الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 223
- بتاريخ: 11 - 10 - 1937
فلسطين والسياسة الإنجليزية الجديدة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
آثرت الحكومة البريطانية أن تغلط في فلسطين غلطتها في مصر، فاعتقلت رجال اللجنة العربية العليا، وحملتهم في بارجة حربية تمضي بهم الآن إلى سيشيل. وهذا عين ما صنعته في مصر لما ضاقت بالحركة الوطنية فيها ذرعاً، وتوهمت أنها إذا قبضت على رجال الوفد سهل عليها بعد ذلك أن تكفل الراحة لنفسها، والاطمئنان على تحقيق غاياتها في مصر. فذهب الزعماء إلى سيشيل وبقوا فيها ما شاءت السياسة البريطانية، فلم تخمد الحركة الوطنية، ولم يعدل المصريون عن مطالبتهم بالاستقلال، ولم يكفوا عن السعي لاسترداد حريتهم القومية، ولم ترجح كفة المعتدلين بعد أن أقصى الذين كانت تسميهم المتطرفين، وانتهى الأمر بالإفراج عن المعتقلين وإطلاق سراحهم وعودتهم إلى وطنهم، ثم لم تجد السياسة البريطانية بداً من الرجوع إلى هؤلاء المتطرفين وغيرهم من زعماء البلاد للاتفاق معهم على حل تستقر به العلاقات بين البلدين على حدود معقولة معروفة
والذي فعلته السياسة البريطانية في مصر وأخفقت فيه، ولم تجد منه جدوى، تفعله الآن في فلسطين، وما نظن بها إلا أنها ستخفق هناك أيضا. فإن رجال اللجنة العربية العليا ليسوا رجال تهييج، ولا هم الذين يحرضون على أعمال الإرهاب أو الاغتيال التي أثارت ثائرة البريطانيين، وأغرتهم بهذا العنف الذي تأخذ به زعماء العرب الآن، وإنما هم رجال سياسة يطالبون بحق بلادهم ويدافعون عنه، ويسعون للفوز به بالطرق المشروعة. ومن غرائب التفكير المقلوب أن الصحف البريطانية تقول في تعليقها على هذا الاعتقال والنفي إن القبض على المتطرفين خليق أن يفسح المجال لغيرهم من المعتدلين، ويشجعهم على الظهور والمعالنة بآرائهم التي كانوا يخافون الجهر بها. وتنسى هذه الصحف أن الأمر ليس أمر اعتدال وتطرف، وإنما هو أمر حق للبلاد يطلبه الجميع بلا فرق، ويجمعون عليه بلا تفاوت أو شذوذ أو اختلاف. ومن البعيد جداً أن يجرؤ أحد على التقدم باسم الاعتدال والمعتدلين بعد أن نكلت الحكومة البريطانية برجال اللجنة العربية العليا. وأخلق بكل عربي من أهل فلسطين أن يستنكر هذا العنف الذي لا مسوغ له، وذاك الظلم الذي ينزل برجال اللجنة العربية. والمعقول أن يمتنع العرب - متطرفوهم والمعتدلون منهم إذا صح
أنهم فريقان - عن التقدم إلى الإنجليز لمفاوضة أو مباحثة قبل أن يرفع الظلم عن إخوانهم. وإذا صح أن في فلسطين اعتدالا وتطرفاً وأن المعتدلين كانوا يخشون الظهور بآرائهم الحقيقية أمام المتطرفين - وهو ما لا نعتقد أنه صحيح - فالبداهة تقول إن هؤلاء حقيقيون أن يخشوا الظهور الآن بعد الذي كان من الاعتقال والنفي حتى لا يتهموا بالتواطؤ مع البريطانيين على إقصاء رجال اللجنة العربية عن الميدان
فالذي فعلته الحكومة البريطانية لا خير فيه ولا جدوى منه؛ وكل ما هو خليق أن يثمره هو أن يوقع في روع العرب أن بريطانيا ممالئة للصهيونية، ومناوئة للعب؛ وأنها تلجأ الآن إلى وسائل الضغط والعنف والتخويف والإرهاب بعد أن أعيتها الأساليب السياسية. وإلا فلماذا تختص بريطانيا العرب بهذا العنف وتخاشنهم على حين تسالم الصهيونيين وتحاسنهم؟ وإذا كانت حوادث الاغتيال التي وقعت هي التي استوجبت اللجوء إلى هذه الأساليب العنيفة، فقد كان يحسن بالحكومة البريطانية أن تذكر أن الذين اغتيلوا كان أكثرهم من العرب، وأن ممن وقع الاعتداء عليهم بعض زعماء العرب أنفسهم، وأن هناك اغتيالات وقعت من الصهيونيين أيضا، وهذا ما لاشك فيه. فلماذا تأخذ العرب وحدهم بذلك وتدع الصهيونيين؟ على أن زعماء العرب لم يكفوا قط عن دعوة الشعب إلى التزام السكينة والهدوء وضبط النفس والمحافظة على اتزان الأعصاب حتى في أعصب الأوقات، لأنه ليس مما يساعد على تحقيق غاية العرب ويكفل للزعماء الفوز بالحصول على ما ينشدون من الحرية ومن المحافظة على حقوق البلاد أن يقع اضطراب يمكن أن يستغله خصوم القضية العربية وأنصار الوطن القومي والصهيونية. فحوادث الاغتيال التي وقعت هي في الحقيقة معاكسة لمساعي العرب وإساءة إليهم؛ ولو وسع زعماء العرب أن يقطعوا دابرها ولما ترددوا، ولكنهم ليسوا الحكومة، وليس أمر الأمن والنظام إليهم، ولا في أيديهم زمامه؛ فمن أشد الظلم وأصرخه أن يؤخذوا بما يشكون هم منه، ويرون فيه إحباطاً لسعيهم ومناوأة لهم
ومن الواضح أن هذا مظهر اضطراب شديد في السياسة البريطانية، فقد كان المفهوم من موقف ممثليها في عصبة الأمم أنها لم تعد ترى في مشروع التقسيم حلاً مقبولاً لمسألة فلسطين، وأنها ستعيد النظر في الأمر؛ بل لقد صرحت أنها تنوي أن تبعث إلى فلسطين
بلجنة أخرى تتناول الموضوع بالدرس والبحث من جديد، وتفاوض رجال العرب وزعماءهم وممثلي الصهيونية لعلها تهتدي إلى حل آخر يكون أكفل بإرضاء الفريقين. وكان المفهوم أيضاً أنها بهذا تفسح لنفسها في الوقت وترجئ الحل إلى أن يتيسر؛ ولا يتفق هذا وسلوكها العنيف، فإن الذي يريد المفاوضة والتفاهم لا يلجأ إلى الشدة والضرب على الأيدي والتحبيس. ومن عساها تفاوض أو مع من ترجو أن تتفاهم إذا كانت تشرد الزعماء في نواحي الأرض وتقصيهم؟ أتفاوض العامة أو من يا ترى؟ وما هي الجدوى على كل حال من هذه السياسة العنيفة؟ سؤال نلقيه ونحن نتعجب، فإن اعتقال رجال اللجنة العربية لا ينفع أحداً من الإنجليز أو الصهيونيين، لأن هؤلاء الرجال إنما يمثلون رأي الأمة ويتكلمون باسمها، والإنجليز يشاءون أن يشكوا في ذلك، وأن يزعموا أن هناك معتدلين مستعدين للظهور والتقدم متى خلا المجال من هؤلاء المتطرفين الإرهابيين. وسيرى الإنجليز أنهم في هذا مخطئون كخطئهم في اعتقال زعماء المصريين مرتين ونفيهم أولا إلى مالطة ثم جزيرة سيشيل. وسيتبين الإنجليز أنهم أوغروا صدور العرب بلا موجب ومن غير عوض، وحملوا العرب في كل مكان على إساءة الظن بالسياسة البريطانية بعد أن كان العرب يعتقدون أن بريطانيا حليفة طبيعية لهم، وأنها أولى بصداقتهم ومحالفتهم. ولا ندري ماذا تكسب بريطانيا من اسخاط العرب وإيغار صدورهم؛ ولكنا ندري أن يأسهم من صداقتها ومن إمكان التفاهم بالعدل والإنصاف قد يدفعهم إلى ما تكره بريطانيا ويحملهم على النظر في أمرهم من ناحية جديدة، وعلى طلب حقهم بوسائل جديدة. فإذا كان في هذا مكسب للسياسة البريطانية فإنه ينقصنا أن نعرفه. ولن يكون العرب إلا معذورين إذا التمسوا حقهم من طريق آخر غير طريق الاعتماد على روح العدل والإنصاف عند بريطانيا
إبراهيم عبد القادر المازني
في التاريخ السياسي
حوادث الشرق الأقصى
والحرب بين الصين واليابان
بقلم باحث دبلوماسي كبير
تضطرم الحرب في الشرق الأقصى بين الصين واليابان منذ ثلاثة أشهر؛ وهي حرب غير رسمية، بدأت لأسباب تافهة، واتسع نطاقها بسرعة، وأضحت خطراً حقيقياً على السلام. ومن المحقق أنها لم تكن لتنشب لو لم ترد اليابان نشوبها. وأن اليابان تشهرها على الصين وفقاً لخطة مقررة، وتحقيقاً لغايات بعيدة المدى؛ وهي ليست في الواقع إلا خطوة جديدة في سبيل تنفيذ السياسة التي رسمتها اليابان لبسط نفوذها على الصين واستعمار مناطقها الغنية تباعاً؛ وقد بدأت هذه السياسة منذ سنة 1) 31 حينما غزت اليابان ولاية منشوريا بحجة المحافظة على مصالحها وأرواح رعاياها من فوضى الإدارة الصينية، وانتهت بفتح هذه الولاية واقتطاعها من الصين، وإقامة حكومة صورية فيها تخضع لرأيها وتأتمر بأوامرها؛ وكان فتح اليابان لمنشوريا اعتداء صريحاً على الأراضي الصينية تؤيده القوة الغاشمة وحدها؛ ولكن اليابان لم تحفل بما أثاره الاعتداء يومئذ لدى الدول العظمى من ضروب الاحتجاج والتوجس، ولم تحفل بنوع خاص بتدخل عصبة الأمم ولا بما اتخذته ضدها من قرارات تقرر مسئوليتها وعدوانها، بل قابلت هذا التدخل بالانسحاب من العصبة، ومضت في تنفيذ خطتها بجرأة لا مثيل لها. ولم تكتف بفتح ولاية منشوريا والاستيلاء عليها، بل حاولت أن ترغم الصين على الاعتراف بهذا الفتح، فبعثت جيوشها إلى الأقاليم المجاورة لتقضي على كل مقاومة صينية، وغزت ثغر شنغهاي لكي تهدد حكومة نانكين الوطنية وتحملها على الخضوع لمطالبها؛ ولكن الحكومة الوطنية قابلت القوة بمثلها، واستطاعت أن ترد القوات اليابانية عن ثغر شنغهاي بعد معارك طاحنة، ووقفت الأمور يومئذ عند هذا الحد وقنعت اليابان مؤقتاً بغنيمتها الأولى
ومن ذلك الحين واليابان تفصح بين آونة وأخرى عن خططها ونياتها نحو الصين بأعمال وأقوال لا تترك مجالاً للشك في مقاصدها الحقيقية؛ فهي لم تكد تستقر في منشوريا حتى
عادت تهدد الأقاليم الصينية الشمالية في منطقتي شاهار وجيهول، وتغير عليها من آن لآخر لمختلف الأعذار والحجج. ولما كانت الحكومة الصينية الوطنية في ظروف لا تمكنها من إرسال جيوشها إلى تلك الأقاليم النائية، فقد تركت أمر المقاومة للجيوش المحلية؛ ولكن الجيوش المحلية قاصرة الأهبة والعدد، ولا يضمن ولاؤها دائماً؛ ومن ثم استطاعت اليابان بتفوقها الحربي أن تبسط على منطقة شاسعة من الأقاليم الشمالية شبه حماية عسكرية. كل ذلك وحكومة نانكين الوطنية تستغيث بعصبة الأمم وبالدول العظمى التي ضمنت بمعاهدة (الدول التسع) استقلال الصين وسلامة أراضيها، فلا تجد مغيثاً غير الاحتجاج والتصريحات العقيمة؛ واليابان فيما بين ذلك تتوغل تباعاً في أراضيها لا تلوي على شيء
ومنذ عامين طلعت اليابان على الدول بتصريح جديد في غاية الخطورة، خلاصته أن اليابان لا تطيق بعد أي تدخل جديد من الدول الغربية في شئون الصين، وأنها تعتبر أي محاولة جديدة من جانب الدول الغربية لتوسيع نفوذها أو مناطق امتيازها في الصين عملاً غير ودي بالنسبة إليها. ولم تقصد اليابان بهذا التصريح الذي صيغ على مثال تصريح منرو الأمريكي أن تعلن عطفها على الصين أو تضامنها معها ضد عدوان الدول الغربية، كما قصدت السياسة الأمريكية باعتناق الرئيس منرو وطبقته منذ نحو قرن بهذا المعنى بالنسبة للدول الأمريكية، ولكنها قصدت غاية أخرى أبعد مدى، وهي أن تجعل من الصين ميداناً لنشاطها الاستعماري دون الدول الأخرى، وأن تستأثر وحدها بتوسيع نفوذها السياسي والاقتصادي في مناطقها الغنية، وان تقتطع من أراضيها ما استطاعت كما فعلت بالنسبة لكوريا ومنشوريا. وعلى هذا الأساس الغريب أرادت اليابان أن تفهم فكرة الجامعة الأسيوية وأن تطبقها، فهي ترى أنها أحق الأمم باستعمار الصين، وأنه إذا كانت الصين لا تستطيع أن تنظم شئونها وتجمع كلمتها ولا أن تدافع عن نفسها الاستعمار الغربي، فان اليابان تأخذ على نفسها تلك المهمة بوضع الصين تحت نفوذها وحمايتها، وبذلك يمكن في نظر اليابان أن تحقق فكرة الجامعة الأسيوية ومبدأ آسيا للأسيويين. وقد كان لهذا التصريح وقع عميق في أوربا وأمريكا، ولكنه مر كما تمر باقي الحوادث في الشرق الأقصى أمام نظر الدول وسمعها ولم يثر سوى الاحتجاجات الدبلوماسية العادية. ذلك أن أوربا مشغولة بمشاكلها الخاصة، والدول العظمى متخاصمة مفرقة الكلمة، ولم يعد للجبهة الأوربية القديمة
قيمة دبلوماسية ذات شأن؛ واليابان تعرف هذه الظروف وتستغلها، وتعرف أن سياسة المفاجأة والأمر الواقع في الشرق الأقصى لا يمكن أن تلقى في مثل هذه الظروف من أوربا الممزقة المشغولة بخصوماتها وخلافاتها مقاومة يعتد بها
وعلى هذا المنوال قامت اليابان في العام الماضي بحركتها لفصل الصين الشمالية عن الصين الجنوبية، وحاولت بالقوة القاهرة أن تملي إرادتها على زعماء الشمال وعلى حكومة نانكين وأن تفرض على الولايات الشمالية نوعاً من الحكم المستقل يكون تحت إشراف السلطات العسكرية اليابانية، وقرنت الوعيد بالعمل فغزت الأقاليم الشمالية وهددت بكين العاصمة القديمة، ووجهت بلاغاً نهائياً إلى الحكومة الوطنية؛ بيد أن الحكومة الوطنية أبت أن تذعن للوعيد؛ ولكنها اضطرت أن تترك الشمال لمصيره، واستطاعت اليابان أن تحقق مشروعها بإرغام زعماء الشمال على إنشاء إدارة مستقلة عن حكومة نانكين
ولم تمض على هذه الحركة التي تفصح عما وراءها بضعة أشهر حتى شهرت اليابان على الصين تلك الحرب الجديدة التي يتسع نطاقها يوماً عن يوم، والتي شملت الشمال والجنوب، والبر والبحر والهواء؛ وانتحلت اليابان لإثارتها عذراً تافهاً هو أن حامية بكين أطلقت النار على جنود يابانية كانت تقوم بمناورات في البقعة المجاورة وظهر فيما يبعد أن جنود الحامية اعتقدوا خطأ أن اليابانيين ينظمون على الحامية هجوماً حقيقياً. ولو كانت اليابان تعمل عن حسن نية وتقصد الانتصاف لجنودها فقط لاكتفت بالإجراءات الدبلوماسية التي تتخذ في مثل هذه الأحوال من طلب الاعتذار والتعويض؛ ولكن اليابان، وهي تعمل وفقاً لخطة استعمارية مرسومة، اتخذت هذا الظرف ذريعة للقيام بحركة جدية واسعة النطاق لتحقيق خطتها، فوجهت إلى الحكومة الوطنية إنذاراً نهائياً بقبول مطالبها الخاصة بفصل الأقاليم الشمالية، وغزت جنودها في الحال إقليم شاهار، وبعثت جيشاً وأسطولاً إلى شنغهاي أعظم الثغور الصينية، ونفذت قواتها البحرية إلى النهر الأصفر (ينج تسي) متجهة إلى نانكين عاصمة الصين الوطنية، وضربت الحصار البحري على جميع شواطئ الصين، ونظمت على العواصم الصينية الآهلة مثل كنتون ونانكين وبكين عدة غارات جوية فتكت بالسكان الآمنين، وما زالت الجيوش اليابانية تتدفق على الصين من الشمال والجنوب، ونطاق الحرب يتسع بسرعة مروعة. أما الحكومة الصينية الوطنية فقد رفضت
منذ البداية كل المطالب اليابانية وأعلنت عزمها الثابت على مقاومة الاعتداء بكل قوتها؛ وأعلن الماريشال تشانج كايشك رئيس الحكومة الوطنية وقائد جيوشها أن الصين سوف تقاوم حتى يجلو آخر ياباني عن الأراضي الصينية. وهكذا اضطرمت الحرب في الصين بين الجيوش اليابانية المغيرة وبين الجيوش الصينية المدافعة، ومع أنها لم تعلن بعد بصفة رسمية، فإنها تكاد تشمل اليوم كل المناطق الهامة في الشمال والجنوب ويتلخص الموقف ألان فيما يأتي: غزت الجنود اليابانية شاهار وزحفت على شانص شمالاً؛ ونفذت إلى شانغهاي والنهر الأصفر جنوباً، وهذه هي أهم ساحات القتال لأن فيها تقع معظم مناطق الدول الممتازة مثل بريطانيا العظمى وفرنسا وأمريكا. وتجد اليابان مصاعب جمة في التقدم في هذا الاتجاه نحو نانكين عاصمة الصين الوطنية، لأن الدول تأبى إخلاء مناطق امتيازها وتنذر اليابان بسوء العاقبة إذا وقع الاعتداء عليها. وقد ارتكبت الجنود اليابانية أكثر من حادث أثار احتجاج الدول مثل إلقائها القنابل على سيارة السفير البريطاني وجرحه. وتشتد المقاومة الصينية في هذه المنطقة بنوع خاص لأنها مركز الحكومة الوطنية ومجمع قواتها. وقد كانت اليابان تؤمل أن تحرز نصراً سريعاً يرغم الصين على قبول مطالبها؛ ولكنها ما زالت بعد ثلاثة أشهر من القتال حيث بدأت، ولم تذعن الصين ولم يهن عزمها؛ وقد اضطرت اليابان إزاء ذلك أن تعلن أنها ستمضي في الحرب إلى النهاية: وألقى البرنس كونوي رئيس الحكومة اليابانية تصريحات رسمية حدد فيها أغراض اليابان من الحرب بما يفيد أن اليابان ترمي إلى تحطيم الجيوش الصينية الوطنية وحزب الكوفتباح (الحزب الوطني) لأنها هي التي تثير روح الخصومة والمقاومة ضد اليابان، وأن اليابان على استعداد لمهادنة حكومة صينية جديدة تقبل التعاون معها؛ فإذا لم تقبل الصين هذا التعاون السلمي فان اليابان على أهبة لحرب طويلة الأمد. والمفهوم من هذه التصريحات أن اليابان تؤمل أن تفضي هزيمة الجيوش الوطنية إلى قيام حكومة صينية جديدة مستعدة لقبول مطالب اليابان في استقلال الصين الشمالية والاعتراف بحكومة منشوكيو (منشوريا)، ومنح اليابان امتيازات اقتصادية كبيرة، وقبول المستشارين اليابانيين في معظم الإدارات الهامة؛ أو هي تؤمل بعبارة أخرى قيام حكومة تخضع لوحيها ورأيها وسلطانها
ولكن تطور الحوادث لا يؤيد هذه الآمال، بل لقد أفضى اعتداء اليابان بالعكس إلى نتائج
هامة لم يكن يتوقعها اليابان؛ فان الخطر على كيان الصين القومية أثار في الصين روحاً جديداً، وجمع كلمة الزعماء والقادة المحليين، فانضموا جميعاً إلى الحكومة الوطنية في مقاومة الغزو الياباني، ومن أسطع الأمثلة على ذلك أن الحزب الشيوعي الذي كان أخطر منافس للحكومة الوطنية، أعلن انحلاله ووضع قواته العسكرية تحت تصرف الحكومة الوطنية؛ وهكذا تلقى اليابان أمامها بدلاً من الصين الممزقة المتخاصمة جبهة موحدة تجمع على الكفاح والمقاومة؛ وهكذا يثير الخطر الخارجي ضرام الوطنية الصينية مرة أخرى بعد ما فترت في الأعوام الأخيرة، ويمد الصين بقوى معنوية عظيمة في هذا الصراع الذي يقصد به تمزيق وحدتها والقضاء على كيانها القومي. وسيكون الفصل في هذا الصراع للقوة المادية قبل كل شيء، ولكن لا ريب أن اليابان تزج بنفسها في مغامرة عظيمة خطيرة العواقب، وهي قد تحرز اليوم بتفوقها الحربي بعض الانتصارات العاجلة، ولكن الصين قطر بل قارة عظيمة مترامية الأطراف، ذات موارد هائلة، وكلما طالت الحرب ثقل عبئها على اليابان وعلى مواردها المحدودة؛ هذا إلى أن الصين الوطنية قد اكتسبت في الحروب الأهلية المتوالية خبرة عسكرية لا بأس بها؛ وسوف نرى في المستقبل القريب ماذا تسفر عنه هذه الحرب الاستعمارية التي لا سند لها من الحق أو العدالة أو القانون
ياقوت
للأستاذ محمد كرد علي
كان مولد ياقوت عبد الله شهاب الدين في بلاد الروم سنة 574 وأخذ أسيراً وهو صبي فقيل له الرومي، واشتراه في بغداد تاجر يعرف بعسكر الحموي فنسب إليه فقيل له ياقوت الحموي أيضاً. ونشأ نشأة إسلامية فجعله سيده في الكتاب يتعلم ما يستفيد هو منه في ضبط متاجره، وقرأ شيئاً من النحو واللغة، وشغله مولاه بالأسفار ثم أعتقه في سنة 596، فاشتغل بالنسخ بالأجرة، وحصل بالمطالعة فوائد، وعاد مولاه فأعطاه شيئاً وسفره إلى كيش وعُمَان؛ ولما عاد ياقوت من سفرته كان مولاه قد مات، فأعطى أولاد مولاه وزوجته ما أرضاهم به، وبقيت بيده بقية جعلها راس ماله وسافر بها وجعل بعض تجارته كتباً، وسهل عليه بتجارته أن يطوف الشام والعراق والجزيرة وخراسان، واستوطن مرو ودخل خُوارَزمْ وغيرها، أو كما قال عن نفسه إنه جاب البلاد ما بين جيجون والنيل. وأقام مدة في حلب عند الصاحب الأكرم القفطي المصري وزير حلب، وأهدى إليه كتاب معجم البلدان، وفي حلب مات سنة 626هـ
لقي ياقوت في حياته هناء وشقاء، شهد وقائع التتر في خراسان، ووصف ما فعلوه في بلاد الإسلام، وانهزم منهم لا يلوي على شيء، وفقد ثروته حتى عد من المفلوكين. وكان مرة في دمشق فناظر بعض من يتعصب لعلي بن أبي طالب، وجرى بينهم كلام، فثار الناس عليه ثورة كادوا يقتلونه فسلم منهم، وخرج من دمشق منهزماً إلى حلب. وقال عن نفسه إنه كان قدم نيسابور في سنة 613 وهي مدينة الشاذياخ فاستطابها، وصادف بها من الدهر غفلة خرج بها عن عادته، واشترى بها جارية تركية ما رأى أن الله تعالى خلق أحسن منها خَلقاً وخُلقاً، وصادفت من نفسه محلاً كريماً، ثم أبطرته النعمة فاحتج بضيق اليد فباعها فامتنع عليه القرار، وجانب المأكول والمشروب حتى أشرفت نفسه على البوار، فأشار عليه بعض النصحاء باسترجاعها فعمد لذلك، واجتهد ما أمكن، فلم يكن إلى ذلك سبيل، لأن الذي اشتراها كان متمولاً، وصادفت من قلبه أضعاف ما صادفت منه، وكان لها إليه ميل يضاعف ميله إليها، فخاطبت مولاها في ردها على ياقوت بما أوجبت به على نفسها عقوبته، فقال في ذلك قصيدة منها:
أئِنُّ ومن أهواه يسمع أنتي
…
ويدعو غرامي وجده فيجيب
وأبكي فيبكي مسعداً لي فيلتقي
…
شهيق وأنفاس له ونحيب
ومن جملة ما ألف ياقوت من الكتب ثلاثة مطبوعة، أولها (معجم البلدان) وثانيها (المشترك وضعاً والمختلف صقعاً) وثالثها (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) أو طبقات الأدباء. رتب معجم البلدان على حروف المعجم وذكر فيه أسماء البلدان والجبال والأودية والقيعان، والقرى والمحال والأوكان والبحار والأنهار والغدران والأصنام والأوثان مضبوطة بالشكل. واعتمد في تأليفه على من كتب قبله في الجغرافيا من العرب، وعلى اللغويين ودواوين العرب والمحدثين وتواريخ أهل الأدب، والتقط من أفواه الرواة وتفاريق الكتب، وما شاهده في أسفاره وحققه بنفسه من أسماء البلدان ما عظمت به فائدته. وفي كل ما كتب ظهرت إجادته وما ينقله عن غيره قد يكون فيه نظر، ويتبرأ هو من عهدته. فقد قال مثلاً في مدينة الصفر: ولها قصة بعيدة من الصحة لمفارقتها العادة، وأنا بريء من عهدتها، إنما أكتب ما وجدته في الكتب المشهورة التي دونها العقلاء. وقال فيما نقل عن الصين: هذا شيء من أخبار الصين الأقصى ذكرته كما وجدته لا أضمن صحته، فإن كان صحيحاً فقد ظفرت بالغرض وإن كان كذباً فتعرف ما تقوله الناس، فان هذه بلاد شاسعة ما رأينا من مضى إليها فأوغل فيها وإنما يقصد التجار أطرافها. فكأن ياقوت بما ينقل من الأوهام والخرافات إلى جانب الحقائق الثابتة يريد ألا يخلي كتابه من كل أطروفة ولو كانت سخيفة ليستفيد منه الجاهل، ويتفكه به العالم، ويتعلم المتعلم الأديب، ويقتبس الباحث. وتوسع خاصة في الكلام على المدن التي أنشأتها العرب وحرص على الإلمام بأخبار فتوح البلاد وحاصلاتها وأموالها وعمرانها وعادياتها ومصانعها وأخلاق أهلها، وما وقع فيها من الوقائع التاريخية المهمة وما قيل فيها من الأشعار البديعة، فأمتع قارئه بكل مفيد، بحسب ما وصل إليه علمه وعلم جيله، أو قرأه في كتاب، أو استقراه بنفسه ونقله عن الثقات. وهذا القسم جماع ما في معجمه مما أدركه في عصره، أو اقتبسه من الأصول المتقنة في خزائن مرو، قال: وكانت سهلة التناول لا يفارق منزلي منها مجلد وأكثر، وبغير رهن تكون قيمتها مائتي دينار. وما كان يفارق مرو لولا ما عرا من ورود التتر إلى تلك البلاد، وما كان لهم من الأثر القبيح في خرابها. ويتألف من الأبيات والقصائد التي استشهد بها ياقوت في معجم البلدان ديوان
جميل، يحوي كل ما يفيد من رائق الشعر، وكذلك من عجائب البلدان الخليقة وأخلاق الناس، ودرجة الرفاهية والثروة في عصره، وأفاض في كلامه على البلدان بذكر من خرج منها أو نسب إليها من الأعيان، ولا سيما رجال الحديث. وكتابه خاص ببلاد الإسلام والشرق وذكر بعض أسماء المدن في بلاد الإفرنج وهو يتحفظ فيما ينقل عن حال البلاد الأخرى. ومما قال في الروم:(وفي أخبار بلاد الروم أسماء عجزت عن تحقيقها وضبطها فليعذر الناظر في كتابي هذا، ومن كان عنده أهلية ومعرفة، وقتل شيئاً منها عليَّ، فقد أذنت له في إصلاحه مأجوراً)
أما كتاب (المشترك وضعاً والمفترق صقعاً) فقد انتزعه بنفسه من معجم البلدان، واقتصر فيه على ما اتفق من أسماء البقاع لفظاً وخطا، ووافق شكلاً ونقطا، واقترن مكاناً ومحلاً، توفيراً لوقت المطالع الذي يحب السرعة في تلقف الفوائد، وبعداً به عما ذكره في معجمه الكبير من الاشتقاق والشواهد والنكت والفوائد والأخبار والأشعار. ودعا ياقوت على من يختصر بعده كتابه معجم البلدان، وما خلا مع هذا من بضعة مؤلفين حاولوا ذلك وفيهم صفي الدين عبد المؤمن سمى مؤلفه (مراصد الاطلاع) قال ياقوت في الكلام على اختصار كتابه: اعلم أن المختصر لكتاب كمن أقدم على خلق سويّ فقطع أطرافه فتركه أشل اليدين أبتر الرجلين، أعمى العينين، أصلم الأذنين، أو كمن سلب امرأة حليها فتركها عاطلاً، أو كالذي سلب الكمي سلاحه فتركه أعزل راجلاً. وقد حكي عن الجاحظ أنه صنف كتاباً وبوبه أبواباً، فأخذه بعض أهل عصره فحذف منه أشياء وجعله أشلاء، فأحضره وقال له: يا هذا إن المصنف كالمصور، وإني قد صنفت في تصنيفي صورة كانت لها عينان فعورتهما، أعمى الله عينيك، وكان لها أذنان فصلمتهما، صلم الله أذنيك، وكان لها يدان فقطعتهما، قطع الله يديك، حتى عدَّ أعضاء الصورة. فاعتذر إليه الرجل بجهله هذا المقدار، وتاب إليه عن المعاودة إلى مثله
بقي أن نطلق القول في كتاب ياقوت الثالث وهو (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) وقد جمع فيه ما وقع إليه من أخبار النحويين واللغويين والنسابين والقراء المشهورين والإخباريين والمؤرخين والوراقين المعروفين والكتاب المشهورين وأصحاب الرسائل المدونة وأرباب الخطوط المنسوبة وكل من صنف في الأدب تصنيفاً، مثبتاً وفياتهم
ومواليدهم وتصانيفهم وأخبارهم وأنسابهم وأشعارهم. قال: فأما من لقيته أو لقيت من لقيه، فأورد لك من أخباره وحقائق أموره مالا أترك لك بعده تشوقاً إلى شيء من خبره. وقال جمع للبصريين والكوفيين والبغداديين والخراسانيين والحجازيين واليمنيين والمصريين والشاميين والمغربيين وغيرهم على اختلاف البلدان، وذلك على حروف المعجم أيضاً. وقال في الاعتذار عن نفسه، وعمن يقول له إن الاشتغال بأمر الدين أهم:(إن هذه أخبار قوم عنهم أخذ القرآن والحديث، وبصناعتهم تنال الإمارة ويستقيم أمر السلطان والوزارة وبعلمهم يتم الإسلام، وباستنباطهم يعرف الحلال من الحرام) وإن كتابه هو علم الملوك والوزراء والكبراء يجعلونه ربيعاً لقلوبهم، ونزهة لنفوسهم.
وإرشاد الأريب من أوسع كتب التراجم؛ وقد لا تتعادل التراجم فيه، فيكتب في الرجل العشرين والثلاثين صفحة حتى لم يبق زيادة لمستزيد؛ وقد يكتب في العظيم أيضاً أسطراً معدودة وخصوصاً في أواخر الكتاب حتى ليظن من لم يقف على ترجمة المترجم به أنه من المغمورين. وما أدري إن كان أتى ذلك من المؤلف أم من النساخ والناشرين. وعلى كل فإرشاد الأريب أو الجزء الذي طبع منه كنز ثمين للأدب، ومنجم فيه الركاز والذهب، فرائد يلتقطها صاحبها ولا سيما وأن ياقوت نقل كتب جليلة ضاع بعضها على نحو ما نقل من كتب مرو وقال إن أكثر فوائد معجم البلدان منقول من خزائنها
وقال في كتابه إرشاد الأريب أيضا: وربما قال بعضهم إنه تصنيف روميّ مملوك، وما عسى أن يأتي به؟ إن القوم لا ينظرون ما قيل إنما يسألون عمن قال. ولو عاش ياقوت ورأى بعد أكثر من سبعة قرون كتابيه معجم الأدباء ومعجم البلدان اللذين لا يستغني عنهما باحث ولا أديب وأنهما من الكتب الأمهات التي حوت كل طريف مفيد تزيد على القرون حسناً وتتبين حاجة الناس إليها، لأغتبط وعرف أن ما كان يقوله الناس فيه، قالوه في أمثاله في كل عصر ثم ذهب لغط المتقولين والطاعنين وثبت علم العالمين والمتأدبين والباحثين
محمد كرد علي
إلى لبنان
صور وخواطر
للأستاذ علي الطنطاوي
لقيني الأستاذ عز الدين التنوخي، وكنت قادماً من سفر فقال لي: هلمّ!
قلت: إلى أين؟
قال: إلى الجبل نزور أمير البيان، ورجل الإسلام شكيب أرسلان
قلت: ما أعدل والله بزيارته شيئاً؛ ولكني آت من سفر ولم أبلغ داري
قال: اطمئن فان الدار في محلها لم تطر، وما عليك أن تراها غداً؟
قلت: ما علي من شيء، وسرت معه. ولم أعد أرى السفر شيئاً، لأني أصبحت في هذه السنين الأواخر كذلك الذي كان (موكلاً بفضاء الله يذرعه) فلا أكاد ألقي عصا التسيار وأحط الرحال من سفر، حتى أتهيأ لآخر. أطوّف ما أطوّف، ثم آوي إلى هذه الغرفة الصغيرة أجلس بين ركام الكتب أحسب ما كسبت من هذا العناء الطويل، فلا أجدني كسبت إلا صوراً في الذاكرة أضمها إلى صور، وذكرى في النفس أجمعها بذكري، وصفحة في دفتري أضيفها إلى صفحة أسعد بتدوينها، وأسرّ ببقائها، وإن كنت لا أدوّن إلا الأقل مما أراه وأشعر به، ولا أذكر إلا التافه مما يمر بي. وإن كنت أعلم أن صور الذاكرة إلى امحاء، وذكريات النفس إلى ضياع، وقصص الدفتر إلى السكين والنار لا يزهدني ذلك بها، ولا يصرفني عنها، لعلمي أن الحياة نفسها ستموت، والوجود سيعدم، ولا يبقى في الوجود إلا الموجد
وكنا خمسة في السيارة: الأستاذ التنوخي، وأنا، والأستاذ الشيخ بهجة البيطار، والأستاذ الشيخ بهجة الأثري، والشيخ ياسين الرداف معتمد المملكة السعودية في دمشق سابقاً. . .
خرجنا من دمشق مع الغروب. . . وكان اليوم جمعة، وكانت ليلة قمراء، فسالت الطرق بالدمشقيين على عادتهم في مثل هذه الليالي فامتلأت جوانب بردى، والمرجة الخضراء، والربوة، ووادي الشاذروان أجمل أودية الدنيا وأحلاها - بخير الفتيان، وأجمل الفتيات، وأحلى الأطفال؛ فلم يكن أمتع للعين، ولا أشهى للقلب، من ذلك المشهد. فسرنا في هذا العالم الساحر، مترفقين متمهلين، لأننا لا نمشي في طريق وإنما نمشي في بحر من العيون
والقلوب والمفاتن جمع كل جميل بارع أخاذ، حتى بلغنا دمّر:
والحور في دمّر أو حول هامتها
…
حور تكشف عن ساق وولدان
فوقفنا نمتع الأنظار بحوْرِها وحورها، وشموسها وبدورها؛ وأنت مهما عرفت دمشق لا تزال ترى فيها أبداً جمالا تجهله ولا تعرفه، ففي كل يوم جمال جديد، وفي كل مكان فتنة جديدة، فلا تدري أين تقف، وماذا تنظر، وأيا تفضل؟ أوادي الشاذروان أم جنائن الغوطة، أم جبال بلودان، أم العين الخضراء، أم سهول الزبداني، أم العيون التي لا يحصيها عدد؟. . .
سقى الله ما تحوي دمشق وحياها
…
فما أطيب اللذات فيها وأهناها
نزلنا بها واستوقفتنا محاسن
…
يحنّ إليها كل قلب ويهواها
لبسنا بها عيشاً رقيقاً رداؤه
…
ونلنا بها من صفوة اللهو أعلاها
سلام على تلك المعاهد إنها
…
محط صبابات النفوس ومثواها
رعى الله أياماً تقضت بقربها
…
فما كان أحلاها لديها وأمراها
خلينا الهامة وجمرايا بلدة ابن واسانة والوادي كله عن أيماننا، وأسندنا إلى الجبل نستقبل الصحراء إلى ميسلون بلاط شهدائنا، ومشهد أبطالنا، ومبدأ تاريخنا الحديث، ومثوى الأسد الرابض يوسف العظمة، الذي وقف هو وأشبال دمشق العزل الأقلاء في وجه ثاني دولة قوية ظافرة، فما ضعفوا ولا استكانوا ولا جبنوا؛ وما زالوا يقاتلون ويدافعون عن العرين ثابتين ما ثبتت الروح في أجسامهم، حتى أعجزهم أن يعيشوا أشرافاً فماتوا أشرافا؛ فكان موتهم حياة لهذه الأمة التي حفظت العهد وحملت الأمانة؛ وكانت قبورهم مناراً أحمر في طريق هذا الشعب المجاهد المستميت لن يقف أو يتباطأ حتى يأخذ (الكل) الذي (أعطى) الآن (بعضاً) منه، ولن ينام حتى يرى هذه الصحراء قد آضت جنات ألفافا، تحمل الزهر الذي لا يسقى إلا بالماء الأحمر الملتهب تحمل أزهار الحرية
سيبقى هذا اللحد لتمر عليه الأجيال الآتية، الأجيال الحرة العزيزة، فتذكر جهاد أسلافنا، وتعرف الثمن الذي دفعوه، ولتعلم أن القوة إن غلبت الحق حيناً، فان الحق يصنع القوة التي يغلب بها دائماً
سأذكر ما حييت جدار قبر
…
بظاهر جلق ركب الرمالا
مقيم ما أقامت ميسلون
…
يذكر مصرع الأسد الشبالا
تغيب عظمة العظمات فيه
…
وأول سيد لقى النبالا
مشى ومشت فيالق من فرنسا
…
تجر مطارف الظفر اختيالا
أقام نهاره يلقى ويلقى
…
فلما زال قرص الشمس زالا
فكفن بالصوارم والعوالي
…
ووسد حيث حال وحيث صالا
إذا مرت به الأجيال تترى
…
سمعت لها أزيزاً وابتهالا
ثم أخذت السيارة تصعد بنا في مسالك ملتوية مستديرة تزيغ الأبصار من استدارتها وعلوها، حتى إذا ظننا أننا بلغنا قنة الجبل تكشفت لنا قنن فإذا نحن لا نزال في الحضيض، وما فتئنا نعلو ونتسلق وندور حتى حاذينا (بلودان) درة المصايف الشامية، وبدا لنا فندقها الفخم الضخم أكبر فندق في سورية كلها (إي ولبنان) الذي بنته الحكومة ليملأ الخزانة مالاً والجيوب ذهباً فملأ النفوس فساداً، والأخلاق انحطاطاً، لما أنشئوا فيه من بلايا وطامات زعموها حضارة ورقيا، ورأيناها الموت الأحمر والبلاء الأزرق فكنا حين نبيع الأخلاق بالمال كمن يطرد ابنه من بيته ويربي فيه ذئبا. . .
ثم عدنا نهبط، وهذه سنة الحياة:(ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع) ولا علا رجل إلا هبط، إلا رجلاً علا بعلمه وبأخلاقه ومواهبه، فذاك الذي لا يهبط أبداً بل يزداد رفعة، لأن علمه لن ينسى، وأخلاقه لن تذهب، ومواهبه لن تضيع، أما من علا على قوائم الكراسي وأعناق الشعب، فأحْرِ به أن يسقط مهما استمر علوّه وطال بقاؤه
أقول: إننا ما زلنا نهبط حتى انتهينا إلى سهل البقاع الخصب الأفيح الجميل، الذي يفصل لبناننا (الشرقي) الأجرد المهيب الرهيب الذي أدرّع المهابة، واتشح بوشاح الخلود، ولاحت عليه سمات الجلال، والجد والوقار، ولبنانهم (الغربي) المرح الفرح الخضر الجميل، الذي اتزر بالسحر، وارتدى رداء الشعر، وكلاهما أخّاذ فاتن، ولكن الأول جليل والثاني جميل، والجنات الخالدات والفراديس الباقيات، في دمشق على سفح لبنان الشرقي. . . قال شوقي:
نبئت لبنان جنات الخلود وما
…
نبئت أن طريق الخلد لبنان
وأنت حين يحتويك لبنان الغربي تحسّ بجماله وروعته ولكنك تشعر انك أنت له، وأنك جزء منه، ولكنك تحس حين تكون في لبناننا أنه هو لك، وأنه جزء منك، وشتان بين ما
تكون أنت في قلبه، وما يكون هو في قلبك، وأنت حين تكون في لبنان الغربي تجد يد الإنسان لم تبق من جمال الطبيعة إلا قليلاً، وتجد أكثره في المدن الكبرى، ولكنك حين تكون في لبنان الشرقي تجد الطبيعة الحلوة الفاتنة التي لم تبدلها يد الإنسان، وإنما أحاطتها بإطار يحفظها ويظهر جمالها
وقد زعموا الجبلين جبلاً واحداً، صدعته حوادث أرضية (جيولوجية) من زمن قديم، لا أدري متى كان لأني لم أدركه ولا أدركه أبي، أعني آدم عليه السلام الذي توفى في الأمس القريب. وعلى ذكر آدم. . . أليس من العار علينا أن نقيم حفلات الذكرى والتكريم لفلان وفلان ممن خدموا البشرية وننسى هذا الرجل العظيم الذي كان له اكبر الأثر في خدمة البشر؛ ولم لا يفكر الناس في إقامة حفلة تذكارية كبيرة لهذا الرجل، يشترك فيها عارفوا فضله، ومن (بقي) حقيقة من نسله؟
قلت: إن الجبلين كانا جبلاً واحداً، والأمتين فيها أمة واحدة، ولكنك واجد في هذه المسافة التي لا تتجاوز الساعتين جمهوريتين مختلفتين، وعَلَمين متباينين، وحدوداً كحدود ألمانيا وفرنسا. . .
ألقاب مملكة. . . . . .
وسبحان خالق الهر، وخالق الأسد، وخالق كل شيء!
وأنخنا رواحلنا (أعني وقفنا سيارتنا، ولم يكن معنا رواحل ولا راحل) في شتورة، عروس السهل، نستريح فيها قليلاً قبل أن نتسلق بالسيارة الجبل الذي لا تبلغ الطير ذراه، ونصبح في نصف طريق السماء. وإذا أنت شئت أن تتصوّر مبلغ ما نعلو، فتصوّر شارعاً طوله قرابة كيلين اثنين، قد وقف على رأسه، وكنت أنت فوقه تطلّ على الدنيا من عل. . .
علونا في جبال شجراء ضاحكة، نجتاز القرى المتناثرة على السفوح والذرى ونرى الينابيع تتدفق من أعالي الصخور، وتسيل في بطون الأودية حالمة سكرى. وما زلنا في علو ولفّ ودوران، حتى بلغنا ظهر البيدر حيث صرنا فوق السحاب، لا على المجاز أو المبالغة كما يقول الشعراء، بل على الحقيقة التي يشاهدها الناس فقد كان السحاب يمسّ الذرى التي تحتنا ويلفح وجوهنا ويحجب عنا السهل والسفوح، وكنا نعلو عليه أحياناً فلا يبلغنا ولا يمسنا، ونراه يمر من تحتنا، أشبه شيء بالغبار الأبيض تحمله الريح. حتى درنا تلك الدورة
الكبير، وأشرفنا على وادي (صوفر - حمانا) العظيم أوسع أودية لبنان وأجملها وقد أزدهى بالصنوبر وانتثرت على سفوحه عشرات القرى ولاحت مبانيها العظيمة وقصورها الشمّ
والروابي توسدت راحة السح
…
ب ونامت على وشاح مرفق
والذرى البيض في العلاء نسور
…
حومت تكشف الخفي المغلق
نشرت في الفضاء أجنحها الزه
…
ر فأسنى بها الوجود وأشرق
والقرى غلغلت بأخبية الغي
…
ب وضاعت بين الغمام المنمق
والينابيع ضاحكات من الزه
…
وترامى فيها السنا وتألق
وتراءى البحر البعيد كحلم=مبهم راجف الخيال ملفق
سرقته السماء في الأفق النا
…
ئي فمن أبصر الخضمات تسرق
تمر على الإنسان ساعات بل لحظات ينسى فيها العالم المادي، وهذه الحياة القصيرة الناقصة، ويحس كأنه يعيش بنفسه حياة أكمل وأجمل، تخالط نفسه مشاعر لا عهد له بها، ولا يقدر على وصفها، وتغمر قلبه لذة لا يعرف أي شيء هي، فيشعر أنه انتقل إلى عالم سحري جني عجيب، كهذه اللحظات التي تمر علينا في غمرة التأمل النفسي، أو في هزة الموسيقى، أو في نشوة الحب، أو حين الاستغراق في العبادة والمناجاة. . .
هذه هي اللحظات التي تمرّ عليك حين تشرف وادي (صوفر - حمانا) أو تجلس في الشاغور، أو تصعد إلى عين الصحة في فالوغا. . .
لست أريد الدعاية للبنان، وما لبنان في حاجة إلى دعاية، وما في لبنان سرير في فندق، أو غرفة في دار إلا وقد امتلأت حتى أننا لم نجد في صوفر وقد وصلناها ليلا مكاناً نبيت فيه، وكلما دخلنا فندقاً خرجنا منه بخفي صاحبنا حنين الاسكاف. . . حتى قادنا المطاف إلى فندق لطيف معتزل، قاعد في منتصف الطريق بين صوفر وبحمدون، ولم يكن بعده فندق نأوي إليه. فتعلقنا بصاحبه، وتوسلنا إليه وأطمعناه حتى رضى أن يعد لنا مكاناً في الردهة (الصالون) فقبلنا، ووضعت لنا سرُرُ صغار كسرر الجند وطلبة المدارس الداخلية جاء بها من بيته، فحمدنا الله عليها
ولما دخلنا الأوتيل: عمامتان عاليتان على رأسي البهجتين: بهجة العراق وبهجة الشام، وعقال نجدي فخم على هامة أمير من أمراء نجد، ونحن الاثنان (المطربشان) الأستاذ عز
الدين وأنا، تعلقت بنا النظار ودارت حولنا الأبصار، وحفّ بنا شباب يسلمون علينا. فقلنا: وعليكم السلام يا إخواننا. . . فما راعنا إلا أنهم ضحكوا وضحك الحاضرون. . .
فقلت لأحدهم: من فضلك قل لي، لماذا تضحك؟
هل تجد في هيئتي ما يضحك يا سيدي؟
فازداد الخبيث ضحكا، فهممت به. فوثب الحاضرون وقالوا: يا للعجب! أتضرب فتاة؟
قلت: وا فضيحتاه! فتيات بسراويل (بنطالونات) وحلل (بذلات)؟ وأين الشعر وأين اللحم؟
قالوا: أنت في لبنان
قلت: عفواً، لقد حسبت أني في لبنان
وفررنا ونحن مستحيون. نحاول ألا نعيدها كرّة أخرى ولما خرجت في الليل لمحت في طريقي واحدة من هؤلاء النسوة فحيتني، فقلت لها: مساء الخير يا مدموازيل
فقالت: مادموازيل إيه يا وقح؟
قلت في نفسي إنها متزوجة وقد ساءها أن دعوتها بالمدموزايل (الآنسة) وأسرعت فتداركت الخطأ وقلت: بردون مدام
قالت: مدام في عينك قليل الأدب، بأي حق تمزح معي أنا (فلان) المحامي
قلت: بردون، بردون
ووليت هارباً، فذهبت إلى صاحب الأوتيل فرجوته أن يعمل لنا طريقة للتفريق بين الرجل والمرأة، فدهش مني ووجم لحظة؛ ثم قدر أني امزح فانطلق ضاحكا
قلت: إني لا أمزح، ولكني أقول الجدّ وقصصت عليه القصة. . .
قال: وماذا نعمل؟
قلت: لوحات صغيرة مثلا من النحاس، كالتي توضع على السيارات لبيان رقمها، أو على الدراجات. . . يكتب عليها رجل. امرأة. تعلق في الصدر تحت الثدي الأيسر أو تتخذ حلية من الذهب أو الفضة عليها صورة ديك مثلا أو دجاجة، أو. . . أو شاة أو خروف، أو شيء آخر من علامات التذكير والتأنيث. . .
فراقه اقتراحي وقبله على أنه نكتة، ولكنه لم يفكر بالعمل به لأنه لم يجد حاجة إلى هذا التفريق ما دام المذهب الجديد يقول بمساواة الجنسين؟
ولم نطل الإقامة في صوفر، لأننا لم نجد الأمير شكيب فعدنا أدراجنا إلى دمشق
(دمشق)
علي الطنطاوي
الأدباء المحترفون
للأستاذ مصطفى جواد
الأدب في كل أمة غذاء النفوس من كدر المادية المُبْرَأَة من أمراض الطمع والجشع، السالمة من إسار المكايد والخدائع؛ والأدباء في كل شعب هم الطبقة الرفيعة في المراتب البشرية، المحلقة في سماء الصفاء بأجنحة لطف ارق من الهواء. والمادية لا تؤمن بدين الأدب ولا عطف لها على البشرية ولا رحمة، فالأديب نورانيّ والمادة بهيمية ترجع بالإنسان إلى عصور كان ينازع فيها الوحوش فرائسها، وبعد الشبع والري من الدنيا نفائسها؛ وكلما رقى العقل في الصناعات انخفضت العاطفة واستبدت المادية واستحكمت الوحشية، فلولا الأدباء بين الناس كالنجوم الزهر في السماء الدنيا لبدا ليل المادية اشد ظلاماً وأهول منظراً. ولعله سيأتي زمان يتخفى فيه الأدباء كما كان الأنبياء يتستّرون من الناس في أول الاستنباء، ورأس المحنة وأيام الدعوة، خشية الاستهزاء والإزراء والتعذيب والتقتيل، وإذن لا يعصم الأدباء يوم ذاك من ضربة المادية إلاّ شبه جمهورية أفلاطون وإلا مثل المدينة الفاضلة التي أفكر فيها فيلسوف فاراب. أما ما فعله الشيوعيون لأدباء الشيوع في روسيا من قصرهم في قريةٍ نزهةٍ وإمدادهم بضروري المادة ليستهتروا بالاستشاعة ويدعوا إلى التشارك فهو أخلق بالأدب المبتذل والشعور المنتحل والعواطف المعطوفة والنفوس المأسورة والانفعالات المكبوته، فما أغنى الشيوعيين عما فعلوا وما كان أحرى الأدباء بالإباء على هذا الازدراء! وكلما علت امتاز الأدباء عن أهل المادة وعبدة الحيوانية، فيعيشون منفردين معتزلين كالمتصوفة في الربط الهادئة إلا من تسبيح وتحميد، وكالرهبان في الأديار الواجمة إلا من تكفير وارتسام، يزرعون فيحصدون ويغرسون فيجتنون، لا تجارة تلهيهم ولا تكالب يقسيهم ولا انخداع يؤذيهم، فهم حينذاك صفوة الصفوة، وأيتام الإنسانية وملائكة البشر، يضيع أحدهم بين الناس كما يضيع إذا هبط بين البشر، بل هو أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، فويل لأهل الأدب من شر قد اقترب.
الأدب عدوّ المادة، والمادة غائلة الأدب. وأعني بالأدب في كل ما أسلفت من القول (مولدات العواطف ونتائج العقول من وصف حزين وأسباب حزنه، ونعت فرح وأسباب فرحه، مزخرفاً ببدائع الكون، أو مطلياً ببهرجه وغلوائه، ممهداً له بوصف الجمال وذكر
القبح وتبيان الخلق أو سوئه والتصريح بالمدح والقدح، فيكون ذلك للأدب كالحلي للعروس أو كالحطب للنار) وحد هذا الأدب (حركة العواطف واشتغال العقل والتأسيس على الحقيقة والخيال) فهو - كما قدمنا - غذاء النفوس البشرية الرائقة وحبيب الإنسانية وربيب الحقيقة والامكان؛ فالمحترف بحرفة المادة لا يقدر على دخول جنة الأدب؛ والأديب لا يستطيع الخروج إلى جهنم المادة وما أعفه عن ذاك. فكيف يبلغ امرؤ أن يتردد بين الجنة والنار ويجمع بين السلم والحرب؟ وإذا ما رأينا واحداً قد ألم بالبرزخ تنفح إليه نسمات جنة الأدب من أمام، وتلفحه شرارات المادة من وراء، فهو لا أديب ولا مادي بل صاحب اختيار في الاختبار، ثم يصير إمّا إلى الجنّة وإما إلى النار، فلذلك ومن ذلك قل الأدباء المحترفون لجمع المادة واحتجان البيضاء والصفراء؛ وإنما سميناهم على سبيل أدب القدماء؛ وهم في رأينا (برزخيون) وصلهم الأدب كوصوله لمن قال (وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل) وماتوا وهم في عهد الاختبار والفتن والمحنة. ومن الأدباء من يضطره الزمان إلى الاحتراف فيستدفع الحرفة ضنك الزمان، ولو ترك ونفسه وأنجى من ذل الحاجة ما لجأ إلى الحرفة ولا قاربها. ومن الأدباء المحترفين أبو القاسم نصر بن أحمد بن نصر بن مأمون الخبزأرزي، نسبة إلى حرفته (خبز الأرز) فقد كان هذا أميّاًلا يتهجى ولا يكتب، وكان يخبز الأرز بمربد البصرة في دكان له، وينشد الناس أشعاراً مقصورة على الغزل، والناس يزدحمون عليه، ويطربون باستماع شعره، ويتعجبون من حاله وأمره؛ وكان أبو الحسين محمد بن محمد المعروف بابن لنكك البصري الشاعر المشهور - مع علو قدره عند البصريين - ينتاب دكانه ليسمع شعره، وقد اعتنى به وجمع له ديوانا؛ وذكره الثعالبي في اليتيمة، والخطيب في تاريخ بغداد، وياقوت الحموي في معجم الأدباء، وابن خلكان في الوفيات. قال ياقوت:(وكان ممن يفضلون الذكور على الإناث، فكان أحداث البصرة يلتفون حوله، ويتنافسون بميله إليهم، ويحفظون شعره لسهولته ورقته) وقد نزل نصر هذا بغداد وأقام بها دهراً طويلاً وقرئ عليه ديوانه فيها. حدّث الخطيب بسنده إلى أبي محمد عبد الله بن محمد الأكفاني البصري، قال: خرجت مع عمي أبي عبد الله الأكفاني الشاعر وأبى الحسين ابن لنكك وأبي عبد الله المضجع وأبي الحسن السماك في بطالة عيد، وأنا يومئذ صبي أصحبهم، فمشوا حتى انتهوا إلى نصر بن أحمد الخبزأرزي وهو جالس يخبز على
طابقه، فجلست الجماعة عنده يهنئونه بالعيد ويتعرفون خبره، وهو يوقد السعف تحت الطابق، فزاد في الوقود فدخّنهم، فنهضت الجماعة عند تزايد الدخان؛ فقال نصر ابن احمد لأبي الحسين بن لنكك: متى أراك يا أبا الحسين؟ فقال له أبو الحسين: إذا اتسخت ثيابي؛ وكانت ثيابه يومئذ جُدَداً على أنقى ما يكون من البياض للتجمل بها في العيد؛ فمشينا في سكة بني سمرة حتى انتهينا إلى دار أبي أحمد بن المثنى، فجلس أبو الحسين ابن لنكك وقال: يا أصحابنا، إن نصراً لا يخلي هذا المجلس الذي مضى لنا معه من شيء يقوله فيه، ونحب أن نبدأه قبل أن يبدأنا واستدعى دواة وكتب:
لنصر في فؤادي فرط حب
…
أنيف به على كل الصحاب
أتيناه فبخرنا بخوراً
…
من السعف المدخن للثياب
فقمت مبادراً وظننت نصراً
…
أراد بذاك طردي أو ذهابي
فقال: متى أراك أبا حسين
…
فقلت له: إذا اتسخت ثيابي
وأنفذ الأبيات إلى نصر فأملى جوابها فقرأناه فإذا هو قد أجاب:
منحت أبا الحسين صميم ودي
…
فداعبني بألفاظ عذاب
أتى وثيابه كقتير شيبٍ
…
فعدن له كريعان الشباب
ظننتُ جلوسه عندي لعرس
…
فجئت له بتمسيك الثياب
فقلت متى أراك أبا حسين
…
فجاوبني: إذا اتسخت ثيابي
فإن كان التقزز فيه خير
…
فَلِمْ يكنى الوصي أبا تراب
وحكى الخالديّان الشهيران في كتاب الهدايا والتحف أن الخبزأرزي بن نصر بن احمد هذا أهدى إلى ابن يزداد والي البصرة فصاً وكتب معه:
أهديتُ ما لو أن أضعافه
…
مطرح عندك ما بانا
كمثل بلقيس التي لم يبن
…
إهداؤها عند سليمانا
هذا امتحان إن ترضهُ
…
بإن لنا أنك ترضانا
قال ابن خلكان (وأخبار نصر ونوادره كثيرة وتوفي في سنة سبع عشرة وثلاثمائة. وتاريخ وفاته فيه نظر، لأنه ذكر في تاريخه أن احمد بن منصور النوشري المذكور سمع منه سنة خمس وعشرين وثلاثمائة) قال الخطيب: (روى عنه مقطعات من شعره المعافى بن زكريا
الجريري واحمد بن منصور النوشري وأبو الحسن بن الجندي وأحمد بن محمد العباس الأخباري وغيرهم؛ وذكر النوشري أنه سمع منه ببغداد بباب خراسان في سنة خمس وعشرين وثلاثمائة) والصحيح أن وفاته في سنة 327 كما ورد في معجم الأدباء، ومما أورده له ابن خلكان:
خليلي هل أبصرتما أو سمعتما
…
بأكرم من مولى تمشي إلى عبد؟
أتى زائراً من غير وعد وقال لي:
…
أجلك عن تعليق قلبك بالوجد
فما زال نجم الوصل بيني وبينه
…
يدور بأفلاك السعادة والسعد
فطوراً على تقبيل نرجس ناظرٍ
…
وطوراً على تعضيض تفاحة الخد
ألم يكفني ما نالني من هواكم
…
إلى أن طفقتم بين لاهٍ وضاحكِ
شماتتكم بي فوق ما قد أصابني
…
وما بي دخول النار في طرّ مالكِ
كم أناس وفوا لنا حين غابوا
…
وأناس جفوا وهم حضّارُ
عرضوا ثم أعرضوا واستمالوا
…
ثم مالوا وجاوروا ثم جاروا
لا تلمهم على التجني فلو لم
…
يتجنوا لم يحسن الاعتذارُ
بات الحبيب منادمي
…
والسكر يصبغ وجنتيه
ثم اغتدى وقد أبتدأ
…
صنع الخمار بمقلتيه
وهبت له عيني الكرى
…
وتعرضت نظراً إليه
شكراً لإحسان الزما
…
ن كما يساعدني عليه
كم أقاسي لديك قالاً وقيلا
…
وعدات تترى ومطلاً طويلا؟
جمعة تنقضي وشهر يُوَلِّي
…
وأمانيك بكرةً وأصيلاً
إن يفتني منك الجميل من الفع
…
ل تعاطيتُ عنك صبراً جميلا
والهوى يستزيد حالاً فحالاً
…
وكذا ينسلي قليلاً قليلاً
ويكَ لا تأمننْ صروف الليالي=إنها تترك العزيز ذليلا
فكأني بحسن وجهك قد صا
…
حت به اللحية: الرحيلَ الرحيلا
فتبدلت حين بُدّلت بالنو
…
ر ظلاماً وساء ذاك بديلا
فكأن لم تكن قضيباً رطيباً
…
وكأن لم تكن كثيباً مهيلا
عندها يشمت الذي لم تصله
…
ويكون الذي وصلتَ خليلا
رأيت الهلال ووجه الحبيب
…
فكانا هلالين عند النظر
فلم أدر من حيرِتي فيهما
…
هلال الدجى من هلال البشر
ولولا التورّد في الوجنتين
…
وما راعني من سواد الشعر
لكنت أظن الهلال الحبيبَ
…
وكنتُ أظن الحبيبَ القمر
وذاك يغيبُ وذا حاضر
…
وما من يغيبْ كما من حضر
ومما ذكره له ياقوت الحمويّ:
شاقني الأهل لم تشقني الديار
…
والهوى صائر إلى حيث صاروا
جيرة فرقتهم غربة البي
…
ن وبين القلوب ذاك الجوارُ
كم أناس رعوا لنا حين غابوا
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
إلى آخر الأبيات المتقدّم ذكرها منقولة عن الوفيات
فلا تمنَّ بتلفيق تَكلَّفُهُ=لصورةٍ حسنها الأصلي يكفيها
إن الدنانير لا تجلى وإن عتقت
…
ولا تزاد على الحسن الذي فيها
وأورد له الخطيب:
بأبي أنتَ من مَلولٍ ألوف
…
رُضتني بالأمان والتخويفِ
حار عقلي في حكمك الجائر العد
…
ل وفي خلقك الجليل اللطيفِ
أنتَ بالخصر والمؤزّر تحكي
…
قوّة الشوق بالفؤاد الضعيفِ
ليس عن خبرة وصفتك لكن
…
حركات دلّت على الموصوفِ
لك وجه كأنه البدر في التم
…
م عليه تطرّق من كسوف
وأغرب ما في الحياة هذا الرجل المشهور بمزاورة اللذات وملابسة الشهوات وقوفه موقف الحكيم المتنصح والعفيف المتنطس فتسمع منه قوله:
كم شهوة مستقرّة فرحاً
…
قد انجلت عن حلول آفاتِ
وكم جهول تراه مشترياً
…
سرور وقتٍ بغم أوقات
كم شهوات سلبن صاحبها
…
ثوب الديانات والمروءات
وقد جمع جملة من الحكم وأشتاتاً من الأخلاق وركاماً من التجارب في قوله:
لسان الفتى خنق الفتى حين يجهل
…
وكل امرئ ما بين فكيه مقتل
إذا ما لسان المرء اكثر هذره
…
فذاك لسان بالبلاء موكل
وكم فاتحٍ أبواب شر لنفسه
…
إذا لم يكن قُفل على فيه مُقفل
كذا من رمى يوماً شرارات لفظه
…
تلقته نيران الجوابات تشعَل
ومن لم يُقيّد لفظه متجمّلاً
…
سيطلق فيه كل ما ليسَ يجمل
ومن لم يكن في فيه ماء صيانةٍ
…
فمن وجهه غصن المهابة يذبلُ
فلمْ تحسبنَّ الفضل في الحلم وحده
…
بل الجهل في بعض الأحايين أفضل
ومن ينتصرْ ممن بغى فهو ما بغى
…
وشرّ المسيئين الذي هو أوّلُ
وقد أوجب الله القصاص بعدله
…
ولله حكم في العقوبات منزلُ
فان كان قولٌ قد أصابَ مقاتلاً
…
فان جواب القول أدهى وأقتل
وقد قيل في حفظ اللسان وخزنه
…
مسائل من كل الفضائل أكملُ
ومن لم تقرّ به سلامةُ غيبهِ
…
فقربانُهُ في الوجه لا يتقبّل
ومن يتخذ سوء التخلف عادةً
…
فليس لديه في عتاب مُعوَّلُ
ومن كثرت منه الوقيعة طالباً
…
بها عزّةً فهو المهين المذلّلُ
وعدلٌ مكافأة المسيء بفعله
…
فماذا على من في القضية يعدل
ولا فضل في الحسنى إلى من يخسها
…
بلى عند من يزكّو لديه التفضل
ومن جعل التعريض محصول مزحه
…
فذاك على المقتِ المصرّح يحصلُ
ومن أمن الآفات عجباً برأيه
…
أحاطت به الآفات من حيث يجهل
أعلمكم ما علمتني تجاربي
…
وقد قال قبلي قائل متمثّل:
إذا قلت قولاً كنت رهن جوابه
…
فحاذر جواب السوء إن كنت تعقل
إذا شئت أن تحيا سعيداً مسلماً
…
فدبّر وميّز ما تقول وتفعل
وذكر له الخطيب أبياتاً ثلاثة تدل على ارتباكه في الهوى وهي:
ما جفاني من كان لي أنِساً
…
أنِست شوقاً ببعض أسبابهْ
كمثل يعقوب بعد يوسف إذ حنْ
…
ن إلى شمّ بعض أثوابهْ
دخلتُ باب الهوى ولى بَصرٌ
…
وفي خروجي عميتُ عن بابِهْ
(بغداد)
مصطفى جواد
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 24 -
الفلسفة الصينية
العصر المنهجي
لم يكد حكم أسرة (تشو) ينتهي حوالي القرن السابع قبل المسيح حتى هوت بلاد الصين في أعمق أنواع الفوضى والاضطراب، وظلت ترزح تحت نير هذا التدهور السياسي والاقتصادي والأخلاقي نحو خمسة قرون. فلما ضيقت هذه الأزمة الاجتماعية الخناق وأحكمت الضغط، كان من الطبيعي أن تنفجر العقول الجبارة بعد أن استاءت الضمائر النبيلة؛ وكان من الطبيعي كذلك أن يحدث هذا الاستياء وذلك الانفجار آثاراً بارزة في الحياة الاجتماعية عامة، وفي الحياة العقلية بنوع خاص، وهذا هو الذي كان، إذ لم يكد ينتهي الثلث الأول من القرن السادس حتى كان كوكب تلك الشخصية البارزة الممتازة وهي شخصية (لاهو - تسيه) قد سطع في سماء الصين سطوعاً أعقبه انفجار ينبوع عبقرية أخرى فاقت الأولى عمقاً وسمواً، وتكاتفت وإياها على رفع الفلسفة الصينية إلى صفوف منتجات الأمم الراقية، تلك هي عبقرية (كونفيشيوس)
عرف (كونفيشيوس)(لاهو - تسيه) ولكنه لم يكن معه على وفاق في الآراء الفلسفية، بل كان وإياه على طرفي نقيض في أهم النظريات، إذ لم يكد (كونفيشيوس) ينضج ويعلن مذهبه حتى لاحظ الناس أن بين المذهبين خلافاً جوهرياً في القواعد الأساسية؛ ولم يكن هذا الخلاف حول عقيدة دينية أو رأي نظري، وإنما كان في الفلسفة العملية، لأنه نشأ من سؤال هام دعت إليه الحالة الاجتماعية في بلاد الصين، وهو:(ما هي الوسيلة الناجعة لإنقاذ البلاد من هذا التدهور؟)
بينما كان (لاهو - تسيه) يرى أن التنسك والزهادة واحتقار الحياة العملية هي الوسيلة لهذا الإنقاذ المفتقد، كان (كونفيشيوس) يعلن أن الوسيلة الوحيدة لهذه النجاة هي العناية الفائقة بتنظيم الحياة العملية على أساس الخير الأخلاقي الذي ينتهي حتما إلى الصلاح الاجتماعي، وصرح أن الاهتمام بالعمران المنظم والقضاء على الرذائل التي تنخر في بناء صرحه هما وحدهما الكفيلان بإعادة الرفاهية والهدوء إلى الدولة، وقد كان من المفهوم بعد تأسيس هذا الخلاف أن يتسع البون بين هذين المذهبين في أكثر نظرياتهما الهامة، وهذا هو الذي حدث بالفعل
غير أنه ينبغي لنا أن نشير إلى أن محاولة حل هذه المشكلة ليست من مستحدثات هذين الفيلسوفين، وإنما هي محاولة قديمة ترجع إلى عصر ما قبل التاريخ؛ غاية ما هنالك أن ذلك الخلاف كان في الماضي نظرياً فحسب، لأن البلاد لم تكن قد هوت بعد في هذا التدهور، أما في هذا العصر فقد أضحت هذه المشكلة عملية يجب الاعتناء بها
الآن وبعد أن ألمعنا إلى هذين الفيلسوفين هذه الالماعة العاجلة نريد أن نتناولهما في شيء من التفصيل بادئين بأولهما
لاهو - تسيه
حياته
ليست هذه الكلمة اسمه ولا اسم أسرته، وإنما معناها:(الأستاذ القديم) أو (العالم القديم) أو (الحكيم القديم)؛ أما اسمه الحقيقي، فهو (بي - يانج)، واسم أسرته (لي) وقد دعاه الناس بعد موته:(تان)، وهو لقب مشرف كان الصينيون يطلقونه على الحكماء بعد موتهم
ولد هذا الحكيم في سنة 604 قبل المسيح في قرية (كيو - جين) بمملكة (تشو) التي هي الآن في مقاطعة (أونان) وكل ما يعرفه التاريخ الصحيح عن حياته هو ما يحدثنا به (سي - ما - تسيان) أقدم مؤرخ صيني من أنه أمضى الأكثرية الغالبة من حياته في (تشو). وفي أواخر حياته عين مديراً لدار المحفوظات الملكية، ولكن أحداً لا يعرف ما هي الوظائف التي شغلها هذا الحكيم قبل هذه الإدارة ولا كم سنة قضاها فيها، وإنما روى لنا هذا المؤرخ انه حينما تقدمت به السن اعتزل الخدمة في الحكومة، وانسحب إلى وادي
(هان - كو) حيث اعتزل الناس جميعاً وظل فيه عاكفاً على تأملاته الفلسفية أميناً لمبادئه الأخلاقية. وفي أثناء هذه العزلة جاءه (بين - سي) وهو أحد اخصاء تلاميذه الأوفياء وألح عليه قائلا: (من حيث إنك أردت أن تدفن نفسك في هذه العزلة الموحشة، فأنا أتوسل إليك أن تؤلف كتاباً لتؤدبني به) فلم يسع هذا الحكيم بازاء ذلك الرجاء الجار الملح إلا أن يجيب تلميذه إلى سؤله، فألف كتاب (تاو - تي - كينج) وعلى اثر فراغه من كتابته غادر ذلك الوادي الذي عرفه الناس فيه وانسحب إلى حيث لم يره بعد ذلك أحد
وقد حدثنا (سي - ما - تسيان) أيضاً أنه أعقب بعده ابناً يسمى (تسونج) صار بعد أبيه من عظماء الدولة؛ وكان قائداً كبيراً من قواد جيوشها، وأن مشاهير رجال المملكة الذين لعبوا أهم الأدوار السياسية والاجتماعية فيها كانوا من ذريته
أما الأساطير الشعبية فقد أحاطت هذا الحكيم بغابة كثيفة من الروايات والحوادث التي ثبتت الاستحالة الزمنية في بعضها، وتحقق الاستبعاد في بعضها الأخر، كما أنه قد غلبت الحقيقة على البعض الثالث. فمن هذه الأساطير ما يحدثنا عن تلك المقابلة الهامة التي حدثت في سنة 525 قبل المسيح بين (لاهو - تسيه) و (كونفيشيوس) وما دار فيها من محاورات بين الحكيم والشيخ الهادئ الواثق مما يقول، وبين العبقري الشاب المتحمس المفعم بالآمال العذبة في المستقبل المنير
تحدثنا هذه الأسطورة أن الشيخ أعلن في حديثه أن إصلاح الحياة الاجتماعية بوساطة النشاط العملي مستحيل، وأنه لا يتيسر إلا بوساطة التنسك والزهادة والاعتزال، وانه لم يقل بهذا الرأي إلا بعد تجارب طويلة استغرقت سبعين سنة، وأن (كونفيشيوس) حينما سمع من الحكيم الشيخ هذا الرأي، لم يتردد في الحكم عليه بأنه خاطئ باطل، وبأن نتيجته هي الخمول واليأس؛ ثم سأله قائلاً:(إذا كان واجب كل فرد من أفراد الدولة أن ينسحب في كهف من الكهوف، فمن ذا الذي يعمر المدن، ويفلح الأرض وينشئ الصناعات، ويديم النوع البشري على سطح الأرض؟ وإذا كان هذا الاعتزال من واجب الحكماء فحسب، فمن ذا الذي سيربي الإنسان ويؤدبه ويصون الفضيلة والأخلاق؟)
وتحدثنا هذه الأسطورة أيضاً أن المقابلة بين هذين الحكيمين كانت من أجل هذا الخلاف فاترة، وان سوء التفاهم قد ساد بينهما على اثر هذه المحاورة. ويعلق أحد (المستصينيين)
على هذا النبأ بقوله: (ما دام قد ثبت تاريخياً أن (لاهو - تسيه) كان مديراً لدار المحفوظات في مدينة (لو) في نفس التاريخ الذي زار فيه (كونفيشوس) هذه العاصمة، بل إنه قد ثبت أنه زار دار المحفوظات نفسها وطلب الاطلاع على بعض ما فيها من وثائق قديمة كانت دراسته في حاجة إليها، أفليست هذه الظروف كلها تدعونا إلى تصديق الأسطورة لاسيما إذا كان ما حدثتنا عنه من خلاف صحيحاً صحة علمية؟)
ومن هذه الأساطير أيضاً ما يروى لنا أن (لاهو - تسيه) بعد أن اعتزل الخدمة ارتحل إلى بلاد الهند واخذ ينشر تعاليمه هناك، وقد تلاقى مع (بوذا) فتتلمذ هذا الخير عليه، وتلقى عنه تلك المعارف الصينية القيمة التي كانت فيما بعد أساساً لمذهبه
ويستبعد الأستاذ (زانكير) صحة هذه الأسطورة، لأن (بوذا) لم يولد بعد هذا الحكيم بمائة وخمسة وعشرين عاما؛ وإذا صح سفره إلى الهند، فلا يمكن أن يصح لقاؤه مع شخص بقى على مولده خمس وأربعون سنة، فضلا عن نشأته واستعداده لتلقي العلم؛ فإذا أضفنا إلى هذا أن حكيمنا لم يعتزل الخدمة إلا بعد بلوغه سن الثمانين استطعنا في سهولة أن نجزم باستبعاد صحة هذه الأسطورة
هناك أسطورة ثالثة تنبئنا بأن هذا الحكيم قد كتب ألف كتاب، منها تسعمائة وثلاثون في شرح فن الحياة العملية والأخلاق والسلوك والمعاملات الإنسانية، والسبعون كتاباً الباقية في السحر، وعلى الأخص في صنع التمائم التي يجلب حملها السعادة للأحياء
لا ريب أن هذه الأسطورة لا تقل عن سابقتها بطلانا، لأن هذا الحكيم لم يثبت عنه أنه كتب غير كتاب (تاو - تي - كينج) الذي أشرنا إليه آنفا، والذي خصصه لتسجيل مذهبه الفلسفي. بل إن النقاد المحدثين يجزمون بأن هذا الكتاب على حالته الراهنة ليس من تأليف (لاهو - تسيه) وإنما هو مجموعة من آرائه وحكمه مضافاً إليها آراء وحكم لبعض القدماء الذين سبقوا عصر هذا الحكيم، ويرجحون أن هذا الكتاب قد كتب بعدة أقلام مختلفة، بعضها لتلاميذ هذا الحكيم، والآخر لبعض المتمذهبين بمذهبه
مذهبه
اختلف الباحثون المحدثون في المذهب النظري لهذا الحكيم اختلافات شتى جعلت اليقين عسيراً على كل من يحاول الحكم على هذه الفلسفة (اللاهو - تسية) والسبب في وقوع كل
هذه الاختلافات بين العلماء هو صعوبة معنى كلمة (تاو) التي اتخذها هذا الحكيم عنواناً لكتابه؛ ولكن ليس معنى هذا أن تلك الكلمة كانت في الأصل غامضة أو عويصة؛ كلا، فقد مرت بنا في عصر ما قبل التاريخ وعرفنا أن معناها إما (الصراط السوي) وإما (واجب الإنسان) أو (الفضيلة العليا) أو (الغاية المثلى) ولكن الصعوبة حدثت من المعنى الجديد الذي أسبغه حكيمنا على هذه الكلمة حين اختارها عنواناً لكتابه الفلسفي ولم يصرح في تحديده بكلمة قاطعة؛ بل ترك الباحثين يستنتجون هذا المعنى الحديث من المشاكل التي درست في هذا الكتاب؛ فلما عالج العلماء الأوربيون هذا البحث ذهب كل منهم مذهباً يناقض مذهب الآخر؛ بل إن بعضهم ألقى سلاحه بازاء هذا العنوان وانسحب من الميدان؛ ومن هذا القسم الأخير المسيو (دينيس سورا) الذي أعلن أن هذه الكلمة غير مفهومة. وإذاً فالمذهب النظري لهذا الحكيم غير مفهوم. أما الأستاذ (زانكير) فقد أفاض في شرح هذه الكلمة وتعقب مراميها المختلفة تعقيباً يروي غلة الباحث الشغوف. وخلاصة ما قاله في هذا الشأن أن هذه الكلمة تحمل من المعاني ما لا يمكن أن يؤدى بلفظة أوربية. ولهذا يكون خاطئاً كل من حاول ترجمتها بكلمة واحدة من لغاتنا الحديثة، بل الواجب ترجمتها بجملة طويلة أو بعدة كلمات، فمن معانيها مثلا: الروح الأزلي المشتمل على جميع القوى الحيوية، والكائن النقي، والجوهر الأساسي لكل موجود، والحياة الحقة لكل كائن، والمدبر العام للكون كله، وفوق ذلك كله فهذه الكلمة قد احتفظت بمعانيها القديمة التي كانت له في عصر ما قبل التاريخ، وهي: الصراط السوي، والفضيلة، والواجب، والغاية، والتطور، ولكن ينبغي أن نعلم أن هذا التطور ليس إلا أثراً ظاهراً لهذه القوة، أما هي نفسها فثابتة لا تتغير
واكثر من هذا أن (لاهو - تسيه) يصرح بأن (تاو) هو الـ (في ذاته)، بل هو الكائن الغير القابل لِمُدْرِكِيَّة العقل البشري، لأن أي كائن متى حصره التفكير الإنساني ووضع له اسماً مُحدِّداً، فقِد فَقَدَ نقاءه ولا نهائيته
ولا شك أن من يلقي نظرة عاجلة على المدرسة الأفلاطونية الحديثة ويستعرض ما قاله (أفلوطين) عن الإله يجد الشبه عظيماً بينه وبين هذا الرأي
(يتبع)
محمد غلاب
الفروسية والتربية
للسيد جرجيس القسوس
كلمة تمهيدية
يعاني العلم مشقة كبيرة في التوفيق بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة؛ وما عرف التاريخ منذ بدئه حرباً أشد هولاً من هذا النزاع بين الفرد والمجموع برغم محاولة الفلاسفة وعلماء الاجتماع ورسل الأديان التوفيق بينهما. إذ تؤثر الجماعة المحافظة، وتكره كلَّ ظاهرة يرجى من ورائها انتقاض كيانها وهدم صرح نظمها وتقاليدها. بيد أنه ينهض أحياناً فردٌ يشهر عليها حرباً عواناً فيصطدمان، فإن كتب الخلود انتصر عليها، وغلا طمس أثره وراح ضحية شذوذه
ولقد برهن التاريخ أن الحق في أغلب الأحيان للقوة، لذا ترى أن عدد أسماء العظماء في التاريخ قليل جداً إذا ما قيس بعدد من خضع لأحكام الجماعة وسلطتها، وتمشى بموجب تقاليدها ونظمها. والعظيم بحق هو من فاضل الجماعة وغلبها، وتمكن من أن يسيرها حسبما يراه صالحاً
أما في العصور الوسطى فقد كانت للجماعة السلطة التامة على الفرد، دينياً وعلمياً واجتماعياً. فهناك الكنيسة تستأثر بالسلطة الدينية، وترى أن ما تسنه للفرد على الأرض من شرائع وقوانين يُسنُّ في السماء، وتتسلح ضده محاكم التفتيش والقطع والتأديب، وتتذرع بكل سلطة زمنية فوق الدينية لتقي حقها الذي هو حق الجماعة، وتحارب الزنادقة وهم - في رأيها - من شذّوا عن مبادئها وخالفوا أحكامها. ويلحق الكنيسة نظام الرهبنة وقد حل هذا النظام محل معاهد التربية في نشره الفضيلة، وتعزيزه ناحية من نواحي الرسالة النصرانية. وهنالك الطريقة الزهدية التي دعت إلى الزهد وعيشة التقشف والاتصال بروح الله في الحياة الدنيا، فسيطرت بذلك على فكر الفرد وحياته الروحية وقيدتهما مدة ليست قصيرة
أما الطريقة هيمنت على عقل الفرد، ووضعت له قواعد وحدوداً ثابتة، ليس له أن يتعداها أو يشذ عنها في حياته الفكرية. آما الاجتماع والسياسة فمعهدهما - كما سترى - لم يختلف كثيراً عن فعل غيره من الأنظمة والمعاهد التي ذكرناها
كل هذه الأنظمة تعاونت وتضافرت على صيانة الحضارة في العصور الوسطى وخاصة المظلمة منها، لكنها كانت تتوخى دائماً إعلاء كلمة الجماعة واخفات صوت الفرد، فحالت بذلك دون تقدم الحضارة تقدماً حثيثاً، إذ كلما حاولت سفينة الحضارة الإقلاع، ألقت الجماعة مرساتها لتوقفها وتعيقها عن السير المطرد. والصراع بين الفرد والمجموع قائم على هذا الأساس. فالفرد يبتغي رفع المرساة وتحطيمها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، بينا الجماعة تريد خلاف ذلك. ومهمة التربية والتعليم في كل عصر ومكان - كما بينا - التوفيق بينهما، وإصلاحهما إصلاحاً يكفل معه تقدم الحضارة. وسنتناول في هذا المقال الفروسة ونرى كيف كان مرساة للنظم والمبادئ الاجتماعية والأخلاقية، وما كان فضله على التربية خصوصاً
الفروسة، طبيعتها، نشأتها
الفروسة في أكمل وضع لها: نظام أو معهد اجتماعي لا ديني (من حيث نشأته)، ذو مبادئ، ومثل اجتماعية وأخلاقية عالية قائمة على قواعد وتقاليد رسمية راسخة. ومن شروط الانتظام في هذا السلك أن يكون المرء حر المولد، شريف المنبت، (أو يكون قد نال النبل من أحد الملوك)، يملك ضيعة، ويستطيع أن يعول نفراً من الضعفاء. ولم تمنح العضوية إلا لمن زاد عمره على الحادية والعشرين، اللهم إلا في آخر عهد هذا النظام، فقد كانت تمنح لأبناء العائلات المالكة الذين لم يبلغوا، أو تجاوزا السن القانونية لنيل هذه العضوية. وكان لابد لكل طالب من أن يقضي مدة معينة يجوز في خلالها بعض الامتحانات والمراسيم، ويتقن العلوم والفنون، ويتحلى بالسجايا التي يقتضيها شرف هذه المهنة. وقد اقتصرت العائلات النبيلة على هذا النوع من التربية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر للميلاد، خصوصاً مع عدم توفر العلوم فيه كما سترى
كانت مبادئ الفروسية ومثلها العليا خليطاً مما ورثته عن النصرانية والحضارة الرومانية، واحتفظت به من عادات قبائل البربر الجرمانية وطباعها. وكان للفروسة صبغة عسكرية في القرون التي تلت سقوط الدولة الرومانية حتى القرن التاسع والعاشر للميلاد، فكل ملك أو بارون أو لورد أو نبيل، سافر أو ناضل على ظهر جواد، وكان له اتباع وحشم عُدَّ فارساً: فالفروسة والإقطاع هما في الحقيقة توأمان من حيث نشأتهما وشيوعهما. ولقد
ازدهر نظام الفروسة واستكمل نموه منذ الغزوات الصليبية الأولى في القرن الحادي عشر للميلاد، وما فتئ ينمو حتى أوائل القرن السادس عشر. فكان المعهد التربوي الوحيد خلال تلك القرون للعائلات النبيلة والمالكة، حتى جاء عصر العالية، فحلت هذه محل الفروسة وغيرها من المعاهد والطرائق التي سبق الإيماء إليها
مبادئها وصفاتها
لعهد ليس بالبعيد كانت هناك مبادئ وصفات تؤهل الفرد لاكتساب لقب (جنتلمان) تلك التي إذا ما حازها عُدَّ فارساً. من هذه المبادئ والسجايا الشجاعة والأنفة واحترام النفس والانتصاف للشرف واللطف والرقة في المعاملة ونكران الذات وطلب الشهرة عن طريق الحرب، وغير هذه من الصفات الخشنة كالشراسة والقسوة والغضب إلى حد الجنون، والتبهرج والإسراف والرغبة في الحياة العسكرية العنيفة الجافة، والإيمان القويم بالله. وكما إن للرهبنة فضلاً على الناحية الدينية من علمي التربية والأخلاق، فللفروسة فضل على الناحية اللادينية منها، إذ رفعت من شان فكرة لدى قوم غلاظ الطباع، وذلك بأن فرضت عليهم شروطاً وقواعد لابد لهم من مراعاتها مدة انضوائهم تحت لواء الفروسة. ولو أنعمنا النظر قليلاً في هذه الفكرة لألفينا انه حينما وجدت الطاعة والخدمة، وجد معها الاستعباد والقسوة. فإذا كان تشجيع الطاعة والخدمة من حسنات الفروسة، فتعزيز الاستعباد والإذلال هو من سيئاتها
ولم تكن الفروسة في الواقع إلا خادمة للرسالة النصرانية، فقد ولدت في معهد الكنيسة، ثم نشأت وانتشرت تبشر بمبادئها، وتنشر النصرانية بين برابرة الجرمان. وحينما تحولت الكنيسة إلى السلطة الزمنية تستنجدها وتستفزعها لمهاجمة المسلمين في عقر دارهم، كانت الفروسة أول من لبى نداءها. وقد كان لاتصال الفروسة بالكنيسة اثر ملموس في خلق الفارس، فكان لابد له، إذا نشد الكمال، من أن يتوخى مبدأ الاعتدال في حياته وأن يستسلم لأسياده وينقاد إليهم انقياد الأعمى، ويتضع لمن هم دونه رتبة، ويشفق على الضعفاء والفقراء ويحسن إليهم، وأخيراً أن يجل الجنس اللطيف كل الإجلال
ويجازي من نكث هذه الشروط بأن يطلب للبراز مع غيره مبارزة قد تؤول إلى هلاكه. بذا وبغيره من الوسائل السلبية والإيجابية، وبالمزاولة الطويلة ثبت نظام الفروسة ورسخت
قواعده ومبادئه رسوخاً متيناً، وانتشر انتشاراً عمّ مختلف طبقات المجتمع البشري في أوروبا حقبة طويلة من الزمن.
ومن الصفات التي لم يكن يقتضي اكتسابها تعليماً خاصاً ومجهوداً كبيراً الشجاعة والإقدام؛ بيد أن ما يرافقهما من التمرن على حمل السلاح واستعماله، والتفنن في ركوب الخيل، أمور يتلقاها الفرد في سلك الفروسة. وما يصدق على الشجاعة يصدق على الشهامة واحترام السيدات، فإن ذلك لم يكن يقتضي تعليماً رسمياً. على أنه لابد لاكتساب كل سجية مطبوعة بطابع الفروسة الخاص من وقت طويل وعناء كبير لدقتها وتعقدها. وفيما يلي نبذة للمؤرخ (كورنشْ) تبين باختصار مبادئ الفروسة وأثرها في حياة الفرد والمجموع يقول:
(لقد علمت الفروسة العالم واجب الخدمة الطوعية الشريفة ورفعت من شأن الشجاعة، والخضوع لحكام السلطة، ووقفت قوتها العسكرية على خدمة الدين، وشجعت السخاء والإحسان والإيمان القويم ونكران الذات والشهامة؛ وفوق كل هذا إجلال السيدات. ومع أن للفروسة فضلاً كبيراً على علمي التربية والأخلاق فمثالبها شتى، لأنها كانت تشجع بعض الرذائل كالغرور وحب القتال وازدراء الرعاع والتهتك والخلاعة. ولا مراء في أن هذا المعهد - على ماله من مناقب ومثالب - كان ملائما لروح العصر والبيئة اللذين نشأت فيهما.)
نظامها ومنهاجها
للتربية في هذا النظام ثلاث مراحل، تبتدئ أولاها من السنة السابعة وتنتهي بالرابعة عشرة، ويسمى الفتى في هذا العهد وتبتدئ المرحلة الثانية من السنة الخامسة عشرة وتنتهي بالحادية والعشرين، ويطلق على الفتى في هذه السن لقب (الرفيق) أما المرحلة الثالثة والأخيرة فتبتدئ من السنة الحادية والعشرين، وفيها يعرف الفتى بالفارس
كان يجري التعليم والتمرين في معهد بلاط أحد الملوك أو قلعة أحد النبلاء. ففي قلاع النبلاء يجري التعليم الخاص بالطبقة التي هي دون النبلاء. أما النبلاء فيبعثون أولادهم إلى بلاط الملك حيث يخدمون في حاشيته؛ وفي كثير من الأحيان يمارس أبناء الملوك الخدمة في قصور آبائهم كسائر أبناء النبلاء، ولم يجر التعليم في بيوت العامة لندرة وسائله، وقلة معدات التمرين فيه؛ لهذا كانت دور النبلاء وقلاعهم وقصور الملوك مزدانة بالفتيان
والفتيات طيلة سني التعليم والتمرين، ولقد كان للفتيات كما للفتيان حق ونصيب من التربية في هذا المعهد، فقد كان في عصر الإقطاع شريعة تقضي بأن يرث النبيل ضياع آباء الفتيان والفتيات الذين هم في خدمة النبيل، وتخوله حق السلطة على أولئك الفتيان والفتيات والتصرف بهم كما يشاء قبل أن يدركوا سن الحادية والعشرين. فأدى هذا الحق، أعني التحكم في أولاد الميت وبناته إلى تزويجهم حسبما يراه النبيل صالحاً، بهذا كان التزاوج بين الفتيان والفتيات شائعاً جداً في قلاع النبلاء، وخصوصاً في القرنين الثالث عشر والرابع عشر للميلاد. وطبيعي أن يقوم النبيل بكل ما تتطلبه معيشة هؤلاء الفتيان والفتيات ماداموا قاصرين وعاجزين عن القيام بذلك من تلقاء أنفسهم
أما الفتيات فقد كُنَّ يتلقين العلوم والفنون المنزلية من خياطة ونسج وموسيقى وغناء ثم الفرنسية وبعض اللاتينية. وكانت تعلم هذه العلوم في مدارس الأديرة؛ من هذه في إنكلترا دير (دارتْفوردْ) في كنتْ، وقد اختصَّ ببنات العائلة المالكة، ودير (كاروْ) قرب نوردش وكان خاصاً ببنات الطبقة النبيلة، ومدرسة دير ماري في ونشستر وغيرها. وبعد أن تتم الفتاة تحصيلها في هذه المدارس تعود إلى قلعة النبيل المتولي أمرها، حيث تكتسب صفات الفروسة، وتجالس الفتيان في (الصالون) حتى تصل إلى اختيار زوجها منهم. وغالباً ما دفعت هذه العادة الكثيرين إلى أن يبعثوا بناتهم وأبنائهم إلى هذه القلاع، ليلتحقوا في خدمة النبيل ظاهراً، وينشدوا التزوج باطناً. فالتزوج هو في الحقيقة غاية ما كانت ترمي إليه تربية الفروسة في هذه المرحلة، لأن من كان خليقاً بالزواج عن هذه الطريق كان جديراً بنيل شرف الفروسة
نعود الآن إلى الوصيف لنرى كيف يتدرَّج في مراحل هذه التربية حتى يصبح فارساً. ينشأ الوصيف والوصيفة مع نساء حاشية النبيل حتى السنة السابعة، وفي خلال هذه المدة يكون الوصيف قد ألف ركوب الخيل، وتعلم هو والوصيفة القراءة والكتابة وبعض مبادئ العلوم البسيطة التي تقتضيها الخدمة المنزلية. وكلما تقدم الوصيف في السن، تعقدت العلوم التي يتلقاها وصعبت. فحينما يصل سن السابعة يشرع في تعلم فنون الصيد واللعب بالسيف والترس ورمي القرص والرمح. وليست هذه الفنون سهلة المنال يظهر؛ ففن الصيد مثلا يتطلب إلماماً بقوانين الغاب وهو ينقسم إلى قسمين: -
(1)
صيد الغزال وما كان من فصيلته وعلى شاكلته
(2)
والبيزرة؛ وهذا القسم ضرب معقد من ضروب الصيد يقتضي معرفة بأنواع الطيور وكيفية اقاتتها وتدريبها على الصيد. وعدا هذا يتعلم الوصيف أصول المصارعة والملاكمة والجري وركوب الخيل واللعب بالسيف والرمح ومبارزة الدببة والجواميس. كان الوصيف مشغوفاً بهذه الفنون العملية كل الشغف، لأنها كانت ذات أثر مباشر في حياته؛ لهذا لم يُعن كثيراً بتعلم القراءة والكتابة والموسيقى. بيد أن إعراضه عن هذه العلوم النظرية إلى غيرها لا يعني عدم اهتمام مدارس الفروسة بها، فقد كان للوصيف فرصة سانحة ليتعلم فيها العزف على بعض الآلات الموسيقية والتدرّب على الغناء. وقد تخرّج في هذا المعهد المنشدون الكثيرون الذين كانوا يرحلون من بلد إلى آخر، ويحلون حيث غواة الموسيقى وعشاق الفن. ولقد عنيت بعض العائلات المتدينة بتعليم الموسيقى والنشيد الديني، فكان منها مدارس خاصة، عدا نظام الفروسة
كان الوصيف يصرف أوقات فراغه في الخدمة المنزلية، ومشتركاً في حياة النبيل العائلية؛ فتراه يرافق سيدته (زوجة النبيل) أنى ذهبت، ويقوم بخدمتها المنزلية بكل طاعة وإذعان. ومن الخدمات البسيطة التي اختص بها تجفيف عرق سيدته، وذب الذباب عنها ساعة نومها بمروحة لا تكاد تفارق يده طيلة أشهر القيظ
وما يكاد الوصيف يشب ويصبح (رفيقاً) حتى يشرع في تعلم فنون جديدة كفن المناداة وهو فن معقد يقتضي إتقانه ومجهوداً كبيرين، و (تقطيع اللحم) وهذا أيضاً فن قائم بذاته، وقد أهمل وتنوسي على مرور الزمن. وأهم واجباته المنزلية في هذا العهد تحضير الموائد، فهو الذي يقطع اللحم - كما قلنا - ويتناولصحون الأطعمة وكؤوس الخمر من الوصفاء، ويوزعها على الضيوف. وعلى الرفيق أن يُعدّ فراش النبيل، وأن يتولى سياسة حصانه، وان يقوم بتعبئة البنادق وصقلها وتنظيفها. وعليه أن يرافق سيده في سفراته الطويلة، ويتولى رعايته وحراسته في الليل، فلا يغمض له جفن ما دام سيده نائماً. وعلى (الرفيق) أن يلقن كل ما تقتضيه الخدمة المنزلية، وتتطلبه الحياة العملية كركوب الخيل، وتعلم اللغات الألمانية والإنكليزية وبعض اللاتينية (أما الوصيفات فالفرنسية)، والعزف على الناي والقانون، والرقص والغناء ولعبة الشطرنج، ومبادئ الفروسة وقوانينها. ومن الكتب
التي كانوا يعتمدونها في تعلم مبادئ الفروسة وصفاتها في إنكلترا خصوصاً كتاب (سلوك الغلام على المائدة) لقروستست ' وعلى (الرفيق) أن يرافق زوجة النبيل في روحاتها وجيئاتها وأن يلاعبها الشطرنج ويراقصها ويعزف ويغني لها. أما علاقته معها فعفيفة غاية العفة، بريئة غاية البراءة، قلما تؤدي إلى الفعل المنكر، لنه بمرافقته وإذعانه لها يكتسب صفة من أسمى صفات الفروسة وأنبلها، ألا وهي إجلال الجنس اللطيف وإيناسه. وكان يتجلى هذا الشعور في المرحلة الأخيرة من مراحل الفروسة وخصوصا في أوان المبارزة. فعندما تعقد حفلات المبارزة تهرع إليها أجمل الفتيات وأنبلهن؛ وقد تستغرق الحفلة الواحدة ثلاثة أيام أو أكثر. وللمبارز إذا انتصر على خصمه أن يجرده من سلاحه وجواده، وأن يمر بالفتيات، فيتعهدهن بنظره حتى يقع بصره على إحداهن، فيختارها لتسمى ملكة الحب والجمال فتتوج بإكليل وتشرف على بقية الحفلات بينا السيدات يحطن بها من كل جانب، راغبات في التقرّب منها تشرفاً
وللكنيسة أثرٌ ملموس في حياة الفارس، فتراها إذا ما قارب السنة الحادية والعشرين من عمره، سيطرت عليه، ووجهت حياته السلمية والحربية إلى ما فيه خيرها ونفعها. فتعرض له بعض المراسيم والامتحانات الدينية المعقّدة التي لابد له من اجتيازها. أهم هذه ما يجيء في الحفلة النهائية التي يصبح فيها (الرفيق) فارساً؛ وتستغرق هذه الحفلة أحياناً عدة أسابيع، فيصرف بضعة أيام في الصوم وليلة في إحدى الكنائس القديمة المظلمة، مسترسلا في التأمل والتفكير، ثم يستحمّ، ويعترف عند أحد الكهنة، وبعد ذلك تعقد الحفلة النهائية، ويترأسها أحد الكهنة، وفيها يخلع عليه الكاهن ثوباً أبيض رمز الطهر والنقاوة، وآخر أحمر إشارة إلى ما سيسفكه من الدم في الدفاع عن مبدئه ودينه، وسُتْرةً سوداء قصيرة تذكره بشبح الموت الذي سيلقاه دون خوف أو وجل، ثمّ يصغي إلى عظة بليغة يلقيها الكاهن عن حياة الفروسة. وفي النهاية يقسم الفارس يمين الفروسة الرسمي وخلاصته:(أن يذود عن الكنيسة، ويكافح الشرار، ويحترم رجال الدين، ويجل الجنس اللطيف، ويصون الضعفاء، ويحسن إلى الفقراء، وألا يحجم عن سفك دمه في الدفاع عن بني دينه وجنسه). ثم ينادي فارساً باسم الله، والقديس جورج، والقديس ميخائيل، ويناول السيف والمهماز ويلطم على وجهه لطمة خفيفة رمزاً إلى آخر إساءة يستطيع أن يصفح عنها، وإلى حياة العنف والجهاد
التي سيحياها
ويقضي الفارس السنين العشر الأولى التي تسبق السنّ القانونية للالتحاق بالفروسة في الدرس المتواصل، والاستعداد الدائم لهذه الحفلة التي تعد أكبر حادث في حياته. ولقد ورد في رسالة كتبها دي روم لتلميذه الملك هنري دي جاند في صغره بعض الموضوعات والدروس التي يتعلمها (الرفيق) والصفات التي لا مناص له من اكتسابها لكي يكون فارساً، منها الإحسان والشجاعة والاعتدال؛ والقسم الخير من الجزء الثاني من هذه الرسالة ذكر واجبات (الرفيق) نحو الكنيسة. أما الفصل السابع فيقتصر على الموضوعات العلمية كتعلم اللاتينية والإلمام بالفلسفة، وعلم البيان وهذا خاص بأبناء الأمراء والملوك، وعلم الحساب الذي لابد منه لإتقان الموسيقى، وتعلم الهندسة التي لا غنى لطالب علم الفلك عنها. كل هذه العلوم خاصة بأبناء الطبقة الوسطى وهناك عدا الفنون السبعة المعروفة فنون وعلوم أخرى لابد للطالب من تعلمها وهي:
(1)
العلوم الطبيعية لأنها تتعلق بطبيعة الأشياء
(2)
علم ما فوق الطبيعة لأنه يبحث عن الله وملائكته
(3)
علم اللاهوت
(4)
علم الأخلاق لأنه يعلم الفرد ضبط نفسه
(5)
علم السياسة لأنه يعلم إدارة المدن والممالك
وشعار الفارس في حياته - كما رأيت - الدين والحب والحرب، فهو الخادم الأمين المطيع للكنيسة ولسيدته التي تمثل الجنس اللطيف كله، ولسيده الذي يمثل الملوك والنبلاء
وترى مما تقدم أن الفروسة لعبت دوراً باهراً في تاريخ التربية خصوصاً والحياة الاجتماعية عموماً، وأن منهاجها لا يقل عن منهاج الجامعات والمدارس القرن الثالث عشر للميلاد خصوصاً؛ وأثره في أدب الإفرنج لا يقل عن آثره في التربية والاجتماع والسياسة. فقد أصبح مستقى فياضاً لآدابهم، وعلى الفروسة تدور بعض القصص الرائعة والقصائد الحماسية والأناشيد الشائقة؛ وحسبنا في هذا المقام أن نذكر أن الرجوع إلى العصور الوسطى عموماً والفروسية خصوصاً لاختيار الموضوعات الأدبية كان من اكبر خواص ومظاهر العصر الابتداعي في الأدب الإنكليزي في القرن التاسع عشر. واثر هذا
ظاهر في بعض قصص سرْ ولتر سكوت وخاصة (إيفنهو)(وتلسمان)(والأبوت)
وفي إحدى قصص وليم أعني (هنري إزموند) وفي غير ذلك العصر من عصور الأدب الإنكليزي كعصر الياصابات مثلا وخصوصاً في بعض ملاهي شكسبير مثل (جعجعة ولا طحن) و (رجلا فيرونا)(وكما تشاء)
والمقام يضيق عن التوسع في هذه الناحية، فعسى أن يقوم من بين الأدباء من يجد في نفسه الكفاية للبحث في علاقة الفروسة بكل من الأدب والسياسة وفضلها وتأثيرها عليهما.
جريس القسوس
الجامعة الأمريكية: بيروت
مصادر هذه الرسالة
1.
'
2.
'
3.
4.
5.
'
مقالة الأستاذ عبد الله عنان عن (الفروسة) في (أحسن ما كتبت) ص25 6.
أبحاث تاريخية جديدة
الإسلام في غرب أفريقية
مدى انتشاره في تلك الأقاليم ومبلغ أثره في الأهلين
للأديب جمال الدين محمد الشيال
تقدمه
بدا الإسلام في شبه جزيرة العرب. . . ومنها انتشر سريعاً في مختلف أنحاء العالم فوصل إلى الصين شرقاً امتد إلى الأندلس والمحيط الأطلسي غربا. وأينما وصل الإسلام ونشأت حضارة إسلامية جديدة أخذت عناصرها من حضارة الإقليم الهرمة المحطمة ومن حضارة الدين الجديد وتعاليمه. . . ثم استقرت هذه الحضارات، كل حضارة في إقليمها الخاص بها. . . وظهرت لها بمرور الزمن مميزات خاصة. . . ولكن هذه الحضارات كانت تتصف بصفات مشتركة تجتمع فيها عند نقطة واحدة تميزها جميعاً. . . تلك هي أنها حضارات إسلامية
وفي كل بلد من هذه البلاد الإسلامية وجدت معاهد للعلم ونشأ العلماء في كل فن. . . ونبغوا. . . ورحلوا. . . ونشروا دينهم. . . وكتبوا الكتب تتحدث عن كل علم وفن. . . وتصف كل قطر عرفوه أو رحلوا إليه أو نقلوا إليه دينهم. . .
وكانت بلاد المغرب إحدى تلك الأقاليم التي انتشر فيها الإسلام وإحدى تلك الأقاليم التي نشرت الإسلام في طول الصحراء وعرضها حتى وصل إلى حدود الكمرون جنوباً وإلى شاطئ المحيط الأطلسي غرباً. . . وقد تحدث المؤرخون الإسلاميون عن هذه الجهات في كتبهم ورحلاتهم. . .
فأبو عبيد البكري الأندلسي وابن فياض الأندلسي وابن خرداذبة كلهم يتحدثون عنها وعن حدودها فيقولون: (فأول بلاد المغرب مما على ساحل البحر الرومي مدينة أنطابلس المعروفة ببرقة، وآخرها مما على ساحل البحر الأعظم مدينة طنجة، وطنجة هذه آخر بلاد المغرب المحقق وما بعدها من البلاد فإنما هو في الجنوب إلى أن يأتي بلاد الحبشة والهند. . .)
أما ابن بطوطة فقد جاب الصحراء المسلمة واتصل بقبائلها وملوكها ووصل حتى بلدة كارسخو بين نهري النيجر والشنغال. وابن بطوطة رحالة عاش في النصف الأول من القرن الرابع عشر، وقد طاف في معظم الجهات الإسلامية المعروفة في ذلك الحين ومنها غرب أفريقية؛ وقد أحببت أن أنقل عنه أخبار انتقاله باختصار لتكون دليلاً مادياً على وصول الإسلام لتلك الجهات وإن كان الرجل يخلط خلطاً غريباً بين نهري النيل والنيجر، ولكن له في الواقع عذره لجهل العالم كله في ذلك العصر بأواسط أفريقية ومنابع أنهارها. يقول ابن بطوطة:
(ثم سرنا من زاعزي فوصلنا إلى النهر الأعظم وهو النيل وعليه بلدة كارسخو؛ والنيل ينحدر منها إلى كابرة، ثم إلى زاغة؛ ولكابرة وزاغة سلطانان يؤديان الطاعة لملك مالي. . . وأهل زاغة قدماء في الإسلام ولهم ديانة وطلب للعلم؛ ثم ينحدر إلى تنبكتو، ثم إلى كوكو، ثم إلى بلدة مولي من بلاد الليمين - وهي آخر عمالة مالي - ثم إلى يوفي، وهي من اكبر بلاد السودان، وسلطانها من أعظم سلاطينهم؛ ثم ينحدر إلى بلاد النوبة وهم على دين النصرانية؛ ثم إلى دنقلة، وهي اكبر بلادهم وسلطانها يدعى بابن كنز الدين أسلم أيام الملك الناصر؛ ثم ينحدر إلى جنادل، وهي آخر عمالة بالسودان، وأول عمالة أسوان من صعيد مصر)
(ثم سرنا من كارسخو فوصلنا إلى نهر صنعرة، ثم رحلنا إلى بلدة ميمة فنزلنا منها على آبار بخارجها، ثم سافرنا منها إلى مدينة تنبكتو، ومن تنبكتو ركبت النيل في مركب صغير منحوت من خشبة واحدة، ثم سرت إلى مدينة كوكو وهي مدينة كبيرة على النيل؛ ثم سافرت منها إلى تكدَّا، ووصلنا إلى كاهر من بلاد السلطان التكركري؛ ثم سرنا بعد ذلك خمسة عشر يوماً في برية لا عمارة فيها إلا أن بها الماء، ووصلنا إلى الموضع الذي يفرق به طريق غات الآخذ إلى ديار مصر وطريق ثوات، وسرنا من هنالك عشرة أيام ووصلنا إلى هكار وهم طائفة من البربر ملثمون، وسرنا من بلاد هكار شهرا، ووصلنا يوم عيد الفطر إلى بلاد برابر، ثم وصلنا إلى بودا وهي من أكبر قرى ثوات، وأقمنا ببودا أياماً ثم سافرنا في قافلة، ووصلنا في أواسط ذي القعدة إلى مدينة سجلماسة. . . الخ)
وهو إذ يتحدث عن معدن النحاس ص320 يقول (ويحملون النحاس منها إلى مدينة كوبر
من بلاد الكفار - وإلى زغاي - وإلى بلاد برنو وهي مسيرة أربعين يوماً من تكدا وأهلها مسلمون ولهم ملك اسمه إدريس. . .)
من هذا نستبين بكل وضوح أن أقصى ما وصل إليه ابن بطوطة غرباً هو مدينة (كارسخو) وهو في كل تلك المنطقة التي طاف بها يذكر أنه كان ينزل بسلطان الولاية المسلم فيرحب به ويجمعه بقضاة الولاية وعلمائها. غير أن ابن بطوطة لم يصل إلى شاطئ المحيط من جهة الغرب في حين أن الإسلام كان منتشراً في غانة في ذلك الحين كما سنرى من قول ابن خلدون المعاصر لابن بطوطة في كتابه (المغرب في تاريخ الدول الإسلامية بالمغرب) وهو يبدأ بتحديد بلاد المغرب وغرب أفريقية على عهده، وقوله في ذلك ثقة لأنه نشأ في تونس وتنقل في معظم بلاد المغرب كتلمسان وبسكرة وبجاية وغيرها. واتصل بالحكام في كل تلك الأقاليم، وله كتابه المشهور (العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر)
حدود المغرب كما جاءت في كتاب (المغرب) لابن خلدون
(إن المغرب قطر واحد متميز الأقطار، فحده من جهة الغرب البحر المحيط، وعليه كثير من مدنه مثل طنجة وسلا وأدفو وأنفى وأسفى، وهي كلها من مساكن البربر وحواضرهم؛ وأما حده من جهة الشمال فالبحر الرومي المتفرع من هذا البحر المحيط يخرج في خليج متضايق ما بين طنجة من بلاد المغرب وطريف من بلاد الأندلس؛ وأما حده من جهة القبلة والجنوب فالرمال المستهيلة الماثلة حجزاً بين بلاد السودان وبلاد البربر، ويعرف عند البادية بالعرق، وهذا العرق سياج على المغرب من جهة الجنوب مبتدئ من البحر المحيط وذاهب في جهة الشرق على سمت واحد إلى أن يعترضه النيل الهابط من الجنوب إلى مصر فهنالك ينقطع؛ وأما حده من جهة الشرق فيختص بطرابلس وما وراءها إلى جهة المغرب مثل أفريقية والزاب والمغرب الأوسط والمغرب الأقصى والسوس الأدنى والأقصى. هذا هو المغرب في العرف لهذا العهد وهو الذي كان في القديم ديار البربر ومواطنهم)
ومن هذا نرى أن ابن خلدون في وصفه للبلاد أدق بكثير من غيره من كتاب العرب؛ وتبدو لنا دقته من وصفه لتفرع بحر الروم من البحر المحيط، وتبدو لنا دقته بوضوح بعد هذا
بقليل عندما يتتبع العرق حتى يصل إلى النيل. وسيبدو لنا ابن خلدون أكثر دقة عند كلامه عن شعوب البربر، وقد أردت أن أبدأ بوصف جونستون لهذه الشعوب ثم أتبعه بوصف ابن خلدون؛ وسنرى بعد قراءة الوصفين أن ابن خلدون على تقدم عصره كان أجمل وصفاً وأدق تعبيراً من جونستون. ولا غرو فابن خلدون ابن تلك الفيافي والبلاد. وسنأتي الآن بتقسيم جونستون لجماعات البربر: في أوائل القرن السابع كان الجنس الليبي أو بربر شمال أفريقية الذين كانوا يسكنون كل المنطقة بين الحدود الغربية لمصر (بعد واحة سيوه) شرقاً وساحل مراكش غرباً ينقسمون إلى: -
(1)
البربر الشرقيون أو الليبيون (لواتا وهوارة وأوريغا ونفوسة ويسكنون قيرينيقا وطرابلس وتونس وجزءاً من شرق الجزائر
(2)
البربر الغربيون أو صنهاجة وكانوا يشغلون سواحل الجزائر وغربيها وكل مراكش حتى يصلوا إلى حدود الصحراء جنوبا
(3)
أقتم لوناً وقد انحدروا من وقد يتصلون في الأصل بالغولا الذين سكنوا في القرن السابع أجزاءً كانت تقل أو تكثر من الإقليم الصحراوي جنوب الجزائر وتونس ومراكش ومن زناتة انحدر البربر المزاب الحديثون وقبائل الورجلي وبنو مرين الذين أسسوا أسرة حكمت البربر فيما بعد
وقد دفع كثير من زناتة السود إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط في فترات مختلفة، كما أن كثيرين من البربر الشرقيين أو الليبيين قد دفعوا إلى قلب الصحراء تحت تأثير العرب الفاتحين ومنهم نشأت مزقة الطوارق فيما بعد. وكذلك هاجر كثيرون من البربر الغربيين أو الصنهاجيين في القرن السابع إلى الصحراء جنوباً واستقروا شمال نيجيريا وشمال حدود السنغال فليس هناك من شك أن كلمة (اسم قبيلة من قبائل البربر) قد أخذت من صنهاجة ثم حرّف البرتغاليون زناجا فيما بعد فأصبحت (سنغال)
وفي القرن السابع كذلك كانت هناك علاقات تجارية بين زنوج جنوب وشرق ليبيا ووصلت هذه العلاقات حتى كانم وبحيرة شاد ودارفور وكردفان، فكانت هذه الطرق أكبر مسهل للعرب في فتوحهم المستقبلة للسودان وبلاد المغرب
هذا ملخص تقسيم جونستون لهذه القبائل. ولنر الآن ماذا يقول ابن خلدون في وصفها قال:
(هذه الأمم السودان من الآدميين هم آهل الإقليم الثاني وما وراءه إلى آخر الأول، بل وإلى آخر المعمور متصلون ما بين المغرب والمشرق يجاورون بلاد البربر بالمغرب وأفريقية وبلاد اليمن والحجاز بالوسط، والبصرة وما وراءها من بلاد الهند بالمشرق؛ وهم أصناف وشعوب وقبائل أشهرهم بالمشرق والحبشة والنوبة، وأما أهل المغرب فنحن ذاكروهم، وأما نسبهم فإلى حام بن نوح)
(وعد ابن سعيد من قبائلهم وأممهم تسع عشرة أمة فمنهم بالمشرق الزنج على بحر الهند ولهم مدينة منبسة وهم مجوس ويليهم بربرا، والإسلام لهذا العهد فاش فيهم ولهم مدينة مقدشوا على البحر الهندي يعمرها تجار المسلمين، ومن غربيهم وجنوبهم الدمادم وهم حفاة عراة؛ ويليهم الحبشة وهم اعظم أمم السودان وهم مجاورون لليمن على شاطئ البحر الغربي منه؛ ويليهم البجا وهم نصارى ومسلمون ولهم جزيرة مدينة دنقلة غرب النيل وأكثرهم نصارى؛ ويليهم زغاوة وهم مسلمون ومن شعوبهم تاجرة؛ ويليهم كانم وهم خلق عظيم والإسلام غالب عليهم ومدينتهم حيمي ولهم التغلب على بلاد الصحراء إلى فتران؛ ويليهم عن غربيهم كوكو وبعدهم نقارة والتكرور ولمى وغنم وجابي وكوري وانكرار ويتصلون بالبحر المحيط إلى غانة في الغرب)
(ولما فتحت أفريقية المغرب دخل التجار بلاد المغرب منهم فلم يجدوا فيها أعظم من ملك غانة. كانوا مجاورين للبحر المحيط من جانب الغرب وكانوا أعظم أمة ولهم اضخم ملك، وكانت تجاورهم من جانب الشرق أمة أخرى فيما زعم الناقلون تعرف بصوصو. ثم بعدها أمة أخرى تعرف بمالي. ثم بعدها أمة أخرى تعرف بكوكو ويقال لها كاغو. ثم بعدها أمة أخرى تعرف بالتكرور. ثم إن أهل غانة ضعف ملكهم وتلاشى أمرهم واستفحل أمر الملثمين المجاورين لهم من جانب الشمال مما يلي بلاد البربر واعتزوا على السودان واستباحوا حماهم واقتضوا منهم الأتاوات والجزى، وحملوا كثيراً منهم على الإسلام فدانوا به؛ ثم اضمحل ملك أصحاب غانة وتغلب عليهم أهل صوصو المجاورون لهم من أهل السودان واستعبدوهم وأصاروهم في جملتهم. ثم إن أهل مالي كثروا أمم السودان في نواحيهم تلك وأستطالوا على الأقاليم فتغلبوا على صوصو وملكوا جميع ما بأيديهم من ملكهم القديم، وملك أهل غانة إلى البحر المحيط من ناحية الغرب وكانوا مسلمين يذكرون
أن أول من أسلم منهم ملك اسمه (برمندانة). ثم يذكر ابن خلدون بعد ذلك من تولى الحكم بعد هذا الملك حتى يصل إلى الملك ساكورة (سبكرة) فيقول عنه: (وحج أيام الملك الناصر وقتل عند مرجعه بتاجور وكانت دولته ضخمة اتسع فيها نطاق ملكهم وتغلبوا على الأمم المجاورة لهم وافتتح بلاد كوكو وأصارها في ملكة أهل مالي فاتصل ملكهم من البحر المحيط وغانة بالمغرب إلى بلاد التكرور في المشرق، واعتز سلطانهم وهابتهم أمم السودان وارتحل إلى بلادهم التجار من بلاد المغرب وأفريقية. . . الخ)
هذا هو كلام ابن خلدون وقد تعمدت أن أنقله في هذه السطور الكثيرة لأنه قد شرح ما ألم به ابن بطوطة وما أجمله جونستون، فمن كلام ابن خلدون نستطيع أن نفهم بوضوح أي القبائل كانت تسكن في كل تلك الأقاليم، ونستطيع أن نفهم بوضوح أي هذه القبائل كانت تدين بالإسلام وإلى أي حد وصل الإسلام؛ ولكن ابن خلدون عاش في أوائل القرن الرابع عشر كما قلنا وهو إذ يتحدث عن هذه الديار يتحدث عنها كديار إسلامية انتقل إليها الإسلام من مختلف الجهات واستقر بها وأثر في أهلها، ولكننا قد نتساءل بعد هذا: كيف دخل الإسلام إلى تلك الجهات وكيف اقتحم على أولئك الزنوج غاباتهم وإحراجهم وبيوتهم ومدنهم؟ وكيف أثر في الأهلين وفي عاداتهم وأخلاقهم؟ هذا ما سنتناوله الآن بالبحث
(يتبع)
جمال الدين محمد الشيال
الهيكل
لشاعر الحب والجمال لامارتين
ترجمة السيد عارف قياسة
(مهداة إلى أستاذنا الزيات اعترافاً بما لترجمته من فضل على
المترجمين)
(عارف)
(ولج الشاعر ذات مساء بيعة قرية، فإذا ضوء خافق ينير ظلمتها، وإذا نفسه الطاهرة تجيش بالخواطر، وإذا قلبه الخاشع يفيض بالشعر، وإذا هو يخرج من البيعة ويمتشق يراعته ويسجل هذه القصيدة في صفحة الخلود):
ما أحيلاه حين يصعد الشفق إلى القبة الزرقاء، وقد سبق محفة الليل الهادئة الوادعة، وحين يتنازع النور والظلام عرش الغبراء. ما أحيلاه إذا ما ضرب في أعماق الوادي، والقلب عامر بالتقوى، زاخر بالورع، مولياً وجهه شطر الهيكل القروي حيث تخلع الطبيعة على أروقته الساذجة ثوباً من الأشنة، وحيث تزال الحجب وتكشف الأغطية، وحيث تتحدث السماء إلى قلوب طفحت بالتقوى
تحية أيتها الغابة المقدسة! تحية يا أيها الحقل الذي رفرف الحمام فوقه، يا حارس أجداث القرية! إني لأبارك أرماسك المتواضعة في غدوي ورواحي. ويح الأولى مشوا على رفات العباد اختيالا! جثوت على ركبتي أمام قبورهم إجلالا وقد رنت أقدامي في صخرة الهيكل. الليل ساج داج، والضوء خافت مرتعش في المحراب، ينبعث من سراج وهاج، تألق قرب (المذابح) المقدسة، سراج يتلألأ حين يبسط الكرى أجنحته على الكون رمز الإحسان الساهر، ماسحِ مدامع البؤساء، وجامع آهات الأشقياء
دلفت إلى الهيكل، فلم يرن أذني غير اهتزاز فِنائه تحت وقع أقدامي الموزونة. أيتها الجدران المباركة! أيتها المذابح المقدسة! إِني لفريد وحيد، وإن نفسي لتود لو سكبت أمامكن آلامها الممضة، وغرامها المضني، وأودعت السماء كلمات خفية، ستدرك كنهها هي وحدها، وستسمعنها أنتن وحدكن
ولكن لِمَ أزهف إلى تلك المذابح غير هياب ولا وجل؟ أي ربي العظيم! إني لأجرؤ أن أحمل في هذا الهيكل الخاشع قلباً يرمضه الألم، ويضنيه الغرام. رحماك ربي! إني لأحس بالرعدة تسري في كياني! اغفر ما اجترحت في بيتك من خطايا وآثام. كلا! إن نار الجوى التي تلتهمني لا تصبغ وجهي بحمرة الإثم. الحب طاهر ما أذكت الفضيلة لظاه، نقي نقاوة من أخلصت لها الوداد. إن غرامي ليلذع قلبي ولكن بجذوة مقدسة، فالصبر يشرفه والشقاء ينقيه ويطهره
لقد ذكرته إلى الغبراء، وإلى الطبيعة الحسناء؛ ذكرته أمام مذابحك المقدسة في غير وجل ولا إشفاق، وإني لأجرؤ على ذكره أمام عظمتك أيها الرب القدير! أجل! لقد تمتمت شفاهي بأسم إلفير برغم ما قذفه هيكله من الروع في فؤادي. إن ذلك الاسم الحبيب الذي تعيده الأجداث إلى الأجداث، وتهمس به الأموات في آذان الأموات، ليكدر سكون المقبرة الرهيب كما يكدره شقي زفر آهة معولة
تحية أيتها الرموس المقرورة! تحية أيتها المنازل المقدسة! لقد أعاد صدى الليل سويعاتنا السعيدة واويقاتنا الحبيبة حين أذريت دمعي أمامكن. شاهدت السماء مدامعي المسفوحة فقرت عيني وطابت نفسي
لعل (إلفير) التي تساهر وحيدة صورتي الحبيبة، تدلف في تلك اللحظة إلى معبد داج، مخضلة العينين بالدموع، وتجثو أمام المذابح القفرة تودع آلامها وأشجانها كما أودعت آلامي وأشجاني
حماة (سوريا)
عارف قياسة
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
245 -
مكشوف الرأس
في (شذرات الذهب) لابن العماد الحنبلي: في سنة (456) توفي عبد الواحد بن علي بن برهان العكبري النحوي صاحب التصانيف، قال الخطيب: كان مطلعاً بعلوم كثيرة منها النحو واللغة والنسب وأيام العرب، وله أنس شديد بعلم الحديث. وقال ابن ماكولا: سمع من ابن بطة، وهب بموته علم العربية من بغداد؛ وكان أحد من يعرف النساب ولم أر مثله؛ وكان فقيهاً حنفياً، أخذ الكلام عن أبي الحسين البصري وتقدم فيه. وقال ابن الأثير: له اختيار في الفقه، وكان يمشي في الأسواق مكشوف الرأس
246 -
عن ابن الرومي عن النرجس. .
ابن الرومي:
أرى حسن هذا النرجس الغضّ مخبراً
…
عن الله أن ليس النبيذ محرما
247 -
وكنتم قبله سراً يموت في ضلوع كاتم
مهيار:
ما برحت مظلمة دنياكم
…
حتى أضاء كوكب في هاشم
نبلتم بهِ وكنتم قبلة
…
سراً يموت في ضلوع كاتم
248 -
نوارة لا تحتمل أن تحك بين الأكف
سئل أبو العباس بن البناء، وكان رجلا صالحا، في قوله تعالى:(قالوا إن هذان لساحران) لِمَ لَمْ تعمل إن في هذان؟ فقال: لما لم يؤثر القول في المقول، لم يؤثر العامل في المعمول
فقال له: يا سيدي، هذا لا ينهض جواباً فإنه لا يلزم من بطلان قولهم بطلان عمل إن
فقال له: إن هذا الجواب نوارة لا تحتمل أن تحك بين الأكف
249 -
رفه
في (اليتيمة): كان سيف الدولة قلما ينشط لمجلس الأنس لاشتغاله عنه بتدبير الجيوش،
وملابسة الخطوب، وممارسة الحروب. فوافت حضرته إحدى المحسنات من قيان بغداد، فتاقت نفس أبي فراس إلى سماعها، ولم ير أن يبدأ باستدعائها قبل سيف الدولة، فكتب إليه يحثه على استحضارها:
محلُّك الجوزاء أو أرفعُ
…
وصدرك الدهناء أو أوسع
وقلبك الرحب الذي لم يزل
…
للجِدّ والهزل به موضع
رفِّهْ بقرع العود سمعاً غداً
…
قرع العوالي جُلّ ما يسمع
فبلغت البيات المهلبي الوزير فأمر القيان بحفظها وتلحينها، وصار لا يشرب إلا عليها
250 -
كيف يصبح؟ كيف يمسي؟
عبيد الله بن العباس الربيعي:
يا شادناً رام إذ مرّ
…
في السعانين قتلى
تقول لي: كيف أصبحت؟
…
وكيف يصبح مثلي؟!
البديع الهمذاني:
يا سائلي، كيف تمسي؟
…
أخو الهوى كيف يمسي؟!
251 -
الصلاة رحمة
في (كتاب أخبار النساء) لابن قيم الجوزية: قال بعضهم: سمعت يحيى بن سفيان يقول: رأيت بمصر جارية بيعت بألف دينار فما رأيت وجهاً أحسن من وجهها صلى الله عليها!
فقلت له: يا أبا زكريا، مثلك يقول هذا مع ورعك وفقهك؟.
فقال: وما تنكر علي من ذلك؟! صلى الله عليها وعلى كل مليح! يا ابن أخي، الصلاة رحمة
252 -
يحترس بها من الغيلان
في (الموشح) للمَرْزُباني: قال احمد بن عبيد الله مما أنُكر على أبي العتاهية قوله لما ترفق في نسيبه بعُتبة:
إني أعوذ من التي شعفت
…
مني الفؤاد - بآية الكرسي
وآية الكرسي يهرب منها الشياطين، ويُحترس بها من الغيلان - كما روي عن ابن مسعود في ذلك - وأبو العتاهية مع رقة طبعه، وقرب متناوله، وسهولة نظم المنثور عليه،
وسرعته إلى ما يعجز المتأني بلوغه - لا يخلو من الخطأ الفاحش والقول السخيف
253 -
لأن العناية من ثم
قال أبو بكر بن العربي في رحلته: كان بمدينة السلام إمام من الصوفية يعرف بابن عطاء، فتكلم يوماً على يوسف وأخباره حتى ذكر تبرئته مما نسب إليه من مكروه. فقام رجل من آخر مجلسه - وهو مشحون بالخليقة من كل طائفة - فقال: يا شيخ، يا سيدنا، فإذن يوسف همّ وما تمّ
فقال: نعم لأن العناية من ثمّ
فانظر إلى حلاوة العالم والمتعلم، وفطنة العامي في سؤاله، والعالم في اختصاره واستيفائه
254 -
ما زعزعتك
روى أن رجلا مر ببشار وهو مستلق على قفاه في دهليزه كأنه فيل! فقال يا أبا معاذ إنك تقول:
إنّ في بردىّ جسماً ناحلاً
…
لو توكأت عليه لانهدمْ
وإنك لو أرسل الله الريح التي أهلكت عاداً ما زعزعتك
255 -
فإنها قد مثلت في الضمير
ضرير:
وغادة قالت لأترابها:
…
يا قوم، ما أعجب هذا الضرير!
أيعشق الإنسان ما لا يرى؟
…
فقلت - والدمع بعيني غزير -:
إن لم تكن عيني رأت شخصها
…
فإنها قد مثلت في الضمير
256 -
لو رآه ابن ليون لاختصره
كان ابن ليون التجيبي - وهو من شيوخ لسان الدين بن الخطيب - مولعاً باختصار الكتب، وتآليفه تزيد على المائة
ومما حكى عن بعض كبراء المغرب أنه رأى رجلاً طوَّالا فقال لمن حضر: (لو رآه ابن ليون لاختصره) إشارة إلى كثرة اختصاره للكتب
257 -
فلا يزال عليه أوبه طرب
مما يستحسن في وصف العود قول ابن القاضي:
جاءت بعود تُناغيه ويسعدها
…
فانظر بدائع ما خصت به الشجر
غنت على عودها الأطيار مفصحة
…
غضاً فلما ذوى غنى به البشر
فلا يزال عليه أو به طربٌ
…
يَهيجه الأعجمان: الطير والوتر
258 -
وتشبهوا أن لم تكونوا مثلهم
في رسالة (أخلاق الكتاب) للجاحظ: حدثني عمر بن سيف أنه حضر مجلس أبي عباد ثابت بن يحيى يوماً في منزله وعنده جماعة من الكتاب فذكر ما هم عليه من ملائم الأخلاق، ووصف تقاطعهم عند الاحتياج، وعدم تعاطفهم عند الاختلال فقال:
معاشر الكتاب، لا أعلم أهل صناعة أملأ لقلوب العامة منكم، ولا النعم على قوم أظهر منها عليكم. ثم إنكم في غاية التقاطع عند الاحتياج، وفي ذروة الزهد في التعاطف عند الاختلال. وانه ليبلغني أن رجلاً من القصابين يكون في سوقه، فيتلف ما في يديه، فيخلي له القصابون سوقهم يومه ويجعلون له أرباحهم فيكون بربحها منفرداً، والبيع منفرداً، فيسدون بذلك خلته، ويجبرون منه كسره
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
المسافر
وكان قد انتصف الليل عند ما توجه زارا إلى أكمة الجزيرة وهو يجد في السير ليبلغ الشاطئ الآخر عند بزوغ الفجر إذ كان يقصد الإبحار من هذه الجهة حيث ترسو بعض المراكب لتقل طلاب المهاجرة من الجزر السعيدة
وتذكر زارا الرحلات التي قام بها منفرداً منذ صباه فمرت بمخيلته رسوم الجبال والتلال والذرى التي تسلقها في حياته فقال: (ما أنا إلا رحالة ومتسلق مرتفعات وما تستهويني منبسطات الأرض ولا يستقر بي مقام. ومهما قُدّر عليّ ومهما وقع لي فلا تعدو الحوادث أن تكون في نظري رحلة واعتلاء. فما لي أن أرى من الآفاق إلا ما انطبع منها في نفسي. ولقد مضى الزمن الذي كان لي فيه أن أتوقع الحوادث من خطرات الحظ. وهل لي أن أنال من الدهر شيئاً لم يستقر في نفسي من قبل؟
إن كل ما يطرأ عليَّ بعد الآن إنما هو ذاتي العائدة تكراراً بعد انفراطها وتمازجها في الأشياء وتصاريف الزمان. غير أنني أصبحت الآن على مدرج آخر الذرى أمام أصعب مسلك ما اقتحمت مثله في حياتي، فأنا أبدأ الآن أشد رحلاتي عناء وأرعها وحشة
وأنىّ لمثلي أن يتجنب مثل هذه الساعة التي تهتف قائلة: إنك على مبدأ طريق المجد حيث تتداخل الذرى في المهاوي. أنت تسير على هذه الطريق وكنت تراها قبلاً آخر ما تقتحم من أخطار فأصبحت لديك آخر ملجأ تهرع إليه
إنك تسير على طريق المجد فعليك أن تتذرع بالحزم الأوفى لتقطع بنفسك خط الرجوع على نفسك
إنك تسير على طريق المجد، فأنت منفرد عليها لا يزحمك أحد من ورائك، وقد محت أقدامك آثار خطاك على ما وراءك من المسالك، ولاحت كلمة المستحيل بعينيك على آفاق هذه الطريق
ولابد لك إذا ما خلت المدارج تحت أقدامك أن تتسلق قمة رأسك إذ لا سبيل لك للاعتلاء إلا إذا اتجهت إليه وغلى ما وراءه وأنت تدوس على قلبك، وهكذا سيشفيك ما كان يحلو لديك
إن من أفرط في ادخار جهوده لا يلبث حتى يُبتلى بالخمول، تبارك كل جهد يشد العزم، فلا خير في أرض تدر اللبن والعسل؛ ومن يطمح إلى الإحاطة بأمور كثيرة فليتدرب على إرسال أبصاره إلى ما وراء حدود ذاته. وعلى كل متسلق للذرى أن يتعزز بمثل هذا الحزم إذ لا يسع من يتحرى الأمور متجسساً بفضوله إلا الوقوف عند أسهل الأفكار مثالا. وأنت يا زارا تطمح إلى الإحاطة بالعلل وإلى نفوذ خفايا الأمور، فعليك أن تحلق فوق ذاتك فتجتازها متعالياً حتى ترى ما فيك من كواكب متصاغرة في كل أفق دون أفقك الرفيع
أجل إن ذروتي إنما هي حيث أقف ناظراً إلى الأعماق فأرى فيها ذاتي وكواكبها، تلك هي آخر هضبة اطمح إلى بلوغ قمتها)
بهذا كان يناجي زارا نفسه وهو يصعد المرتفع معللا بالتعاليم الصارمة ما في قلبه من جراح
وعندما بلغ الذروة انبسط البحر أمام ناظريه فوقف مبهوتاً واستغرق في صمت طويل، وكانت السماء لا تزال تتألق بالنجوم والهواء يهب بارداً على الأكمة
وهتف زارا حزيناً: (لقد تبينت ما قُدّر عليَّ، وهاأنذا مستعد للأقدام فهذه آخر عزلة أقتحمها
سأنحدر إليك أيها البحر المظلم المنبسط عند أقدامي، أنت الليالي المفعمة بالأحزان، أنت القضاء والقدر أيها الخضم البعيد
إنني أقصد أرفع جبالي مقتحما أبعد أسفاري فعلي إذاً أن أهبط إلى مهاوٍ أبعد في أغوارها من كل ذروة رقيتها حتى الآن
عليَّ أن أذهب من الأسى إلى أغوار ما رسبت في مثلها من قبل فاصل إلى قرارة ما في الأحزان من ظلمات. ذلك ما قدّر عليَّ فأنا على أهبة لاقتحامه
لقد تساءلت فيما مضى عن منشأ الجبال فعرفت أخيراً أنها نهدت من البحار كما تشهد صخورها وجروف ذرواتها، فما يبلغ الأعلى مقامه إلا لانطلاقه من المقام الأدنى)
هكذا تكلم زارا وهو ماثل على قمة الجبل تدور به لفحات الصقيع، ولكنه ما بلغ الشاطئ ووقف بين نتوءات صخوره حتى حل عليه التعب وتزايدت أشواقه فقال:
(إن البحر هاجع أيضاً فعينه الوسنى تحدجني بلفتات غريبة وأنفاس الحرى تهب عليَّ. إنه مستغرق في أحلامه يتقلب مضطرباً على جافيات مسانده. إنني أستمع لهديره كأنه يئن بتذكارات مفجعات، وقد يكون هذا الهدير نذيراً بالشؤم آتي الزمان
إنني أشاطرك الأسى أيها المدى المظلم الوسيع، فأنا بسببك ناقم على نفسي أتمنى لو طالت يدي فأنقذك من أصفاد أحلامك)
وانتبه زارا فإذا هو يضحك ساخراً من ذاته فتمرمر وتساءل عما كان سيبلغ به حماسه إلى إطلاق إنشاده لتعزية البحار، وعما إذا كان سيستمر مضعضعاً في سكرة غرامه واستسلامه فقال: (لقد عرفتك في كل زمان يا زارا تقتحم الأمور الخطيرة بلا كلفة وبلا مبالاة، وقد رأيتك طوال حياتك تدغدغ الوحوش المفترسة فكان يكفيك منها أن تهتاج حبك بأنفاسها الحرى وبنعومة مخالبها لتجتذبك إليها
ليس من خطر اعظم من الحب يحدق بالمستغرق في عزلته فإن المنفرد يحب كل شيء يتنسم فيه الحياة؛ وما اعجب جنوني بالحب وتساهلي فيه)
هكذا تكلم زارا وقد عاد إلى الهزء بنفسه؛ غير انه تذكر من هجر من خلانه إليه أنه يسيء إليهم بتفكيره فيهم، فنقم على نفسه وانقلب من ضحكة إلى البكاء فسالت دموعه مريرة يتمازج فيها الغضب والشوق
فليكس فارس
العلويين والتقمص
في أوقات مختلفة، لكتاب مختلفين، نشرت (الرسالة) مجلة الأدب الراقي والفن الرائع، بعض الآراء عن بعض المعتقدات والمذاهب المتفرعة عن الإسلام
بحثها الأستاذ عنان على سبيل التاريخ، وغيره على ضوء المعلومات الحديثة والاختبارات الشخصية
وقد أجمع الكتاب والناس على أن الدروز يؤمنون بالتقمص؛ وقد كان إجماعهم في هذه المرة صادقا لا يلوثه شك. أما أنا فأقول إن العلويين (النصيرية) يؤمنون بالتقمص كإخوانهم الدروز. ولست أطلع بهذا النبأ طلوع من يجهل. فلقد تحريت هذا الاعتقاد بنفسي بين إخواننا فألفيته موجوداً مستساغاً لا شك فيه ولا غبار عليه. وللعلويين في اعتقادهم هذا حكايات جميلة، ونكت حلوة لا بأس إذا نقلنا (للرسالة) شيئاً منها
قال لي أحدهم: ألا تعتقد يا أخي بالتقمص وقد أوجسنا من دلائله ما حملنا على الإيمان به أشد الإيمان وأقواه؟ قلت: ما هذه الدلائل؟ قال: اسمع، ولدٌ في قرية (كذا) يقصد امرأة مات زوجها عنها ويدعى أنه تحول إليه، يذكرها بعهود الصبا، وبأيام قضاها وإياها، ويحدثها بأسرارهما الزوجية السالفة، فتدهش لهذا وتعجب وتهبه من مالها الكثير وتؤمن أنه رجلها الراحل. قلت: هذا لا يكفيني. قال: إن كان لا بد فدونك:
لا شك أنك تعرف في القرية الأجير (فلاناً) وقد تدرك احترام معلمه له، وقد ترى حب أم معلمه له الحب الجم، وحياءها منه الحياء الكثير، ولا بد أنك لحظت في كفه آثار طلق ناري يظهر لك عتيقاً. قلت: وما تعني بهذا؟ قال:
أما الأجير فإنه أب للمعلم، وزوج لأمة، وهو يعاتبها لتزوجها بعد وفاته، إنه أكد أبوته العتيقة بآثار الطلق وبحوادث وأعمال صدقها بعض قدماء القرية، وقد جرت بينهم وبين الراحل أمثالها، ولو علمت أنه أتى عالم النور يوم مات أبو معلمه لصدقت بعض الشيء مما أقول
ذاك ما روى الرجل أثبته للتأكد من إيمانه بهذا المذهب، وهذا ما حدث لي معه. وقد روى بعضهم أن اعتناق التقمص إنما يثير عدم مبالاة بالحياة، وقد رأينا من العلويين الشيوخ شيئاً من هذا، وقد رأينا من بعضهم شجاعة ربما كان من جملة بواعثها - غير طبيعتهم الجبلية في سوريا - اعتقادهم بمذهب التقمص.
حماة (سوريا)
محسن شيشكلي
رسالة الشعر
الشعر
للأستاذ فخري أبو السعود
ألا يا صدى النفس قد بات حاكياً
…
تترجم عنها شجوها والأمانيا
تبوح بذكراها وتحكي شعورها
…
وتروي رُؤَاها صادقاً والمعانيا
وتكشف من أسرارها كل مبهم
…
خبيراً بأغوار السريرة داريا
لأنَت نديم النفس في صَبَوَاتها
…
وإِنْ عَنَّ خطب كنت أنت المواسيا
لها منك في الأشجان يا شعرُ مَفْزَعٌ
…
تُدافِعُ عنها اليأسَ بالبِشْرِ ماحيا
وأنت قرين البأس والمجد والعلى
…
وكم تلهِم العليا وتوِحي التساميا
وما أنت ألفاظٌ تُصاغ لباقةً
…
ولكنْ شعورُ النفس قد فاض طاميا
مَعِينٌ بنفْس المرء يجري ترقرُقاً
…
إذا حَسِبتَه غِيضَ جَرْجَرَ داويا
أهَاب به من حادث الدهر نازلٌ
…
فأقْبلَ دفَّاقاً يلبّي المناديا
وما كنتُ يوماً نَاظمَ الشعرِ إنما
…
غدوتُ له في صفحة الكون تاليا
أقلّب من ديوان ذا الكون صفحةً
…
تلي صفحةً أتلوه للناس راويا
صحائفُ ما تَبْلَى على الدهر جِدَّةً
…
وكم بات تَالوها عظاماً بواليا
صحائف حُسْنٍ قد عبدتُ صفاتهِ
…
وصورتُ منه في القصيد مَجَاليا
وأودعته آمالَ أَمسِ وَهَمَّه
…
وأيام حسْنٍ قد مضت ولياليا
إذا رُحتُ أَتلوها ما خططتُ رأيتُني
…
كأَنِّيَ أحيا ذلك العهد ثانيا
وما العيش إلا أنْ تَرَى فتنة الورى
…
وتودِعها من بعد ذاك القوافيا
فلا عشتُ إلا ناظراً متملّياً
…
أُهذِّبُ شعراً يَعرِضُ الكونَ حاليا
يصوّر حسنَ الأفْق بالشمس سافراً
…
ويرسم سحر البدر يغْشَى الدياجيا
وأَقدامَ طودٍ حفَّها الموجُ غاسلاً
…
وهاماتِ هضبٍ لَفَّها الغيم كاسيا
ويحكي ائتلاف النور والظل والشذا
…
ويحكي خُفَوقَ الغصن بالغيث ناديا
ويحكي خرير النهر يجري مُسَلْسَلاً
…
وألحان طير بات في الغصن شاديا
أميرُ الفُنُونِ الشعرُ جَمَّع شملها
…
وأَترعَ منهنَّ النفوس الصواديا
رَوَى كلَّ عينٍ ناقشاً ومصوراً
…
وكلَّ سَمَاع شادياً ومناجيا
وفيه مجالٌ للخيال وملعب
…
بهِ الفكرُ يُدني كلَّ ما كان نائيا
ويمضي مع الأحلام في كل مذهب
…
وترْمِي به شتى الطيوف المراميا
ويخلُق منها عالَماً بعد عالَم
…
مليئاً بأسباب المسرات حاليا
ويدفعه حبُّ البعيدِ فينثني
…
مع الريح يمضي أوْ إلى النجم راقيا
ويَصْدَع أَنيارَ الثرى وقيودَه
…
ويمْرَحُ في طلْق السمواتِ ساريا
ويمعن في ماضي الزمان مُجَوِّلاً
…
ويسبُر محجوباً من الغيب آتيا
ويجمع أطراف الحياة وتلتقي
…
على وِرْدِهِ الأجيالُ شتى تواليا
فخري أبو السعود
من الشعر الرمزي
تعالي. . .!
للأديب محمود السيد شعبان
تعالَيْ نشرب الكأس الَّ (م)
…
تِي عتَّقها الرَّبُّ. . .!
وأحْلاها لِكَيْ يصبو
…
إِليها الثَّغرُ والقلْبُ
كُؤُوس لَمْ تحرِّمْها
…
دِيانات ولا رُسْلُ!
إذَا طاشَ الحِجا يوماً
…
ففيها اللُّبُّ والعقْلُ!!
وفيها السِّحْرُ والإِلها
…
مُ والنَّشْوَةُ والحُبُّ!
تعالَيْ!. . . مالنا نشقَى
…
وفي إمكانِنا الوَصْلُ؟
خَيالٌ أنتِ في فكرِي
…
أُحيِّي فيهِ أحلاِمي. .
تعالَيْ! لا يُرَوِّعْكِ الْ
…
أَسَى يا بِنْتَ أوْهامي!
عشقتُ السِّحْرَ والأحلا
…
مَ والدنيا التي فيكِ!!
وما زال الهوَى بالشِّع
…
رِ والألحان يَبْنيكِ!
تعالَيْ! إنَّنِي صَدْيَا
…
نُ في بَيْدَاءِ ايَّامي
وثغرِي ظامئٌ يا ليْ
…
تَني أرْوِيهِ مِنْ فِيكِ!!
تعالَيْ أدفئِي صدرِي
…
وما يحوِي بأنفاسِكْ!
تعالَيْ زاوِجِي ما بيْ
…
نَ إحسَاسي وإحسَاسِكْ
تعالَيْ يا ابْنَةَ الآما
…
ل نقْضِ العمرَ لاهِينَا!!
وهيَّا ننْفُضِ الأشجا
…
ن يوماً مِن أيادينا
وَصُبِّي النورَ في كأسِي
…
وصُبِّي الوَجْدَ في كاسِكْ!
وَبُثِّي رائعَ الأحْلا
…
مِ حِيناً في أمَانِينَا. . .
تعالَيْ! رافقِي ذَاتِي
…
تعالَيْ! غازِلِي حِسِّي. . .!
تعالَيْ! أَسْقِكِ الأسْرا
…
رَ مِن دَنِّى ومِن كأسِي!
فما في الوَحْدَةِ الخرْسَا
…
ءِ ما تهْوَاهُ ألحانِي
وهذا الصَّمْتُ لا يرضا
…
هُ لي حُبِّي وتحْنانِي
أريدُك كَيْ أجاهدَ فِي
…
كِ عن طوْعي هوى نَفْسي!
فما لَكِ لا تُلبِّينِي
…
إذَا ما الطُّهْرُ لبَّانِي؟!
تعالَيْ! بَدِّدِي شجْوِي
…
تعالَيْ! جدَّدِي قلبي
فما يهنْيكِ أَنْ أحيا
…
على الدنيا بِلا حُبِّ!
وأَنْ تبقَى معي نفْسي
…
بِلا إلْفٍ يُوافيها!
وتحيا ما ترى في النا
…
سِ إنساناً يواسِيها!
دعينِي بالهوَى أشدو
…
إلى أَنْ يَنْقَضي نَحْبي. . .
لأمضِي غيرَ محزُونٍ
…
على الدنيا وما فيها!!
أرادَ الحسْنُ يا قلبي
…
لنا أَنْ نعشَقَ الدنيَا!
وشاء اللهُ إِذ أوْحَى
…
إلينا الشوقَ أَنْ نحيا!!
أخذْنَا الحبَّ والنجوَى
…
عن الأطيار تَلقِينَا. . .
وتامَتْنَا رُؤَى الدنيا
…
فكاد القبحُ يُصْبِينَا!!
فؤادِي! قد طوَى هذا الْ
…
هوى عنَّا الأسَى طَيَّا
فأَنشدْ رُوحِيَ السَّكْرى
…
نشيداً للمُحِبَّينَا!!
الفن الهندي
للدكتور أحمد موسى
العمارة
- 2 -
قلنا إن من أهم النماذج الفذة للعمارة الهندية مجموعة معابد إيللورا الصخري، لأنها شاملة لكلا الطرازين البوذي والبراهمي ومبنية على سفح الجبل الجرانيتي؛ فضلاً عن كونها جميلة التكوين رائعة النقوش والزخارف. واهم هذه المجموعة مما يمكننا تناوله بشيء من التنويه هنا معبد كايلاسا الذي نحت في الصخر ثم فصل منه فأصبح كأنه قائم بذاته، ويبلغ ارتفاعه ثلاثين مترا، وصحنه مقسم إلى خمسة أجنحة فصلت عن بعضها بقوائم، وحوائطه الخارجية مليئة بالمنحوتات التمثيلية بلغت كلها غاية الدقة؛ وعلى المدخل يوجد فيلان كبيران على اليمين واليسار؛ وهذا يذكرنا مع الفارق بما كنا نراه على مدخل المعابد المصرية كالمسلتين اللتين اعتاد المصريون إقامتهما عند مداخل معظم معابدهم
وأعقب ذلك الفن البنائي الهندي اتجاهاً جديداً في مرحلة أسماها مؤرخو الفن المرحلة البراهمية الحديثة، وأهم معابدها التي ساروا في تشييدها على نمط الطراز البوذي، لا من النحت في الصخر فقط، بل أيضاً من حيث الوضع التكويني والإنشائي بالذات، فضلاً عن تشييدهم المعابد قائمة بنفسها. أما من حيث الطراز الفني فقد اختلف الإجراء والاتجاه في شمال الهند عنه في جنوبها، وهذا مقبول بالنظر إلى بعد الشقة بين الشمال والجنوب وكانت صفة معابد الشمال أنها أقيمت مكعبة الشكل في مجموعها التكويني، قد توسطها صحن مربع أو ما يقرب من هذا الشكل، وتعلوه قبة مربعة الجوانب السفلى الملاصقة للحوائط ومنتهية في آخرها بالتقاء الخطوط الزّاويّة، فكانت بذلك أشبه بهرم مقوس الأضلاع
وقبل الوصول إلى الصحن وبالقرب من المدخل عملت ردهة تؤدي إليه على نفس الطراز. أما المظهر الخارجي العام للمعبد فكان كثير التعاريج والأضلاع المتشعبة وواجهاته مغطاة بالتماثيل وكلها من الحجر الرملي. ويوجد كثير من طراز هذه المعابد في
مقاطعة أوريسا في الشمال الشرقي
وقد توسعوا في التصميم الكلي للمعبد بإضافة مبان ملحقة به، لها قباب ينطبق عليها الوصف السابق؛ وأقيمت المعابد على هذا النحو في مقاطعة راجا أو راجبوتانا
وخير الأمثلة التي يمكنني أن أسوقها مما يستحق الإعجاب كثيراً معابد كاجوراو وتبلغ الأربعين عدّاً معظمها راجع إلى القرن العاشر بعد المسيح، وهي تعتبر بحق المثل الفنية للعمارة الهندية إجمالا، وتبلغ مساحة المعبد الواحد مساحة كتدرائية مسيحية، ولم يتركوا أي معبد دون شحنه بالزخارف والمنحوتات على واجهاته وبداخله
وتعتبر مجموعة معابد دجانيا (طريقة دينية معينة) من الدرجة الأولى في الفن الهندي. منها معبدان قائمان على قمة جبل أبو (ش3) يرجع تاريخهما إلى القرنين الحادي عشر والثاني عشر وهما مبنيان من الرخام الناصع، ويحيط بالصحن ستون حقلا حملت سقفها على أعمدة عديدة رائعة
أما المعابد الجنوبية فأبرزها دون نزاع أسموها الباجودا وهي عبارة عن مجموعة مبان متجاورة أحيطت بأربعة حوائط من جهاتها الأربع، وفي واحدة منها وجد المدخل (جوبورا) بتكوين ذي طراز نموذجي للفن الهندي أسفله بناء مربع وأعلاه سقف على هيئة هرم مدرج ناقص، أي أن قاعدته العليا مسطحة وقد بلغت درجاته الخمس عشرة. وفي داخل البناء ردهات وصالات ذات أعمدة خصص بعضها للحجاج (تشولتري)، ولميختلف المكان المقدس (فيمينا) في شكله الكلي عن النمط الذي ساروا عليه في إنشاء المدخل إلا أنه مربع الأرضية
وعلى ذلك تميزت المعابد الجنوبية عن الشمالية بهرمها المدرج وصالاتها وردهاتها ذات العمدة ومبانيها التي عملت من الآجر.
ولعلنا نسجل هنا أهم ما أقيم في المرحلة الزمنية المنحصرة بين القرن العاشر والقرن السابع عشر من روائع هذا الطراز، فباجودا تانجورا بمدخلها البالغ طوله 61 متراً وباجورا سرينينجام وطول واجهتها كيلو متر تقريباً، وباجودا شيللا بروم ومادورا كل هذه تجل عن الوصف، ولا تدع مجلا للشك بأن الفن الهندي - وإن كان الدرس المفصل به عسيراً بالنظر إلى الأطراف النائية لهذه البلاد - من أهم الفنون الشرقية التي يجب علينا
العناية بها والفات النظر إلى ما فيها من جمال وروعة
احمد موسى
البريد الأدبي
ترجمة جديدة لجان جاك روسو
كتبت حياة جان جاك روسو فيلسوف النفس والطبيعة مراراً وتكراراً؛ وحتى لم تحرم العربية من ترجمة لروسو وتحليل لنظرياته وكتبه بقلم الدكتور هيكل بك، ولكن الباحث في حياة روسو يجد فيها دائما من الجديد والطريف ما يشجع على استعراضها وتصويرها. وقد صدر أخيراً بالألمانية كتاب جديد عن حياة روسو عنوانه (الأحلام والدموع) ? بقلم الكاتب النمسوي هانز يوليوس فيلي تناول فيه حياة المفكر من ناحية جديدة هي ناحية العاطفة والمشاعر؛ وربما كانت هذه الناحية من حياة روسو هي أخصب وأدق ناحية في شخصية ذلك الذي أراد أن يصوغ الحياة طبقا للعاطفة والمشاعر الإنسانية. والواقع أنك إذا حاولت أن تحكم على شخصية روسو من أعماله وحوادث حياته فقط، فان مثل هذا الحكم لا يمكن أن يتفق مع خلال هذه العبقرية العظيمة، بل يتنافى مع كل ما فيها من الاضطرام والسمو؛ وإذا كان روسو هو ذلك الروح المضطرم الذي يرتفع بالفكرة الإنسانية إلى أسمى مواطنها، وإذا كان هو مؤسس المذهب (الرومانتيكي) وإذا كان قد نفذ بتأثيره الساحر إلى عبقريات مثل جيته وشلر، فإن في جوانب حياته الخاصة ما يلقي حجابا على عبقريته وسمو خلاله، فهو، وهو الذهن الحر، يأبى مدى ثلاثة وعشرين عاماً أن يسبغ على شريكة حياته وأخلص النساء إليه - تيريز ليفاسير - شرف الزوجية، ويقول لنا إنه تزوجها رغبة ودون إرادة؛ وهو المؤسس لمذهب جديد من التربية، يرغم زوجته على أن تبعث بأولادها الخمسة إلى ملجأ اللقطاء؛ وهو رجل النفس والعاطفة يطأ بقدميه أقدس وأعمق عواطف زوجه، وهو في جميع أعماله وتصرفاته ينم عن أثرة عميقة لا تتفق مع النظريات الإنسانية والأخلاقية السامية التي يبشر بها في كتبه؛ على أن مواطن الضعف الشخصي والشهوات الشخصية لا يمكن أن تكون مقياساً للحكم على عبقرية ما من نواحيها العامة، وقد كان روسو عبقرية لا شك في عظمتها، فيجب أن يحكم عليه من هذه الناحية العامة ليس غير
هذه الصور كلها يقدمها إلينا يوليوس فيلي بقوة وإفاضة، ويقف بنا طويلا عند حياة تيريز وشخصيتها الساذجة، إلى جانب حياة المفكر الأثرية، وهو يرى في تيريز شخصية إنسانية
تحمل على الاحترام والعطف، ويرى أنها كانت مثالاً للتضحية، وهو على العموم يصور لنا روسو رجل النفس والعاطفة قبل كل شيء
على مثال نوبل
رفع ألفرد نوبل المثري العظيم، بهبته الطائلة التي رصدت جوائز لأقطاب التفكير والسلام في أنحاء العالم، اسم أمته - السويد - إلى السماكين؛ وفي كل عام توزع جوائز نوبل العظيمة إلى مستحقيها بين آيات التقدير والإعجاب للمحسن العظيم. واليوم يتقدم مثر سويدي آخر هو المالي الكبير اكسل فنرجرين، ويوقف من ثروته الطائلة مبلغ ثلاثين مليوناً من الكرونات على الأعمال والمباحث العلمية، والجهود العقلية التي تفيد الإنسانية كلها بوجه عام. وقد نظمت هذه الهبة العلمية على مثل هبة كارينجي المشهورة، وسيبدأ تنفيذ ما فيها في حياة الواهب على يد مجلس مؤلف من الواهب وزوجته وخمسة آخرين من بين رجالات السويد المشهورين. وقد استطاع المحسن الجديد أن يحرز ثروته الطائلة كسلفه العظيم نوبل من بعض المخترعات الصناعية. وهو يعنى عناية خاصة بالمشاريع العلمية والفكرية؛ وقد اشترى أخيراً الجريدة السويدية المشهورة (نيا دا جلجت الهاندا)، ووقفها للدعوة إلى التفكير المستقل وإلى معاونة الحركة الفكرية وتشجيعها
وهكذا تنافس السويد أمريكا في رصد الهبات العلمية، وتحرز من هذه الناحية ظفراً بعد ظفر؛ وسيكون لهبة فنرجرين من الأثر المعنوي العظيم ما لهبة سلفه نوبل؛ وستكون دعامة جديدة في صرح التقدم العلمي والإنساني
إحياء النحو لإبراهيم مصطفى
جاء في مجلة الآداب الشرقية التي تصدر بالألمانية عن هذا الكتاب بقلم طاهر خميري ما يأتي: -
الكتاب يقتصر على معالجة إعراب الاسم في العربية جاعلاً هدفه إبدال القواعد الكثيرة المبنية على نظرية العامل بأخرى أقل منها عدداً وتقوم على أساس من طبيعة اللغة (ص 195)
والمؤلف إذ أغضينا عن استثناء واحد (ص 43) يستعين بمصادر عربية فقط
وأساس الفكرة أن الضمة علم المسند إليه والكسرة علم الإضافة بينما الفتحة لا تدل عل شيء بل الحركة الخفيفة التي تهرع إليها اللغة مادام الأمر لا يدور حول إسناد أو إضافة (ص 50). أما تفاصيل هذه النظرية فيناقشها المؤلف في صورة واضحة ملزمة وإن لم تكن كل أجزائها في نسق واحد من الإقناع
فالمؤلف مثلا - على حق كل الحق إذ يتخذ من إغفال علامة النصب في كل من جمعي المذكر والمؤنث السالمين (ص 111) مؤيداً لنظريته السالفة وإن كان الطريق مفتوحاً أمام احتمالات أخرى؛ ولكن ليس كذلك حكمه بأن اسم إن كان ينبغي له حقاً أن يرفع لولا أن النحاة ضلوا في هذه النقطة (ص 64)، هذا الحكم الذي يبنيه على مستثنيات قليلة يحوم حولها الريب وعلى نظائر لا صلة لها بما نحن فيه
كذلك كان المنتظر أن كل بحث حول علامة النصب يتخذ له من المفعول به نقطة ارتكاز ولكن مما يلفت النظر أن المؤلف أعرض عن ذلك إعراضاً تاماً
ومما يدعو إلى السرور أن باب الاجتهاد في النحو العربي قد فتح أخيراً على يد مؤلف عكف على موضوعه سبع سنين صدق فيها الاعتكاف (أنظر المقدمة) يحدوه الأمل في أن يشيد بناء النحو العربي من جديد، ولهذا لا يسعنا إلا أن نتجه إليه شاكرين
هذا ولما كان المؤلف يعتزم إخراج جزء آخر في الفعل وقد أكد هذا العزم فصرح بأن عنده مبادئه وتخطيطاته كاملة، كان لنا ألا نسد الطريق أمام كلمة أخيرة
وإنه من الضروري الذي لا مفر منه في عمل من هذا القبيل ألا يغفل عن متابعة الخطوات الأخيرة في مباحث علم اللغة العام فان هذا - مثلا - كان حرياً بلا شك أن يحفظ من زلل كثيرة في استنباط نتائج قد يؤدي إليها كون تغير المعنى بمساعدة الحركات من خصائص اللغة العربية (ص 45) اهـ
عقد مؤتمر عالمي في القاهرة للبحث في مسائل الشريعة
الإسلامية
كانت الجامعة الأزهرية قد اشتركت في مؤتمر تاريخ الأديان الذي عقد أخيراً في مدينة لاهاي، وقد رفع المندوبون الأزهريون إلى فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر
تقريراً ضافياً ضمنوه المناقشات والقرارات التي اتخذها المؤتمرون فيما يتعلق بالبحوث الإسلامية التي تقدمت إلى المؤتمر
وقد عني فضيلة الأستاذ الأكبر بدراسة هذا التقرير، واجتمع مراراً بحضرات المندوبين الأزهريين وكان معهم الأستاذ عبد الرزاق السنهوري بك عميد كلية الحقوق ومندوب الجامعة المصرية في هذا المؤتمر. وعلى أثر هذه الاجتماعات اتصل فضيلة الأستاذ الأكبر بالدوائر الرسمية المختصة وتحدث معها فيما كسبت من النتائج العملية في هذا المؤتمر وما أفادته الجامعتان المصرية والأزهرية من الاشتراك فيه.
وقد علمنا أن الآراء انتهت إلى أن في الشريعة الإسلامية من مسائل التشريع الجنائي والمدني والتجاري ما يصح أن يؤلف قواعد ذات صبغة قانونية يمكن الأخذ بها في مختلف التشريعات الحديثة كالوقف والوصية والميراث وشروط البيع والشراء والإيجار إلى غير ذلك من مختلف المسائل الشرعية ذات الصفة العامة
ثم رؤي أن كثيراً من التشريعات الحديثة اقتبست أحكام بعض هذه المسائل وجعلتها جزءاً من القانون العام، وان من الإنصاف أن نسمع آراء علماء القانون في هذه المسائل حتى يمكن تمحيصها وتكون ملائمة لروح هذا العصر
لذلك استقرت الآراء على عقد مؤتمر عام في مدينة القاهرة يدعى إليه مندوبو الجامعات والهيئات العلمية في العالم لتعرض عليه هذه المسائل للبحث فيها ولتقرير صلاحيتها لتكون أساساً ومصدراً في التشريع الحديث
وقد تقرر أن تقوم مشيخة الأزهر بالاشتراك مع الجامعة المصرية بالدعوة إلى هذا المؤتمر، وجرت بحوث في كيفية تأليف اللجنة التحضيرية التي تبحث هذا الموضوع وتحدد الموضوعات الإسلامية التي تعرض على المؤتمر وتعين الزمان والمكان لانعقاده. وقد انتهت هذه البحوث إلى أن تؤلف هذه اللجنة من بعض علماء الأزهر وبعض رجال القضاء الشرعي ورجال القانون وستنظم هذه لدعوة جميع البلدان الإسلامية
تعديل التقويم الغريغوري
طلبت سكرتيرية لجنة المواصلات في عصبة الأمم إلى الحكومة المصرية موافاتها برأيها فيما يتعلق بالتقويم الغريغوري واقتراح تعديله
وقد رأت وزارة المعارف أن تساهم في هذا الأمر مساهمة جدية فأحيل الموضوع إلى أحد كبار موظفيها المبرزين في المسائل التاريخية لبحثه ووضع تقرير عنه
ونذكر في هذا المقام أن في أوربا وأمريكا هيئتين علميتين تسعيان لتعديل التقويم الجريجوري وتبذلان الجهد لدى لجنة المواصلات والمرور بالعصبة لتحقيق أغراضهما وغايتاهما. وقد رأت هذه اللجنة أن الموضوع خطير لاتصاله بحياة الشعوب والأفراد جميعاً، فوجهت الدعوة إلى الأمم الممثلة في العصبة وغير الممثلة، فتألفت من مختلف الممالك والأقطار هيئات محلية ولجان أهلية لدراسة هذا الموضوع واقتراح الوسائل التي يمكن أن ينفذ بمقتضاها؛ حتى إذا ما استجمعت اللجنة الآراء والمقترحات في أنحاء العالم، تقدمت إلى العصبة لدراسة الموضوع جملة في اجتماعها
وقد لخصت لجنة المواصلات الفكرتين الأوليين اللتين تشير بهما هاتان الهيأتان العلميتان في أوربا وأمريكا
فالاقتراح الأول يرمي إلى جعل عدد شهور السنة 12 شهراً ويوماً واحداً في السنين البسيطة ويومين في السنين الكبيسة. وأن يسمى اليوم الأول (يوم السنة) ويكون عقب شهر ديسمبر، ثم يسمى اليوم الثاني (اليوم الكبيس) ويكون عقب شهر يونيو
ومن خصائص هذا الاقتراح أن يجعل الشهر 31 يوماً ليناير وأبريل ويوليو وأكتوبر، و30 يوماً في الشهور الأخرى. وبذلك يكون مجموع شهور السنة الاثني عشر هو 364 يوماً. ومن مزاياه أيضاً أن تبدأ السنة بيوم (أحد) وأن تبدأ شهور يناير وأبريل ويوليو وأكتوبر بيوم (الأحد) وشهور فبراير ومايو وأغسطس ونوفمبر دائماً بيوم (أربعاء)، وشهور مارس ويونيو وسبتمبر وديسمبر بيوم (جمعة)
أما الاقتراح الثاني فيرمي إلى جعل السنة 13 شهراً وأن يكون عدد أيام الشهر 28 يوماً، على أن يضم إليها يوم واحد في السنين البسيطة وفق الاقتراح المتقدم. أما الشهر الثالث عشر فيكون موقعه عقب شهر يونيو ويسمى (الشهر الوحيد)
ومن مزايا هذا الاقتراح أن يجعل الشهور متساوية في عدد الأيام والأسابيع وأن يجعلها جميعاً مبتدئة بيوم واحد هو يوم (الأحد). ويذهب أصحاب هذا الاقتراح إلى أن فوائده كثيرة متعددة من النواحي الزراعية والمالية والاقتصادية والحسابية والتعليمية وهي تلخص
فيما يلي:
1 -
جعل كل شهور السنة متساوية الأيام، ويجعل الأيام ثابتة لا تتغير، وبهذا يمكن معرفة تاريخ أي يوم إذا عرف موضعه في أي أسبوع من أسابيع الشهر، وكذلك يمكن معرفة اسم اليوم إذا عرف تاريخه
2 -
توحيد الأيام، فيسهل تنظيم الأعمال الخاصة والعامة، كصرف الأجور ومعرفة أيام الأسواق والمواسم والأعياد والإجازات وافتتاح الدراسة وانتهاؤها. الخ
3 -
تقسيم الشهر إلى أربعة أسابيع متساوية، فيسهل تطابق الحسابات الأسبوعية والحسابات الشهرية، ويرتفع الخطأ الذي ينشأ عادة من اختلاف الشهر وأسابيعه
4 -
تسهيل مقارنة الإيراد والمنصرف في كل شهر في الشئون التجارية والمالية والمنزلية
5 -
لما كانت أجزاء الأسابيع تلغي وفق هذا النظام، فإنه يسهل وضع الإحصاءات، إذ يعطي مقياساً ثابتاً لإيرادات الحكومة وصادراتها ووارداتها
هذا هو تلخيص الاقتراحين. وستبدأ الوزارة في دراستهما ولما كان هذا الموضوع لا يعني الحكومات وحدها، بل يتصل بحياة الهيئات والجماعات والأفراد فإن الوزارة ترحب بكل ما يبدي من الرأي في هذا الموضوع
إلى صديقي الأستاذ علي الطنطاوي
تتعب نفسك يا صديقي وتتعب المنطق معك إذا حاولت أن تجادل من يفهم أن ما ينشر في (الرسالة) بغير إمضاء يجب أن يكون لرئيس تحريرها، ثم يعين الاسم على هذا الفهم، ويقيم المناقشة على هذا الأساس. ومن بدائه الصحافة كما تعلم أن ما ينشر في الصحيفة من غير إمضاء إنما ينسب إليها لا إلى شخص بعينه؛ ورئيس التحرير مسئول، ولكن مسئوليته ليس معناها في اللغة ولا في الاصطلاح أنه يكتب ما لا يمضيه غيره. فأعف قلمك يا صديقي من مثل هذا الجدل، وأجره بما عودت قراءك المعجبين بك من ملهمات الحق والخير والجمال
الزيات
من أساطير الإغريق
يوم القيامة. . . أو طيش فيتون
للأستاذ دريني خشبة
عاد الفتى الساذج فيتون إلى أمه الحسناء الهيفاء كليمين، بعينين مغرورقتين، ونفس مكلومة، وفؤاد خافق متصدع، فجرى بينهما هذا الحديث:
- مالك يا حبيبي! لماذا تبكي؟
-. . .؟. . .
- لا. لا. . . فيتون يبكي؟ هذا عجيب! أيكون أبوك أبوللو وتبكي؟!
- أبوللو أبي؟ كذب، كذب!
- كذب؟ وكيف يا فيتون! أمك كذابة؟
- لا. لا. عفواً يا أماه! أنت لا تكذبين، ولكن ربما يكون كلامك سخرية بي!
- ولم أسخر بك يا بني؟
- الأولاد في المدرسة يغمزونني في أبي، وكلما حلفت لهم أن أبى أبوللو ضحكوا!
- دعهم يضحكوا يا فيتون. ماذا يضيرك؟
- يضيرني أنني لم يعد لي وجه أريق ماءه بينهم، لابد إذا كان أبوللو أبي أن ألقاه
- تلقى أبوللو؟
- ولم لا؟ أليس الأبناء يلقون آباءهم؟ فلم لا ألقى أبي؟ أأنا بدع من الناس؟
- لست بدعا، ولكن أبوللو في بلاد بعيدة. . . إنه في الهند!
- ولم لا أذهب إلى الهند لأرى أبي؟ صفى لي الطريق بحق الآلهة عليك يا أماه
- أذهب إلى الأرض التي تشرق من أفقها ذُكاء. فهناك ترى أباك
وذهب إلى الهند التي تقع في مشرق الشمس مباشرة؛ وكان عند شاطئ المحيط قصر باذخ منيف، لا يبلغ البصر مداه، ولا يدرك الطرف أوله ولا آخره. . . وكان مع ذاك قائماً على عماد رفيعة من ذهب ركبت فيها ماسات كبيرة ذات سناء وذات لآلاء. وكان سقفه العظيم المطعم بالعاج المصقول يلمع، ويكاد سناه يذهب بالأبصار؛ أما أبوابه فصيغت من الفضة الخالصة ونقشت فيها أبهى الرسوم؛ وافتنّ فلكان فصور فوق الجدران بالرسم البارز
الأرض والبحر والسماء بما فيها من قُطّان؛ فأقام في الأرض غابها وأدغالها ومدنها وأنهارها وجبالها ووديانها. . . حتى آلهتها. وأبرز في البحر عرائسه المائسات الفاتنات، فجعل منهن سابحات يتواثبن فوق الموج، وجالسات على النؤي يمشطن شعورهن الداكنة التي تحكي خضرة البحر، وراكبات على ظهور السمك وحيوان الماء يتلاعبن ويتضاحكن. . . وجعلهن ذوات صور متشابهات وغير متشابهات، دليلاً على حذقه وجليل قدرته؛ وجعل فوق هذا كله صورة السماء بكل بروجها الإثني عشر، بحيث جعل منها ستة إلى اليمين، ومثلها إلى اليسار. . . خَلْقَ فلكان، ومن أحسن من فلكان خلقا؟!
وهكذا كان قصر الشمس آية من آيات الفن عجبا، ومع هذه الأبهة البالغة والعظمة الأخاذة، فقد تقدم فيتون غير هياب، ودخل في غير وجل، وكان يلمح اللمحة من الرسوم الجميلة والتصاوير الساحرة، ثم يسلك في سبيله قدما حتى كان في البهو الأعظم الذي يستوي في صدره أبوه، على عرش ممرد ناصع، تنعكس منه أضواء لامعة خاطفة، تبهر النظر، وتُخَسّي الأبصار. وسار الفتى مسافة قليلة، ثم وقف مكانه عَشِيّاً من شدة الخطف والإيماض، ولم يدر أيان يذهب؛ وكان أبوه متشحاً بوشاح فضفاض أرجواني، وعن يمينه وعن يساره وقفت الأيام والشهور والسنون، ثم الساعات في صفوف منظومة متلاحقة؛ ثم وقف الربيع - وتمثله هنا امرأة - وفوق رأسه إكليل جميل من الغار والزهر؛ ومن بعده وقف الصيف، وقد نضا جيب قميصه عن صدره، وقبض على حزمة من سنابل القمح الناضجة بيمينه؛ ثم همَّ الخريف متهالكاً على نفسه، وعلى قدميه أثارات من عصير العنب. . . أما الشتاء بدأ شيخاً وقوراً جلل الشيب رأسه، وتراكم الثلج والبرد على شعره الناصع
وقد لمح أبوللو ولده فيتون حيث سمر مكانه، وقد خطفت الأضواء بصره، وأخذه المنظر العجيب الذي سحره عن نفسه، فيهتف به ويباركه ويقول:
- فيتون! فيم قدمت يا بني! لأمر ذي بال، ليس من ذاك بد؟
- أوه! يا نور السموات والأرض يا فوبوس: يا أبي إن أذنت لي أن أناديك بهذا النداء! إن كنت حقاً ابنك فزودني ببرهان أقدمه للناس حين أقول إني أنا ابن أبوللو
- برهان؟
- اجل، هب لي من لدنك برهاناً يثبت أبوتك لي، فلقد استهزأ بي التلاميذ، وفضحوني في
بنوتي لك. لابد من دليل، هل تسمع؟ لا بد من دليل!
- لا عليك يا بني! لك ما أردت. على أنه كان ينبغي أن تصدق كل ما قالت لك أمك؛ وأنا من جهتي لست أنكرك، فأنت ابني وأنا والدك، والآن سل ما شئت فأني مانحك أيّاً ما تريد
- صحيح يا أبي؟
- أولا تصدق ما أقول؟
- بلى، ولكن ليطمئن قلبي!
- صحيح يا بني، وأقسم لك بهذه البحيرة المقدسة التي يحلف بها الآلهة
فيلتفت فيتون حوله ليرى البحيرة، ولكنه لا يجد لها أثراً
- وأين هي تلك البحيرة يا أبتاه!
- ولد ظريف يا فيتون! أنا ما رأيتها قط، ولكنا نحلف بها في كل أمر جلل يا بُني!
- إذن هب أن أسوق محفة الشمس يوماً واحداً بدلاً منك
- وي! فيتون! أي طلب هذا؟
- لابد!
- محال يا ولدي! أنت حدث، ثم أنت بشري من بني الموتى! سل ملء الأرض ذهباً أمنحك ما تريد!
- كلا، كلا. . . لابد أن أسوق محفة الشمس من المشرق إلى المغرب ليراني سفهاء التلاميذ، وليتأكدوا أنني ابن أبوللو!!
- إنها ستحرقك وتحرق التلاميذ إخوانك قبل أن يروك!
- لا. . . لن تحرقني، أنت قادر على أن تجعلني أحتمل كل شيء! ألَسْتَ إلهاً!
- بلى، ولكن. . .
- لكن ماذا؟ لابد، محال أن أسألك شيئاً آخر!
- يا بني إن ليس في طوقك، إنك ضعيف صغير، والعمل الذي تطلب أن تتولاه شاق حتى على الآلهة، إني أقوم به والرعب يملأ قلبي، وأنا من أنا يا فيتون. . . إن سيد الأولمب نفسه الإله الأكبر، جوف، جل سناؤه، وتقدست أسماؤه، لا يستطيع أن يسوق عربتي الملتهبة ذات اللظى يوماً أو بعض يوم، فما بالك أنت؟ إن الثلث الأول من الطريق صعب
المرتقى لأنه يميل قليلا قليلا عن خط العمود؛ وخيلي ترقى مزالفه في صعوبة ليس بعدها صعوبة؛ والثلث الثاني عال شديد العلو، لأنه يرتفع فوق قمة العالم، حتى لأجزع أنا نفسي من أن أنظر إلى أسفل تقية للدوار يأخذ في رأسي حين أرى إلى البحر المتمرد والبطاح الشاسعة والجبال الشم تزدلف من تحتي؛ أما الثلث الأخير فحدور شاق كمهاوي الجبل إذا وقفت عليه فوق شَعَفَتِهِ، ولذا فهو يقتضي الحذر وَحصْر البصر؛ حتى إن تأثير الواقف في نهايته ليتلقاني، يرتعد من الخوف عليّ، والرثاء لي، خشية أن أتردى في هاوية اللانهاية. هذا، ولا تنس السماء التي تجري فوقي لمستقر لها، بكل ما فيها من كواكب وأجرام، فإذا غفلت لحظة، أو أخطأت قيادة العربة، جرفتني في دورتها إلى حيث لا أعلم أين تذهب أو تستقر بي. ثم تدبر معي قليلا يا فيتون، إذا أنا سمحت لك بقيادة العربة، فماذا يصيبك من الهلع حين تنظر إلى السُّفل فترى الأرض تلف، والسباع تهمهم في الأدغال، والناس يكظون المدن، والآلهة تطل من قصور الأثير، والأشباح تسري حواليك كالسمادير؟ ماذا من الروع يعتريك يا ولدي؟ هل تستطيع أن تكبح جماح الخيل أو حتى تملك ألاّ يفلت العنان منك؟ إنك ستمر بين قرني الثور أمام الحوت، وعلى مقربة فكي العقرب وذراعي السرطان. . يا بني! هل تستطيع أن تقود الخيل التي تنفث اللهب من مناخرها وأفواهها وسط هذه الدُّنى الدائبة؟ اختر لنفسك يا بني ولا تجعل الناس يقولون أهلكه أبوه)
وتشبث فيتون وركب رأسه، ولم يشأ أن ينكل قيد شعرة؛ فلم يسع أبوللو أن ينطلق به حيث عربة الشمس! العربة العظيمة المطهمة، المصنوعة كلها من الذهب الخالص، وقليل من الفضة المزركشة بالآلي والجوهر، وأحجار الماس التي تعكس أشعة الشمس جميعاً فتضاعف أضواءها، وتزيد كثيراً في لآلائها
وتقدمت ربة الفجر ففتحت أبواب المشرق، ونضرت بالورد طريق أبوللو؟ ثم أخذت النجوم تثب كالحمائم قِبَلَ المغرب وفي أثرها نجمة الصبح فريدة كأنها الورقاء
وتلفتت أبوللو إلى الساعات المنتشرة عن جانبيه، فأمرهن أن يسرجن الخيل، فأطعن، وقصدن إلى إسطبل الكبير حيث وجدن الخيل قد التهمت كفايتها من العلف المقدس، فوضعن في أفواهها اللجم، وأسرجتها بكامل عدتها
وتناول أبوللو وجه ولده فنصحه بطيوب إلهية، وضمخه بدهن كريم، ثم قطر في عينيه
قطرات من ماء أولمب، كي يقوى الفتى على تحمل الحرارة الفائقة، والصبر لضوء الشمس القوي؛ ثم وضع على رأسه الصغير هالة النور الربانية، وأشار إليه فاستوى على العربة العظمى التي تجر الشمس، فتنير أقطار السموات والأرض، وقال يوصيه:
- (أي بني! ها قد استويت على عربة أبيك التي ما قادها من قبل أحد غيره، ولا يقدر عليها أحد سواه! أي بني فاشدد إليك أعنة الخيل، وتجنب أن تلهبها بهذا السوط، فهي قد مرنت على الطريق وهي لا تبطئ حتى تحتاج إلى أن تساط. أي بني ولا تنحرف عن شمالك أبداً، وظل منتهجاً سبيل الاستواء الذي هو الدائرة الوسطى من الدوائر الخمس؛ وأحذر أن تعلو إلى الدائرة العليا أو أن تسفل إلى الدائرة السفلى؛ وسترى أثار رحلاتي من قبل، فسر على دربها تصل إن شاء الله. أي بني ولا ترتق معارج السموات فتصيب مساكن الآلهة، ولا تهو قريباً من الأرض فتجعل كل ما فيها جرزاً، بل خذ الطرق الوسطى أبداً، فإن خير الأمور أوساطها. . . فإذا أفلتت الأزمة من يديك، فظل حيث أنت، ولا تذهب مذاهب شتى في رحب السماء. وسأتولى أنا بعد ذلك إنارة الأرض والسموات. أي بني وما دمت قد اخترت لنفسك برغمي، فلا أقل أن تعي نصيحتي والسلام عليك)
ورد فيتون على أبيه السلام. . . وانطلق من أبواب المشرق وطفقت الخيل الصافنات تنفث اللظى فتموه السحب بالذهب، وتسابق أنفاس النسيم التي تهب هي الأخرى رخاءً من أبواب المشرق
وعجبت الخيل بعد شوط قصير من هذا الحمل الخفيف الذي لا عهد لها به؛ وعجبت أكثر حين أحست بالعربة تتأرجح خلفها كالزورق الذي ليس له صُبرَةٌ تثبت به في مهب الأعاصير
وجمحت الخيل. . . وانطلقت في غير طريقها المعهود. . . ولأول مرة ارتفعت حتى كادت تتلمس الدبين الأكبر والأصغر، فثار ثائرهما من لفح الحر؛ ولأول مرة كذلك تحرك الثعبان المنحوى فوق نجم الشمال حين أحس الدفء فنفث سمه الذعاف، وفرت من طريقه الكواكب. . . ونظر فيتون تحته، فرى الأرض تلف كالخذروف فريع قلبه، وزلزلت نفسه، وسقطت من يديه أعنة الخيل فجرت به في السفل حتى اقتربت من الأرض. . . ونظر وراءه. . فرأى أنه لم يقطع من الثلث الأول إلا أقله؛ ثم نظر أمامه فوجد أكثر الطريق
وأوعره، فزادت حيرته واسقط في يديه، وترك كل شيء للقضاء والقدر. . . وضاعف ربكته نسيانه أسماء الجياد. . . وحدث أن ارتفعت هذه فجأة. حتى كانت قاب قوسين من فكي العقرب، ذلك الهولة المخيف الذي أوشك يبتلع العربة بمن فيها. . وشدهت ديانا ربة القمر حين رأت عربة أخيها تتخبط في الآفاق، وتصطدم بالكواكب، فتحدث الشهب، وتحرق العوالم السماوية:(ترى ماذا أصاب أبوللو؟ مسكين! لا بد انه نام. على كل حال سيستيقظ!) ولكن العربة هبطت فجأة حتى صارت في سماء الأرض، وحتى صارت الأرض منها على مدى رمية سهم. . . فما هي إلا لحظات حتى شبت الحرائق في كل الأرجاء. . . هاهي ذي الغابات العظيمة تشتعل. . . وهاهي ذي ألسن النيران ترقص في كل فج. . . وهاهي ذي الوحوش تجري هنا وهناك ثم تسقط في كل البقاع. . . والمدن! المدن العامرة الآهلة. . . إنها تحترق بمن فيها من شيوخ ضعفاء ونساء وولدان. . . أما الشباب! فوا أسفاه على الشباب! إنهم يجرون كالجان إلى البحار والمحيطات والأنهار والينابيع! وهاهم أولاء يقذفون بنفوسهم فيها. . . ولكن! وا أسفاه! إن مياه البحار والمحيطات والأنهار والينابيع تغلي وتفور، ويعب عبابها بالحمم، فالشباب يستجيرون فيها من الرمضاء بالنار! لقد بادت أمم بتمامها، واختبأت أمم في الغيران والكهوف وشقوق الأرض والجبال. . أما الطيور فقد خربت أوكارها ووكناتها، ولم يسلم منها إلا ما لاذ بأفحوص أو أدحى. . . ومسكينات عرائس البحار! لقد شحبت ألوانهن، وذوي جمالهن وغُصْنَ في الأعماق مع السمك يلتمسن الماء البارد، ولجأت أسراب منهن إلى البحار الجنوبية، وآثرن أن يعاشرن البنجوين.! أما قمم الجبال العالية التي ظلت منذ الأزل مجللة بركام الثلج، فقد خلت حللها الناصعة، وحلت عمائمها المخملية، وصارت تلتهب. . . فهذه طوروس الشماء، وتلك القوقاز العاتية، وهاتيك الألب المزهوة. . . كلها تهب. . . كلها تقذف بالحمم. . . حتى أولمب مثوى الآلهة، لقد غدا كومة عالية جداً من النار.
ولقد كانت الصحراء اللولبية فراديس يانعة ولكن فيتون المجنون حولها إلى رمال وكثبان، ولولا أن أدخل النيل رأسه في كثيب مهيل منها لجف ماؤه، وتبخر في السماء كله، ليجري في كوكب آخر! وهكذا فعل الفرات وأخوه، وكذاك صنع الكنج والسند. . . فشكراً لكل الأنهار التي ضنت بنفسها من أجل سعادة البقية الباقية من النوع البشري!
يا له يوم قيامة؟! لقد ضجت الآلهة في الأرض، وكلما حاول نبتيون الجبار إله البحار أن يخرج رأسه من اليم ليجأر بالشكوى إلى أخيه كبير الآلهة، خاف وذعر أن تحرقه الشمس الهوجاء التي يسوق عربتها فيتون. . ولولا أن جازفت أمنا الأرض فبرزت من المحيطات وهتفت بجوف العظيم، لأصاب من بقي العذاب الأليم. . . لقد قالت له:(يا جوف العلى؟ يا رب الأرباب! إصغ إلي، واستجب لدعائي! ما هذا الذي نامت عيناك عنه فذهب بزرعي وضرعي؟ أهذا جزاء خصوبتي وما تهب عبادك من حَبّ وأبٍ وعنبٍ وقضبٍ وحدائق غُلب؟! أهكذا تكون عاقبة إخلاصي في مكافأة عبادك الذين يقيمون لك الهياكل ويبنون باسمك الصوامع والمعابد؟ ماذا من القرابين يا رب الأرباب يذبح باسمك بعد أن يهلك كل ما عليَّ من قطعان وأسراب ورعال؟ ثم هذه العوالم التي ما أنشأتها إلا بعد عناء وجهد! كيف تدع هذه الشمس الرعناء تأتي عليها جميعاً، وتصير كل شيء في ملكك إلى هيولي؟ استيقظ يا جوف واستمع، وأدركنا بلطفك هذه الساعة التي نحن فيها أشد ما نكون في حاجة إليك. آمين!)
وهب جوف من سباته العميق على جؤار ربة الأرض؛ وأبصر فرأى ما حل بالعالم الجميل من تدمير ووبال. . . فألم وتصدع. . . ونظر إلى عربة الشمس ينتفض فوقها غلام يافع عرف فيما بعد أنه فيتون بن أبوللو فهاج وماج، واخذ صاعقة من أكبر صواعقه وأقتلها، ثم أحكم تسديدها إلى الراكب المجنون. . وأرسلها تقصف وتعزف. . . وتهز الأفلاك. . . فأصماه وأرداه!!
وسقط الغلام الأحيمق من عُلْوِ العالم يتقلب في نهر إريدانوس المتدفق في سهول إيطاليا. . . حيث مات. . . واستراحت الدنيا كلها منه! وعادت الشمس إلى ربها. . . أبوللو المسكين. . . فهو يجري بها إلى اليوم لمستقر لها!!
أما كليمين البائسة، فهي إلى اليوم تبكي ولدها. . . وقد بكته معها أخواتها، وكن في كل صباح يذهبن إلى النهر الذي سقط فيه فيسكبن دموعهن، حتى رثت لهن الآلهة، فسحرتهن إلى أيكات ثلاث من شجر الحور، فهن حانيات على النهر منذ ذلك اليوم حنو المرضعات على الفطيم
وكلما سكبن دموعهن حارت إلى كهرمان كريم
وحزن سيكنوس، صديق فيتون، على خدن صباه، فجمع رفاته وبنى لها قبراً من الرخام تظله الشجرات
دريني خشبة