سنة 1788، وهو دون

ص: 11

الأربعين.

كان سافاري إذاً رحالة من طراز خاص، أعدته مواهبه ومعارفه للقيام بدراسات حسنة في بلاد المشرق؛ فقد درس اللغة العربية، وعرف تاريخ المشرق، وعرف كثيراً عن الإسلام والشريعة الإسلامية؛ ومن ثم كانت رسائله عن مصر تمتاز بطابع من الدقة لا نجده في كثير من الكتب والدراسات المماثلة، وهو يقدم إلينا هذه الرسائل تحت عنوان (رسائل عن مصر) ' ويصف لنا محتوياتها فيما يأتي:(بها وصف لخلال أهل مصر القديمة والحديثة ووصف لنظم الدولة، وأحوال التجارة والزراعة، وغزو القديس لويس لدمياط منقولاً عن جوانفيل والروايات العربية، ومعها خرائط جغرافية). ويهدي سافاري كتابه إلى (صاحب السمو أخي الملك. . لما أسبغه عليه من مؤازرة مكنته من نشر رسائله، وإنه لشرف عظيم أن يتوجها باسم مولاه. .) ويوجه رسائله إلى هذا الأمير أخي الملك؛ وقد كان ملك فرنسا يومئذٍ هو لويس السادس عشر وأخوه الدوق دورليان. ويبدو مما كتبه سافاري في رسالته الأولى أن الأمير المشار إليه هو الذي نصحه عند سفره أن يدرس أحوال المجتمعات التي اعتزم زيارتها وخلالها وعاداتها ولغاتها.

وقد كان لآثار مصر الفرعونية وذكرياتها القديمة في نفس سافاري أعظم الأثر، وهو يعرب لنا في مقدمته عن عظيم إعجابه بذلك التراث الباهر، ويقول لنا:(إن من يرى الآثار التي تحتفظ بها مصر، يستطيع أن يتصور أي شعب هذا الذي تحدت صروحه أحداث الزمن. فهو لم يكن يعمل إلا للخلود؛ وهو الذي أمد هوميروس وهيرودوت وأفلاطون بكنوز معارفهم التي أسبغوها على بلادهم؛ وإنه لمن الأسف أن العلم لم يستطع بعدُ أن يكشف عن أسرار النفوس الفرعونية (الهيروغليفية) التي تغص بها هذه البلاد الغنية، فمعرفة هذه الأسرار تلقي ضياء على التاريخ القديم، وتبدد الظلمات التي تكتنف عصور التاريخ الأولى) وقد تحققت أمنية سافاري بعد ذلك بقليل، إذ اكتشف حجر رشيد ووقف العلم على أسرار اللغة الفرعونية، وبدأت البحوث الأثرية بين الأطلال والآثار الفرعونية تكشف تباعاً منذ أوائل القرن التاسع عشر عن روعة هذه المدنية الفرعونية الباهرة التي ما زالت هياكلها وآثارها العظيمة، مدى العصور مثال الإعجاب والإجلال والتقدير.

ويبدأ سافاري رسائله عن مصر من الإسكندرية في 24 يوليه سنة 1777 بعد أن مكث في

ص: 12

مصر أكثر من عامين، ويوجهها جميعاً إلى هذا الأمير الذي يهدي إليه كتابه، ويستهلها بوصف جامع لجغرافية مصر، ثم وصف بديع لمدينة الإسكندرية وآثارها الرومانية؛ ويستعرض بعد ذلك حوادث الفتح العربي، ودخول الإسكندرية في ظل الحكم الإسلامي، ويعطف على قصة مكتبة البطالسة الشهيرة، وينقل خرافة إحراقها بأمر عمر عن بعض الروايات العربية. ويبدو مما يكتب سافاري أن الإسكندرية كانت في أواخر القرن الثامن عشر لا تزال تحتفظ بقسط من عظمتها القديمة وتجارتها الزاخرة برغم الأحداث الكثيرة التي مرت بها. وكان مما أثار اهتمام الرحالة بنوع خاص منظر عمود السواري وما يحيط به من الأسرار المغلقة، والمسلات التي كانت تسمى يومئذٍ (إبرة كيلوباترة) والمقابر الرومانية، أو كما يسميها مدينة الأموات.

ولم يفت سافاري أن يلاحظ آثار الفتح العثماني المخربة؛ فهو قد درس تاريخ مصر الزاهر في عهد الدولة الإسلامية، واستطاع أن يقدر مما شاهده يومئذٍ من أحوال مصر تلك النتائج المحزنة التي انتهت إليها بعد قرنين ونصف قرن من حكم غشوم عاسف جاهل؛ وهو يقول لنا بحق إن الفتح التركي كان خاتمة لمجد مصر وإن حكم الباشوات قضى على العلوم والآداب، وخرب التجارة والصناعة والزراعة، وأسبغ حجاباً من العفاء الشامل على كل ما كان لمصر الإسلامية من عظمة ورخاء.

ثم ينتقل سافاري من الإسكندرية إلى رشيد، ويقضي بها ردحاً من الزمن، ويصف لنا رشيد وأهلها وأحوالها الاقتصادية والاجتماعية في عدة رسائل شائقة؛ ويقول لنا إن الحياة فيها ساحرة مغرية، وإن لأهلها أزياء خاصة، وإنهم يقصون الشعر ويرسلون اللحى؛ ثم يقصد بعد ذلك إلى القاهرة في مركب شراعي، ويخترق فرع رشيد ماراً ببعض القرى الشهيرة يومئذٍ مثل برمبال ومحلة أمير، ويصف لنا هذه الرحلة البطيئة الشائقة، ويصف لنا بالأخص منظر القرويات على الشاطئ، وكيف يهرعن إلى النهر لأخذ الماء وغسل الثياب والاستحمام أحياناً، وكيف شهد كثيرات منهن يسبحن في النهر نحو المركب وهن يصحن:(يا سيدي هات ميدي) ويقول لنا في لغة شعرية: إنهن يسبحن في كثير من الظرف، وإنهن يتمتعن بأجسام رشيقة ساحرة، وبشرة سمراء بديعة.

وفي هذه المواطن وأمثالها تبدو براعة سافاري الوصفية، وتبدو قوة بيانه. والواقع أن

ص: 13

سافاري يكتب بأسلوب رفيع سواء من الناحية العلمية أو الناحية الأدبية؛ ولا يفوته أن يقدم إلينا خلال وصفه كثيراً من المقارنات التاريخية والأدبية الشائقة؛ وهو من هذه الناحية يتفوق على كثير من الرحل الذين كتبوا عن مصر؛ كما أن رسائله تمتاز كما قدمنا بطابعها العلمي الدقيق.

وسنرى عندما يتم سافاري رحلته النيلية، ويصل إلى مدينة القاهرة أي صور قوية شائقة يقدمها إلينا هذا الرحالة العلامة عن حياة العاصمة المصرية والمجتمع المصري في أواخر القرن الثامن عشر؛ وسنرى أي وثيقة نفيسة تقدمها إلينا رسائله عن تاريخ مصر السياسي والاجتماعي والاقتصادي في هذه الفترة المضطربة التي تعز مصادرها ووثائقها.

فينا في أوائل سبتمبر

(للبحث بقية)

محمد عبد الله عنان

ص: 14

‌أسباب التقليد في التعليم والتشريع بمصر الحديثة

للدكتور محمد البهي قرقر

في مقال سابق حاولت أن أبين أن التقليد هو أساس التعليم والتشريع اليوم في مصر، أساس التعديل في برامج التعليم والتغيير في القوانين المدنية والجنائية، وخصصت بالذكر هاتين الناحيتين لأنهما مظهر الأمة الثقافي والطابع العقلي الذي يعبر عن (نفسية) الشعب.

وإذا ذكرت التقليد فلا أريد منه الناحية الإيجابية التي يجب أن تشجع وتُنمى في زمن الطفولة، فذلك لم يكن هو النظرية السائدة في التعليم والتشريع بمصر، وإنما أقصد النوع السلبي الذي هو ذاك، أقصد النوع الذي لا يتعدى محاكاة الظواهر المقلدة ولا ينفذ إلى كيفية تكونها وهو الذي تدفع إليه العاطفة المجردة عن الروية. ولهذا قلما تتخذ الظاهرة المقلدة صفة الثبات والاستقرار، بل سرعان ما تنمحي من الوجود إذا خفيت العاطفة التي بعثت على تقليدها أو تغلبت عليها عاطفة أخرى تحمل على تقليد مظهر آخر.

لكل كاتب أو مؤرخ أن يبدي رأيه في علل هذا التقليد وأن يوضح الباعث عليه. له أن يعتقد مثلاً أن السبب هو رغبة مصر الحديثة الفتية النشأة في مسايرة المدنية الحاضرة والتقدم بسرعة إلى مصاف الدول الراقية، فهي لذلك لا غنى لها عن التقليد، ولا مفر إذن من أن تتعثر في طريقه مرة أو أكثر. ولكن التقليد الناشئ عن مثل هذه الرغبة في الأمم الأخرى هو دائماً أشبه بسياسة مرسومة ثابتة نعرف إلى أي شيء تنتهي وأي طريق تسلك، فهو نوع إيجابي من التقليد، وذلك ما لا أعتقده في الحركة التقليدية السائرة اليوم في مصر لأنها حركة هوجاء متقلبة، تهدم اليوم ما بنته بالأمس، وتبني في الغد من جديد على غير أساس.

لذلك الكاتب أو هذا المؤرخ أن يعتقد أيضاً أن العلة هي الضعف، إذ يشاهد أن الأمة الضعيفة تقلد القوية في مظاهرها لأنها ربما تتخيل الجمال مفرغاً في تلك المظاهر - فهي لانحطاطها لم تتكون عندها ملكة مستقلة للجمال، مطبوعة بطابعها الخاص، أو على الأقل لم تنضج عندها تلك الملكة بعد، أو لأنها ربما تحاول بذلك أن تستر ما بها من ضعف ونقص؛ فما دام شعار القوي مثلاً هو القبعة، أو مادامت ميزته في قوم هو ليس منهم العجمة في التعبير، فربما يُخيَّل الضعيف لنفسه إذا ما وضع القبعة فوق رأسه، أو إذا ما

ص: 15

أفصح عن مراده في أمته بغير لغته الوطنية. أو لهج لسانه من حين لآخر بكلمات أجنبية، أنه قد أصبح في منزلة القوي وأن له أن يتيه كبراً وخيلاء، ولم يدر أن سلوكه العملي الناشئ عن صفات نفسية خاصة به، وأن طريقه في التفكير الخاضع لبيئته وما ورثه في دمه عن أسلافه ينم عن أنه ما زال هو الضعيف، ولكنه تزيى بزي القوي فحسب.

وربما يكون الضعف هو السبب الرئيسي والعلة غير المباشرة لكثير من صور التقليد، ولكن البحث النفسي الحديث يتجنب الآن بقدر الإمكان استنتاج قوانين عامة لجملة من الظواهر النفسية - لأن ذلك قد مضت مدته بفقدان العلوم الطبيعية والرياضية نفوذها على العلوم العقلية، وتأثيرها في تكوين كليات لها عامة تشرح بها جزئيات متعددة - ويفتش لكل ظاهرة عن علتها الخاصة بها والمباشرة في تكوينها.

والتقليد الآن في مصر في أهم ناحيتين من نواحيها الثقافية والعقلية: في ناحيتي التعليم والتشريع، ظاهرة تغلب على نفسية الشعب، أو بعبارة أدق على رجاله المسئولين في توجيه سياسته العامة. وإذن لبحث هذه الصفة يجب استعراض المؤثرات التي أوجدتها في نفسية هؤلاء وتعهدتها إلى درجة النضوج. وأظن أننا إذا رجعنا ببصرنا إلى تاريخ مصر الحديثة في جيل سابق وجدنا تلك المؤثرات بادية في شيء واحد: في الابتعاد عن التربية الوطنية الذي كان نتيجة لخطة إحدى مدارس التعليم في مصر ولسياسة أخرى تعليمية كانت تهيمن على مدرسة ثانية منها.

فالتعليم في مصر ليس واحداً، والمدرسة التي تخرج منها الشعب متباينة النزعة مختلفة الغرض. فبينما نرى مدرسة وطنية، وهي الأزهر، تعتمد في تهذيب أبنائها على ما ورثته الأمة من ثقافة في صورتها التي احتفظت بها من عصور مضت، إذ بنا نرى مدرسة أخرى، وهي مدارس الإرساليات الأجنبية، تلقن الناشئة المصرية مبادئ تنتهي بخلق أمم متعددة في أمة واحدة، وبفئات من الناس مختلفة لا تجمعهم وحدة في التفكير ولا وحدة في الغرض. وبينما نشاهد هذه وتلك إذا ببصرنا يقع مرة أخرى على مدرسة ثالثة، وهي مدارس وزارة المعارف، ليس بينها وبين اللتين قبلها من صلة إلا أنها ربما تكون أو تحاول أن تكون مزيجاً منهما، ولكنه مزيج لا ينتج عنصراً جديداً كما فقدت فيه كل من مادتيه خواصها.

ص: 16

فالأزهر - في نظر علماء الشعوب والاجتماع - لاشك أنه المدرسة الوطنية التي تربط الأمة بماضيها - وإن كان ينقصها ربط الحاضر بالماضي، وتلقن جيل اليوم ما كان لخلفه من دين ولغة وعادات خلقية وقومية، وهو لهذا كان ولم يزل مكان الخطر على الاستعمار الغربي وعلى سياسته في حكم الشعوب الإسلامية كما يراه الأوربيون أنفسهم الذين تخصصوا في السياسة وفي فلسفتها. ففي المجلة العلمية السياسية الألمانية لمخرجها الأستاذ الفيلسوف السياسي الأستاذ بجامعة بحث جدير بالاعتبار عرض كاتبه لبيان صلة الإسلام ومقدار علاقة الأزهر على الخصوص بالحركات الوطنية في الشرق تحت عنوان (الإسلام والفاشستية) فكاتب هذا البحث يرجع الحركة الوطنية الحالية ضد السيادة الفرنسية في تونس ومراكش والجزائر إلى الأفراد الذين غلبت عليهم الدراسة الوطنية - الإسلامية - وعلى الأخص إلى أولئك الذين تلقوا علومهم في الأزهر بالقاهرة. فالأزهر في رأي هذا الكاتب وفي رأي كثير من أمثاله منبع الخطر على السيادة الأجنبية في الشرق كله.

وفوق ما للأزهر من هذه الصبغة الوطنية فهو مدرسة الشعب والسواد المنتج من الأمة. ولسبب ما، إما لأسلوبه في التعليم (وعدم تمشيه في وقت من الأوقات على نظم التربية الحديثة)، أو لشعبيته، أو لسبب آخر غير هذا وذاك، وآلت الطبقة المثرية من الأمة من أرباب المناصب الكبرى في الحكومة وجهها نحو مدارس الإرساليات الأجنبية، وقصدت الطبقة المتوسطة إلى النوع المزيج وهو النوع الحكومي، وقنع الأزهر بالشعب وبأبنائه، طوعاً أو كرهاً، واضطر لهذا أن يكون بعيداً عن أفق سياسة الدولة، لأن سيادة الروح (الأرستقراطية) وجدت في ظل الحكم التركي ثم في حكم الاحتلال كل أنواع التأييد. فأسلوب التعليم في هذه المدرسة بعيد في ذاته عن التهيئة إلى موجة التقليد الطافحة اليوم في مصر والتي تنذر بالخطر، لأنه هو نفسه ضد التقليد والعقبة في طريقه، وكذا رجالها ليسوا ممن يتبعون سياسة التقليد لأنهم أبعدوا عن السياسة العامة للدولة واكتفوا بالتحدث إلى الشعب عن الحياة الآخرة والسبل الموصلة إلى السعادة فيها، وإن فرطوا بهذا الاكتفاء في حق أنفسهم كأبناء الشعب وفي حق دينهم لإظهاره بالمظهر الروحي فحسب، ثم أخيراً في حق وطنهم لإقصاء أنفسهم وهم أكثرية عن سياسة توجيه الأمور في الدولة أو لرضاهم بهذا الإقصاء.

ص: 17

والمدرسة الثانية، وهي مدارس الإرساليات الأجنبية كانت - ولا تزال - تعمل على قطع الصلة بين الوطن وتراثه العلمي والديني والخلقي، وبين أطفاله وشبانه من أهل الطبقة العالية الذين ولوا الأمر فيما بعد، إذ كانت القاعدة أن ينتخب أولو الأمر منهم؛ ثم زودتهم بثقافة أجنبية ملؤها الدعاية لأمة من أمم الغرب طبقاً لجنسية الإرسالية. وإن نوع هذه الثقافة قد يكون مختلفاً - وفي الواقع هو كذلك - عن ثقافة البلد الذي تنتمي إليه الإرسالية اتباعاً لخطة سياسية مرسومة لم يُرد بها - كما يدعي أو كما يفهمه الشرقي البسيط - القيام بعمل خيري من نشر ثقافة حديثة ومكافحة الأمية؛ وإنما قصد بها ضمان السيطرة على النفوس والتصرف في ميولها؛ فنشأت في الأمة فئة تجهل الأمة نفسها، تجهل عقليتها وطباعها، تحتقر الشعب وتهزأ بتقاليده، ثم بعد ذلك شاء القدر أن يكوم زمامه بيدها.

ولاختلاف ميول هذه الثقافة واتجاهاتها - وإن كانت متحدة في غرض الدعاية - كانت وجهة هذه الفئة الحاكمة مصوبة على العموم نحو ظواهر المدنية الغربية، واقتباس ما يوحي به ميلها الثقافي، لا اقتباس ما قد يتفق مع مدنية الأمة وثقافتها القديمة وما يتطلبه الشعب ولا يتعارض مع قوانينه الخلقية وسننه الطبيعية. وهنا نجد مظاهر شتى لهذا التقليد أنشأتها ميول الثقافة الأجنبية المختلفة. فمن تثقف بالثقافة الفرنسية من تلك الفئة - وهو عدد كبير - كان المثل الأعلى في نظره حضارة فرنسا وحريتها المزعومة، وعمد إلى التقليد في مظاهر الحضارة الفرنسية، وإلى الاقتباس من القانون الفرنسي، لأنه يمثل في نفسه، كما تلقن، صورة العدالة، وينطوي في نظره على (حب) الحرية وتقديس معنى الإنسانية - وما كان القانون الفرنسي، ولا أي قانون وضعي آخر يمثل في يوم من الأيام صورة العدالة على الإطلاق، ولا ينطوي على حب الحرية للحرية نفسها، ولا يقدس الإنسانية للإنسانية؛ وإلا لما أعطي للقسوة صفة خلقية، وأنكر على الوطني المستعمر حقه الطبيعي في الحياة ما دام في ذلك حفظ للسيادة الفرنسية. وما شهرة فرنسا بحب العدالة وبحب الحرية وبتقديس الإنسانية إلا لما قامت به من الثورة، كرد فعل نفسي ضد حكم الظلم والاستبداد؛ ثم استغل بعد ذلك استغلالاً أدبياً في صالحها. وللإرساليات التعليمية في الدعاية به وخصوصاً في الشرق قسط غير قليل. ثم تكون نتيجة هذا التقليد عكسية، ونهاية الاقتباس خاطئة، لأن مصر الشرقية غير فرنسا الغربية، ومصر الضعيفة الحديثة النشأة

ص: 18

غير فرنسا المستعمرة. وبالرغم من ظهور الخطأ وعكسية النتيجة لا يدير المقلد وجهه نحو أمته ويدرس حالتها النفسية والاجتماعية، ثم يقتبس ما تدعو إليه هذه الدراسة، لأنه لم يألف الأمة ولم يتعرفها منذ طفولته.

ومن تثقف بالثقافة الإنكليزية عشق تقاليد الأمة الإنكليزية وأعجب على الأخص بالبرلمان الإنكليزي وبعراقة الدستور الإنكليزي ونظام الأحزاب الإنكليزية وبتمتع الأقلية بحرية المعارضة، فيهوى وفقاً لميله تقليد إنكلترا في مظاهرها الدستورية ونظامها البرلماني؛ ولكنه يخطئ أيضاً في تقليده، لأن الشعب المصري ذو صفات نفسية تغاير تمام التغيير صفات الشعب الإنكليزي؛ له طريق آخر في التفكير وأسلوب آخر في المعاملة؛ هو شعب ناشئ لم تتركز طبائعه بعد، ولم يروض على عادات خلقية تتناسب وفطرته، فإذا نوقش في خطأ تقليده أصر عليه وسرد تأييداً لإصراره أقوال الساسة الإنكليز والعرف الدستوري في البرلمان الإنكليزي. وأولى به أن ينظر إلى الواقع وفي أي شعب هو يعيش. أولى به أن يتعلم خواص الشعوب بدل أن يحلق في خيال نظري (قانوني) لا طائل تحته. ولكن ميله الثقافي هو الذي حدد له نهاية الطريق وأملى عليه برنامج السير.

ومن تثقف بالثقافة السويسرية يستهويه نظام التعليم ونظام الأسرة فيحاول تقليد الشعب السويسري، أو بعبارة أخرى يضطر أن يسير في طريق ميوله الثقافية، والتعليمية - وليس إلا طريق التقليد طبعاً - ثم لا يلبث أن يرى نتيجة تقليده بين يديه خاسرة، لأن المصري في طبعه وفي ميوله الغريزية غير السويسري الذي هو نفسه يغاير نفسه - وبناء على هذا يتغير نظام تعليمه - في منطقة أخرى من مناطق الاتحاد السويسري. والأسرة المصرية التي حددت عاداتها طريق سلوكها في الحياة وعين دينها ولغتها طريق تفكيرها وفهمها لما يحيط بها، غير الأسرة السويسرية التي تتطلب أيضاً بحكم الوراثة وبحكم العادات وطبيعة البلاد أسلوباً في التعليم خاصاً بها.

وهكذا دواليك نجد العمل الجدي لهذه الفئة تقليداً سلبياً قلما يتحول إلى محاكاة إيجابية، إلى (التمصير) الذي هو عملية نفسية يقوم بها الفرد كالأمة، عملية تتطلب أولاً أن تنشأ الأفراد تنشئة وطنية ثم تزود بثقافة أخرى أجنبية. وإذن يكون عمل الفرد كعمل الأمة مصبوغاً بصبغة وطنية وفي الوقت نفسه مسايراً لخطى الأمم الراقية. فالأمة اليابانية مثلاً تقلد

ص: 19

الحضارة الغربية ولكنه تقليد إيجابي، لأنها تنظر إليها ثم تحاكيها لا في صورتها الأولى ولكن في صورة يابانية شرقية بعد ما تكون قد مزجت بينها وبين حضارتها الموروثة ووفقت بينهما. وهو لهذا تقليد فيما ينفع، وتقليد لا يمس بالخطر العوامل الأولى المكونة لحضارة الأمة، كأمة مستقلة.

فجهل الوطن وما فيه والنزوع إلى التلون بلون غربي - كما هي النتيجة الحتمية لأسلوب هذه المدرسة - من الأسباب القوية لهذا التقليد السلبي؛ ثم اختلاف النزعة نحو هذا التلون، تبعاً لاختلاف نوع الثقافة، من أكبر العوامل في كثرة التغيير والتعديل اليوم في سياسة الأمة التشريعية والتعليمية.

وربما تكون تبعة المدرسة الثالثة، وهي مدارس وزارة المعارف، في هذا التقليد أقل من المدرسة السابقة، ومع ذلك فعليها تبعة كبيرة أيضاً، لأنها لم ترسم لها خطة تعليمية وطنية، أو أرغمت، فطاوعت، على السير وراء سياسة استعمارية، سياسة أوربية أجنبية. فالاتجاه الذي توحي به وتخلقه في تلامذتها لا يخلو من مبالغة في عظمة الغرب واحترام المدنية الغربية، كأبلغ شيء وصل إليه العقل الإنساني - ولكن لا لخدمة الإنسانية ولكن لسيادة القوى - وذلك يقوي غريزة التقليد في الطفل ويدفعها إلى ناحية معينة قلما تحيد عنها أو تتصرف في تقليدها؛ ثم في الوقت نفسه لا يخلو ذلك الاتجاه من النظر إلى الشرق كوطن والى تقاليده ودينه ولغته كمقومات لثقافته من إلقاء نظرة بسيطة عليها قلما يصحبها احترام أو يتبعها تقديس مما يدعو إلى الارتباط بها والحنين إليها.

وهكذا يسير الشعب إلى غير وطنه ويقاد في غير طريقه الطبيعي ويدفع به في كفاح لم يتهيأ ولن يتهيأ له، وهو كفاح ضد الطبيعة ومقتضياتها؛ وهيهات أن يفوز إن لم تهلكه الحرب هلاكاً بطيئاً، وذلك شر أنواع الهلاك وآلمه.

فمبدأ التقليد ليس معيباً إذا كان إيجابياً، لأنه إلى جانب الفكرة الخالقة والعقل المستقل في الإنشاء من عوامل تقدم الأمة، فما كان لأمة أن تستقل في نهضتها العقلية بنفسها ولكن يجب عليها أن تكيفها بشخصيتها وطابعها. وهذا التكييف نفسه مدين إلى حد كبير بالاعتماد على ثقافة الأمة الموروثة أو هو نفسه المحافظة على تلك الثقافة والاعتزاز بها.

واليوم آن للأزهر أن يعمل على تأدية رسالته، من ربط حاضر الأمة بماضيها، في ثبات

ص: 20

وجرأة؛ وهي رسالة شاقة، ولكنه راعى الواقع، فلا يدري إنسان متى تتهيأ الفرصة للأزهر من جديد، فيمنحه الدهر رجلاً مستقل الفكر، قوي الإرادة، صادق العزيمة، متفهماً للحياة كما منحه في السابق رجل التاريخ والإصلاح، وكما يمنحه اليوم بصنوه. فما أشد تقاربهما في الفكرة، ولكن ما أبعد المسافة بين توليهما شؤون تلك الجامعة العالمية.

وإذا كانت روح السياسة العامة الآن للدولة مشبعة بمجاملة الأجانب ومنحهم حرية كاملة في تعليم جالياتهم وعدم إلزامهم بثقافة البلد الوطنية - كما هو الشأن في البلاد الأوربية نفسها - فلا يصح أن تقصر تلك السياسة في حق أبناء الأمة وتكل أمر تربيتهم إلى جهة أخرى غير الأمة نفسها. يجب أن تفهم حد المجاملة وتدرك ما ينطوي عليه حق الأمة في استقلالها وحريتها.

وإذا كانت وزارة المعارف اليوم تعنى بالثقافة الوطنية بعض العناية فيجب أن يكون الدافع لها عليها مصلحة الوطن والعمل على تحقيق استقلال الأمة لا الرغبة في كسب عواطف الشعب أو استمالة طائفة منه خاصة، فما أكثر تغير الشعب في عواطفه، ولكن ما أثبته على حب من أخلص إليه في خدمته!

محمد البهي قرقر

دكتور في الفلسفة وعلم النفس وعضو بعثة الإمام الشيخ

(محمد عبده)

ص: 21

‌من الأدب الرمزي

فيما وراء الطبيعة

للأستاذ عبد المنعم خلاف

رَكْبٌ مَسُوق إلى ما يجهل بعصاً قاهرة يقظة فلا التفات ولا اعتراض ولا جُموح. . .

من الذَّرَّات التي لا تدركها الأبصار لدقتها وصغرها. . . إلى الذرات الضخمة التي لا تدركها الأبصار لجلالتها وكِبَرها، يتألف الركب المسوق المدفوع الذي لا يعرف من أين ولا إلى أين

لقد وُلد فيه كل شيء أثناء الرحلة فحَيَّ مسافراً وهَلَك مسافراً. .

يسير الزمان والمكان في الركب المهدود، وتسير الأبعاد والحدود، والمُهود واللُّحود، والحركة والجمود، والموت والحياة، والظلمات والنور، أضداداً مؤتلفة ونقائض مجتمعة في صمت.!

السموات شاخصة العيون إلى الأرض. . والأرض مشرئبة الأعناق إلى السماء. . واللجة مقبلة في لَهْفة على الشاطئ. . . والشاطئ واقف يترقب اللجة. . وهكذا يرنو كل شيء إلى كل شيء. . زوارق سائرة في لجة لا يعلم لها شاطئ. . . أجسام هابطة أبداً إلى غير قرار. . . كل شيء يدور على نفسه نحو كل أفق ليرى النهاية، فلا يرى إلا أشياء دائرة مثله. . .

أبداً تخرج الحياة من الموت ويخرج الموت من الحياة ليشهدا سير الركب؛ ثم يفنيان في الطريق. . .

أبداً تسافر الأضواء في ملايين سنيها محاولة كشف النهاية فلا تقع إلا على ذرات ترسل أضواءها. . .

الرحلة طويلة شاقة ومع ذلك فليس فيها مراحل ولا مواقف. . .

الصمت والصبر شعار القافلة إلا صُراخاً ينبعث من (أكثر شيءٍ جَدَلاً). من الإنسان. صاحب الجمجمة الدائبة على التلفت إلى الوراء والتطلع إلى الأمام، وسؤال كل شيء: ما أنت؟ ومن أين أتيت؟ وإلى أين تنتهي؟ ولماذا نحن هنا؟ (هل عندكم من علم فتخرجوه لنا؟) فيجيبها كل شيء: (ما المسئولُ بأعلمَ من السائل. . .) ثم يردد كل شيء صدى تلك

ص: 22

الكلمة الكبيرة المعزِّية: (ما أَشهَدتُهمْ خَلقَ السموات والأرض ولَا خَلْقَ أنفُسِهم)

الركب سائر بانسجام ونظام. . . وهذا هو موسيقاه التي تستحثه وتنسيه وعثَاء السفر. . .

ومن جَمِح وحاد عن طريق الركب ضل واحترق ضلالَ النيازك والشهب واحتراقها. . .

كل شيء قانعٌ بالنظر إلى عصا القهر المرفوعة عليه أبداً، إلا هذه الجمجمة. .! فهي تحاول جهدها أن ترى اليد القابضة على العصا. . . ومن هنا تعبت من النظر وزاغ منها البصر وتراجع حتى لم تَعدْ ترى العصا إلا في يدها هي المصنوعة من الطين. .! فعبَدَت نفسها وسجدت لها. .!

ألا يا عايد البطولة الإنسانية وفاديها ومالئ كئوسها من دمه ومحرق حبة قلبه بخوراً لها. .! ليس هذا موقع العبادة من قلب الإنسان والفكر المدله من رأسه. . . وإنما هذه العصا المرفوعة أبداً هي مكان السجود. . . فارفع جبهتك كثيراً كثيرا لتسجد عليها فوق. .!

أنظر إليها وحدها واجمد كما جمد لها قلب الجبل. . . واخفق كما خفق لها جوف البحر. . . واعصف كما عصفت لها جوانح الريح. . . واصفر كما اصفر منها وجه الصحراء. . . والتهب كما التهب بها وجه الشمس. . . وسر كما سار أمامها الركب المسوق. .!

أنظر إليها دائماً فهي تشير إلى الطريق. . . فإذا عميت عنها فهي شعلة تحرق البصر. . . وسر في طوعها دائماً فهي حماية وسلاح. . . فإذا شردت كارهاً فهي صوت وصاعقة. .!

قال لي ضباب مبهم في نفسي: لم تحوم حول اللجة ولا تضرب في أعماقها؟

قلت: أنا عاجز قاصر ضئيل محدود. . . فليس لي يدان باقتحام عالم القدرة والاستطالة والجلالة واللانهائية!

قال: لقد أتيت بشيء مما في اللجة وأنت لما تزل على الساحل. . .

قلت: كذلك الذي يأتي به الطير البحري المتربص على الساحل: سمكة ميتة طافية قذف بها جوف البحر. . . أو صغيرة خفيفة مبذولة لأنها ليست من الرجاحة بحيث تختفي في عالم العمق والاحتجاب. . .

قال: لقد أفرغت نفسك من كل شيء وهيأتها لصداقة الطبيعة وأفهمتها أن تتصل بها اتصال بُنُوَّة بأمومة؛ فلا تفزع من هولها وقسوتها ولا تجفُل من غموضها وإبهامها، ولا تشمئز من وجوه القبح فيها، ولا تجمُد أمام وجوه الجمال بها، ولا تغفل عن الدقيق، ولا تقصر عن

ص: 23

إدراك الجليل؛ وحقيق على من انتهى إلى هذا أن يبتدئ بشيء آخر. . .

قلت: أجل! كما يبدأ ثور الطاحون من حيث ينتهي. .!

قال: لولا الغطاء الذي على عيني الثور لجمح وأبى الدوران على محيطه الضيق.

قلت: لو استطاع الثور أن يزيح ذاك الغطاء عن عينيه لحُلَّت العقدة. . . فما دامت هناك يد غير مدفوعة تضع ذاك الغطاء فهو عاجز مملوك يرى السلامة في التسليم والدوران. . . وإلا فظهره مبسوط مكشوف والسوط له حاضر. .

لقد قلت لنفسي يوماً: سأبعثك للارتياد فيما وراء الزمن والفلك فاصنعي الريش وأعدي الجناحين. . . فإذا وقفت هناك فلا يَخْسأنَّ بصرك دون أن ترىْ طرفي الركب المسوق. . سيكون ذلك عسيراً ولكن تجردي وامتدي فإن فيك قوة على ذلك. .

وقلت لها: إن المكان سينتهي. . . فترين الفراغ وعماياته ومهاويه التي ليس لها قرار. . فطيري فيه مغمضة العين، واضربي فيه بمجموع الإدراك لا بأفراده فإنها تغرق في لججه وظلماته. .

وقلت لها: أعدي السمع للموسيقى التي تميتُ طرَباً، والعينَ للأضواء التي تحرق لهباً. . واللمس والذوق لما لا يلمس ولا يذاق.

وقلت لها: هناك كلام دائم قديم فاملئي معانيك منه واحذري أن تحدثي به ناس الأرض. . وسترين كل ما كان في الأرض هناك في منطقة الصمت الذي يصعق، والسكون الذي يهول. . سترين ما يقال إنه تبدد من الأضواء والأصوات وأمواج الخلائق ووَمضَات المعاني. .

وقلت لها: ستمرين بالقوى المطيعة أبداً، العاملة بلا ضعف يلحق ولا فتور ولا سأم، القائمة على مراقبة الذرات في حركاتها وتنقلها، والحبات في تولدها وانفلاقها، والرياح في انسيابها واندفاعها، والأمواج في رحلاتها ومدها وجزرها، والأضواء في انبثاقها وفيضانها، والظلمات في انطباقها وانفراقها، والأجرام في نثارها ونظامها. . . فقفي هناك طويلاً وتعجبي من صبر هذه القوى المجندة ويقظتها وطاعتها، واملئي سمعك بنشيدها وهي هاوية صاعدة راكعة ساجدة تحت المشيئة الواحدة القاهرة الضاربة على العوالم بنطاق من العلم والقهر، فلا رد ولا اعتراض ولا هرب من أقطارها. . .

ص: 24

وقلت لها: ربما تستطيعين الوصول في خطفة من خطفاتك إلى المنطقة الثابتة التي لا تتغير. . . فإن كان ذلك فاحذري أن تتوغلي في متاهاتها! فربما لا ترجعين إلى ثوبك الأرضي ثابتة فيترك في الأرض معذباً مَجْفوًّا لا يفهمه الناس ولا يرحمون. . . فاحذري!

وقلت لها: التراب عنصر كثيف ثقيل يزيد (ثقله النوعي) كلما بعد عن نطاق الأرض، ولو كان نضرة خد أو حرير ورد، أو عبير زهر، أو نغم وتر! فخففي رحلك منه حتى تسرعي. . .

وقلت لها: لا تنسي أن تلقي بنظرة منك على الذَّرَّة التي أنت منها. . . وحاولي أن تتبيني مكان هذا الذي يقول فيها: أنا إله! سترينه قزماً يدب ممسوخ القوام. . . وقد كان يستطيع أن يتطاول ببعض ما فيه لو عقل وأراد ورأى عصا القهر التي تدفع عجلة الفلك. . .

قلت لها كل ذلك فقالت: يا هذا الذي يصنع الألفاظ ويحاول خديعتي بها.! يا من

يُشَمِّر للُّجِّ عن ساقه

ويغمره الموج في الساحل!

عشْ كهذا الطير الساحلي مكتفياً بالنظر إلى اللجة الرجراجة الهائلة، قانعاً بما تقذفه إليه من النفايات، عالماً بأنه مخلوق مُعَدٌّ للساحل وحده، فهو دائماً ينكتُ بمنقاره في الرمل والقواقع وغثاء البحر. . .

وهو يعلم أن في جوف اللجة سمكاً كثيراً صغيراً وكبيراً يشبع جوعه الذي يحسه في دوام. . . ولكنه يعلم كذلك أنه لو تقدم خطوة نحو اللجة لابتلعته حقيقة من حقائقها وغاب فيها قبل أن يبتلع إحداها وتغيب فيه. . . عش هكذا دائراً على نفسك في محيطك الضيق ما دام على عينيك الغطاء. . .

وابحث في لجة نفسك عن الأشياء التي تنشدها فلعلك تجد منها صوراً صغرى تدركها بالوحي الصغير إدراك النبوة للكبرى بالوحي الكبير. . .

ومع هذا لا يزال الضباب المبهم يناديني ويسألني سؤاله. . . وأنا أنادي:

لمحة من النور الذي عندك ضحاه الدائم الذي لا يغيب يا هادي الركب وصاحب القافلة. . . النور الذي تهتدي به ظلمات الدنيا وأضواؤها إلى مسالكها ومساربها ومواقعها. . . النور الذي أعطيت به كل شيء خلقه ثم به هديته. . .

النور الذي اهتدت به كل ذرة في بناء العالم وكل خلية في جسمه وكل قوة من قواه إلى

ص: 25

مكانها وعملها. . . ثم إيماءة بطرف عصاك إلى المخبوء وراء الزمان والمكان والأجرام والشواخص والكثافات. . . ثم قدرة على الانفصال عن الركب لأشهده كله وهو يسير. .!

(الإسكندرية)

عبد المنعم خلاف

ص: 26

‌ابن العديم وتآليفه

للأستاذ محمد كرد علي

كان كمال الدين عمر العقيلي الحلبي رئيس الشام (666هـ) من بيت علم. تولى خمسة من أهله منصب قاضي القضاة بحلب، وأكثرهم على جانب من الأدب والفضل، وكلهم مذ كان الإسلام يحفظ القرآن. وكان كمال الدين هذا محدثاً حافظاً مؤرخاً صادقاً فقيهاً مفتياً منشئاً بليغاً كاتباً محموداً. درس وأفتى وصنف، وترسل عن الملوك، وكان رأساً في الخط المنسوب لا سيما النسخ والحواشي (يقرأ الخط العقد كأنه يقرأ من حفظه. وأما خطه في التجويد والتحرير والضبط والتقييد فسواد مقالة لأبي عبد الله ابن مقالة، وبدر ذو كمال، عند علي بن هلال)(وهو أكتب من كل من تقدمه بعد ابن البواب) ترجم له ياقوت في معجم الأدباء وعرض لتراجم أهله، وكان ياقوت اجتمع بكمال الدين، وأخذ عنه وبالغ في مدحه، وقال إن من أجداده بني أبي جرادة، وكان أبناء العديم يُعرفون بهذا اللقب وقد كتب بخطه ثلاث خزائن من الكتب: واحدة لنفسه وخزانتين لابنيه، لكل منهما خزانة قال ياقوت وأنشدني لنفسه وبإملائه بحلب في ذي الحجة سنة 619 (وكان كمال الدين شاباً):

وساحرة الأجفان معسولة اللَّمى

مراشفها تهدي الشفاء من الظما

حنت لي قوسي حاجبيها وفوَّقت

إلى كبدي من مقلة العين أسهما

فواعجبا من ريقها وهو طاهر

حلال وقد أضحى علىَّ محرما

فإن كان خمراً أين للخمر لونه

ولذته مع أنني لم أذقهما

لها منزل في ربع قلبي محله

مصون به مذ أوطنته لها حمى

جرى حبها مجرى حياتي فخالطت

محبتها روحي ولحميَ والدما

تقول إلى كم ترتضي العيش أنكدا

وتقنع أن تضحى صحيحاً مسلما

فسر في بلاد الله واطَّلب الغنى

تفز منجداً إن شئت أو شئت مُتْهما

فقلت لها إن الذي خلق الورى

تكفل لي بالرزق مَنًّا وأَنعما

وما ضرني أن كنت رب فضائل

وعلم عزيز النفس حراً معظما

إذا عدمت كفاي مالاً وثروة

وقد صنت نفسي أن أذل وأحرما

ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي

لأَخدم من لاقيت لكن لأخدما

ص: 27

ونظن البيت الأخير مقحماً إقحاماً في هذه القصيدة، لأنه بيت من قصيدة مشهورة لعلي بن عبد العزيز القاضي من أهل القرن الخامس التي يقول في مطلعها:

يقولون لي فيك انقباض وإنما

رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما

قال ياقوت بعد إيراد هذه القصيدة: ولا يظن الناظر في هذه الأبيات أن قائلها فقير وقير، فأن الأمر بعكس ذلك لأنه، والله يحوطه، رب ضياع واسعة، وأملاك جمة، ونعمة كثيرة، وعبيد وإماء وخيل، ودواب، وملابس فاخرة وثياب. ومن ذلك أنه بعد موت أبيه اشترى داراً كانت لأجداده قديماً بثلاثين ألف درهم؛ ولكن نفسه واسعة، وهمته عالية، والرغبات في الدنيا بالنسبة إلى الراغبين، والشهوة لها على قدر الطالبين. قال ياقوت: وكان إذا سافر يركب في محفة تشيله بين بغلين، ويجلس فيها ويكتب، ورحل إلى العراق ومصر والحجاز.

ويقول ياقوت أيضاً إن كمال الدين صنف مع هذه السن كتباً منها كتاب (الدراري في ذكر الدراري)، جمعه للملك الظاهر غازي، وقدمه إليه يوم ولد ولده العزيز الذي هو اليوم سلطان حلب. وكتاب (ضوء الصباح في الحث على السماح)، وصنفه للملك الأشرف، وكان قد سير من حَرَّان بطلبه، فإنه لما وقف على خطه اشتهى أن يراه فقدم عليه فأحسن إليه وأكرمه، وخلع عليه وشرفه. وكتاب (الأخبار المستفادة في ذكر بني أبي جرادة) وأنا سألته جمعه فجمعه لي وكتبه في نحو أسبوع وهو عشرة كراريس. وكتاب في الخط وعلومه، ووصف آدابه وأقلامه وطروسه، وما جاء فيه من الحديث والحكم، وهو إلى وقتي هذا لم يتم. كتاب (تاريخ حلب) في أخبار ملوكها وابتداء عمارتها ومن كان بها من العلماء، ومن دخلها من أهل الحديث والرواية والدراية والملوك والأمراء والكتاب، وشاع ذكره في البلاد، وعرف خطه بين الحاضر والباد، فتهاداه الملوك. ومن كتبه تبريد حرارة الأكباد، في الصبر على فقد الأولاد. وكتاب (دفع التجري عن أبي العلاء المعري) وكتاب (التذكرة) وهو في أجزاء في دار الكتب المصرية أولها الجزء الخامس وآخرها الجزء السادس عشر، وفي هذه الأجزاء قصائد جميلة لأناس من معاصريه ورسائل منثورة وغيرها (راجع ما كتبناه في هذه التذكرة في المجلد السابع من مجلة المقتبس ص811). ومما نقله أبيات للسابق أبي اليمن محمد بن الخضر المعري وهي:

ص: 28

حلب معهد الصبا والتصابي

فسقاها الوسمىُّ ثم الوليّ

موطني بعد موطني فكأني

لغرامي بحبها البحتري

إلى أن قال:

فلديها كل الفنون وفيها

ما اشتهاه الشرعيُّ والفلسفيُّ

غير أني أرى الأطايب شزراً

وحليف الإفلاس عنها قصيّ

وكان في حلب في ذاك الزمن جلة من العلماء كما قال الشاعر، بل أن من قراها ما كان أشبه بدار علم مثل معرة النعمان وكفر طاب، وكفر طاب اليوم مزرعة خربة.

ومما اقتبسه في هذه التذكرة أبيات لسنان صاحب الدعوة

لو كنت تعلم ما علم الورى

طراً لكنت صديق كل العالم

لكن جهلت فصرت تحسب أن من

يهوى خلاف هواك ليس بعالم

فاستحْي إن الحق أصبح ظاهراً

عما تقول وأنت شبه النائم

وسنان هذا هو أبو الحسن سنان بن سليمان بن محمد الملقب راشد الدين صاحب قلاع الدعوة دعوة الإسماعيلية، ومقدم الفرقة الباطنية بالشام، وإليه تنسب الطائفة السنانية. وهو الذي كتب إلى صلاح الدين يوسف بن أيوب جواب كتاب هدده فيه، على ما نقل ذلك ابن خلكان في وفيات الأعيان، وافتتحه بقوله:

يا ذا الذي بقراع السيف هددنا

لأقام مصرع جنبي حين تصرعه

قام الحمام إلى البازي يهدده

واستيقظت لأسود البر أضبعه

أضحى يسد فم الأفعى بإصبعه

يكفيه ما قد تلاقي منه إصبعه

ثم أردف هذه الأبيات بكتاب كله تهديد لصلاح الدين. وقد كتب مرة أخرى:

بنا نلت هذا الملك حتى تأثلت

بيوتك فيها واشمخر عمودها

فأصبحت ترمينا بنبل بنا استوى

مغارسها منا وفينا حديدها

وفي خزانة المجمع العلمي العربي بدمشق نسخة من كتاب دفع الظلم والتجري، وسماه هناك (كتاب الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري) وهو مخروم من آخره نقص منه بيت القصيد وهو تبرئة المعري من التعطيل، وكان أعداؤه ينحلونه أبياتاً ليصححوا دعواهم عليه انحلال العقيدة. وفي هذا الكتاب فصول جميلة في

ص: 29

نشأة المعري وعماه وشيوخه ورحلته إلى بغداد وقوة حافظته. وقد استفدنا منه أنه كان عند أبي العلاء أربعة كتاب في جرايته وجارية يكتبون عنه ما يكتب إلى الناس، وما يمليه من النظم والنثر والتصانيف، وكتب له جماعة من المعرة أخصهم أنسباؤه ومنهم ابن أخيه، وكان ملازماً لخدمته ويكتب له تصانيفه، ويكتب عنه الإجازة والسماع عمن يسمع منه ويستجيزه، وكتب تصانيفه بخطه حتى يقع بخطه من المصنف الواحد نسختان وأكثر. واستفدنا منه أن المعري زار دار العلم ببغداد لا دار العلم في طرابلس، ولم يكن في طرابلس دار علم، وإنما جدد دار العلم بها القاضي جلال الملك بن عمار في سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة. وأبو العلاء مات قبل جلال الملك في سنة تسع وأربعين وأربعمائة.

وأهم مصنفات ابن العديم على ما يظهر تاريخ زبدة الحلب في تاريخ حلب، ومنه نسخة في دار الكتب المصرية، أخذت بالتصوير الشمسي من إحدى خزائن الأستانة وهي في ثلاثة مجلدات. بدأ كتابه بجغرافية حلب والبحيرات التي في أعمالها، وما فيها من الجبال وما جاء في صحة تربة حلب وهوائها واعتدال خراجها وصفة مائها، وما ورد من الكتابة القديمة على الأحجار بحلب وعملها. وعقد فصلاً في بيان أن معاوية ومن كان معه بصفين لم يخرجوا عن الإيمان بقتال عليّ عليه السلام، وفصلاً في ذكر ما جاء في الكف عن الخوض في حديث صفين. وذكر الرواندان وعين زربة وبهسني والمرزبان والشغروبكاس وعربسوس، وفصلا في ذكر فضائل الشام، وحلب وفويق نهر حلب وما ورد فيه وذكر الغراب ومخرجه ومعرفة من حفره، وذكر جتيمان نهر المصيصة وسيحان نهر أذنة والعاصي نهر إنطاكية وحماة والبردان نهر طرسوس، وذكر البحر الشامي ويعرف ببحر الروم. وأشار إلى ما يتعلق بحلب وأعمالها من الملاحم وأمارت الساعة. وعقد فصلاً فيمن نزل من قبائل العرب بأعمال حلب ومن كان قبلهم في سالف الحقب، وهو من أهم فصول كتابه. وذكر من نزل في أعمال حلب من حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وعقد باباً في فتح حلب وقنسرين وما تقررت عليه أحكامها، ونقل شرط عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أهل قنسرين وهو على الغنيّ ثمانية وأربعون، وعلى الوسط أربعة وعشرون، وعلى المدقع اثنا عشر يؤديها بصغار - والغالب أنها دراهم والدرهم على الأكثر عشر الدينار، ويقدر الدينار بنحو نصف جنيه مصري ذهباً - وعلى مشاطرة النازل

ص: 30

بينهم وبين المسلمين وألا يحدثوا كنيسة إلا ما كان في أيديهم ولا يضربوا بالناقوس إلا في جوف بيعة، ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة، ولا يرفعوا صليباً إلا في كنيسة، وأن يؤخذ منهم القبلى من الكنائس للمساجد، وأن يُقْروا ضيوف المسلمين ثلاثاً، وعلى ألا يكون بين ظهراني المسلمين الخنازير، وعلى أن يناصحوا المسلمين ولا يغشوهم ولا يمالؤا عليهم عدواً، وأن يحملوا راجل المسلمين من رستاق إلى رستاق، وألا يلبسوا السلاح ولا يحملوه إلى عدو، ولا يدلوا على عورات المسلمين، فمن وفى وفى المسلمون له، ومنعوه بما يمنعون به نساءهم وأبناءهم، ومن انتهك شيئاً من ذلك حل دمه وماله وسباءُ أهله وبرئت الذمة منه؛ وكتب بذلك كتاباً. وهذا الكتاب فيما نذكر لم يرد بهذا النص في كتب الفتوح والبلدان المشهورة.

ومما روى ابن العديم قال: وأخبرنا قاضي العسكر أبو الوليد محمد بن يوسف بن الخفر قال: كانت حلب من أكثر المدائن شجراً فأفنى شجرها وقوع الخلف بين سيف الدولة بن حمدان وبين الإخشيد أبي بكر محمد بن طفج، فإن الإخشيد كان ينزل على حلب ويحاصرها ويقطع شجرها، فإذا أخذها وصعد إلى مصر جاء سيف الدولة وفعل بها مثل ذلك، وتكرر ذلك منهما حتى فنى ما بها من شجر. واتفق بعد ذلك نزول الروم على حلب وأخذ المدينة في سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة ففنى شجر الشربين لذلك، وكانت الوقعة بين سيف الدولة وبين الدمستق في هذه السنة في سفح جبل بانقوسا وسميت وقعة بانقوسا. وقال في سيف الدولة إنه كان يتشيع فقيل على أهل حلب التشيع لذلك.

ومما ذكره جبل برصايا وقال إنه جبل عال شامخ شمالي عزاز يشرف على بلد عزاز وكورة الأريتق (الأرتيق) وتحتهما قرية يقال لها كفر شيغال وقفها نور الدين محمد بن زنكي على مصالح المسلمين. وهذا الجبل بين عزاز وقورس. وذكر ما في حلب من اعزازات وما فيها وفي أعمالها من العجائب والخواص والطلسمات والغرائب. وقال إن حلب من الأرض المقدسة، وإن أهل حلب في رباط وجهاد، وإنها كانت باب الغزو والجهاد، ومجمع الجيوش والأجناد، وذكر صفة مدينة حلب وعماراتها وأبوابها وما كانت عليه أولاً وما تغير منها وما بقى. ثم ذكر فصولاً أخرى في فضلها وفضل قنسرين وفصولا في إنطاكية، ومنبج، ورصافة هشام وخناصرة، وبالس، وحياد بني القعقاع، ومعرة

ص: 31

النعمان - نسبة للنعمان بن بشير - ومعرة مصرين، وحاضر قنسرين وسرين وكفر طاب، وأفامية، وشيزر، وحماة، وبغراس (بيلان اليوم) والمصيصة، وعين زربة، وأذنة، والكنيسة السوداء، وطرسوس، وذكر كيفية النفير بطرسوس وكيف كان يجري أمره، وعقد فصلاً لفضل طرسوس والحصون المجاورة لها وللمصيصة وإنطاكية، وذكر حصن ثابت بن نصر وهو الذي كان مشهوراً قبل الثغور وبنائها، وذكر حصن عُجَيْف، وحصن شاكر، وحصن الجوزات، وعرض لتل جبير، وأولاس ويقال له حصن الزهاد، وذكر الهارونية، وحصن الأسكندرونة، والتينات، والمثقب، وسيسيه ويقال لها سيس وهي مدينة قريبة من عين زربة إلى غيره من الحصون، وذكر مرعش والحدث المعروفة بالحدث الحمراء، وزبطرة، وحصن منصور، ومكظية، وسُمَيْساط، وربمان، ودلوك، وقورض وكيسوم. فاستدللنا بهذا أن عمل حلب كان يتناول قسماً مهماً من الجزيرة ومعظم بلاد قاليقلا، وبعض بلاد آسيا الصغرى (ويقع الكتاب في 518 صفحة وعدد أوراقه 196)

محمد كرد علي

ص: 32

‌تطور علم الكلام في رسالة إنقاذ البشر من الجبر

‌والقدر

للأستاذ محمد علي كمال الدين

من آثار الماضين المطمورة في الخزائن رسالة (إنقاذ البشر من الجبر والقدر) للشريف المرتضى المتوفى سنة 436هـ. قام بنشرها وطبعها الشاب الفاضل علي الخاقاني النجفي عضو منتدى النشر فيها.

لم تقتصر هذه الرسالة على طلاوة الحديث وسهولة الأسلوب فقط، بل استهلت بمقدمة وجيزة متقنة الترتيب والتنسيق والتأليف، عرضت لتاريخ تطور علم الكلام لم نجد لها مثيلاً في مطولات الكتب. ويدرك الباحث قيمة هذه المقدمة عند مقارنتها مع مقدمة مختصر كتاب الفرق بين الفرق؛ فقد كان المؤلفان متعاصرين فضلاً عن أن لهما سبقاً في التأليف على معظم مؤلفي الكتب المتداولة اليوم في مثل هذه الموضوعات.

لقد قارنا بين المقدمتين فوجدنا شبهاً بين مسلكي المؤلفين، ولو أن بين موضوعي الكتابين فرقاً ظاهراً. أما وجه الشبه فإن كلتا المقدمتين تبحثان عما جد من نقط الخلاف بين المسلمين. وأما وجه الافتراق فأن مقدمة مختصر كتاب الفرق بين الفرق لم توضح العوامل النفسية والاجتماعية الداعية لهذا الاختلاف، وأنها لم ترنا نظرية جديدة في أسباب هذه الحركة الفكرية؛ أضف إلى ذلك أنها قرنت نظرية الاستطاعة مع نظرية القدر في حين أن هذا الاقتران لا يصح منطقياً إلا على رأي القائل: إن القدر مرادف للجبر، وهو خلاف رأي ذلك المؤلف نفسه؛ فإن بحث الاستطاعة وتقدمها وتأخرها عن الفعل إنما حدث بين علماء الجبر أنفسهم، فكأنما المؤلف غفل عن التطور الفكري والظروف والمدارج العقلية التي يمكن للنظريات أن تحل أو تخلق فيها؛ في حين أن مقدمة المرتضى كما ستراها علمية فنية، فقد بدأت في نظرية نسبة المعاصي ونفيها عن الله، ثم أعقبت ذلك بنظرية العدل فنظرية الاعتزال يعني المنزلة بين المنزلتين، وتلاها بنظرية القدر ويعني بها الجبر؛ على أنه راعى في ذلك كله العوامل النفسية والاجتماعية المباشرة لخلق مثل هذه النظريات التي جاءت مرتبة بعضها وراء بعض فكان منها علم الكلام

وهذا هو الذي دعاني إلى العناية بدراسة هذه المقدمة وإلى تحليلها فلعلنا نستنتج تاريخ علم

ص: 33

الكلام وتطور نظرياته. قال الشريف:

(واعلم أن أول حالة ظهر فيها علم الكلام وشاع بين الناس في هذه الشريعة هو أن جماعة ظهر منهم القول بإضافة معاصي العباد إلى الله سبحانه، وكان الحسن ابن أبي الحسين البصري ممن نفى ذلك ووافقه في زمانه خلق كثير من العلماء كلهم ينكرون أن تكون معاصي العباد من الله، منهم محمد الجهني وأبو الأسود الدؤلي ومطرف ابن عبد الله ووهب ابن منبه وقتادة وعمر ابن دينار ومكحول الشامي وغيلان وجماعة كثيرة لا تحصى؛ ولم يك ما وقع من الخلاف يومئذٍ يتجاوز باب إضافة معاصي العباد إلى الله سبحانه ونفيها عنه وغيره من هذا الباب)

فأنت ترى أن الشريف بدأ مقدمته ببحث نفسي علمي عن الحالة التي ظهر فيها علم الكلام وهو وإن لم يصور في المقدمة تلك الحالة بوضوح وجلاء إلا أن تحليلها العلمي يكشف لنا عنها، فقد درج فيها مثلاً جماعة من أكابر التابعين ممن تصدوا لنفي ذلك القول؛ ومن تصدي مثل هؤلاء العلماء تتجلى لنا أهمية هذا القول وقيمة القائلين به ومبلغ تأثيرهم وتأثيره في أفكار الناس، كما أن وجود أبي الأسود الدؤلي المتوفى سنة 69هـ بين هؤلاء الجماعة النافين، وهو المعروف بعلمه ومكانته، يدل دلالة صريحة على أن البدء في هذا القول لا يعدو هذا التاريخ، أي لا يعدو سنة 69 كما يدل على وجود رأي خاص بعلماء النفي. فنحن الآن نبحث نقطتين إحداهما العوامل التي كونت ذلك القول، وثانيتهما علماء النفي ورأيهم وكيفية تكون هذا الرأي.

(1)

عوامل نسبة المعاصي إلى الله.

أما الحالة والعوامل النفسية التي دفعت إلى هذا القول فيمكن استنتاج رأي الشريف فيها من موضوع البحث نفسه. بحث المعاصي، فإنه من الواضح أن العرف والعادة يقضيان باستحالة ظهور هذا البحث فجأة وبدون أسباب، في حين أن الذي كان عليه المسلمون ونشئوا عليه هو الطاعة طاعة الله ورسوله التي تجلت أسبابها في عهد النبي والصحابة. فهل يمكن تغيير اتجاه الأمة فجأة، من هذا التوغل في الطاعة إلى البحث في المعاصي دون أن تجد عوامل اجتماعية وروحية مما تدفع إلى هذا التغير.

والسيد المرتضى لم يساعده الإيجاز في مقدمته على بيان عوامل البحث في المعاصي،

ص: 34

وربما كان معتمداً على فهم القارئ واستنتاجه فإن الباحث إذا رجع إلى الأحداث التاريخية قبل سنة 69 يجد أنها بدأت في مقتل عثمان وثنت بوقعة الجمل وحروب صفين، وناهيك بمفعول هذه الأحداث وعظيم أثرها على الفطرة العربية والإيمان المتغلغل، فكان أن تمخضت عن خروج الخوارج المتصلبين في نظرياتهم الدينية والذين لم يكتف بعضهم بتخطئة علي ومعاوية وأصحابهما بل يريدون من الناس أن يحكموا بكفرهم وكفر من ناصرهما. وهذه الأحداث هي التي كونت نظريتهم في تكفير مرتكب الكبيرة وهي كما ترى عين نظرية المعاصي المبحوث عنها غير أنها توسعت بنسبة هذه المعاصي إلى الله.

وهنا يجد السؤال: كيف ومتى توسعت نظرية تكفير ذوي المعاصي فشملت إضافة هذه معاصي العباد إلى الله تعالى؟ وبتعبير أوضح كيف تطور الموضوع من إيجابي لدى فريق إلى سلبي لدى فريق آخر، ومن تكفير مطلق إلى تبرئة مطلقة، في حين أن طبائع الجماعات والأحزاب المتطاحنة تسترسل بالطعن بعضها في بعض بإصرار وشدة. وإن رأت الاعتدال فإنما يكون بالإعراض والإغفال لا في التبرئة، فإن من المعلوم أن نسبة عصيان العبد إلى ربه تستلزم نقض ذلك التكفير وتخفيف وطأته، وذلك يستحيل تحقيقه عقيب تلك الأحداث الدموية أي عقيب سنة 40، نعم يمكن أن يتكون من إصرار الخوارج على التكفير ومن حركاتهم الطفيفة ضد معاوية والعنيفة ضد ابن الزبير، ومن تفاقمها ضد عبد الملك وعامله الحجاج يمكن أن يتكون من جميع ذلك عوامل لتهيئة نفسية الأمة في تكوين جماعة ذات رأي في تبرئة الصحابة بقصد مناضلة الخوارج، والوقوف ضد تيارهم كما أن الأحداث التي قام بها يزيد بن معاوية والتي فتنت الناس في دينهم ولطخت ثيابهم بدم الحسين وبدماء أهل المدينة، وأيضاً حصار مكة المكرمة من قبل الحجاج لا بد أنها ولدت في نفوس الناس الشك والحيرة في العاقبة وسوء المنقلب، فمن الجائز أنهم لجئوا إلى وسيلة تبرئة الصحابة والتابعين كيما يحصلوا هم على هذه التبرئة ضمناً فنسبوا معاصي العباد إلى الله. ونحن نرى أن نشوء فئة تبرئ الأحزاب وتصحح أعمالها وأغلاطها لا يحصل عادة إلا بعد استقرار الوضع السياسي واطمئنان النفوس، وأيضاً بمعونة جيل جديد ينضم إلى بقايا تلك الأحزاب؛ فمن هذا النشء الجديد ومن أولئك البقية الذين كانوا شباناً عند تلك الحروب والفتن الداخلية التي انغمسوا فيها مسبوقين غير مختارين؛ فمن هؤلاء

ص: 35

وأولئك يجوز أن تتكون فئة مختلطة تفكر أو تعتقد بتبرئة السلف - وبتعبير آخر يمكن أن يحدث على عهدها مثل هذه النظرية التي خلقها التطور الفكري - والسيد المرتضى وإن اكتفى بذكر النظرية عن تحديد وقتها أو تعيين الجيل الذي اعتنقها فإني أرى أن خير جيل وأفضل وقت يمكن أن تتجلى فيه نظرية نسبة عصيان العبد إلى الله هي المدة بين سنة 60 و 69 مراعين في ذلك سنن الاجتماع ومدى تطور عقلية الجماعة.

وإجمال القول أننا جعلنا التسعة والعشرين عاماً بين سنة 40 و 69 هي المدة التي تطورت فيها النظرية من قضية بسيطة إلى قضية مركبة، أو من دور الشعور بها فالتفكير، إلى دور نضوجها وبروزها نظرية ثم معتقداً، ذلك المعتقد الذي اضطر أبا الأسود الدؤلي وإخوانه التابعين إلى إنكاره. ومن الأدلة على صحة رأينا هذا هو المكانة العلمية التي كان عليها الحسن البصري كما يظهر من قول المرتضي (وكان الحسن بن أبي الحسين البصري ممن نفى ذلك) فإنك تعلم أن مثل هذه المكانة لا يبلغها إلا من قارب عمره 39 عاماً وقد كانت ولادة البصري سنة 30 هـ وعليه لا بد وأن تكون المدة من 60 إلى 69 هي القدر المتناسب لخلق نظرية نسبة المعاصي لله.

(2)

علماء النفي ورأيهم:

أما علماء النفي فيظهر لنا من المقدمة أن المرتضي يرى أنهم جمع غفير من السلف الصالح فإنه بعد ما ذكر سلسلة صالحة من التابعين ألحقها بقوله: مع جماعة كثيرة لا تحصى. والمنطق يحكم في ذلك. فإن سواد الأمة ورجال العمل فيها مسوقين طبعاً لرفض نسبة معاصي العباد إلى الله، ذلك القول الذي ينفر منه الحس ولا يقبله العرف فقد عسر على فهم الناس الإذعان بأن الكفر والفسق وسائر الإجرام التي يرتكبها العصاة عادة - تنسب إلى الله وهو في الوقت نفسه العادل الرؤوف الرحيم. فكان رأي هؤلاء القول بالعدل وأنهم ينفون أن تنسب معاصي العباد إلى الله.

ويضيف المرتضي إلى ذلك أنه لم يكن في ذلك الدور الذي حصرناه بين 60 و 69 غير بحث المعاصي نفياً وإثباتاً.

فإن قيل إن النقطة الأولى أعني البحث في نسبة المعاصي لله يؤول إلى القول بالقدر الذي هو بمعنى الجبر على رأي المرتضي، وأيضاً النقطة الثانية أعني البحث في نفيها عنه

ص: 36

بنسبتها إلى الإنسان تؤول إلى القول بالاختيار وهو الذي يدعوه المرتضي العدل. قلت: ولكن هذا المآل لا يتحقق فعلاً قبل تفهم الأمة حقيقة بواعثه نفسها وقتلها بحثاً ودرساً ثم تطبيقاً، ومن الجائز تحقق ذلك وتحقق هذا المآل ولكن بعد سنة (69) أي بعد تقادم نظرية نسبة المعاصي ونفيها، وأيضاً بعد مرور زمن يتناسب مع مدى تقدم عقلية الأمة، وعليه فيكون عهد نظرية القدر ونظرية الاختيار متأخراً كما قال المرتضي بعد عهد طويل.

ولا يذهبن بنا الظن إلى أن معنى تأخر هاتين النظريتين أنهما لم تخطرا ببال أحد ولم يعرض لهما الكتاب والسنة والأحاديث مطلقاً، فقد عرض الكتاب في مختلف الموارد إلى القدر والاختيار تصريحاً وتلميحاً وكناية، وكذلك الحديث؛ غير أنا لا نرى أن ذلك يستلزم أن تصبح علماً مفرداً لدى الناس إذ ليس كل ما يعرض له الكتاب والسنة يتفهم الناس نظرياته العلمية فعلاً، فقد جاء أن الكتاب يحوي بين دفتيه علوماً لم تكتشف بعد. ولذلك رأينا الشريف المرتضي قد خطأ القائلين أن القدر أول موضوع في علم الكلام فقال: ولم يك ما وقع من الخلاف حينئذٍ يتجاوز باب نسبة معاصي العباد إلى الله ونفيها عنه. ومن هنا نعرف أن رأي المرتضي لا يتفق مع رأي القائلين بأن معبد الجهني وغيلان الدمشقي هما أول القائلين بالقدر وإنما يرى فيهما كما عرفت في أنهما يقولان بنفي معاصي العباد عن الله وهي النظرية العدلية. وخلاصة رأي المرتضي كما يأتي:

(1)

إن أولى النظريات في علم الكلام الإسلامي هي نظرية نسبة المعاصي إلى الله

(2)

ثانيتهما النظرية العدلية وهي رأي علماء النفي

(3)

يستنتج أن عام 60 - 69 هو أعلى حد يمكن أن يكون مبتدأ لتاريخ علم الكلام؛ وذلك لأنا ضبطنا الأرقام على أساس تاريخ وفاة العلماء أي على أخس المقدمات. ومن هنا يعرف القارئ أن تاريخ علم الكلام يجوز أن يتقدم على سنة 60 ولا يمكن أن يتأخر عن سنة 69، وهكذا الشأن في جميع أرقام بحثنا التالية فيجوز عليها التقدم ولا يجوز التأخر وسيتجلى رأي المرتضى أكثر في أجزاء المقدمة التالية قال:

(بيان القدرة والمقدور وما أشبهه. فأما الكلام في خلق أفعال العباد في الاستطاعة وفيما اتصل بذلك وشاكله فإنما حدث بعد دهر طويل، ويقال إن أول من حفظ عنه القول بخلق أفاعيل العباد جهم بن صفوان فإنه زعم أن ما يكون في العبد من كفر وإيمان ومعصية فالله

ص: 37

فاعله كما فعل لونه وسمعه وبصره وحيويته، وأنه لا فعل للعبد في شيء من ذلك ولا صنع، والله تعالى صانعه، وإن لله تعالى أن يعذبه في ذلك على ما يشاء ويثيبه على ما يشاء. وحكى عنه علماء التوحيد أنه يقول مع ذلك إن الله خلق في العبد قوة بها كان فعله، كما خلق غذاء يكون به قوام بدنه، ولا يجعل العبد كيف يصرف حاله فاعلاً لشيء على حقيقة، فاستبشع من قوله أهل العدل وأنكروه مع أشياء أخرى حكيت عنه. ولما أحدث جهم القول بخلق أفعال العباد قبل ذلك ضرار بن عمرو بعد أن كان يقول بالعدل فانتفت عنه المعتزلة واطرحته، فخلط عند ذلك تخليطاً كثيراً وقال بمذاهب خالف فيها جميع أهل العلم وخرج عما كان عليه واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد بعد ما كان يعتقد فيهما من العلم وصحة الرأي لأنه كان في الأول على رأيهما وأخذ عنهما)

(لها بقية)

(العراق - النجف)

محمد علي كمال الدين

ص: 38

‌الفلسفة الشرقية

بحوث تحليلية

بقلم الدكتور محمد غلاب

أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين

- 22 -

الفلسفة الصينية

العصر الأول

عقيدة العامة

لا يستطيع الباحث أن يحصل على نتائج قيمة في دراسة عقيدة شعب من الشعوب إلا إذا صعد مع الماضي إلى العناصر الأولى لهذه العقيدة بقدر المستطاع. ولا شك أن العقيدة الصينية هي إحدى تلك العقائد القديمة التي تتكون من عناصر مختلفة وأساطير شعبية متباينة. ولهذا وجب علينا قبل أن ندرس الوحدتين الصينيتين: الدينية والفلسفية أن نلم بمعتقدات العامة في عصور ما قبل التاريخ، حتى إذا ما وصلنا إلى العصور الراقية، استطعنا أن نربط بين الأصل والفرع على نحو يرضي البحث العصري.

تتكون عقيدة العامة عند الصينيين من أقدم عصورهم من عبادة الأرواح الخفية والقوى الغامضة التي كانوا يشاهدون آثارها دون أن يدركوا كنهها على نحو ما فعلت جميع الشعوب الغابرة. وكانت هذه الأرواح المعبودة مؤلفة من نوعين: أرواح الموتى: من آباء وأجداد وغيرهم، وتسمى عندهم بالـ (كُوِي) وأرواح القوى الطبيعية مثل الشمس والقمر والكواكب وتسمى عندهم (شين).

وكانت هذه الأرواح بنوعيها تنقسم من حيث المكان إلى قسمين: الأرواح العليا أو السماوية، وهي جميع الكواكب والنجوم؛ والأرواح الدنيا أو الأرضية، مثل: الأنهار والبحيرات والمنابع، والغابات والمروج والأودية والجبال والتلول والربوات. وتندرج في هذا القسم الأدنى أو الأرضي أرواح الموتى كذلك.

ص: 39

ولقد كان الصينيون ولا يزالون إلى اليوم يؤمنون بأن هناك أرواحاً موكلة بالمطر، وأخرى بالجفاف، وثالثة بالإنبات، وغير ذلك، وأن هناك أرواحاً خاصة لحماية المنازل ورعاية أفراد الأسر.

كان هذان النوعان الـ (كُوِي - شين) إذن هما اللذين يحكمان الكون، ويسيران كل حركاته. ولهذا كان من الطبيعي أن تنحصر تفكيرات أفراد الشعب وحكامه ومشاغل قلوبهم في البحث عن نيات هذه الأرواح ومقاصدها، وما يرضيها، وما يغضبها، لكي يعمل كل فرد من أفراد الأمة حاكماً كان أو محكوماً على اجتذاب رضى هذه الأرواح، وجلب خيرها ودفع شرها. وكانت هناك وسائل كثيرة تستعمل للحصول على هذه الغاية مثل السحر والرقى واستنطاق الوحي على لسان رجال الدين

تمتاز العقيدة الصينية القديمة عن عقائد الشعوب الأخرى بالمغالاة في تقديس الأجداد إلى حد لم يعرف له نظير عند الأمم الغابرة، ففي الماضي قدموا عبادتها على عبادة أرواح السماء، وقد حافظوا على هذا التقديم من أي تغير طوال هذه العصور السحيقة، ولا يزالون إلى هذا العصر يشعرون الباحث في معتقداتهم بنفس هذا الشعور الذي يذكرنا بطفولة الإنسانية، ولكن لعل هذا النوع من العبادة قد بقي إلى الآن، لأنه يحمل في ثناياه مبادئ أخلاقية سامية تدفع الأبناء إلى احترام الآباء في حياتهم وبعد مماتهم وليس بغريب عن الصينيين أن يكون أثبت العقائد عندهم هو ما يمت بصلة إلى الأخلاق كما أشرنا إلى ذلك في الفصل الماضي

هناك ناحية أخرى قد تميز الشعب الصيني عن غيره، وهي الإغراق في تقديس الأرض وعبادتها حتى كانوا يطلقون عليها اسم:(القوة المحسنة التي تتسم البذور لتردها ثماراً مضاعفة) ولا ريب أن السبب في هذا هو أن الشعب الصيني كان شعباً زراعياً يضع الاستغلال والاستنبات في المنزلة الأولى في الحياة.

عقيدة الخاصة أو عبادة السماء

بقدر ما كان العامة يقدسون الأرض لما تفيضه عليهم من نعمة الخصوبة ووفرة الإنبات، كان الخاصة يعبدون السماء لما يرونه بعين الفكر كامناً فيها من قوة معنوية لها كل السلطان على الأرض وما فيها، وهكذا ظهر الفرق منذ أقدم العصور واضحاً بين عقيدة العامة

ص: 40

الساذجة التي تأمر بعبادة الأجداد وغيرهم من الموتى، وعقيدة الخاصة التي تحصر العبادة في السماء أو في (شانج - تي) أي السلطان الأعظم

لم تكن عقيدة الخاصة هذه مستحدثة في العصور المتأخرة، وإنما هي قديمة جداً، إذ نراها مسطرة في أقدم فصول كتاب (إِي - كينج). ولقد كانت الرياسة في هذه العبادات الراقية مقصورة على الملك الذي كان يسمى:(تي) أي السلطان وكانوا يلقبونه أيضاً بابن السماء؛ وقد تطورت هذه الرياسة في العصور المتأخرة فتجاوزت الملك إلى حكام المقاطعات والأقاليم

لم تكن عقيدة الخاصة مجرد عبادات وطقوس دينية فحسب، وإنما كانت ممتزجة بتفكيرات قيمة حول الكائن من حيث هو كائن وتحليلات لا بأس بها للقوى الطبيعية السماوية والأرضية التي كانوا يشاهدون آثارها، وكان ذلك مقصوراً على الخاصة ومحرماً على العامة تحريماً قاسياً. ويتضح هذا التحريم من قراءة أقدم فصول (إِي - كينج) إذ لا يكاد الباحث يتصفحها حتى يجزم بأنها لم تكتب إلا للحكماء والملوك وخاصة الأمراء وعلماء كبار رجال الدولة

وفي الواقع أن حكماءهم كانوا يقولون: ليس من العقل أن تُسَلَّم إلى الجمهور الأداة التي يسيء استعمالها، والتي قد تجرحه فترديه قتيلاً. وقد ظلت فكرة (المضنون به على غير أهله) قائمة في بلاد الصين حتى هذه العصور الحديثة، ولهذا قال:(لا أُو - تسي) حكيمهم المتنسك في العصور التاريخية: (كما أنه من غير الممكن إبعاد الأسماك عن الماء دون أن تموت، كذلك من المستحيل أن تكشف أسرار الدولة أمام العامة دون أن تفسد الحال)

من هذا نعرف مقدار حرص الخاصة على عدم تسرب أسرار عقيدتهم إلى العامة. والآن نريد أن نشير إلى شيء من تفاصيل هذه العقيدة، وعلى أي نحو كانت العقلية الصينية تفهم القوى المتصرفة في الكون وتؤمن بها وتوجه إليها التقديس. وإليك هذه الإشارة:

كان أولئك الخاصة من أقدم العصور يسندون التأثير في جميع الكائنات إلى قوتين عظيمتين: السماء والأرض؛ ولكنهم كانوا يرون في السماء وحدها السلطان الأعلى (اللامحدود) القوة، وكانوا يعتقدون أن السماء نفسها كائن حي متحرك بالإرادة، وبعبارة أدق: أن السماء هي العالم الحي المتحرك حسب نظام دقيق عجيب، وأنها هي كل الكون،

ص: 41

وأن الأرض وجميع ما عليها من خصوبة وتناسل ومظاهر أخرى ليست إلا رمزاً تمثيلياً من رموز السماء. وقد كانت الأرض هي الرمز النسوي للسماء لما يظهر على سطحها من خصوبة ونباتات؛ ولكن ليس معنى هذا أن خاصة الصينيين كانوا يعتقدون - كما اعتقدت بعض الشعوب الأخرى القديمة - بأن الكائنات تناسلت من زواج السماء مع الأرض، كلا. وإنما كانوا يعتقدون بالوحدة المطلقة وبأن الأرض ليست إلا مظهراً للسماء بحيث يستحيل تصور فصلها عنها كما تستحيل تثنيتهما في الحقيقة، لأن كل واحدة منهما هي الأخرى، وهي أصل جميع الكائنات في نفس الوقت. ولئن وجدنا في كتاب (إِي - كينج) أن عناصر الوجود الإيجابية مستقرة في السماء وعناصره السلبية موجودة في الأرض مثلاً، وأن الأرض تدعى بالأميرة المخصبة، فليس معنى هذا هو التثنية الحقيقية، وإنما هي رموز لا أكثر ولا أقل

وهكذا نتلاقى عند هذه النقطة من الفلسفة الصينية بوحدة الوجود سافرة جلية بعد أن قصرها أولئك المتفيقهون على العقلية الآرية وجزموا بأنها برهان السمو الفكري. وليست هذه الوحدة موجودة في الفلسفة الصينية بهيئة غامضة، أو قابلة للفرض والتخمين، كلا، بل إنهم يصرحون بأن كل كائن من الكائنات الموجودة حية كانت أو جامدة إنما هو نتيجة لإحدى حركات الوحدة المطلقة، وأن جميع الحوادث الكونية ليست ناشئة إلا عن تغير المظاهر الطبيعية، وأن هذه الوحدة هي المنشأ والمرد لجميع الموجودات بغير استثناء. غير أن هذا التأثير لا يتجه من الوحدة إلى الكثرة الناشئة عنها بطريقة مباشرة، وإنما يتجه إليها بوساطة قوى هي كذلك ناشئة عن تلك الوحدة، وعلى هذا النحو تحدث الموجودات. فمثلاً الرعد يحدث الحركات الأبدية التي تجذب أحد الضروريين إلى الآخر، والهواء يحدث فرقتهما وكذلك المطر يحدث الخصوبة، والشمس تحدث الحرارة، والجبال تحقق السكون، والماء يحدث السرور؛ وهكذا تحدث القوة الطبيعية وحدها بعض الحوادث حيناً، وتتكاتف مع إحدى القوات الأخرى إحداث البعض حيناً آخر، وتتضارب مع قوة ثالثة إما للإحداث أو للكف عنه حيناً ثالثاً، وبناء على ذلك كله فليس للعالم عند الصينيين منشئ أجنبي عنه، وإنما المنشئ هو عين المنشأ، كما هي الحال عند الهنود وعند الرواقيين مع الاحتفاظ بالفروق الدقيقة المميزة لكل واحدة من هذه الفلسفات

ص: 42

وعلى أن أهم ما يجمل بنا أن نشير إليه في هذا الموضع هو تصريح الفلسفة الصينية أو عقيدة الخاصة منذ عصور ما قبل التاريخ بأن جميع الكائنات هي نتائج التغير والتحول الدائمين والناشئين من الحركة. تلك النظرية التي طالما تلألأت في سماء الفكر الإغريقي في عصر ما قبل (سقراط) وكانت منشأ مجد (هيراكليت) ومبعث تلك المجادلات الفلسفية التي احتدم أوارها بينه وبين (بارمينيد) وتلميذه (زينون الإيليائي).

وليست هذه هي النظرية الفلسفية الوحيدة التي سبق الصينيون فيها الإغريق، بل إنهم قد سبقوا أفلاطون بتلك النظرية التي أسلفناها آنفاً، وهي تصريحهم بأن السماء كائن حي، متحرك بالإرادة. وإذا أردت التوسع في إيضاح هذه النظرية فارجع إلى أفلاطون أو إلى كتب ابن سينا وابن رشد فإنك ستجد فيها الفصول الضافية والبحوث المستفيضة.

لا يفوتنا قبل أن نغادر هذا الفصل أن نعلن أن هذا الكون الأوحد عند الصينيين لم يكن مادياً محضاً، وإنما كان طبيعياً أي مادة مشتملة على روح، بل إنهم صرحوا بأن الجانب المادي في الطبيعة لم يحتفظ بنظامه كاملاً إلا بفضل الجانب الروحي، وكذلك ينبغي أن نشير إلى أن الإنسان له عندهم منزلة خاصة، بل إنهم كانوا يعتبرونه عالماً مستقلاً ويضيفون اسمه إلى اسمي السماء والأرض كمظهر قوى من مظاهر الوحدة الكونية أو الكون الأوحد، لأنه هو المشتمل على الروح من بين جميع الكائنات وفي هذا يقول كتاب (شو - كينج):(إن السماء والأرض هما أبوا الكائنات جميعها، والإنسان من بين جميع الكائنات هو وحده الموهوب روحاً).

ولكن ليس معنى إضافة اسم الإنسان إلى اسمي: السماء والأرض هو تكوين ثالوث كثالوث الهنود أو المسيحيين، بل إنها وحدة مطلقة كما أسلفنا. وكذلك يجب أن نعلن أن هذه النظريات الراقية لم تكن يوماً ما عامية ثم تهذبت، وإنما هي وليدة أفكار الخاصة والمهذبين استخلصوها مباشرة من دراسة ما حولهم من الظواهر الطبيعية

(يتبع)

محمد غلاب

ص: 43

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي

214 -

لقد صغرت عظيماً

سأل رجل خالد بن صفوان فقال: هب لي دنينيراً. فقال خالد: لقد صغرت عظيما (صغرك الله!) الدينار عشر العشرة، والعشرة عشر المائة، والمائة عشر الألف، والألف ديتك

215 -

ألم العيون للذة الآذان

كان جحظة البرمكي ناتئ العينين جداً، قبيح الوجه، وكان طيب الغناء، ممتد النفس، حسن المسموع، حلو النادرة كثير الحكاية، صالح الشعر فقال فيه ابن الرومي:

نبئتُ جحظة يستعير جحوظه

من فيلِ شِطرنج ومن سرطان

وا رحمتا لِمُنادميه! تحمّلوا

أَلَمَ العيون للذّة الآذان

216 -

عتاب بين جحظة والزمان

في (الإيجاز والأعجاز) للثعالبي: كان الشبلي يرقص على قول جحظة:

ورَقّ الجوُّ حتى قيل: هذا

عتابٌ بين جحظةَ والزَّمان

217 -

نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة

قال يونس بن محمد المفتي: أخبرنا عبد الله بن منظور قال: لما سرنا إلى الزيارة، وانتهينا إلى باب الخشبة، وهو الباب الذي يفضي إلى القبر (قبره صلوات الله عليه) نزل رجل عن راحلته وأنشد:

نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة

لمن بان عنه أن نلم به ركباً

فلما سمعه الناس نزلوا عن رواحلهم ومشوا إلى القبر

وتمثل هذا الرجل بهذا البيت احسن من مدح أبي الطيب المتنبي من مدحه به، وقاله فيه

218 -

يا كفى الله شر ما هو حاك

أبو عامر بن الفضل التميمي و (هذا كلام عليه إمارة الإمارة وله ملاحة البداوة ورشاقة الحضارة):

ص: 44

واصلتني الهمومُ وصلَ هواكِ

وجفاني الرقادُ مثلَ جفاكِ

وحكى لي الرسول أنك غضبى

يا كفى الله شر ما هو حاك!!

219 -

ذهب ذلك القليل

في (روضة العقلاء ونزهة الفضلاء): قال شعيب بن حرب:

قال لي شعبة: عقولنا قليلة فإذا جلسنا مع من هو اقل عقلا منا ذهب ذلك القليل. وإني لأرى الرجل يجلس مع من هو اقل عقلا منه فأمقته

220 -

إرجاف العوام مقدمة الكون

كان ابن الزيات يقول: إرجاف العوام مقدمة الكون. نظمه جحظة:

وإرجاف العواِم مقدّماتٌ

لأمرٍ كائن لا شكّ فيهِ

221 -

لا. . .

كان ابن الليث قاضي مصر يكتب في فتيا فسمع جارية تقول:

ترى في الحكومة يا سيدي

على من تعشق أن يُقتلا؟

فرمى القلم من يده وهو يقول: لا

222 -

فكيف حالي لو كنت أعبد ثلاثة؟

في (نفح الطيب): كان محمد بن أبي بكر القرموطي المرسي من اعرف أهل الأندلس بالعلوم القديمة المنطق والهندسة والعدد والموسيقى والطب، فيلسوفاً ماهراً، آية الله في المعرفة بالأندلس يقرئ الأمم بألسنتهم فنونهم التي يرغبون فيها وفي تعلمها. ولما تغلب طاغية الروم على مرسية عرف له حقه فبنا له مدرسة يقرئ فيها المسلمين والنصارى واليهود. وقال له يوماً وقد أدنى منزلته: لو تنصرت وحصلت الكمال كان لك عندي كذا، وكنت كذا. فأجابه بما اقنعه، ولما خرج من عنده قال لأصحابه: أنا عمري كله اعبد إلهاً واحداً، وقد عجزت عما يجب له، فكيف حالي لو كنت اعبد ثلاثة كما طلب الملك مني؟!

223 -

واستشهد بالموتى

في (كشكول العاملي): قيل لأعرابي: كيف غلبت الناس؟ فقال: كنت أبهت بالكذب،

ص: 45

واستشهد بالموتى. . .

224 -

إنها لم تجعد عني

في (الكشاف): شهد رجل عند شريح (القاضي) فقال: إنك لسبط الشهادة!

فقال الرجل: إنها لم تجعد عني

فقال: لله بلادك! وقبل شهادته

225 -

علم الله نيتي من سمائه

في (أمالي) القالي: كان الجماز منقطعاً إلى أبي جزء الباهلي، فتنسك أبو جزء وقال للجماز: لا احب أن تخالطني إلا أن تتنسك، فاظهر الجماز النسك وأنشأ يقول:

قد جفاني الأميرُ حين تقرّى

فتقرّيت مكرهاً لجفائهْ

والذي انطوى عليه المعاصي

علم الله نّيتي من سمائهْ

226 -

المصغر لا يصغر

في (وفيات الأعيان): اجتمع الكسائي يوماً بمحمد بن الحسن (الشيباني صاحب أبي حنيفة) في مجلس الرشيد فقال الكسائي: من تبحر في علم يهدي إلى جميع العلوم. فقال له محمد: ما تقول فيمن سهى في سجود السهو، هل يسجد مرة أخرى؟ قال الكسائي: لا. قال محمد: لماذا؟ قال: لآن النحاة تقول: المصغر لا يصغر

فقال محمد: فما تقول في تعليق الطلاق بالملك؟ قال: لا يصح قال: لِمَ؟ قال: لأن السيل لا يسبق المطر.

227 -

والى العقول

في كتاب (الزهرة) لعلي بن داود (الظاهري): ليتحر الساقي العدل فإنه والي العقول، وإلا ناله من خجلة الاستعفاء ما ينال الوالي من خجلة العزل.

228 -

قل لي متى

أحمد بن فارس:

إذا كان يؤذيك حرُّ المصيف

وكرب الخريف، وبرد الشتا

ص: 46

ويلهيك حسن زمان الربيع

فأخذُك للعلم قل لي متى؟

229 -

الله اعدل

قال المنصور لبعض أهل الشام: ألا تحمدون أن دفع عنكم الطاعون منذ وليناكم؟

فقال الشامي: إن الله اعدل من أن يجمعكم علينا والطاعون. . .

230 -

أف على النرجس والآس

في (نزهة الجليس) للعباس بن علي المكي: كتب الشاه إسماعيل ملك العجم إلى الملك الأشرف قايتباي - ملك مصر - هذين البيتين:

السيفُ والخنجرُ ريحانُنا

أفّ على النرجس والآس

شرابنا من دم أعدائنا

وكأسنا جمجمة الرأس

ص: 47

‌رسالة الشعر

المال

للأستاذ فخري أبو السعود

إِيَّاكَ يبغي رائح أو مغتد

وإليك يسلُكُ حائد أو مهتد

وعليك أنت تجمّعوا وتفرّقوا

كلٌّ إلى أَرَبٍ يروح ومقصد

وعلى هواك تواصلوا وتباغضوا

متزاحمين عليكَ عَذْبَ المورد

متنافسين على جَدَاكَ فغارق

فيما يُجَمِّعُهُ وغصّانٌ صَدِ

مَن نال مِن جدواك رَاَمِ تزيُّداً

هيهات مهما زِدْتَه لم يَزهد

أَحبِبْ إِلى أَسماعهم وقلوبهم

بصداك لا بل باسمك المتردد

قطبُ الحياة وملتقَى طلابها

طراً وسِلْكُ نظامها المتبدد

يُعْلىِ مكانك عالمٌ بصروفها

وبطبعها المتقادم المتجدد

بك تُطْلَبُ الدنيا ويُدْرَكُ ما بها

مِن متعةٍ لأَخي النُّهى المتَزَيِّد

وتَصُونُ ماَء الوجه يومَ ملمة

وتَقومُ دون الحادثات بمرصد

وأَراك تَقْحَمُ كل حصن مغلق

أَشِب وتفتح كل باب موصد

وأراك عدة كل حر ناهض

يَقْضِي حقوقاً للعلا والسودد

وأراك جيشاً للغَنِّيِ مؤزِّراً

يمشي بجند حيث سار مؤيِّد

وكأنّ هذا الكونَ دولةُ مَن مشى

في جانبيه بُمطْرَفٍ أو مُتْلَد

أَنا إِنْ حَوَيْتُ قليلَ فَيْضِكَ خلُتني

مَلِكاً على هذا السَّوَاد المُجْهَد

يشقَوْن كي أَهْنَا وأَخطر مُكْرَماً

فيهم وأُدْعى بينهم بالسّيد

ويسارعون إلى رضاي مُحَكَّماً

في خير ما صَنَعَ الصَّنَاعُ وأَجْوَد

وتهش لي أَنَّي ذهبتُ ديارُهم

طرباً ويُبْشِرُ عند مَقْدَمِيَ النَّدِي

فإِذا خَلَتْ كَفِّي فيالي مُجْتَوى

إِن جاء أُنْكِرَ أو مَضَى لُم يُفقْدَ

أنت الصديق الصادق الفرد الذي

يُغْنِي إِذا اُفْتُقِدَ الصديقُ ويفْتَدِي

نِعْمَ المصاحبُ في المُقام وحبذا

خِدناً لِذِي السَّفَرِ المفِذِّ المبْعِدِ

فتشتُ عن وجه الصديق فلم أجد

فيمن عرفت سوى الطَّلُوب المجتدي

ص: 48

مَنْ ليس في يوم الرفيهة مُؤْنِسِي

بحديثه أو في الكريهة مُسعدي

حتى إذا أَقصيتُ كلَّ مُساَئلٍ

عنّي وصاحب حاجةٍ متودِّد

ألفيتُني فرداً لعمرك واحداً

فنبذتُهم وَوَفَرْتُ ما مَلكَتْ يَدِي

فخري أبو السعود

ص: 49

‌ريحانتي الأولى أو الحرمان

للأستاذ سيد قطب

ريحانتي الأولى وروْح شبابي

أئذا دعوت سمعتُ رجع جواب

أنا في الجحيم هنا وأنتِ بجنة

من روْح إعجاب وريْق شباب

أنا في الجحيم وأنت ناعمةُ المنى

خضراءُ ذات تطلّع وطِلاب

أنا لا أريدك ها هنا في عالمي

إني أعيذكِ من لظًى وعذاب

لكنها الذكرى تثور بخاطري

مجنونةً حمقاء ذاتَ غِلاب

عيني رعتكِ وأنت نابتةٌ فلم

تغفل ولم تفتر ولم تتألم

وتعهدتك يدي وأنت نحيلة

وغذاكِ من نفسي الحنانُ ومن دمي

فنموتِ والآمالُ حولك تنتشي

وتهم راقصةً وتهتف بالفم

حتى إذا أينعتِ وانطلق الشذى

ألفيتُ نفسي في صميم جهنم

ملقًى هنالك لا أحس ولا أرى

إلا الشواظَ وكلَّ داجٍ معتم

بيني وبينكِ شُقة لا تنتهي

أبداً أُقارب حولها وأُباعد

هي شقة النفسِ الخرابِ، وإنها

لمجاهل لم تُكتشف وفدافد

الشمس فيها لا تطلُّ وما بها

إلا الرواكدُ والظلام البارد

أنا لستُ سالكَها وأنتِ حفيةٌ

أن تجْنبيِ عنها ونجمك صاعد

فإِذا الذي بيني وبينك كلُّهُ

ذكرى تطل برأسها وتعاود

وأراكِ من خلل الغيوم أسيفةً

إذ تذكرين رعايتي وجهودي

وتريْن حاضرنا وغابرنا معاً

وتراجعين مواثقي وعهودي

نفسي فداك فلا أراك شجية

ترقي الغضونُ لوجهك المعبود

وقف عليك تطلعي وتلهفي

وقف عليك قصائدي ونشيدي

لكن أعيذك خطرة في عالمي

إني أعيذك وحشتي وركودي

ص: 50

‌أيها البحر

للآنسة نفيسه السيد

سرِّحْ الطَّرفَ في الَجَلالِ وَهاَتِ

نَفَحَاتٍ مِنْ آيِهِ البَيِّناَتِ

وامْلأَْ النَّفْسَ مِنْ معاَنيهِ سِحْراً

مُسْتَفِيضاً في أَرْوَع الآياتِ

مَوْطِني بُورِكَ المقَامُ حَوالْي

كَ كريمَ الغُدْوَات والرَوَحاتِ

حَيْثُ نُشِّئتُ في ظِلالِكَ أرعَى

شاَطِئ الَيمِّ فيِ مَراح الَحيَاةِ

وَملاذُ النُّفُوسِ أنْتَ إذا ما

أثْقلتْها الأَيَّامُ بالَحادِثاَتِ

فَتُوَلِّي إليْكَ مَنْطَلِقاَتٍ

مِنْ قُيُودِ الهُمُوم والَحسَراتِ

ناَئياتٍ عَنْ عاَلم الأرْضِ تحْيىِ

فَتَراتٍ مِنَ المنَى صاَفِياَتِ

دُولٌ أَقْبَلتْ عليكَ ودالتْ

مِن قديم وأنت في الرَّاسِياَتِ

مُشبهٌ للزَّماَنِ تأخُذُ عَنْهُ

سَرَّهَ مِن تَقَلُّبٍ وثَباَتِ

فَحَدِيثُ الأَيَّامِ فيكَ مُعَادٌ

فِي قَدِيمٍ من العُصُور وآتِ

(إسكندرية)

نفيسه السيد

ص: 51

‌من وحي جنائن دمشق

تعالي

للسيد جورج سلستي

تعاَليْ لنسهرَ حتى السَحَرْ

فللمغرمينَ يلذُّ السَهَرْ،

فهذا الغدير، وهذى الرياض

التي تعشقين، وهذا الزَهَرْ

أطلَّ عليها جميعاً، كوجهك

غبّ الشجونِ، أخوكِ القَمَر

يوشِّعُها من سناءِ ضياه

ووهْج أشعَّتهِ بالبِدَر!

تعاَليْ فقد رقَدَ المرجفون،

وغطَّ الوشاةُ، ونامَ القَدَر!

سجاَ الليلُ إلاَّ هبوبَ النسيم

العليلِ، وإلاَّ حفيفَ الشجر

وأبلسَ إلاَّ خريرَ الغديرِ

وجرجرةَ الماءِ في المنحدر

تعاَليْ أُساقطُ منكِ الكلامَ،

فإِنّ كلامَ الحسانِ دُرَرْ

وتحت ستارِ الدُجى يُستطابُ

حديثُ القلوبِ ويحلو السَمَر

تعاَليْ فكلّي جوارحُ تهفو

لمرأى المحيَّا الوسيم الأغرّ

تعاَليْ فشوقي إليكِ تلظَّى

وأنَّ حنيني إليكِ استَعَرْ

تعاَليْ أبثك نجوى الفؤادِ

وأشكِو إليكِ صُرُوف الغِيرْ

وما فعلتْ بَي أيدي البعادِ

وما خلَّفتْ من بليغ الأَثَرَ!

هنا مجتلى عبقريُّ الرواءِ،

وضئُ المحاسنِ، فَذُّ الصور

زها بغلائلهِ الفاتناتِ

وماجَ بوشْيِ الربيع النَضَر

كأنَّ جنانَ الخلودِ عليه

تجلَّينَ بالرَوْنَقِ المبْتَكَر!

مراءٍ تشعُّ بسحرٍ الجمال

فتسبي العقولَ، وتسبي النَظَر

هنا الروضُ يطفحُ بالنُعمياَتِ

فيشأو جميعَ الرياضِ الأُخَر

هنا متعةُ النفسِ يا منيتي

وراح النُهى ومراحُ الفِكَر

هنا جنةُ اللهِ في أرضه

إذا كانَ من جنةٍ للبَشَر

تعاَليْ فإِنَّ لقاَءكِ فيها

لسرُّ الحياة ونعمى العُمُر

تعاَليْ نذوب غراماً فنبقى

حديثَ الدهورِ ونجوى العُصُر

ص: 52

جورج سلستي

ص: 53

‌رسالة العلم

مملكة النحل

عيشة النحل وتربيته الحديثة

بقلم جمال الكرداني

تتمة ما نشر في العدد الماضي

ومن العوامل التي تسبب خراب الخلية وتؤدي إلى دمارها ظاهرة تسمى بالتطريد، والتطريد هو هجر الملكة الخلية مع بعض الحاشية لتكوين مستعمرة أخرى، وذلك لضيق الخلية أو وجود منازع لها في الملك. ويحدث التطريد في الربيع أي في أوائل أبريل حيث تكون الخلايا قوية وآهلة فتحس الملكة بضيق المكان فتضطر للمهاجرة. وعندما ترى الملكة نخاريب (عيون) ملكية تتنبه إلى أنه سيخرج منها يوماً ما ملكات تنازعها الملك فتعمد للسعها داخل عيونها ويمنعها من ذلك الشغالة حديثة السن فيعز على الملكة ذلك وتؤثر الرحيل

عند ذلك ترسل الملكة بضع نحلات هي الكشافة للبحث عن محل لائق للهجرة، وهو عادة الأشجار والجدران العالية؛ ثم يخرج النحل الكبير في السن ويتجمع بالقرب من باب الخلية ويتماسك بواسطة الأرجل حتى تتكون كتلة تسمى بالطرد

وعند تمام اجتماع الطرد تخرج الملكة وتركب وسط هذا المتن ثم يطير الطرد قاصداً المكان الذي تهديه إليه الكشافة

ويسبق هذه الهجرة ظواهر يمكن النحال ملاحظتها، وهي انقطاع الملكة عن العمل وربما كان ذلك لانشغالها بفكرة الرحيل، ويلاحظ كذلك تجمهر النحل على أبواب الخلية. كذلك يوجد غالباً دوي غير عادي داخل الخلية. وفي استطاعة النحال منع التطريد إذا فطن له فيعمل على توسيع المكان بوضع براويز جديدة كلما لزم ذلك مع ملاحظة مسألة التهوية. ويجب أخذ البراويز التي بها بيوت ملكات أو قطع البيوت منها أولاً بأول حتى لا تفقس. وإذا كانت مهارة النحال فائقة فيمكنه عزل الملكة القديمة (الأصلية) في برواز سلكي يوضع في الخلية فيرى النحل ملكته ولكن لا يرى لها بيضاً على الأقراص فتذهب نزعته

ص: 54

للتطريد. وإذا رأى النحال أن الملكة لا تستحق مثل هذا الحفظ يخرجها من الخلية ويميتها ويدخل ملكة جديدة، فيظن النحل أن التطريد قد تم، وأن هذه الملكة زعيمته الجديدة؛ ويمكن منع التطريد بتاتاً بقص أجنحة الملكة من جانب واحد

النحل والعسل

عرف النحل من قديم الزمن، وكانت الجماعات منه تسكن شقوق الصخور والتجاويف التي توجد في سوق الأشجار وعند تحقيق فائدته استأنسه الإنسان، ونقله قدماء المصريين إلى جانب بيوتهم، وكونوا له بيوتاً أرقى من الأولى، وهذه ما زالت ترتقي حتى كونت الحديثة

وتنجح تربية النحل في الحدائق والمزارع حيث تحاط الخلايا بأشجار تظللها، ويحسن أن تكون قصيرة متساقطة الأوراق مثل التفاح والخوخ والبرقوق، لأن الأشجار العالية تساعد على التطريد كما أن الخضرة الدائمة تمنع أشعة الشمس. ويستحسن تظليل الجهة الشرقية والجهة الجنوبية قليلاً لتسمح لأشعة الشمس بالوصول إلى الخلايا إذ أنها من العوامل المنشطة للنحل؛ ويقام عادة سياج في الجهتين الشمالية والغربية لمنع الأهوية الباردة عن الخلايا

وخلايا المناحل المصرية نوعان بلدية وأفرنكية؛ أما البلدية فعبارة عن اسطوانة من نوع طين القلل طولها 120 سم وقطرها 15 سم تسد بقرصين أحدهما به ثقب وتلتصق بجدران الداخلية إلا من أسفل أقراص الشمع ويبلغ عددها من 20 إلى 25 قرصاً

أما الأفرنكية فعبارة عن صندوق خشبي يتصل بقاعدته أربع قوائم قصيرة وغطاؤه محكم القفل سهل الفتح، ويرتكز على حافتي جانبين متقابلين من هذا الصندوق عشرة براويز مساحة السطح المحصور بين دائر كل برواز 35. 5 21. 5 سم2 وعرض حافته العليا 2. 5 سم وبين كل برواز والذي يليه مسافة قدرها 1. 5 سم. كما أن مستوى القاعدة ممتد من أحد جوانب الصندوق إلى الخارج مسافة 12 سم لوقوف النحل قبل دخوله الخلية أو طيرانه منها؛ ويخرج النحل من الخلية ويدخلها عن طريق فتحة عرضية في قاعدة وجه الصندوق من جهة الامتداد.

وأهم جزء من أجزاء الخلية سواء كانت بلدية أو أفرنكية هو القرص الشمعي، ويقوم النحل في الخلايا البلدية ببنائه كله؛ أما في الخلايا الأفرنكية فيثبت أساس شمعي على كل برواز

ص: 55

ويكون عمل النحل هنا قاصراً على تعلية أضلاع الأشكال المسدسة المنقوشة على هذا الأساس الشمعي، وهذا الأساس يقلل من تعب النحل في بنائه من جهة ويجعله يبذل هذا المجهود في عمل عسل من جهة أخرى. وقد وجد أن المجهود اللازم لعمل أربعة أرطال من العسل يبذل في صنع رطل واحد من الشمع. وهذا الشمع يتكون من دخول العصير الذي تمتصه النحلة من الأزهار في غدد لها أسفل الجسم فيستحيل إلى شمع فإذا ملئت هذه الغدد فاض منها الشمع على شكل قشور تزيلها النحلة برجليها الخلفيتين، وباستعمال فمها ورجليها الأماميتين يمكنها بناء الأقراص أو تعلية الأساسات

ولون القرص الشمعي أبيض في الابتداء ويحفظ لونه إذا استعمل في تخزين العسل، أما إذا استعمل الأفراخ فأن لونه يسمر. ويمكن الاحتفاظ بالقرص صالحاً الاستعمال مدة حمس سنوات إذا اعتنى به ولم يكسر عند استخراج العسل.

وعند تمام بناء القرص تقوم الشغالة بجمع العسل وتخزينه وطريقة ذلك أن تمتص النحلة رحيق الأزهار وترسله إلى حوصلة خاصة موجودة بالجزء الأمامي من البطن حيث تحصل فيه تغيرات كيميائية وغيرها ويكتسب الطعم الخاص به، وبعد وضع العسل في العيون يتبخر ماؤه قليلا ثم تغطيه الخناث بغطاء من الشمع. ويخزن العسل في الجزء العلوي والجانبي من القرص، أما الجز الأوسط منه فتشغله الأفراخ.

ويقطف العسل مرة في السنة عادة في أغسطس أو سبتمبر، ولكن إذا كانت الخلايا قوية والنحل مجداً يقطف العسل مرتين في أغسطس وأكتوبر. ويلاحظ عند قطف العسل ترك ربع المقدار في الخلية ليكون غذاء للنحل في الشتاء. وفي الطريقة البلدية توضع الأقراص فوق بعضها في إناء من الفخار مثقوب من أسفل، فتراكم الأقراص يسبب سيل العسل وخروجه من الثقب إلى إناء معد لذلك. وهذه الطريقة طبعاً غير مرضية لما يشوبها من الأوساخ وغيرها وخصوصاً إذا استعملت الأيدي لتكملة العصر

أما في الطريقة الحديثة فنحصل على العسل بوضع البراويز المحتوية عليه في جهاز يسمى الفراز يديرها دورات سريعة، وبنظرية الطرد المركزي ينفصل العسل من البرواز ويسقط في اسطوانة محيطة بالجهاز، وعند ضمان نظافة الجهاز يكون العسل نقياً رائقاً حلواً شهياً.

ص: 56

وكلنا طبعاً لا نجهل لذة طعم العسل وحلو مذاقه وخصوصاً وقت طفولتنا كما أننا لا ننسى أنه يدخل في معظم الفطائر والمربات فيزيد طعمها حسناً.

ويستعمله الغربيون بدل السكر فيضعونه في أقداح الشاي وما شاكل ذلك. وكثيراً ما يدخل في العقاقير الطبية ليزيل شيئاً من مرارتها ويكسبها طعماً مقبولا. والعقاقير التي يلزم الإنسان منها مقادير صغيرة جداً ولا يتسنى للفرد أخذها بمقاديرها الحقيقية وهي على حالتها الراهنة، تمزج بالعسل بحساب معلوم ويتعاطى الإنسان منها مقادير تحتوي على هذه الكميات الضئيلة من العقاقير وقد قال الله تعالى (يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس)

جمال الكرداني

بكلية الزراعة

تعليق

ورد في مقال (مملكة النحل) المنشور في العدد الماضي من الرسالة أن يرقات ذكور النحل تتغذى بخبز النحل مع جزء من الغذاء الملكي (اللبن) بعد ثلاثة الأيام الأولى، والحقيقة أن يرقان الذكور والشغالة بعد تغذيتها في الثلاثة الأيام الأولى بالغذاء اللبني تتغذى بغذاء نصف مهضوم من العسل وحب اللقاح (انظر مملكة النحل العدد الرابع من المجلد الثامن - أبريل 1937)

يوسف أحمد موسى

معاون أعمال فرع النحل بوزارة الزراعة

ص: 57

‌القصص

من قصص التاريخ

جاسبار هوزيه 1812 - 1833

الأستاذ عبد اللطيف النشار

إن كان البؤس مؤهلاً لبقاء الذكرى فليس أحد أحق بأن يعيش في ذاكرة الناس من جاسبار هوزيه.

أربى عمره على العشرين ولكنه لم يعش في الواقع إلا أربعة أعوام، وذلك لأن بقية عمره يجب أن تحذف من حساب الأعمار. عاش ما بين العام الذي ولد فيه وبين اليوم الذي بلغ فيه من العمر ثمانية عشر عاماً، وهو يجهل تمام الجهل ما يعلمه الأطفال دون عمد - ما يعلمونه بالغريزة وحدها. كان يجهل مثلا أن في الدنيا مزارع وأن في هذه المزارع طيوراً وزهوراً؛ وكان يجهل أن في الدنيا رجالا وأن هؤلاء الرجال يمشون ويضحكون ويبكون؛ وكان يجهل أن فوقنا سماء وأن في السماء كواكب وأن أحد هذه الكواكب يضئ في النهار وبقيتها تنير في الليل.

هكذا عاش ثمانية عشر عاماً وهو لا يعرف شيئاً عن الدنيا ولا عن الناس ولا عن الأفراح ولا عن الأحزان.

وفي يوم 26 مايو سنة 1828 وجد جاسبار هوزيه عند باب مدينة نورمبورج في بافاريا وكان هذا أول عهد الناس به وعهده بالناس.

ولما ترك هذا الباب حاول المشي ولكن قدميه خانتاه لأنه لم يعتد المشي فوقع. وهو الآن يمشي لأول مرة في الطريق وهمهم بأصوات غير مفهومة لأنه لا يعرف الكلام. ولو كان يعرفه لخاطب الناس بمثل هذا القول:

(في هذا اليوم أترك في المرة الأولى سجناً مظلماً وضعت فيه منذ مولدي ولم أنتقل منه، ولم أعرف غيره. ولست بالأعمى ولكن لأول مرة ترى عيناي اليوم ضوء الشمس، ولست بالأصم ولكني إلى ما قبل لحظات لم أكن أعرف ما الأصوات؛ وهكذا أنا بينكم لا أستطيع المشي ولا السماع ولا النظر. إنني رجل ولكنني أقل بينكم من الأطفال.

ص: 58

وكانت قوانين هذه المدينة شديدة على المتشردين، فلما رأى الجنود جاسبار مرتمياً على الأرض قادوه إلى قسم البوليس، ولكن كان عبثاً ما حاول المحققون من الحصول على إجابة منه

وخطر ببال واحد منهم أن أمامه دواة وقلماً وورقة، فلما رأى جاسبار هذه الأشياء تناول القلم وكتب اسمه فاستدل المحققون بذلك على أنه يدعي الخرس والصمم، وعلى أنه متشرد فأرسلوه إلى السجن

وكان من بين الذين حضروا التحقيق معه طبيب اسمه الدكتور (دومر) وقد استرعت هذه الحالة اهتمامه فصار يعوده في السجن ويترقب تصرفاته

ولما جيء إليه في السجن بقطعة من اللحم وبقدح من الجعة ارتاع ورمى بالقدح، وجيء له بقطعة من الخبز وبقدح من الماء فتهلل وجهه وتغدى منشرحاً ثم نام

وفي خلال الأيام الأولى زار السجن عدد كبير من الناس ليروا هذا المجهول. وكان بعضهم يحمل إليه الكعك، والبعض يحمل إليه اللعب

وكان الفريق الآخر حكيما لأن المعاملة المعقولة مع مثل هذا المخلوق هي معاملة الأطفال. لكن جاسبار كان يرفض كل ما كان يقدم إليه إلا جواداً خشبياً حين رآه تهلل وأبدى رغبة دالة على نفاذ الصبر في الحصول عليه. فأدرك النظارة من ذلك أنه كان يملك مرة مثل هذا الجواد الخشبي، وانه كان في يأس من استرجاعه

وعلى التدريج استطاع جاسبار رؤية النور وسماع الأصوات، وكان من قبل يبكي عندما يسمع دقات الساعة من الكنيسة المجاورة وينزعج عندما تمر بالقرب من السجن فرقة موسيقية. وقد أغمي عليه في أول مرة سمع فيها الألحان

وكان الدكتور (دومر) يراقب في اهتمام شديد كل هذه التطورات، فلما اقتنع بإمكان تعليمه طلب إلى ولاة الأمور تسليمه إليه. وبدأ يعلمه ووجد تقدمه مستمرا. وبعد مدة كتب جاسبار تاريخ نفسه في العجالة الآتية:

(كنت لا أعرف كم عمري لأني لم أكن اشعر بوجود الأيام والليالي ولا بمدلول العمر، ولكني كنت أشعر بوجودي في الغرفة المظلمة التي لم أعرف غيرها. وكان رجل يزورني كل يوم ويأتي بالطعام، وكنت اشعر بأني غير وحيد في هذه الدنيا. وقد وضع الرجل أمامي

ص: 59

شيئاً لم أكن أعرف ما هو لكن شكله كان يسرني، وهو جواد خشبي، وكنت أرى ذلك الرجل يمشي فأحاول المشي مثله ولكني كثيراً ما كنت أقع أو يصطدم رأسي بالحائط. وافهم الآن - ولكني لم أكن أفهم من قبل - أن ثيابي كانت بين حين وآخر تتبدل بثياب انظف وأن شعري كان يقص. واحسب أن ذلك الرجل كان يضع في طعامي مخدراً ليتمكن من إحداث هذا التغيير دون أن اشعر

وفي يوم من الأيام جاء بدواة وقلم وورقة وأمسك بيدي وعودني كتابة اسمي ولم أكن أعرف معنى لهذه الحركة ولا للاسم الذي كنت أكتبه. ولكن سهل علي ذلك بحكم الاعتياد. وأظن تعلمي كتابة اسمي قد أستغرق نحو عام من العمر. وأحسب أن هذا الاسم ليس هو اسمي الحقيقي ولكنه الذي أرادوا أن يطلقوه عليّ. على أنني غير راض عنه وأريد إن مت أن يكتب على قبري: (المجهول)

ولست أشك في أن أبي أراد إنكاري ولم يرد قتلي وهذا هو الذي يجعلني أعتقد أن اسم جاسبار هوزيه ليس اسمي. ويظهر أنني أصبحت عبئاً ثقيلاً عليهم بعد إذ بلغت هذا العمر فأرادوا التخلص مني. ففي أحد الأيام دخل الرجل الذي أعتاد أن يحمل إلي الطعام والشراب ولكنه لم يقدم لي طعاماً ولا شراباً فاستغربت وزاد استغرابي لما وضع عصابة على عيني وحملني فلم أسائل نفسي عما يراد أن يصنعوه بي

وهنا تخونني ذاكرتي ولكن أحسب أن وجودي في الطريق لأول مرة صدم أعصابي وأظن أنهم أزالوا العصابة عند باب (نورمبورج)

وأقام جاسبار عند الدكتور (دومر) وصار يرافقه في الأسواق ويظهر بين الناس. وفي أحد الأيام أصيب جاسبار وهو يدخل باب المنزل بطعنة من خنجر قذف به فجرح في جبينه ولكن الجرح كان خفيفاً. ولم يتمكن أحد من معرفة الذي شرع في قتله

لكن هذا الشروع كان كافياً للدلالة على أن حياة جاسبار لم تكن في مأمن بتلك المدينة

وطلب اللورد ستانهوب وهو من أغنياء الإنكليز إلى الدكتور دومر أن يترك له جاسبار فتركه له. وأرسل جاسبار إلى مدرسة في إنكلترا. وكان يقيم بها في منزل الدكتور منهرمان.

وفي يوم ما كان جاسبار يسير بالقرب من متحف أوزن فأصيب بطعنة وهرب الذي طعنه.

ص: 60

وعلى الرغم من أن الطعنة كانت مميتة فقد تمكن جاسبار من العودة إلى منزل الدكتور منهرمان. وكان كل ما استطاع أن يفوه به قبل موته أنه ولد في 30 ابريل سنة 1812 في بافاريا.

وأعلن اللورد ستانهوب أنه يكافئ من يرشد عن قاتله بخمسة آلاف فلورين، ولكن البحوث الرسمية وغير الرسمية ذهبت كلها سدى. ومات جاسبار في17 ديسمبر سنة 1833.

عبد اللطيف النشار

ص: 61

‌البريد الأدبي

تشجيع جلالة الملك للكتاب والمؤلفين

تفضل حضرة صاحب الجلالة الملك فأمر بمنح الأستاذ محمد بدران ناظر مدرسة بنبا قادن الابتدائية والعضو في لجنة التأليف والترجمة والنشر خمسين جنيهاً تشجيعاً له على ما بذله من جهد في ترجمة كتاب (إبراهيم باشا) فقابل الأستاذ بدران هذا العطف الملكي الكريم بالشكر والضراعة إلى الله أن يحفظ لمصر فاروقها

مدالية ذهبية إسلامية إلى فضيلة الأستاذ شيخ الجامع الأزهر

تلقت مشيخة الأزهر في الأيام الأخيرة كتاباً من وزارة الخارجية، جاء فيه أن جمعية (إسلام سيفا سماج) - وهي جمعية إسلامية كبرى في بومباي - قد قررت منح حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر (المدالية الذهبية الإسلامية) التي أنشأتها هذه الجمعية وجعلتها وقفاً على كبار المسلمين الذين يؤدون أعمالا ذات أثر ملموس في تاريخ النهضات الإسلامية الحديثة

وقد أرسلت الجمعية هذه المدالية الذهبية منذ أيام إلى فضيلة الأستاذ الأكبر مشفوعة بصورة من قرار مجلس إدارتها

متى يعلن الأدب المصري عن نفسه

ظهرت أخيراً ترجمة ألمانية لرواية تركية من قلم الكاتب التركي قربان سعيد عنوانها (علي ونينو) فأثار ظهورها اهتماماً في دوائر النقد الأدبي، وظهرت عنها في الصحف الألمانية عدة مقالات نقدية، ووصفها أحد النقدة المعروفين في إحدى الصحف النمسوية الكبرى بأنها رحلة بديعة في القوقاز وبلاد الكرج وفارس، وفي تلك المناطق التي لا يؤمها الأوربي كثيراً والتي تختلط فيها المذاهب واللغات المختلفة في صعيد واحد. وليست هذه أول مرة يترجم فيها الأدب التركي الحديث إلى اللغات الأوربية، ولكن المهم هو أن كاتباً تركياً يستطيع بإنتاجه الأدبي أن يتقرب إلى الذوق الغربي، وأن يثير اهتمام الدوائر النقدية الأوربية. ولا ريب أن الحركة الفكرية في تركيا الحديثة لم تبلغ ما بلغته الحركة الفكرية في مصر من القوة والتقدم، ولكنها تمتاز بخاصة لم يبلغها الأدب المصري بعد، وهي أنها

ص: 62

استطاعت في بعض النواحي أن تجاري الحركات الأدبية الأوربية وأن تعرف عن نفسها، وأن تلفت أنظار النقد الأوربي، وأن تنال استحسانه في بعض الأحيان. أما في مصر فمن بواعث الأسف أننا لم نوفق في هذه الناحية بعد، ولا تزال الأمم الأوربية تجهل كل شيء عن أدبنا وتفكيرنا. نعم ترجمت في الأعوام الأخيرة بعض القصص المصرية إلى بعض اللغات الأوربية، ولكنها لم تثر اهتماماً نقدياً كافياً، وكان نقلها إلى الأدب الأوربي نتيجة اتصالات شخصية، ولم يكن مترتباً على مزاياها الأدبية الخاصة. وما دام الإنتاج القصصي في مصر يعتمد على النقل والاقتباس، ولا يتحرى الطرافة ودراسة الحياة والظروف القومية فانه سيبقى حيث هو مجهولا من الأدب الأوربي

أما قصة (علي ونينو) هذه التي أثارت استحسان النقد الأوربي، فهي قصة غرامية شائقة وقعت حوادثها في مدينة باكو حيث كان (علي) يدرس في جامعتها، وحيث عرف (نينو) أجمل فتاة في العالم، وهي تقدم لنا صوراً حسنة عن الحياة الشرقية في القوقاز وبلاد الكرج وفارس، وعن العواطف والمشاعر والأخلاق في هذه الأنحاء

الاعتراف باللغة العربية لغة رسمية في عصبة الأمم

هبطت على (الأهرام) برقية من جنيف في اليوم السادس عشر من هذا الشهر تقول:

(ظهر علي الشمسي باشا مندوب مصر في عصبة الأمم للمرة الأولى في اللجنة السادسة التابعة لهذه العصبة فأحرز فيها نجاحاً جديراً بأن تفاخر مصر به وبان تشكره عليه جميع البلاد التي تتكلم باللغة العربية

فمن المعلوم أن جميع البيانات والمنشورات التي تتعلق بالتعاون الفكري كانت تصدر حتى الآن باللغتين الفرنسوية والإنجليزية. ولكن علي الشمسي باشا أظهر ما لمصر من المكانة منذ افتتاح جلسة اللجنة بتدخله في المباحثة تدخلاً باهراً أثبت على أثره الفائدة العظيمة والحاجة الماسة إلى الاعتراف للغة العربية بمثل الحقوق التي تتمتع بها اللغتان الفرنسوية والإنجليزية)

وقد أوضح هذه النظرية ببلاغة نادرة، وأيدها بحجج دامغة وافق عليها جميع المندوبين وهم من أعظم المفكرين في جميع البلدان

وهكذا قبل اقتراح علي الشمسي باشا ووافقت اللجنة بإجماع الآراء على استعمال اللغة

ص: 63

العربية فدخلت هذه اللغة دخولاً باهراً في الميدان الدولي وأصبح من الواجب الاعتراف بعلي الشمسي باشا بأنه أدى لمصر وجميع البلاد العربية أعظم الخدم وأجلها

معرض باريس

هل كان معرض باريس الدولي دعاية حسنة لفرنسا، وهل تحقق ما كان معقوداً علية من الآمال؟ هذا ما تتساءل عنه معظم الصحف الفرنسية؛ وترى صحف اليسار الاشتراكية أن المعرض كان نجاحاً عظيماً لحكومة الجبهة الشعبية التي افتتح في ظلها، والتي أشرفت على مراحله الأخيرة، ولكن صحف الكتلة الوطنية ترى أن معرض باريس كان كارثة على سمعة فرنسا، وأنه كان فشلاً ذريعاً للحكم الاشتراكي؛ وتقول في التدليل على ذلك إن المعرض قد فتح بصفة رسمية منذ 25 مايو الماضي، ولكنه فتح قبل أن تتم معظم أقسامه، ولا تزال إلى اليوم بعد أشهر من افتتاحه أقسام لم يتم إعدادها. ولم يجذب معرض باريس إليه إلى اليوم ما كان منتظراً من الزائرين، ولم تقم حكومة الجبهة الشعبية بدعاية قوية في هذا السبيل، ولم تقدم من التسهيلات ما يغري بزيارته. وقد شعرت الحكومة بفشلها ففكرت أن تمد أجل المعرض عاماً آخر ابتداء من نوفمبر القادم وهو الموعد الذي حدد لإغلاقه؛ ولكن تقوم دون ذلك صعاب كثيرة يجب تذليلها، وذلك لأن كثيراً من الأمم الكبرى المشتركة في المعرض مثل ألمانيا وإنكلترا تعارض في مد الأجل لأنها تحتاج إلى معروضاتها لتعرض في جهات أخرى، ولأنها لا تستطيع أن تستمر في الأشراف على أقسامها في معرض باريس إلى أجل غير مسمى، والحكومة الفرنسية تسعى إلى مد الأجل لكي تستطيع تحصيل نفقات المعرض وهي تقدر بمليارات الفرنكات؛ وتقدر إدارة المعرض أنه يجب لتحصيل هذه النفقات أن يزور المعرض على الأقل عشرون مليون من الزائرين، وهو عدد لم يتحقق إلى اليوم سدسه ولا خمسه. وعلى أي حال فان مصير المعرض لن يتطور قبل نوفمبر القادم وهو موعد إغلاقه الأصلي

ضوء جديد على اللغز الروسي

مازالت روسيا لغزاً مغلقاً على المؤرخ والسياسي، يصعب النفاذ إلى روحها وعقليتها؛ فهي تخرج من ثورة إلى ثورة، وتتحرر من طغيان القيصرية لتقع بين براثن طغيان أشد

ص: 64

وأروع هو طغيان البلشفية. وقد ظهر أخيراً بالإنكليزية كتاب قيم يلقي كثيراً من الضياء على اللغز الروسي، ويشرح لنا تكوين روسيا السياسي في مراحله المختلفة؛ وعنوانه: (تاريخ روسيا السياسي والدبلوماسي بقلم الأستاذ المؤرخ فرنادسكي ويقول الأستاذ فرنادسكي إن نظام الطغيان هو نوع الحكم الوحيد الذي يصلح لروسيا، وإن روسيا عاشت مدى الأربعمائة عام الماضية تحت نير الطغيان؛ ويستعرض العوامل الجغرافية والتاريخية التي تؤيد هذه النظرية؛ فروسيا أعظم أمم الأرض من حيث المساحة، وكما أن حرمان ألمانيا من الحدود الطبيعية جعلها دائماً دولة عسكرية من الطراز الأول، فكذلك حاجة روسيا إلى الدفاع عن أقاليمها الشاسعة يجعلها في حاجة إلى اليد والنظم الحديدية. ولروسيا مهمة جعلتها قبلتها دائماً هي حماية الشعوب السلافية؛ وروسيا السوفيتية تسير على هذه السياسة لأن ظروفها وعواملها لم تتغير. ويقول لنا الأستاذ فرنادسكي أيضاً أنه يستحيل علينا أن نفهم روسيا المعاصرة إلا إذا وقفنا على العناصر الني تتكون منها، وكتاب الأستاذ فرنادسكي الجديد هو في الواقع ملحق لكتابه القيم عن تاريخ روسيا الذي ظهر في سنة 1929أأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأااااالللللللااالحج08984564674897، وأثار إعجاب الدوائر الأوربية والتاريخية بدقة عرضه وقوة تصويره ورزانة استنتاجه؛ وقد وصفته الدوائر النقدية يومئذٍ بأنه أعظم كتاب ظهر عن روسيا في عصرنا، وقد استقبل كتاب الأستاذ فرنادسكي الجديد بمثل ما استقبل به كتابه الأول من الإعجاب والتقدير؛ ويعتبر فرنادسكي أعظم أستاذ في عصرنا للتاريخ الروسي.

جائزة جيته

كانت لجنة نوبل بجامعة استوكهلم قد منحت في أوائل هذا العام جائزة نوبل للسلم للكاتب الألماني فون أوسيتسكي، وكان لذلك وقع سيئ لدى حكومة ألمانيا النازية، لأن فون أوسيتسكي كاتب ديموقراطي يدعو إلى السلام ومقاطعة الحرب، وهذا ما لا يروق لزعماء ألمانيا الحاضرة؛ وكان أوسيتسكي معتقلاً في أحد المستشفيات حينما أسند إليه هذا الشرف الدولي العظيم؛ وقد احتجت الحكومة الألمانية يومئذٍ على ما اعتبرته تحدياً لها، وقرر الهر هتلر أن يحرم الكتاب على الكتاب الألمان قبول جوائز نوبل، وأمر بإنشاء جائزة أدبية كبرى تسمى بجائزة (جيته) وتخصص لأعظم كاتب ألماني يخدم بقلمه ودعوته الحركة

ص: 65

الاشتراكية الوطنية الألمانية. وفي الأنباء الأخيرة أن جائزة (جيته) منحت للكاتب الألماني أروين جيدو كولنهاير، وهو من الكتاب الشيوخ، ولكنه استطاع أن يجاري النازية، وأن يحوز استحسان زعماء ألمانيا الحاضرة؛ ولم تكن له شهرة أدبية من قبل، ولكن الاعتبار الأول في منحه هذه الجائزة الكبرى، هو أنه خدم الحركة النازية بقلمه ودعايته؛ وقد علق أحد الكتاب الألمان المنفيين على ذلك بقوله:(إن النجاح الذي أسبغته جائزة جيته على كولنهاير قد عوضه عن الفشل الذي ما فتئ يلاقيه في حياته الأدبية)

الأستاذ استراتمان

في اليوم الرابع من شهر سبتمبر سنة 1927 بلغ الأستاذ الكبير المستشرق الستين من عمره، وهو مدير المعهد الشرقي بجامعة هامبورج، والأستاذ الألماني الوحيد المتخصص في الفرق الإسلامية والمخرج لمجلة

لهذا الأستاذ كثير من الأبحاث الإسلامية وله مؤلفات عدة تمتاز بالدقة العلمية والمنطق السليم وتعد لهذا من المراجع الأولى في الأوساط الأوربية للاستشراق، لأنه إذا كتب يكتب عن تفكير وروية ثم عن احتياط شديد. وهذا غاية ما يمتاز به العالم.

وفوق ما له من المزايا العلمية وسعة الاطلاع فهو وديع هادئ لا يحب الظهور، ولا يميل إلى الإعلان عن نفسه؛ يسير مع طلبته كأحدهم ولكنه مع ذلك لا يتهاون في النقد العلمي معهم، بل قد تكون له في ذلك أحياناً ثورة نفسية باعثها الرغبة الشديدة في تعويد تلامذته الكتابة العلمية، ومن ورائها قلب طاهر يضمر لهم كل محبة وإخلاص.

يرحب بالمصريين ولا يضن عليهم بإرشاداته القيمة وإن أخذت كثيراً من وقته؛ ويعمل دائماً على تعريفهم بمشاهير علماء الاستشراق في أوربا، فإذا وفد إليه وافد من هؤلاء سارع إلى دعوة طلبته وفي مقدمتهم المصريون إلى منزله البهيج النظر لتبادل الحديث والتعرف بالوافد ثم يشيعهم بعد ذلك بكل عطف. فضلاً عن أنه يدعوهم من وقت لآخر لتوثيق عرى الرابطة بينهم.

فإذا بلغ اليوم الستين من عمره فإنما يبلغها ووراءه مفخرة عظيمة من الأبحاث العلمية المستقلة وطلبة نجباء في كثير من بقاع الأرض.

دكتور محمد البهي

ص: 66

ماذا تعني الفاشستية

لم تثر مسألة من المسائل في عصرنا من الجدل قدر ما تثير الفاشستية؛ ومع ذلك فلا يزال معنى الفاشستية ومراميها الحقيقية بعيداً عن فهم الرجل العادي. وقد صدر أخيراً بالإنكليزية كتاب يوضح هذا اللغز ويفسره عنوانه (الفاشستي) بقلم الكاتب السياسي ا. أشتون وفيه يحلل معنى الفاشستية ويستعرض مثلها بطريقة واضحة. ومما يلاحظه في مقدمة كتابه أن من العبث أن ندرس الفاشستية من واقع عقائدنا وآرائنا السياسية، بل لا بد لذلك من أن نلبس جلد الفاشستي؛ وهو يحاول ذلك في كتابه؛ ويلخص لنا مستر أشتون مركز الفرد في الدولة الفاشستية بما يأتي:(إن الفرد لا قيمة له في نظر الدولة مطلقاً، وليس له حق البقاء إلا كفرد من المجتمع؛ وقد استبدلت حقوقه الشخصية بتسليم كل أفكاره ومشاعره ورغباته إلى الدولة، فلا حق له في التفكير أو التقدير؛ ولهذا أصبحت قوة التقدير عنده معطلة جامدة، وكل ما يسمح له أن يفكر فيه هو ما تسمح به الدولة أن يفكر؛ وهو يدهش إذ يرى في العالم أناساً لا يعتقدون أن الفاشستية هي خير طريق إلى الحياة)

ويلاحظ المؤلف أيضاً أن من خطل الرأي أن نعتقد أن الأكثرية من الدولتين الخاضعتين للنظم الفاشستية، وهما إيطاليا وألمانيا، ساخطة على هذه النظم؛ ولكن يلاحظ من جهة أخرى أن ألمانيا وإيطاليا هما دولتان في طور الفتوة، وليست لإحداهما كما لإنكلترا أو فرنسا أو أمريكا تقاليد ديمقراطية عريقة؛ بل لقد كانت الفكرة الديمقراطية لديهما طارئة، ولم يرسخ غرسها؛ ومن ثم قد استحالت الديمقراطية في إيطاليا غير بعيد إلى حالة من الفوضى يستغلها المحترفون، وأما الشعب الألماني فهو بطبعه شعب عسكري يجنح إلى النظام والالتفاف تحت الألوية العسكرية، ويقدم خضوعه للنظم التي تشبع بهذه الروح بسهولة لا توجد في الشعوب الأخرى.

مصاير الحرب والسلام في أوربا

لفت أنظار الدوائر السياسية في إنكلترا وفي القارة كتاب سياسي خطير ظهر أخيراً بالإنكليزية عن نيات ألمانيا ومشاريعها العسكرية عنوانه: (مؤامرة هتلر ضد السلام) ' ومؤلفه الدكتور اكنر (وهو غير الطيار الشهير) أحد الكتاب الألمان المنفيين؛ وفيه

ص: 67

يستعرض أغراض هتلر العسكرية كما يبسطها في كتابه المعروف (كفاحي) ويدلل على أن ألمانيا النازية قد قطعت شوطاً كبيراً في الاستعداد لتنفيذ هذا البرنامج بالعنف والسيف؛ وهذه مسألة ليست جديدة في الواقع، ولكن الجديد في كتاب الدكتور اكنر هو المعلومات الهامة التي يذيعها عن جهود الحكومة النازية لتكوين العقلية العسكرية في الشعب الألماني وإقناعه بأن الحرب هي وحدها طريق المجد والرخاء، وعن الدعاية المدهشة التي تنظم في ألمانيا ضد الدول التي يعتبرها النازي عقبة في سبيل أحلام ألمانيا. كذلك يقدم لنا المؤلف طائفة من المعلومات الجديدة عن مشاريع ألمانيا في أسبانيا وآمالها في محالفة الحكومة الفاشستية التي تحاول أن تعاون في إقامتها فيها، وعن أطماع ألمانيا في المشرق ووسائلها لتمهيد لهذه الأطماع؛ وهذه الحقائق الغريبة يدعمها المؤلف بطائفة من الوثائق والأدلة الهامة السرية والعلنية. والكتاب صفحة هامة من التاريخ السياسي تلقى ضياء كبيراً على مصاير الحرب والسلام في أوربا

كتاب عن المسألة الاستعمارية

أضحت المسألة الاستعمارية من أخطر المشاكل الدولية التي تهدد سلام العالم؛ وما زالت المأساة الحبشية ماثلة أمام الأعين بكل روعتها، فقد ذهبت أمة عريقة في الاستقلال هي الحبشة ضحية لهذه الشهوة الاستعمارية الخطرة وأدركت الأمم الصغيرة مرة أخرى أن الحق والسلام والعدالة كلمات جوفاء إذا لم تدعمها القوة الغاشمة. وقد صدر أخيراً كتاب خطير عن المسألة الاستعمارية عنوانه (المسألة الاستعمارية: أهميتها الدولية) ، بقلم الأستاذ الدكتور بون؛ وفيه يبحث الكاتب دعاوى الدول المحرومة من المستعمرات مثل ألمانيا وإيطاليا واليابان في المساواة الاستعمارية ويستعرض ثروات الأمم الاستعمارية الكبرى وعدد سكانها ومواردها الطبيعية وموارد مستعمراتها، ويقارن مزاياها الاقتصادية، ويخرج من بحثه بأن القيمة الاقتصادية للمستعمرات مبالغ فيها لأنها ليست في الواقع عاملاً مفيداً في تخفيف ضغط السكان في الدول الكبرى، هذا فضلا عن أن عبء الدفاع عنها وقت الحرب يثقل كاهل أصحابها

ويرى الدكتور بون أن عصر بناء الإمبراطوريات الاستعمارية قد انتهى، وأن عصرنا هو عصر انحلال لهذه الإمبراطوريات وكل ما تستطيع الدول المحرومة أن تشهده وهو عملية

ص: 68

التصفية؛ وينوه المؤلف بالأخص بالعامل النفسي في الدول المحرومة ويصف حقد ألمانيا لفقد مستعمراتها بواسطة معاهدة فرساي؛ ويرى أيضاً أن الشروط التي يجب توفرها لضمان سلام العالم هي عود الأمم إلى التعاون، وتنازل الأمم الاستعمارية عن بعض امتيازاتها للدول المحرومة، وعود الأمم المحرومة إلى موقف التعقل والرشاد.

أدب البحر

أقامت جمعية (أبولو) في الإسكندرية في الأسبوع الماضي حفلة شعرية عن أدب البحر نظمها سكرتير الجمعية الدكتور أبو شادي. واشتراك فيها جمع حفيل من حضرات الشعراء والمستمعين. . .

وقد بدأت الحفلة بكلمة الدكتور أبي شادي، ثم تلتها قصيدة رائعة للأستاذ (أحمد محرم) ثم توالى الشعراء في إلقاء قصائدهم وكانت من القصائد المبرزة في الحفلة قصائد حضرات الشعراء (يوسف فهمي، ومحمد السيد، وزكي غازي، وفتحي الشهابي ومصطفى السحرتي)

ثم نهضت الآنسة نفيسة السيد وألقت قصيدة جميلة هزت الأسماع ننشر بعضها في هذا العدد تشجيعاً لها على المضي في هذا الميدان. . . متجاوزين عن بعض هنات بسيطة لا تشوه من جمال القصيدة.

وقد لاحظنا في الحفلة أن كثيراً من شعرائها قد خرجوا في إلقائهم عن قواعد اللغة البسيطة. . . فمثلا نرى الشاعر (محمد السيد) قد خرج بكثير من كلمات القافية عن صحتها. . . فنراه ينطق كلمة (زفاف) بفتح الزاي وصحتها بالكسر وكلمة (هتاف) بكسر الهاء وصحتها بالضم. . . وكذلك نرى الشاعر (مصطفى صبحي) ينطق (ريح الشمال) بكسر الشين وصحتها بالفتح. . . إلى غير ذلك مما تعصانا عنه الذاكرة

والحفلة في مجموعها مجهود موفق نشكره للدكتور أبي شادي ولحضرات الشعراء الأفاضل، ونهنئ به الإسكندرية التي تلبثت زماناً طويلاً بعيدة عن أمثال هذه المحافل الأدبية

فتحي. م

ذكرى شاعر قوقازي

ص: 69

احتفل أخيراً في بلاد الكرج والقوقاز بالعيد المئوي لمولد الشاعر الكرجي إيليا شافشفادزي، أعظم شعراء الكرج في القرن التاسع عشر وكان هذا الشاعر زعيماً وطنياً لعب دور عظيم في إذكاء الروح الوطنية بين مواطنيه، واتخذ الشعر والأدب سلاحاً لدعوته، ولبث مدى أربعين عاماً زعيم أمته الفكري؛ وقد نظم الشعر بكثرة وبراعة واشتغل بالأدب والصحافة، وكان له مع القيصرية مواقف وطنية مؤثرة؛ ولما صدر الدستور الروسي على أثر ثورة سنة 1950، احتفظت القيصرية بكراسي مجلس الشيوخ لصنائعها من رجال البلاط؛ ولكنها لم تجد بداً من النزول على ضغط الحركة الوطنية في القوقاز، ورأت أن تهدئها باختيار ممثل لها في مجلس الشيوخ؛ وكان هذا الممثل هو الشاعر الكبير شافشفادزي أو البرنس شافشفادزي، وهو الأول والأخير الذي حظي بهذا الشرف؛ وقد انتظم الشاعر مع ذلك في صف خصوم القيصرية منذ مقدمه إلى بطرسبرج، فكانت النتيجة أن القيصرية توسلت إلى التخلص منه بوسائلها المعروفة. وكان أن قتل بعد ذلك بأشهر قلائل على أثر عودته إلى القوقاز. ولكن القيصرية لم تستطيع أن تقتل الحركة الوطنية التي أذكاها شافشفادزي بقلمه ولسانه، بل لبثت آثارها ماثلة في الجيل الذي خلفه، والذي استطاع فيما بعد أن يعاون في هدم القيصرية والطغيان. ومما هو جدير بالذكر أن ستالين زعيم روسيا وطاغيتها الحالي هو من مواطني الشاعر وتلاميذه في الوطنية والحركة التحريرية

ص: 70

‌رسالة النقد

كتاب إحياء النحو

تأليف الأستاذ إبراهيم مصطفى

للأديب السيد عبد الهادي

تتمة

واصل الأستاذ بدوي نقده، في مقاله الثاني، لمعاني الإعراب وأخذ يناقش بعض الأمثلة الواردة في الكتاب دون اعتماد على نقل قديم أو سند من رأي. فبينا ترى الكتاب قد امتلأ بآراء أئمة النحو القدماء وبالنصوص القديمة الصحيحة مؤيدة بأسماء الكتب وأرقام الصفحات، وذلك شأن الباحث الحديث الذي لا يقطع صلته بالماضي ولكنه لا يقف عند حده، ترى نقد الأستاذ قد خلا منه تماماً؛ وخلو النقد من أمثال هذه النصوص والآراء يسقط قيمته ويحيله إلى مجادلات لفظية لا تغني عن الحق شيئاً.

ولعلي لا أجد بياناً أوفى ولا حجة أقطع فيما بيني وبين الأستاذ بدوي من خلاف حول معاني الإعراب إلا أن أقدم للقارئ الكريم صورة صحيحة دقيقة عن رأي المؤلف فيها، وإذ ذاك يستطيع القارئ بنفسه أن يحكم للكتاب أو عليه وأن يقدر فضل المؤلف ودقة نظره وأن يعرف إلى أي حد كان هذا النظر صحيحاً جديراً بأن يكون إحياء للنحو بكل ما في كلمة الإحياء من معنى.

فاللغة العربية لغة معربة أي تتغير حركات الحرف الأخير من كلماتها تبعاً لتغير التراكيب، وهذه أهم ظاهرة تلفت النظر في اللغة العربية، وقد كان العرب شديدي العناية بالإعراب، وكان حسهم به دقيقاً يقظاً؛ وقد قالوا: اللحن هجنة على الشريف. وقال عبد الملك بن مروان: شيبني ارتقاء المنابر وتوقع اللحن. هذا شأن حركات الإعراب ومنزلتها في اللغة العربية.

أما الحركات الأخرى التي ليست حركات إعراب وهي التي تكون في أوائل الكلمات أو في أوساطها فليست أقل شأناً في العربية من حركات الإعراب فإنها أداة للتفريق بين المعاني المختلفة، فهي تفرق بين اسم الفاعل والمفعول في مثل مكرَم ومكرِم، وبين فعل المعلوم

ص: 71

وفعل المجهول في مثل كَتَب وكُتِب، وبين الفعل والمصدر في مثل عِلم وعلْم، وبين الوصف والمصدر في مثل فرِح وفرَح وحَسن وحْسن، وبين المفرد والجمع في مثل أسَد وأسْد، وبين الفعل والفعل في مثل قدِم وقدُم، وبين معان أخرى كثيرة يتبينها الناظر في مفردات اللغة العربية بسهولة وبكثرة عظيمتين.

من هذا نرى عناية اللغة العربية بالحركات على اختلاف أنواعها وحرصها على الدقة فيها حرصاً شديداً.

وقد حاول علماء النحو أن يعرفوا أن منشأ حركات الإعراب، وفكروا في ذلك طويلا وأنعموا النظر ودققوا الإحصاء، فهداهم كل ذلك إلى أن حركات الإعراب ليست إلا نتيجة لعامل مذكور في الجملة، وإن لم يكن مذكوراً فلا بد من تقديره حتى يسلم العقل بوجود حركة الإعراب لأنها عرض حادث لا بد له من محدث، ومحال أن يوجد الحادث من غير محدث؛ وقد أطالوا الكلام في العامل لأنه في نظرهم سبب حركات الإعراب، فجعلوا الأصل في العمل للأفعال، والأسماء تعمل حملا عليها، وبعض الحروف يعمل حملا على الفعل؛ وجعلوا بعض العوامل قوياً وبعضها ضعيفاً. وعلى الجملة قد وفوا العامل حقه من البحث والإحصاء، وألفوا كتباً تجمع قواعد النحو تحت عنوان العوامل. وقد عشنا على هذه النظرية طوال هذه السنين حتى أحالها الزمن إلى عقيدة ثابتة يؤمن بها الصغير والكبير، فأعطينا للكلمات المختلفة قوة ترفع وتنصب وتجزم، ولم نعطي لأنفسنا هذه القوة، ونحن الذين ننشئ الكلمات ونغيرها ونبدلها ونحن الذين نرفع وننصب ونجزم.

وقد جاء المستشرقون وحاولوا أن يجدوا أصلا لحركات الإعراب فافترضوا أنها بقايا لزوائد كانت تلحق بالأسماء، وقد انقرضت الزوائد وبقيت الحركات دالة عليها، وهذا مجرد فرض لم تقم على صحته أدلة كافية باعتراف المستشرقين أنفسهم

ثم جاء الأستاذ الجليل مؤلف (إحياء النحو) ونظر فيما قرره النحاة في منشأ حركات الإعراب وما انتهى إليه المستشرقون، أطال النظر فيما سبقه من الآراء والنظريات، وأطال الاتصال بالعربية وأساليبها الصحيحة فلم يرقه ما قرره أولئك ولا هؤلاء في منشأ حركات الإعراب، واهتدى بثاقب فكره إلى أن حركات الإعراب إنما هي إشارة إلى معنى خاص يقصده العربي حين يلتزم الفتحة أو الكسرة أو الضمة، ولم يستقم عنده أن يكون

ص: 72

الإعراب حكما لفظياً يتبع لفظ العامل دون أن تكون له إشارة إلى معنى خاص، أو أثر في تصوير المفهوم؛ فما كان للعرب أن يلتزموا هذه الحركات ويحرصوا عليها الحرص الشديد وهي لا تعمل في تصوير المعني شيئاً؛ ونحن نعلم أن العربية لغة الإيجاز، فالعرب يحذفون الكلمة إذا فهمت والجملة كذلك، ويهملون ما لا حاجة إليه رغبة في الإيجاز كعلامة التأنيث في الصفات الخاصة بالمؤنث، كما في أيم وظئر ومرضع، فهل يعقل في لغة هذا شأنها من الإيجاز أن تلتزم حركات إعراب مختلفة دون أن تكون هذه الحركات دالة على معان مختلفة

نرى في اللغة العربية ظاهرة التعدد في صيغ الكلمات والأدوات التي تؤدي وظيفة واحدة، ولكن لكل واحدة معنى خاص تشير إليه كصيغ الجموع المختلفة، كل صيغة لها دلالتها الخاصة، والصيغ المختلفة للصفة المشبهة لكل صيغة دلالتها الخاصة، وأدوات النفي لكل أداة معنى خاص في النفي، وأدوات الشرط المختلفة كذلك لا يعدل عن واحدة إلى الأخرى إلا تبعاً للمعنى؛ وهكذا في كل الظواهر التي نشاهدها في اللغة العربية، وما علامات الإعراب إلا ظاهرة من هذه الظواهر الكثيرة تسير على منهاجها وتأخذ حكمها، وتكون دالة على معان مختلفة، وتتغير تبعاً لتغير هذه المعاني؛ فالذي يعدل بالعربي عن حركة من حركات الإعراب إلى الأخرى إنما هو المعنى وليس عاملا من العوامل. ذلك ما أرتاه الأستاذ الجليل مؤلف (إحياء النحو) في حركات الإعراب. اشهد ويشهد معي كل منصف أنه فتح جديد في فهم العربية

فما عسى أن يقول الأستاذ بدوي في ذلك وما عساه أن يقول في هذه العبارة (نريد أن نفهم حركات الإعراب كما نفهم الظواهر الأخرى في اللغة العربية كصيغ الجموع المتباينة وصيغ الصفات المختلفة وأدوات النفي المتنوعة من حيث دلالة كل واحدة منها على معنى خاص؟)

وأخير لم يرق لدى الأستاذ الناقد أن تضم أبواب الفاعل والمبتدأ ونائب الفاعل تحت باب واحد هو المسند إليه وحجته أن المبتدأ لا يصح أن يكون نكرة والفاعل يصح أن يكون كذلك وللمبتدأ أحكام مع الخبر من حيث تأخره وتقدمه عليه ووقوع الخبر جملة حيناً ومفرداً حيناً آخر وليس للفاعل حظ من ذلك. والجواب عن ذلك سهل يسير؛ فلو أن الأستاذ فهم

ص: 73

كيف وحد المؤلف أحكام المبتدأ والفاعل وأزال وجوه التفرقة بينهما لانتفت عنده كل شبهة ولآمن بأن البابين باب واحد شطرته الصناعة الفاسدة شطرين، وذلك أننا حينما ننظر إلى المبتدأ والفاعل كشيء واحد هو المسند إليه نستطيع أن نوحد أحكامهما المختلطة؛ واهم ما يفرقون به بين الفاعل والمبتدأ أن الفعل يوحد مع الفاعل الجمع أو المثنى، وأما المبتدأ فلابد أن يطابقه الخبر، ولكن المؤلف جمعهما في هذا الحكم بقاعدة سهلة يسيرة هي أن المسند إليه إذا تقدم وجب أن يطابقه المسند في العدد وإذا تأخر وجب أن يكون المسند مفرداً وهي قاعدة مضطردة لا يقام لسبيلها والحال كذلك في التعريف والتنكير، وذلك أنه إذا تقدم المسند إليه وجب أن يكون معرفة، وإذا تأخر جاز أن يكون نكرة، والحال كذلك في التقديم والتأخير، فإذا كان المسند إليه من ألفاظ الصدارة وجب تقديمه، وإن أوقع تقديمه في لبس وجب تأخيره والعكس بالعكس، وهكذا نجمع أحكام الأبواب الثلاثة تحت باب واحد فنسهل بذلك على الدارس المبتدئ ونحببه في دراسة النحو ولا نفوت من أحكام اللغة حكماً واحداً صغيراً أو كبيراً.

وإني أسأل الأستاذ بدوي سؤالاً واحداً بعد ذلك كله: ألم يجد في كتاب إحياء النحو شيئاُ واحداً يستحق التقدير والثناء حتى كان كل نقده من أول حرف إلى آخر حرف ذماً وانتقاصاً؟ لا أظن أحداً من الناس يوافقه على أن كتاباً خرج في مائتي صفحة ليس فيه موضع لثناء أو تقدير، ولو أن كتاباً خرج كذلك بالفعل لوجب على من يريد أن يحاربه أن يتلمس له موضع حسن حتى يوهم الناس أن نقده بريء خال من الهوى والتعصب.

السيد عبد الهادي

بالدراسة العليا بكلية الآداب

ص: 74

‌الكتب

كتاب إحياء النحو

اكتشاف لغوي مهم

للأستاذ يوسف كركوش

تمتاز اللغة العربية عن سائر اللغات بحركات الإعراب التي تلحق أواخر الكلم، إلا ما يقال عن بعض اللغات السامية: كاللغة السريانية: من أن لها علامات إعرابية، وهي لغة ميتة. وأما سائر اللغات سواء الحية منها أو الميتة فان أواخر كلماتها ساكنة، مهما تغير موقع تلك الكلمات من الجملة، وأما باقي أبحاث اللغة: من صرف، واشتقاق، وبلاغة، إلى غير ذلك فهي موجودة في أكثر لغات العالم

وقد بذل علماء اللغة العربية - منذ القرن الأول للهجرة - جهوداً جبارة للكشف عن حقيقة هذه الظاهرة الإعرابية، ومعرفة أسبابها، فاستنبطوا قواعد وضوابط زعموا أنها تكشف عن حقيقة هذه الظاهرة ومعرفة أسبابها. فكان من نتيجة استنتاجهم أن هذه الحركات الإعرابية متأثرة بعامل يكون في الجملة، فكأنهم اعتبروها كائنات حية تؤثر أثرها. وإنا لنعترف لهم بالفضل لتتبعهم واستقرائهم كلام العرب، منظومه ومنثوره ورحلاتهم الطويلة الشاقة لأجل مشافهتهم الأعراب: ولكنهم لم يوفقوا في استنباط هذه القواعد والدساتير

وقد أولعت منذ نعومة أظفاري - بدرس اللغة العربية ومدارستها، وقرأت كل ما وصل إلى يدي من مؤلفاتها؛ ومع ذلك لم يزل الشك يساورني في صحة هذه القواعد والدساتير التي وضعها علماء اللغة لها، هذا مع اعترافي بصحة هذه الظاهرة الإعرابية.

فكنت على الدوام أتطلب وأتساءل وأجمع المعلومات لعلي أهتدي إلى تعليل صحيح لهذه الظاهرة بحيث يكون قريباً من الذوق الفطري.

وصادف أني اجتمعت بزميل لي يشاركني هذه الفكرة ويجول في ذهنه ما يجول في ذهني ويتمنى لو تسني له أن يزيل اللثام عن هذه القضية. فقد احتلت حيزاً كبيراً من عقله فكان حين صادفني هذه المرة أن قال لي قبل كل شيء: البشرى. فقلت له: ومثلك من يبشر بخير. فقال: طلع علينا كتاب من مصر لأستاذ مصري اسمه إبراهيم مصطفى واسم الكتاب

ص: 75

(إحياء النحو) فيه تحقيق فكرتنا. ثم ناولني نسخة من هذا الكتاب فكان سروري به عظيما لا يوصف. فقرأته بإمعان وترو متجرداً من عواطف الحب والكره، فرأيت المؤلف قد علل الحركات الإعرابية من ضم وفتح وكسر، وكذا التنوين وعدمه بتعليل طبيعي فطري يجري مع الذوق السليم. فكدت أطير فرحاً وزال عني ذلك الكابوس الذي كان جاثماً على صدري

فالكتاب جليل عظيم القدر، لا باعتبار مادته، بل باعتبار نزعته التجديدية، وترتيب معلوماته ترتيباً منطقياً لاستجلاء تلك الفكرة السامية. فهو بحق (إحياء النحو). وهذا العمل اكتشاف مهم في اللغة العربية: لإظهاره ما للغة العربية من مزايا جليلة، ولإزالته عناء البحث عن طالبيها، فبعد أن كان الطالب يحتاج إلى مدة كبيرة لمعرفة أسباب هذه الظاهرة صار يكفيه من الوقت لمعرفة ذلك أقل بكثير

وكنت أعتقد أن هذا الكتاب سوف يحدث ضجة في العالم العربي ولا سيما مصر، وأن الأقلام ستأخذه بالنقد والتحليل لإظهار حقيقته؛ ولكن - مع كل الأسف - لم يقع بعض هذا، مع أن في العالم العربي لا سيما في مصر فطاحل العلماء في اللغة العربية. هذا مع خطورة هذه المسألة، فهي جديرة بالبحث لأنها مسألة حيوية لها صلة بالتفكير والتعبير. ولو أن مثل هذا الكتاب ظهر في إحدى البلدان الغربية لأعاروه أهمية عظمى. وأني لأربأ بأبناء أمتي أن يبلغ بهم الجمود هذا الحد فيصدق فيهم قول أعدائهم من الأجانب: إن الأمة العربية أمة بعيدة عن التطور عدوة لكل تجديد.

والعجب كل العجب من الأستاذ (احمد أمين) أنه حين كتب في (الرسالة) حول موضوع (ضعف اللغة العربية) لم يجعل الضعف ناشئاً من قبل قواعد اللغة، بل اعتبره ناتجاً من قلة كفاية المعلم، وما إلى ذلك من مناهج، وتفتيش ووسائل التربية. وهذا لا ينكر أن لها أثراً في ضعف اللغة، ولكنها في المرحلة الثانية، وهي غير خاصة باللغة العربية، بل تشمل سائر الدروس

وبصفتي فرداً من أبناء الأمة العربية - أقترح: أن يشكل (مجمع اللغة العربية الملكي بالقاهرة) لجنة تنظر في هذا الكتاب وتمحصه تمحيصاً دقيقاً، وتختبر هذه النظرية التي دعا إليها المؤلف في كتابه وتضع لنا قواعد على ضوء هذه النظرية. إذ أن مثل هذا العمل من أهم أغراض المجمع المذكور، فان من جملة أغراضه أن يبحث كل ما له دخل في تقدم

ص: 76

اللغة العربية

(الحلة - العراق)

يوسف كركوش

كتاب في قصور دمشق

ثلاثون قصة وقصة (من لب الحياة)

تأليف الأستاذ محمد النجار

أخذ الاهتمام بالقصص يزداد في العالم العربي لما تبين من نفاسة قيمته الفنية والأدبية، وعظم فائدته القومية والإنسانية. وكانت مصر وما تزال مجلية في الحلبة؛ ثم بدا نمو هذه الحركة ونشاطها في لبنان. أما دمشق فظلت في تأخر حتى إذا ظهر كتاب (في قصور دمشق) رحب به الأستاذ منير العجلاني في المقدمة التي كتبها له واستزاد مؤلفه من أمثاله وحثه على الاستمرار في الكتابة

وأقاصيص الكتاب صغيرة تتراوح بين ثلاث وأربع صفحات تفضح - إذا صح القول - كثيراً مما في زوايا الخدور في صراحة يستهجنها بعض المتأدبين ويحبها المحافظون، وفيه كثير من الأساليب واللهجات العامية

تلذ قراءة هذا الكتاب للفتيان لأنهم يذهبون مع رغباتهم ويستطيبون لذات الحياة مهما كبحوا جماح أهوائهم وربما فسروا حكاياته مع ما يتفق وغرورهم، أما الكهول فلعلهم لا يجدون في هذه الأساطير كبير غرابة لأنها أحاديث تملأ المجالس الخاصة، وما هي بالأمر الذي يطغي على دمشق بل هو ناحية صغيرة من نواحيها الجديرة بالاهتمام. وليست هذه الحال تختص بدمشق وحدها ففي كل بلد من عجائب أسرار البيوت ما تعافه النفوس الأبية.

ولا ريب أن الأستاذ النجار قد عانى مر المشاق في سبيل تلقف هذه القصص وجمعها من مجالس اللذات وأفواه الهامسين وأحاديث الأندية، وهو على عنايته بإبراز هذه الصور واضحة مجردة عناية يشكره الأدب الواقعي عليها، مصلح ينبه قومه إلى هذه الأسواء وضرورة معالجتها.

ص: 77

(دمشق)

مظفر البقاعي

ص: 78