الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 222
- بتاريخ: 04 - 10 - 1937
مقتضيات الحروب الحديثة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كانت الحرب في الأزمنة القديمة لا تدور أرحاؤها إلا بين الجيوش: أي بين الجماعات المجعولة للقتال والمدربة عليه ولا عمل لها في الحياة إلا هذا؛ ومتى غلب جيش جيشاً وألحق به هزيمة تضعضعه وتمنع أن تكون له قدرة على الكر انتهى الأمر ووضعت الحرب أوزارها وسلم المغلوب للغالب بما تفرضه القوة الراجحة. ولكن الحال اختلفت في عصرنا هذا وصارت الحرب صراعاً بين الأمم والشعوب لا بين الجيوش المحترفة وحدها؛ وهذا بعض ما أفضى إليه التقدم الآلي في النواحي المختلفة. فلم تعد الجيوش وحدها تكفي، ولم يبق من الممكن الاجتزاء بها والتعويل عليها وحدها كما كان الحال في العصور الغابرة، بل صارت الحالة تدعو إلى إعداد الأمة كلها للحرب وتدريب كل فرد من أفرادها على فنونها وتهيئته لما تقتضيه حاجاتها ومطالبها؛ وما نرى من عناية الدول المختلفة بأن ينشأ شبانها نشأة عسكرية من الصغر وتدريبهم على الحركات الحربية واستعمال أدوات القتال البرية والبحرية والجوية لتكون منهم للدولة ذخيرة تستمد منها وتعتمد عليها إذا وقعت الواقعة. وقد توسعت الدول في هذا الاستعداد حتى امتد الأمر إلى المرأة، فالطالبات أيضاً لهن فرق يتعلمن هذه الحركات العسكرية ويحملن البنادق ويتدربن على تسديدها إلى الأهداف وعلى مشقات الحياة في الخنادق فضلا عن واجبات التمريض والصناعات اللازمة للحرب مثل الذخيرة وما إلى ذلك؛ وهو توسع في الأهبة لا حيلة فيه ولا مفر منه إذا شاءت الأمة أن تأمن وتطمئن بعد أن صار من السهل أن يتخطى العدو الجيوش الراصدة له وأن يمطر القرى والمدن وابلاً من القنابل المخربة والغازات الفتاكة. وبعد أن أصبح كل شيء وكل مكان صالحاً لأن يكون غرضاً للعدو وميدان للقتال
ولم يسع الأمم العربية والشرقية إلا أن تحتذي هذا المثال، وإلا أن تنسج على ذلك المنوال. ففي تركيا تتدرب الفتيات كما يتدرب الفتيان على أساليب الحرب وآلاتها بلا فرق. وفي العراق أدخل التعليم العسكري في المدارس الثانوية، فكل طالب فيها يتلقى هذا التعليم كما يتلقى غيره من العلوم والمعارف المدنية في الساحات المجعولة لذلك؛ وقد سميت فرق الطلبة:(فرق الفتوة). وكنا قد شرعنا في مثل ذلك في مصر ولكن على غير نهج مقرر أو
خطة مرسومة معروفة الوسائل والغايات؛ وذلك أن الجامعة رأت في العام الماضي أن تعنى بالتربية الرياضية وألبست الطلبة أردية خاصة واستقدمت لتدريبهم رجالاً من رجال الجندية، ورغبت في تدريبهم على استعمال البنادق فاستأذنت أولي الأمر، وقيل أنهم أذنوا، ولكنا لم نر أثراً لهذا الإذن، وكان ذلك ختام ما بدأته الجامعة
أما في هذا العام فإن المرجو والمنتظر أن يكون هذا الأمر جدا، أو هو ينبغي أن يكون كذلك. وقد طلبت البعثة العسكرية البريطانية التي جيء بها لتدريب الجيش المصري إدخال التعليم العسكري في المدارس الثانوية وفي الجامعة على الأخص. ولا غرابة في هذا الطلب أو الاقتراح، فإن البعثة تدرك أدق ما يقتضيه التطور الحديث في الحرب ومطالبها، فإن الجيوش لا تكفي ولا غناء لها - مهما بلغ من ضخامتها ووفاء عدتها ووفرة أسلحتها - ولا مهرب من أن تكون الأمة كلها جيشاً عند الحاجة بعد أن انتفى الفرق من حيث التعرض لحملات العدو بين الذين يكونون في الصفوف الأولى من خطوط القتال والذين يكونون في بيوتهم أو قراهم في أقصى طرف من البلاد
ولاشك أن الحرب بلاء ونقمة، وأن الرقي الآلي الحديث قد جعلها آفة ماحقة، ولكن الرجاء في السلامة من هذا البلاء لا يكون بالاكتفاء بالإنحاء عليها، وبسط اللسان فيها، والقول بأنها شر مستطير وخراب شامل؛ وإنما يكون الرجاء في أخذ الاهبة، واستيفاء العدة، ولاسيما إذا كانت البلاد مكشوفة كبلادنا ومطموعاً فيها ومهددة بالغزو في أي لحظة تستعر فيها نار الحرب كما نحن مهددون
على أن التدريب العسكري أو الرياضي - إذا آثرت هذا اللفظ الذي لا يزعج - حسن في ذاته ومحمود، بغض النظر عن الأغراض الحربية؛ ويكفي أنه يقوم الأجسام، ويصلح الأبدان، ويهذب النفس ويقويها، ويجعل المرء على العموم أكفأ وأقدر على القيام بفرائضها والاضطلاع بتكاليفها
على أنا أمة مهددة بأن تصبح بلادها أوسع ميادين الحرب وأهولها إذا شاءت المقادير أن تشب نارها بين دول الغرب، فلا حاجة بنا إلى قول شيء في فضل التربية الرياضية ومزيتها وقيمتها فقد صار الأمر لا معدى عنه بحكم الظروف والأحوال لا بالاختيار والرأي والهوى. وهذه الأحوال تقضي علينا بأن نختار أحد أمرين: الأول أن نوطن أنفسنا على أن
تأكلنا أول دولة تطمع فينا وتتاح لها فرصة العدوان علينا، فإذا آثرنا هذا المصير الزري فليس علينا حينئذ إلا أن نقعد منتظرين من يجيء ليستولي علينا؛ والثاني نوطن أنفسنا على الذود الواجب عن حقيقتنا والدفاع عن حريتنا واستقلالنا ورد كل عدوان عليهما، فإذا كان هذا هكذا فالأمر بين، وعلينا إذن أن نعد العدة لهذا الدفاع وأن نتخذ له كل أهبة يفرضها التطور الحديث في الحرب ووسائلها وأساليبها وآلاتها؛ ولابد حينئذ من تهيئة الأمة لمطالب هذه الحرب المخوفة على نحو يكفل للدولة الانتفاع التام بقوى الرجال والنساء فيها جميعاً، فللنساء ما يستطعن أن يحسن من الأعمال، ولا خفاء بهذه فإنها معروفة، وعلى الرجال أن يكون كل واحد منهم مستعداً لحمل السلاح والسير إلى حيث تحتاج إليه الدولة لعمل من أعمال الدفاع القومي؛ ولا يتسنى هذا إلا إذا دربنا الفتيان من الآن في المدارس والجامعة على إتقان ما عسى أن يطالبوا به إذا دعاهم داعي الوطن
وقد يتوهم البعض أن هذه الدعوة التي أرسلها لا تخلو من إسراف وشطط ومبالغة في تصور الأخطار وتجسيمها والتهويل بها، ولكني أعتقد أن الأمر على خلاف ذلك وأن الحال على نقيضه وأعني بذلك أننا أسرفنا في الاطمئنان وبالغنا في الإخلاد إلى دواعي الأمن والثقة والاستراحة إلى انتفاء المخاوف؛ وقد آن لنا جداً أن ندير عيوننا فيما حولنا، وأن نتدبر دلالة ما نرى، وأن نمد بصرنا إلى أبعد من يومنا الحاضر. والمثل يقول:(من مأمنه يؤتى الحذر) فكيف بالذي لا يحذر شيئاً، ولا يتقي أمراً؟ وهب أنه لا مطمع فينا فإن خلو بلادنا من وسائل الدفاع الكافي، وضآلة عدتنا يغريان بنا الطامعين. ومازال الضعف إغراء كافياً للقوى بالوثب. ولنحن غير أهل للاستقلال إذا لم نحسن الحرص عليه والضن به ولم نعد العدة لطول الذود عنه والكفاح دونه. وقد يجيء زمن تبطل فيه الحروب وتعيش فيه الأمم إخواناً متآزرين متعاونين؛ غير أنه إلى أن يجيء هذا الوقت السعيد لا يسع أمة تعرف لحقها في الحياة قيمته وتدرك ما تقتضيه المحافظة عليه إلا أن تستعد للحرب دونه. وعسير جداً أن تحيا أمة عزلاء في أمان من المخاوف بين أمم مدججة شاكية في البر والبحر والهواء
إبراهيم عبد القادر المازني
الفيلسوف الحاكم
للأستاذ عباس محمود العقاد
شهدنا بعد الحرب عجباً من عجب السياسة والرآسة لم يشهده جيل واحد من تاريخ بني الإنسان
شهدنا موسيقاراً على رأس دولة، وفيلسوفاً على رأس دولة أخرى، وهو قبل ذلك ابن حوذي وتلميذ حداد، ونقاشين وأفقيين على رؤوس دول أخرى يجلسون على عروش القياصرة والخواقين، ويسوسون شعوباً كبيرة بلغ بعضها الذروة من الحضارة والنظام
أحب هؤلاء جميعاً وأولاهم بعطف النفس الإنسانية فيما نظن هو الفيلسوف الحاكم (مازاريك) الذي قام على جمهورية التشك والسلواق بعد الحرب العظمى، وقضى نحبه في الشهر الغابر وهو في السابعة والثمانين
قرأت له قبل أن أسمع الشيء الكثير عن سيرته في الجهاد الوطني وعن مساعيه في السياسة الدولية: قرأت له كتابه الحافل عن (روح الروسيا) فأكبرت منه اطلاعاً واسعاً يخيل إليك أن صاحبه لن يفرغ معه لعمل من الأعمال الجسام. وخلاصة ما يقال في الكتاب أنه لم يدع فيلسوفاً واحداً من الأقدمين أو المحدثين إلا ألم برأيه وتعقب الصلات الفكرية والاجتماعية بينه وبين عقول الدعاة البارزين من فطاحل الروسيين
ووقعت لي بعد هذا الكتاب شذور من تواليفه الكثيرة يكفي لبيان نطاقها الواسع وموضوعاتها المختلفة أنها تناولت التنويم المغناطيسي كما تناولت فلسفة باسكال وهيوم، وتناولت أدب الصقالبة كما تناولت الثورة العالمية، وصدرت في ذلك كله عن صدر رحب بريء من العصبية والضغينة وعن ذهن شامل مفتح المنافذ على شتى الأنحاء
في تاريخ هذا الرجل عبر لا تنتهي لمن شاء أن يتأمل في أخلاق الناس وفي موازين العدل والأنصاف بين الأمم، وفي ضعف الإنسان ولو كان من الحكماء وكان من الحاكمين
كنت أقرأ الثناء عليه وأقرأ الزراية على (روجر كازمنت) الشهيد الأيرلندي في وقت واحد
وكنت أقرأ الثناء والإزراء على عمل واحد في وقت واحد وصحافة واحدة، فأعجب للعقول وأعجب للأهواء، وأعجب لمن خطر لهم أن يقولوا مرة من المرات ولو من قبيل التجوز والمزاح: كل شيء بالعقل في هذه الدنيا!! وما في هذه الدنيا شيء إلا وللعقل فيه حيرة،
وللضلال فيه جانب مقرون بجانب الهداية
هرب مازاريك من بلاده واتفق مع الحلفاء على تأليف جيش من أبناء وطنه الأسرى والمبعدين، ونجح فكان من الأبطال وأقام في قصور هابسبرج، ومات بين التعظيم والمحبة والإطراء
وصنع (روجر كازمنت)، ما صنع مازاريك فهرب من بلاده واتفق مع الألمان على تأليف جيش من أبناء وطنه الأسرى والمبعدين، وفشل فكان من الخونة المجرمين، وسيق إلى القبر وهو ينظر إلى الشمس السافرة ويهتف: ما أجمل هذا الصباح! ولكنه كان صباحه الأخير
والصحف البريطانية يومذاك تذكر هذا وتذكر ذاك، فأما مازاريك فبطل كريم، وأما كازمنت فخائن أثيم. ويتبع ذلك ما يتبع الإخفاق والخزي من فرية المفتري، وأكذوبة الكاذب، واجتراء اللئيم
كان مازاريك في صباه عوناً للمستضعفين ولو كانوا مبغضين منبوذين، وكان نصيراً للحق ولو كان الباطل أدنى منه إلى الشهرة والإعجاب. فدافع عن اليهود في بلاد لا يطاق فيها اسم أبناء إسرائيل، وزيف الأسانيد الموروثة التي يفخر بها أبناء قومه ويعتدونها من تراث الوطن الحرام المضنون به على النقد والتشكيك، فكان أبوه أول من صدق فيه تهمة القادحين وذهب إليه يستأديه بعض المال الذي قبضه من مصارف اليهود، وكان الغلاة من دعاة الوطنية في بلاده أول من تبرأ منه وخاض في عرضه حتى قال قائلهم:(إن عاراً على وطنه أن يكون بين نسائه امرأة حملت في بطنها مازاريك)
ودارت الأيام دورتها فإذا بهذا العار هو عنوان وطنه، وهو القائل باسمه والكاتب باسمه والوكيل الذي اجتمع وكلاء بلاده بعد الحرب العظمى يعلنون على الملأ الأوربي أن كل ما وقعه مازاريك في ديار الهجرة والاغتراب هو صك نافذ على البلاد تدين به وترعاه
وجرى حديث مستفيض بين الحاكم الفيلسوف وبين المؤرخ المشهور أميل لدفج استغرق أياماً، وجمعه لدفج في كتاب جاوزت صفحاته ثلاثمائة صفحة، واختار له عنواناً:(حامي الديمقراطية. أو مازاريك يتكلم)
من قرأ هذا الكتاب سمع أفلاطون وأرسطو يتكلمان في العصر الحديث؛ غير أن الإيمان
بالديمقراطية فيه أكبر من إيمان صاحب المدينة الفاضلة وصاحب السياسة المدنية، لأن الحاكم الفيلسوف لا يعدل بالحرية الفردية نعمة من نعم الأرض ولا نعم السماء؛ وينعى على كارل ماركس كما ينعى على موسوليني أنهما يطويان الفرد في الحكومة، ويضحيان بالواحد على مذبح الجملة؛ ويسأله لدفج أيهما أحق لديه بالتقديم والإيثار: السلطان أو الحرية، وإرادة الحكومة أو إرادة الأفراد؟ فيقول:(ليس في وسعي أن أعتقد أن ضمير الفرد مطوي في ضمير اجتماعي واحد. إذ ليس في الدنيا من شيء محقق غير الضمائر الفردية. وليس أمام السياسة إلا أفراد اجتمعوا على هذا النحو ليتألف منهم مجتمع واحد يكون على ضروب شتى ومنها الفاشية. أما أنا - وأنا من الفرديين - فليس يسعني أن أسيغ فكرة الإدماج أو إلغاء الأفراد، وأن تكون الحكومة أو الأمة أو الشعب ممثلة في شخص واحد. ولا أنسى أن هنالك علماء اجتماعيين ودعاة سياسيين يقبلون ما يسمونه ضمير المجتمع وينكرون ضمائر الأفراد متفرقين، ولكنها فكرة لا يقرها العلم، ومصدرها النزعة الأرستقراطية في السياسة. . .)
ووددت لو أن (مازاريك) حين مات كنت محتفظا له بتلك الصورة التي تناسقت وتلاحقت من جهاد الشباب ومن ثورته في الكهولة، ومن بحوثه ومصنفاته، ومن رسالة الديمقراطية التي قام بها على سرير الدولة كما قام بها من قبل على منصة التعليم وعلى منبر الدعاية
ولكن الفيلسوف الذي يستبقي في الحكم صورة أفلاطون أو صورة (السياسة الغدرية) إن هو إلا أسطورة من أساطير الخيال، نتوهمها بالنظر ونترسمها بالأمل، ولا نلمحها بعين الواقع ولو أغضينا عن كثير
قبل أن يقضي الموت قضاءه في الحاكم الحكيم بأشهر معدودات وقع لي كتاب عن أوربا الوسطى للكاتب الإنجليزي هنري بوتسي أسماه (اليد السوداء على أوربا) أحصى فيه مظالم الشعوب الصغيرة التي ضمتها معاهدة فرساي إلى حكومات لا تحبهم ولا يحبونها، ومنها شعب السلواق المضمومين إلى حكومة (مازاريك) رسول الديمقراطية ونصير كل شعب مظلوم أيام كان الظلم نازلا بتلك الشعوب من آل هابسبرج!
وكان مازاريك قد عاقد وكلاء السلواق المقيمين بالولايات المتحدة في السادس والعشرين من شهر مايو سنة 1915 أن تكون حكومتهم مستقلة في داخل الدولة على مثال الولايات
المتحدة الأميركية، وأن يكون لهم مجلسهم النيابي، ومحاكمهم التي يضعون لها شرائعها، ولغتهم في التعليم والإدارة والحياة العامة
فلما جاء يوم الإنجاز وقامت الدولة التي مهد لها أولئك الوكلاء إذا بأرضهم مستعمرة مملوكة، وإذا بهم أتباع مسخرون، وإذا بالعقد المبرم قصاصة مهملة، وإذا بالحاكم الحكيم يتحلل من عقده فيلجأ إلى حيلة لم يلجأ إليها عاهل من عواهل هابسبرج ولا متحذلق عندنا من صناع الفتاوى وطلاب الحيل الشرعية، فيقول لوكلاء الشعب المهضوم إن العقد إنما أبرم في يوم بطالة رسمية عند الأمة الأميركية، وذلك في شرع البلاد التي أبرم فيها مبطل لشروطه ناقض لفحواه!
ويلي ذلك قصة أليمة من قصص المظالم والدعايات الكاذبة، بحت فيها الأصوات وذهبت فيها صرخات المغلوبين على آذان عصبة الأمم كما تذهب زمجرة البحر الصاخب بين أجواز الفضاء
سيرة الرجل عبرة لا تنقضي ودروس لا تنفد. أولها: أن الفيلسوف لم يسلم من لوثة الحكم والسياسة ولو أضمر الخير وأسلف الجهاد الطويل في قضايا المظالم والشكايا
وثانيها: أن الديمقراطية لا تسلم في وطن تختلف أجناسه ولغاته وأديانه وطبقات الحضارة فيه إلا على أساس (الولايات المتحدة) التي يستقل فيها كل فريق بالحكم والتشريع
وثالثها: أن أوربا الوسطى لا تزال كما كانت قبل الحرب العظمى غيلاً تصطرع فيه ضواري الأحقاد ويوشك أن يندفع بالعالم مرة أخرى إلى حرب لا تؤمن لها عاقبة
وإننا على ما أنتاب الديمقراطية من خيبة، وما تعاورها من نقض وتقويض، لا نزال على إيمان وثيق بها أنها هي كهف السلام ومعقل بني الإنسان، ومآل الحكم في المستقبل البعيد إن لم يعجل لها النصر في مستقبل قريب
فالدول الديمقراطية لا تبغي الحرب كما تبغيها الدول الدكتاتورية، وبريطانيا العظمى وفرنسا والولايات المتحدة لا يخشى منها على سلام العالم كما يخشى من إيطاليا وألمانيا واليابان والجمهوريات الروسية
ولقد يقال إن بريطانيا العظمى وفرنسا والولايات المتحدة إنما تسالم الدول الأخريات لأنها شبعت من المستعمرات فلا حاجة بها إلى المشاكسة ولا إلى اقتحام المشكلات، لكنه
اعتراض وجيه في ظاهره غير وجيه في لبابه. إذ أن المسالمة والاكتفاء شأن جميع الدول الديمقراطية ولو لم تكن لها مستعمرات ولا أسواق مملوكة في بلاد المستضعفين؛ وهذه الدنمرك والسويد والنرويج وسويسرة لا تمتلك أرضاً وهي من اليسر والرواج في حال يحسدها عليه المالكون؛ وربما خلت من الجند والسلاح فليس بها إلا قليل من الشرطة وما يحتاجون إليه من أداة
إنما الحقيقة أن الدكتاتورية والحرب قرينان لا يفترقان، لأن الدكتاتورية لا تقوم إلا على عسكرية، والعسكرية لا تستقر طويلاً بغير قتال، ولا أمان للعالم كله إلا باتجاه سريع إلى الديمقراطية يقصيه من زبانية الاستبداد سواء كانوا من أهل اليمين أو من أهل الشمال
عباس محمود العقاد
الفنادق والمقاهي التاريخية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كما أن الآثار والأطلال والذكريات الباقية تستمد جلالها من الحوادث والمناسبات التاريخية التي ارتبطت بقيامها، فكذلك تستمد جلالها من الزمن؛ وقد يكون الزمن كل شيء فيما تتشح به الأطلال الدوارس أحياناً من روعة الخلود؛ وأقدم الهياكل والآثار هي بلا ريب أعرقها من هذه الناحية؛ فالقديم مهما كانت ضالته من الناحية التاريخية أو الفنية يبعث إلى النفس أثراً خاصاً ويحملها إلى تلك العصور الذاهبة الذي يرجع إليها ويرتبط بها
فما بالك إذا كان هذا الأثر أو الصرح القديم لا يزال كسابق عهده يقوم بمهمته التي أنشئ لها منذ الأحقاب المتعاقبة، ويمتلئ حياة وبهجة، ويساير العصر، ويربط الحاضر بالماضي بأوثق الصلات؟
لسنا نريد أن نحدثك في هذا المقال عن معاهد أو آثار تاريخية من هياكل أو صروح أو معاهد أو غيرها مما أصطلح على اعتباره آثاراً تاريخية تمتاز بقيمتها الفنية وبالمناسبات العظيمة التي أنشئت من أجلها؛ ولكنا نريد أن نحدثك عن نوع آخر من هذه المنشآت التي قامت دون مناسبة تاريخية خاصة لتقوم بمهمة من مهام الحياة العادية، ثم استطاعت أن تغالب صروف الزمن، وأن تحمل رسالتها المتواضعة خلال أحقاب وأحقاب، وأن تبقى إلى اليوم قائمة بنفس مهمتها، وأن تكتسب بذلك جلال القديم وروعته
نريد بذلك الفنادق والمقاهي التاريخية
أنه لمن الشائق حقاً أن تنزل في فندق ما، أو تجلس في مقهى أو مطعم ما، فيقال لك إن هذا الفندق أو المطعم أو المقهى يرجع قيامه إلى أربعة قرون أو خمسة، وأنه لا يزال كما نشأ باسمه وأوضاعه القائمة لم يتغير منه شيء إلا ما اقتضاه الزمن من أعمال الصيانة، وإن كثيراً من الشخصيات التاريخية العظيمة قد مرت به قبلك، ونزلت حيث تنزل أو جلست حيث تجلس. إن في ذلك ما يذكي الخيال ويبعث إلى النفس جلالا خاصا هو جلال هذه الأحقاب الطويلة التي مرت بهذه النشأة المتواضعة، وجلال تلك الشخصيات التاريخية العظيمة التي مازالت ذكرياته وأشباحها تطوف بالمكان وتسبغ عليه من روعتها ما لم يسبغه التاريخ
ولقد آنست هذه المشاعر في كثير من المنشآت الاجتماعية التاريخية التي أتيحت لي زيارتها خلال تجوالي في العواصم الأوربية وآنستها هذا العام بنوع خاص خلال رحلة قمت بها في بلاد التيرول النمسوية: فذكرت أننا في مصر لا نعرف اليوم أمثال هذه المنشآت، ليس فقط لأن أحداث الزمن لم تبق منها على شيء، بل لأننا أيضاً فقدنا في عصور الانحطاط خلة الاستمرار، فلا نعرف في مصر منشأة تجارية أو اجتماعية أو فندقاً أو مقهى أو غيرها من المنشآت المماثلة تخطت قرناً محافظة على قديمها، متصلة بحديثها، وهو ما يعتبر من الأمور العادية في العواصم الأوربية حيث يرجع كثير من هذه المنشآت إلى أحقاب وقرون. ولقد عرفنا هذه المنشآت في العصور الوسطى، فكان للقاهرة فنادق ومقاهٍ، تخطت دولاً وعصوراً وهي تقوم بمهمتها الاجتماعية؛ وإنه ليحضرني الآن منها مثلٌ هو فندق مسرور أو خان (مسرور) الذي يحدثنا عنه المقريزي في غير موضع، والذي لبث عصوراً مهبط الواردين إلى القاهرة من كل صوب يتناقل السياح اسمه في جميع الأقطار الإسلامية، والذي تذكره قصص ألف ليلة وليلة في مواضع مختلفة ترجع إلى عصور مختلفة كأنه علم على القاهرة، وكانت القاهرة أيام السلاطين تموج بأمثال هذه المنشآت المعمرة من ربط وفنادق وخانات ووكالات شهيرة دثر معظمها أيام العصر التركي. وفي خطط المقريزي بيانات شائقة عن هذه المنشآت التي لعبت مدى عصور دوراً كبيراً في الحياة الاجتماعية المصرية.
أما اليوم فإن القاهرة التي تغص بالآثار والصروح التاريخية العامة لا تعرف شيئاً من هذه المنشآت الخاصة التي يسبغ عليها القديم جلاله، والتي تساير الحياة الاجتماعية في عصورها ومراحلها المتعاقبة
مما يلفت نظر السائح في مدينة أنزبروك عاصمة التيرول فندق (النسر الذهبي) وهو صرح متواضع يقوم على صف من الحنايا المعقودة على الطراز القوطي؛ ولكن هذا الصرح المتواضع يقوم حيث هو، ويؤدي نفس مهمته في إيواء السياح وإطعامهم منذ نحو خمسمائة عام، وفي مدينة انزبروك القديمة التي تمتاز بدروبها الضيقة وأبنيتها القوطية العتيقة، عدة من هذه الفنادق والمطاعم القديمة التي طوت أجيالاً عديدة من حياتها؛ ولكن (النسر الذهبي) يمتاز عنها جميعاً بتاريخه المجيد؛ فقد حفلت غرفه الضيقة وأبهاؤه
المنخفضة التي لم يغير تعاقب الزمن شيئاً من أوضاعها بكثير من الملوك والعظماء في مختلف العصور؛ وقد وضعت على بابه لوحتان من الرخام نقشت عليهما أسماء هؤلاء الملوك والعظماء وتواريخ نزولهم فيه؛ ولفت نظرنا بين هذا الثبت بنوع خاص اسم أمير تونس حيث نزل في فندق النسر الذهبي مع حاشيته في سنة 1540م، واسم يوهان فولفجانج فون جيته شاعر ألمانيا الأكبر حيث نزل فيه سنة 1798م، وأسماء عدة أخرى من ملوك أوربا وأمرائها نزلوا فيه في القرن السادس عشر أو السابع عشر أو الثامن عشر؛ وإن الإنسان ليتلو هذا الثبت التاريخي الحافل متأثراً، وهو يرجع بذهنه إلى تلك التواريخ والعصور البعيدة فيأخذه شعور من الإجلال والروع لهذا القديم التالد الذي مازال يمتلئ حياة ورغبة في مسايرة الزمن. ولقد كان مقام جيته في فندق (النسر الذهبي) حادثاً ذا أهمية خاصة خلدت ذكراه إلى يومنا بإقامة مطعم باسم جيته إلى جانب الفندق مازال مقصد الواردين من كل صوب؛ يجذبهم اسم الشاعر وذكراه قبل أن تجذبهم الأطعمة الشهية التي يتناولونها، وروح الشاعر ترفرف عليهم
وتوجد بالمدينة أيضاً عدة منشآت أخرى من فنادق ومطاعم وأبهاء للنبيذ يرجع معظمها إلى قرنين أو ثلاثة قرون ومنها بهو النبيذ الشهير (أوتوبرج) الذي يرجع قيامه إلى نحو قرنين، ولا زال حيث هو يشرف على نهر (إن) ويقوم بنفس مهمته في استقبال الآكلين والشاربين
وفي العاصمة النمسوية فينا جملة كبيرة من هذه الفنادق والمقاهي التاريخية التي قطعت قروناً من أعمارها، وشهدت عصور الإمبراطورية الزاهرة، ولم تؤثر في حياتها أحداث الزمن، ولا زالت تقوم في جنبات العاصمة النمسوية تستطع بالليل كأنها قطع من النور؛ وهي تزهو جميعاً بماضيها كما تزهو بحاضرها. وقد يضيق بنا المقام إذا حاولنا هنا تعداد الأمثلة، وربما أتيحت لنا بعد فرصة أخرى للتحدث عن هذه المقاهي الشهيرة التي تلعب أكبر دور في الحياة الاجتماعية النمسوية، ولكنا نذكر سبيل على التمثيل مثلين يلفتان النظر بحق: أولهما مطعم (لنده) الشهير الذي يقوم حيث هو منذ أكثر من خمسمائة عام في شارع (البرج الأحمر)، (روتنتوم) والذي شهد حصار الترك الأول للعاصمة النمسوية سنة 1570م، واحتفل منذ حين بمرور خمسمائة عام على قيامه، ومن الشائق أن ترى تاريخ
إنشائه منقوشاً على ما يقدم إليك من آنية الطعام، فيذكرك دائماً بعمره المديد وماضيه الحافل؛ والثاني مثل (منزل الطرب) الشهير في حي براتر، وقد أنشئ في أوائل القرن السادس عشر، ولا يزال يقوم حيث هو؛ وهو اليوم مطعم ومرقص، ولكنه كان من قبل منزل راحة ورياضة ملكيا؛ وقد بدأ حياته الجديدة من نحو قرن وكان خلال القرن الماضي مسرحاً لعدة من الحوادث الاجتماعية الشهيرة، وكان بالأخص منتدى محبوباً للأرشيدوق رودلف فون هبسبرج ابن الإمبراطور فرانز يوسف وولي عهده، يقصده مع صحبه لقضاء السهرات المرحة، ولا زالت ذكريات هذا الأمير المنكود الذي زهق في ريعان شبابه في ظروف غامضة، ماثلة في هذا البهو الأنيق تطوف بزائريه، وتذكرهم بالمأساة الشهيرة التي اقترنت بمصرعه في يناير سنة 1889م
وفي معظم العواصم الأوربية نجد أمثال هذه المنشآت تذكر السائح المتجول بالمناسبات والعصور التي قامت فيها، وتقدم إليه طائفة من الذكريات السابقة التي يلذ استعراضها وتأملها
وهذه المنشآت الاجتماعية القديمة فضلا عن كونها تزين العواصم الجليلة، تلعب في الواقع دوراً عظيماً في الحياة الاجتماعية الخارجية؛ وكثير منها يعتبر بحق نوعا من الآثار القيمة التي تجب المحافظة عليها لا من الوجهة الأثرية أو الفنية لأن معظمها يتطور ويتجدد من هذه الناحية مسايراً للعصر وللحياة، ولكن حرصاً على قديمها وعلى تراثها من الذكريات القديمة التي امتزجت بحياة المدينة وحياة الشعب. ولا زلنا نذكر بهذه المناسبة تلك الضجة التي قامت منذ أعوام في الصحف الفرنسية بمناسبة هدم البناء القديم الذي كان يشغله الملهى الباريزي الشهير المسمى (بالطاحونة الحمراء)(مولان روج) عندما أريد تجديد الشارع الذي يقوم فيه فقد ثارت الصحف يومئذ لهذا الأجراء وعز عليها أن يختفي هذا الملهى الشهير الذي امتزجت فيه ذكرياته الساحرة بالحياة الباريزية الليلية حيناً من الدهر، وأصبح من أشهر المنتديات الاجتماعية التي تجذب كل زائر لباريس
وفي معظم الأحيان تقترن أسماء هذه المنشآت الاجتماعية القديمة بأسماء كثير من الشخصيات التاريخية، فنجد مقهى أو منتدى معيناً يؤمه كتاب العصر وشعراؤه، وفي هذا المقهى يجتمعون ويتسامرون، ويكتبون وينظمون، وفيه تتفتح مواهب الكثير منهم، وفيه
يتألق نجم بعضهم وتسبغ أسماؤهم فيما بعد على المكان كثيراً من رنينها وشهرتها. فمثلا نجد اسم (المقهى الإنكليزي)(كافيه أنجليه) الذي سطع في باريس في أواخر القرن الماضي يقترن بأسماء كثير من أعلام السياسة والتفكير والأدب في هذه الفترة، وفيه بزغ مجد الكثير منهم
والخلاصة أن الفنادق والمقاهي التاريخية تستحق أن تؤرخ كما تؤرخ الهياكل والصروح الأثرية، وإذا كانت الهياكل والصروح العظيمة تجد دائماً من يتصدى لدراستها وتاريخها من النواحي الأثرية والفنية، فإن الفنادق والمقاهي تستحق أن تدرس من وجوه أخرى تمت بأكبر الصلات إلى تاريخ المجتمعات التي تقوم فيها، وتاريخ الأخلاق والعادات الشعبية، وهي وجوه لا تخفى أهميتها. ولقد قرأت منذ أعوام في إحدى الصحف الفرنسية عدة مقالات شائقة لأحد مشاهير الكتاب (حياة مقهى باريزي عظيم) فأعجبت بطرافتها وتلاوتها وودت لو أننا نستطيع أن نقدم إلى قرائنا مثل هذه الصور الاجتماعية الساحرة. ورحم الله مؤرخنا الكبير تقي الدين المقريزي إذ فطن منذ خمسة قرون إلى أهمية هذه النواحي الاجتماعية في حياة الأمصار العظيمة فأنفق أعواماً طويلة من حياته في دراسة الأحياء والدروب والصروح والمعاهد والمنتديات الاجتماعية، وقدم إلينا في (خططه) مجموعة من الصور الاجتماعية والشعبية لمدينة القاهرة حتى عصره ولم ينس الفنادق والمقاهي التاريخية
(بادن فينا) في منتصف سبتمبر
محمد عبد الله عنان
الأزهر وطريق إصلاحه
ربط حاضر الأمة بماضيها
للدكتور محمد البهي قرقر
ليست فكرة إصلاح هذا المعهد العظيم حديثة النشأة؛ وليست كل محاولة لإصلاحه كانت ناجحة؛ وليس كل من قام بأمر الإصلاح كان فيه موفقاً. ولا أريد هنا أن أسرد الأدوار التي مر بها الإصلاح، وعدد الخطوات التي أخفق فيها المسعى، والأخرى التي كان له فيها بعض النجاح؛ إذ كل باحث في أمره يوقن أن الخطوة الأولى التي كانت موفقة فيه هي التي خطاها الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وأنه هو الذي يعتبر أول مصلح كانت له فكرة، وبجانبها شخصية ذات إرادة مستقلة، وبسببه حافظ الأزهر على حياته، وإن كانت حياة الهرم الذي تعوزه زيارة الطبيب الحاذق من وقت إلى أخر. وبالرغم من وهن هذه الحياة كان ما قام به الأمام هو دور المصلح وداعية البطولة في زمنه
استمر الأزهر بعد ذلك في حياته التي يحس فيها بضعف، تارة يشتد إذا لم يجد في طبيبه صفة المهارة - وكثيراً ما كان ذلك - وطوراً يخف إذا واتاه القدر بمن يواسيه أكثر ممن يطببه. تغيرت فيه عدة مناهج واستبدلت نظم بأخرى باسم الإصلاح؛ ومع ذلك لم يتم إصلاح أو لم يتكون أساسه، لأن الإصلاح الذي يجب أن يكون، وبعبارة أخرى الذي يحمل عليه قانون الوجود الحالي المبني على تنازع البقاء وحياة الأصلح ليس علاجاً مؤقتاً وإنما هو إيجاد حياة من نوع أخر، حياة فتوة لها قوة ممانعة ومقاومة وقوة كفاح وهجوم. ظل أمره كذلك حتى هيأ القدر له، وشاء أن يكون تلميذ الإمام، رجلا من أولئك الذين لهم عقول مستقلة بعيدة المدى في التفكير، ولها قوة إرادة في التنفيذ في صمت ورزانة. فأول خطوة ضرورية رآها للإصلاح أنه عمل على إشعار الأمة بالأزهر واتصال الأزهر بالأمة، فحياته إذن يجب أن تكون من نوع حياة الأمة، ومصر أمة ناشئة فتية
أيدت هذا العمل عقلية أخرى من هذا الطراز - وعقول الإصلاح دائماً متفقة متجانسة - ولكنها أشعرت الأمة هذه المرة بصورة أخرى هي أن لا غنى للأمة المصرية ولا للعالم الإسلامي عن الأزهر. ولكن كيف يؤدي رسالته الوطنية والعالمية في القرن العشرين؟
تنبهت الأذهان وعني الكتاب والباحثون في الشئون الاجتماعية والعلمية بهذا الموضوع
ودونوا لهم آراء في ذلك وآسف أني لم أطلع عليها. وقد يجوز أن يكون هؤلاء قد عالجوا الموضوع من نواح عدة، وأظهروا رغباتهم الإصلاحية لهذا المعهد التاريخي الكبير في صور يرون فيها مهمته في العصر الحديث. ربما يكون بعضهم قد تناول مثلا تحديده كمدرسة عالية لفئة خاصة من الأمة يجب عليها قبل الالتحاق بها استيفاء شروط مخصوصة ودراسة إعدادية على نمط خاص أو غير ذلك من التنظيم والمناهج
ولا أريد أن أبحث الآن: كيف يكون الأزهر معهداً نظامياً كمعاهد الحكومة العالية، لأني لا أبغي أن يكون الأزهر على هذا النمط الآلي، وإنما أريد أن أبحث: كيف يتحول الأزهر إلى جامعة علمية حديثة مع الاحتفاظ بصبغته الماضية التي خولت له أن يكون هو المدرسة الوطنية الوحيدة في مصر في الوقت الحاضر بحكم اعتمادها على ثقافة الأمة الموروثة، والتي منحته صفة روحية باعتبار أنه المكان الأول في العالم الإسلامي للعناية بالدين ونشره، ثم كيف يكون الطريق العملي لذلك، إذ كثيراً ما كتب دعاة الإصلاح وكثيراً ما حاول القائمون بأمره أن يصلحوه، ولكنها كانت كتابة يغلب عليها الخيال، ومحاولة كان أساسها تقليد نظم مدارس أخرى: مدارس وزارة المعارف التي هي في نفسها أيضاً بناء مرقع رعوي فيه تقليد رسوم متباينة؛ وهذه المحاولة كادت تخرجه عن الغرض الذي يجب أن يكون له الأزهر والذي كان له منذ قرون مضت
وغاية الأزهر (أولا) تهذيبية علمية وطنية، لأنه يقوم بتربية جزء عظيم من أبناء الأمة ويعده فوق ذلك لتولي عدة مصالح في الشعب، لا يمكن تعويضها فيها، لها قيمتها في إصلاح نواحيه الخلقية والاجتماعية، وبالأخص في رعاية الأسرة التي هي الدعامة الأولى في بناء الأمة. و (ثانياً) دينية عالمية لأنه المرجع الأول لحل المسائل الدينية التي لها ارتباط وثيق بالشؤون الاجتماعية والاقتصادية لأمم العالم الإسلامي والتي يتوقف تقدم تلك الأمم أو تأخرها بنسبة كبيرة على فهم الروح الدينية (الفقهية) أو عدم فهمها لهذه المسائل الحيوية
ومن يفكر أو يحاول أن يحمل غيره على أن يعتقد أن غاية الأزهر روحية بالمعنى الكنسي، فمبعث تفكيره هذا التقليد السلبي الذي طغى على النواحي العقلية في مصر الحديثة، ومنشأ محاولته جهل أو تجاهل بالتاريخ أو سوء فهم للإسلام وللأزهر ولأثره في
تكوين النهضة الوطنية، أو هو نفسه لا يقيس الوطنية إلا بمقياس العاطفة، وما كانت العاطفة في يوم من الأيام إحدى الدعامات في بناء راسخ!
ولكن الأزهر الآن يؤدي مهمته كما كان يؤديها في الغابر من تلقين ما للماضي من ثقافة؛ وربما يدَّعى أن هذا التلقين وحده لا يعد الناشئة للكفاح في الحاضر ولا يقرب فهم المسائل الدينية والاجتماعية من ضوء الواقع الحالي، فذلك التلقين لا يفي لهذا بالغاية من وجود الأزهر، لأنه أداء جزء من مهمة يجب أن يتصل به تواً أداء البقية وهي ربط الحاضر بالماضي. وهذا هو الطريق العملي، فيما أظن، لتحقيق غاية الأزهر التهذيبية والدينية
ربط الحاضر بالماضي ليس معناه ضم ثقافة أجنبية جديدة على حدة إلى ثقافة الماضي، وإضافة علوم حديثة مستقلة إلى ما كان للأمة في الأزمان الغابرة، وإنما هو السير في البحث العلمي على أثاث الثقافة الموروثة، ولكن في ضوء مقتضيات العصر الحاضر. وهذا السير يتطلب التخصص في العلوم المختلفة ولكن في موضوعات الفن الواحد. فمثلا في الفقه يجب أن يكون هناك أساتذة فنيون في موضوعاته مزودون بثقافة أخرى لها ارتباط وثيق بالموضوع المتخصص فيه. فيجب أن نرى أساتذة في الفقه الجنائي، وهو يشمل على سبيل التقريب: الديات وفرض مبدأ التعويض المالي. التعزير بالحبس. القصاص. إعفاء الوالي من إقامة الحد إذا رأى المصلحة العامة في ذلك. . . وأساتذة في الفقه المدني والتجاري، وهو يشمل على سبيل التقريب: عقود البيع، نظرية الربا وربط الفائدة. الرهن. الايجارة، الشفعة. عقود الشركات المختلفة. مبدأ الضمان والكفالة. الهبة. الوصية. . . وأساتذة في فقه الأحوال الشخصية، وهو يشمل على سبيل التقريب: عقد النكاح، حقوق الأسرة. النفقة، الإرث، نظرية إثبات النسب والتبني وعلاقة ذلك بالمجتمع وتكوين الأسرة. نظرية الحضانة الفردية وارتباطها بنظرية قيام الدولة بالعناية بالأطفال إجبارياً لشقاق في العائلة أو طروء جنون على أحد الزوجين أو مشاكل ذلك. . . وأساتذة في الفقه الإداري والسياسي، وهو يشمل على سبيل التقريب: معاملة الأجانب ونظرية الأقلية في اعتبارها هيئة منعزلة لها احترام عاداتها ما لم تخل بنظام الأكثرية وعليها ضريبة (الجزية) للقيام برعايتها وحفظ مصالحها. مبدأ الجهاد. قوانين الأسر والعتق. مبدأ الشورى في نظام الحكم الداخلي. مبدأ التفويض للوالي. الاستقلال في السياسة الخارجية
(نحو العدو مثلاً) وإعلان الحرب
وفي الفلسفة والأخلاق يجب أن يكون هناك أيضاً فنيون في موضوعاتها المختلفة على هذا النمط، فأخصائيون في فلسفة الإسلام، وتشمل على سبيل التقريب: محافظة الإسلام على وحدة الأمة والرغبة في عدم تصدعها. نظرية الإيمان بوحدة الخالق. تفضيل صلاة الجماعة. ضرورة الاجتماع كل أسبوع في مكان واحد لا فرق بين غني وفقير ورفيع ووضيع لتجديد عهد الإخاء وهو الغرض من صلاة الجمعة. ضرورة اجتماع أغنياء مسلمي العالم في أول مكان للدعوة الإسلامية كل عام لتذكر عهد النشأة والاستمرار في التمسك بالعقيدة والعمل على نشرها، وهو الغرض من الحج. العمل على إشعار ذو النفوذ المالي بوجوب العطف على الفقراء إبقاءً لمالهم في أيديهم وقمعاً لثورة نفسية بين الطبقات المعدمة ربما تتبعها ثورة أخرى اجتماعية (بلشفية) تقلب نظام الحكم في الأمة وتنزع رؤوس الأموال من أيدي أصحابها. . وهو الغرض من الزكاة. وأخصائيون في الفلسفة الإسلامية، وتشمل على سبيل التقريب: لا حكاية ما قال ابن سينا وتبعية ابن رشد لأرسطو طاليس وأمثال ذلك مما ينقل فحسب، وإنما قبل كل شيء بيان منزلة الفلسفة الإغريقية، وهي الفلسفة الإلهية وعلاقتها بعلم (التوحيد) الإسلامي، ثم مقدار نصيب الإسلام من هذا العلم. ثم بيان مساهمة العلماء الإسلاميين ومساهمة الثقافة الإسلامية في خلق فلسفة إسلامية وتكييفها. . . وأخصائيون في أخلاق الإسلام والأخلاق الإسلامية: وتشمل على سبيل التقريب: المبادئ الخلقية التي جاء بها الإسلام. مقارنة ذلك بالنظريات الأخلاقية الإسلامية التي أشتغل بها علماء الإسلام والتي قد لا يمت بعض مبادئها إليه بصلة إيجابية. مقارنة ذلك أيضاً بالنظريات الخلقية الحديثة. دراسة المبدأ الخلقي ونظرية اعتباره المطلق أو المقيد. . .
وهذا التخصص ليس تبويباً جديداً أي صورياً فحسب، وإنما هو أبحاث علمية مستقلة يجب على من يقوم بها دراسة ما يشبهها في الثقافات الأخرى حتى يتكون مبدأ المقارنة والاستنتاج، ثم يتبعه مبدأ التطبيق العملي، وهما من عوامل التقدم في البحث العلمي، لأن حكاية ما قيل فقط لا يسمى بحثاً فضلا عن وصفه بالعلمي. فأستاذ الفقه الجنائي مثلاً يجب أن يدرس علم النفس الجنائي: الذي هو مختص ببحث أنواع الإجرام النفسي، ثم بحث
التشريع الجنائي الحديث وكيفية بنائه على التجارب النفسية بوساطة هذا العلم. وأستاذ الفقه المدني والتجاري عليه أن يلم بالنظم الاقتصادية الحديثة. وأستاذ الفقه السياسي ينبغي أن يلم بالتاريخ الاقتصادي والسياسي وبفلسفة الحرب وفلسفة مبدأ حكم الأقليات
وبواسطة هذا يتسنى لهؤلاء الأساتذة لا بيان مزايا الدين الإسلامي فحسب في هذه الموضوعات مثلاً، بل حمل الأمم الإسلامية على الاعتماد في تشريعها الحديث في كل أنواعه على مبادئ الفقه الإسلامي، ثم في الوقت نفسه رد حملات العلماء الأجانب على الإسلام التي سببها الجهل أو الرغبة في إبعاد المسلمين عن أتباع دينهم باسم (خدمة العلم) و (حرية البحث) حتى يدب فيهم ضعف الشقاق، بين المصمم على أتباعه وبين الواهم في التخلي عنه، بين (الرجعي) و (المجدد) وبين (القديم) و (الحديث). وما خدمة العلم هنا إلا الرغبة في السيادة واستمرار سيطرة (الحضارة الأوربية) على الشرق الإسلامي
وعلى هذا النمط في التخصص يسير الأمر في العلوم الأخرى. وبخاصة تجب مراعاة هذه القاعدة بدقة في قسم الوعظ والإرشاد. ففضلا عن أن تتبع فيه دراسة أساليب التبشير الحديث يلزم دراسة نفسيات الشعوب الإسلامية المختلفة وعاداتها ولغاتها. وبناء على هذه الدراسة الأخيرة ينشأ التخصص والتوزيع، فيجعل: قسم للوعظ والإرشاد للشعب المصري: فالنوع الحملي منه: يتولى قبل كل شيء بحث نفسية المجرمين ونوع الأجرام الذي يرتكب بكثرة بمساعدة الإحصائيات الرسمية لذلك، ثم دراسة أسلوب الوعظ الذي يمكن أن يؤثر في مثل هذه النفسية ويحملها على الإقلاع أو التقليل من هذا الإجرام. . .
والنوع الثقافي الأخر: يتولى الأعداد لتهذيب شعبي مبني على البساطة، وكيفية الخطابة في المساجد، وإعطاء دروس للشعب فيما هو في حاجة إليه من الثقافة الخلقية والواجبات الفردية والجمعية
ويجعل قسم للوعظ والدعاية: لشعوب الشرق الأدنى
ويجعل قسم للوعظ والدعاية: لسكان الشرق الأوسط والهند وجاوة
ويجعل قسم للوعظ والدعاية: لشعوب البلقان
ويجعل قسم للوعظ والدعاية: لسكان السودان والحبشة وجنوب أفريقيا
ويجعل قسم للوعظ والدعاية: لسكان أمريكا الجنوبية
وفي كل قسم من هذه الأقسام تدرس فضلاً عن لغة الشعب، القواعد الخلقية التي يسير عليها، والمذهب الفقهي السائد فيه. وبناء على هذه الدراسة تحدد موضوعات الوعظ الديني التي تجب دراستها في كل قسم، لأن الغاية من الوعظ هي حمل الشعب بطريقة التأثير في نفسه على اتباع قواعد خلقية معينة يقتضيها النظام العام لحفظ وحدة الأمة وبغية سعادتها. والغاية وإن كانت واحدة فأن الطرق إليها مختلفة لضرورة اختلاف النفسيات التي تخضع في تكونها إلى الوراثة والتربية الأولى والمجتمع فيما بعد، وهذه العوامل ليست متشابهة في كل أمة
هذا فضلا عن دراسة نفسيات هذه الشعوب وثقافتهم هي في نفسها دراسة إسلامية يرجى من ورائها تعارف الأمم الإسلامية وتزايد الرابطة بينها
وبهذه الأهمية أصبحت دراسة علم النفس التجريبي اليوم، ومن خصائصه وصف النفسيات المختلفة للأفراد والأمم، العامل الأول في السيطرة على النفوس إما لغرض إصلاحها أو بغية استعمارها. ولم يعن الأوربيون بدراسة النفس الشرقية على ضوء التجارب والسلوك الشخصي وكذا بقية الأمم الضعيفة وإنشاء المعاهد المختلفة لدرس ثقافاتهم وأديانهم ولغاتهم حباً أفلاطونياً في العلم وغراماً خيالياً بالبحث، وإنما عنوا بها رغبة في السيطرة والاستعمار العسكري أو التجاري
وإذا كان التخصص في الموضوعات الفنية يحتاج إلى الاتصال بالأوساط العلمية الأخرى، الأجنبية عن الأزهر، فإن التخصص في أقسام الوعظ أشد احتياجاً إلى الاتصال بالشعوب الإسلامية المنتشرة في بقاع الأرض ودراسة أحوالها النفسية والشعبية لبناء الوعظ على أساس متين تكون من ورائه الفائدة محققة، وتتقوى بذلك رابطة مصر العلمية والأدبية بالأمم الإسلامية الأخرى، وهي رابطة يجب أن تحافظ عليها لأنها سبب عظمة مصر فيما بينها وتعلق تلك الشعوب بها
وبهذا يكون للأزهر صلة حية بالشعب إذ يصبح المدرسة العالية لثقافة وطنية مؤدية لمقتضيات العصر الحاضر، ومعهد البحث للتشريع الوطني الحديث؛ وفي الوقت نفسه يقوم برسالته الروحية في بقية العالم الإسلامي، ومن ورائها يؤدي رسالة مصر الأدبية في الخارج. وما هذه المنزلة العالية التي تتمتع بها مصر اليوم في الشرق إلا لهذه الصلة
الروحية واعتقاد أن مصر تملك أكبر مكان للدراسات الإسلامية كما تملك مكة المكرمة أول مكان للدعوة إلى الإسلام. ولولا الأزهر لما نالت مصر تلك المنزلة بين الأمم الشرقية، فهي تمثل سياسياً تقريباً في كل بلدان العالم الأخرى التي لا تتصل بالإسلام اتصال تدين، وتنفق على ذلك مبالغة جسيمة، ومع هذا فمصر الحديثة صاحبة النهضة التي لا تقل شأناً عن نهضة كثير من بلدان أوربا الجنوبية والشرقية مازالت هنا في أوربا هي مصر الأفريقية
إن الأزهر قارب أن يبلغ ألف سنة، وتلك مفخرة لم تصل إليها إحدى الجامعات العالمية بعد، والعالم يريد أن يرى رؤية محسوسة مبلغ التطور الذي وصل إليه والذي هو مقياس نهضة مصر العلمية الوطنية، لا التقليدية، ويعرف أي القواعد يسير عليها في بحثه، وأية نظرية يأخذ بها في تأدية رسالته، بعدما وقف بالبحث عند طريقة القرون الوسطى زمناً طويلاً وبعدما كان في حيرة من أمر رسالته، حيرة سببها عدم معرفته بها
إن مصر اليوم والعالم الإسلامي يشهد بما لفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي من عمل جدي ملموس في إصلاح هذه الجامعة العالمية ويعترف بقدرته على إتمامه اعترافاً مرجعه الاقتناع بأن له شخصية مصلح في التاريخ الحديث، وما أقل وجودها في العالم وأندرها في مصر وأشدها ندرة بين الأزهر. كل يعقد عليه أملاً كبيراً، أمل البناء والتشييد في الإصلاح. كل يرتقب ثورة فكرية، وانقلاباً إصلاحياً له حدثه التاريخي؛ فالوقت تأخر، والحاجة ماسة، والعقول متهيئة لهذا الانقلاب، والنفوس ملت هذه التعديلات الصورية
مولاي المراغي: إذا كان المصلح الأول والوحيد قبلك وهو الأستاذ الأمام، قد حافظ على حياة الأزهر فحسب، ولم يتركه لك فتياً بل سلمه إليك كهلا يعاني ألم الضعف، فإن ذلك ما أمكنه وأمكن زمنه معه أن يؤديه للأمة والتاريخ؛ ولكنك أنت في زمن توفرت فيه وسائل الإصلاح وانبثقت روح الشباب والتجدد في كل شيء، فمهمتك من هذا النوع، ولها حباك القدر بتلك الشخصية، وبتأديتها ستكون موضوعاً للتاريخ والبحث
محمد البهي قرقر
دكتور في الفلسفة وعلم النفس وعضو بعثة الإمام الشيخ محمد
عبده
صاحب النحلة السنانية
رسالته، دهاؤه، بيانه
لأستاذ جليل
ذكر العلامة الأستاذ محمد كرد علي مقاله المحقق: (ابن العديم وتآليفه) في (الرسالة) الغراء - الجزء 220 في 14 رجب 56 - سنانا الإسماعيلي (صاحب النحلة السنانية أو الحشيشية) وروى أبياتاً من شعره، وأشار إلى رسالته إلى السلطان صلاح الدين. وقد رأيت أن أنشر تلك الرسالة الأنيقة لنفاستها، وقد نقلت - كما قال ابن خلكان - من خط (القاضي الفاضل) وما قولك في شيء يعجب عبد الرحيم البيساني فينسخه بنفسه؟ ثم أورِدُ ما أملاه صاحب (شذرات الذهب) من أنباء سنان هذا وفيه حديث عجيب في الكيد أو الدهاء ما بلغ دهاة مناكير مبلغه، ولا سمع السامعون شبهه. ثم أروي (بياناً) لسنان إلى جماعته لجلالة قيمته في تاريخ النحل وقد عثر عليه العرباني (م. ستان جوارد) ونقله إلى الفرنسية. و (البيان) يبين لنا أن (أبا الحسن راشد الدين) قد ادعى دعوى الجماعة في الألوهية أو حاولها، ولم يشأ أن يحتكرها في القاهرة محتكرون، ويستبد بها فاطميون - كما يقولون - أو عبيديون، وهو قد عرف من (أسرار الدعوة. . .) ما عرفوه. . . وما حل في مصر حل مثله في الشام. . .
الرسالة
يا للرجال لأمر هال مُفظِعهُ
…
ما مر قط على سمعي توقّعهُ
قام الحمام إلى البازي يهدده
…
وكشّرت لأسود الغاب أضبعه
أضحى يسد فم الأفعى بإصبعه
…
يكفيه ما قد تلاقي منه إصبعه
يا ذا الذي بقراع السيف هددني
…
لا قام مصرع جنبي حين تصرعه
إنا منحناك عمرا كي تعيش به
…
فإن رضيت وإلا سوف ننزعه
وقفنا على تفاصيله وجمله، وعلمنا ما هددنا به من قوله وعمله، فيا لله للعجب من ذبابة تطن في أذن فيل، وبعوضة تعد في التماثيل. ولقد قالها من قبلك قوم آخرون فدمرنا عليهم وما كان لهم من ناصرين. أو للحق تدحضون، وللباطل تنصرون (وسيَعْلمُ الذين ظلموا أَيَّ
مُنقلَبٍ ينقلبون). وأما ما صدر من قولك في قطع رأسي، وقلعك لقلاعي من الجبال الرواسي، فتلك أماني كاذبة، وخيالات غير صائبة، فإن الجواهر لا تزول بالأعراض، كما أن الأرواح لا تضمحل بالأمراض. كم بين قوي وضعيف، ودني وشريف! وإن عدنا إلى الظواهر والمحسوسات، وعدلنا عن البواطن والمعقولات، فلنا أسوة برسول الله في قوله: ما أوذي نبي كما أوذيت. ولقد علمتم ما جرى على عترته، وأهل بيته وشيعته، والحال ما حال، والأمر مازال، ولله الحمد في الأولى والآخرة، إذ نحن مظلومون لا ظالمون، ومغصوبون لا غاصبون (وقل جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا) ولقد علمتم ظاهر حالنا، وكيفية رجالنا، وما يتمنونه من الفوت، ويتقربون به إلى حياض الموت. قل (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين. ولن يتمنوْه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين) وفي أمثال العامة السائرة:(أوَ للبط، تهددين بالشط) فهيئ للبلايا جلباباً، وتدرع للرزايا أثواباً، فلأظهرَنَّ عليك منك، ولأفنينهم فيك عنك. . . فتكون كالباحث عن حتفه بظلفه، والجادع مارن أنفه بكفه (وما ذلك على الله بعزيز) فإذا وقفت على كتابنا هذا فكن لأمرنا بالمرصاد، وأقرأ أول (النحل) وآخر (صاد)
الخبر
وفي سنة (588) توفي راشد الدين أبو الحسن سنان بن سلمان مقدم الإسماعيلية، وصاحب الدعوة بقلاع الشام. وأصله من البصرة، قدم إلى الشام في أيام نور الدين، وأقام في القلاع ثلاثين سنة، وجرت له مع السلطان صلاح الدين وقائع وقصص، ولم يعط طاعة قط، وعزم السلطان على قصده بعد صلح الفرنج، وكان (سنان) قد قرأ كتب الفلسفة والجدل
قال المنتجب: أرسلني السلطان إلى سنان مقدم الإسماعيلية ومعي القطب النيسابوري، وأرسل معنا (تخويفاً وتهديداً) فلم يجبه بل كتب على طرة كتاب السلطان:(الأبيات في الرسالة المتقدمة) ثم كتب بعد الأبيات خطبة بليغة (هي تلك الرسالة) مضمونها عدم الخوف والطاعة، فلما يئس صلاح الدين منه جنح إلى صلحه، ودخل في مرضاته
قال اليونيني في تاريخه: إن سناناً سير رسولا وأمره ألا يؤدي رسالته إلا خلوة، ففتشه السلطان صلاح الدين فلم يجد معه ما يخافه فأخلى له المجلس إلا نفراً يسيراً فامتنع من أداء الرسالة حتى يخرجوا فخرجوا كلهم غير مملوكين صغيرين فقال: هات رسالتك، فقال:
أمرت ألا أقولها إلا في خلوة فقال: هذان ما يخرجان
قال: ولِمَ؟
قال: لأنهما مثل أولادي
فالتفت الرسول إليهما وقال: إذا أمرتكما عن مخدومي بقتل هذا السلطان تقتلانه؟
قالا: نعم، وجذبا سيفيهما. فبهت السلطان، وخرج الرسول وأخذهما معه فجنح صلاح الدين إلى الصلح وصالحه. ودخل في مرضاته
البيان
(بسم الله الرحمن الرحيم: فصل من اللفظ الشريف للمولى راشد الدين عليه السلام، وهو أفضل البيان تقوتي بربي لا إله إلا هو العلي العظيم. أيها الرفقاء، غبنا عنكم غيبتين: غيبة تمكين وغيبة تكوين؛ واحتججنا عن أرض معرفتكم، فضجت الأرض، وتقلقلت السموات، وقالت: يا باري البرايا الغفور، فظهرت بآدم، وكانت الدعوة حواء، فحوينا على قلوب المؤمنين الذين ضجت أرض قلوبهم شوقاً إلينا، فنظرنا في سماء نفوسهم رحمة منا، فمضى دور آدم ودعوته، ونفذت رحمة منا في الخلائق حجته. ثم ظهرت بدور نوح فغرقت الخلائق في دعوتي، فنجا بدعوتي ولطفي من آمن بمعرفتي، وهلك من الخلائق من أنكر حجتي. ثم ظهرت في دور إبراهيم على ثلاث مقالات: كوكب وقمر وشمس فخرقت السفينة، وقتلت الغلام، وأقمت الجدار جدار الدعوة فنجا بلطفي ورحمتي من آمن بدعوتي؛ وخاطبت موسى بخطاب ظاهر غير محجوب للسائل هرون، ثم ظهرت بالسيد المسيح فمسحت بيدي الكريمة عن أولادي الذنوب فأول تلميذ قام بين يدي يوحنا المعمداني، وكنت بالظاهر شمعون، ثم ظهرت بعلي الزمان وسترت بمحمد، وكان المتكلم عن معرفتي سلمان، ثم ذر أبو الذر الحقيقي في أولاد الدعوة القديمة بقيام قائم القيامة حاضراً موجوداً فما تم لكم الدين حتى ظهرت عليكم براشد الدين فعرفني من عرفني وأنكرني من أنكرني، وأنا صاحب الكون وما خلت الدار من أفراخ القدم. أنا الشاهد والناظر، ولي الرحمة في الأول والآخر، فلا يغرنكم تقلب الصور؛ تقولون فلان مضى وفلان أتى، أقول لكم أن تجعلوا الوجوه كلها وجهاً واحداً، ما يكون في الوجود حاضراً موجوداً صاحب الوجود! لا تخرجوا عن أمر ولي عهدكم من عربها وعجمها وتركها ورومها فأنا المدبر، ولي الأمر
والإرادة. فمن عرفني باطناً قد تمسك بالحق، ولا تكمل معرفتي بغير ما أقول. عبدي اطعني واعرفني حق معرفتي أجعلك مثلي حياً لا تموت وغنياً لا تفتقر، وعزيزاً لا تذل. اسمعوا وادعوا تنتفعوا. أنا الحاضر وأنتم الحاضرون بحضرتي. أنا القريب الذي لا أغيب، فإن عذبتكم فبعدلي، وأن عفوت عنكم فبكرمي وبفضلي، أنا صاحب الرحمة وولي الغفر والحق المبين، والحمد لله رب العالمين، وهذا بيان)
هذا بيان راشد الدين وقد نشر أمثاله من رسائل العبيدين بعد حين
(قارئ)
الأزهريون والخدمة العسكرية
للدكتور محمد عبد الله ماضي
في الأيام الأخيرة قامت ضجة حول ما أشيع من عزم وزارة الحربية المصرية على وضع تشريع يقضي بتجنيد حملة القرآن الشريف، وطلبة العلم بالمعاهد الدينية، حتى إن بعض الهيئات المحترمة قررت استنكار هذا الأمر، ورأت فيه ما لا يتناسب وحرمة الدين، وما يتنافى مع تكريم أهله. ولعل لأصحاب هذا الرأي بعض العذر، ولعل لديهم من القرائن البعيدة عن جوهر الموضوع وما حملهم على الاستنكار، وجعلهم يرون في مثل هذا التشريع مساساً بكرامة الدين وأهله؛ ولكني أريد هنا أن أحاول معالجة موضوع التجنيد العام في ذاته، وأن أبين رأي الإسلام فيه
ولابد لنا أن نعرف أولاً أن غزيرة الكفاح من الغرائز البشرية ذات الأثر الفعال في حياة الأفراد، وفي نظام الجماعات وتكوينها؛ ولقد كان هذا الأثر واضحاً في كل العصور، وفي جميع تطورات الجماعة من البسيطة الهمجية إلى الراقية المتحضرة. فالكفاح الدائم بين الأفراد والجماعات من سنن الطبيعة وقوانينها مادامت الطبيعة وما عاش الإنسان؛ وهو الوسيلة لبقاء الأصلح، وفناء العاجز الضعيف؛ وهو إذاً سبيل الحياة الدائمة المتواصلة، كما يقول نوفيكوف وبقية أصحاب نظرية الكفاح من علماء الاجتماع
والحرب نوع من أنواع الكفاح القاسية التي نراها لا تزال تتكرر في مختلف العصور بالرغم من بغض الناس لها، وبالرغم مما تجره وراءها من ويلات. وإن الدعوة إلى السلام الدائم بين جماعات الشعوب أمر محمود، ولكنه لا يغير من الواقع شيئاً، وحلم لذيذ لم نر إلى الآن أن الوقائع التاريخية والحوادث الاجتماعية تساعد على تحقيقه. ففي الحوادث التي وقعت في السنوات الأخيرة بين الشعوب المنتسبة إلى عصبة الأمم - حصن الدعوة إلى السلام الدائم - وفيما تكرر ويتكرر من اعتداء قويهم على الضعيف منهم ما يبين لنا أن دعاة السلم لم يتعدوا في دعوتهم حدود القول، ولم يأتوا بشيء عملي لتحقيق ما يدعون إليه
فلا غرابة إذن إذا كنا نرى الأمم القوية في كل العصور تنادي بالسلام وهي تستعد للحرب؛ أما الشعوب الضعيفة فإنها تتخدر أعصابها بالدعاية إلى السلم، وتصم آذانها عن نداء الواجب صيحة السلام التي يرسلها القوى المدججة بالسلاح معمياً، حتى لا تزال هذه الأمم
الضعيفة في عمى عن الحقائق، فريسة له، عاجزة عن الدفاع عن نفسها أمام هجماته، وميداناً لتحقيق مطامعه. والشعوب الحية العزيزة، التي تشعر بالكرامة، وتأبى الضيم والمذلة على استعداد دائم للدفاع عن نفسها، ورد اعتداء المعتدي، فهي تأخذ أفرادها بالمران على الأعمال الحربية، تقوي أجسامهم، وتربي العزة في نفوسهم، وتحبب إليهم التضحية بالنفس والنفيس في سبيل دفع الاعتداء عن أمتهم، ورد المهانة وسلامة الكرامة، والاحتفاظ بالحرية. فالروح العسكرية، وتربية الشعب تربية عسكرية أمر لابد منه لكل أمة تريد أن تعيش مرفوعة الرأس، عزيزة الجانب بين الأمم؛ أمر لابد منه لأشعار أفراد الشعب بمعنى العزة والكرامة، وحتى يؤمنوا بأن الموت العزيز خير من الحياة الذليلة
هكذا صنعت وتصنع الأمم الحية الكريمة، وهكذا كان شأن الأمة الإسلامية في مبدئها، وفي العصر الذي كان المسلمون يعملون فيه بتعاليم الإسلام الصحيحة قبل أن تختلط بالمبادئ الدخيلة التي أعطيت صبغة الإسلام وهي ليست منه في شيء. فكما تأمر مبادئ الإسلام بتعليم النشء وتثقيفه، فهي تأمر أيضاً بأخذه بأنواع الرياضة، وتدريبه على فنون الحرب. وقد جاء في الحديث الشريف (حق الولد على الوالد أن يعلمه الكتابة والسباحة والرمي) وفي التعليق على حديث (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي. ألا إن القوة الرمي. ألا إن القوة الرمي) يقول صاحب نيل الأوطار: وكرر ذلك للترغيب في تعلمه (الرمي) وإعداد آلاته؛ وفيه دليل على مشروعية الاشتغال بتعليم آلات الجهاد، والتمرن فيها، والعناية في إعدادها، ليتمرن بذلك على الجهاد ويتدرب فيه، ويروض أعضاءه
وليكن لنا في رسول الله أسوة حسنة، وهو المثل الأعلى للرجولة الكاملة، فلقد ساهم عليه السلام بنفسه في كثير من أنواع الرياضة، والتمرينات الحربية، فسابق في العدو، ورمى، وصارع؛ ولقد شاهد اللعب بالحراب، واشترك في سباق الخيل. كان يفعل كل هذا، ويأمر به، ويشجع عليه أفراد أمته، حتى النساء منهم، فلقد كان يسابق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها جريا على الأقدام، فمرة تسبقه ومرة يسبقها. أرأيت كيف أن هذا لا ينافي الوقار والشرف والعلم والفضل وعلو السن؟! هذا هو حكم الإسلام في الرياضة البدنية؛ وهذا هو حكم الإسلام في الخدمة العسكرية، وتعليم أفراد الأمة فنون الحرب، وأخذهم بآداب الجندية
ولم تزل الشعوب قوية عزيزة الجانب حتى أخذت روح الجندية تضعف في نفوس أفرادها،
وأخذ استعدادهم للدفاع عن حمامهم يضعف ويقل؛ فأخذ العدو يهاجم بما لا حول لهم به ولا قوة، حتى وصلت بهم الحال إلى ما هم عليه من الضعف، وحتى استعبدهم الغير؛ وما فتئت الدول المستعمرة في العصور الأخيرة تعمل على قتل روح الجندية، روح القوة والرجولة في الأمم الإسلامية المغلوبة على أمرها، لتطول مدة حكمها لها، ولتأمن جانبهم في الدفاع عن أنفسهم. عملت على هذا، ووضعت لتنفيذه خططاً مدبرة محكمة، كان من أشدها خطراً عندنا في مصر قانون البدل والإعفاء من الخدمة العسكرية؛ إذ ظن المعفون خطأ أن في ذلك ميزة لهم وشرفاً اكتسبوه؛ وكانت نتيجة هذا الأجراء المدبر أن انحصرت الخدمة العسكرية في أفراد الطبقة الفقيرة الجاهلة من الشعب؛ وعومل هؤلاء أثناء تأدية الخدمة من رؤسائهم معاملة إذلال وقهر، غرست في نفوسهم البغض لما هم فيه، وقتلت فيهم الروح المعنوية التي لابد لها منها لانتصار الجنود إذا اشتدت الخطوب، ووقع القتال؛ هذه الروح المعنوية التي جعلت العشرين من جند النبي وأصحابه يغلبون مائتين، والمائة يغلبون ألفين
هذه العوامل وغيرها ولدت في نفوس الشعب عندنا بغض الخدمة العسكرية وتحقيرها، حينما تفخر الشعوب الحية بها وتعتز؛ وبهذا فقد شبابنا كثيراً من معاني القوة والرجولة. ومن عجائب الدهر أن تجعل الخدمة العسكرية عقوبة للطالب الأزهري يعاقب بها إذا رأى ولاة الأمور خروجه عن النظام، وقرروا إنزال العقاب به؛ فهم حينئذ يمحون اسماه من سجلات الطلبة الأزهريين ويبلغون الجهات المختصة لتحرمه من امتياز الإعفاء من الخدمة، وتعاقبه فتجعله يؤدي الخدمة العسكرية - كما وقع ذلك في بعض عصور الأزهر الغابرة -
ألا إن هذا عكس الحقائق، ووضع للأمور في غير نصابها؛ هذه الروح يجب أن تزول، وأن يحل محلها روح الشعور بأن الجندية شرف لا عقوبة
الواجب على أولي الأمر بعد أن حصلنا على معاهدة الاستقلال، وأطلقت يدنا من عقالها في كثير من الشئون أن يصلحوا ما أفسده الدهر من أمر الخدمة العسكرية في بلادنا. وإذا أراد أن يسلم لنا شرفنا فلنعمل على تربية روح العزة والكرامة، ولنتعهد روح الرجولة بما ينميها في نفوس الأفراد، فيجب أن تكون الخدمة العسكرية عامة إجبارية على كل من
يصلح لها من أبناء الشعب بلا تفريق بين طبقة وطبقة، وبغير تمييز بين أهل حرفة دون حرفة، ليشعر أبناء الشعب جميعاً بالأخوة والمساواة، وليدخلوا جميعاً مدرسة الرجولة
وعلى جميع طبقات الأمة أن ينادوا بهذا، ويطالبوا ولاة الأمور بتنفيذه؛ وعلى حملة القرآن الشريف، والأزهريين منهم خاصة - من أصحاب الامتياز المزعوم - أن يطالبوا أولي الأمر مع المطالبين، بل في مقدمتهم بالتجنيد الإجباري العام، فإنهم أبناء الأمة، وعليهم أن يشركوا إعداد أنفسهم للدفاع عنها إذا دعا الداعي. ولهم أن يفخروا بشرف الانخراط في سلك الجندية، فلقد حان الوقت ليخرج الأزهريون من عزلتهم، وليأخذوا أنفسهم بتعاليم الإسلام الصحيحة، وينفوا ما زيف عليهم منها
فليس من الإسلام أن حملة القرآن الشريف، وطلبة الأزهر يعفون من خدمة العسكرية، فالإسلام دين الرجولة يمقت كل ما يمت إلى التخنث بصلة؛ وليس من الإسلام هذا الوقار المزعوم الذي يتخيله العامة عندنا في المشية المتثاقلة المتئدة البعيدة عن النشاط وخفة الحركة، فلقد كان النبي عليه السلام يسير ملقياً جسمه إلى الأمام مسرع الخطو ثابته.
محمد عبد الله ماضي
دكتور في التاريخ والاجتماع وعضو بعثة تخليد ذكرى الشيخ
محمد عبده بألمانيا
في تاريخ الأدب العربي
كليلة ودمنة
للأستاذ عبد الله محمود إسماعيل
لست أزعم أن أدلة هذا البحث - على قوتها - مما لا يستطاع نقضه أو أضعافه. ولست أزعم أن موضوع البحث مما لم يسبق لبعض الأقلام تناوله. ولكن الذي أستطيع زعمه أن أكثر ما سأعتمد عليه في تدعيم وجهتي طريف مبتكر لا يشينه سطو ولا تعكره إغارة
وقد يكون مرجع الفضل في إثارة هذا البحث إلى رسالة صغيرة كتبها عن ابن المقفع الزميل (الأستاذ محمد قابيل) ذهب فيها مذهب بعض المستشرقين من القول بأن نسبة كتاب كليلة ودمنة إلى غير عبد الله بن المقفع يعوزها الدليل القوي، وأن الكتاب في مجموعه لا يخرج عن حكايات وضعها ابن المقفع أو نقلها عن الآداب الدخيلة. يريد بذلك ألا يجعل للكتاب أصلا في الفارسية أو الهندية بهذا الاسم، وهو يؤيد اختياره هذا بما يلمس في الكتاب من بلاغة عبارة، وقوة أداء، وخلو من المسحة الدخيلة، مما لا يتهيأ لكتاب مترجم حرص فيه على الأمانة؛ وبأن مؤرخي الهنود وعلماء أوربا يجهلون كتاباً بهذا العنوان والتبويب في الهندية، كما يجهلون شخصي (بيدبا) و (دبشليم) وكلا الدليلين ساقط، لأن هذه القوة البلاغية في الترجمة، وسبك الألفاظ وفق أرجح أساليب العربية ليس مما يستغرب من ابن المقفع وقد (كان في نهاية الفصاحة والبلاغة مضطلعاً باللغتين - العربية والفارسية - فصيحاً بهما)
وما لنا نذهب بعيداً وفي المكتبة العربية الآن كتب مترجمة عن الفرنسية والإنجليزية والألمانية أتت، على الرغم من سحر بيانها وشريف أسلوبها، أمينة على الأصل، حريصة على روح المؤلف، وهذه قصة البائسين لحافظ بك. ورفائيل وفرتر للأستاذ الزيات، فقد جاءت مع الأصل كالحسناء وخيالها في المرآة. وتلك حالة لا يجد فيها المترجم كبير عناء متى كان متمكناً من لغة المنقول عنه والمنقول إليه، خبيراً بآدابهما، وطرائق الحسن فيهما. كما كان الشأن مع ابن المقفع
على أنني لا أرى هناك ما يحمل على التمسك بالحرفية والأمانة في ترجمة مثل كتاب كليل ودمنة، فليس هو بالكتاب العلمي الخطير، ولا القصة الفنية التي يذهب التصرف فيها شيئاً
من جمالها وروعتها، وهو في النهاية لا يعدو أن يكون كتاب تخريف وسمر للخواص وأرباب البيان على الرغم من هذه الطنطنة التي ملأت صدر الكتاب. ولاشك أن ابن المقفع كان يفهم هذا فأباح لنفسه بعض التصرف في الأصل فرفع بذلك عن قلمه كثيراً من الحرج والتهيب
أما ما يقال عن جهل مؤرخي الهنود وعلماء أوربا بدبشليم وبيدبا، وبكتاب له هذا الاسم والتبويب في اللسان الهندي، فلا يمكن أن يتخذ منه دليل قاطع على وضع ابن المقفع للكتاب، فإن صلاحيته للقول بهذا أضعف من صلاحيته للقول بأن الفرس هم وضعة الكتاب، فقد نقل هذا الرأي أحد مؤرخي القرن الرابع الهجري؛ قال محمد بن إسحاق النديم:(فأما كتاب كليلة ودمنة فقد أختلف في أمره، فقيل عملته الهند، وقيل عملته ملوك الإسكانية، ونحلته الهند، وقيل عملته الفرس ونحلته الهند، وقال قوم أن الذي عمله بزرجمهر الحكيم) الفارسي. على حين لم أعثر في الكثير الذي قرأته من المراجع القديمة على من يصرح بأن ابن المقفع هو واضع الكتاب
وإن هذا التأييد التاريخي للقول الثاني مع ما ذكروا من أن المراجع الهندية والأوربية تجهل وجود كتاب كليلة ودمنة في السنكسريتية، كما تجهل وجود ملك يسمى دبشليم ليجعلني أميل إلى الأخذ به وترجيحه على ما سواه. ولن يضعف منه تاريخ المسعودي لدبشليم الملك ضمن من ذكر من ملوك الهند الأقدمين وقوله أنه الواضع لكتاب كليل ودمنة، فإن جل ما كتبه عن هذه العصور القديمة لا يخرج عن دائرة الجمع الذي لا يقوم على أساس صحيح من التحقيق والتحري، ويكفي لصدك عن التعويل على ما كتب أن تعرف أنه جعل ملك (دستلم) أو (دبشليم) مائة وعشرين سنة؛ وأن ما ذكره بعد ذلك عنه وعن (فور) سابقه لا يتجاوز ما ذكر في مقدمات كليلة ودمنة؛ الأمر الذي يحملنا على الظن بأن المسعودي ما عرف هذين الاسمين إلا عن طريق هذا الكتاب
وليس ببعيد على الفرس وضع كتاب كليلة ودمنه وإلباسه هذا الثوب الهندي، فهم جيران الهنود وإخوانهم في جنسيتهم الآرية يشركونهم في ذكائهم وتعقلهم وخيالهم (وهم أول من صنف الخرافات وجعل لها كتاباً وأودعها الخزائن، وجعل بعض ذلك على ألسنة الحيوان)
ولا محل للاعتراض هنا بأن الكتاب ولو كان من عمل الفرس لتضمن شيئاً من المجوسية
والمذاهب الفارسية الأخرى؛ لأنه لم يوضع لتدوين عقيدة أو إذاعة مذهب ديني خاص؛ وهذا كتاب (مزدك) الذي نقله عن الفارسية ابن المقفع وأبان بن عبد الحميد، (فإن أول ما يتبادر إلى الذهن أن الكتاب يبحث عن مذهب مزدك، ولكن الأستاذ (براون) ذكر في كتابه (تاريخ آداب الفرس) نقلا عن (نولدكي): أنه كتاب أدب وضع للتسلية، ويعد في مصاف كتاب كليلة ودمنة ولا تضر قراءته مسلماً)
على أننا لو سلمنا باحتواء الأصل على شيء من هذه المذاهب الفارسية، فإننا نرجع نقاء الترجمة العربية منها إلى ما ذكرنا من تصرف ابن المقفع، ولعل الذي حمله على هذه التصفية عقيدته الإسلامية الجديدة أو خوفه من تشكك المنصور فيه إن سمحنا لأنفسنا بالطعن في صدق إسلامه
وإن مما يكاد يحملنا على الجزم بأن ابن المقفع ناقل لكليلة ودمنة لا واضع له ما ذكره صاحب الفهرس من أن جماعة من النقلة عن اللسان الفارسي - وفيهم من عاصر ابن المقفع أو قارب وقته - قاموا بترجمة هذا الكتاب إلى اللغة العربية. قال العلامة جورجي زيدان: (يظهر أن بعض الأدباء حسد ابن المقفع على شهرة الكتاب فأعادوا نقله، واشتغل بعضهم بنظمه، وتصدى آخرون لمعارضته). ولا غير هذا يفسر لنا سر الاختلاف الذي ذكره ابن النديم في عدد أبواب الكتاب، فقد قال:(هو سبعة عشر باباً، وقيل ثمانية عشر، ورأيت أنا في نسخة زيادة بابين)
وكان أقدم من نقل الكتاب إلى العربية نظماً أبو سهل الفضل بن نوبخت الفارسي من خدم المنصور ومن العاملين في خزانة الحكمة لهارون الرشيد (وقد كان معوله في علمه على كتب الفرس) ثم عبد الله بن هلال الأهوازي، نقله ليحيى بن خالد البرمكي في خلافة المهدي سنة 165 هجرية، ثم أبان بن عبد الحميد اللاحقي، قال محمد بن اسحق (وقد نقل من كتب الفرس وغيرها ما أنا ذاكره: كتاب كليلة ودمنة، كتاب السندباد، كتاب مزدك. . .) وقد كان أبان هذا (صديقاً للبراكمة، متصلا بهم اشد اتصال. . . وكان أديبهم الرسمي) ومن المختصين بالرشيد. ويظهر أن نقله الشعري - على جدته - كان على جانب من الجودة فقد (أعطاه يحيى بن خالد عشرة آلاف دينار وأعطاه الفضل خمسة آلاف دينار، ولم يعطه جعفر شيئاً وقال: ألا يكفيك أن أحفظه فأكون روايتك؟!)
ولو قدرت الحياة لهذه التراجم الأخرى أو لبعضها لقطعت الشك باليقين، ولوضعت بين أيدينا الدليل المادي على أن موقف ابن المقفع من الكتاب لم يكن إلا موقف المترجم البليغ والمهذب البصير؛ أما وقد نالها من عوادي الزمان وتقلب الأحداث ما أودعها عالم الفناء فليس لنا إلا الاعتماد على دراسة ما بقى مما كتبه عنها الثقات من رجال الأدب والتاريخ، وما اقتبسته كتبهم عن بعض هذه التراجم، وفي هذا وذاك كثير من الغناء والعزاء
ولئن ذكرنا بالفضل صاحب الفهرس لما أفادنا في هذا المقام فلا يسعنا إلا أن نذكر بمزيد الإعجاب فضل إبراهيم الصولي، فقد نقل لنا في كتابه الأوراق ستة وسبعين بيتاً من ترجمة أبان النظمية، ولولاه ما بقي لنا منها إلا الأبيات الأربعة التي ذكرها أبو الفرج وهي لا تغني في البحث شيئاً
وفي هذه الطائفة التي ذكرها الصولي من المنظومة دليل آخر على أن أبان استقى من مصدر فارسي، وأنه لم يعتمد على نسخة ابن المقفع، إذ لم يقع له من عباراتها إلا ما جاء وليد المصادفة أو الاستعانة وهو نادر، كما يلاحظ على منظومته قلة تداخل حكاياتها والاقتصاد في سوق الحكم، وربما ذكر الشيء في غير الباب الذي وضعه فيه ابن المقفع
ابتدأأبن نظمه بالبيت المعروف: -
هذا كتاب كذب ومحنة
…
وهو الذي يدعي كليله دمنة
ثم ذكر في الأبيات الأربعة التي تليه أن الكتاب من عمل الهند وصفوا فيه الآداب على ألسنة البهائم، ليشتهي السخفاء هزله وليعرف الحكماء فضله: -
وهو على ذاك يسيرُ الحفظِ
…
لَذٌّ على اللسان عند اللفظ
ثم أتى الصولي بعد ذلك باثنين وعشرين بيتاً يبدو أنها ليست من هذا التمهيد الذي وضعه أبان؛ وإنما هي من باب برزويه تبدأ عند مناجاة هذا الحكيم نفسه بقوله: (يا نفس أما تعرفين نفعك من ضرك؟! ألا تنتهين عن تمني ما لا يناله أحد إلا قل انتفاعه. . .) وفيها يحدث نفسه بأن الدنيا بما لنا فيها من أحباء وأصدقاء كثيرة الآلام، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يعرض نفسه للهلاك في سبيل جمع ما يرضي به أهله ومحبيه؛ وأن في النسك وترك الدنيا لمن يشقى بها النجاة من الشرور. وختم أبان الأبيات بالإقرار الوجدانية وأنه مرتهن بعمله إن خيراً فخير وإن شر فشر؛ ثم اقتبس الصولي من باب الأسد والثور تسعة وأربعين
بيتاً في مواطن مختلفة من الباب ذكر فيها طرفاً من الحديث الذي دار بين كليلة ودمنة حول التقرب من الملك ثم كيد دمنة للثور عند الأسد؛ ثم تحدث عن المال وما فيه من عز وجمال، وامتدح العقل ومشورة غير أهل التهمة
ولكي يتضح بعد المنظومة عن ترجمة ابن المقفع نلفت النظر إلى أن حديث المال الذي ذكره أبان في باب الأسد والثور جعله عبد الله في باب الحمامة المطوقة. وإليك الأبيات التي ذكرها في هذا الموضوع لتتحقق بعد الموازنة من صدق ما ارتأينا من المباينة بين الترجمتين:
الأهل والأخوان والأعوان
…
عند ذوي الأموال حيث كانوا
والمال هادي الرأي والمروّه
…
وهو على كل الأمور قوه
والمال فيه العز والجمال
…
والذل حيث لا يكون المال
وربما دعا الفقيرَ فقرهُ
…
إلى التي يُحبط فيها أجرهُ
فيخسر الدين كما كان خسر
…
دنياه والخسران ما لا ينجبر
وليس من شيء يكون مدحا
…
لذي الغنى إلا يكون بَرْحا
على الفقير ويكون ذما
…
كذاك يدعى وبه يسمى
فإن يكن نجداً يقولوا أهوج
…
كذاك عند الحرب لا يعرج
وهْو إذا كان جواداً سيّداً
…
سُمي للفقر مُضيعاً مفسدا
أويك ذا حلم يُقل ضعيف
…
أويك بساماً يُقل سخيف
وقد يظن كثير من الأدباء أن ابن المقفع عرف كيف يخلد اسمه باختياره ترجمة كتاب كليلة ودمنة أو ادعائه ذلك؛ ولكن الذي لا يتطرق إليه الاحتمال عندي أن كتاب كليلة ودمنة إنما كتب له الخلود، وبقي على توالي الأحداث والأيام لأن عبد الله ابن المقفع تصدى لترجمته فألبسه هذا الثوب الرائق من بلاغته وتهذيبه ومعرفته. ولقد يدهش أصحاب ذلك الظن إذا قلنا لهم إن الكتاب لم يكن له في الفارسية من الخطر ما صار له بعد نقله إلى العربية على يد ابن المقفع، ولكن دهشهم سيتبدد متى عرفوا أن الفرس أنفسهم حينما رأوا الكتاب في صورته الجديدة المنسجمة استولى عليهم الإعجاب، وأخذوا ببلاغته فنقلوه إلى الفارسية مرة أخرى، وأهملوا أصوله التي بين أيديهم فأذهبا النسيان؛ حتى لقد ذكر ابن النديم أنهم نقلوه
(إلى اللغة الفارسية بالعربية) ليتمكن من يتكلم الفارسية ولا يكتبها من قراءته بالحروف العربية التي سرى استعمالها بينهم
وأني لأسأل نفسي الآن عن المصير الذي كان ينتهي إليه كليلة ودمنة لو لم يكن عبد الله بن المقفع ضمن من ترجموه!! إنه ول شك مصير مظلم؛ أو قل هو المصير الذي انتهت إليه التراجم والنقول الأخرى
(أسيوط)
عبد الله محمود إسماعيل
محمد بن جعفر الكتاني
بمناسبة مرور عشر سنوات على وفاته
للأستاذ محمد المنتصر الكتاني
تتمة ما نشر في العدد الماضي
وكان أسلافه يعرفون قديماً بعدة ألقاب: بالكتانيين وأمراء الناس والزاويين وشرفاء عقبة ابن صوال، وحديثاً بالكتانيين فقط
فأما شهرتهم باللقبين الأولين: فنسبة إلى جدهم الأول أمير الناس الكتاني يحيى بن عمران الذي يعده المؤرخون أول ملك مغربي استعمل في معسكراته خيام الكتان فنسبوه إليها، وما كانت تعرف قبله غير خيام الصوف والشعر، وأول ملك بويع باسم أمير الناس، فلزم بنيه لقبه الأول إلى اليوم، وورثوا عنه الثاني ردحاً من الزمن
ذكر هذا القاضي بن الحاج في كتابيه نظم الدرر والأشراف، والشريف المدغري في الدرة، وأبو زيد السيوطي المكناسي ووالده أبو بكر في كتابيهما في الأنساب
وأما شهرتهم باللقب الثالث: فنسبة إلى زواوة وهي قبائل بربرية كبيرة مواطنها في الجزائر (بنواحي بجاية ما بين مواطن كتامة وصنهاجة، أوطنوا عنها جبالاً شاهقة متوعرة، تنذعر منها الأبصار، ويضل في غمرها السالك) فر إليها الكتاني يحيى حين تغلب السفاح بن أبي العافية على ملك أسلافه فنصبوه ملكا عليهم وتدبرها بنوه من بعده قرنين كاملين وثلاثين سنة تزيد قليلاً أو تنقص قليلا
ذكرهم بهذا اللقب ابن عمرو العبدي في كتابه الكوكب الساني في النسب الكتاني
وأما شهرتهم باللقب الرابع فنسبة إلى حي معروف من أحياء فاس يعرف بعقبة بن صوال، كان نزولهم به أول ما رجعوا من مكناس في آخر القرن التاسع
عرفهم به القاضي بن الحاج في الأشراف وعلى هذا اللقب وضع فيهم كتابه الشهير (نظم الدر واللآل في شرفاء آل عقبة ابن صوال) وبه ذكرهم أيضاً الشريف القادري في الدر السني
ولا يعرف اليوم أحدهم بلقب من تلك الألقاب الثلاثة - أمراء الناس، الزاويين، شرفاء
عقبة بن صوال - التي أصبحت تاريخية وفي بطون الكتب ليس غير، ولا أدري إذا كانت بعض الأسر بالجزائر أو غيرها من الأقطار التي أقاموا بها لا تزال تحمل أحد هذه الألقاب
واللقب الأول والأخير هو (الكتاني) فقط الذي بقي علماً لآبائه من القرن الرابع إلى الآن
ولعل من العبث أن أعيد القول فأذكر أنه تقدم في السلافة أئمة أعلام شاركوا في توريث التراث المحمدي، فهدوا وعلموا وعذبوا وألفوا، وفي الخزائن العامة والخاصة الدليل الناطق، وقد بلغ ما عده بعضهم من مؤلفاتهم فيها المئين وكتب المؤرخين طافحة بتراجمهم
ومن منهم لا يعرف (علي بن موسى) و (عبد الواحد بن عمر) وولده (أحمد) و (محمد بن أحمد بن علي) و (محمد بن عبد الوهاب) و (المأمون بن عمر) و (إدريس بن الطائع) ومَنْ من المغاربة يجهل (جعفر بن إدريس) وأولاده الأربعة صاحب الترجمة، و (أحمد) و (عبد الرحمن) و (عبد العزيز) و (عبد الكبير بن محمد) وولده (الشهيد محمد) و (عبد الكبير بن هاشم) و (الطاهر بن حسن) و (عبد الحفيظ بن محمد) رحمة الله عليهم أجمعين
اشتهر بلقب (الكتاني) قديماً خلق كثير في الأندلس والمغارب الثلاثة وبغداد ودمشق لا يمت واحد منهم لأسلاف الإمام بصلة، فيهم الوالي الأمير والمحدث والفقيه والطبيب الأديب وو. . . وقد وقفت على تراجمهم عند عياض في المدارك والخطيب في تاريخ بغداد والسمعاني في أنسابه وابن الجزري في طبقات القراء والذهبي في التذكرة وتاريخ الدول والميزان والضوء اللامع والحافظ في اللسان والدرر الكامنة وابن عثمان النابلسي في مختصر طبقات الحنابلة وابن القاضي في الجذوة والقادري في النشر وابن جعفر (المترجم) في السلوة
وقد عني بتاريخ أسلافه جمهرة من المؤرخين قديماً وحديثاً وأولهم - فيما أعلم - أبو عبيد البكري صاحب المسالك الذي يعد كالمعاصر للملك الكتاني يحيى بن عمران إذ أبو عبيد مات في آخر القرن الخامس والكتاني مات في آخر القرن الرابع
وهأنذا مورد طائفة من الكتب التي فيها تاريخ أسلافه بعضها خاص بهم والبعض الآخر مذكورون فيها ضمن باقي الأسر المغربية عرفت من القسم الثاني (المسالك والممالك) لأبي عبيد و (تاريخ الأدراسة) للبرنسي و (أنيس الأنيس) لا أعرف مؤلفه (وكتاباً) للأزوارقاني و (مختصر البيان في نسب آل عدنان) للشيخ الإمام المقرئ أبي العباس أحمد بن محمد بن
عبد الله بن جزي الكلبي و (معدن الأنوار في التعريف بأولاد النبي المختار) الإمام أبي العباس أحمد بن محمد بن عبد الله المقري التلمساني و (ابتهاج القلوب بخبر أبي المحاسن وشيخه المجذوب) للشيخ الإمام عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي وهما نسختان: قديمة وقع له فيها خلط كثير أجمع على نقدها وتزييفها نطقاً وكتابة كل من وقف عليها من المؤرخين والنسابين - وفيهم شيخ أخوة الجماعة محمد وجماعة من آل بيته - وجديدة نقحها واستدرك فيها على نفسه، وتجديد المؤلف لهذا الكتاب بنفس العنوان الأول معناه عنده التنبيه على عدم اعتماد النسخة القديمة خصوصاً وقد زاد في الجديدة أشياء لم تكن في الأولى وحذف منها ما تعثر فيه قلمه من الأخطاء، وكلا النسختين في متناول اليد. . . و (درة التيجان ولقطة اللؤلؤ والمرجان في الإعلام بغرر الأنساب وذكر بعض الأشراف ذوي الأحساب) للإمام الكبير محمد بن محمد بن محمد الدلاني البكري و (شرحها) للعلامة المشارك محمد بن أحمد بن محمد بن عبد القادر الفاسي و (الدر السني في بعض من بفاس من أهل النسب الحسني) للعلامة الكبير الشريف عبد السلام بن الطيب القادري و (التنبيه من الغلط والتلبيس في بيان أولاد الإمام محمد بن إدريس) للفقيه العالم المؤرخ الشريف محمد بن أحمد بن علي الكتاني، وكتاباً في (الأنساب) للشيخ الإمام أبي بكر بن محمد السيوطي المكناسي، وكتاباً آخر في (الأنساب) أيضاً لولده الإمام النسابة أبي زيد السيوطي و (عقد اللآلئ المستضيئة النورانية لنفي ظلام التلبيس في سلالة مولانا إدريس بن إدريس) له أيضاً، وكتاباً فيه الجواب على أسئلة تتعلق بالسبطين) للشاعر الكاتب أحمد بن عبد القادر القادري و (الروضة المقصودة والحلل الممدودة في مآثر بني سودة) و (السر الظاهر فيمن أحرز بفاس الشرف الباهر من أعقاب الشيخ عبد القادر) كلاهما للأديب الكبير العلامة الشريف سليمان بن محمد الحوات و (سلوك الطريق الوارية في الشيخ والمريد والزاوية) للصوفي الواعظ الكبير الشريف محمد بن علي المنالي الزبادي و (تحفة الحادي المطرب في رفع نسب شرفاء المغرب) للمؤرخ الأديب الشهير أبي القاسم بن أحمد بن علي بن إبراهيم الزياني و (الدرة الفائقة في أبناء علي وفاطمة) للعلامة الشريف الزكي بن محمد المدغري و (الإشراف على بعض من بفاس من مشاهير الأشراف) للعلامة المؤرخ القاضي محمد الطالب بن حمدون بن الحاج و (الدرر البهية والجواهر النبوية) للعلامة
النسابة الشريف إدريس بن أحمد الفضيلي
وأما الكتب الموضوعة فيهم خاصة فعرفت منها (الكوكب الساني في النسب الكتاني) للفقيه العالم المدرس مبارك بن عمر العبدي الأسفي و (نظم الدر واللآل في شرفاء عقبة ابن صوال) للقاضي ابن الحاج صاحب كتاب الأشراف المتقدم ذكره، وشرفاء عقبة هو اللقب الذي كان يعرف به أسلاف الإمام في القرن العاشر كما ذكرت قريباً و (الروضة المنيفة في النسبة الكتانية الشريفة) لقاضي حد كورت الحالي العلامة المؤرخ عبد الحفيظ الفاسي و (الرياض الربانية في الشعب الكتانية) لوالد المترجم شيخ الإسلام الشريف جعفر الصادق و (النبذة اليسيرة النافعة التي هي لأستار جملة من أحوال الشعب الكتانية رافعة) للإمام المترجم و (الجوهر النفيس في النسب الكتاني) لأخي المترجم العلامة الكبير الشريف عبد الرحمن و (منتهى الأماني في التعريف بالنسب الكتاني) و (الجوهر المكنون في ذكر فرع الحلبي المصون) كلاهما للعلامة الشريف طاهر بن حسن الكتاني و (المظاهر السامية في النسبة الشريفة الكتانية) لصاحب التراتيب الإدارية
هذا مجمل تاريخ أسلافه في المغربين - الأقصى والأوسط - وبهذا فقط اعتنى مؤرخو المغرب وكنت أحسب كغيري أن سلفه لم يرحلوا إلى الشرق قديماً وبالحري أن يكون لهم فيه ذكر أو تاريخ حتى كشف (الغيب) عن خطئي وتقصير جميع مؤرخينا إذ ثبت لهم أن بالشرق الأقصى - جاوى - تاريخاً خالداً ومجداً لا يبيد
لما رجع الأستاذ الهاشمي التونسي من رحلته الطويلة لبلاد جاوى مر في طريقه على مصر فاستقبله الصحافي السيد محي الدين رضا مندوباً عن جريدة المقطم ليسأله عن حالة جاوى العامة، فأجابه الرحالة التونسي بحديث مسهب نشرته المقطم في عدديها الصادرين في 13 و 14 سبتمبر سنة 1929 ونقلته عنها مجلة الدهناء الجاوية التي تصدر بمدينة سورابايا في عدديها (19 و 20) من السنة نفسها الموافق لربيع الثاني سنة 1348. أقتطف من هذا الحديث ما يتعلق ببحثي، قال الأستاذ الهاشمي:
(. . . دينهم - الجاويين - الإسلام اعتنقوه في أواخر المائة الثامنة من الهجرة وأوائل القرن التاسع على يد طائفة من رجالات المغاربة من أسرة الكتاني الموجودة إلى اليوم في مراكش حسبما هو مكتوب ومنقوش على المشاهد وألواح المرمر التي فوق قبور أولئك
الدعاة والتي لا تزال ماثلة واضحة القراءة بخطوط بديعة، وهذه القبور تعرف حتى الآن بين عامة الجاويين بقبور المغاربة في مدينة (نبتام) في أقصى الجزيرة الغربي ومدينة (سوربايا) في أقصى الجزيرة الشرقي ومدن (الطوبان) و (شربون) و (سومدانج) و (دماك) في قلب الجزيرة الجاوية ومن يراجع تاريخ سديو الفرنسي ير في الفصل المعقود لتقدم العرب في الملاحة كيف أن عرب الأندلس والمغرب أول من أجتاز جزائر الخالدات إلى خليج غينيا ورأس الرجاء الصالح متوجهين رأساً إلى أقصى الشرق من طريق أقصى الغرب
وحين كنت بالأزهر الشريف سنة 1353 سألت عن هؤلاء المغاربة الدعاة الطلبة الجاويين - وهم كثير بالأزهر - فأجابوني بما معناه: من الطفل الرضيع إلى الشيخ الفاني في جاوى كلهم يعرفون أن الكتانيين المغاربة هم من هدى الله للإسلام على يدهم خمسين مليوناً من القطر الجاوي، وهذه أضرحتهم الفخمة في مختلف مدن بلادنا لا تزال ناطقة بذلك ما دامت جاوى جزءا من أجزاء المعمور)
ولما كنت لا أعتبر تاريخ دخول الإسلام لجاوى رابطة عائلية فحسب بل أعتبره صلة متينة بين جاوى والغرب
ولما كنت لا أعرف سوى ما قصه عليه الأستاذ الهاشمي وأيده لي الطلبة الجاويون بالأزهر
ولما كنت في شك مما نشر في المقطم حيث تتبعت كل ما كتبه زعيمنا الإسلامي العلامة شكيب أرسلان في تعاليقه على حاضر العالم الإسلامي فلم يذكر كون الدعاة الناشرين للإسلام بجاوى هم من آل الكتاني، على أنه صرح بأنهم مغاربة، وتركني أشك في هذا ما أعتقده فيه من الإطلاع الواسع الذي (أعدم نظيره) في هذا العصر على الدقيق والجليل من أحوال الأقطار الإسلامية النائية ويكفي للتدليل على ما أقول تعاليقه الريانة فوائد وعلوماً على (حاضر العالم الإسلامي) فضلا عن عشرات المؤلفات التي يتحف بها العالم الإسلامي بين حين وآخر وكلها مشهورة بل محفوظة عن (ظهر قلب) فأنا أرجو من سمو الأمير وحضرة الرحالة التونسي وسماحة العلامة الكبير مؤرخ جاوى الحبيب محمد ابن عبد الرحمن ابن شهاب العلوي الحضرمي ومن كل له من له خبرة واطلاع على الموضوعات أن يفدونا - مشكورين مأجورين - عن وقت دخول هؤلاء المغاربة الكتانيين إلى جاوى،
وعن أسمائهم وتراجمهم وما سبب رحلتهم هذه الطويلة - من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق - وهل تركوا عقباً بها، وبماذا يعرف اليوم مع ذكر المصادر بأي لغة كانت المطبوع منها والمخطوط
محمد المنتصر الكتاني
شد الرحال إلى الجبال
للأستاذ عز الدين التنوخي
وأخيراً عاد الأمير شكيب أرسلان من جُنَبرة إلى لبنان! وبعد أن قرت عين المسافر بالإياب، وألقى عصاه بين أهله والأحباب، حركني وصديقي الشيخ محمد بهجة البيطار شوق مبرح إلى زيارة أمير البيان في رحابه، فشددنا الرحال إلى الجبال، أو بالحري أدرنا العجلات نحو الهضبات؛ وأحب أن يرافقنا في السيارة لهذه الزيارة: الشيخ بهجة الأثري البغدادي والشيخ ياسين الدّواف النجدي والشيخ علي الطنطاوي الدمشقي الذي لا يجهله قراء الرسالة. ومازالت سيارتنا بسم الله مجراها ومرساها تصعد في الجبال تارة وتصوب في بطون الأودية أخرى حتى بلغنا العشية عين صوفر عرين الأمير، فعلمنا أنه في كورة الشوف يرد الزيارة لوفود القرى التي استقبلته يوم رجوعه إلى ربوعه، وكان علينا أن نكتب إليه بزيارتنا من دمشق، فذلك الإهمال أو النسيان، قد دهانا بهذا الإخفاق أو الحرمان، ولم يخفف شيئاً من حسرتنا إلا علمنا بأن أمير البيان سيهبط الغوطة بعد أيام قليلة، ولذا عولنا على العودة إلى الفيحاء من طريق الفالوغة وفيها خليل لنا مصطاف يقال له إبراهيم، ولما هبطنا بالسيارة واديه، وحللنا ناديه، ونلنا قسطنا من الراحة وحظنا من الراح نهضنا لامتطاء سيارتنا فأقسم علينا: لا رحيل لكم اليوم ولا براح، فلم نجد بداً من النزول عليه مكرهين ومكرمين
وغداة غدٍ صعدنا إلى (عين الصحة) المعدنية في جبل الفالوغة والتي تعلو سطح البحر بنحو 1500 متر، وقد اشتهرت بأنها للرمل حطوم، وللأطعمة هضوم، اشتهار (عين بُقين) في وادي الزبداني من مصايف دمشق. وأخبرني الكيماوي الثقة الذي حلل الماءين أن ماء بقين أخف مياه الشام في الثقل، وأشفاها لآلام الكلى والعلل، وإنما سميت بعين بقين لأن المريض إذا عب منها عبتين، أو شرب كما يقول العامة بقين، هضم الطعام وشفى الكليتين
وإلى جانب عين الصحة مقهى صغير تناولنا فيه صبوحنا من صهباء الماء والخبز المرقوق واللبن الخاثر والبيض المسلوق؛ وقد شاركنا في رحلة الصباح هذه وفي الاصطباح صديقان كريمان: القاضي خليل رفعة والصوفي شمس الدين، وتخلف في الفالوغة السيد إبراهيم معتذراً وقد خشي أن يبهره الصعود، فاغتاظ رفاقه لتخلفه هذا لأن
شرط المرافقة الموافقة، وأغروني بهجوه فقلت لهم على العين، هذين البيتين، ومسحة الارتجال بادية عليهما:
إذا لم تزر فالوغة ورياضها
…
ولم تشهد الجنات حولك ألفافا
وإن أنت لم تصعد إلى عين صحةٍ
…
ولم تروَ منها لم تكُ الدهر مصطافا
وعلى يسار المقهى خيام أربعة من الطيارين الفرنسيين مع أزواجهم وأطفالهم، وبذلة أحدهم تتألف من سريويل قصير أزرق وقميص شفاف أبيض، والنحور والصدور والظهور حواسر، والأفخاذ والسوق والأقدام ظواهر؛ وهؤلاء الرفاق يأتون من مطار رياق للاستشفاء بالماء والهواء، فيقضون في الأسبوع يوما كاملا في مثل خيام الكشافة ويعيشون فيها عيشة الكشافة ومعهم جميع أدوات المطبخ فلا يحتاجون في طهي الأطعمة إلى شيء غير ماء العين. ولعل الارتياض على الحياة الكشفية في الصغر قد ذلل لهم في الكبر صعابها وألان لهم رقابها وجعلهم يبتغون لها الوسائل والأسباب
وفي نحو الثامنة من الصباح وقفت على العين سيارة ترفع علماً فرنسياً صغيراً يدل على أن ركابها من المفوضية الفرنسية ببيروت وفتح الباب فنزل منها أبوان شيخان وأطفال ثلاثة يحمل كل منهم عصاً ذات زج كالمزراق، وعلى ظهره حقيبة الجند، وعلى رأسه قبعة كبيرة تحاكي مظلات اليمن والجزائر، وفي رجله حذاء صفيق الجلد ناتئ المسامير يذكرنا بمداس الأصمعي الذي قال فيه:(نعم قناع القدري هذا)
وألتفت إلي رب المقهى قائلاً: هذان الجدان هما المسيو بريال وزوجه، وهؤلاء الثلاثة الأولاد أحفاده؛ يأتي بهم في الأسبوع مرة ليصعد إلى قمة الجبل، ويترك على العين سيارته وهو يرتاض بذلك وزوجه العجوز التي جاوزت الستين، ويروض أحفاده على حياة الجنود، والغربيون يعودون أطفالهم صغاراً ما يضطرون إليه كباراً، مجارين في ذلك غرائز الطبيعة؛ لأنا نشاهد الأولاد يركبون العصي استعداداً لركوب الجياد، ونرى البنات يكثرن الوقوف أمام المرأة تعوداً لما يعملنه وهن أمهات
إن حياتنا الشرقية ركود وكسل، والحياة الغربية حياة نشاط وعمل؛ فالجماعة منا إذا خرجوا إلى ظاهر المدينة للتنزه جلسوا على ضفة بردى أو النيل أو الفرات، وأخذ بعضهم يغلي شراب الجاء، وشرع الآخرون في الحديث أو الغناء، وإلى جانبهم مضطجعون، أو على
الأرائك متكئون؛ وإذا خرجت رفقة من الأوربيين إلى التنزه وأخذوا في الارتياض بأنواع الرياضيات والألعاب، فهذا يلاكم وذا يصارع، وهذا عداء وذلك وثاب، وهذان فريقان يجران الحبل، أو يتقاذفان الكرة بالراحة أو القدم؛ فالتنزه في عرفنا للطعام والشراب أو الاضطجاع أو السماع؛ وفي عرف الغربي للعدو والوثب والصراع، والحركة يراها بركة، والتواني والسكون هلكة
ثم التقينا على العين بإخوان لنا من رجال العراق، فتجاذبنا أطراف الأحاديث إلى أن تحدثنا عن الانقلاب العراقي الأخير فحمدنا الله على حدوثه، ولم يستشر فساد أو تعم فتنة، وعلى إرساله لإنقاذ الموقف الخطير ذلك الرجل الإداري الحكيم، والجندي العربي الصميم (السيد جميل المدفعي) الذي قضى حياته في الدفاع عن حوزة العروبة، والذي أجمعت الكلمة لسلامة دواعي صدره على الثناء عليه وعلى محبته، والاعتصام في هذا المأزق الضيق بعروته، ثم ودعنا إخواننا بعد أن تزودنا من شرب الماء عبا، ونزلنا راجعين إلى حمانا ونحن نمتع العيون بسواحر المناظر من وادي حمانا الذي غنى باسمه من قبلنا لامرتين، وكان منظر الصنوبر الأخضر على الجبال أروع هاتيك المناظر وأبدعها وأشدها للعين بهراً وللقلب سحراً، فقد جعل كل من أصحابي يترنم ببعض الأغنيات، وجعلني أرتجل الشعر مغنياً بهذه الأبيات:
أَوَادي حّمانا سقيت وأُخصبت
…
رُباك مغاني الحسن والحسناتِ
شهدتُ لقد شَاهدت فيكَ صنوبراً
…
يبدّد ما في القلبِ من حسراتِ
وخلت الغواني في الجبال حواملاً
…
مِظلاّتهن الخضر والنضراتِ
وسربَ نعامٍ أبصر السيل هادراً
…
فأسندَ مرتاعاً إلى الهضباتِ
هل المسكُ من هاماتك الخضر فائحٌ
…
أم المسك من غاداتك العطِرَاتِ
لَطبتَ أيا وادي الصنوبر وادياً
…
وبارككنّ الله من شجراتِ!
(دمشق)
عز الدين التنوخي
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
أعمق الساعات صمتاً
ماذا جرى لي يا صحابي؟ لقد سادني الاضطراب فأضعت هداي وأراني مندفعاً بالرغم مني إلى الرحيل والابتعاد عنكم وآسفاه
أجل، على زارا أن يعود إلى عزلته، غير أن الدب يرجع إلى مغارته كئيباً حزيناً. ماذا جرى لي ومن ترى يضطرني إلى الرحيل؟
إنها (هي) مولاتي الغاضبة، لقد كلمتني فأعلنت لي إرادتها وما كنت ذكرت لكم اسمها حتى اليوم، هي أعمق ساعاتي صمتاً وهي نفسها مولاتي القاهرة، كلمتني أمس
وسأقص عليكم ما جرى فلا أخفي عنكم شيئاً كيلا يقسو قلبكم علي وأنا أفاجئكم برحيلي عنكم
أتعلمون ما هي خشية من يستسلم للكرى؟ إنه الذعر يستولي على الإنسان من رأسه إلى أخمص قدميه، لأن أحلامه لا تبتدئ ما لم تنسحب الأرض من تحته
إنني أضرب لكم أمثالا، فأصغوا إلي:
أمس عند أعمق الساعات صمتاً خلت الأرض من تحتي وبدأت أحلامي
وكان العقرب يدب على ساعة حياتي في خفقانها، وما كنت سمعت من قبل مثل هذا السكوت يسود حولي ويروع قلبي
وسمعتها (هي) تقول لي، ولا صوت لها: إنك تعرف هذا يا زارا
فصحت مذعوراً عند سماعي هذه النجوى وتصاعد الدم إلى رأسي
فعادت هي تقول، ولا صوت لها: أنت تعرف هذا يا زارا ولكنك لا تعلنه
فانتفضت وأجبت بلهجة المتحدي: - أجل أنني أعرف هذا ولكنني لا أريد أن أعلن ما أعرف
فقالت (هي) ولا صوت لها: أصحيح أنك لا تريد؟ لا تخف نفسك وراء هذا التحدي يا زارا
فأخذت ابكي وأرتعش كالطفل قائلا: ويلاه، أريد أن أصرح، ولكن هل ذلك بإمكاني؟ أعفني من هذه المهمة لأنها تفوق طاقتي
فقالت، ولا صوت لها: وما أهميتك أنت يا زارا قل كلمتك وتحطم
فقلت: أهي كلمتي ما يهم، فمن أكون أنا؟ إنني انتظر من هو أجدر مني بإعلانها وما أنا أهل لأصطدم بالمنتظر فأنحطم عليه
فقالت، ولا صوت لها: وما أهميتك أنت مادمت لم تصل بعد إلى ما أريده من الاتضاع؟ وما أقسى ما يتشح به الاتضاع، وما أصلب جلده
فقلت: لقد تحمل جلدي اتضاعي كثيراً؛ فأنا ساكن عند قاعدة ارتفاعي ولم يدلني أحد بعد على ذراه العاليات، ولكنني تمكنت من سبر أغواري ومعرفتها.
فقالت، ولا صوت لها: أي زارا، وأنت المعد لنقل الجبال من مكان إلى مكان. أفما بوسعك أن تنقل أغوارك ومهاويك أيضاً؟
فقلت: لم تنقل كلمتي الجبال بعد، فإن ما قلته لم يبلغ حتى آذان الناس، لقد أتيت إلى العالم غير أنني لم أتصل به بعد.
فقالت، ولا صوت لها: وما يدريك. .؟ إن الندى يتساقط على العشب في أشد أوقات الليل سكوتاً.
فأجبت: لقد هزأ الناس بي عندما اكتشفت طريقي ومشيت عليها، والحق أن رجلي كانت ترتجفان إذ ذاك، فقال لي الناس: لقد ضللت سبيلك يا زارا، بل أصبحت لا تعرف أن تنقل خطاك
فقالت، ولا صوت لها: وأية أهمية لسخريتهم؟ لقد تخلصت من الطاعة يا زارا فوجب عليك أن تأمر الآن. أفلا تعلم أن من يحتاج الجميع إليه بأكثر من احتياجهم إلى أي شيء إنما هو من يقضي في عظائم الأمور؟
إن القيام بالكبائر صعب، وأصعب من هذا أن يأمر الإنسان بها. إن ذنبك الذي لا يغتفر هو أنك ذو سلطان ولا تريد أن تحكم
قلت: ليس لي صوت الأسد لأصدر أوامري
فقالت - كأنها تهمس همسا -: لا يثير العاصفة إلا الكلمات التي لا صوت لها؛ إن من يدير
العالم إنما هي الأفكار التي تنتشر كأنها محمولة على أجنحة الحمام. عليك أن تسير يا زارا كأنك شبح لما سيكون يوماً في آتي الزمان؛ وهكذا تندفع في سبيلك إلى الأمام وأنت تتولى الحكم
فقلت: إن الخجل يتولاني
فعادت تقول، ولا صوت لها: عليك أن تعود طفلا فيذهب خجلك عنك؛ إن غرور الشباب لما يزل مستولياً عليك لأنك بلغت الشباب متأخراً، ولكن على من يريد الرجوع إلى طفولته أن يتغلب على شبيبته
واستغرقت في تفكيري وأنا أرتجف، ثم عدت إلى تكرار كلمتي الأولى قائلاً: لا أريد. وعندئذ ارتفع حولي صوت قهقهة مزقت قلبي وصدعت أحشائي
وقالت (هي) للمرة الأخيرة: أي زارا، إن أثمارك ناضجة، غير أنك لم تنضج أنت لأثمارك، فعليك أذن أن تعود إلى العزلة لتزيد في قساوتك ليناً
وعاد الضحك يتعالى، فشعرت أنها انصرفت عني (هي) وعاد الصمت يسود بأعمق مما كان حولي، أما أنا فبقيت منطرحاً على الأرض سابحاً في عرقي
والآن، وقد أعلنت لكم كل شيء أيها الصحاب، فهأنذا أعود إلى عزلتي وما أخفيت عنكم شيئاً. أرحل عنكم بعد أن علمتكم أن تعرفوا من هو أشد الناس تكتماً ومن يريد أن يكون كتوماً
وا أسفاه، أيها الصحاب، إن لدي ما أقوله لكم أيضاً، ولدي ما أبذله، فلماذا لا أبذله الآن؟ ألعلني أصبحت شحيحاً؟
وما نطق زارا بهذا حتى أرهقه سلطان حزنه لأضراره إلى الرحيل، فبكى منتحباً وما تمكن أحد من تعزيته، ومع هذا ما أرخى الليل سدوله حتى ذهب زارا وحده تحت جنح الظلام متخلياً عن صحبه
(يتبع)
فليكس فارس
خواطر
في الموت والخلود
للأديب عبد الوهاب الأمين
لي صديق لا يخشى الموت لأنه لا يفكر فيه، ولهذا الصديق فلسفة رائقة في الاطمئنان، تعجبني لأنني لا أعتقد بها؛ وقد حاولت أن أحاوره فيها فرأيت أنه يحتمي بالعقل ويجعله مدار التفكير، ولا يقيم وزناً لعاطفة الخوف من الموت أو الجزع من لقائه، فهو مطمئن أولاً، ومعتقد بتفاهة الموت ثانياً؛ وقد أختلط هذا الاطمئنان بذاك الاعتقاد فتشكل منهما شعور جديد، فكأن صاحبي هذا لا يفكر بعقله بل يفكر بعاطفته
يقول صاحبي:
(إن الموت خاتمة طبيعية محتومة لحياة الإنسان، فالتفكير فيه عبث لا طائل تحته، مادام أن التفكير، مهما طال وعمق، لا يغير تلك النتيجة المحتومة، حتى ولو صدقت ادعاءات بعض المشتغلين بالعلم من أمر إطالة العمر، أو تجديد الشباب، فإن هذين لا يعنيان الخلود. فلو فرض إن إعادة الشباب كما يصورها الدكتور (فرونوف) صحيحة ومؤكدة علمياً، فإن من الصحيح والمؤكد كذلك، إن نهاية هذه الحياة، مهما طالت، هي الموت؛ والتفكير في الموت مهما كانت كيفيته، سخيف لا طائل تحته
(هذا لو كان التفكير في الموت في حد ذاته لا يؤثر تأثيراً سيئاً في أعصاب الإنسان، أما وأنه يورث السوداء، ويسيء إلى الأعصاب، بل ينهكها، ويضع غشاوة بين ناظري الإنسان وبين مناظر الحياة، فأحرى بالعاقل ألا يشتري بسعادة الاطمئنان والغفلة قلق التخوف وانتظار الشر، وان يستمتع بالحياة كما تأتيه لا أن يضع في كأسها سم التخوف والتفكير في الموت)
فاعترضت قائلاً:
(إن التفكير في الموت سخيف كما تقول، ولكن الإنسان يفكر في الموت بالرغم منه، وهو لو وجد سبيلا إلى النسيان والغفلة عنه لما تردد في ذلك، ولكني أجدني في بعض الأحايين ترهقني أخيلة الموت وأنا على أتم ما أكون صحة وراحة بال، ولا يكون تفكيري هذا بإرادة مني، فإني لا أرغب أن أشوب حالة الراحة التي أنت فيها بقلق غير مرغوب)
فقال:
(إن هذا الوهم الذي تمكن منك بسيط، فأنت تعتقد حين يردد ذكر الموت على خاطرك أن ذكره لا يرتفع من وهمك، وتتصور العجز، ومن تصور حالة من الأحوال النفسية واعتقد أنه فيها، فهو فيها لا محالة؛ وكذلك من يتصور أنه مريض اعتقاداً جازماً، فأنه يمريض)
قلت: فما الحل إذن؟
فقال:
(إن أبسط الوسائل للتخلص من هذه الأحوال النفسية هو الرجوع إلى العقل). فلو فكر المرء واستعمل عقله استعمالا صحيحاً في هذه القضية، فإن الرهبة والجزع من الموت لا يزولان منه فحسب، بل يرى فيهما مثالاً من أمثلة السخف تدعو إلى الرثاء.
(إن الخوف من الموت بالطبع يستلزم وجود الألم. أي أن الإنسان لا يخشى الموت إلا لأنه يتصور أن فيه ألماً جسمياً أو روحياً؛ وقليل من التروي يؤدي إلى سخافة هذا الرأي، فإن حالة الموت لا تكون إلا إذا انتفت الحياة الشاعرة، أو القدرة على إدراك الألم في الإنسان. أي أن الإنسان لا يموت إلا وهو مائت، ولا يشعر بألم الموت لأنه لا يشعر بالألم إلا الجسم الحي. ومادام الجسم حياً فهو غير ميت طبعاً، وإذا مات فإنه لا يشعر، وفي كلتا الحالتين ليس هنالك ألم ولا موضوع للألم يخشاه الإنسان
(هذا إذا كان أساس الخوف هو تصور وجود الألم، أما إذا كان أساسه الفزع من فقدان الحياة، فإن الأمر أدعى إلى الرثاء! فإن الذي يخشى أن يفقد شيئاً يحبه أحرى به أن لا يفكر في فقدانه، فالتفكير في ذلك مدعاة إلى تشويه حسن ذلك الشيء، وهؤلاء السوداويون الذين يدعون حب الحياة وهم يفكرون دوماً أن هذه الحياة زائلة وأنهم فاقدوها لا محالة مخطئون ولا شك، وأحرى بالمرء أن يعيش كما جاء إلى الدنيا، فلا يسأل ولا يضع موضوعاً للتسآل أمام عينيه، فإنه سيموت قبل أن يصل إلى جواب)
وقد جرني التفكير فيما يجري في هذا السبيل إلى التفكير في (الخلود) ضد الموت وعدوه، فالمرء بطبيعة الحال يخشى الموت ولا يرغب فيه، وهو بذلك كأنه يريد الخلود، فما هو الخلود يا ترى؟ وكيف يرى الحياة مخلوق خالد، لو أمكن تصوره؟
وقد قرأت كثيراً في كتب الأدب عن الفكرة التي تمثل للأديب في صدد الخلود، والحياة
الخالدة و (الفردوس) ولكني لا أكتم القارئ أنني لم أستطع أن أرضي شعوري الفني بلذة الحياة الخالدة، فضلاً عن أني لا أستطيع أن أفهم كيف تكون هناك (حياة) في (خلود)! كما أن من المعلوم أيضاً أن الخلود لم يجد من الأدباء على وجه العموم التفاتاً جدياً بل كان في أكثر كتابات الكاتبين الرمزيين والخياليين فقط؛ ولعل الأستاذ المازني أشد أدباء العربية سخرية بالخلود وبالأدب الخالد.
ومادمنا في حديث الخلود في الأدب فما هو يا ترى المقصود به؟ وأي أدب خلد أو سيخلد؟ وهل في وسع المرء أن يتصور للخلود عمرا؟
لا ريب أن تاريخ الأدب لا يتعدى بضع مئات من السنين، وأرجو أن لا يسارع القارئ فيذكر لي أوراق البردي وشعراء الفراعنة فهذه الآثار لم تخلد - إن صح أنها خلدت - لأنها من الأدب بل لأنها من التاريخ. . . فما قيمة مئات السنين هذه في عمر الدنيا؟ وهل هذه المئات من السنين هي المفهوم من معنى (الخلود) في الأدب؟ إن كان ذلك فما اشد بؤس الأدب وما أحوجه إلى خلود أطول عمراً!
هذا في الأدب، أما في حياة الفرد فالرزء أعم كما أسلفنا، وبالرغم من أن جميع البشر يتمنون الخلود فإنه ليس أبرد منه وأخلى من السعادة الموموقة. وأمامي قطعة من شعر العقاد لعله لم يقلها في هذا المعنى، ولكنه يستفاد منها وهي:
لو علمنا حظنا من يومنا
…
ما بكى الصبية في غض السنين
أي كنز قد سفكناه على
…
حسرات تضحك القلب الحزين!
حجبت عنا مزايا عمرنا
…
فبكى من هو بالصفو قمين
وقضينا العمر لا ندري بما
…
بين أيدينا وندري ما يبين
نجهل الورد فنرميه ولا
…
يجهل الشوك الفتي وهو طعين
أترانا لو علمنا حظنا
…
من غد نقنع بالحظ الرهين؟
أم ترانا نحمد الخطب إذا
…
حان علماً بالذي سوف يحين؟
إن شكونا قيل لا تشكو فقد
…
أنصفتكم هذه الدنيا الخؤون
لو درى الطفل بما سوف يرى
…
شقي الطفل بما سوف يكون
والمازني يقول في أحد كتبه ما مؤداه: تعساً للجيل الذي يكون في حاجة إلى أدبنا هذا. وهو
يقولها في سخرية، فلعله لا يقصد أن يقتصر على هذه السخرية فقط فإن في هذه الكلمة معنى حقيقياً عظيم الأهمية
(بغداد)
عبد الوهاب الأمين
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعَاف النشاشيبي
231 -
وأما بذل بقول فمحال
في (محاضرات الأدباء): كان محمد بن بشير ولي فارس فأتاه شاعر فمدحه فقال: أحسنت! وأقبل على كاتبه وقال: أعطه عشرة آلاف درهم، ففرح الشاعر، فقال: أراك قد طار بك الفرح بما أمرت لك. يا غلام، أجعلها عشرين ألفاً. فلما خرج قال الكاتب: جعلت فداك! هذا كان يرضيه اليسير، فكيف أمرت له بهذا المال؟! فقال: ويحك! أو تريد أن تعطيه ذلك؟ إنما قال لنا كذبا سرنا، وقلنا له كذبا سره، فما معنى بذل المال؟ أما قول بقول فنعم، وأما بذل بقول فمحال
232 -
فتركتها للناس لا لله
أبو جعفر القرطبي:
وأبي المدامة وما أريدُ بشربها
…
صلَفَ الرقيع ولا انهماك اللاهي
لم يبق من عصر الشباب وطيبه
…
شيء كعهدي لم يحل إلا هي
إن كنت أشربها لغير وفائها
…
فتركتها للناس لا لله
233 -
راقه باعتداله وهندسته
في (أدب الكتاب) للصولي: كتب سليمان بن وهب كتاباً إلى ملك الروم في أيام المعتمد (العباسي) فقال: ما رأيت للعرب شيئاً أحسن من هذا الشكل، وما أحسدهم على شيء حسدي إياهم عليه
وإنما راقه باعتدالته وهندسته وحسن موقعه ومراتبه
234 -
وهذا أيضاً مما يكتب
كان أبو حاتم السجستاني يكتب عن الأصمعي كل شيء يلفظ به من فوائد العلم حتى قال فيه: أنت شبيه الحفظة تكتب لغط اللفظة. فقال أبو حاتم: وهذا أيضاً مما يكتب
235 -
الحجاج الكهاكه
في (الفائق) للزمخشري: الحجاج كان قصيراً أصعر كُهاكِهاً: هو الذي إذا نظرت إليه كأنه يضحك وليس بضاحك، من الكهكهة
236 -
فأجتمع له العمى من جهتين
ابن الأثير في كتابه (المثل السائر): بلغني عن أبي العلاء ابن سليمان المعري أنه كان يتعصب لأبي الطيب حتى أنه كان يسميه الشاعر، ويسمي غيره من الشعراء باسمه، وكان يقول: ليس في شعره لفظة يمكن أن يقوم عنها ما هو في معناها فيجيء حسناً مثلها. فيا ليت شعري أما وقف على هذا البيت:
فلا يبرم الأمر الذي هو حالل
…
ولا يحلل الأمر الذي هو يبرم
فلفظة حالل نافرة عن موضعها وكانت له مندوحة عنها لأنه لو أستعمل لفظة (ناقض) لجاءت اللفظة قارة في مكانها. لكن الهوى - كما يقال - أعمى. وكان أبو العلاء أعمى العين خلقة وأعماها عصبية. فأجتمع له العمى من جهتين
237 -
لصحت بهذا البيت
في (الكنز المدفون): روى عن الشيخ العارف بالله أبي العباس السياري أنه قال: لو صحت صلاة بغير قرآن لصحت بهذا البيت:
أتمنى على الزمان محالا
…
أن ترى مقلاتيَ طلعةَ حرِّ
238 -
بأنامل الحور على النور
قال جحظة في أماليه: حدثني أبو حرملة قال: قال علي بن عبيدة الريحاني: حضرني ثلاثة تلاميذ لي فجرى لي كلام حسن فقال أحدهم: حق هذا الكلام أن يكتب بالغوالي على خدود الغواني
وقال الآخر: بل حقه أن يكتب بقلم الشكر في ورق النعم
وقال الآخر: بل حقه أن يكتب بأنامل الحور على النور
239 -
وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم
قال الحريري في كتابه توشيح البيان: كان أحمد بن المعذل يجد بأخيه عبد الصمد وجداً
عظيماً، على تباين طريقيهما؛ لأن أحمد كان صواماً قواماً، وكان عبد الصمد سكيراً خموريا وكانا يسكنان في دار واحدة ينزل أحمد في غرفة أعلاها وعبد الصمد في أسفلها، فدعا عبد الصمد ليلة جماعة من ندمائه، وأخذوا في القصف والعزف حتى منعوا أحمد الورد، ونقضوا عليه التهجد، فاطلع عليهم وقال:(أفأمن الذين مكروا السَّيئاتِ أن يخسف الله بهم الأرض)
فرفع عبد الصمد رأسه وقال: (وما كانَ الله ليعذِّبهم وأنتَ فيهم)
240 -
جمال، جلال، كمال
قال أحد العلماء: تجلى الله على المسجد الأقصى بالجمال، وعلى المسجد الحرام بالجلال، وعلى مسجد الرسول بالكمال
فذلك يوقف النواظر، وذاك يملأ الخواطر، وهذا يفتح البصائر
241 -
وتسكينها حركات الطرب
في (المُغرب في حلي المَغرب): قال أمين الدين بن أبي الوفاء شاعر الفسطاط في مغن مبدع:
تنبّأ محمدُّ في فنّه
…
وآيته أن شدا أو ضربْ
بقولِ أعاجم أوتاره
…
أقاولُ تخرس فصْح العربْ
فتحريكُها سكنات الأسى
…
وتسكينُها حركات الطربْ
242 -
رأينا العفو من ثمر الذنوب
في (خاص الخاص): كان الصاحب إذا أنشد بيت السلاميّ
تبسّطنا على الآثام لما
…
رأينا العفو من ثمر الذنوب
يقول: هذا (والله) معنى قد كان يدور في خاطر الناس فيحومون حوله ويرفرفون عليه ولا يتوصلون إليه على قرب مأخذه، حتى جاء السلامي فأفصح عنه، وأحسن ما شاء، ولم يدر ما رمى به
243 -
بيضاء وخضراء وسوداء
يونس النحوي: الأيدي ثلاث: يد بيضاء، ويد خضراء، ويد سوداء. فاليد البيضاء هي
الابتداء بالمعروف، واليد الخضراء هي المكافأة على المعروف، واليد السوداء هي المن بالمعروف
244 -
. . وامش حيث شئت
سأل رجل أحد الأئمة: إذا شيعنا جنازة فقدامها أفضل أن نمشي أم خلفها؟
فقال: اجهد أن لا تكون عليها وامش حيث شئت. . .
البعاد
للأستاذ فخري أبو السعود
أه ما أَعذَبَ البِعادَ وإن أَز
…
رَى عليه من قبلِنا العاشقونا
إنني أشتهي البعاد زمانا
…
مثلما اشتهي التواصل حينا
لا أُحِبُّ اللقاء عهداً مقيما
…
مستمراً به نُقضِّي السنونا
ما أَلَذَّ الهوى لقاً ووداعاً
…
وكتاباً أَدَّى التحايا أمينا
إن هذا البعادَ يُذكي بيَ الح
…
بَّ ويحي ولائي المكنونا
فأُفَدِّيكِ في النوى بحياتي
…
حيثما تُصبحين أو تُمسينا
وأحيِّيك كلما ذكَّرتني
…
ك رياضٌ رفَّتْ علينا غصونا
وأَرى أَن ودَّنا يعبر السه
…
ل ويَرْقَى الربى ويطوي الحزونا
إن هذا البعاد يبعث بي الأَشْ
…
واقَ حَرَّى ويستجيش الحنينا
ويُعيد العِذَابَ مِن ذكرياتي
…
وقديماً في عهدنا ودفينا
ويثير المنى بنفسي ولن أَلْ
…
قَى بأَسمى المنى سواك قمينا
أَتمنى اللقا بيوم لنا أَر
…
جِعُ فيه إِليك أو ترجعينا
أتمنى اللقا وفيكِ وفاءٌ
…
باتَ عندي بأن تَبِّري ضمينا
حُّبنا مِن صِفاتِهِ أنه بَرٌّ
…
وثيق الذمام يعلو الظنونا
وأَحَبُّ الأَيام عنديَ ما أرْ
…
قُبُ فيه لقاَءك الميمونا
أُنْفِقُ العمرَ مسرفاً فإِذا أَق
…
بَلَ يومُ اللقاء كنتُ ضنينا
كلَّ حين لنا لقاءٌ سعيدٌ
…
ووداع أَطوِي عليه شجونا
وتزين في البعاد جمالا
…
ورواء وبهجة وفتونا
وتزين في الشمائل إِينَا
…
ساً وعطفاً كما أُحبُّ ولينا
وتزيدين كلَّ حينٍ سموّاً
…
وعلوّاً فَاتَ الذرى والقنونا
أنتِ كنز من المحاسنِ أُخفي
…
هـ نفيساً عن ناظريَّ ثمينا
كي أراه إنْ عُدتُ أبغيه قَدْ زا
…
دَ جمالاً يسبي النهى والعيونا
كلَّ يوم أُجدِّد الحبَّ بالبُع
…
د وأُحْييِ منه فنوناً فنونا
فكأَني عشقتُ أَلفاً ومازل
…
تُ الفتى الوافيَ الذي تعرفينا
ما أحَبَّ الهوى افتقاداً ووِجدا
…
ناً وقرباً حينا وبعداً شَطُونا
فخري أبو السعود
فريسة البغاء
للأستاذ ضياء الدين الدخيلي
شلت يد قادتكِ للهاوية
…
وانتبذت جهلاً سواء السبيل
ورغبة جياشة عاتية
…
عمت فأغرتكِ بمرعى وبيل
جنايةَ المجتمع الفاشل
…
كُسِفتُ في حمأة آثام
طويتِ دون لذة العاجل
…
تاريخ أجيال وأقوام
للشهوة العمياء أسلمت لم
…
ترعى نواميس صلاح العباد
فعدت من خزي بإكليل ذم
…
شعار موت النفس نهب الفساد
يا أم ضيعتِ وكنتِ الحنون
…
لو راعت الأمة آمالها
قد عاقبتها بالضياع السنون
…
إذ وأدت بالشر أشبالها
أمسيت فيناً شبحاً للفناء
…
وكنت للنوع ضمان الخلود
صلتِ عليه بجراثيم داء
…
كم هدمت آلامه من وجود
النجف الأشرف - العراق
ضياء الدين الدخيلي
رسالة الفن
الفن الهندي
للدكتور أحمد موسى
مقدمة
كان لما كتبناه على صفحات (الرسالة) من الأثر ما شجعنا على مواصلة البحث والتحرير في موضوع ظننا لأول وهلة أنه ليس من الموضوعات التي يقبل القراء على قراءتها إقبالهم على غيرها، وقد وصلتنا رسائل عدة، استفهم كاتبوها مرة عن بعض التفاصيل وأخرى امتدحوها فيها خطتنا في الدرس والبحث، وثالثة يطالبوننا بأن نكثر من الكتابة عن الفن الشرقي على وجه الخصوص.
ولما كان تاريخ الفن لا يعنى بعينه دون سواه، ولما كانت رغبتنا هي العمل على إيجاد ثقافة فنية أقرب إلى الكمال، وغايتنا هي الوصول إلى ما يسمو بذوق القارئ، فيستطيع تقدير الجمال والتعرف على ناحية فذة في تاريخ الحضارة الإنسانية كلها، وجدنا أننا نستطيع الآن أن نبدأ بدرس الفن الهندي - وهو فن شرقي - لاسيما وقد فسرنا مميزات الفن المصري، وأوضحنا في شيء من الإسهاب آثار أكروبوليس أثينا، وآثار بابل وآشور كما تناولنا بالبحث بعض أقطاب الفن أمثال روبنز ورمبراندت وجويا وليوناردو وميكيلانجلو ورفايللو دون عناية بترتيب زمني أو مدرسي وقصدنا بذلك تبسيط الدرس
على أن درس الفن الهندي يكاد يكون من الدراسات المعقدة ولاسيما أن معرفتنا بتفاصيل العقائد الدينية في تلك البلاد تكاد تقرب من المعرفة الإجمالية، كما أن المعالم الأولى للفن الهندي مفقودة تماماً بالنظر إلى أن المشيدات الفنية أقيمت كلها من الخشب في أول الأمر فتلاشت معالمها بمضي القرون وأصبحنا أمام آثار حجرية بدأت بعد الوصول بالفن الهندي إلى درجة عظيمة تستحيل معها معرفة المرحلة الابتدائية لهذا الفن؛ كل هذا إلى أن الهند محاطة من الشرق والجنوب والغرب بالمياه، ومن الشمال بجبال عظيمة، جعل الفن الهندي قائماً بذاته لا تجد له نظيراً بين الفنون الأخرى من الوجهة العامة. نعم يرى الدارس المدقق أوجه الشبه بينه وبين الفنون الأسيوية، ولكننا هنا لا نتعمق في البحث والاستقصاء، وكل
ما نريده هو الإحاطة الإجمالية، وفهم أبرز المميزات للفن الهندي، والوقوف على مدى ما وصل إليه الفنان في هذا المجال
وخير وسيلة وابسطها لهذه الغاية هي تقسيم الفن الهندي إلى ثلاث مراحل: الأولى مرحلة البراهمة التي أستمر أثر حضارتها إلى حوالي سنة 250 ق. م. والثانية مرحلة البوذيين التي بدأت عندما نادى بوذا بمذهبه في القرن السادس قبل الميلاد، وظلت حتى كان المذهب البوذي هو الدين الرسمي للبلاد بواسطة الملك أسوكا حوالي سنة 250 ق. م. أما المرحلة الثالثة فهي المرحلة البراهمية الجديدة التي بدأت عند إدماج المذهب البوذي في المذهب البراهيمي صاحب الغلبة في القرن السابع بعد الميلاد. وقد بلغ الفن الذروة فيما بين القرن الثامن والثاني عشر بعد الميلاد، وبعدئذ دخل الإسلام بسطوته إلى تلك البلاد من القرن الثاني عشر
وبدأ الفن الهندي بمعناه الكامل في المرحلة البوذية حيث توجد أقدم الآثار الجديرة بالتسجيل والدرس والتي يرجع عهدها إلى عصر الملك أسوكا
وخير الأمثلة عليها المباني بأعمدتها التذكارية في (الله أباد) و (دهلي) وغيرهما، وفيها كلها أقيمت هذه العمائر لتسجيل النصر لبوذا
وطراز الأعمدة التذكارية يتخلص في أنها أقيمت على قواعد مستديرة الشكل تحمل تيجاناً على هيئة زهرة اللوتس وعليها الأسد رمزاً لبوذا
هذا إلى جانب بناء مجموعات من الأعمدة التذكارية على قواعد مستديرة الشكل تحمل مباني صامتة من الحجر المحروق، وقد أخذ شكلها التكويني هيئة القباب، وإلى جانبها خصصت غرفة صغيرة لدفن الأجسام المقدسة، أحيطت جميعها بسور عالٍ ذي بوابة كبيرة من الخشب. وأقدم أنموذج لهذا النمط البناء المسمى ستوبا سانتشي، يرجع تاريخه إلى عصر أسوكا، وقد بلغ ارتفاعه سبعة عشر متراً، وبه أربع بوابات ذات نقوش وزخارف بديعة.
هذا إلى جانب المعابد المنحوتة في الصخر والتي يتمثل فيها الفن الهندي البوذي تمثيلاً جيداً، نحتها وهيأها البوذيون، وكانت النمط الذي سار عليه البراهميون فيما بعد. فأنشأوا المعبد على هيئة مربع قسموه بواسطة الأعمدة إلى ثلاثة أجنحة (أشبه بالكنائس بازيليكا)
فكان الجناح الضيق منتهياً بفتحة كقبلة صغيرة على هيئة نصف دائرة وضع فيها تمثال بوذا أو صورته. أما الحوائط فكانت كلها مزخرفة ومنقوشة، وإلى جوار هذا المربع غرف كثيرة وطرق ومسالك وردهات. كل هذا منحوت في الصخر مما يثير الإعجاب حقاً، كتلك التي نحتها المصريون في الصخر أيضاً (راجع الرسالة - الفن المصري، العمارة المصرية)
أما المدخل العام فكانت واجهته جميلة التكوين، تأخذ بلب الناظر إليها لما فيها من مظاهر العناية الفائقة والدقة المتناهية، هذا إلى جانب التماثيل والمنحوتات التي لا تقل قيمة فنية عن بقية البناء.
أما الدعامات والأكتاف الساندة فكانت مختلفة التكوين سائرة على غير قاعدة هندسية فنية ثابتة. والناظر إليها يرى أنها تشبه في بعض أجزائها تلك التي عملت على الطراز الباروكي في أوربا لولا ما غلب على حلياتها من الخيال الشرقي
وكانت الأعمدة حيناً مضلعة، وقد بلغت أضلاع بعضها أحياناً الستة عشر ضلعاً؛ وكانت التيجان أعلاها مربعة الشكل أو على قطعة حجرية ذات ثمانية أضلاع أو مربعة الشكل أيضاً. وكانت حيناً آخر مستديرة تسير على طولها قنوات رفيعة وتيجانها مستديرة مرة، وعلى هيئة كرة منبعجة مرة أخرى
وأهم وأبرز نماذج لهذه الأنماط المعمارية تنحصر في حدود الهند الشمالية الغربية بالقرب من بمباي وكارلي وأدشونتا وبهايا وإيلورا، وأقدم هذه كلها يرجع تاريخه إلى سنة 150 ق. م، وأعظمها وأشهرها وأجملها أقيمت في وقت الانتقال من الديانة البوذية إلى البراهمية بين سنة 500 وسنة 800 بعد المسيح
وتعد معابد إيلورا الصخرية على الخصوص من عجائب العمارة الهندية وتشمل الطرازين البوذي والبراهمي معاً، وبعض هذه المعابد على سفح الجبل الجرانيتي، وبعضها الآخر منحوت فيه من الداخل وكلها تقرب من ثلاثين معبداً وديرا
(له بقية)
أحمد موسى
القصص
(القصة الخالدة التي أوحت إلى شاكسبير بروميو وجوليت)
من أساطير الإغريق
التوت الأبيض والتوت الأحمر
أو (بيرام وتسبيه)
للأستاذ دريني خشبة
كان أجمل شباب بابل، وكانت أجمل حسانها
كانت فتنة في فتنة، في جسم قوي، وقلب حمي، وخلق حيي، وقوام مفتول، ونفس حلوة ساكنة سجواء. . . وكانت قسيمة وسيمة، خفية لطيفة، غضة كالورد عطرية كأنفاس البنفسج؛ تفتر عن فم خمري شتيت، وترنو بعينين دعجاوين نجلاوين؛ وترسل شعرها المغدودن على ظهرها العاجي تارة، وصدرها المرمري أخرى، يداعبه النسيم، وتقبله الآلهة، وتنتظم فيه حبات القلوب
وكان بيتاهما متلاصقين، فكان يراها وكانت تراه، وكان يلقاها وكانت تلقاه؛ وكانا يتلاعبان في الصغر، طفلين كالملائكة ثم شبا، فكانا ينفران إلى الخلاء والأدغال، ويلتقيان عند النبع القريب، ويتسلق بيرام أشجار التوت الأبيض - ولم يكن التوت الأحمر قد عرف بعد - فيهز أغصانها وأفنانها، ويساقط الثمر الشهي اللذيذ على سندس العشب، رطباً جنياً. . . فتأكل تسبيه، وتقر به عيناً!!
ثم ترعرعا أيضاً؛ ودبت الحياة الحلوة الجميلة، حارة متدفقة زاخرة، في قلبيهما الصغيرين؛ وأخذ الفؤادان الصغيران يثبتان إلى الأعين السعيدة النقية الطاهرة، يرى كل إلى صاحبه، ويتزود كل من جمال أخيه زاد الهوى وذخيرة الحب، للأيام المقبلات
ولم يعرفا أنه الحب، ذاك الذي يخفق في صدريهما أول الأمر ولكنهما عرفاه، وعرفاه معرفة كلها شجو وكلها حنين حين ألح عليهما وحين كانا يفترقان أشوق ما يكونان إلى لقاء، وأصبى ما يكونان إلى اجتماع. . . ثم عرفا كيف يتشاكيان وكيف يتباكيان وكيف يكون
الليل جحيما حينما يقبل فيفصل بينهما بظلامه، ويجمع بين روحيهما بسهده ودموعه وطويل أنينه، وكيف يكون فردوساً خالداً حينما يجمع بينهما في يقظة أو منام
ولم يقو بيرام على عذاب البعد، فاتفق وتسبيه على أن يكلم أباه ليكلم أباها في الخطبة، ولكن الوالد أبى واستكبر، ورفض أن تكون هذه الفتاة التي هي مطمح أبصار شبان المدينة زوجة لولده، وكذلك أبى والد الفتاة؛ ثم شجر الخلاف واتسع، وكثرت شياطينه، وأحيا عداوات قديمة، فتدابر القوم وتناكروا ولكن ما في قلبي الحبيبين ظل على ما كان عليه؛ بل ألهب البعد الذي جرت إليه الخصومة أوار حبهما، فازداد هياماً، وذابا غراماً، وكانت عداوة أهليهما عليهما برداً وسلاماً
ولم يعد يفكر إلا فيها، ولم تعد تفكر إلا فيه، وراح ينظم الشعر يتغنى به برحاءه، ويرسل موسيقاه يكلم بها السماء عسى أن ترق له آلهتها فترحمه مما يقاسي. . . وراحت هي تبكي وتتكلم بلغة الدموع إلى نفسها الملتاعة، وترسل آهاتها في صميم الليل تردد بين النجوم الخفاقة الكلمى تتوسل إلى أرباب الرحمة والحب أن تدرك بلطفها ضعف الحبيبين المظلومين
وتصدعت السماء، وانهمرت شآبيب الرحمة، وانهل فيض الحنان، وأمرت الآلهة فزلزلت الأرض زلزالها. . . وكانت الغرفة التي ينام فيها بيرام ملاصقة للغرفة التي تنام فيها حبيبته تسبيه، وكان يفصلهما جدار مشترك بين المنزلين المختصمين، فأحدث الزلزال في هذا الجدار صدعاً صغيراً كالشعرة، فوصل هواء الغرفتين، وحمل كلام الحبيبين، وأخذت موسيقى بيرام وغناؤه ينسابان إلى غرفة تسبيه، وأخذ بكاء تسبيه وآهاتها تنساب في غرفة بيرام؛ وأخذت النجوى الحلوة، والشكوى الجميلة، وغزل الكلام، وحنين القلوب، ينتقل في بروج هذا الجبل الشق كأنها كواكب السعد تحدوها الآهات الملتهبة، وتذهب بها القبلات الحارة، ترف بأجنحة من أثير من فم إلى فم. . .
- تسبيه، تسبيه!
- من؟ من يناديني؟
- تسبيه، هو أنا، أنا بيرام!
- من أين تتكلم؟
- من هنا. . . ألم تشعري بالزلزلة؟
- آه! شعرت بها في العشاء الآخرة ليلة أمس
- إنها أحدثت في الحائط الذي يفصل بيننا شقا. . . وأنا أكلمك منه
- بيرام!
- تسبيه!
- إذن لقد رثت الآلهة لحالنا!
- واستجابت دعائنا يا تسبيه، لقد كانت حركتها موسيقاي!
- إذن كنت تعزف وتتغنى، بينما كنت أبكي وأئن وأذوي!
- لا! ولكني كنت أسكب نفسي دموعاً على أوتار القيثار!
- يا لقسوة هذا الجدار يا بيرام! إنه يفصل بيننا بشدة!
- هو على كل ارحم بنا من أبوينا. . . أليس قد انفرج ليصل حديثنا؟
- نشكره، إن من الصخر لما يتفجر منه الماء!
- نشكره جداً يا تسبيه. . . وأشكره أنا خاصة لأنه فرج عن قلبي بالتحدث إليك
- بيرام!
- حياتي!
- هل الجنة أجمل من سجننا هذا؟
- أنه أجمل من أنظر الجنان يا تسبيه!
- وهذا الظلام! أليس هو أضوء من سنا الضحى؟
- لأننا نتحدث فيه يا أختاه!
- أحب أن اسمع موسيقاك يا ببرام تتدفق في روحي خلال هذا الجدار
- ليس أحب إلي من ذلك يا تسبيه
- أنا لم أسمعك تغني مذ تناكر أهلونا
- سأفعل إن وددت!
- وماذا عساك تغني؟
- كل أغنياتي التي ترنمت بها فيك؟
- ألا تغني شيئا آخر؟
- للآلهة! لأنها أنعمت عليّ بحبك!
وهكذا كانت أحاديث الحبيبين المعذبين كلما جنهما الليل، وضمها غاشي الظلام؛ أحاديث كأوشية الروض، وأفواف الزهر ونجوى البلابل، ممزوجة بعبرة أو عبرتين يريقانهما على جفاء الأهل، ولدد الطباع، وقسوة الأيام
ولم يحتملا هذه الحال طويلاً، فلقد شفهما الهوى، وأنحلتهما الصبابة، وفعل الحب في قلبيهما الضعيفين أفاعيله. ففي ليلة سافرة البدر، ساجية النسيم، صمتت فيها الطبيعة، وتكلم القمر، دار بين العاشقين الحديث الأتي:
- تسبيه؟!
- بيرام!
- أوشك القمر أن يكون بدراً يا حبيبتي!
- إنه جميل الليلة، وحبذا لو ظل جميلاً الليالي المقبلة. . .
- إن القمر جميل دائماً. . . أليس هو ابتسامة هذه الدنيا في ليالي العاشقين؟
- لكنه صامت أبداً. . . إنه أبكم لا يعي!
- سو. . . لا تقولي ذلك يا تسبيه. . . قد تسمعك ديانا فتغضب!
- هل يتكلم؟ هل يفهم؟
- أما أنه يتكلم فحق. . . لكنه لا يتكلم بلسان كلساننا. . .
- أنه يتكلم بلسان من فضة يا تسبيه، لسان له رنين حلو في أعماق الروح. . . ثم هو يفهم آلام المحبين لأنها تصعد إليه مع آهاتهم. . .
- خيال شاعر وفلسفته!
- بل هو الحق يا حبيبتي! لقد كان يكلمني وكنت أكلمه. وكان يفهمني وكنت أفهمه، كان يكلمني بآراده وأضوائه، وهي لسان صامت ولكنه بليغ لسن، وكنت أكلمه بوجداني مرة، وموسيقاي أخرى، فكان يضحك في الأولى، ويرقص في الثانية. . . تسبيه!
- ماذا يا بيرام؟
- أتمنى لو غمرتنا أشعة القمر غداً، في هذا السهل المنبسط
- غداً؟ وكيف؟
- ولم لا؟ ألا ترغبين؟
- وكيف أرفض؟ أنا أتمنى ذلك
- إذن سنلتقي!
- وكيف أفعل يا بيرام؟
- تنسرقين إذ نام أهلك. . . ولن يشعر بك أحد
- وأين نلتقي؟
- عند مقبرة نينوس
-. . .؟. . .
- ألا تعرفينها؟
- مكان رهيب!
- لكنه جميل رائع! سنجلس ثمة بين يدي القمر ونتحدث، ونشفي أنفسنا مما تجد!
- وتعزف وتغني؟
- وقد نبكي!
-. . .؟. . .
- اتفقنا! أليس كذلك؟
- اتفقنا
- إذن أنتظرك، إذا لم أجدك هناك، عند النبع القريب. تحت التوتة البيضاء! وكذلك تفعلين
- أفعل ماذا؟
- تنتظريني ثمة إذا سبقتني!
- ترى ماذا تبتغي ديانا مني؟
- لا شيء. . . لا شيء. . .
ما كان أجملها من ليلة سطع في حوشيها القمر، ودحرج لآلئه على مياه النبع، ودغدغ بأضوائه العشب وأفنان الشجر فتبسمت وتضاحكت، ونشر في أجوائها بخوره المصاعد من مجامر الورد، ومداهن البنفسج، احتفاء بمقدم تسبيه! يا لجمال الطبيعة! لقد كان كل ما فيها
موسيقى صامتة تنشر أحلى النغم حوالي هذه الحبيبة التي انسرقت تحت إسدال الظلام تمشي كالقطاة وترسل من فوق رأسها خماراً رقيقاً كسحابة الصيف تستر ما وراءها وليست شيئاً! لقد كانت تتوجس في نفسها خيفة وهي تدب في سكون الليل، كما يسري الحلم الجميل في خلد النائم
وذهبت تطوي الطريق وفي رأسها ألف فكرة عن هذه المجازفة؛ وبلغت مقبرة نينوس آخر الأمر، ولكنها لم تجد حبيبها عندها. ترى؟ ماذا عوقه؟ لقد كان رخام المقبرة نظيفاً ناصعاً، ولقد كان شبح الفناء جاثماً فوقها يلمع في ضوء القمر، كأنه يتلاعب بالسنين والأحقاب، وكأنه يسخر من كل شيء فوق الأرض! وبدا للفتاة الضعيفة كأنه يرقص كالسكران فوق الشاخص الرخامي، ولكنها أخذت تصرف عن عينها رؤى عفاريت الليل، وتصاوير الوهم المريض؛ ثم سخرت من خوفها وذكرت التوتة البيضاء، والنبع الذي عندها، فارتدت إليهما لتجلس ثمة، ترتقب زورة الحبيب
وجلست عند جذع التوتة، وجعلت تحدج الثمر الأبيض، وتشتهي لو سقط منه شيء تأكله حتى يحضر بيرام. . . ثم سمعت دبيباً يقترب، فلم تشك أن بيرام قد أقبل، ونبض قلبها بشدة وانذرفت من عينها عبرة لم تفكر هذه اللحظة أن تذرفها. . . ثم أبطأ الدبيب. . . ووثبت تسبيه تمد عينيها الثاقبتين في أرجاء الدنيا الصامتة الرهيبة، ولكنها لم تر شيئاً، وعادت عفاريت الليل ترقص في وهمها، ولكنها لم تبال، وجعلت تجاهد نفسها مجاهدة لينة مرة، عنيفة مرة أخرى، وهي في هذا وذاك تفكر في حبيبها بيرام، وتضرب في تأخره أخماساً لأسداس. . . ثم ذعرت الفتاة ذعراً كبيراً، وساخت الأرض تحت قدميها المرتجفتين أو كأن قد. . . ذلك إنها لمحت شبح لبؤة تخرج من دغل قريب فجأة، ثم تيمم شطر النبع الذي تعرش من فوقه التوتة. ماذا؟ إنها لبؤة ضارية أقبلت ترتوي من ظمأ ملح وجواد شديد. . . وهي تتبهنس مع ذاك كأنها عروس ولكن من الجن
وأطلقت الفتاة ساقيها للريح، ولم تحفل بها اللبؤة، لأنها قد افترست فريسة قبل ساعة ونهشتها، وهذا فمها ملوث بالدم الغريض الدافئ. . .
لم تصنع اللبؤة شيئاً، إلا أنها رأت الخمار الأبيض الذي كانت تسبيه ملتفعة به، ملقى على الأرض، فعاثت فيه، وكأنما أرادت أن تمسح فمها به، فلوثته بالدم، ثم هممت نحو النبع
فارتوت على مهل، وعادت أدراجها نحو الدغل الذي تركت فيه فريستها لتأتي على بقاياها
أما الفتاة فقد ظلت تجري حتى بلغت شجرة ضخمة وجدت في أصلها فراغاً فاختبأت فيه، وراحت تلهث من الذعر والتعب، وتتمنى أن ألا ترتد اللبؤة إليها. . . وقد أيقنت أن ديانا، إلهة القمر، قد سمعتها حين عابت على البدر عيه وبكمه، فساقت إليها هذا الوحش في هذا الليل
ولم يمض طويلاً على تلك الأحداث حتى أقبل بيرام وفي نفسه لهفة، وبقلبه قلق، فقصد إلى مقبرة نينوس فلم يجد عندها شيئاً؛ ووقف قليلاً يبحث عن تسبيه في كل شيء! في شجيرات الورد وفسائل الزنبق، وفي العشب الخائف المذعور حول المقبرة؛ وتولاه طائف من الوجد والذهول فراح يبحث في السحابة الرقيقة البيضاء التي انتشرت على وجه القمر في هذه اللحظة، مشبهة خمار تسبيه على وجهها الرقيق الناحل. . . ثم ذكره ميعاده عند النبع القريب تحت التوتة البيضاء، فانثنى ميمما شطرها. . .
(يا للهول! ويا للفزع الأكبر!! ما هذا؟ خمار حريري أبيض؟ لمن هذا الخمار يا ترى؟ أواه! إنه خمارها لا ريب! لقد شهدتها تلتفع به مراراً! يا أرباب السماء! ما هذا الدم؟ وا أسفاه عليك يا تسبيه! لقد قتلتك الوحوش فلن أراك بعد اليوم! أنا السبب يا حبيبتي! لقد جررت عليك هذا باقتراحي الضال! ألا ليت أمي لم تلدني! أي وحش ضار اغتذى بك يا تسبيه؟ أيها القمر القبيح الأبكم لم أغريتنا بهذا اللقاء؟ أنت تستر الآن حياء وخجلا من فعلتك التي فعلت، وكنت بالأمس سافراً متبرجا! أغرب أيها الأصفر كصفرة الموت فلا جمال فيك! رد علي موسيقاي وأغاني فأنت جبس لئيم لا تستأهل منها شيئاً! هات كل ما عندك لي هات! هات دموعي وأشجاني وآهاتي! هات سهدي وعبادتي ومناجاتي! قتلت تسبيه تحت سمعك وبصرك ما أقساك يا صاحب الليالي المواضي! أوه. . . ولكن. . . لا. . . أنا الذي قتلتها، لا ذنب لك يا قمر. . . إني أستغفرك؛ أبق كل ذكرياتي عندك، فلا أمن عليها إلا أنت! أما أنا. . . فهلم يا حسام أسكن هنا. . . في حبة القلب. . . أروَ من هذا الدم الدافئ فلا أمل لصاحبك في الحياة بعد اليوم. . .)
وألقى الفتى المسكين نظرة على كل شيء حوله، لا حرصاً على الحياة المرة؛ ولكن لينظر إلى كل ما نظرت إليه تسبيه قبل أن يأكلها الوحش، وليتزود من الأثر الذي تركته في
الوجود عيناها الحزينتان المفزوعتان. . .
ثم أغمد سيفه في صدره. . . وسقط يتجرع سكرة الموت!
وهدأ روع تسبيه، فبرزت من مكمنها في أصل الدوحة، لنرى من أين كان يتردد في أذنيها هذا النداء الحبيب. وكان شبح اللبؤة ما يزال يتمثل لها فيفزعها في الفينة بعد الفينة، ولكنها كانت تسير بخطى وئيدة، لأنها ما شكت مطلقاً في أن النداء لحبيبها، ولأن الصوت الفضي الذي كان يمتزج بأضواء القمر فيغمر أذنيها وقلبها، كان ما يزال يداعب أذنيها الصغيرتين. . . ثم بدا لها أن تحث الخطى حتى تنبه بيرام إلى وجود لبؤة في هذا السهل الجميل جعلته كالفلاة. . . فأسرعت، وأسرعت!!
- من هذا المستلقي على حفاف النبع؟ هو من غير شك!
ثم أسرعت أكثر من ذي قبل
- بيرام؟ ما هذا؟ السيف في صدرك؟ لِمَهْ؟ حبيبي! رد علي! كلم تسبيه! هاأنا ذي! لم قتلت نفسك يا بيرام؟ آه! هذا الخمار الأبيض! وَيْ! إنه ملوث بالدم؟ عاثت فيه اللبؤة الملعونة!
- تس. . . سبيه!
وأرسل القتيل هذا الاسم المحبب وحشرجة الموت تعتلج في صدره، ثم فتح عينه قليلاً فرأى فتاته تبكي فوق رأسه، فتبسم. . . ثم مات!
- بيرام! لا! لا تمت! لابد أن تعيش من أجلي!
ولكنه مات برغم هذه الأماني
- إذن أنا التي قتلتك يا حبيبي؟ أشهدي يا توتتنا البيضاء!
ثم رفعت بصرها إلى فوق، ولكنها بدلاً من أن ترى الثمر الشهي الأبيض، رأت ثمراً أحمر يقطر دماً قانياً
- أوه! رويت من دمه أيتها الشجرة فضرجت ثمرك من حبنا وسعادتنا؟! تعالوا يا أهل! تعالوا أيها القساة! فتشوا عن الرحمة في قلوبكم المتحجرة اذرفوا دموعكم علينا. . احذوا أن تفرقوا بعد اليوم بيننا، فقد ربطت بين جسومنا المنايا. . . لقد أبيتم في أن نجتمع في الحياة فلا تفرقوا بيننا بعد الموت. . . وداعاً أيها القمر. . . وداعاً فقد ظلمناك!)
ثم جذبت السيف من صدر حبيبها وأغمدته في صدرها بعد أن قبلت بيرام الميت قبلة
الوداع. . . وسقطت تتخبط في دمائها جانبه. . . ثم عالجت سكرات المنون فوضعت رأسها الجميل، وشعرها المغدودن فوق صدره. . . ولفظت ثمة آخر أنفاسها
وأقبل أهلوهما في الصباح فبكوا كثيراً، واستغفروا لذنوبهم، ثم أقاموا للحبيبين قبراً واحداً من الرخام الناصع عند حفافي النبع. . . تحت التوتة الحمراء!
دريني خشبة
البريد الأدبي
أسطورة الاطلانطس
هل كانت الاطلانطس التي مازالت مستقى خصباً لأقلام القصصيين حقيقة قارة أو منطقة مفقودة؟ لقد ظهرت في العصر الأخير عدة قصص رنانة عن خرافة (الاطلانطس) وكان أخرها رواية لبيير برتران عضو الأكاديمية الفرنسية. ولكن (الاطلانطس) ما تزال خرافة يكتنفها الغموض المطبق. وقد حاول كاتب إنجليزي هو جيمس برايمول أخيراً أن يدرس قصة (الاطلانطس) دراسة تاريخية علمية، فوضع عنها كتاباً سماه (الاطلانطس المفقودة) جمع فيه كل ما ورد في الروايات القديمة والحديثة وفي التقاليد المأثورة، وفي الشعر والقصص عن هذه الأسطورة، وفي رأيه أن هذا (الاطلانس) لابد أن تعني شيئاً ولو أن ما يحيط بها من الغموض يحول دون معرفة الحقيقة، وأن هذه القارة ربما كانت على الأغلب جزائر (آزورس) في عصر غابر جداً قد يرجع إلى عشرة آلاف عام قبل المسيح. والواقع أن الأسطورة تثير في الإنسان الجانب الشعري قبل أن تثير فيه الناحية العلمية؛ وإذا كانت جزائر (الآزورس) يمكن أن تكون فرضاً أول للقارة المفقودة، فكذلك يمكن أن تكون قادسة وقرطاجنة؛ وهنالك غير ذلك فروض كثيرة ذهب إليها مختلف الباحثين. وأما الحوادث التي ترتبط بهذه الأسطورة فلا حصر لها، وهي قد ترجع إلى عصر الأهرام أو عصر أفلاطون، وأفلاطون ممن تحدثوا عن (الاطلانطس)؛ بيد أن مستر برامويل يرى رواية أفلاطون خارقة مستحيلة إذ يقول أن (الأطلانطس) أو القارة الوسطى قد اختفت في الماء في يوم واحد، لأن العوامل الجيولوجية لا تحدث أثرها بمثل هذه السرعة الخارقة؛ ومن جهة أخرى فإن أسطورة (الأطلانطس) ليست في ذاتها أكثر إغراقا من أساطير تاريخية أخرى لها مكانة في التاريخ، فحصار طراودة وقصة هيلين التي خلدها هوميروس في الإلياذة؛ وقصة ملكة سبأ التي شغلت الباحثين والرواد في الأعوام الأخيرة وأمثالهما من الروايات المغرقة التي تبدو مع ذلك ذات مسحة تاريخية هي من نوع أسطورة الاطلانطس، ولو أنها من الناحية الزمنية ترجع إلى عصور أكثر ظلاماً وغموضاً، وعلى أي حال فإن كتاب (الاطلانطس المفقودة) يقدم إلينا مجموعة من الروايات والفروض الشائقة التي تتعلق بهذه الأسطورة منذ فجر التاريخ إلى عصرنا
مر، مرير، ممر
نقد السيد جورج سلستي في (الرسالة) لفظة (المرير) في (رواية المصدور) وقد كان العلامة الشيخ إبراهيم اليازجي قد أنكر هذه الكلمة في مجلته (الضياء) كما أنكر ألفاظاً عربية صحيحة غيرها. والشيخ إبراهيم والسيد جورج كلاهما مخطئ في نقد تلك اللفظة، فالمرير مثل المر والممر؛ وهي في كتب اللغة وكلام العرب ورسائل البلغاء، قال (أساس البلاغة) للإمام الزمخشري:(وشيء مر ومرير وممر) قال:
إني إذا حذرتني حذور
…
حلو، على حلاوتي مرير
ذو حدة، في حدتي وقور
وفي نهج البلاغة - وصوّاغه من أئمة الفصاحة والبلاغة: (وإن كان ذا مشقة شديدة ومذاقة مريرة)
فقال: المر، أو المرير، أو الممر، إذا اقتضت ذلك حال، ولكل مقام لفظ ومقال. . .
(الإسكندرية)
* * *
أوراق البردي ونصوص التوراة
ظفر المنقبون في العصر الأخير بكثير من أوراق البردي التي تتضمن نصوصاً من التوراة في عصور مختلفة، ووجدت معظم هذه النصوص الأثرية ضمن أوراق البردي المصرية؛ وقد استطاع المستر شستر بيتي المثري الإنكليزي المعروف في مصر بأنه من أكبر هواة الآثار أن يحرز عدة من أوراق البردي الهامة التي تلقي ضوءاً على نصوص التوراة الأولى؛ ووصفت هذه الوثائق أخيراً وترجمت نصوصها في كتاب بقلم العلامة الأثري الإنكليزي السير فردريك كينون، وعددها أثنتا عشرة وثيقة منها عدة تكون قسما من نسخة من التوراة كتبت في القرن الثالث الميلادي. وهذه التوراة كما يصفها السير كينون كانت مجموعة واحدة تحتوي على ستة وخمسين صفحة من البردي لصقت معاً ونظمت في ملف؛ وقد استطاع السير كينون أن يقرر بالاعتماد على هذه الوثائق كثيراً من الحقائق التاريخية التي تتعلق بتطور النصوص ونتائجها؛ وأهم هذه الحقائق هو أن نص التوراة
كما ورد في كتاب (إيسيا) ليس هو أصح النصوص التي انتهت إلينا. وهنالك بعض وثائق أخرى ترجع إلى القرن الرابع الميلادي وكلها مما يعاون في تتبع النصوص وتحقيقها
الرئيس مازاريك والحركة الفكرية
فقدت الحركة الفكرية في أوربا الوسطى بوفاة الدكتور مازاريك محررا تشيكوسلوفاكيا ورئيسها السابق ركنا من أهم أركانها. ذلك أن الرئيس الراحل لم يكن وطنياً وسياسياً عظيما فقط بل كان أيضاً مفكراً وكاتباً مبرزاً، وقد درس الفلسفة واشتغل في شبابه بالتدريس وكان مدى أعوام طويلة أستاذاً للفلسفة في جامعة براج؛ وله رسائل وبحوث فلسفية قيمة. كذلك أشتغل الرئيس مازاريك بالصحافة والأدب، وله عدة أثار أدبية ونقدية لها مكانة في أدب أوربا الوسطى، وكان الرئيس مازاريك أيضاً من أعظم هواة الكتب، وقد جمع أثناء حياته مكتبة عظيمة كانت كعبة الزوار من كل صوب، وقد تركها لأمته
رحلة في بلاد التركستان
لا تزال التركستان الصينية من المناطق التي يجهل العالم الخارجي الكثير من أحوالها؛ وقد وقعت في الأعوام الأخيرة بهذه البلاد النائية عدة أحداث وتطورات سياسية هامة لفتت إليها الأنظار، وزارتها عدة بعوث أوربية لتكشف ما هنالك من الحوادث والظروف، ولتدرسها من الوجهة الجغرافية والاقتصادية والاجتماعية، وكان من هذه البعثات بعثة أوفدتها الحكومة الإنكليزية إلى مدينة أورمش في أعماق التركستان سنة 1935 لتعقد الصلات السياسية والتجارية بين إنكلترا والحكومة الجديدة؛ وكانت هذه البعثة برياسة السير أريك تيشمان، يعاونه ثلاثة من المغول واثنان من الصينيين؛ وسافرت البعثة من بكين في سيارتين كبيرتين تتقدمهما قافلة من الجمال تحمل البنزين والمؤن؛ واخترقت البعثة صحراء جوبى الشاسعة مدى ألف وخمسمائة ميل إلى أورمشي؛ ثم سارت منها إلى مدينة كشغر عاصمة التركستان الصينية فقطعت بذلك نحو ألفين وخمسمائة ميل في أربعين يوماً. وقد دون السير تيشمان رحلته ودراساته لهذه الأقطار المجهولة في كتاب ظهر أخيراً عنوانه (الرحلة إلى تركستان) ومرض السير تيشمان مدى حين في كشغر، ولكنه استطاع أن يتم مهمته. وأن يخترق بعد ذلك صحراء البامير المروعة على ظهر مهر،
ومنها انحدر نحو حدود الهند الشمالية الغربية، ثم عاد إلى الصين عن طريق الهند
ويقدم إلينا السير تيشمان في كتابه خلاصة قيمة عن تاريخ التركستان الصينية، وعن أحوالها وظروفها الحالية؛ ويفيض في وصف الفيافي الشاسعة والجبال الشامخة التي شاهدها، وفي وصف الأجناس البشرية التي لقيها في طريقه، ولغاتها ومعتقداتها وأساليب الحياة
في دار المحفوظات النمسوية
يتردد صديقنا الأستاذ عنان الذي يقضي الآن أجازته في فينا على دار المحفوظات النمسوية ليدرس الملفات الخاصة بحياة ولي العهد السابق رودلف فون هبسبرج وبمصرعه المؤسي في حادثة مايرلنج الشهيرة، وقد كانت هذه الملفات السرية التي تحتوي على كثير من الوثائق المخطوطة محفوظة في قصر (البورج) ولم يتح لإنسان أن يطلع عليها إلا بعد الحرب الكبرى حيث نقلت المحفوظات الإمبراطورية إلى محفوظات الدولة؛ وبين هذه الوثائق مذكرة خطية مستفيضة عن مصرع الأمير رودلف في قصر مايرلنج مكتوبة بقلم كبير حاشيته الكونت فون هويوش وفيها يفصل الظروف والعوامل النفسية والاجتماعية التي دفعت بالأمير إلى الانتحار. وينوي الأستاذ عنان بعد دراسة هذه الملفات أن يضع مؤلفاً عن مأساة مايرلنج الشهيرة مستسقي من أوثق المصادر والمراجع
بعثة ثقافية مصرية إلى فرنسا
وجهت الحكومة الفرنسية الدعوة إلى الحكومة المصرية لإيفاد ثلاثة من خريجي كلية الآداب واثنين من خريجي كلية الحقوق لزيارة فرنسا والإقامة بها عاماً دراسياً كاملا
وقد خصصت جمعية أصدقاء الشرق لكل مبعوث مصري من الذين تقرر الجامعة إيفادهم عشرة آلاف فرنك طول مدة الإقامة على أن تتكفل أيضاً بنفقات الانتقال على البواخر الفرنسية والسكك الحديدية المصرية والفرنسية
وقد تلقت وزارة المعارف أمس الأول كتاباً من قنصل فرنسا يطلب إليها فيه دعوة المبعوثين لمقابلته والتعرف إليهم. ونذكر في هذا الصدد أن جمعية أصدقاء الشرق بباريس لم تضع للبعثة برنامجاً وإن كان المفهوم أن الدعوة مقصود بها توطيد صلات الصداقة
وإيجاد علاقات أدبية وثيقة بين الشعبين المصري والفرنسي عن طريق إيفاد مثل تلك البعثات؛ وقد وقع اختيار الجامعة على أعضاء البعثة وسيغادرون مصر في هذا الشهر
الحياة الطبيعية للإنسان 150 سنة
وصل الأستاذ (لازارف) مدير معهد البيولوجيا في روسيا - بعد سنوات من البحث - إلى أن العمر الطبيعي للإنسان ينبغي أن يكون 150 سنة وأن السبب الوحيد لعدم مقدرة الجيل الحاضر على الوصول إلى هذا السن هو عدم الاهتداء إلى سر التغلب على عملية التفكك في الجسم الإنساني. ويعتقد الأستاذ أن الإنسان يصل إلى عنفوان قوته في سن العشرين وبعد ذلك تبتدئ عملية التفكك وأنه سوف لا يمضي وقت طويل حتى يتمكن العلم من وقف هذه العملية وبذلك يتمكن الجزء الأعظم من سكان العالم من التعمير مائة وخمسين سنة. وربما استخدمت في ذلك مجهزات كيميائية أو أشعة خاصة يستطيع بها المخ أن يحتفظ بقوة وظيفته. ويستدل الأستاذ على تأثير هذا في بعض الأمراض التي كانت تعتبر عضالة منذ خمسين سنة وقد أصبحت الآن سهلة الشفاء
تعيين سكرتير لجمعية مارك توين في مصر
اختارت جمعية مارك توين الدولية مستر جون هوجورف ليكون سكرتيراً لها في مصر
وهذه الجمعية مؤلفة على نمط أندية شكسبير، وتتجه أغراضها إلى نشر كتابات مارك توين وتشجيع الملكات الأدبية من أية جنسية كانت، ولها فروع في الولايات المتحدة الأمريكية، والإمبراطورية والبريطانية وفرنسا وإيطاليا وألمانيا واليابان وغيرها من البلاد. ويؤيد جمهورها كثيرون من أقطاب العالم بينهم السنيور موسوليني ومستر هوفر، وايرل بلدوين، ومستر رامسي ماكدونالد، والجنرال سمطس؛ ومن أعضائها ستيفن كيلوك، وأوجيني أونيل، وجيوفاني بابيني، وويلز وأندريه موروا