الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 221
- بتاريخ: 27 - 09 - 1937
مصر العربية
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
أبهجتنا معشر العرب ونعشتنا كلمة مصر المعرقة في العربية والكرم في (عصبة الأمم) في هذا اليوم، ذودا عن فلسطين إحدى الولايات (المديريات) المصرية من قبل، وحدتني على أن أبعث إلى (الرسالة) مجلة الأمم العربية بهذا القول، وقد أنشأته إذ سمعت ضباح غر غمر في عربية مصر، ومصرية عمرو
لما كان مهرجان شاعر العربية الأكبر أحمد شوقي رحمه الله في شوال سنة (1345) وجئت القاهرة: الحاضرة اللغوية للأمم العربية كيما أجهر بكلمتي في ذلك اليوم المشهود، استهللتها بهذا الكلام:(ليست دار العربية رمال الدهناء أو هضبات نجد أو الحجاز أو إقليم الشام أو أرض العراق، بل دارها كل مكان ينطق بالضاد أهله، ويتلو فيه كتاب محمد (صلوات الله عليه) قراؤه؛ وأقوى القوم عربية بل العرب العرباء أعرفهم بأدب العربية، فأهل مصر إذن هم القبيل المقدم في العربية، وهم سادات العرب)
وهذا التاريخ المصري، وهذى أحاديثه، وهذه الإسلامية المشرقة في مصر، وهذه العربية المنورة في مصر، وتلكم الأيادي البيض، وتلكم الآثار، وهذه المساعي في هذا الزمان، وهذه كلمة مصر المجلجلة في (دار العصبة) ذائدة عن فلسطين في هذا الوقت. كل ذلك يقول لي: صدقت، صدقت!. . .
فقد ساندت مصر العاملين في إعزاز العربية وإعلائها يوم كانوا يعملون، وقد حمت مصر هذه العربية حين لا أباة ضيم ولا حماة يحمون
حملت مصر دونهم هيكل الدين وروح البيان من فرقانه
وإن كانت إنما وقت عربيتها وحمت إسلاميتها، إذ الإسلامية والعربية والمصرية كلمات في هذا الوجود مترادفات
وما يجادل في عربية المصرية ومصرية العربية إلا كافر بالشريعة الكونية، وإلا محترق محتقد على هذه الإسلامية، وإلا ناشئ أضلته على علم (وهو غافل) هذه المدرسة الغربية، وإلا وغد سمسار باع الغلي رخيصاً في سوق العلوج والفرنج والحكومات الأجنبية، وإلا غبي جاهل، ولهذا يقال:
قد اطلعت على سري وإعلاني
…
فاذهب لشانك ليس الجهل من شاني
وإن مصرياً يجهد أن ينسلخ من عربيته لطالب في الدنيا محالا، ولن يكون مرغبه إلا من بعد أن يفارق نحلته، وينسى لغته، ويضمحل أدبه، ويفنى مجده في ثلاثة عشر قرناً، ويمحى حسبه، فكون مراده إنما هو بعدمه، ولن يكون هذا إلا ألا يكون هو
ومكلف الأيام ضد طباعها
…
متطلب في الماء جذوة نار
وإذا ذكرنا العربية فإنما نعني هذه العبقرية ذات التعاجيب المحمدية، وهذه القوة الخلقية، وهذه المقاصد القرآنية، وهذه الآداب الإلهية، وتلك الحضارة والمدنية
هذه هي العربية، وإن أظل وهن، وإن جاء ضيم، فالقوة في النفوس ما بدت، والعزة في غد (إن مع اليوم غداً يا مسعدة) وإن درج أهلها الأولون أنشد المصريون المنشدون:
فان يك سيار بن مُكرم انقضى
…
فانك ماء الورد إن ذهب الورد
وإن قال عربي منتم إلى العربية، ما معه من العربية شيء: لست بعربي، فليس لمصري أن يقول مقاله، ويضل ضلاله؛ إن المصري هو وارث ذاك المجد، والمصرية هي وارثة العربية. وإن لم يكن المصري هو العربي، فليت شعري من يكون العربي؟ وإن لم تكن مصر دار العربية، فأين - يا قوم - في الدنيا دارها؟
وإن قال زنيم نيط بالمصرية: لست في شيء من العربية، قالت له المصرية: ولست في شيء من المصرية. أنكر العربية فأنكرته المصرية
وأنت زنيم نيط في آل هاشم
…
كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
إذا لم يكن المصري هو العربي كل العربي فهل العربي هو المغربي أو العراقي أو الشامي أو الحجازي أو النجدي أو اليماني أو الحضرمي أو العماني أو ذلك البدوي، ذلك الأعرابي
هل ذهب كل هؤلاء بمنقبة العربية وقعد المصري حجرة العربية حجر عليه. . .؟؟!!
إن العربية لن تنكر بنيها كبروا أو حقروا، نأوا في الدار أو قربوا، قل عديدهم أو كثروا، فكل أولئك بنوها، ولكن يحزنها ويغضبها عقوق في بنيها، وأقرب الأبناء إلى أمهم ابن في الدنيا بر. وهل رأت العربية في حين أبر بها من مصر؟
وليست العربية بالعزوة، ليست العربية نسبة، ولكنها عقيدة ونحلة وملة، ولكنها خليقة وأدب ولغة
ليست العربية نسبة، ولكنها جامعة تؤلف بين القلوب، وفيها وفي شريعتها الحرية، وليست كمثل جامعة غربية، لأهلها ضجيج وعجيج (وأولئك الأغلال في أعناقهم)
فالعربي هو ذلك المتمدن المتحضر المهذب المثقف، المتعلم العالم العزيز الأبي الناطق بلسان القرآن. وليس بعرب (خراب بادية غرثى بطونهم) ولا قراضيب في (الجزيرة) ولا مد لغفون
وآنف من أخي لأبي وأمي
…
وإذا ما لم أجده من الكرام
وقد قلت من قبل: ألا إننا كلنا أجمعين عرب أو عربيون وإنه ليحق هذا لهجة عربية ألهجنا منذ القديم بها، وأدب عربي نجعنا به وتروينا منه، وخلق عربي اشتملنا عليه. وما الأمة إلا لغتها وأدبها وخلقها، وكفى بذلك جامعاً، وإن النسب الواشج إلا زائدة، ولو عزا العازي كل أمة وفتش أصلها لتشظت وراحت أمم. . .
وهو قول لم يلاق مكذباً، ولم يجد أحد عنه متعقباً
وإن هذه العربية أم العلم، وربة التفكير، وزعيمة البحث والنظر - لن تقول لمصري من أبنائها - وهنالك في وادي النيل ما هنالك وهناك التاريخ الناطق، وهناك مجد باسق، فلن تقول له: طلس وطرس، بل تقول له: مجد وقدس؛ إنك قد سكنت جنتين، وكنت ذا المنقبتين، وكانت دارك مصدر المدنية، وموئل العربية قد جمعت العز من أطرافه: سؤدد (المصري) ومجد العربي
مصر مصدر العلم والمدنية
مصر موئل العرب والعربية
مصر! حيا الله مصر! حيا الله ربعها
محمد اسعاف النشاشيبي
سلوك المرأة وسلوك الرجل
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
أمر النساء في كل حال عجيب. وإذا كان أحد من الرجال يفهمهن - كما ينبغي أن يفهمهن - فأنا والله بهن جاهل. ولي العذر، فما أراهن يفكرن في شِأن على نحو ما أفكر أنا أو يتناولنه من الناحية التي أتناوله منها. وأحسب أن هذا الضرب من الجهل هو الوحيد الذي لا يعيب المرء أو يسقط قيمته أو يزري به. قالت لي مرة فتاة من معارفنا:(ما قولك؟) قلت: (خير إن شاء الله! نعم يا ستي!) قالت: (هل يشغلك شيء غداً؟) قلت: (إذا كنت تعنين بالشيء العمل فإنه لا ينقطع؛ على أن أمري بيد الله ثم بيدي فأشيري كيف تأمرين، والعوض على الله) قالت: (اسمع. نريد. .)
فقاطعتها: (نريد؟. هكذا؟ بلفظ الجمع؟)
قالت: (لا تقاطع من فضلك. اسمع. . . نعم أختي وبنت عمي وأنا)
قلت: (أهلاً وسهلاً. . تفضلي)
قالت: (الجو في هذه الأيام بديع. . تهيئ لنا زورقاً حسناُ نظيفاً مريحاً، نركبه في النيل ونقضي يومنا كله على متن الماء، ونتغذى فيه أو في إحدى (المقاتات) التي نمر بها في طريقنا)
قلت: (اقتراح جميل، ولكن. . أنا وحدي أكون معكن؟ وفي خدمتكن؟ ارحمن تينمي يا فتيات!)
فقالت: (تستطيع أن تدعو فلاناً وفلاناً)
فدعوتهما وأعددنا الطعام ومررنا بهن فحملناهن إلى قصر النيل حيث كان الزورق ينتظر، ولم ألق إليهن نظرة حتى نزلن من السيارة وشرعن ينحدرن إلى مكان الزورق؛ فدهشت، فقد كانت ثيابهن زاهية نظيفة مكوية، بل كانت أفخر وأبرع ما رايتهن فيه، فتناولت ذقني بيدي وقلت:(هيه. . . نهارك أسود يا أبا خليل) ولم أكد أهز رأسي هزتين حتى نادتني إحداهن فنظرت إليها مستفسراً فقالت: (خذ بيدي فإني أخشى أن أزل وأقع على التراب أو تغوص قدمي فيه) فسألتها وأنا أتناول يدها:
(أين تحسبين نفسك؟ في سباق الخيل؟ ما هذه الثياب التي لبستها؟)
قالت وهي تحني رأسها لتنظر إلى قدميها: (مالها؟ ألا تعجبك؟)
قلت: (تعجبني وتعجبني. . ولكنها لن تعجبك بعد نصف ساعة في الزورق)
ولا أطيل. ركبن، ووثبنا نحن وراءهن فأشرنا إليهن أن يجلسن فنظرن إلى المقاعد - ولم يكن بها سوء والله - متأففات مترددات فنفضنا لهن التراب الموهوم عن الحشايا المطروحة على المقاعد. وصحيح أنها ليست وثيرة جداً، ولا جميلة المنظر، ولكنها نظيفة. غير إن فتياتنا تبادلن نظرات تنبئ بالامتعاض ولا تنبئ بالرضى، ثم انتهين بأن جلسن متلاصقات جداً محاذرات أشد الحذر؛ وكان لابد أن أغضى عن ذلك فليس ذنبي إنهن جئن في ثياب لا تصلح إلا على الأرض اليابسة، وناولت أحد إخواني مجدافا وأخذت أنا الآخر، وتركنا الدفة لثالثنا، وقام الملاح فدفع الزورق عن الشاطئ بالمردى، ثم بدأنا نجدف، وكنت أضرب الماء برفق شديد حتى لا يطير منه شيء، ولكن رشاشاً منه كان يصيبهن على الرغم من ذلك فيصرخن ويتلاغطن ثم يتدانين ويعبسن ويمسكن عن الكلام ولا تبقى لهن عين يدرنها في المناظر التي جئن لينعمن بالنظر إليها
وأخيراً قال الذي بيده الدفة: (خذ أنت الدفة واعطني المجداف)
فلم أتردد في القبول فما كان يسرني أن أكون سبب التنغيص. واتخذ صاحبي مقعده وراح يضرب الماء بعنف فيتعالى الصراخ فلا يعني بأن يلتفت إليهن ولا يزيد على أن يقول وهو يضحك: (لا بأس! سينشف الماء ثم يفرك الوحل فلا يبقى شيء. . .) وقد حرن ماذا يصنعن لاتقاء هذا المطر، وكنت ربما ضحكت إذ أراهن يخرجن مناديل في سعة الكف وينشرنها على حجورهن كأنما من الممكن أن تستر شيئاً.
وأخيراً بلغنا مكاناً دنونا من شاطئه، وقال الملاح: إن الأحسن أن يجر الزورق بالحبل. وقام فاخرج حبلا طويلا شده إلى الزورق ووثب إلى الشاطئ وراح يجر، وقعد أحدنا عند الدفة ليضبط الزورق فلا يجنح أو يلصق بالأرض. فعاد إلى الفتيات البشر وانطلقت ألسنتهن وان كن لم ينسين موجدتهن علينا لما أصابهن من البلل. ثم تهامسن ونهضن وجعلن يصحن بالملاح وهو بعيد لا يسمع ونحن نسألهن ماذا يبغين وهن لا يباليننا أو يجبننا. وسمع الملاح فوقف وارتد إلينا، وإذا بهن يردن أن يتولين هن جر الحبل أو (اللبان) كما يسميه النواتيه. فنصحنا لهن آلا يفعلن وحذرناهن وأنذرنهن فأبين إلا أن
يفعلن، وفي ظنهن أن هذا أسلم لثيابهن، وأشرح لصدورهن وأجلى للصدأ وأجلب للصحة أيضاً، فتركناهن يفعلن وأدنينا لهن الزورق من الشاطئ وحملناهن واحدة واحدة إلى الأرض. فذهبن يجرين إلى أول الحبل حيث تركه الملاح ودفعنا نحن السفينة إلى الماء مرة أخرى وكنا نراهن فإذا باثنتين منهن يتناولان الحبل معاً وكانت الثالثة تدور حولهما ولا تصنع شيئاً فمرة تكون أمامهما وتارة تكون خلفهما وهكذا، فانتهى الأمر بأن التف الحبل على سيقانهن جميعاً فصرخن ووقفن يحاولن تخليص أرجلهن مما أحاط بها فخلصت أرجلهن ولكن الحبل صار على صدورهن وأعناقهن، والزورق يضطرب بنا ونحن نحاول أن نضبطه بالمجداف. واستطعن أخيراً وبعد لأي وصراخ فظيع أن يتجنبن شنق أنفسهن، فتهامسنا بأن أولى بنا أن نسكت وندعي الجهل بما حدث وأن ننظر ماذا يصنعن بعد ذلك. ويظهر أنهن خجلن أن يقلن شيئاً فعدن إلى الحبل واستأنفن جره فحمدنا الله ولكنهن كن يمشين شيئاً، ثم يقفن فجأة وعلى غير انتظار منا، فيضطرب بنا الزورق فناديناهن، فلما تنبهن إلى أننا نريد أن نكلمهن وقفن وأقبلت علينا واحدة منهن وقفت بعيداً وأشارت إلينا تسألنا عما نريد، فصحت بأعلى صوتي:(لا تقفن) فقالت ويدها على أذنها: (إيه؟) فقلت لصاحبي: (صوتكما أقوى فكلماها وأفهماها أن الوقوف يضايقنا ويتعبنا، ففعلا. فلما عرفت ما نريد بدأت تسألنا هل نحن مسرورون، وهل هن يحسن جر الحبل؟ فأثنينا على براعتهن، وامتدحنا حذقهن، وأكدنا لهن أن الدولة حين تحتاج إلى ربابنة ونواتية للسطول فانهن سيكن خير المرشحات أو خير أساتذة المدرسة البحرية. وكنا نرجو أن تعود إلى زميلتها فيستأنفن جر (اللبان) ولكنها تذكرت أن بها حاجة إلى منديل مما في حقيبتها فأخرجناه لها وحملناه إليها فذهبت به وإذا بثانية تعود وتصيح بنا أنها هي أيضاً تحتاج إلى منديل فناولناها إياه، وبد لها أن الثالثة قد تطلب منديلها فيحسن أن تأخذه له على سبيل الاحتياط، فأجبناها إلى ماطلبت، فذهبت ثم عادت وقالت إن الثالثة لا تريد المنديل فهي ترده لنضعه حيث كان فاطعنا ومضت، وبعد دقائق أخرى عادت الثالثة تقول: إنها رأت أن الأحسن على كل حال أن تأخذ المنديل، فدعونا الله أن يعيننا على الصبر وأعطيناها المنديل فذهبت وأوعزنا إلى الملاح أن يلحق بها وأن يتولى هو الحبل ولا يدع للفتيات إلا المظهر
ولما جاء وقت الطعام تخيرنا لرقعة من الأرض خضراء ظليلة وتأهبنا للجلوس فنظرت الفتيات إلى الأرض مشفقات من البلل كأنما بقي ما يخشين على ثيابهن التي خططها الحبل بالوحل خضراء ظليلة فنشرنا لهن مناديلنا فان مناديلهن لا تصلح لشيء إلا للزينة. فجلسن عليها كالرماح استقامة، وكنا نشعر أنهن غير مرتاحات وأن الجلسة متعبة لهن، وأن خوفهن البلل ينغص عليهن ولكن ماذا كان يسعنا أن نصنع؟ ولو كان يسعنا أن ننقل لهن بعض أثاث البيت من سجاجيد وحشايا ومتكآت وما إلى ذلك لفعلنا. ولكنا لم نكن نعلم أنهن سيرتدين هذه الثياب التي تصلح للعرض ولا تصلح لرحلة على النيل.
وانحدرت الشمس قبل أن نعود إلى قصر النيل فكدن يبكين لأنهن تأخرن وكن على موعد مع الخياطة، فعجبنا لا تعادهن معها في يوم يخرجن فيه لمثل هذه الرحلة التي طلبنها وأردن أن تستغرق النهار كله. . . ولكن المرأة هكذا أبداً. . . تكون لها عين في الجنة وعين في النار. ولست ألومها أو أعيبها فأنها طبيعتها التي لا حيلة لها فيها، ولكني أرجو ألا ألام - وأن أعذر - إذا كنت أشعر بالحيرة والعجز في كثير من الأحيان عن الفهم الصحيح والتقدير المرضي المريح؛ واحسب أن الرجال جميعا مثلي جهلة مساكين. ولا شك أن المرأة يحيرها كذلك مالا تفهم من طباع الرجل وسلوكه، فالعجب بعد ذلك أن الجنسين يستطيعان أن يقنعا أنفسهما بأنهما متفاهمان، وأن كل شيء بينهما على ما يرام
إبراهيم عبد القادر المازني
2 - مصر في أواخر القرن الثامن عشر
كما يصفها الرحالة سافاري
للأستاذ محمد عبد الله عنان
أشرف سافاري على القاهرة بعد رحلة ممتعة في النيل، فلم ترقه العاصمة ولم تبهره مناظرها كما بهرته مناظر السكندرية؛ ذلك أن القاهرة التي كانت خلال العصور الوسطى أعظم مدن الإسلام، انتهت في أواخر القرن الثاني عشر إلى مدينة متواضعة تحيط بها التلال والخرائب ويصف لنا سافاري خطط العاصمة المصرية يومئذ، وضيق شوارعها وأزقتها؛ ولكن القاهرة كانت مع ذلك تلفت النظر بمساجدها الثلاثمائة وقلعتها التاريخية المنيفة، ويقدم إلينا سافاري عن القلعة وعن أبنيتها وسكانها صورة شائقة، فيقول لنا إنها فقدت مناعتها القديمة منذ اخترع الديناميت، وان لها مدخلين تحرسهما ثلة من الانكشارية وستة مدافع مصوبة نحو مسكن (الباشا) ذلك أن الانكشارية يمالئون البيكوات المصريين، والبيكوات هم الذين يملون إرادتهم على الباشا، وفي داخل القلعة قصر سلاطين مصر السالفين، قد غلب عليه العفاء والخراب، ولكن بقيت منه عدة أعمدة فخمة وجدران زاهية؛ وفي أحد أبهائه المهجورة تصنع الكسوة النبوية التي يحملها أمير الحج كل عام. ويسكن الباشا بناء كبيراً يطل على (قره ميدان)، ويعقد الباشا الديوان ثلاث مرات في الأسبوع في غرفة الديوان الشاسعة، وقد خضبتها دماء البكوات المصريين الذين فتك بهم الباب العالي قبل ذلك بأعوام قلائل. أما اليوم فهم سادة مصر، وليس لمثل السلطان أية سلطة فعلية، وإنما هو أداة في أيديهم يحركونه طبق أهوائهم، بل هو سجين في القلعة لا يستطيع أن يغادرها دون إذنهم. أما الانكشارية فيسكنون في قصر صلاح الدين وقد بقيت منه أطلال تدل على عظمته السابقة، وأربعون عموداً من الجرانيت الأحمر؛ وإلى جانبه توجد منظرة عالية تشرف على القاهرة، يرى منها منظر المدينة الرائع بميادينها ومآذنها وحدائقها وهنا لا يتمالك سافاري نفسه من أن يصيح:(أن المطل من هذه المنظرة لتأخذه نشوة من التأملات اللذيذة) ولكن يغشاه في الحال كآبة، فيقول لنفسه: (أن هذه البلاد الفنية التي كانت عصوراً ملاذ العلوم والآداب والفنون يحتلها اليوم شعب جاهل بربري يسومها سوء الخسف؛ أجل إن الطغيان ليسحق بنيره الحديدي أجمل بلاد العالم؛ والظاهر أن شقاء
الإنسان يزداد بنسبة ما تقدمه الطبيعة لإسعاده. . .)
هكذا يقدم لنا سافاري ذلك المنظر المحزن منظر مصر الإسلامية وقد أودى الحكم التركي الغاشم بكل عظمتها وبهائها السابقين.
ويصف لنا سافاري ثغر بولاق الذي كان مدخل القاهرة يومئذ، ومرساه الضخم الذي يغص بمئات السفن، وما به من الخانات التي خصصت لسكنى التجار الأجانب وتخزين بضائعهم. وفي مياه بولاق أيضاً كانت ترسو سفن النزهة البديعة التي يتخذها البيكوات وغيرهم من الأكابر للنزهة والسمر في النيل أيام الصيف الحارة ولا سيما في الليالي المقمرة. ثم يصف الرحالة بعد ذلك جزيرة الروضة والمقياس، ويستعرض تاريخ مقاييس النيل وقصة وفائه؛ وهنالك في الروضة على مقربة من المقياس كانت طائفة من القصور الفخمة التي خصصها البيكوات للتنزه فيها مع حريمهم وهي منعزلة تحيط بها الرياض الفيحاء، ولا يسمح لإنسان بالاقتراب منها ولا سيما حينما يوجد بها حريم الأمراء.
أما الحياة الاجتماعية المصرية فيخصها سافاري بكثير من عنايته، ويفرد لها عدة رسائل شائقة؛ وهو يصف المصري بالكسل، ويقول لنا إن الجو يؤثر في عزيمته، ومن ثم فانه يميل إلى الحياة الهادئة الناعمة، ويقضي يومه في عمله وفي منزله، ولا يعرف المصري صخب الحياة الأوربية وضجيجها، وليست له أذواق أو رغبات مضطرمة. ونظام العائلة المصرية عريق في المحافظة، فرب البيت هو السيد المطلق؛ ويربي الأولاد في الحريم ويدينون للوالد بمنتهى الخضوع والطاعة والاحترام، ويعيش أفراد الأسرة جميعاً في منزل واحد، ويتمتع الوالد بكل مظاهر التكريم والإجلال ولا سيما في شيخوخته. ويجتمع أفراد الأسرة حول مائدة الطعام جلوساً على البسط؛ وبعد الغذاء يأوي المصريون إلى الحريم حيناً بين نسائهم وأولادهم؛ وفي المساء يتريضون في النيل في قوارب النزهة، ويتناولون العشاء بعد الغروب بنحو ساعة. وهكذا تجري الحياة على وتيرة واحدة. ويشغف المصري بالتدخين ويستورد الدخان من سورية ويخلط بالعنبر. وللتدخين أبهاء خاصة منخفضة يجتمع فيها السيد مع مدعويه؛ وبعد انتهاء الجلسة يأتي الخادم بقمقم تحترق به العطور، فيعطر للمدعوين لحاهم، ثم يصب ماء الورد على رؤوسهم وأيديهم.
والمرأة المصرية ماذا كانت أحوالها في ذلك العصر؟ يقول لنا سافاري إنها كانت كالرقيق
لا تلعب أي دور في الحياة العامة؛ وإذا كانت المرأة الأوربية تسيطر على العروش، وتقود الآداب والعادات، فان دولة المرأة في مصر لا تتعدى (الحريم) ولا علاقة لها بالشئون العامة. وأعظم أمانيها أن تنجب الأولاد، واهم واجباتها أن تعني بتربيتهم. والحريم هو مهد الطفولة ومدرستها، وفيه يربى الأولاد حتى السابعة أو الثامنة. كذلك يعني النساء بالشئون المنزلية، ولا يشاركن الرجال في الظهور، ولا يتناولن الطعام معهم إلا في فرص خاصة، ويقضين أوقات الفراغ بين الجواري والغناء والسمر؛ ويسمح لهن بالخروج إلى الحمام مرة أو مرتين في الأسبوع. وهنا يصف لنا سافاري حمامات القاهرة، ومناظر الاستحمام والزينة، وكيف يشغف النساء بالذهاب إلى الحمام مع جواريهن، وهنالك يقضين أوقاتاً سعيدة بين مجالي التزين واللهو، ويستمعن في الأبهاء الوثيرة إلى الغناء وقصص الحب
وتستقبل المرأة زوارها من النساء بأدب وترحاب، ويحمل الجواري القهوة، ويدور الحديث والسمر، وتقدم أثناء ذلك الفاكهة اللذيذة، وعند الانتهاء من تناولها تحمل الجواري قمقم ماء الورد فيغسل المدعوات أيديهن، ثم يحرق العنبر وترقص الجواري. وفي أثناء هذه الزيارات النسوية لا يسمح للزوج أن يقترب من الحريم، إذ هو مكان الضيافة الخاصة، وهذا حق تحرص المصريات عليه كل الحرص. وقد ينتفعن به أحياناً لتحقيق أمنية غرامية، إذ يستطيع العاشق أن ينفذ إلى الحريم متنكراً في زي امرأة، فإذا لم يكتشف أمره فاز ببغيته، وإذا اكتشف أمره كان جزاءه الموت. والمرأة المصرية مفرطة في الحب والجوى، مفرطة في البغض والانتقام، وكثيراً ما تنتهي الروايات الغرامية بفواجع مروعة
وتوجد طبقة خاصة من نساء الفن هي طبقة القيان (العوالم)، وهؤلاء العوالم يمتزن بالذلاقة ومعرفة الشعر والمقطوعات الغنائية، ولا تخلو منهن حفلة، وتقام لهن منصة يغنين من فوقها، ثم ينزلن إلى البهو ويرقصن في رشاقة ساحرة، وأحياناً يبدين في صور مثيرة من التهتك، ويدعون دائماً في كل حريم، وهنالك يروين القصص الغرامية ويخلبن الألباب بذلاقتهن ورشاقتهن وفصاحتهن.
وهكذا يحدثنا سافاري بإفاضة عن الحياة الاجتماعية المصرية في أواخر القرن الثامن عشر، ولأحاديثه في هذا الموطن قيمة خاصة؛ فهي أحاديث باحث مطلع درس وشهد بنفسه، وملاحظات عقلية مستنيرة، تمتاز باتزانها ودقتها فيما نلاحظ وفيما تصف وتعرض
وأخيراً يصف لنا سافاري آثار هليوبوليس والجيزة؛ ويقدم لنا عن الأهرام وأبي الهول صوراً شعرية ساحرة، ويستعرض مختلف الروايات عن أصلها وبنائها منذ هيرودوت إلى عصره. ويصف لنا منفيس وأطلالها، ويحدثنا عن الجيزة وخططها وتاريخها وعن الفسطاط ومعالمها وكنائسها وآثارها، كل ذلك بإفاضة ممتعة تتخللها مقارنات وملاحظات تاريخية قيمة؛ ثم يحدثنا بعد ذلك عن رحلته في دمياط وضواحيها، وكيف تتبع في رحلته سير حملة القديس لويس الصليبية منذ نزولها في دمياط وسيرها بعد ذلك حتى مدينة المنصورة. ويقدم إلينا خلاصة تاريخية لهذه الحملة الشهيرة مشتقة من المصادر الإسلامية ومذكرات دي جوانفيل مؤرخ الحملة وأحد شهودها
وإلى هنا تنتهي رسائل سافاري عن الوجه البحري ومدينة القاهرة والحياة الاجتماعية المصرية، وهذه الرسائل تشغل الجزء الأول من مؤلفه عن مصر، وهي أهم وأقوم ما في المجموعة. أما بقية الرسائل، وهي تشغل الجزأين الثاني والثالث، فيخصصها سافاري لوصف رحلته في الوجه القبلي، ووصف مدنه وآثاره وواحاته، ثم وصف الجو والإقليم والزراعة والتجارة، وديانة المصريين القدماء وآلهتهم، والنيل وخواصه الأزلية؛ وهذه الرسائل تحتوي كثيراً من البحوث والملاحظات القيمة، بيد أنها لا تقدم إلينا جديداً يعتد به، ولذا اكتفينا بالإشارة إليها
هذه خلاصة شاملة لرسائل العلامة المستشرق سافاري عن مصر في أواخر الثامن عشر، وهي رسائل لا شك في قيمتها وأهميتها؛ وإذا استثنينا مذكرات الجبرتي، فإن رسائل سافاري تعتبر أنفس وثيقة من نوعها عن أحوال مصر في هذه الفترة المظلمة من تاريخها؛ وتبدو قيمة هذه الرسائل بنوع خاص فيما تقدمه إلينا من صور الحياة الاجتماعية المصرية بإفاضة لا نجدها في مصادر أخرى؛ فهي من هذه الناحية وثيقة ذات أهمية خاصة. وقد كانت بحوث سافاري بلا ريب مصدراً من أقوم المصادر التي انتفع بها علماء الحملة الفرنسية فيما بعد حينما وضعوا موسوعتهم الشهيرة في (وصف مصر) بعد ذلك بنحو ربع قرن
تم البحث
(فينا في أوائل سبتمبر)
محمد عبد الله عنان
على تمثال فوزي المعلوف
كلمة الأستاذ فليكس فارس
في حفلة إزاحة الستار عن تمثال الشاعر فوزي المعلوف في
12 -
سبتمبر في مدينة زحلة - لبنان
عندما أزيح الستار عن هذا النصب كأنه إنسان عين لبنان، وحبة القلب في بلاد العرب، رأيت الذرى المحدقة بهذا الوادي تميد من جهاتها الأربع وقد أطلت من ورائها طغمات أصنام تتراشق نظرات الاستغراب وتتبادل هتفات الاستنكار
إنني أعاينها بالجرح الوسيع فتحته في القلب أدواء البلاد ونكبات الأمة، واسمع صخبها وضجيجها بالإذن التي لم تزل تدوي فيها زفرات البائسين وصيحات المشردين والشهداء
أولئك هم أصنام الشعب المستضعف الفلول، استفزهم ما راود أمجادهم من حذر، وخامر أحلامهم من وساوس، فتراكضوا من مقاعد الزعامات والمناصب المنتزعة بدهاء الجهل ودسيسة المعجزة، ومن أبواب الهياكل والمعابد وجوانب القوى المسيطرة على العناصر الحائرة المتعثرة، هرعوا يتصايحون:
نحن أرباب هذه الأرجاء وأسياد شعبها. . نحن الأحياء يعبدنا الأحياء، فمن ترى هذا الصنم الجامد لا يملك سمعاً ولا بصراً يرفع على مثل أنصابنا فيحني الناس الرؤوس أمامه خاشعين؟
من هذا الدخيل الجامد الصامت تقحمه الهيكل قوة مجهولة وتفرض به على النفوس عبادة لا توجه إلينا، محرقة عند قدميه بخوراً لا يتعالى نحو تيجاننا؟ وصاح أحد صغار الأصنام بأسياده الجسام: أفما عرفتموه؟ إنه ذلك الفتى الضعيف الناحل الذي كان يحدجنا بلفتات الاحتقار ويقرع أسماعنا بأناشيد زهوه واغتراره. إنه هو الذي أنكر ألوهيتنا المتعددة السائدة على عشرات العناصر المتقاطعة، فادعى أن للوطنية إلهاً واحداً وأن قطعاننا قطيع واحد لراع واحد هو حق الحياة
أفليس هذا الصنم الجامد، ذلك الفتى الذي رأى في عزتنا مذلة لقومه، وفي عظمتنا صغارا لبلاده، فتوارى وفي دمعته نار وفي أنينه إرعاد
فقالت طغمة الأصنام: ومن يجرؤ على رفع هذا الإنسان المتحجر إلى مصاف الأرباب فيقتعد المنصة العالية فوق مستوى الرعية؟
أوصل هذا الإنسان إلى نفوذ سر السيادة فرقص على الحبلين، وتعارج على الساقين، موهما الشرق انه ذو الحول والطول وراء ستائر الغرب، ثم عاد موهما الغرب أنه يقود من بلاده قطعاناً له تخديرها إذا شاء واستنفارها إذا شاء؟
ألهذا الرجل منبسطات السهول ومرتفعات الأنجاد ليستغلها بالسياط تلهب ظهور العاملين فيستقطر من جلودهم نضارة ويقيم على عبوديتهم زعامته. .؟
أعرف أن يستغل نزعات طائفة أو مطامح عنصر أو تعصب فئة فاستنبت زعامته من الضغائن وأنماها من الأحقاد؟
أورث مالاً من جدوده فابتاع من متسولات الضمائر مقاماً يسمع الناس منه روائعه وبدائعه؟
أجهل لغة قومه أم تجاهلها، وأعرض عن تقاليد أجداده أم استنكرها، محاولا اقتباس مظاهر تتمرد سريرته عليها؟ هل أقام المآدب وأحيا المراقص فخاصر واستخصر ليثبت أنه آهل للمدنية وقيادة الشعوب إلى النور أم هو توسل على الأقل بالمتابعة متخذاً منا موقع الذنب؟
بأية فضيلة من فضائلنا تحلى هذا الابن ليرفعه من حوله إلى مقام الأرباب؟
ووجمت الأوثان التي عبدت حتى الأمس القريب متسائلة عما إذا كان العهد الجديد المشرقة أنوار ضحاه ولو بعد حين سيرفع لأمثال هذا المتمرد من الأموات أنصاباً وسينادي بأمثاله من الأحياء أرباباً. إن أنوار الحق تتفجر على كل قطر عربي؛ ففي لبنان كما في مصر والعراق وسوريا وبلدان الجزيرة كلها أبطال يقوضون مقاعد الأصنام في السياسة كما قوضها من قبل في الدين رسل الله وأنبياؤه. وها هي ذي أوثان الأمس تتلمس رؤوسها بسواعدها المرتجفة متراجعة بخطوات من فقد ثقته بنفسه
اغربي أيتها الأوثان أيا كنت ومن أية جهة طلعت رسومك على الآفاق، فما النصب الذي يحييه أحرار الأمة الآن بالصنم الذي يزاحمك في هيكل الوثنية، وقد آن لها أن تضمحل. ما نصبنا إلا تمثال عزتنا الجريحة وقوميتنا المضللة؛ إن هو إلا الرمز الكامل لآلامنا وجهادنا في المرحلة التي قدر علينا أن نجتازها، ليرد الاختبار سوانا إلى محجة الصواب ولنعرف نحن أن نميز بين طريق سلامتنا ومهاوي انقراضنا.
ليس المقام مقام تأبين وتفجع على من يمثل هذا التمثال فإن صفحات تاريخ الأدب مليئة بكلمات أمراء البيان عمن خشع الغرب لبيانه الشرقي وما حلق فوقه من متقدميه ولا من معاصريه بيان. ولئن كان مأتم فوزي من أروع الأيام وأفجعها على الشرق العربي بأسره فإن يوم فوزي إنما هو اليوم الذي يرتفع فيه تمثال صفحة خالدة طبعت عليها مساوئ فترة الانتقال وفجائع طور التجاريب.
أي أخي فوزي! يا شاعر الأمة المشردة. إنني وأنا أنظر إلى ابتسامتك المرة وإشراق جبينك المتجهم اسمع صوتاً يقرع الفضاء من أصداء هذا الوادي مردداً قولك:
أنا الغريب فلا أهل ولا وطن
…
إذا انتسبت أمام الناس وانتسبوا
ومن يكون غريباً في موطنه
…
لا بدع إن أنكرته الأرض والشهب
ويليه، صوت آخر يتردد على ذلك الشاطئ الحزين صداه
قسما بأهلي لم أفارق عن رضى
…
أهلي وهم ذخري وركن عمادي
لكن أنفت بأن أعيش بموطني
…
عبداً وكنت به من الأسياد
أسمع هذا الإنشاد فيخيل إلي أن صيحات جيل كامل في أمة مروعة فقدت قوميتها فخسرت أوطانها
إن لخطرات الحظ تأثيرها على الأمم كما لها تأثيرها على الفرد؛ وليس للفرد كما ليس للمجموع أن يظفر من سلسلة الوقائع إلى مستقر يستحدثه فجأة لنفسه؛ غير أن هنالك قوة سمها الإرادة الجزئية إن شئت تتمرد على الانقياد لما يضير، فإذا هي تنبهت صمدت بوجه التيار بالمقاومة السلبية حتى يعبر الكاسح فتتمكن من استئناف سيرها نحو وجهتها، وإن هي استسلمت وجبنت فقدت الشعور بذاتها ومشت متطايرة مع العاصف ينثرها هباء على مراكضه. . إن هذه الأمة التي كونت شخصيتها من مبادئ واحدة في الأصل ومن ثقافة انطوت سريرتها عليها منذ أجيال، ومن بيان وعي علوم المتقدمين، وما قصر عن استيعاب علوم المتأخرين لا يستقيم لها أمر ولا يستعاد لها مجد ما لم تتوصل إلى إحياء حضارة تتوافق وما كمن فيها من فطرة وحوافز
لقد مرت بهذه الأمة أدوار من التاريخ قضت على استقلالها وحضارتها فذهبت قطعاناً مبددة تتراكض وراء كل ناعق يجزها ويحز رقابها، ولو أن العناية لم تستبق لنا في كل حقبة
أنموذجا لكياننا ورسماً لما كنا ولما يجب أن يكون لما بقي لنا من صفاتنا الأصلية شيء نستدل به على حقيقتنا
إن سريرة الأمم المبتلاة بالانحطاط المرهقة بالمظالم تنكمش منسحبة من كتل الشعب لتتجلى من حين إلى حين لمعات أنوار في بيان عباقرته المتمردين. وإذا نحن استعرضنا فيلق المجاهدين من أول منبه للفاضلين تحت الأطلال إلى هذا المنتصب بيننا الآن كأروع رمز لشخصية الأمة الكامنة وراء تشردها وتقاطعها، لما رأينا واحداً من هؤلاء المجاهدين ينزع مثل هذه المنازع الضليلة التي يتوغل فيها المشككون الحائرون في هذه الأيام
إذا شئنا أن نتبين حقيقة موقفنا من أنفسنا ومن سوانا، وإذا صعب على البعض منا أن يتميز طريقه إلى قوميته ووطنيته فليتنصت إلى ما تصدوا به أجواء البلدان العربية كلها من أقوال المصلحين الذين عاشوا بآمال أمتهم وماتوا بعللها وأدوائها
أولئك المضطهدون هم أولى بإنارة سرائرنا ممن كانت حياتهم لهم لا للناس، فما شعروا بذل الأمة لأنهم استغلوه، وما أحسوا بأنهم غرباء في أوطانهم لأنهم أنكروا كيانها ومالئوا على حقها
ما يثير النعرات الدينية والإقليمية في هذه البلاد إلا الأنانيون الذين يرون في تبدد الأقوام تجارة رابحة لسعايتهم، أما الأرواح الجبارة التي أشبعت من مبادئ الشرق العليا حرية واستقلالاً ومجداً فأنها تمر بأجنحتها محلقة فوق كل عنصر ثقافته من وحي الشرق، وإلهامه وبيانه من لغة كفلت حياتها قوة لا تطاولها قوة. . .
لقد كان زمن أمكن فيه للأمة أن تبعث جسماً واحداً حين مزقت كفنها وشقت لحدها، ولكنها انتثرت بين أنامل الجامعين وقد عبثت بالرمة أهواء الحياة بعد أن جمعتها روعة الموت، فإذا بالميت الواحد هياكل عظام عديدة تهب من مرقدها منفرطة يتسلق كل منها ذروة لاستقبال أنوار الضحى وأوائل شعاع الشمس
تلك سانحة من الدهر ولت ولن تعود ما لم نستعدها بعشرات الأعوام جهود من يذكرون أن جميع هذه الهياكل القزمة، وقد بدأت تدب فيها الحياة، إنما هي هيكل جبار واحد جرعه سيف واحد وتسجى طوال الأجيال جثة واحدة في قبر واحد
لا يضع للأمة دستورها الحقيقي إلا من مثلوا سريرتها وثقافتها شاملة لروح المذاهب
والعناصر كلها؛ وما أدري أن بين عباقرة الشرق العربي أحياء وأمواتا من سجن روحه بين جدران طائفته وحطم جناحي عبقريته في قفص إقليمه منكراً وطن فكرته الواسع الأرجاء. . .
هنالك تحت ظلال الأرز نصب لم يزل يهتف من أعلى ذرى لبنان بقوله:
أنا مسيحي ولي الفخر بذلك، ولكنني أهوى النبي العربي الكريم، وأحب مجد الإسلام وأخشى زواله. إنني اسكن المسيح شطراً من حشاشتي ومحمداً الشطر الآخر
أنا شرقي ولي الفخر بذلك؛ ومهما أقصتني الأيام عن بلادي أظل شرقي الأخلاق، سوري الأميال، لبناني العواطف
ذلك هو نداء جبران! فبماذا تجيبه يا فوزي؟
أفما أنت شاعر الأمة المشردة؟ أفما تمازجت في روحك كل عظمة من وحي أنبياء الشرق جميعهم، ومن إلهام عباقرته وفروسيته أبطاله في كل زمان ومكان؟. . .
افترضي أن يضرب حولك من لبنان نطاق يوقفك في طريق النهضة وقفة تمثال أودنيس في جبيل وباعال وباخوس بين أعماد بعلبك المحطمة؟. . .
لا وحقك يا فوزي، ما أنت في تقدير أخيك الذي قاد أوائل خطواتك نحو قمة الخلود، وفي تقدير كل نافذ لروحك ومدرك لعظمتك إلا المثل الأعلى للوطنية الحقه التي عشت من أجلها شريداً ومت من اجلها شهيداً. . .
اليوم لا ترى حولك إلا فئة قليل عديدها تطوف ممجدة فيك الشاعر المبدع الكبير، ولكنك سترى غداً أفواجاً من كل عنصر ومن كل قطر عربي تتوارد إليك لتحي فيك بطلاً من طليعة الفيلق الذي حطم سلاسل الأمة بتحطيم أصنامها والقضاء على أرباب شركها وأوهامها
فليكس فارس
محمد بن جعفر الكتاني
بمناسبة مرور عشر سنوات على وفاته
للأستاذ محمد المنتصر الكتاني
تمهيد
في تاريخ الرجال كثير من الخلاف يكاد يعجز الباحث والمؤرخ عندما يريد التوفيق - وتاريخ رجال المغرب ورجال المشرق في هذا سواء - فبينا أنت تقرأ عن خالد مثلا انه ولد في القرن الثاني إذا بك تجد في تاريخ آخر أنه مات في القرن الرابع، ثم هو نفسه تارة يصوره لك بعض المؤرخين في صورة العابد العالم الثقة الصدوق، وحيناً تقرأ عنه عند غير المؤرخ الأول انه لم يكن بالعالم ولا الثقة وإن هو إلا كذاب مضل. وفي كتب التراجم أمثلة لهذا النوع كثيرة.
ويريد جمع من النقاد معرفة السبب فتعييهم المعرفة ويملهم تعداد الأسباب والاحتمالات فيقفون عندها دون جزم بواحد منها
وعندي أن لذلك أسباباً كثيرة أهمها:
(1)
فقدان الثقة في كثير من المترجمين. إذ هؤلاء يكتبون - عمداً - ما توحيه إليهم أغراضهم وإن خالفت ما يعرفون.
(2)
جهل بعضهم بحالة المترجم، فهم إذا سئلوا عنه حملهم الاعتداد الكاذب بالنفس أن يجيبوا بصفات لو قدر وعاش المسؤول عنه وسمعها لنفاها وأنكر أن تكون فيه؛ وقد يضطر هذا المجيب لكتابة ما أجاب به فيزيده تنميقاً وتزويراً في جمل مغرية مشوقة يستر بها تضليله وكذبه.
(3)
الخصومة المذهبية. فترى المؤرخ في هذه الحالة يهتم اهتماماً مريباً بالبحث عن النقائص، حتى أنه ليجهد نفسه إلى حد الإعياء ليخرج له معايب من قصص وحوادث تافهة لا يؤبه لها عادة. وكنا نحسن الظن في هذا الخصم المذهبي لو اعتنى بالمزايا اعتناءه بالنقائص ولكنه لا يعرج له على مزية ولو كانت كوضح الشمس، وبالعكس الحب المذهبي، فبقدر ما يخفى من مزايا الأول ومحاسن يستر هذا الثاني العيوب والمخازي.
(4)
الاستسلام لإحدى عاطفتي الحب والبغض، فذاك صديق المؤرخ أو سلف لصديقه توجب عليه المجاملة والإطراء المتبادل أن يخضع لمقتضيات هذه الصداقة فيحسن القبيح ويقبح الحسن ويعرف المجهول ويجهل المعروف، وبالعكس لو كان المترجم عدواً له أو سلفاً لعدو؛ وقد يكون الحامل على الحب أو البغض غير الصداقة والعداوة
(5)
الخوف من ذي نفوذ أو سلطان، فهو إذا تكلم بالحقيقة عذب وأهين فيتحاشا هذه الإهانة وذاك العذاب - إذ لم يكن من الكلام بد - بالتقية متأولا على أنها مذهب لكثير من طوائف المسلمين إن لم يكن ديناً فتديناً! وقد يستغني عن التأويل. وهذا السبب الخامس لم يكد يخلو منه أحد من مؤرخي المتقدمين والمتأخرين
(6)
الجبن الأدبي أو يسمونه بفقدان الشجاعة الأدبية، فهو إذا تكلم خاف ألا يقبل كلامه أو يتهم فيه بغرض، ومن خصائص هذا الجبان الأديب الخوف من النقد لحد الهلع، وإن تحمس يوماً واقتحم هذه الأوهام وكتب شيئاً لا يجرؤ أن يوقعه باسمه الصريح بل يكتفي بالرمز؛ وهذه العلة هي داء كثير من الثقات في هذا العصر لو تغلبوا عليها لأنتجوا وأفادوا
وأزيدك شيئاً وهو أني لا أرى علاجاً لهؤلاء أنفع من وجوب اعتبار الشروط المطلوبة في رواة الحديث من عدالة وضبط ومعرفة في مؤرخي الرجال، فكما أن المحدث لا تقبل روايته إذا فقد منه أحد الشروط الثلاثة فكذلك المترجم لا يلتفت لكلامه إلا إذا عرفت ثقته وعدالته ومعرفته بالرجل الذي يترجم له معرفة يثبت سندها ومصدرها؛ وبهذا فقط تسلم الأعراض من الأغراض وتحفظ الحقوق فلا يوضع رفيع ولا يرفع وضيع
لهذه الأسباب التي جعلتها كقواعد جامعة لما لم أذكر من العلل ولغيرها سقطت قيمة كثير من كتب التراجم قديماً وحديثً. وتمتاز الحديثة منها (والحمد لله الذي لا يحمد على شر سواه) بالتفنن في أساليب الطعن والغمز واللمز ببراعة لا يفطن لها الكثير من الناس إلا قارئ عنى بها عناية خاصة أو قارئ أتيحت له معرفة دخائل جامعيها ونواياهم. أضف إلى هذا ما فيها من تراجم قوم لم يعرفوا بين عشيرتهم حتى بالطلب قد أغدقوا عليهم من بحور العلم ما غمرهم ومن جبال السنة ما دك كواهلهم دكا، ومن صفات النبل والكرم ما أصبحوا به ملائكة تعوزهم الأجنحة إلا أن معرفة مرافقيهم بهم قصتها، ومن ضروب الإصلاح والإرشاد ما يشرحه العارفون بلغتهم على النقيض من ظواهر اللفظ والمعنى، وهنا يجمل
المذهب القائل بان لكل لفظ ظهراً وبطناً واحداً ومطلعاً.
وبعد فهذه ترجمة إمام كبير عرفه الناس قبلي وترجموه لكن باختصار وعلى غير هذا الأسلوب، تربطني به صلة هي صلة الوالد بالولد، بل صلة الروح بالجسد؛ ولكي يطمئن قارئي ويهدأ روعه أعاهده عهداً أدين بوفائه ألا أكون أحد أولئك المترجمين الستة؛ وسأحمل نفسي على تناسي هذه الصلة الكريمة زمناً؛ وسأعني بالحق المجرد ولو كان علي أو عليه مقتصراً على ذكر حياته - دون تحليل - في شيء من التفصيل وتاركاً كثرة تلك التعاليق الفضفاضة التي اعتادها الناس اليوم والتي إن دلت على شيء فإنما تدل على نفس المؤرخ أكثر مما تدل على نفسية المؤرخ له، ولا يفرغ إليها غالباً إلا من فقد مادة القول في أحوال من يترجمه وما جرياته. وفي اعتقادي أن ذلك مما يشوه الحقائق التاريخية ويغطيها بحجاب كثيف يعسر على الناقد النزيه تمزيقه ويقصي القارئ عن تفهم الأشياء بعقله لا بعقل سواه غير متأثر ببيئة أو مذهب
وقد رتبت حياته على فصول، فأذكر أولاً أسرته ثم نسبه فنشأته فمشايخه فتلاميذه، معرجاً على وصف خلقه وخلقه ومذهبه ومعارفه وثناء الكبار عليه ومدائح الشعراء فيه وتعلق الملوك به، ثم أرجع فأتحدث عن رحلاته ومؤلفاته وشرح العلماء لها أو ترجمتها أو نقدها واختم الترجمة بحادثة وفاته ورثائه ونقله فذكر مترجميه فأوهام بعضهم فمصادر الترجمة
وقد أخالف هذا الترتيب أو أسهب في فصل وأختصر في آخر مضطراً في الإسهاب والاختصار لما بيدي من ثروة المادة أو فقرها
أسرته
تنحدر أسرة الإمام ابن جعفر من سلالة الفاتح بن الفاتح إدريس بن إدريس المطلبي الهاشمي الحجازي ثم تتشعب بطوناً وأفخاذاً حتى تنحصر في ملك زواوة الكتاني يحيى بن عمران
كانت فاس مقر أسلافه في ظلال ملوك دولتهم الأدريسية التي ملكت مائتي سنة وثلاث سنين سوى شهرين تقريباً وكان عملها بالمغرب من السوس الأقصى إلى مدينة وهران وقاعدة ملكهم مدينة فاس ثم البصرة، وكانوا يكابدون مملكتين عظيمتين ومتغلبين كبيرين هما دولة العبيديين بمصر وأفريقيا ودولة بني أمية في الأندلس، وكانوا ينازعون الخلفاء
إلى درك الخلافة العظمى ويقعدهم ضعف سلطانهم وقلة مالهم بالنسبة إلى هاتين الدولتين
وفي سنة 317 تغلب موسى بن أبي العافية السفاح البربري على جميع بلاد المغرب بعد حروب وفتن طالت وأزمنت بينه وبين الأدارسة انتهت أخيراً بانتصاره والانتقام منهم انتقاماً خسيساً فقتل كثيراً وذبح كثيراً ومن أفلت منهم أجلاهم عن بلادهم وأخرجهم من ديارهم مغلوبين على ملكهم مطرودين عن دار عزهم التي بناها أسلافهم وفروا بأجمعهم إلى قلعة حجر النسر فتبعهم السفاح إليها وشدد عليهم الحصار وحاول استئصالهم والقضاء عليهم لولا تقريع رؤساء المغرب وأكابر دولته له إذ قالوا (أتريد أن تقطع دابر أهل البيت من المغرب وتقتلهم أجمعين؟ هذا شيء لا نوافقك عليه ولا نتركك له) فخاف قولهم (ولا نتركك له) واعتبره تهديداً بالثورة عليه فارتحل عنهم لفاس وخلف عليهم قائده أبا الفتح التسولي في ألف فارس يمنعهم من التصرف
وقد ذكر الإمام المقري في كتابه الكنوز أسماء جماعة من الأدارسة الذين فروا من قلعة حجر لهذا الحصار المخنق الذي تركه عليهم بن أبي العافية، وذكر المواضع التي فروا إليها، فكان من بينهم جد أسرة الإمام الملك يحيى بن عمران. ولفظ المقري:(ثم فر إلى زواوة الكتاني أمير المؤمنين يحيى بن عمران بن عبد الجليل بن يحيى بن يحيى بن محمد بن إدريس)
وما أن وطئ يحيى بن عمران هذا التراب زواوة حتى بايعه أهلها ولقبوه بأمير الناس. يؤخذ هذا من كلام بن جزى في مختصر البيان حيث عرف الكتاني يحي وهو يتكلم عنه بملك زواوة أمير الناس. ومن كلام المقري حيث نعته بأمير المؤمنين بل صرح ببيعة قبائل زواوة ليحيى العلامة الشريف الزكي المدغري قال في درته: خرج هذا الجد - يعني يحيى - من فارس مع أبناء عمه واستقر معهم في حجر النسر ثم انتقل إلى جبل زواوة حوز الجزائر فاراً بنفسه وبويع بذلك الجبل وسمي أمير الناس.
ونقل عنهم هذا جماعة من متأخري المؤرخين
ويدل على وجود هذه الإمارة أو هذه الدولة التي لم أعرف من ملوكها غير يحيى بن عمران ما خلفت من معاهد وآثار في القطر الجزائري لا تزال مائلة إلى اليوم مما لا يكون عادة إلا من أثر الملوك والدول. ومن هذه الآثار مسجد سيدي الكتاني بقسطنطينية، قال
عنه مؤرخ الجزائر الأستاذ احمد توفيق المدني: هو من أجمل وأبدع مساجد القطر الجزائري. ومنها مدرسة سيدي الكتاني التي بجانب المسجد قال عنها المؤرخ المدني: ولا تزال إلى يومنا مدرسة علم. وذكر في النبذة أن لها أوقافاً وناظراً ومدافن لبعض أهل العلم
وبما سقت من النقول والأدلة على إمارة الكتاني يحيى يظهر خطأ العلامة القاضي محمد الطالب ابن الحاج إذ يقول عنه في كتابيه الأشراف ونظم الدر: وكان يعرف بأمير الناس مع كونه لم تتقدم له ولاية إذ لم أقف على من ذكره من الأمراء. وإذا علمت أن حجة القاضي بن الحاج في نفي الإمارة عن يحيى إنما هي عدم وقوفه على من ذكره من الأمراء علمت وهن هذه الحجة بوقوف غيره على من ذكره منهم كابن جزى الكلبي والمقري والشريف المدغري - وكلهم أقدم منه - وغيرهم ممن نقل كلامهم؛ على أن قول القاضي: ولعل ذلك - يعني شهرة يحيى بالكتاني - لظهور الخباء من الكتان أيام إمارة بعض أسلافه ما يشعر باضطرابه في نفي هذه الأمارة إذ المعروف عند كافة من أرخ للعائلة - وهم كثير سيأتي ذكر بعضهم - أن يحيى هذا هو أول من استبدل خيام الصوف والشعر بالكتان أيام إمارته هو لا إمارة بعض أسلافه كما يزعم بن الحاج ويؤكده إجماع المؤرخين - وبن الحاج منهم - على أن يحيى بن عمران أول من لقب بالكتاني لهذا السبب
وفي بحر القرن السادس في دولة السلطان المرشد عبد المؤمن ابن علي الموحدي رحمه الله رجع أسلافه من زواوة إلى المغرب الأقصى واستوطنوا مدينة شالة وقيل بل استوطنوا قبيلة بني الحسن، ووفق الإمام في النبذة بين القولين بأن قبيلة بني الحسن كانت إذ ذاك من عمالة شالة فهي في حكم المحل الواحد. وهو توفيق وجيه، وتسمية الممالك باسم قواعدها استعمال شائع بين كل الناس منذ القدم، ويجوز في النبذة أن يكون الراحل الأول من زواوة هو الشريف محمد بن عبد الله بن هادي بن أمير الناس الكتاني يحيى وأن يكون ولده الشريف أبا بكر حفيد حفيد الكتاني الأمير
وفي سنة 656 أو 654 كما ذكر جماعة من المؤرخين، وقال الشريف الفضيلي سنة 666 أو 664 انتقل أسلاف الأمام رحمه الله من شالة إلى مكناسة الزيتون، وأفاد مؤرخ لا أعرفه! إن المنتقل الأول إلى مكناسة هو الشريف موسى بن أبي بكر بن محمد
واشتهر منهم بهذه المدينة علماء أجلة وفقهاء مهرة وعارفون كبار ترجم لبعضهم مؤرخ
البيت المالك النقيب ابن زيدان في تاريخ مكناس
وفي آخر القرن التاسع كما حقق الإمام رجع من مكناس إلى فاس مدينة الآباء والجدود أول قادم منهم وهو الشريف محمد بن قاسم بن عبد الواحد ونزل بحي عقبة بن صوال وبقيت بها منهم فرقة انقرضت في أواخر القرن الثاني عشر وهم أولاد الشريف أحمد بن علي بن أحمد ولم تزل فاس عشهم إلى الآن سوى أفراد اختاروا السكنى بغيرها من مدن المغرب وآخرين طوح بهم الزمن إلى السنكال وصعيد مصر ودمشق
وكان أسلافه في كل هذه المدن التي حلوا بها كقبائل زواوة وتلمسان وضواحيها وشالة ومكناس الذروة والسنام لشهرتهم بينهم بالدين المتين والتقوى والعلم والفقه والشرف المتواتر
قال ابن خلدون في مقدمة العبر على شرف بني ادريس - وآباء الإمام منهم - إنه قد بلغ من الشهرة والوضوح مبلغاً لا يكاد يلحق ولا يطمع أحد في دركه إذ هو نقل الأمة والجيل من الخلف عن الأمة والجيل من السلف
وقال العلامة القاضي محمد الطالب أبن الحاج في نظم الدر واللآل: واشتهر هنالك - زواوة أولاده - الملك الكتاني يحيى - بصراحة الشرف، وظهروا ظهور النار على الشرف. قال ثم انتقلوا من زواوة إلى بني الحسن من عمالة ومنها لمكناسة الزيتون وكان لهم فيها الصيت الشهير بصراحة النسب وعلو المكانة وعظيم الحظوة عند ملوك بني مرين، ومنها انتقلوا إلى فاس ومن لدن انتقلوا إليها وأهلها يعظمون قدرهم، ويعدون في المحافل فخرهم، ويثبتون تواتر شرفهم ويتنافسون في مصاهرتهم، ويتفاخرون بمجاورتهم ومصاحبتهم
(له بقية)
محمد المنتصر الكتاني
في سبيل الإصلاح
بحث في الوظيفة والموظفين
للأستاذ علي الطنطاوي
الوظيفة في اللغة: ما يقدر للرجل في اليوم من طعام أو رزق أو نحوه؛ والوظيفة العهد والشرط؛ والتوظيف تعيين الوظيفة؛ والمواظفة الموافقة والمؤازرة
والوظيفة في العرف عمل يقوم به الرجل للمنفعة العامة، (أي المنفعة المشتركة بين جميع الأفراد الساكنين في المكان القومي) ويأخذ عليه أجره من الخزانة العامة
طبيعة الوظيفة ومنشؤها
البحث في منشأ الوظيفة يقتضي البحث في ظهور الحكومة لأنها مجموع الموظفين، أو بالعبارة الثانية مجموع الأشخاص الذين يقومون بأعمال ضرورية لا تقتصر منفعتها عليهم وحدهم بل تمتد إلى الهيئة الاجتماعية التي يكون لهم عليها حق الطاعة والانقياد
وقد أكثر الباحثون من الكلام في منشأ الحكومة وظهر في ذلك كثير من النظريات أشهرها نظرية (العقد الاجتماعي) التي أثارها الفيلسوف الإنكليزي هوبس (1588 - 1679) واشتهر بها من بعد جان جاك روسو، وكان لها أكبر الأثر في الثورة الفرنسية الكبرى؛ غير أنها سقطت الآن، وأصبحت في رأي العلم أسطورة خرافية، واجمع العلماء على اطراحها، لأن هذا العقد لم يوجد أبداً، وهوبس وروسو وان اختلفا في المبدأ - فرأى الأول أن الإنسان مفطور على الشر، وأن الإنسان ذئب الإنسان واعتقد الثاني العكس - وان اختلفا فيها فهما متفقان على أن الإنسانية اجتازت دوراً طبيعياً مطلقاً من كل القيود، قبل أن تدخل في الحياة الاجتماعية وتنشئ الحكومة، وتلك فرضية باطلة. والحقيقة إن الإنسانية لم تعرف هذه الحياة الطبيعية ابداً، وانما عاشت من البدء حياة اجتماعية ساذجة تتمثل في القبيلة والأسرة والجماعة. وهذا الذي يراه العلماء المحدثون مطابق لما جاء في الكتب السماوية
ولن نفيض في هذا البحث لأنه ليس من غرضنا تحقيق المقال في منشأ الحكومة، ولكن غرضنا عرض مسألة (الوظيفة والموظفين) عرضاً اجتماعياً، وبيان صلتها بالحياة العامة،
لتعالج وينظر فيها في هذا العهد الذي تقف فيه مصر والشام وغيرهما من الأقطار العربية على مفترق الطرق تصفى حساب الماضي تصفية عامة، فتبقى على الصالح وتلقي الفاسد. لذلك ندع الكلام في منشأ الوظيفة، وننظر إليها نظرنا إلى (ضرورة اجتماعية) نشأت من ميل الإنسان الفطري إلى الحياة الاجتماعية. وما ظهر في هذه الحياة من حاجات جديدة ليست حاجة فرد دون فرد، ولكنها حاجة المجموع، استلزم القيام بها انقطاع جماعة من الناس إليها تكفل لهم الناس بالمعيشة وعاهدوهم على الطاعة ليمكنوهم من إنجاز عملهم الذي انقطعوا له، على نحو ما يفعل الذين ينتسبون إلى جمعية أو نادٍ أو شركة، حين ينتخبون جماعة منهم يديرون الشركة أو الجمعية ويجعلون لهم راتباً معيناً ويعطونهم حق اتخاذ القرارات ويتعهدون بطاعتها وتنفيذها؛ غير أن جماعة الموظفين أو الحكام لم تنشأ بعقد كهذا العقد، ولكنها نشأت بالتدريج وبشكل طبيعي. والراجح إنها كانت تستند في أول أمرها إلى القوة والطغيان، وأنها كانت إرادة طرف واحد، هو الطرف القوي (الحكام) اضطر الفريق الثاني (الشعب) إلى قبولها والخضوع لها، لأنه ضعيف ولأنه رأى وجود هذا الحاكم القوي الظالم أخف الضررين وأهون الشرين؛ إذ لولاه لكانت الحالة فوضى وإذن يكون كل قوى حاكماً على كل ضعيف، فيكون بدل الظالم الواحد ألف ظالم
ثم تبدل هؤلاء الحاكمون الأقوياء على مر الأيام حتى استحالوا أخيراً موظفين خاضعين لنوع من الأنظمة والقوانين يختلف رقيها وشدتها باختلاف الممالك والبلدان
أما طبيعة هذه الوظيفة فليس لها شبيه في الحقوق الخاصة
وخير ما يمكن أن يقال فيها أنها تمثيل شخصية الدولة الحقوقية، والتعبير عن إرادتها، وقديماً كان يشبهها فريق من العلماء بالوصاية، ويرون الحكام بمثابة أوصياء على الشعب، ثم اتضح أن الوظيفة لا تشبه الوصاية بشيء، وأنها اقرب إلى الوكالة. فساد الرأي بأن الحكام وكلاء عن الشعب يقومون بأعمالهم بالنيابة عنهم، ويعبرون عن إرادتهم؛ بيد أن هذه الوكالة تحتاج إلى موافقة جميع الأفراد، وهذا غير واقع ولا ممكن. فما هي طبيعة هذه الوظيفة إذن؟
إنها كما قلنا من طبيعة خاصة لا شبيه لها في الحقوق الخاصة. (وغاية ما يستطاع أن يقال في هذا الشأن هو تشبيه الحكام - كما أشار إلى ذلك الأستاذ - بالمتبرعين بالعمل، أي
بأفراد يقومون بإدارة مصالح الدولة من دون أن يعهد إليهم بها من قبل جميع الأفراد الذين تتألف منهم الجماعة، ولكن هذا التبرع يختلف عن مثيله في الحقوق الخاصة بأنه لا يحتاج إلى إجازة المتبرع له)
وكون الوظيفة ضرورية يبرر هذا الوضع الشاذ للسلطة العامة، أو هيئة الحكام أو الموظفين
حقوق الموظفين وواجباتهم
تبين أن تقسيم الهيئة الاجتماعية إلى طبقة الحكام (أعني الموظفين) والمحكومين (أي الشعب)، وتكليف المحكومين بالعمل والكسب لإعالة الحاكمين ضرورة حيوية، ولما كانت القاعدة في الضرورة أنها تقدر بقدرها. وان لها أحكاماً خاصة. وجب أن يمنح هؤلاء الحكام (أي الموظفين) أقل قسط ممكن من الحقوق، لتخف أحمال الشعب، وتقل أتعابه، ويحملوا أكبر مقدار من الوجائب، ليتحقق على أيديهم أكبر قسط ممكن من الخدمة العامة
أما أن يكون على الموظفين وجائب فأمر أساسي اقتضته طبيعة الوظيفة؛ أما أن يكون لهم حقوق، فأمر ناشئ عن تلك الوجائب، يستحيل قيامهم بها دون الحصول على هذه الحقوق.
وأول الوجائب في الوظيفة أن تكون الغاية من إحداثها تحقيق منفعة عامة ضرورية لا يستغني عنها ولا يمكن تحقيقها إلا بإحداث هذه الوظيفة، وبغير هذا الشرط لا تكون الوظيفة مشروعة، بل تكون شكلاً من أشكال الاستبداد كما لو أحدثت لمنفعة شخص أو لإرضائه، أو لتأمين مصلحة خاصة لحزب من الأحزاب، أو جمعية من الجمعيات السياسية
وثانيها أن يختار من الأشخاص أقدرهم على تأمين هذه المنفعة وأن يراعى في اختياره الكفاية الشخصية والمواهب الذاتية، لا الأسرة ولا اللون الحزبي ولا الشفاعات.
ولهم بعد ذلك حق الطاعة على الرعية من غير أن تحتاج عقودهم وأعمالهم ومقرراتهم إلى المصادقة الفردية من جميع المحكومين أو تحتاج إلى حكم قضائي. يؤيد ذلك اعتبار الحكام (الموظفين) منتخبين من قبل الشعب، وحائزين لثقته، وأنهم (لما هم عليه من الصفات والمزايا) اقل خطأ من سائر الأفراد، وأنه لو أعطي الأفراد حق الاعتراض على كل العقود العامة وإقامة الدعاوى دائماً لأدى ذلك إلى الفوضى وعرقلة سير القضايا العامة وضياع المصلحة التي من أجلها أوجدت الحكومة
وبديهي أن حق الطاعة لا يكون للحكام إلا إذا اتبعوا الدستور وساروا على القوانين والعادات المرعية
ومن حق الموظفين الذين انقطعوا عن الكسب لأنفسهم وعن تأمين مصالحهم الخاصة أن تؤمن هذه المصالح من قبل الدولة وأن يمنحوا بعض الامتيازات، ويتمتعوا ببعض الحصانات.
أي أن للموظف قبل كل شيء أن يأخذ راتباً من خزانة الدولة ولكن كيف يقدر هذا الراتب؟ وما هو الأسلوب الصحيح لتعيين مقداره المشروع؟
جاء في البخاري عن عائشة: (أن أبا بكر رضي الله عنه لما استخلف قال: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مئونة أهلي وشغلت بأمر المسلمين فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال)
وكان الذي فرضوا له برديه إذا أخلقهما وضعهما واخذ مثلهما، وظهره (دابته) إذا سافر، ونفقته على اهله، كما كان ينفق قبل أن يستخلف؛ فرضي بذلك
وهذا الأسلوب طبيعي ومقبول، ولكنه شخصي لا يصح اتخاذه قاعدة عامة، لأنه يؤدي إلى الفوضى، ولا يجعل للرواتب أسلوباً معروفاً، ولا أصلاً ثابتاً، ثم إن فيه حيفاً على الموظفين المقتصدين الذين كانوا يعيشون قبل الوظيفة عيشة ضيقة أو النابغين المفلسين الذين لا يجدون قبل الوظيفة ما ينفقون، كما أن فيه منفعة للمسرفين وتشجيعاً لهم على إسرافهم. وقد يرد هذا الاعتراض الأخير بان الموظف لا يعطي إلا ما فيه تأمين حاجاته الضرورية، غير أن في ذلك ظلماً للموظف ظاهراً
فما هي القاعدة المقبولة إذن في هذه الرواتب؟. . .
هي أن يعطي الموظف اقل بقليل مما يستطيع أن يحصله من العمل الحر، أو ما يحصله رجل مكافئ له في المواهب والسجايا والكفاءة من عمل مشابه لعمله؛ وهذا تقدير معقول دائم الاعتبار يختلف باختلاف البلدان والشعوب، وغناها وفقرها، ورقيها وانحطاطها، وكون ما يعطاه الموظف أقل بقليل مما يستطيع تحصيله في العمل الحر، ناشئ عن فكرة الدوام في الوظيفة بالنسبة للعمل الحر والراحة والاطمئنان فيها؛ فالتاجر لا يضمن لنفسه مقداراً من الربح كل شهر، كما تضمن الدولة للموظف راتبه، والتاجر مهدد بالإفلاس
والضياع، وليس على الموظف شيء من ذلك. ثم إن الدولة توفر للموظف من راتبه قسطاً كبيراً يكفيه ويغنيه أيام مرضه وتقاعده عن العمل، والتاجر موكول إلى نفسه
وللرواتب ضابط آخر هو ألا تزيد نسبتها في الميزانية العامة عن الخمس (عشرين في المائة) وهذا طبيعي لأن الغاية من الحكومة ضمان المنفعة العامة، وهؤلاء الموظفون وسيلة إلى هذه الغاية. أفيعقل أن تكون الوسيلة غاية؟ أيعقل أن يأخذ الأعضاء الإداريون في الشركة نصف الأرباح؟ كذلك لا يعقل أن يأخذ الموظفون نصف موازنة الدولة رواتب لهم
وقبل أن ندع الحديث عن وجائب الموظفين وحقوقهم نعرض هذه المسالة: هل الموظفون عمال يقومون بعمل بعينه ثم إذا وفوه كانوا أحراراً في أوقاتهم وأعمالهم، أم هم مقيدون خارج الوظيفة ببعض القيود؟ وبالعبارة الثانية: ما هي علاقة الأخلاق والسلوك بالوظيفة؟ لا أعني التفكير والاتجاه السياسي أو العمل الأدبي، فإنه لا خلاف في أن للموظف أن يفكر كما يشاء أو يعمل أي عمل علمي أو أدبي أراد، ويأتي كل ما يجيزه القانون لغيره من الأعمال العامة ولكن أعنى السلوك الشخصي، واكثر الناس على التفريق بين الأخلاق الاجتماعية، كالصدق والأمانة والأخلاق الشخصية كالعفاف فلا يرون ما يمنع الموظف إذا كان أميناً على أموال الدولة، قائماً بما أسندت إليه من عمل أن يسلك سبيل اللهو، وينتهز اللذات، ويلبي صوت نفسه وجسمه، ولا يرون ذلك قادحاً، ولا يجدون له صلة بالوظيفة
وهذا الرأي باطل كل البطلان، لا سيما في بلاد كبلادنا لا يزال الناس ينظرون فيها إلى الموظف (والموظف الكبير على التخصيص) نظرة إجلال وإكبار، ويتخذونه قدوة ويسلكون مسلكه، وقديماً قيل: الناس على دين ملوكهم، فإذا فسد الموظفون فسدت الأخلاق العامة، ثم إن من الوظائف ماله علاقة ماسة بالأخلاق وما ينبغي في صاحبه الكمال حتى يكون في نظر الناس سالماً من الشوائب منزها عن المعايب كوظائف المعارف (التعليم) والعدلية (القضاء)، جاء في الحديث: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. فما ظنك بمدرس يقوم في النهار واعظاً معلماً، يوفى التبجيل، يكاد يكون رسولا. . . فإذا كان الليل اجتمع هو وتلميذه في الحانة أو الماخور، أو اجتمع معه على الباطل. . . وما ظنك بمفتش يدخل الصف على المدرس، ممثلا القانون والأمة والدين، يراقب ويسجل ويكون لقراره صفة التقديس فلا يرد ولا يكذب، وتكون مقدرات المدرس معلقة به، ما ظنك بهذا المفتش
إذا ذهب في المساء يؤم الحانات أو يطرق أبواب المعلمات. . . أو يأتي المنكرات؟ وقل مثل ذلك في القاضي، بل ربما كان احتياج القاضي إلى الكمال، في كل أحواله، وفي كافة أموره، أشد من احتياج المعلم، لأنه يجلس مجلس الأنبياء، ويقوم مقام رسول الله (ص)، لذلك عنيت القوانين الشرعية، بأخلاق القاضي فلم تكتف بالعلم، وإنما اشترطت فيه بعض الشروط الأخلاقية، فأوجبت فيه أن يكون حكيما فهيما مستقيما أميناً مكيناً متيناً (محلة - مادة: 1792) وقيدته ببعض القيود فألزمته اجتناب الأفعال والحركات التي تزيل المهابة (مادة: 1795) ومنعته من قبول هدية الخصمين أبداً (1796) ومن الذهاب إلى ضيافة كل من الخصمين قطعاً (1797) الخ
فيا حبذا لو عمل بهذه الأحكام، ووضع مثلها للمدرسين ورجال المعارف خاصة، وللموظفين عامة
وقد يعترض معترض بان هذه قيود لا يجوز أن يقيد بها الموظف، بل يجب أن يتمتع بحريته كما يتمتع بها كافة الناس، والجواب أنها قيود حقيقة، ولكنها ضرورية لتأمين الغاية من وجود الموظفين، وهي المنفعة العامة، فإذا كانت هذه القيود شاملة الموظفين، وإذا دخلوا في الوظيفة على معرفة بها، لم تعد قيوداً اضطرارية وإنما تكون بمثابة شرط اختياري، ثم إن في امتيازات الموظفين وحقوقهم التي يمتازون بها من سواد الشعب ما يبرر تقييدهم ببعض القيود اللازمة
تعيين الموظفين
درسنا الوظيفة على أنها ضرورة حيوية، الدافع إليها والغاية منها المنفعة العامة، وأبنا أن الواجب في اختيار الموظفين، ملاحظة قدرتهم على تحقيق هذه الغاية وكفاءتهم للقيام بها، وهذا هو الحق الذي يقضي به العقل والنقل، جاء في الحديث عن ابن عباس: من استعمل رجلا من عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين
وفي الحديث عن يزيد بن أبي سفيان قال: قال لي أبو بكر الصديق حين بعثني إلى الشام: يا يزيد إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة، وذلك أكثر ما أخاف عليك بعدما قال رسول الله (ص): من ولي من أمر المسلمين شيئاً فاستعمل عليهم أحداً محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً حتى يدخله جهنم.
وكان الشأن في المسلمين الأولين أنهم يفرون من الولاية ويخشونها، ولا سيما القضاء فربما عرض عليهم فأبوا، فنالهم أذى فصبروا واحتسبوا ولم يقبلوا. وحديث الأئمة في هذا الباب أبي حنيفة ومالك وغيرهما مشهور معروف، والأحاديث في التنفير من طلب الوظيفة كثيرة جداً حتى عقد لها الحافظ عبد العظيم في (الترغيب والترهيب) باباً مستقلاً. جاء في الحديث الصحيح (الذي رواه الشيخان البخاري ومسلم) عن عبد الرحمن بن سمرة: يا عبد الرحمن لا تسال الإمارة، فانك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها
وروى أبو داود الترمذي عن أنس عن النبي (ص) أنه قال: من ابتغى القضاء وسأل فيه شفعاء وكل إلى نفسه ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده
وروى مسلم وأبو داود عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ فضرب بيده على منكبي، ثم قال: يا أبا ذر: إنك ضعيف وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها
وكان النبي (ص) لا يولي أحداً حرص على الولاية أو سألها. جاء في الحديث (الذي رواه البخاري ومسلم وأبو داود) عن أبي موسى. قال: دخلت على النبي (ص) أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحدهما: يا رسول الله، أمرنا على بعض ما ولاك الله تعالى. وقال الآخر مثل ذلك. فقال: إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله أو أحداً حرص عليه
هذا هو الأصل في تعيين الموظفين، يختار الأصلح للعمل، الأقدر عليه وهو مقيم في بيته، ويحتال عليه بالإقناع وبالتهديد حتى يقبل مكرهاً، فانتهى الأمر عندنا إلى ما يعلمه الناس كلهم، وأصبحت تعرض المائة من الموظفين فلا تكاد تجد اثنين من أهل الكفاءات، وإنما تجد من أدخلته الوظيفة شفاعة شفيع، أو جاه وسيط؛ وخير شفيع اليوم (شفيع النواب) وخير وسيط (الأصفر الرنان) أو غير ذلك مما يعلم ولا يقال، وما في قلب كل قارئ منه غصة، وما يحفظ منه كل قارئ حوادث وأخباراً. . .
الموظفون في بلادنا
وما دمنا في الحديث عن بلادنا. وما دامت غايتنا الإصلاح فلنصور الداء كله. . .
قدمنا الكلام في أن الوظيفة ضرورة تقدر بقدرها وان عدد الموظفين يجب أن يكون معلقاً
بالمنفعة العامة، فلا يقل عن العدد اللازم، كيلا يحمل الموظفون ما لا طاقة لهم بحمله فتتعطل المصلحة، ويقف دولاب العمل، ولا يزيد حتى يرهق الشعب، وأن نسبة الرواتب يجب ألا تتجاوز خمس الموازنة وان ينفق الباقي على المصلحة ذاتها كما ينفق جل أرباح الشركة على المنفعة العامة للأعضاء كلهم، لا على منفعة مجلس إدارتها القائم عليها
على حين أننا نرى في بعض هذه البلدان العربية بلداً يأخذ
موظفوه خمسة أسباع الموازنة (57) وينفق سبعان فقط (27)
على المصلحة ذاتها. . . أليس معنى هذا أن الشعب كله
أصبح خادما لهذه الفئة، بدل أن تكون هي خادمة له؟ وان
غاية الوظيفة حياة الموظفين وسعادتهم لا المنفعة العامة
الضرورية؟
وقدمنا بان حد الراتب أن يكون أقل بقليل مما يحصله الموظف في العمل الحر على حين أن الراتب عندنا يزيد أضعافاً مضاعفة على ما يحصل من العمل الحر. بل لا نسبة بينهما مطلقاً وقد نشأ عن ذلك أن كان عندنا طبقتان طبقة مترفة سعيدة هي طبقة الموظفين، وهي الأقل عدداً، وطبقة مرهقة متألمة شقية هي طبقة جمهور الشعب. وإني لأقول (عن استقراء وبحث) إنه ليس في المائة ممن أعرف من الموظفين اثنان أو ثلاثة يستطيعون إذا أخرجوا من وظائفهم، تحصيل نصف الراتب أو ربعه من العمل الحر، ذلك أن علو الوظائف وكثرة الراتب لم تكن قائمة على الكفاءة، بل مر وقت كانت تقاس فيه كفاءة الموظفين بمقدار اتصالهم بالأجنبي المسيطر وتزلفهم إليه. فنشأ عن هذا أن اتسعت الهوة بين الشعب والحكام (أي الموظفين). وحمل لهم الشعب في نفسه اشد البغضاء، وأمر النقمة، حين رأى المئات من المكلفين لا يقوم ما يدفعونه كلهم من الضرائب ينتزع انتزاعاً من أفواه عيالهم وأعناق بناتهم - لا يقوم براتب موظف واحد كبير. وحين رأوا في القانون خروقاً كثيرة يسقط منها المال على الموظفين الكبار، فيأخذونه بلا ورع ولا حياء من أجور سفر إلى تعويضات إلى غير ذلك مما أضرب عليه مثالا واحداً شاهدته بعيني في إحدى البلدان
العربية: جاء مفتش اللغة الإنكليزية من داره التي لا تبعد عن المدرسة اكثر من خمسمائة متر ماشياً على رجليه، فلبث في المدرسة نحواً من نصف ساعة، ثم ذهب لشأنه فعلمت علم اليقين أنه قدم إلى الوزارة القائمة الآتية (مصروفات تفتيش):
فرش صاغ
40 أجرة سيارة (من أقصى المدينة إلى المدرسة)
10 ثمن أوراق وأقلام للتفتيش
30 ثمن غداء ومصروفات متفرقة
80 المجموع
فاخذ ثمانين قرشاً (وهي اليوم اكثر من مائة فرنك) ولم ينفق منها فلساً واحداً
الوظيفة في بلادنا قد خرجت عن الأصل الذي قررناه في أول هذه المقالة، فلم تعد ضرورة حيوية ولم تعد غايتها المصلحة العامة، بل أصبحت باباً للكسب وطريقاً إلى المعيشة وأصبحت قبلة الناشئين وهدفهم، لا تخلو وظيفة إلا أقدم عليها المئات من الشباب المتعلمين ولو كانت وظيفة عامل بريد أو كاتب ديوان ولو كانوا ليسانسيين ودكاترة، وتوصلوا إلى رضا الرؤساء (وأكثرهم من بقايا العهد البائد) بشتى الوسائل الباطلة والطرق الدنسة الملتوية، ثم إذا فاز منهم من فاز ثابر على إطاعتهم لأن بقاءه معلق بهم ورقيه موقوف على رأيهم؛ وإذا كان هذا الفائز في الوظيفة شريفاً، أو كان على بقية من المبادئ التي تلقاها في المدرسة، واحب أن يعيش في الوظيفة بإخلاص وشرف واستقامة، ذاق الأمرين واصلاه الرؤساء حرباً حامية، حتى يخرج أو يخرج غير مودع ولا مأسوف عليه
ضاع الشرف واضمحلت الأخلاق ومات النبوغ فكم من نابغ موهوب وعبقري نادر دفن نبوغه وعبقريته في وظيفة خاملة. الوظيفة في بلادنا خصيمة النبوغ. هذا الرافعي الذي لم ينشأ في العربية في كل عصورها كاتب أبلغ منه عاش ومات كاتباً في محكمة صغيرة، وهؤلاء الجاهلون في أرفع وظائف المعارف، والظالمون في أعلى درجات القضاء. . .
إن مسألة الوظيفة عقبة من أشد العقبات في طريق هذه الشعوب العربية الناهضة، فيجب أن ينظر إليها ويبحث فيها، ويوليها الكتاب والمفكرون وأولوا الأمر والحكام الوطنيون أكبر العناية، ويحلونها من الاهتمام في أرفع مقام
علي الطنطاوي
من وحي الشجرة الضالة
على طريقة الشعر المنثور
للأستاذ خليل هنداوي
- 1 -
أتدرين لماذا أحبك أيتها الشجرة القديمة
التي اشتركت جذورها مع جذور الزمان. . .
لا احبك لأنك قوية عالية المناكب غليظة الجذع، ولا أحبك لكهولتك التي لا تزال تتدفق بالحياة كالشباب، ولا أحبك لأنك رمز القدم. . .
احبك لأمر واحد وأحب معه كل قديم من أجله. . .
لأن في القديم شيئاً من حيواتي الغابرة التي لا أعيها
وربما كان لي عين إلى أعماقك!
وربما كان لي ثغر في عروقك. . .
وربما رأيت الحياة بك مرات كثيرة. . .
إنك أقدر على تفسير اللاشعور في نفسي من نفسي. . .
- 2 -
ما أضل أولئك الذين يظنون انهم استطاعوا أن يقولوا:
(قد وجدنا ما أضعنا)
أيستطيعون أن يتمثلوا ما أضاعوا حتى يجدوه؟
لو كان الشيء الذي أضعته واحداً لقلت:
ما أهون الأمر!
ولكني أضيع كل يوم شيئاً ولا أجد هذا الشيء. . .
وشقائي أنني كلما ذهبت أفتش عن هذا الضائع، أضعت معه شيئاً آخر كان معي!
فحياتي أشياء ضائعة، وسعي ضائع وراءها.
فأين تريدون أن أجد أجزاء نفسي التي تناثرت مني على طريق العمر؟
وبينا كنت أحمل هذه الأجزاء كعوامل لسعادتي وحياتي أمسيت أحملها ذكريات ثقيلة
هل بإمكاني أن أطرح هذه الذكريات عني كما تطرحين أيتها الشجرة هذه الأوراق البالية عنك كل خريف؟
أتعاودك ذكرى الأوراق المتساقطة بعد أن يكسوك الربيع سواها؟
فإذا لم تعاودك ذكرى الورقة الأولى فلماذا تعودين إلى إبداع الورقة الجديدة - كل ربيع - على مثال الورقة الأولى؟
أليست الورقة الأولى هي مصدر إلهامك ومدار حياتك؟ وحقك! أينما رأيت أوراقك قلت: هذه الورقة الأولى!
دعيني إذاً أفتش في هذه المسارب قبل أن تغمض عيناي. .
لأقول: هنا سحبت قدميها مرة، ففي هذا المكان جزء منها فلأحاول أن أوقظ هذا الجزء. . .
وأقول: هنا جلسنا ذات يوم وضحكت لنا الحياة. فلأحاول أن أستعيد هذه الضحكة من الآن من التي طوتها
وأقول: هنا تركت بقية منها لم تعد تحملها نفسها ولا يجدها أحد سواي. فلأجرب أن أستنقذ هذه البقية من النسيان!
وأقول: هنا يعبق الجو بأشذاء وعطور من جسدها يوم كان يتفتح للمياه كالزهرة، فلأجرب أن أغمر روحي بهذه الأشذاء وهذه العطور.
وهنا يطفح المكان بألوان محاسنها التي تحولت. . . فلأعمل على إحياء هذه الألوان الباهتة.
وهنا أمس أشياء كثيرة! أحسها ولكني لا أقدر أن أمسكها لأنها أفلتت مني كما أفلتت منها. . .
دعيني إذاً أفتش عن أجزاء نفسي في كل مكان، قبل أن يطو يني الزمان.
- 3 -
أيها الزائر لحدي - هنا - لا تكثر التأمل في الأرض حيث ذرات جسدي تقيم لأنك لن تجدني هناك. . .
ولكن تأمل في الشجرة التي تغمرني ظلالها وتحنو علي أغصانها وتشدو لي أطيارها
إنك تجدني فيها على كل ورقة تتحرك، وفي عصارة كل عود يرتجف، وتسمع همسي في كل خشخشة منها!
أنا ميت في الأرض، وحي في الشجرة.
خليل هنداوي
-
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 23 -
الفلسفة الصينية
أخلاق العصر الأول أو الفلسفة العملية
أشرنا في الفصل السابق إلى أن فلسفة الخاصة لم تتأثر ألبته بأفكار العامة ولم تحمل أي طابع من طوابع العقلية الشعبية ونجزم هنا بأن عكس ذلك هو الذي وقع أي أن العامة هي التي تأثرت بفلسفة الخاصة، ولكنه تأثر أخلاقي فحسب، وإنما نقول فحسب، لأن فلسفة الخاصة النظرية ليس لها على عقيدة العامة إلا آثار طفيفة لا تكاد تذكر، فبينما نرى فلسفة الخاصة تعجز عن رفع الجماهير إلى الإيمان بـ (شابخ - تي) وهو السلطان الأعلى نشاهد فلسفتها العملية تسود الشعب كله خاصة وعامة، بل وتلون عقيدة الجمهور بذلك اللون الأخلاقي الراقي
نحن نعلم أن الصينيين كانوا يرون أن السماء كائن متحرك تبعاً لقانون منظم، وهذا القانون يربط القوى الثلاث: السماء والأرض والإنسان ربطاً محكماً، وإن كان لكل واحدة من هذه القوى في الظاهر طريق خاص أو غاية مقصود تحقيقها. فغاية السماء تسمى:(تيان تاو). وغاية الأرض تسمى: (توتاو). وغاية الإنسان تسمى: (جين تاو) إلا أن هذه الغايات ليست في الحقيقة إلا غاية واحدة، وهي غاية العالم أو قانون الطبيعة أو واجب الموجودات
لهذا الارتباط المحكم بين تلك الغايات الثلاث أثره العميق في كل شيء، إذ لا يكاد اضطراب بسيط يحدث في أحدها حتى يتردد صداه في جميع جزئيات الآخرين، فمثلا إذا حاد الإنسان عن الطريق السوي، فاقترف جريمة من الجرائم حدث في الحال اضطراب في السماء والأرض، وليس الكسوف والخسوف والزلازل وظهور الكواكب ذوات الأذناب
والجدب والأوبئة ليس كل ذلك إلا نتائج جرائم الإنسان وحيدته عن الطريق المستقيم، فإذا ما حدث في السماء هذا الاضطراب الناشئ من سلوك الإنسان وأعقبه اضطراب الأرض عاد الأثر من جديد إلى السماء فتضاعف اضطرابها. ولهذا تقول (أونج فان) أو القاعدة العظمى، وهي أقدم مستند فلسفي صيني: إن سلوك احترام من يستحق الاحترام يجلب الغيث في الوقت المراد والتبصر يجلب الحرارة في الوقت المراد والتمرن على التأمل يجلب البرودة في الوقت المراد، وحكمة الملك تجلب الهواء في الوقت المراد، ولكن الفظاظة تديم المطر من غير انقطاع، والكسل يديم الحرارة من غير انقطاع، والتهوس يجلب البرد من غير انقطاع، واحتقار ما يستحق الاحترام يجلب الجدب، والحماقة تجلب العاصفة)
وإذا رأينا أن الصين يربطون المظاهر الطبيعية بالفضائل والأخلاق إلى هذا الحد، استطعنا أن نجزم بأن الواجب هو الذي كان له القيادة العليا في هذا الشعب، وبأن كل فرد كان يحاول بقدر طاقته أن يكون فاضلا حتى لا يكون مجلبة للوباء أو للجدب فتشقى بسببه الأمة جمعاء، ولكن الفضيلة عندهم لم تكن تتحقق بعمل أو ببضعة أعمال خيرية وإنما هي كمال الخلق وتحقيق الاستنارة التامة للنفس، واتباع الصراط السوي في كل شيء، ذلك الصراط الذي هو موجود بالفطرة لدى كل روح بشرية والذي هو برهان احترام النفس الإنسانية وارتباطها بالسماء. وأكثر من ذلك أن المستصينين الذين اشتغلوا باللغة الصينية عثروا في دراساتهم على أن كلمة:(تاو) التي هي الطريق المستقيم أو الغاية المثلى لكل الكائنات أو تحقيق الواجب تدل أيضاً على نصيب الإنسان الممنوح له من السماء، وهذا برهان آخر على ارتباط الفضيلة والواجب بحظ الإنسان في الحياة عند هؤلاء القوم.
وعند الصينيين أن الإنسان خير بفطرته، لأنه جزء الطبيعة والطبيعة هي الإله، ولكن الإنسان ليس مجبراً على اتباع طبيعتها الخيرة دائماً مثل النبات أو الحيوان، وإنما هو كائن مفكر له كسب واختيار قد يبعدانه أحياناً عن الصراط السوي الذي هو صوت السماء أو صوت الطبيعة. أما الخير الموجود في نفسه، فليس كامل التكوين، وإنما هو موجود على هيئة استعداد فقط وعليه هو أن يحققه حتى تصبح الفضيلة طبيعة عملية له.
وهنا أحسب أني لست في حاجة إلى التنبيه إلى أن الصينيين قد سبقوا الرواقيين إلى هذه
النظرية بعدة قرون حيث قرر هؤلاء الأخيرون أن الإنسان هو جزء الطبيعة التي هي الاله، وأنه خير بفطرته، وأن الشر لا يقع منه إلا إذا حاد عن طبيعته، وأن هذه الحيدة لا تأتيه إلا من التفكير وحرية الاختيار.
وعلى ذكر حظ الإنسان الذي تمنحه إياه السماء ينبغي لنا أن نشير هنا إلى أن القدر كان عند الصينيين على نوعين: الأول هو الأقدار الناشئة عن أفعال الإنسان نفسه، وهذا النوع لا يمكن تعديله أو التغيير فيه. والنوع الثاني هو الحظ الذي تبدأ السماء بتوزيعه على الإنسان، وهذا يمكن تلطيفه أو تحويل شره إلى خير كما ينص على ذلك كتاب (شو - كينج)
رفع الصينيون إلههم إلى أسمى آواج الكمال الخلقي فنزهوه عن الظلم وعن الاستثناء (المحسوبية) فمن المستحيل مثلاً أن ينزل بالبشر الآلام والازدراء اتباعاً لهواه، أو أن يطرد من رحمته إنساناً لم يجرم، أو أن يعفو عن آثم لم يقلع عن إثمه كما كان يفعل آلهة البابليين والعبرانيين؛ وإنما هو إله فاضل يمنح النعمة والسعادة للأخيار، ويقسو إلي أقصى حدود القسوة على المجرمين والشرار. وفي هذا يقول كتاب (شو - كينج) ما نصه. (إن الفضيلة وحدها هي التي تؤثر في السماء، وإنه لا يوجد أمام الفضيلة ألبته شيء بعيد بحيث تعجز عن اللحوق به، وإن المتكبر منخفض، والمتواضع مرتفع؛ فإذا لاحظت ذلك، فإنك ستسير على صراط السماء. . .)
من الفضائل الهامة التي نصت عليها الأخلاق الصينية الرحمة التي تجب للصغير على الكبير، وللضعيف على القوي، وللفقير على الغني. ويحدثنا أحد العلماء بأن الآية الموجودة في الإنجيل في هذا الصدد موجودة بنصها في اقدم الكتب الصينية وهي:(إنما السعداء هم الرحماء) راجع الإنجيل وكتابي (شو - كينج) و (إي - كينج)
ومما لا شك فيه هو أن الفلسفة العملية الصينية لم تكف لحظة عن مهاجمة العنف وعن الأمر بالرحمة في المعاملات، بل وعن إفهام الأقوياء والأغنياء أن الضعفاء والفقراء خير منهم؛ وأن هذه الخيرية سر غامض كامن وراء هذه المظاهر السطحية الخداعة من غنى وقوة وجاه. ومن هذا ما يقوله كتاب (إي - كينج): (إن الهواء الذي يصفر في السماء إنما هو تصوير لقوة الرجل الذي يظهر صغيرا، وإن الرجل الذي يمشي فوق ذيل النمر دون
أن يعضه هو الذي سينجح، وإن التواضع يخلق النجاح، وإن الحكيم المتواضع يستطيع أن يجتاز البحر الأعظم)
ويعلق أحد الباحثين على هذا بقوله: ولكننا يجب علينا ألا نفهم أن الرحمة التي تدعو إليها الديانة الصينية هي الرحمة التي تجر إلى الضعف، وإنما هي الثبات في وداعة والصلابة في تحقيق الواجب. وعلى الجملة هي المقياس المضبوط في كل شيء أو هي الاعتدال أو التوسط في كل شيء، وهذا التوسط كانوا يسمونه:(تشونج) أي الفضيلة في ذاتها، وفيها يقول (إي - كينج):(إن احتمال فظاظة الأفظاظ في وداعة، واختراق الأنهار في ثبات وشجاعة، وعدم إهمال البعيد، وعدم الانشغال بالغير، كل هذا مجتمعاً هو الذي يحقق السير في طريق الاعتدال الوسط)
وهناك نص يعد من أقدم نصوص كتاب (شو - كينج) يقول: (إن الفضائل التي تصير الإنسان غاية في الكمال: هي الممنونية مع الجد، والتخلي مع الثبات، والحشمة مع البساطة، والحزم في السلطان مع الحكمة، وسهولة الانقياد مع القوة، والصلابة في الاستقامة مع الوداعة، والرحمة مع التمييز، والشدة مع الإخلاص، والشجاعة مع العدالة. فإذا اتبع رعاياك هذه المحامد، فإنهم سيكونون مستقيمين في الطريق السوي)
من خلال هذا كله نلمح في سهولة أن الأخلاق الصينية قد أقيمت منذ أقدم عصورها على أساسين جوهريين: الأول المثالية العليا والثاني سعادة المجتمع. ويعلق العالم (زانكير) على هذا بقوله: ولقد فهم بعض الباحثين أن الأخلاق الصينية نفعية جافة فظة. وفي الواقع أن النظرة السطحية المتسرعة في فلسفة الصينيين لابد أن تنتج هذه النتيجة، إذ لا يكاد الباحث يتصفح كتبهم حتى يلتقي فيها بقاعدة (الفضيلة طريق السعادة) أو (السعادة غاية الفضيلة) فإذا كان الباحث من أولئك الذين لا يكلفون أنفسهم التعمق جزم بنفعية هذه الأخلاق، بل بأنانيتها ولكن نظرة فاحصة، وتأملة دقيقة، تظهران أن السعادة المقصودة ليست هي سعادة الفرد، وإنما هي سعادة المجتمع، وليس ذلك النجاح الموعود به لمكافأة الفضيلة هو نجاح الشخص، وإنما هو النجاح في تحسين أحوال البيئة العمرانية التي يقيم فيها الفضلاء. وفي الحق أن الثرة عند الصينيين من أقبح الرذائل، وان الغيرية أو الإيثار في رأيهم ن أجل الفضائل، وأن الفضيلة بوجه عام تنحصر في الخضوع الحر الذي يصدر من الفرد نحو
مجتمعه صدوراً إدارياً، لأن ذلك المجتمع الممثل في أوامره الحية إنما هو عندهم صور أمينة للأوامر السماوية. وهكذا نرى أن القانون والحرية هما الدعامتان الجوهريتان للخلاق الصينية، وفوق ذلك فهما تذكراننا بعبارة (كانت) القيمة، وهي:(إن السماء التي تسطع نجومها فوق رأسي هي عين القانون الأخلاقي الذي في داخل نفسي)
نظام الأسرة
كان لرب الأسرة في الصين كما كان في روما حق الحياة والموت على جميع أفرادها بدون استثناء ودون أي تذمر أو اعتراض، ولكن بقدر ما كان أرباب الأسر في روما قاسي القلوب متحجري الأكباد لا يبالون بتضحية فرد أو عدة أفراد في سبيل هوى من الأهواء أو شهوة من الشهوات. كان رؤساء الأسر في الصين على العكس من ذلك تماماً تفيض الرحمة من قلوبهم، وينبع الحنان من بين جوانحهم، ولا يسلكون مع جميع أفراد أسرهم إلا سبل العدالة والاستقامة، ولا يتخذون في معاملاتهم إياهم رائداً غير الفضيلة، وإن كانوا لا يتوانون لحظة واحدة في اتخاذ أقسى أنواع الحزم إذا تطلبت الحالة الأخلاقية أو الاجتماعية ذلك. أما واجبات المرؤوسين نحو رؤسائهم في الأسرة من احترام وإخلاص وطاعة فإننا نكتفي بما أشرنا إليه منها عند حديثنا عن الأخلاق العامة.
السلطان
تنتقل السلطة إلى الملك عند الصينيين من السماء مباشرة، ولهذا يجب أن يكون فاضلاً، مستقيماً، حكيماً، بل قديساً منزهاً عن النقص، لأنه الابن الحقيقي للسماء؛ وليست البنوة المادية هي المعتبرة، بل إن الاصطفاء المعنوي هو كل شيء، وإن منحة السماء لا تتوقف على جاه ولا مولد، وفي هذا يقول (شو - كينج):(إن من يستضيء بالفضيلة الساطعة هو وحده الذي يمكن أن يسمو ولو كان ابن فلاح) وهذه القاعدة الأخلاقية تعلن في صراحة أن (الإمبراطور) إذا حاد عن الصراط السوي، فإن السماء تسلب منه السلطة؛ وهذا طبيعي لأن الملك مادام قد قطع برذيلته صلته الداخلية بالسماء، فيجب أن تزول صلته الخارجية بها. ولقد تجسمت هذه الفكرة حتى خصص (كونفيشيوس) فيما بعد في قانون العقوبات الذي أنشأه مادة لعقاب الفرد الذي يفقد صلته بالسماء.
أقنعت هذه النظرية الملوك بأن الحكم بحد السيف والخنجر مستحيل، وبأن السلطة الوحيدة الدائمة إنما هي المنبثقة من الفضيلة، وفي هذا يقول كتاب (إي - كينج) في وعظ الأمراء:(إن القوانين القاسية لا تستطيع أن تحقق الرخاء، وإن نصيب الحزم يساوي نصيب الخيرية، وإن القسوة يجب أن تقف عند التوسط، فإذا ما تعدته فقدت نتيجتها النافعة. ومن يطبق القانون بوداعة مع حزم، وبخيرية مع قسوة معتدلة، يفز بالشهرة، إذ يكون قد أدى وظيفته على وجه الكمال. إن الشعب إذا أحس بقسوة القانون عصاه دون اقل تأنيب من الضمير) ويقول أيضاً: (إن الوداعة الداخلية، والحزم المعتدل، والترضية الممنوحة للجميع من غير استثناء، والأمانة، والاستقامة، كل ذلك هو الذي يحقق تحسين حال الشعب ويعظم امتداد الثقة حتى تتناول الخنازير والأسماك)
لم تكن هذه القواعد الأخلاقية عند الصينيين مجرد نظريات علمية تسجل في الكتب دون أن تحقق في الواقع، كلا، وإنما كانت أخلاقاً عملية طبقها الشعب: عامته وخاصته وملوكه. ومن هذا السمو الأخلاقي العملي ما تحدثنا به الأساطير الصينية عن أحد ملوك عصر ما قبل التاريخ، وهو (هوانج - تي) أي الإمبراطور الأصفر الذي عاش حوالي القرن السابع والعشرين قبل المسيح، والذي تمثله لنا الأسطورة مثلاً أعلى للفضيلة والحكمة، وإن كانت الكتب المقدسة لا تذكر عنه شيئاً
أما (شو - كينج) فهو يحدثنا أن بلاد الصين كانت سعيدة قوية في عهد ملوك الأسرتين: الأولى والثانية أي أسرتي (هيا) و (شانج - إين) لأن ملوكهما كانوا فضلاء وحكماء؛ وكذلك امتدت السعادة إلى أول عهد الأسرة الثالثة التي أسسها (وين - وانج) الحكيم الذي كان يطلق عليه اسم الملك المهذب، والذي هو النموذج الأعلى لكونفشيوس، والذي ساهم بخطه في نسخ (إي - كينج) وقد حكم في سنة 1122 قبل المسيح
غير أن السلطة انتقلت إلى ملوك غير مستقيمين فسلبت السماء سلطتها منهم، وسقط الشعب في حضيض التنازع والتفرق، واخذ صغار الحكام يستأثرون بالسلطة. وعلى الجملة ساد الشقاء والبؤس تلك البلاد خمسة قرون كاملة انتهى بانتهائها هذا العصر وبدأ العصر الذي سنتحدث عنه في الفصل الآتي
(يتبع)
محمد غلاب
الخريف
للشاعر شارل هوبر ميلله فوي
ترجمة السيد عارف قياسه
(ميلله فوي شاعر فرنسي رقيق من شعراء القرن التاسع عشر (1782 - 1816) طبع بطابع الحزن العميق. تجرع كأس الحمام والغصن أملود والشباب ريق، عقب هزال ألح عليه إلحاحاً فحطم جسمه تحطيما. نظم ميلله فوي مراثي عديدة - وبذاك نبه ذكره وعلا شأنه - ولعل أشهرها
أحس الشاعر الشاب بالموت يدب في مفاصله اللدنة وأعضائه الغريضة فعمد إلى يراعته وقرطاسه واثبت هذه الآية الشعرية يبكي فيها حياته الفقيدة وشبابه الراحل وغصنه الذاوي. وأنت حين تقرأ غير هذه المرثية مما سجلته يراعة (ميلله فوي) تحس بالكآبة تسيل من كلماته وتفيض وتفيض حتى تغمر قلبك فلا تستطيع أن تحبس عينك عن إرسال أدمعها)
(عارف)
تناولت يد الخريف الغابات فنضت عنها ثيابها، وعرت الأشجار من أوراقها الذاوية، وكست أديم الغبراء بطبقة صفيقة منها، ففقدت الغابة سرها، وصمت البلبل الغريد عن الشدو
شاب مريض تبلغت به العلة - أفعم الأسى فؤاده في فجر حياته، ودب دبيب الموت في جسمه في ميعة صباه - اخذ يطوف بخطى بطيئة متمهلة في الغابة العزيزة على سنيه الأولى وينشد هذه الألحان:
(أيتها الغابة التي أحب! وداعاً ما بعده من لقاء. المنية تنشب أظفارها في جسمي. حدادك أنذرني بجدي العاثر. إني أرى في كل ورقة تساقط آية من آيات موتي
أي عرافة (أبيدور) المشئومة! لقد قلت لي:
(ستذوي أوراق الأشجار وستصفر في نظرك ولكن للمرة الأخيرة)
السرو الخالد المتموج المياد أرخى فوق رأسه أفنانه الطويلة وابتدرني قائلاً:
(سيذوي شبابك. سيذوي قبل ذوي عشب المرج وعسلج الهضاب)
يا لله! هاأنذا أقضي نحبي. مسني قر نكباء حر جف
أرمي ربيع حياتي يتلاشى (كتلاشي الشموع في زفرة اللظى الحمراء)
تساقطي أيتها الورقة الزاهقة تساقطي!
غشاؤه على الأبصار وحجاب الأعين هذه السبيل
إنها تخفي علي يأس أمي مقري في الغد
ولكن إذا توجهت حبيبتي - مع دلوك الشمس - شطر المسلك المنعزل، شعثاء الشعر، مشقوقة الجيوب تبكي علي، أيقظي بهمساتك الخفيفة ظلي القرير.
قال ذلك، ثم طفق يبعد. . . وبلا إياب
الورقة المتساقطة أخيراً أعلنت انطفاء شعلته
تحت السنديانة شق لحده. ولكن حبيبته لم تأت لزيارة جدثه، وراعي الوادي هو الوادي هو الوحيد الذي يكدر صفو الرمس بوقع أقدامه
حماه (سوريا)
عارف قياسه
تطور علم الكلام
في رسالة إنقاذ البشر من الجبر والقدر
للأستاذ محمد علي كمال الدين
تتمة ما نشر في العدد الماضي
يظهر للباحث عنوان المرتضى (بيان القدرة والمقدور) ومن قوله عن زعم جهم بأن ما يكون في العبد من كفر وإيمان ومعصية فالله فاعله. يظهر أن المرتضى يرى أن نظرية جهم في خلق الأفعال هي عينها نظرية القدر، وهي هي نظرية الجبر؛ وقد صرح بذلك في رسالته في معرض صفات الله عند نهاية صفحة 40 بقوله:(سبحانه وتعالى عما وصفه به القدرية المجبرة المفترون) وعليه يكون القدر في عنوان كتابه: (إنقاذ البشر من الجبر والقدر) عطف تفسير على الجبر
كما يظهر أيضاً من قوله: ولما أحدث جهم القول بخلق أفعال العباد قبل ذلك ضرار بن عمرو بعد أن كان يقول بالعدل فانتفت عنه المعتزلة واطرحته. يظهر أن النظرية العدلية كانت هي السائدة بين طبقات الأمة حتى بعد حدوث الاعتزال أي بعد القرن الأول، وأنها سبقت نظرية الاعتزال في الحدوث وسبقت نظرية خلق الأفعال؛ وأيضاً عند تدقيق أسطر المبحوث عنها ولا سيما ما يخص ضرار بن عمرو نستنتج النقط الآتية:
(1)
إن واصلاً وعمراً هما رجلا الاعتزال وإن ضراراً كان معتزلياً؛ ونعرف هذا من أستتباع المرتضى انتفاء المعتزلة على ضرار بخروجه عما كان عليه واصل وعمرو بعد أن كان على رأيهما واخذ عنهما
(2)
إن الزمن الذي حدث فيه الاعتزال هو عند المائة الأولى، ويدل على ذلك أن ولادة واصل كانت سنة 80 والعادة تقضي أن المرء لا يكون عالماً قبل أن يتجاوز العشرين من عمره وبإضافة العشرين إلى الثمانين تكمل المائة، وهو نتيجة طبيعية للتطور العقلي فإن للجدل العنيف بين طبقات الأمة في تكفير ذوي الكبائر أو تفسيقهم يؤدي عادة إلى خلق جماعة وسطى لذوي الكبائر منزلة بين المنزلتين
(3)
إن الزمن الذي حدثت فيه نظرية خلق أفعال العباد يكون بعد المائة الأولى بدلالة
اطراح المعتزلة لصاحبها ضرار لأنه وافق جهماً في نظريته الجديدة؛ ونرجح أن يكون الزمن الذي حدثت فيه النظرية هو المدة المحصورة بين وفاة الحسن البصري سنة 110 وبين مقتل جهم سنة 131. على أن هذا الزمن المفروض حري أن تحدث فيه النظريات العلمية لكثرة انتشار العلم والدرس مع ازدياد عدد العلماء وشدة تضارب الآراء والأهواء
(4)
في هذا الظرف الذي حدثت فيه نظرية جهم ظهرت آراء ومقالات غريبة لم يصرح بها المرتضى؛ غير أنه أضاف في عرض حديثه عن ضرار انه خلط تخليطاً كثيراً وقال بمذاهب خالف فيها جميع أهل العلم. ولم أجد مسوغا للمرتضى في عدم تصريحه بنوع هذه الآراء في حين أن صاحب الملل والنحل ذكر كثيراً منها. ولو أن المرتضى ذكر بعضها لوجدنا من مقدمته سلماً كاملاً للتطور الفكري. ونعود الآن إلى بقية أجزاء المقدمة، قال:
(ثم تكلم الناس بعد ذلك في الاستطاعة فيقال إن أول من أظهر القول بأن الاستطاعة مع الفعل يوسف السمني، وإنه أستزله إلى ذلك بعض الزنادقة فقبله عنه؛ ثم قال بذلك حسين النجار وانتصر لهذا القول ووضع فيه الكتب فصارت مذاهب المجبرة بعد ذلك على ثلاثة أقاويل: أحدها أن الله تعالى خلق فعل العبد وليس للعبد في ذلك فعل ولا صنع، وإنما يضاف إليه لأنه فعله كما يضاف إليه لونه وحيويته، وهو قول جهم. الثاني أن الله تعالى خلق فعل العبد، وأن العبد فعله في استطاعة حدثت له في حال الفعل لا يجوز أن تتقدم الفعل، وهو قول النجار وبشر المريسي ومحمد بن برغوث ويحيى بن كامل وغيرهم من متكلمي المجبرة نحو الشاعرة وغيرهم)
قبل تحليل هذا القسم نلفت نظر القارئ إلى كلمة المرتضي (مذاهب المجبرة) بدون أن يقرنها بكلمة القدرية، فهي وإن لم تدل على رجوعه عن رأيه في مرادفة الجبر والقدر ولكن يشم منها حدوث كلمة جبر ومجبرة، وأنها غلبت في نسبتها إلى جهم وجماعته بدلاً من لفظة القدر التي حاول أن يهرب عنها الفريقان المتطاحنان، ولو أردنا التماس سبب لغلبة جهم في هذا التملص من صفة (القدرية) ربما وجدناه في مطابقة فهم العامة لمعنى كلمة الجبر مع النظرية ولا سيما وإن جهماً ونظريته وأصحابه فرس أقحاح، فهم أحرى أن يتحاشوا ويعملوا على الخلاص من وصمة الحديث (القدرية مجوس هذه الأمة)
ولنعد إلى بحثنا فقد استأنف المرتضى بحثه مراعياً تدرج الموضوعات بمقتضى تاريخها
وتسلسلها الطبيعي فعرض لنا صورة من الجدل الذي جد بعد قرن وربع قرن بين علماء الجبر أنفسهم إضافة إلى النقاش الحاد بينهم وبين العدلية والمعتزلة؛ فهذا ضرار لم يأخذ بنظرية صاحبه جهم كما هي، بل حاول الجمع بينها وبين لون من الاختيار فقال: إن الإنسان وإن يكن مجبراً على خلق الأفعال فإن هذا الجبر لا يتنافى على رأيه مع الاستطاعة على القيام بالعمل، أي أنه لا يتنافى وجود فاعلين على أن يكون أحدهما كالقوة البخارية والثاني كالآلة المحركة؛ وزاد أن هذه الاستطاعة سابقة على حدوث الفعل بخلاف جهم الذي سلب هذه الاستطاعة من أساسها، وادعى أن إسناد الأفعال للإنسان على سبيل المجاز لا على سبيل الحقيقة كما يسند إليه لونه وحيويته، وكما يقال أمطرت السماء، وكسفت الشمس، وخسف القمر إلى غير ذلك
والذي يرمي إليه المرتضى حدوث بحث وموضوع جديد في علم الكلام هو بحث الاستطاعة ولم يعين وقت حدوثه كما هي عادته ولكن سنة التطور العقلي تقضي بأن حدوثه إذا لم يكن في حياة جهم أي قبل سنة 131 فعقيب مقتله. على أن تعدد الآراء في بحث الاستطاعة مع تعقد النظريات يدل على طول زمن البحث فيها كما تقتضيه الأبحاث الفلسفية التي غمرت المجتمع بعد عهد المنصور أي بعد سنة 136. . . وعليه سوف لا يجد غرابة في بعد الزمن الذي حدث خلاله الرأي الثالث في الاستطاعة أو القول الثالث من أقاويل المجبرة كما اصطلح المرتضى وهو قبل سنة 189 أي قبل زمن وفاة يوسف بن خالد السمني صاحب هذا القول؛ على أنه إذا كان الرأيان أو القولان الأولان يقرران نفي الاستطاعة مطلقاً أو وجودها سابقة على الفعل فبمقتضى التطور لا مناص أن يكون القول الثالث هو حدوث الاستطاعة حتى الفعل حيث لا رابع لها. بقي علينا أن نعرف السبب الذي ساق المرتضى إلى نسبة هذا القول للزنادقة. أقول إن اقتران تحقق الاستطاعة مع الفعل صريح بأن هذا الاستطاعة أمر غير ذهني فلا يمكن أن يتصوره العقل مجرداً بل يتحقق خارجاً كما تتحقق الحرارة مع النار، وهذا عين مقالة الزنادقة القائلين بعدم وجود أمور ذهنية غير واقعة تحت الحواس، لذلك نسب المرتضى إليهم هذا القول
أما شخصية يوسف بن خالد السمني هذا وهل نسبته هذه إلى مذهب (السمنية) من مذاهب الهند القديمة فذلك ما لم أستطع تحقيقه الآن لانعدام المآخذ لدي
ولكن الذي يلفت نظر الباحث اهتمام المرتضى بهذه المقالة: الاستطاعة مع الفعل، فقد جعلها مفتاحاً إلى مقالة كثير من المجبرة مثل بشر بن غياث المريسي المتوفى سنة 218، ومحمد بن عيسى الملقب ببرغوث، ويحيى بن كامل من أصحاب بشر، وأيضاً الحسين بن محمد النجار الذي وضع في هذه المقالة الكتب وغيرهم. فكأن المرتضى يشير إلى أن تاريخ اتساع علم الكلام وتشعب نظرياته عند المسلمين بدأ عند هذه المقالة ومنها أخذ يزداد توغلاً وعمقاً فكثر فيه المؤلفون والمجادلون والمجالدون؛ غير أن تحقيق تطور هذه النظرية الذي هو موضوع بحثنا يحتاج إلى دقة وبحث واستقصاء أكثر ولا سيما وقد شغلت عهداً طويلاً يبتدئ من سنة 131 ويستمر إلى سنة 218 وهو عهد وفاة بشر المريسي ثم إلى عصر الأشعري وهو سنة 300. والآن نأتي على آخر أجزاء المقدمة، قال المرتضى:
(ثم تكلم الناس من بعد ذلك فيما اتصل بهذا من أبواب الكلام في العدل واختلفوا فيه اختلافاً كثيراً والكلام في ذلك أوسع أبواب العلم)
فكان العدل هو العامل الأكبر في خلق علم الكلام فقد ابتدأ مع أول نظرية وهي نسبة المعاصي لله أو للعبد نفسه، واطرد مع جميع نظرياته، وأخيراً أصبح العدل موضوعاً مستقلاً لدى المعتزلة بل اصبح أوسع أبواب العلم كما يقول المرتضي؛ غير أن المجبرة والصفاتيه والأشاعرة تحاشوا التوغل فيه كما تتوغل المعتزلة
جدول تطور علم الكلام
الآن وقد أنهينا مقدمة المرتضي مع تطور علم الكلام الذي أرتاه وحاولنا البرهنة على صحة رأيه في هذا التطور فلا ندري إن كنا موفقين في بعض هذه البرهنة أو غير موفقين، غير أن القارئ ربما أدرك ما لاقيناه من العناء في هذا السبيل. وإكمالاً للفائدة رأينا أن نلخص رأي المرتضي بالتطور في الجدول آلاتي:
النظرية
أصحابها
نقيض النظرية
أصحابه
الزمن
نسبة المعاصي لله
نسبتها للإنسان والقول بالعدل
السلف
من 60 إلى 100
تفسيق ذوي الكبائر وتكفيرهم
السلف والخوارج
منزلة بين المنزلتين
المعتزلة
100 -
110
القدر أو الجبر ونفي الاستطاعة
جهم بن صفوان
الاختيار ومطلق الاستطاعة
السلف والمعتزلة
110 -
131
الجبر والاستطاعة قبل الفعل وعنده
ضرار بن عمرو
الاختيار ومطلق الاستطاعة
السلف والمعتزلة
131 -
الجبر والاستطاعة حال الفعل
يوسف السمني وبشر المريسي
الاختيار ومطلق الاستطاعة
السلف والمعتزلة
131 -
218
الجبر والاستطاعة حال الفعل
النجارية والأشاعرة
الاختيار ومطلق الاستطاعة
المعتزلة
218 -
324
نتيجة البحث ورأينا الخاص
يلاحظ القارئ أنا حاولنا أن نتلمس رأي المرتضي نفسه لنكشفه أمام القارئ كيما يمكنه أن يستخلص منه طريقة تطور علم الكلام. وقد آن لنا أن نعرض أمام القارئ آراءنا الخاصة والنتائج التي حصلنا عليها، وللقارئ أن يأخذ بها أولا يأخذ. وهي تتلخص في أربعة أمور: زمان علم الكلام، المكان الذي نشأ فيه، عوامل تكوينه، صبغته
(1)
أما الزمن الذي نشأ فيه علم الكلام فهو عصر خلافة الإمام علي وحركات الخوارج وجدالها معه، وأول نظرية هي بحث المعاصي والكبائر وتكفير مرتكبيها سنة 38
(2)
المكان الذي نشأ فيه علم الكلام هو العراق وبعض ما جاوره من بلاد الفرس بدلالة أن هذه الأقطار كانت منبت الخوارج ومراكز حروبهم ونظرياتهم فضلاً عن أن معظم علماء الكلام كانوا من أهل هذين القطرين
(3)
إن عوامل تكوين علم الكلام لم تكن دراسية بالأساليب والمناهج التي نعرفها بل كونتها ثورة فكرية عامة صدع بها الدين والكتاب المقدس وسندتها قابلية الفرد والمجتمع وغذتها الخميرة العلمية الموروثة تلقيا وتلقينا من دراسة الأمم والمدارس القديمة من سريانية وكلدانية وحيوية وجنديسابورية وحرانية وعبرية وإسكندرية، فكانت هذه الثورة الفكرية بما كان لها من مقومات ومغذيات هي المدرسة الكبرى لعلم الكلام وناهيك بالمجتمع مدرسة عظمى سريعة النمو طيبة النتاج
(4)
كانت صبغة علم الكلام منذ نشأته الأولى في الصدر الأول فطرية، فمشت نظرياته بمقتضى العقلية العربية الإسلامية، وقد كفلتها الذهنية الخصبة فتوصلت إلى نتائج تلك النظريات طفرة ومن دون تعمل، وأخذت بها كآراء صحيحة وإن لم تراع الترتيب والتبويب العلمي. ولا أظن أن هذا الأسلوب من الدراسة يمنع من أن ندعوه علم الكلام أو
يمنع من اصطباغ معتنقي نظرياته بصبغة علماء الكلام. وعليه يكون لعلم الكلام دوران: أولا صبغته الفطرية وهي تبتدئ منذ سنة 38 وتنتهي سنة 136؛ والدور الثاني صبغته الفلسفية الحاضرة وتبتدئ منذ عصر الترجمة سنة 136هـ
وتقريباً للأذهان سنضرب للقارئ مثلاً يرتضيه الخيال ويتفق مع النواميس الاجتماعية، فربما أعطانا صورة لتلك الثورة الفكرية، وهذا المثال هي الثورة الثقافية والاجتماعية الماثلة لدى الشعوب والحكومات الشرقية التي استقلت بعد الحرب العامة فقد شاهدنا هاته الشعوب والحكومات كيف سارعت وتطورت في دراسة نواحي الاستقلال وما يلابسها من نظريات اجتماعية وسياسية ومدنية وقضائية وعلمية وفنية وعسكرية وما إلى ذلك من خصومات الحضارة الأوربية وأساليبها - درست جميع ذلك بطريقة عملية تلقينية وبأساليب التفكير والتجربة والتقليد إذ لم تكن لدى تلك الحكومات ما يصح أن يقال لها مدارس فنية أو عسكرية قضائية أو اقتصادية، ومع ذلك وجدنا ابن الريف والفلاح الأمي قد سارع في تلك البلاد إلى تلقي الأنظمة والفنون الحربية بما فيها آلاتها وأدواتها الميكانيكية كما وجدنا الحضري ساق السيارة والباخرة والقطار، والتاجر والصانع أصبح سياسياً أو إدارياً أو صحافياً أو مهندساً في حين أن معظم هؤلاء وأولئك لم يكونوا قد سمعوا بشيء في ذلك فضلا عن مشاهدته والقيام بما يتطلب. والأغرب من ذلك كله أن جميع هؤلاء الفنيين أو المدربين الشرقيين قد نجحوا ومهروا ببضعة سنين
ونحن نرى في هذا المثال صحة المقارنة وانطباقها مع تلك الموجة العربية الإسلامية كل الانطباق إلى درجة لم يبق معها مجال للحيرة والشك في سرعة قبول المسلمين لنظريات علم الكلام وفي كيفية امتزاج هذا العلم وأشباهه مع الدين الإسلامي
(العراق. النجف)
محمد علي كمال الدين
في الأدب العربي
دعبل الخزاعي الشاعر المتمرد
للأستاذ عبد الحليم عباس
قال دعبل: مضى علي ستون عاماً ما تصرم منها يوم إلا وقلت فيه شعراً. وقد يكون مغالياً في هذا ولكن الشيء الذي ليس فيه مغالاة أنه نظم كثيراً أضعاف ما خلص إلينا، فقد ضاع الكثير من شعره؛ وليس هذا الضياع بالمستغرب، وإنما المستغرب أن يصل إلينا شيء من شعره فقد كان الرجل طلعة، ومرعباً بهجائه. وحسبك أن تعلم أن من جملة من أقذع في هجومهم خمسة من الخلفاء، وفئة صالحة من الأمراء والوزراء والقواد، ثم كان إلى جانب ذلك شيعياً. أفلا ترى أن الزمن كان متسامحاً إذ أبقى على شيء من شعره؛ على أن هذه البقية كافية للحكم على شعره، وتقديره من حيث الجودة، ولكنها لا تكفي أبداً لدراسته من الناحية النفسية، فليس يمكننا أن نعرف معرفة صحيحة أسباب تمرده، ولا أن نجزم في الحكم على بواعث ثورته؛ وقصارى جهدنا أن نفترض وأن نتخذ من الكلمة الصغيرة ترد في سيرته مفتاحاً للغوص على هذه النفس العجيبة. . .
كان البحتري يتعصب لشعره، ويفضله على مسلم بن الوليد، ويقول في أسباب هذا التفضيل:(إن شعره أدخل في كلام العرب من شعر مسلم. . .) أما إنه أدخل في كلام العرب من شعر مسلم فمما لا يمتري فيه اثنان، بل لعله أدخل في كلام العرب من شعر كل الشعراء الذين تقدموه في الدور الأول للدولة العباسية؛ وأما أنه خير من مسلم فالبقية الباقية لا تجيز لنا هذه المقارنة. هو متين السبك، شديد أسر التراكيب، فحل الأسلوب، حتى لو دعته الضرورة أن يقول شعراً في أقل الأمور التي لا تدعو إلى الاحتفال بالشعر ولفظه، قال:
أسر المؤذن صالحٌ وضيوفه
…
أسر الكمى هفا خلال الماقط
بعثوا إليه بنيه ثم بناتهم
…
ما بين ناتفةٍ وآخر سامط
يتنازعون كأنهم قد أوثقوا
…
خاقان أو هزموا كتائب ناعط
وما هذا المؤذن الذي أسره صالح وضيوفه، كأنهم أسروا الخاقان وهزموا الكتائب؟ ديك دجاج لا أكثر ولا أقل. أتينا بهذه الأبيات، لندلل على أن دعبل لا يتنزل عن فحولة اللفظ
حتى في أتفه المواقف. . ولكن واأسفاه لقد ضاع جلة هذا الشعر الفحل. ولنترك الآن الأسف والحكم على شعره فليس ذلك بمجٍد شيئاً. . ولندرسه على ضوء ما تبقى من شعره ومن سيرته
والآن أيهما الشقي بصاحبه: أدعبل وهو يحمل خشبته - على حد تعبيره - فلا يجد من ينزو به الغيظ وتثور به الحمية فيصليه عليها، أم أهل عصره وهم يتجرعون غصص ثورته، ويصطلون بنار هجوه، يمدحهم مرة فيغدقون عليه النعم، ويتملقونه بالهبات، عله يفيء إلى الرضا، ولكنهم ما يعتمون - لا لشيء إلا أن دعبل أراد - أن يرو الرضا ينقلب سخطا، والمدح هجاءً مقذعاً، لا تشفع فيه عارفة، ولا ينهنهه الخوف من سلطان.
لم يترك وزيراً ترهب صولته، ولا قائدا يخشى فتكه، إلا شنع عليه حتى الخلفاء رقى إليهم، فأقض مضاجعهم، وبعث فيهم من الوجل أضعاف ما بعث فيه سلطانهم. تصافي والمأمون - عقب هجائه لأبيه - فلا أذن سمعت، ولا قصيدة اشتهرت حتى كان كما يقول تاريخ عصره أول داخل على الخليفة، وآخر من يترك مجلسه، ولكنها أيام. . . وإذا ببغداد تنشد قصيدة جديدة في هجو الخليفة من نظم دعبل
ويأخذ الرشيد بطبعه، وهو الخامل بعد لم تعرفه أندية الشعر ولا محافل بغداد، وتصله هبته قبل أن تراه عينه، ثم يموت الرشيد فيكون رثاؤه إياه. . .
قبران في طوس: خير الناس كلهم،
…
وقبر شرهم هذا من العبر
لا ينفع الرجسُ من قرب الزكىِّ ولا
…
على الزكىِّ بقرب الرجس من ضرر
والرجس هاهنا هو الرشيد. . .
ونعجز إن نحن لاحقناه، نذكر من تصدى لهجائهم، فحسبك أن تعلم أنه لم يسلم منه - كما يقولون - أقرباؤه ولا عشيرته الأدنون، فقد هجا خزاعة، وما خزاعة غير قبيلته التي أراد أن يكون فيها نسبه، فالبعض يهمس همساً خفياً - فرقاً منه - أنه دعي النسب في خزاعة. فأيهما الشقي؟ اهو بعصره، أم عصره به؟
أما هو فقد استمرأ طعم الشقاوة، بل نظن أنه كان يجد فيها لذته
ما أطول الدنيا وأعرضها
…
وأدلني بمسالك الطرق
الحق أن أهل عصره هم الأشقياء به، هو بلاء صب عليهم في أرفه العصور وأحلاها:
لقد طبع - أبو علي - وهذه كنيته - على الهجاء، وما هو بالهجاء، وإنما الحريق يأتي على العدو والصديق، فم علة هذا؟ أهي نفس فطرت على الشر بطبيعتها؟ أم أن هناك دوافع وحوافز ساقته إلى النقمة وقسرته على هذا التمرد؟ هذا ما نحاول جهدنا أن نتلمسه في سيرته وما نأسف - من أجله - على ضياع الكثير من شعره
وأول ما يتبادر للذهن انه قد يكون في عقيدته الدينية تعليل لنقمته على عصره، فقد كان شيعياً كما أسلفنا، أشاد بمدح العلويين فمن المحتمل أن يكون انساق مع عاطفته الدينية، فاخذ يشنع على العباسيين، الخلفاء والوزراء وكل من له صلة بهم؛ على أن هذا إن يصدق على شاعر فعلي غير دعبل، فالعصر العباسي شهد ثلاثة من الشعراء المتشيعين، دعبل، والسيد الحميري، وديك الجن، واوسطهم أخلصهم للعلويين، السيد الحميري هو الذي اتخذ مدح العلويين مجالاً لشعره، أما الاثنان الآخران فقد كان تشيعهم من النوع الحقيقي - إن صح هذا التعبير - انهمك الشاعر السوري في رثاء جاريته وردة، وفي البكاء والحنين على جوار أخر. . . أما دعبل فقد وجد في الهجاء متسعاً يلهيه عن التشيع. . . لم تعرف له في العلويين قصيدة عبقرية خلا واحدة
مدارسُ آياتٍ خلتْ من تلاوةٍ
…
ومنزلُ وحيٍ مقفر العرصات
صحيح أنها صادقة اللوعة، تنم عن إخلاص، وهو شيء لا ننكره، وإنما الذي نذهب إليه وتؤيده سيرته نفسها أن يكون مصدر نقمته على الذين هجاهم نظرته إليهم كمغتصبين أو كأعوان لمغتصبي حق أبناء علي، وإلا فما يمنعه أن يلمح إلى أفضليتهم في خلال هجائه للعباسيين على الأقل؟ مرة واحدة ذكرهم في هجو الرشيد
وليس حيٌ من الأحياء نعرفه
…
من ذي يمان من بدو ومن حضر
إلا وهم شركاءٌ في دمائهم
…
كما تشارك أيسارٌ على جزر
وليس يرد على هذا المأمون جد في طلبه لهذه القصيدة فغير دعبل يستشعر الخوف، أو يتدبر العواقب. أليس هو القائل للمأمون نفسه:
إني من القوم الذين سيوفهم
…
قتلت أخاك وشرفتك بمقعد
شادوا بذكرك بعد طول خموله
…
واسترفعوك من الحضيض الأوهد
والقائل المتوكل:
ولست بقائل قذعاً ولكن
…
لأمر ما تعبدك العبيد
وللمعتصم:
ملوك بني العباس في الكتب سبعةٌ
…
ولم تأتنا عن ثامن لهم كتب
كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة
…
خيارٌ إذا عدوا وثامنهم كلبُ
وشيء آخر إذا كان كرهه للخلفاء، ومناصبته إياهم العداء، تشيعاً لأبناء علي، فما ذنب أقربائه؟ ما ذنب عشيرته خزاعة، بل ما ذنب هؤلاء الذين ليس لهم من جريرة غير موافقة أسمائهم للقافية في شعر دعبل
ما جعفر بن محمد بن الأشعث
…
عندي بخير أبوة من عثعث
عد البيوت التي ترضى بعشيرتها
…
تجد فزارةً العكلي من نسبك
إذن فلم تكن العقيدة الدينية هي كل السر في هذه الثورة، وعامة هذا الهجاء، لعله تعصبه للقحطانية على النزارية، لا على الأرجح، لأن من بين من هجاهم من ليسوا من نزار، بل نظن أن هذه كلها دوافع جاءت متاخرة، وإنما السر كله في تركيبه
يقول لأحد أصدقائه: ما كانت لامرئ عندي من منةٍ إلا وتمنيت موته. فما عسى يرى علماء النفس في هذه الخاطرة؟؟ أباء منحرف عن وجهته؟ كيفما يكن فما هو بالرجل الخير هذا الذي يود أن يكافئ المحسن إليه بتمني الموت له
وما ترى فيمن تهتاج نفسه لقول الشعر، فتضيق عليه فنون الشعر إلا أن ينشئه هجاء، فإذا سأله سائل: لمن؟ قال: (لم يستحقه أحد بعد، حتى إذا ما لاحاه أحد، ذكر اسمه فيه، ونشره في الناس
ودعبل يعلل هذه الظاهرة في نفسه بأن الهجاء آخذ بطبع الشاعر من المديح وأن الناس له أرهب. وقد قال مثل هذا بشار وقد يكون بشار صادقاً بالقياس لنفسه، بل هو صادق ما في ذلك شك، ولكن دعبلاً قد أخطأ في تعليل ظاهرة الهجاء فيه؛ إنه مسوق إليه بطبيعته، إنه يفتن فيه، ويتخذه مجالاً لفنه، كما يتخذ بعض الشعراء الغزل مجالاً للقريض
وعدا هذه الطبيعة المتمردة والناقمة فيه منذ نشأته الأولى، فقد كان يرافق الشطار واللصوص، واتهم مرة بالقتل
وبقي هذا الخلق ملازماً له كل حياته، فكان يلاقي قطاع الطرق يؤاكلهم ويؤانسهم، فلا
يؤذونه (ولا هو يتعرض لهم بأذى) قال أحدهم: ما زلت أعرف فيه مشية الشطار
هو ناقم ولكنك لا تلمح فيه هذه النقمة إلا هينة لينة، فلا يشكو الزمن كما يشكوه غيره من كبار الناقمين، كأنه أعلى من أن يضج بشكوى. . .
حملت على زمنٍ ظالعٍ
…
فوف تكافى بشكر زمن
وهو إذ يتهجم على الأحياء ويستفد جهد ثورته، لا يوازن بين قدره وأقدارهم كما يفعل ابن الرومي في الهجاء، ولعل مرد هذا إلى أن دعبل لم يكن معجباً بنفسه كما كان ابن الرومي الذي أضعف أدواته الشعر
وإذا كان الهجاء آخذا بطبع الشاعر، فما باله يكره ملاقاة الخلفاء أمنية كل شاعر؟ أراد ابن المدبر أن يقدمه للخليفة فاعتذر أحد أصدقائه: إن أبا علي موسوم في الهجاء ومنيته أن يخمل ذكره. فقال دعبل لصديقه: ما عدوت الذي بنفسي
ولسنا نحب أن نختم هذا الفصل دون أن نشير إلى شيء من التسامح الذي تحلى به عصره. أحب أبو مسعد المخزومي أن يوغر عليه صدر المأمون فأنشد هجاءه فيه، فقال: أجبه، قال: لو أمرتني أن آتيك بالذي على منكبيه لفعلت. قال: أما هذه فلا. . .
إن العصر الحديث جد محتاج إلى ملوك وأمراء ووزراء يستبقون القتل والسجن لغير رجال الأدب
(شرق الأردن)
عبد الحليم عباس
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
حكمة البشر
ليست الأعالي ما يخيف بل الأعماق، فعلى الجرف تحدق العين في الهاوية وتمتد اليد نحو الذرى فيقبض الدوار بالإرادتين على القلب
أفتعلمون أيها الصحاب ما هي إرادة قلبي المزدوجة؟ إن الخطر المحدق بي على منحدري إنما هو اتجاه نظري إلى الذروة بينما تتلمس يدي مستنداً في الفضاء. وما أعلق إرادتي إلا على الإنسان فتشدني إليه مرهقات القيود لأنني منجذب منه إلى الإنسان المتفوق فإليه تندفع إرادتي الثانية. إنما أنا أحيا بين الناس كالضرير لا يعرف من حوله، كيلا تفقد يدي ثقتها من الوقوع على مستند مكين
أنا لا أعرفكم، أيها الناس، تلك هي ظلمتي أتلفع بها وتعزيتي ألجأ إليها
فأنا جالس أمام الباب متوجهاً إلى الأوغاد صائحاً بهم: إلي يا من يريد أن يخدعني
إن أول حكمة بشرية أعمل بها هي أن أستسلم لخداع الناس فلا أضطر إلى الوقوف أبداً موقف الحذر لأن في الناس من يخدعون
ولو أنني وقفت هذا الموقف في العالم أكان يتسنى للإنسان أن يثقل منطادي فيمنعه من الانفلات والانطلاق إلى أبعد الآفاق؟
إن إغفالي للحذر إنما هو عناية تسهر علي لإيصالي إلى ما هو مقدور
إذا أنت امتنعت عن الشرب من كل كاس فإنك هالك ظمأ، فإذا أردت أن تبقى طاهراً بين الناس فعليك أن تتعود الاغتسال بالماء القذر
لكم ناجيت قلبي، فقلت له: صبراً أيها القلب الهرم، إنك لم تفلح بهذه النقمة فتنعم بها كأنها نعمة
وهذه حكمتي البشرية الثانية: إنني أداري المغرور بأكثر مما أداري الفحور، لأن الغرور الجريح مبعث كل النائبات، في حين أن العزة الجريحة تستنبت جرحها ما هو خير منها
إذا لم يحسن الممثلون لرواية الحياة أدوارهم فيها فخير لك ألا تشهدها؛ وليس أمهر من أهل الغرور في التمثيل لأنهم يقومون بأدوارهم وكل إرادتهم متجهة إلى اكتساب رضى المشاهدين وإعجابهم، وهم لا يدخرون وسعاً في سبيل خلق شخصيتهم وتمثيلها، لذلك يلذ لي أن أنظر من خلالهم إلى الحياة فهم خير دواء للسوداء. إنني أداري أهل الغرور لأنهم أساة أحزاني المقيمون الإنسان ممثلا أمام عياني
وفوق ذلك فمن له أن يسير الأعماق في تواضع المغرور فأنا أريد له الخير وأشفق عليه بسبب اتضاعه، فهو يريد أن يقتبس منكم ثقته بنفسه متغذياً من نظراتكم، متسولاً الثناء من تصدية أكفكم. إن المغرور ليصدق أكاذيبكم إذا ما أحسنتم إيرادها عنه، فما هو إلا حائر يشك بأعماق نفسه في قيمة نفسه
إذا كانت الفضيلة الحقيقية تجهل ذاتها فالمغرور كذلك لا يعرف شيئاً عن تواضعه
أما حكمتي البشرية الثالثة فقائمة على إنني لا أدع لاستحيائكم سبيلا إلى تنفيري من مشاهدة الأشرار، فأنا أسر بالنظر إلى ما تخلق حرارة الشمس من عجائب المخلوقات كالنمور وأشجار النخل والأفاعي ذوات الأجراس. ولكم بين الناس مثل هذه المخلوقات العجيبة أفقستها حرارة الشمس أيضاً، وفي الأشرار أيضاً من البدائع الشيء الكثير. . .
إن أوفركم عقلا لا يبلغ في نظري منتهى الحكمة، كذلك لا أرى الشر إلا مبالغاً في وصفه. ولكم تساءلت مشككا: لماذا لا تزال الأفاعي تطن بأجراسها؟
إن لكل شيء مستقبله حتى الشرور، فالظهيرة البالغة التناهي في إشراقها لم تنكشف للإنسان حتى اليوم. لكم من أمور تعتبر شروراً في هذا الزمان وهي لا تتجاوز الثلاث عشرة قدماً حجماً، ولا الثلاثة أشهر بقاء، وغداً سيولد ما هو أعظم منها. ولا بد من أن تخلق الحياة التنين المتفوق خليقاً بالإنسان المتفوق، فان شموساً محرقة ستدخل حرارة الإبداع في الغابات الغضة الرطبة لم تمسسها يد بعد
لا بد من أن تصبح وحوشكم نموراً وعقاربكم تماسيح، فيجد القناص في الغاب ما يرضيه
والحق أن فيكم كثيراً من المضحكات يا رجال العدل والصلاح. ولشد ما يضحكني خوفكم ممن دعوتموه إبليساً. لقد بعد المجال بين روحكم وكل عظيم، فإذا ما لاح لكم الإنسان المتفوق بصلاحه أورثكم خوفاً ورعباً. فانكم، ايها الحكماء والعلماء، ستولون الأدبار إذا ما
لفحتكم الحكمة المشعة على الإنسان المتفوق في غبطته وعريه.
لقد وقعت عيني عليكم، آيها العظماء، فأدركت هذا السر، وهاأنذا أعلنه لكم، إنكم ستصفون الإنسان المتفوق الذي أنبئكم به بأنه شيطان الشياطين.
أتعبني هؤلاء العظماء، وأشدهم إرهاقاً أوفرهم عظمة، فأنا أتوق إلى اجتياز مرتبتهم فأفوتها وأنا أتجه إلى الإنسان المتفوق
لقد عرتني هزة عندما شاهدت خيار العظماء في عريهم فشعرت بجناحين استنبتهما ساعداي لأحلق بعيداً عنهم في آفاق الدهور الآتية. إنني أتوجه إلى الدهور البعيدة، إلى الظهيرات الغارقة بأنوار لم يحلم بها الفن من قبل، فهنالك تتجلى الآلهة خجولة من كل ما يقع من حوادث على الأرض.
ليتني أراكم متنكرين، أيها الاخوة والأقرباء، أهل الصلاح والعدل، فتبدون بحللكم وقد نفخها الغرور، وليتني أجلس بينكم متنكراً أنا ايضاً، كيلا أعرف من أنتم ولا أعرف من أنا، لأن هذه آخر حكمة من حكم البشر.
هكذا تكلم زارا. . .
مناجاة.
. .!
حبيبي! إنْ دنا ثغري
…
إلى خدَّيْك لهفاناَ. . .
فلا تغضَبْ! فقد يُغرى الْ
…
هوى باللثم أحياناَ!
وما ذنبي إذا ما كن
…
تُ في وجدي مِنَ الناسِ؟!
هو الحبُّ! وما في الحبِّ (م)
…
يا فتَّانُ مِن باسِ
فقم نمرح مع الأطيا
…
ر إنَّ الله يرعاناَ!
وبادِلْني - فداك الرُّو
…
ح - أنفاساً بأنفاسِ!
حبيبي! نم على كَفِّي
…
لأروي العين مِن حُسْنِكْ!
وأسقي روُحيَ الظَّمْأَى
…
إلى الأنوار مِن دَنِّكْ!!
وأطوي ساعةً همِّي
…
وآلامي وأكدارِي
وأحيا بين أحلامي
…
وأنغامي وأشعاري
وترنو ساعةً عينا
…
يَ في صَمْتٍ إلى عَيْنِكْ!
وثغري خاشِعُ يمُلىِ
…
على أذْنَيْكِ أسْرَارِي!
حبيبي! هاتِ لي وحدِي
…
رحيق الخلْدِ مِن ثغرِكْ!
ودعني ارشف الألحا
…
ن والأشواق مِن شَعرِكْ!!
لأهدِي نفسِيَ الحيْرى
…
واروِي قلبيَ الصَّادِيَ
وأسْتاَفُ الصَّباَبة والْ
…
هوى مِن نورك الهادِي!
عشقتُ الحسْنَ فيكَ وما
…
عَشِقْتُ الحسْنَ في غيْرِكْ!!
فهيَّا قم بنا نشدو
…
مع الأطيار في الوادي!
عبدْتُ اللهَ في محِرَا
…
بِ أشواقي وأشجانِي!
وفيما شاهدَتْ عيْنيِ
…
وفيما قال شيطانِي!!
وفي الأطيار والأنها
…
ر والأزهار والعُشْبِ
وفي حِسِّي وفي رُوحِي
…
وفي نفسِي وفي قلبي!
وفي الحسْناءِ أُبْصِرُها
…
فأهواهاَ وتهواني!!
وأنشدها من الأشعا
…
ر ما يوحيه لي حُبِّي!
وداعاً يا هوَى نفسِي
…
عرفْتُ الحبَّ والوَجْدَا!
ومَن تامَتْهٌ غانيةٌ
…
يرى في غَيِّهِ رُشْدَا!
وداعاً! قد وهبْتُ الحبَّ (م)
…
آهاتي وأنفاسي
وأوهامي وأحلامي
…
وتفكيري وإحْسَاسِي!
فدعني! ليس في دُنْياَ
…
يَ ما يُرْجى وما يُهدا!
فلم يترك ليَ المحبو
…
بُ ما أعطيهِ للنَّاسِ!!
(إسكندرية)
محمود السيد شعبان
حظي من الناس!
// لي الله من مستهدف شفَّه السقم
…
فليس له روح يقوم بها جسم
مشت في حياتي والشباب مصاحبي
…
هموم لها في محو آثاره هُّم
حياة يعاف الهامدون صروفها
…
وينكر مسراها به الدم واللحم
لأجمل منها في تجهمه البلى
…
وأحلى مذاقاً من لذاذتها السم
نصيبي من دنياي مالأ أحبه
…
وحظي من أبنائها الكاشح الفدم
وحولي ممن يظهرون لي الرضا
…
قلوبٌ إذا هبت سخائمها سحم
محضت صحابي الأقربين مودتي
…
وباعد عني كيد أعدائي السلم
فمالي أصلي الشدّ في وحدتي وما
…
لقلبي تغشاه الكآبة والغم
وما للآلي في الغيب قد نذر وادمي
…
وجوههم تندى وأحقادهم تنمو
إذا لم يكن غير الرياء خليقة
…
فأجدى لهذا الكون من أهله العقم
ألا أيها الشاكي الذي ليس ينتهي
…
متى ينجلي عن فجر أيامك الوهم
طويت على يأس شبابك كله
…
ولو شئت لم تيأس ولم يرعك السقم
أتشقى بما قالوا ويؤذيك ما لغوا
…
وتشفق من عدوانهم كلما هموا؟
وتجزع إما نال منك معاشر
…
ضئال لهم في كل مخزية سهم؟
عزاءك إن ضافت فؤادك غمة
…
فإِن سمام البغي ترياقها الحلم
وصبرك للأعداء أنفي لكيدهم
…
وشكواك من ظلم اللئيم هي الظلم
(حمص)
رفيق فاخوري
القصص
من أساطير الاغريق
غرام أورورا
للأستاذ دريني خشبة
رأته على رمال الهلسبنت يرتع ويلعب، فوقفت تملأ عينيها وقلبها بجماله، ثم نظرت إليه وهو يداعب البحر المضطرب، ويتواثب فوق عبابه الزاخر، فسحرها قوامه، وفتنتها قسماته، ونسيت أنها ربة الفجر الوردية الهيفاء، وأن من ذكران الآلهة من هو أكثر من هذا الشاب تيتون - بن بريام ملك طروادة - جمالاً وأشد فتنةً وأخلق بحب ربة جميلة لعوب مفتان، مثل أورورا. . . ولكن ماذا يصنع أهل هذا العالم في قلوبهم، ولا سلطان لأحدهم على فؤاده؟ يستوي في ذلك الأرباب وغير الأرباب
لقد كان تيتون يتقلب بين الموج، فتتقلب نفس أورورا في جحيم من الهوى، وتتلظى في سعير من الحب، وتنجذب نحو الفتى الجميل المفتول بكل ما فيها من نورانية وقداسة. . . وكان يبرز من الماء ليستجم على الشاطئ الناعم الوادع، فتكاد تجن به، وتود لو ترشف قطرات الماء التي تنحدر على جسمانه ذي العضل وتتلألأ في ثنايا شعره الأسود الفاحم
وطفقت توسوس لها نفسها المغرمة بالأماني! وتزخرف لها الأحلام، فصممت أن تتكشف له، وتتبرج على مقربة منه، وتدل وتميس، عسى أن تأسر لبه، وتسبئ قلبه، فيسلس قياده، وينخذل فؤاده، دون مشقة أو عناء. . . ولكن تيتون أبى، واستكبر قلبه أن يلين؛ ولم يستطع ذلك المرمر الناصع الذائب في ساقيها، ولا هذا الورد المتفتح في خديها، ولا الأبالسة الراقصة في عينيها وفوق ثدييها، أن ترقق من عناده، أو تنتصر على فؤاده، أو تسكب في نفسه صبابةً أو هوى
- إذن أنت ما تشتهي!
- أشتهي ماذا أيتها الغادة؟ أذهبي فاعرضي مفاتنك الرخيصة على غيري!
- ومن أنت حتى تكلم أورورا ربة الفجر هكذا؟
- أورورا؟ كيف؟ ما يدريني؟
- أجل، أنا أورورا. . . انظر
وأخذت ترف في الهواء، وتسبح في السماء، وتغوص في الماء، وتأتي من آيات الإعجاز ما بهر تيتون
- الصفح إذن يا ربة؟!
- لا صفح إلا أن تهب لي حبك، وتلقي بين يدي قلبك!
- وكيف، وأنا بشري عاجز، ولا ألبث أن أفني في بضع سنين، وهذا أبي الضعيف الشيخ قد خطب لي حسناء من بنات الملوك؟
- (أما أنك عاجز فلا؛ وأما أنك لا تلبث أن تفنى في بضع سنين فسأهبك الخلود، وسيخلعه عليك زيوس سيد الأولب فلا تموت أبداً، بل تحيا كالآلهة إلى لا نهاية الأزل؛ وأما أبوك الضعيف الشيخ فلا أحب إليه من أن يراك في كل ما ذكرت، ولا سيما إذا علم أنني سأكون لك من دون هذه الفتاة التي خطبها لك، والتي لا تلبث أن يخط الشيب رأسها، ويعصر الزمان عودها فتجف، وتذوي، وتحملها أنت كأثقل الأعباء إلى القبر. . . حيث الدود والذباب، والكلاب والذئاب. . .)
- ولكن. . . ألا تأذنين لي في لقاء أبي؟
- لن يكون هذا أبداً. . .
- هذه قسوة يا ربة!
- ستفتنك هذه القسوة بعد قليل
وانطلقت تداعبه وتلاعبه، وتضاربه وتقالبه، حتى زالت عنه وحشته، فأنس إليها، وأقبل بكل مشاعره عليها، واتفقا على الرحيل من فورهما إلى اولمب، فانطلقا يطويان الرحب
- من هذا يا بنية؟
-. . .؟. . .
- صيد جميل، ومجازفة جديدة؛ أليس كذلك؟
- أجل يا أبي، وليست مجازفات أبنائك أروع من مجازفاتك
- مجازفاتي أنا؟ أية مجازفات يا أورورا؟
- مجازفاتك الغرامية التي لا تحصى مع الغيد الرعابيب من عبادك
- أي غيد رعابيب يا أورورا؟ جراءة بالغة!
- لعل الإله الأكبر، سيد الأولمب، قد نسى! على كل حال فسيدة الأولمب حيرا العظيمة لا تنسى. . . لقد شهدتك تلهو مع يو، وتعبث مع لاتونا، وتتساقى كؤوس الغرام مع يوروبا. . و. . . و. . .
- أسكتي. . . إنك ابنة لا خير فيك. . . وماذا تبتغين لهذا الشاب الغرانق الجميل يا أورورا؟
- الخلود. . . الخلود يا أبي. . . ينبغي أن يعيش أبداً. . . لن يموت. . . لن يموت. . . ألا تراه جميلاً يا أبتاه؟ ألا تبهرك منه وسامته وقسامته؟ ألا تنظر إليه كيف هو عبل قوي عبقري سمهري؟ لقد لقيته عند شاطئ الهلسبنت، ورأيته يشق اليم فعلقه قلبي، وهويته نفسي. . . وكان الموج يلفه في أعرافه، ثم يسجد تحت قدميه كأنه يقبلهما، فلما خرج من الماء، رأيت الدنيا كلها تحف به، وتغازله وتناغيه، فلم أر أن يفوز به غيري، ولا أن يستأثر بجماله سواي، وقد رضى أن يتبعني إلى أولمب، فتفضل يا أبتاه وامنحه الخلود، فالموت لمثل هذا الجمال قسوة هائلة، وذبول هذا الحسن شيء مخيف جداً. . . ينبغي أن يعيش إلى الأبد حبيبي تيتون. . . أليس كذلك يا أبي؟ أليس كذلك؟ أليس خليقاً بالخلود كالآلهة؟
وتقدم تيتون فسجد بين يدي سيد الأولمب، وتفضل رب الأرباب فمنحه الخلود. . . وا أسفاه! ألا ليته ما فعل. . . ألا ليته ما فعل؟!
قال زيوس وهو يحدث نفسه:
(أذهبي يا أورورا، سأعذبك بهذا الحبيب، وسأنتقم لكبريائي منك، وسيكون تيتون عبئاً ثقيلاً على قلبك، وسيعيش إلى الأبد بجانبك كما اشتهيت، وسأعلمك كيف تستحبين أن تكلمي أباك كما فعلت. . . فوعزتي وجلالي لأعذبنك بألف حبيب وحبيب!)
وعاشت أورورا مع حبيبها أحسن عيش وأجمله، واستمتعا بسنين كانت أشهى من الأحلام، وأنجبا طفلهما اليافع الجميل ممنون فكان لهما كالقبلة الحلوة فوق ثغر الحياة الباسم
ومرت الأيام، وأورورا جميلة وردية كما هي، لأنها ربة، ولأن قوانين الزمان من قدم وحداثة لا تجوز على الآلهة لأنه لا أول لهم ولا انتهاء؛ فأورورا جميلة دائماً، وردية أبداً لا
يني قلبها يخفق بالحب وينشده، ويهيم بالجمال ويفتقده، ونفسها عاشقة وامقة كذلك، وإن أماني الغرام تجيش في صدرها دواماً، فهي إن خلت إلى حبيبها تيتون ألزمته فنوناً من العزل، وضروباً من النجوى، إذا صبر لها الشباب، واحتملها الصبا، فليس المشيب بصابر لشيء منها، ولا محتمل القليل الأقل من تكاليفها، ولا له جلد على أفانينها
- ما هذه الشعرة البيضاء التي بزغت في سواد شعرك كما تبزغ نجمة الفجر في أخريات الليل يا حبيبي؟
- (أية شعرة بيضاء يا أورورا؟ ربما كانت نذير المشيب يا حبيبتي!
- (المشيب؟! كلمة غريبة لم اسمعها إلا منك! ماذا تعني؟
- آه! أنتم معشر الآلهة لا تعرفون المشيب، أما نحن، معشر البشر، فسرعان ما يذهب صبانا، ويولي شبابنا، فنشيخ ونهرم، وتصبح لنا رؤوس مجللة بشعر أبيض يشبه إبر الشوك، يقول الشعراء إنه نور قبيح يسعى بين أيدي الكهول ليشق لهم ظلام القبور!!
- يا للهول؟ إن هذا الضرب من خيال الشعراء يخيفني!
- اطمئني! أنا باق إلى جنبك آخر الدهر. أليس قد وهبني الخلود سيد الأولمب؟
- بلى! ولكن. . .
- لكن ماذا؟
- هذه الشعرة البيضاء التي قال فيها شعراؤكم ما قالوا؟
- الشعرة البيضاء؟ ما لها هذه الشعرة البيضاء؟ ليست شيئاً ما دام سيد الأولمب قد وهبني الخلود؛ إن الذي أفزع الشعراء من الشيب هو ما ينذر به غروب شمس الحياة!
- ولكن الشعرة البيضاء تنذر بأكثر من هذا؟
- آه! قد فهمت ما يوسوس في صدرك؟ ألم أعد جميلا يا أورورا؟
- بل أنت ما تزال جميلا يا حبيبي.
- إذن لا عليك من هذه الشعرة البيضاء.
وتمتعا سنوات أخريات؛ ولكن الشعرة البيضاء أصبحت شعرات وشعرات، حتى غلب نور المشيب حلك الشباب؛ ولم تعد لطرة تيتون المصفوفة تلك النضارة وهذه اللمعة، وذلك السحر الذي كان يرف مع النسيم على جبينه المشرق الناصع فيثير الغرام في قلوب
العذارى. . . بل حال لونها الأسود الفاحم، ونبت فيها قتاد شائك تنفشه الرياح على جبين متغضن بآسر ذي أسارير، يبعث الرهبة في أفئدة العفاريت!
- تيتون!
- نعم يا حبيبتي!
- لا! لا! لا تناديني بهذا النداء.
- ولمه؟
- لم يعد يصلح. . . لقد اشتعل رأسك شيباً، وتغضن جبينك، وترهل خداك وبرزت عظامهما، وغارت عيناك جداً وانطفأ فيهما بريق الشباب الغض، والصبي الغريض. وعضلاتك لقد عصرتها السنون يا تيتون! وي! مالك تنحني هكذا؟ هل ضاعت منك درة ثمينة، فأنت تبحث في أديم الأرض بعكازك هذا الغليظ؟ آه! بل ضاع منك شبابك أيها الشيخ الهرم فأنت تبحث عنه في هذا الثرى!
- حسبك يا أورورا. . . حسبك يا ربة!
- (لا، أبداً، ليس حسبي، أغرب عني أيها المسخ الشائه ظل في عقر الدار حتى أرتد إليك!!
وانطلقت ربة الفجر الوردية غاضبة صاخبة، وذهبت تطوي الفيافي وتهيم في الرحب، حتى كانت من غير قصد عند شاطئ الهسبنت، حيث لقيت لأول مرة حبيبها الجميل الشاب تيتون أبن بريام ملك طروادة، منذ نصف قرن من الزمان!! أواه تيتون!! يا للذكريات الحلوة التي تطيف بالقلب كما تطيف أطيب الأحلام بعيني نائم!! هنا، على رمال ذلك الشاطئ الهادئ، وبين طيات ذلك الموج الذي يبدو كأنه لم يتغير، رأت أورورا الوردية تيتون البارع، وشعره الأسود الفاحم يتهدل على جبينه الوضاح، ثم لا يلبث أن يستوي حين تمر عليه أمشاط الأمواج. وهنا. . . ثارت عاصفة الغرام القديم في قلب ربة الفجر الوردية لأول مرة، وشب لظى الحب ملء جوانحها. . . وفوق هذه الرمال السافيات تكتشف أورورا لتيتون الفتى لتخلب لبه وتملك عليه قلبه، ولكنها ما استطاعت إلى ذلك من سبيل، حتى تقلبت تحت قدميه، وتبرجت بين يديه، فرضى ما عرضت عليه، وانطلق معها إلى أولمب! فما لها اليوم غاضبة على تيتون؟
مشت على شاطئ غرامها الأول فثارت في فؤادها الذكريات وأرسلت عينيها تفتش بين طيات الموج الجياش عن تلك الصورة الحبيبة الرائعة، التي تطفو هناك. . . هناك فوق ذاك الثبج كحلم جميل. . . صورة تيتون وهو يصطرع مع اليم فيصرعه، ويغالب اللجة فينتصر عليها. . . ثم جلست على صخرة مشرفة على البحر الممتلئ بالذكريات. . . وطفقت تبكي!
لا ريب أنها عنفت نفسها على ما صنعت أمس مع تيتون! ما ذنبه؟ ما جريرته؟ بأي حق تنعى عليه شيبته ولا يد له فيها؟ ولماذا تخزه بقوارص الكلام لأن جبينه تغضن وأمتلأ بأسارير الكبر؟ ولماذا تعيب عليه عينيه الغائرتين المنطفئتين؟ ولم تذكره بشبابه وتتهكم عليه فتقول له إنه يبحث عنه بعكازة في التراب؟
لا ريب أنها كانت قاسية، ولا ريب أنها لامت نفسها، لأن كل تلك الأفكار ترددت في أعماقها؛ وقد سألت روحها المتألمة ألف سؤال فلم تستطع أن تراها محقة فيما صنعت. . .
وعادت أورورا أدراجها إلى تيتون البائس الهرم فهشت له وبشت، وراحت تملق له، وتتحايل على قلبها ترجو لو تستطيع ن تخدعه فيسيغ هذه الكومة المتراكمة من القبح والشوه والدمامة؛ قبعت في ركن سحيق تحمل أوضار السنين وتنوء بكارثات الليالي
ولبثت تتغفل نفسها بضع سنين؛ ولكن للآلهة كما للبشر قوة محدودة من الاحتمال، ومدى غير واسع من الصبر؛ وقد جاهدت أورورا نفسها مجاهدة طويلة شاقة، عادت بعدها إلى التبرم بتيتون، والضيق بشيخوخته الثقيلة، والنقمة على تلك اللحظة الأسيفة التي لقيته فيها، ونوبة الجنون التي جعلتها تتورط لدى سيد الأولمب فتسأله أن يهب حبيبها نعمة الخلود
- وفيم كل هذا الحزن يا أختاه؟
- وما العمل للخلاص منه؟
- أنت المخطئة، ذلك لا ريب فيه
- مخطئة! وكيف؟ هل كنت علمدة أن أقصد إلى الهلسبنت لأراه ثمة؟
- أبداً وليس هذا ما عنيت
- إذن كيف كنت مخطئة؟
لأنك سألت سيد الأولمب أن يهب حبيبك الخلود، ونسيت أن تسأليه أن يديم له شبابه،
ويحفظ عليه صباه. إذن كنت تمتعت بجماله الفتان أبد الحياة!! أليس كذلك يا أورورا؟
- بلى، هو ذاك ولكن. . . لقد سبق السيف العذل!
- على كل حال هناك من هو أجمل من تيتون فلا تبتئسي
- أجمل من تيتون؟ وكيف الخلاص من تيتون قبل كل شيء؟
- (لا أيسر من ذلك، إسحريه!
- أسحره؟! آه، أسحره؟ فكرة يا أختاه! ولكن من هو هذا الشاب الوسيم الذي عنيت أنه أجمل من تيتون؟
- وي! لابد من صيد آخر قبل أن تطلقي سراح الصيد القديم؟!
- لا بد يا أختاه لابد؟
- إذن فاذهبي إلى جبل هيماتوس حيث يرعى سيفالوس الجميل قطعانه!
- (ثم. . .؟
- ثم عودي فاسحري تيتون واخلصي منه!
- وماذا ترين أن أسحره إليه؟
- إنه عجوز هرم يدب على عكاز. . . ألا تسحرينه (نطاطا)؟
- بلى! فكرة أخرى نابغة يا أختاه!
ولقيت أورورا حبيبها الجديد سيفالوس الراعي فهويته وشغفته حبا؛ أما تيتون فيا ويحه، ويا ويح للعشاق من قلوب العذارى!
إنه ما يزال إلى اليوم يثب مع آلاف الجنادب في الحقول والغيطان بعد إذ سحرته أورورا
دريني خشبة
البريد الأدبي
مصاير تراث أسبانيا الفني
ماذا كان مصير ذخائر أسبانيا الفنية بعد عام من حرب أهلية طاحنة سحقت في طريقها كل شيء؟ لقد أثار مصير هذا التراث الفني العظيم جزع جميع الدوائر العلمية والفنية في جميع أنحاء العالم، وهو جزع من حقنا أن نشاطر فيه بنوع خاص؛ ذلك أن بين هذا التراث آثار وذخائر إسلامية عزيزة هي البقية الأخيرة من ذكريات الأندلس الإسلامية. وقد رأت حكومة الجمهورية الأسبانية إزاء هذا الجزع أن تدعو العلامة الأثري الإنكليزي السير فريدريك كنيون إلى إسبانيا ليتحقق بنفسه مما بذلته الحكومة من جهود عظيمة لصون هذا التراث؛ فاستجاب السير كنيون إلى هذه الدعوة وطاف أياماً بمدريد وبلنسية، وعاين الأماكن التي نقلت إليها المخطوطات والصور والتحف الفنية، ونشر نتائج تحقيقه في جريدة التيمس. وخلاصتها أن الحكومة الجمهورية قد استطاعت أن تنقذ معظم تراث أسبانيا الفني، وان مجموعة قصر (برادو) التي ظن أنها أتلفت، وهي من أعظم المجموعات الفنية قد نقلت على عجل إلى بلنسية، وحفظت في قلعتها المنيعة في صناديق غير قابلة للحريق؛ وحفظت مجموعة البسط والمنسوجات الملكية أيضاً في أحد أبراج القلعة، ومنها عدة من مجموعة الدوق ألبا الشهيرة. أما مجموعة الأسكوريال من الكتب والمخطوطات، وهي التي تضم بينها المكتبة العربية الأندلسية، فقد نقل منها نحو ألف مخطوط إلى بلنسية؛ ونقل إليها أيضاً مجموعة كبيرة من نفائس المكتبة الوطنية، وحفظت باقي الكتب والمخطوطات بمدريد في مستودعات أمينة أحيطت بجميع الوسائل الممكنة للصيانة والإنقاذ. ومن ذلك يتضح أن جميع محتويات مكتبة الأسكوريال الشهيرة، ومنها المجموعة العربية الأندلسية التي تضم نحو ستة آلاف وخمسمائة مخطوط عربي قد أنقذت من ويلات الحرب، وحفظت سليمة إلى اليوم، وذلك بالطبع يثلج صدر كل عربي وكل مسلم
ولا زالت مجموعة كبيرة من الصور تحفظ بقصر (برادو) غير تلك التي نقلت إلى بلنسية وفيها كثير مما حمل من قصر الأسكوريال؛ ونقلت مجموعة كبيرة من الذخائر المختلفة من صور وتحف خزفية وأثاث وتماثيل إلى أقبية المتحف الأثري، وإلى أقبية كنيسة سان
فرنسيسكو، وهي وإن لم تنظم وتصنف فان كل قطعة منها تحمل تعريفها
أما مجموعة الدوق ألبا الشهيرة فقد أصابها بعض التلف، وقد هدم قصر الدوق ألبا المسمى قصر (ليريا)، ولكن أنقذت معظم محتوياته ونقلت مجموعة الصور إلى بلنسية، وكذلك الأواني الذهبية والفضية، والبسط الثمينة. أما المكتبة فقد أنقذت أيضاً ونقلت إلى دار البلدية، وكذلك نقل إليها عدة من قطع الأثاث التي أمكن إنقاذها
وأما مجموعة طليطلة فليس يعرف مصيرها؛ وقد نقلت الحكومة بعضها مما كان في الكنيسة الكبرى قبل إخلائها، ولكنها تركت الباقي ومنها صور جريكو وإنجيل سان لويس الشهير وغيرها، ولا يعرف ماذا أصاب هذه الذخائر بعد استيلاء الثوار عليها
صور بالفرنسية من الحياة المصرية الشعبية
من الآثار التي أخرجتها أخيراً بالفرنسية أقلام مصرية كتاب للسيدة قوت القلوب هانم الدمرداشية عنوانه (الحريم) وقد أصدرته دار النشر الفرنسية (جايمار) ضمن المجموعة التي يشرف على إصدارها الكاتب الكبير بول موران؛ ومهد له بول موران نفسه بمقدمة جميلة نوه فيها بما يحتويه الكتاب من صور ساحرة تطبعها البساطة، وتمثل في ألوان زاهية طرفاً من الحياة المصرية في المجتمعات الشعبية؛ ويقول لنا بول موران في خاتمة كلمته إن هذه الصور التي استخرجت من روائع مصر المضطرمة تبعث إلى النفس متاعاً وحرارة وتقترب منا، وتلمح فيها من خلال النسمات الساحرة أن شمسها هي شمسنا: شمس البحر الأبيض المتوسط)
أما الصور التي يقدمها بول موران إلى قرائه فهي: شم النسيم. عقد الزواج. ليلة الحناء. ميلاد. طلاق. قهوة الهانم. ليلة من ليالي رمضان. العيد. ليلة في القرافة. يوم الأضحى. العودة من الحج. سوق البطيخ. مقهى في مصر القديمة. الذكر في جامع سيدي المغربي. المدير في القرية. . . وغيرها وهي صور مألوفة لنا نعرف جميعاً كيف تدور في أوساطنا الشعبية؛ ولكن الطريف هو أن هذه الصور تقدم إلينا بالفرنسية في ألوان أخرى يرى فيها القارئ الغربي متاعاً خاصاً قد لا تسبغه عليها صورها الأصلية؛ وتقدم إلينا المؤلفة هذه الصور المختارة من الحياة المصرية الشعبية بأسلوب بسيط، ولكنه لاذع في مواطن كثيرة ينم عن تمكنها من تفاصيل هذه الصور، وتذوقها لروح هذه التقاليد الغربية التي أخذت
تختفي شيئاً فشيئاً من الحياة المصرية. وإذا كان ثمة ما يبعث إلى الأسف فهو أننا لم نوفق بعد إلى إخراج صور من حياتنا الشعبية باللغة العربية تنبو عن ذلك الابتذال الذي يقترن بتصويرها عادة، وتنفث ذلك الروح اللاذع الذي يسبغه عليها الطابع الأجنبي
آراء جديدة في التربية للكاتب ولز
عقد أخيراً في إنكلترا مؤتمر للتربية برياسة الكاتب الباحث الاجتماعي الشهير هـ. ج. ولز، بسط فيه آراءه في التربية، وهي آراء طريفة خلاصتها أن المواد التي تدرس للنشء يمكن تقسيمها إلى قسمين: قسم يعمل لتكوين الذهن البشري، وقسم لتلقين المعارف. ويرى ولز أنه يجب أن يخصص للقسم الأول ثلاثة أرباع الوقت. ويحمل ولز على نظم التعليم الحاضرة، وخصوصاً في تعليم التاريخ والجغرافيا ويرى من السخف أن تحشد في رؤوس التلاميذ أسماء الأنهار والجبال والمدن، وقصص حب الملوك والملكات والمعارك الحربية السخيفة على النحو الذي تلقى به. ومن رأيه أن تعليم التاريخ يجب أن يدور حول تاريخ النوع البشري، وما وفق إليه الذهن البشري من الاختراعات العظيمة وتأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية في حياة المجتمع؛ أما التاريخ القومي الذي يتخذ اليوم أداة لبث الدعايات المختلفة فيجب أن يكون قطعة من التاريخ العام. ومن العبث أن يحكم على الماضي لصالح الحاضر، أو على الحاضر لصالح الماضي كما هو الشأن اليوم في معظم الدراسات
ولآراء ولز في تعليم التاريخ قيمة خاصة لأنه أستاذ هذه المادة وقد سبق أن عالجها في فرص كثيرة، وكتابه الشهير في خلاصة تاريخ العالم يتأثر بهذا الاتجاه الجديد الذي يريد أن يسير فيه تعليم التاريخ
علم أوراق البردي
دارت في مؤتمر أوراق البردي الدولي الذي عقد أخيراً في اكسفورد مناقشة حول تعريف (علم البردي)(بابيرولوجي) فذكر العلامة السير كنيون أنه يشك في وجود علم حقيقي يمكن أن يطلق عليه هذا الاسم، وأنه من الواجب أن نعترف بأنه لا يوجد مثل هذا العلم، أو أنه إذا وجد فهو علم محدود المدى. وعلم البردي هو العلم الذي يبحث في جميع الكتابات التي تلقيناها على صفحات البردي؛ والمبرر الوحيد لمعاملته كوحدة علمية خاصة هو أن النقوش
التي تلقيناها تتعلق في جميع الأحوال إما بزمن خاص أو موضوع خاص أو بهما معاً. ولقد تلقينا عن طريق البردي معلومات عن الإنجيل والتوراة هي أقدم معلومات من نوعها؛ وقد ألقت ضياء على تاريخ الكتب المقدسة في عصور مظلمة جداً، وردت كثيراً من النصوص إلى أصولها، وأثبتت أن الفساد لم يتطرق إلى النصوص أيام العصر البيزنطي فقط. كذلك تلقينا عن طريق البردي معلومات كثيرة عن الكتابات اليونانية، وتلقينا عن طريقها معلومات نفيسة عن مصر الفرعونية خلال عصر يربي على ألف عام.
والسير كنيون هو أعظم العلماء الأخصائيين في مباحث البردي، وقد بدأ مباحثه فيها منذ نحو خمسين عاماً. ومؤتمر البردي المشار إليه هو الخامس من نوعه. وقد شهده مائة وخمسون عالماً من جميع الأنحاء.
من خطبة واصف غالي باشا الثانية في عصبة الأمم دفاعا عن
فلسطين
(إني أشترك من صميم فؤادي مع مندوب نروج في الثناء على مهمة عصبة الأمم وعلى أعمال الدول المنتدبة في مختلف البلدان الواقعة تحت الانتداب، كما أني أقدر الخدمات الجليلة التي يقدمها الذكاء اليهودي للعالم في جميع ميادين النشاط البشري، ولكني لا أكتم أسفي لأن الخدم التي أداها العرب للحضارة عامة وللحضارة الأوربية بنوع خاص أهمل أمرها ولم ينوه بها التنويه الكافي)
(وأنا لا أريد أن أتوغل في هذا البحث ولكني أقول على سبيل التذكير إن أوربا في القرون الوسطى لم تطلع على آثار اليونانيين إلا من التراجم العربية، وإن الفلاسفة والشعراء العرب أثروا تأثيراً عظيماً في الفلسفة والشعر في أوربا الجنوبية، وإن تأثير الفروسية عند العرب في أخلاق القرون الوسطى التي كانت جافية في أول الأمر ساعد على تهذيبها وتثقيفها وتجميلها)
استخدام اللغة العربية في الإذاعة الدولية
من أخبار جنيف أن سكرتارية عصبة الأمم العامة ستدرس في آخر الدورة كيفية استخدام اللغة العربية في نشرات الإذاعة اللاسلكية التي تهم التعاون الفكري، وقد وافقت اللجنة
بالإجماع على استخدام اللغة العربية، على أن هناك حاجة للقول بأن الأموال المرصودة في ميزانية السنة الحالية لا تساعد على نشرات الإذاعة اللاسلكية في مدى كبير، ولكن السكرتارية مصممة تصميما صادقاً على أن تبدأ في تنفيذ القرار وستخصص مبلغاً لهذه الغاية. والبعض يأمل في أن تعطى مصر إعانة مالية كبيرة للبدء في الدعاية التامة.
والإذاعة باللغة العربية فرض أساسي على مصر لأنها أكبر وأغنى البلاد التي تتكلم هذه اللغة. ومع ذلك فمن العدل أن تشترك في ذلك جميع البلدان التي يهمها الأمر بما تسمح به وسائلها المادية
وواجب كذلك على البلدان الأوربية الكبيرة التي لها عدد كبير من الرعايا العرب، كما أنه واجب على البلدان العربية الأخرى التي هي من أعضاء أو من غير أعضاء عصبة الأمم أن تساهم في هذا العمل، فمسألة التعاون الفكري متعلقة لا بالبلدان التي هي أعضاء في عصبة الأمم، بل بجميع البلدان
إلى سيدي الأستاذ الزيات
أشكر لك رأيك فيما كتبت من مقالات عن فقيد الأدب العربي المرحوم مصطفى صادق الرافعي، وأعتذر من عدم استطاعتي تقديم شيء لهذا العدد والعدد السابق؛ وأنت أعلم بما علي من واجبات ثقال في هذه الأيام تحول بيني وبين كثير مما أحب، وأعد بأن أرسل الجزء التاسع من هذه المقالات للعدد الآتي؛ وأرجو أن تتهيأ لي الظروف التي تعينني على الاستمرار في كتابة تاريخ الرافعي وفاء للرجل الذي وقف حياته للدفاع عن الإسلام والعربية، فلما مات أوشك أن ينساه من المسلمين والعرب إلا قليل من أهل الوفاء. والسلام عليكم ورحمة الله. . .
(شبرا)
محمد سعيد العريان
وفاة الأستاذ كابيتان
توفي الأستاذ هنري كابيتان العضو في المعهد الفرنسي والأستاذ في كلية الحقوق بباريس، والأستاذ كابيتان معروف لدى كثير من المصريين الذين تلقوا علومهم في كلية الحقوق
بباريس، حيث كان الفقيد يدرس القانون المدني منذ سنين طويلة. وقد توفي عن 72 عاماً. وكان إلى جانب عضويته في المعهد، عضواً في أكاديمية العلوم الأدبية والسياسية والمجلس الأعلى للمعارف، كما كان يمثل فرنسا في الهيئة الدولية لتوحيد القانون الخاص. وللفقيد مؤلفات قانونية كثيرة جلها خاص بالقانون المدني، وله في (سبب الالتزام) نظرية معروفة.
وكان الأستاذ كابيتان رئيساً للجنة الامتحانات التي جاءت السنة الماضية لامتحان طلبة مدرسة الحقوق الفرنسية في القاهرة وقد طلب من الأستاذ كابيتان حينذاك الإسراع بالعودة إلى باريس بسبب وفاة نجله.
رواية المصدور
تأليف الأستاذ كرم ملحم كرم
للسيد جورج سلستي
أطلت القصة الحديثة على الأدب العربي مستحيرة الوضاءة مكتملة العناصر والتكوين، فهفت إليها الأبصار هفوها إلى الجمال المتألق الضاحي، وتعلقتها الأفكار تعلقها للجديد المستطرف الأخاذ، وتشربتها النفوس بلذة وشغف؛ ونفوس الأدباء أبداً ظمأى للخمرة العلوية يترع الفن بها أقدامهم فيعبون منها ولا يرتوون
والقصة اليوم - وهي تتبوأ الذروة في الأدب - رسالة من رسالات الفكر النير يزفها هدى للناس فنان ملهم، ومشعل من مشاعل الثقافة الشاملة يحمله للورى عبقري فذ؛ رسالة تمشي بالناس نحو هدف من أهداف الإنسانية الكبرى، ومشعل ينير لهم من خفايا نفوسهم ما يجهلون.
فلا غرو إذن - وللقصة هذا المقام الرفيع - إن رأينا أدباءنا يعالجون فنها الساحر على ضوء النظريات الحديثة، ويقدمونها للقراء نتاج ما وصلت إليه قرائحهم من قدرة على تفهم أسرار النفس البشرية الغامضة، واستطاعة على الإبانة عن الشعور بالحق والحب والجمال.
والأستاذ كرم ملحم كرم استهوته القصة وهو أديب ناشئ طرير العود، وقد طلع على الناس بمجلته الروائية الأسبوعية (ألف ليلة وليلة) وهو محرر في جريدة (الأحرار) فعرفنا به أول أديب في قطر الشام وقف جهوده كلها في سبيل الفن الروائي. وهو لا يزال منذ عشر سنوات خلت حتى اليوم يتحف الأدب بروايات شائقة جلها يمت إلى القصص العالي الرفيع، ولا سيما الموضوعة فقد بلغ الكثير منها في الحوار والتحليل وسرد الوقائع شأواً بعيداً في الجودة
و (المصدور) قصة إنسانية، وقائعها مستمدة من صميم الحياة، محورها الحب الشهيد وقطبها العاطفة المقهورة، تتلخص في أن طالباً من أبناء الموسرين هام بحب قروية عذراء أهلها خدم في أملاك أبيه في ضواحي المدينة، وهامت هي به كذلك دون أن يأبها الهوة السحيقة التي تفصل بين مقاميهما. وعاهدها على الزواج مهما اعترضته العراقيل،
وعاهدته على الوفاء حتى الموت
وهنا يبدأ النضال الشريف في سبيل الحب الطاهر الوثيق بين القلبين الكبيرين، ومن هنا تبدأ الآلام النفسانية المرهقة التي لا تنتهي إلا بمأساة فاجعة
فأهل الحبيب المعمود لم يكادوا يدرون بما يتأجج في فؤاده من هوى مبرح لربيبة نعمتهم حتى ثارت ثائرتهم، وحتى راحوا ينهون فتاهم عن هذا الحب الأعمى الغرار تارة باللطف والحسنى، وطوراً بالتهديد والوعيد، وحتى حالوا بينه وبين تردده على أملاك أبيه في (نهر الكلب) مسرح حبه ومرتع أمانيه
وأهل الفتاة الولهى ما علموا بهوى ابنتهم لابن سيدهم ومولاهم حتى خشوا أن تحل بهم النكبات من جراء هذا الحب المتهور الطائش، ويطردهم أسيادهم من المزرعة التي صرفوا فيها سني حياتهم الهانئة على ما فيها من عناء ووصب، فزجروا الفتاة وعنفوها وزينوا لها حب أبناء القرى العف البريء من المآثم، ونعوا عليها حب أبناء المدن المتقلب الأرعن المليء بالجرائم، فما كانت لترعوى عن غيها في رأيهم وضلالها
ورأى الأهل جميعاً أن يلجئوا إلى الحيلة والإكراه فأوهموا الفتاة أن ابن سيدها الذي تجرأت فرفعت إلى عليائه عينيها الخاطئتين قد تزوج ولم يعبأ بوعوده لها ولا بعهوده، وأرغموها على خطبة من لا ينبض بحبه فؤادها الموله، فاسودت في نظرها الحياة، وآثرت أن تترهب على أن تزف لغير الحبيب ففرت إلى الدير بعد أن وضعت بعض ثيابها على ضفة النهر في يوم عاصف الأنواء لتوهم أهلها أنها انتحرت
وضللوا الفتى، فقالوا له إن فتاته خطبت إلى فتى من بيئتها أليق بها منه وأنها ستتزوج في العاجل بعد قليل، وأنها سعيدة كل السعادة في حبها الجديد لخطيبها الفلاح
وحتموا عليه أن يتزوج بالفتاة التي انتقوها له لينعم، فرضخ لإرادتهم القاهرة وبنى بابنة بيت رفيع العماد ليشقى!
ولم يلبث أن عاف زوجته واجتوى منزله، وراح ينفق ماله ويبذل شبابه بين الأقداح والغواني لينسى حبه الشهيد البكر، فهزل جسمه وانكفأ لونه من الإدمان في الشراب والإسراف في طلب الهوى الأثيم؛ وما زال كذلك حتى عراه السقام، وعشش في صدره السل الوبىء
في مصح ظهر الباشق بلبنان التقى الحبيبان على غير ميعاد بعد طول البعاد لقاءً مراً على حلاوته الظاهرة، فتى ينفث رئتيه، وراهبة نذرت نفسها لله تعتني بالمرضى من عباده البائسين. فآسته بحنانها في أيامه القلائل المعدودات؛ وبين يديها الطاهرتين، وعلى مرأى من الأبوين الجانيين، فاضت روحه إلى باريها تشكو جور الآباء وجنايتهم على الأبناء
هذه هي القصة بظاهرها، وهذا هو هيكلها؛ أما روحها، أما التحليل الدقيق لنفسيات أبطالها، أما المواقف الغرامية العذرية، وأما ما يتخللها من مفاجآت حادة عنيفة ولطيفة رفيقة معاً، وأما السبك المتين والوصف الأنيق، فهذا ما ملأ به الأستاذ كرم مائتي صفحة تقرأها مندفعاً وأنت تود ألا تنتهي؛ وهذا ما أود من القراء الكرام أن يستمتعوا بمطالعته مثلي، وينعموا في لذة قراءته كما نعمت، فليس الخبر كالخبر، ولا السماع كالنظر
قوام القصة اليوم المقدرة على سرد الحوادث في حينها وعلى تحليل أبطالها تحليلاً نفسانياً متقناً وعلى الإبانة عن هذين العنصرين الرئيسيين - السرد والتحليل - بالأسلوب الشائق الممتع، واللغة الصحيحة الفصيحة من غير ركاكة ولا إسفاف
والأستاذ كرم لم تغب عنه هذه الحقائق عندما كتب (المصدور) فوضعها نصب عينيه فوفق بذلك إلى حد بعيد
وإن يكن من شيء آخذه عليه في هذا الصدد فهو صورة زوجة شفيق بطل القصة؛ فقد جاءت مشوهة لا يرضى عنها الذوق الفني.
فشفيق مال بعد زواجه القهري إلى الدعارة والشراب يدفن فيهما إخفاقه وآلامه، وهذه. ثورة من ثورات النفس الجامحة، ونزوة من نزوات اليأس القاتل التي تجتاح من كان مثل شفيق وفي حالته، ولكن ما بال زوجته تنحدر إلى مثل هوته وهي التي لم ترغم على الزواج منه كما أرغم هو؟ وما بالها تتمرغ في مثل حمأته وقد بنت به بمطلق رضاها.
أما الأسلوب في القصة فشائق جذاب، ولغته متينة عالية وألفاظه عذبة منتقاة وليس فيها من الخطأ اللغوي إلا النزر اليسير
وما كنا نرغب أن نتعرض لذكرها لولا ضننا بهذا السفر النفيس أن تعلق به أمثال هذه الهنات.
قال المؤلف: (حازت منها نظرة دميعة) وصوابها: دمع أو دمعة يقال: امرأة دمعة ودمع
بغيرها إذا كانت غزيرة دمع العين ورجل دميع.
(الحب البئيس) صوابها: البائس من بئس الرجل إذا نزل به عدم أو بلية يرمم لها؛ وأما البئيس فمن بؤس الرجل إذا اشتدت جرأته فان كان هذا مراده فلا غبار عليها.
(العيش المرير) صوابها: العيش المر.
(نواحها الفجيع) صوابها: الفجوع من صيغ المبالغة أي الكثير اللهفة والأسف أو فاجع اسم الفاعل.
(زوجها المجندل أمام الموقد) صوابها: المجدل بتشديد الدال ومعناها المصروع على الجدالة من جدل الفارس قرنه أي رماه على الأرض الصلبة.
على أن أمثال هذه الهفوات اليسيرة لا تذهب برونق الكتاب ولا تنقص من قيمته. ويقيننا أن كرماً سيتداركها في الطبعة التالية إن شاء الله.
جورج سلستي