الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 224
- بتاريخ: 18 - 10 - 1937
الحرب
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كان الذي يقول - قبل بضع سنوات - إن الحرب واقعة وأن العالم مقذوف به في جحيمها لا محالة، يعد من المنجمين الذين يُقرأ كلامهم للتسلية ولا يحمل على محمل واحد من محامل الجد؛ أما الآن فإن الحرب على كل لسان وفي كل ذهن وإن كانت كل دولة تقول وتؤكد إنها لا تريدها ولا تسعى لها وأنها تحاول أن تتقيها جهدها. والحق أن المرء لا يكاد يصدق أن دولة ما - مهما بلغ من وفاء عدتها - تقدم على إضرام نار الحرب في الدنيا وتعرض المدينة للبوار، وكيان العالم للتقوض والانهيار. وهي شرارة واحدة تطير فإذا الدنيا كلها براكين تقذف بالحمم فقد مضى الزمن الذي كان يسع أمتين فيه أن تتقاتلا ما شاءتا، وبقية الأمم وادعة ساكنة وآمنة مطمئنة لا تكاد تعني بما يجري في ساحة الحرب، وصرنا إلى زمن كل ما يحدث فيه له رجعة وصداه في كل زاوية وركن من هذه المعمورة. ولا أمل في هجوم مختلس وزحف سريع فإذا النصر قد خرجت به أمة والهزيمة قد بائت بها أخرى. ولم تعد الحرب قتالاً بين جيش وجيش بمنعزل عن الأمم والشعوب بل أصبحت تدور بين الأمم نفسها بكل ما تمتلك من وسائل التدمير والتخريب ومعدات الدفع والتوقي، وليس الذي يصيب غير المحاربين من البلاء والنكبات والتقتيل دون الذي يصيب الذين هم في الصفوف. ولا فرق في الحقيقة - أو لم يبق ثم فرق - بين مجند يحمل سلاحه ويسير إلى حيث يؤمر، وآخر يقيم في بيته بين أهله وأبنائه ويذهب إلى عمله الذي يكسب منه رزقه؛ وقد يكون الجندي أحسن حالاً لأنه يجد على الأقل من يعني بتدبير وسائل الوقاية له وتوفير الطعام والشراب وتمكينه من الراحة على قدر المستطاع، أما أهل المدن والقرى من شيوخ ونساء وأطفال وغير هؤلاء وأولئك ممن لا يؤخذون للحرب فيفاجئون في أية ساعة من ساعات الليل أو النهار بالتخريب والتدمير والتقتيل من غير أن تكون لهم أمثال الوسائل المتوفرة للجندي الذي في الصف للدفاع والهجوم، ومقابلة كل طارئ بما يستدعيه.
نقول إن المرء يصعب عليه أن يصدق أن دولة تجازف بالإقدام على الحرب واحتمال تبعة إضرامها في العالم لأن أهوالها أفظع من أن تسمح بهذا التصديق، ولأن النصر فيها
كالهزيمة من حيث الخراب الذي يحل بالفريقين المحتربين، ولأنها لا بد أن تطول حتى تستنزف القوى جميعاً بعد أن أصبحت جهاداً بين شعوب لا مجرد اعتراك بين جيوش؛ حتى النساء صرن يجندن أو يدربن على أعمال الجنود، أو يستخدمن على الأقل في المصانع والمستشفيات من ثابتة ومتنقلة وفي سوق السيارات وغير ذلك مما يسهل أن يقمن به وهن بعيدات عن الصفوف الأولى للمحاربين
ولكن الأمم على الرغم من هول الحرب تبدو ماضية إليها بسرعة، ولا تكاد تلوح بارقة من الأمل في اتقائها واجتناب كارثتها الشنيعة، فكل دولة تكدس السلاح والذخيرة وتحث المصانع على العمل المتواصل، وكل مجهود موجه إلى استيفاء الأهبة في كل باب ولكل احتمال. والشعور بالاستعداد - أي بالقوة - يغري بالتهور كما يمكن أن يصد عنه، فالذين يقولون إن أحسن وسيلة لمنع الحرب هي الاستعداد لها مصيبون ومخطئون في آن معا. فما من شك في أن علم الدولة التي تحدثها نفسها بالحرب أن غيرها مثلها استعداداً لمقابلة الشر بمثله، خليق أن يبعثها على التردد الطويل والحساب الدقيق للعواقب، ومتى بدأ الحساب فالأحجام مرجح لأن المفاجأة الحاسمة مستحيلة في هذا الزمان، وعند كل أمة من الرجال والعقول والمواهب مثل ما عند الأخرى - ونعني أمم الغرب على الأقل - وكل دولة تستطيع أن تستدرك ما يظهر لها من النقص بسرعة كافية. وقد جرب العالم هذا في الحرب الكبرى، ومعلوم أن ألمانيا فاجأت الحلفاء يومئذ بالغازات الخانقة فما لبث الحلفاء أن اتخذوا الكمائم ثم ما عتموا أن اهتدوا إلى صنع الغازات فصاروا يرسلونها على الألمان كما كان يرسلها الألمان عليهم. واحتاجت بريطانيا إلى بعض المواد التي لا غنى عنها لصنع الذخائر - وكانت قد أصبحت منقطعة أو عزيزة المنال - فاحتثت همم علمائها فهداهم البحث والتجريب إلى ما يحل محل هذه المواد ويغني غناءها وهكذا. ولا شك أن كل أمة تعول على سلاح لديها أكثر مما تعول على سواه ولكنها لا تستطيع أن ترجو طول الانفراد به وبمزيته بعد أن تلح به على أعدائها في الحرب
غير أن وفاء العدة يغري من ناحية أخرى بالغطرسة ومحاولة التحكم، ومتى صارت الأمم كلها شاكية مستعدة فأخلق بذلك أن يجعلها أضيق صدراً عن احتمال الغطرسة والشموخ. والأعصاب تتلف في مثل هذه الأحوال. وقد يكون تلف الأعصاب أجلب للحرب من أي
سبب أو باعث آخر، ولهذا ترى أنصار السلم ينصحون بالسكينة واتزان الأعصاب وضبط النفس والحرص على ذلك مهما بلغ قوة الشعور بالاستفزاز
وأسوأ ما في الحالة أن الحرب تدور رحاها شيئاً فشيئاً وفي مكان بعد مكان حتى ليخشى أن تنتشر وتعم الدنيا؛ ونارها توقد بلا إعلان. ففي أسبانيا لا تدور الحرب بين فئتين من الأمة وإنما هي بين دول شتى في الحقيقة لكل منها مأربها وغايتها وسلاحها الذي تجربه وتختبر فعله وغناءه. وفي الصين قامت الحرب بلا إنذار أو إعلان وقد تضطر دولة أو دول أخرى غير الفريقين المتحاربين أن تخوضها معهما فتتسع الدائرة ويعظم الخطب ولا يؤمن اندلاع النار في قارات أخرى. فإذا ظل هذا يحدث في رقعة بعد رقعة من الأرض فماذا يكون المصير؟ وحيال هذه الحالة لا ندري كيف يسع إنساناً أن يطمئن إلى استقرار السلم وإمكان تفادي الحرب؟ إن كل ما يسعى له أنصار السلم والمشفقون على العالم وحضارته هو أن يحصروا هذه الحروب في مناطقها حتى لا تعدوها أو تمتد إلى سواها كما يفعل رجال المطافئ حين يرون النار قد شبت في بيت أو مصنع، وليس هذا من التشبيه أو التمثيل فإنها النار هنا وههنا بلا فرق أو تفاوت سوى أن نار الحريق أهون من تلك التي يؤججها التدبير المحكم.
ومن العسير أن يتكهن المرء بشيء فقد صار العالم يعيش يوماً فيوماً فإذا مضى يوم ولم تتفاقم فيه أزمة ولم يستفحل فيه خلاف حمد الله وشكره ورجا أن يجيء الغد بما يفرج من الكرب أو يرجئه أو يلطفه على الأقل.
إبراهيم عبد القادر المازني
كلبي (بيجو)
للأستاذ عباس محمود العقاد
أنا أكتب هذا المقال عن (بيجو) وهو ينظر إلي، ثم يذهب ويعود ليطل مرة أخرى ولا يدري أنني أكتب عنه وأشيد بذكره؛ وكل ما يدري أنني جالس في هذا المكان الملعون الذي يحب كل مكان في البيت غيره، وهو كرسي المكتب.
ففي كل مكان في البيت يراني مستعداً لملاعبته واستجابة نظراته، والتفرج على فنونه وألاعيبه وقفزاته، أو يراني مستعداً للإشارة إليه واستدعائه فإذا هو واثب وثبة واحدة إلى حيث يستوي على مكانه بجانبي، ويغريني بملاطفته ومجاملته أن أبذل له الملاطفة والمجاملة وأحييه بعبارات التودد والمجاملة.
ينتظر مني ذلك في كل مكان إلا كرسي المكتب. . . فإذا جلست إليه لأكتب أو لأقرأ فهو حائر لا يدري ما يصنع: يدنو من الكرسي إلى مسافة قصيرة، ثم يرفع رأسه وينظر، ثم يعيد النظر كرة أخرى، ولعله يسأل نفسه: ما بال صاحبي لا يناديني ولا يجيبني؟ وما بال عينيه تتجهان أمامه وقلما تتجهان ناحيتي؟ فإذا طال عليه التساؤل والترقب رجع أدراجه وغاب هنيهة ثم عاد إلى المكتب يترقب كلمة النداء، أو نظرة الاستدعاء، أو لمسة التربيت والاحتفاء؛ ولا يزال كذلك حتى ييأس ويسأم فيولي وجهه شطر ألعوبة يتلهى بها، أو شغلة أخرى من الشواغل البديعة التي يفرضها على نفسه ولا يفرضها أحد عليه، وأولها حراسة الباب والعواء على من يصعدون السلم أو يهبوطنه!
وقد تبعني اليوم إلى المكتب ونظر إلي قليلا ثم غادر المكان الملعون يائساً عابساً دون أن يلح في الانتظار والمناورة، لأنه تعلم بالمرانة الطويلة أن الانتظار في هذا المكان لا يفيد، وأن الكلب العاقل الرشيد هو الذي يغادر مكان الكتب والأوراق بغير تدبر ولا تأمل ولا إطالة. والحق معه حتى في آراء الأناسي العقلاء الراشدين!
وقد أردت اليوم أن أدهشه وأخلف عادته فرفعت رأسي من الورق في بعض جيئاته وصحت به منادياً: بيجو! بيجو! تعال. . . إن كتابتي اليوم تعنيك. ألا تريد أن تقرأ ما كتبت؟ فوجم ولم يكد يصدق أذنيه. وتردد لحظة، ثم قفز إلى الكرسي فالمكتب حيث الورق الذي أخط عليه هذا المقال. . . كأنه يريد حقاً أن يقرأه ويستطلع ما فيه، وكأنه لا يفضل
بالعقل والرشد أولئك الآدميين الذين يعنيهم ما يكتب عنهم الكاتبون كما ظننته لأول وهلة! ولكنه ما لبث أن أخافني من أسلوبه في القراءة والمطالعة، لأنه هو والتمزيق في عرفه شيء واحد. وهل هو بدع في أسلوبه وهذا شأن كثير من الآدميين الذين أكتب عنهم؟ فنحيته برفق وحملته إلى الباب وأرسلته في الدهليز، وعدت إلى المكتب فأقفلته ولا أزال أسمع نباحه يلاحقني بلهجات تتراوح بين الاستغراب والشكاية والسباب!
ويجب أن أعترف للقراء بأن كلبي (بيجو) ليس بكلبي على التحقيق، ولكنه كلبي في شريعة الدعوة والاغتصاب، أو هو كلب صديقي العزيز (فيفي) الذي لم يجاوز السنتين إلا منذ شهرين، ولا أخاله إلا مطالبي به قريباً بعد أن زال الموجب لإقصائه وهو انحراف صحته في موعد التسنين، وفيما أصابه على أثر ذلك في مصاب أنقذه الله من خطره الشديد.
والأصل في المصائب أن تجمع بين الأصدقاء لا أن تفرق بينهما كما افترق فيفي وصديقه بيجو. . . ولكن اللوم في هذا الافتراق على صداقة بيجو دون غيرها - أي على إفراطه في الصداقة لا على تقصيره فيها - فمعاذ الله أن يتهم كلب بخيانة الأصدقاء
كان بيجو يرى (فيفي) على سريره ساكناً من التعب والإعياء فلا يحسب أن شيئاً تغير بينه وبين مولاه، ويقفز إلى السرير ليعرض خدماته التي لا يكل عنها ولا يتوانى فيها، وهي المواثبة والملاعبة واصطناع العض والمصارعة، ومولاه في شاغل عن ذلك ولكنه هو لن يقبل العذر ولن يعرف شاغلاً أهم من تلك الخدمات المرفوضات.
وإذا أقبل الطبيب وصرخ (فيفي) من مقاربته وجسه وفحصه كما يصرخ جميع الأطفال من جميع الأطباء فما هي إلا لمحة كأسرع ما يكون لمح البصر وإذا بأنياب (بيجو) توشك أن تنغرس في ساق الطبيب الذي يعتدي على مولاه بما يبكيه!
أما إذا ربطوه اتقاء لهذه المفاجآت فلا راحة ولا قرار في البيت كله، لا لمولاه العزيز ولا للنائمين حوله أو الساهرين عليه
لهذا عوقب (بيجو) على إفراط صداقته بالنفي من جوار مولاه في أثناء توعكه وانجراف مزاجه، ورضيت أنا أن أتولى مؤاساته وحراسته أيام منفاه، حتى تنجلي الغاشية فيعود إلى مأواه
وما انقضت فترة وجيزة حتى أصبح (بيجو) شخصية من شخصيات البيت المعدودة، وحتى فرض على نفسه واجبات وأعمالاً لم يفرضها أحد عليه، ولكنه يغضب ويتذمر إذ أنت قاطعته فيها أو عوقته عنها، كأنك تحسبه مخلوقاً عاطلاً لا يصلح لعمل ولا يؤتمن على واجب. . .
عرف الفرق بين جرس التليفون وجرس الباب، فلا يدق هذا أو ذاك إلا أسرع إلى الإجابة، وغضب من الخادم كلما سبقه إلى غرضه فتظاهر بعضه والوثوب عليه. ومن عجائب ذكائه أنه إذا سمع جرس الباب أسرع إلى الباب ولم يفعل كما تعود أن يفعل حين يسمع جرس التلفون. ومع أن جرس الباب يدق في المطبخ حيث يكون الخادم ولا يدق في المكان الذي يجري إليه. ولعله عرف أن فتح الباب هو المقصود بدق الجرس في المطبخ كلما جرى الخادم لفتحه على أثر سماع دقاته، ولكن تفريقه بين الجرسين براعة تشهد له بالقدرة على مزاولة الأعمال والواجبات ومن الأعمال والواجبات التي فرضها على نفسه ولم يفرضها عليه أحد أنه لا يدع إنساناً ولا حيواناً يصعد السلم إلا أدركه بنباح الاحتجاج من وراء الباب فيعدو أمامي ويعود إلي ولا يزال يرقص ويتوثب حتى أجزيه على استقباله بالتحية الواجبة والتربيت المحبب إليه.
ألأجل الطعام يهش لي (بيجو) هذه الهشاشة ويرعاني هذه الرعاية؟ أنا أود من الباحثين في طبائع الحيوان أن يراجعوا ملاحظاتهم وأحكامهم في أسباب التآلف والمودة بين الحيوان والإنسان، فإن إطعام الكلب ولا شك سبب من أسباب وفائه وتعلقه بأصحابه، ولكن لا شك أيضاً في أن الكلاب تفهم للمودة أسباباً غير الإطعام وتدرك معنى من معاني الصلة النفسية ليس مما يرتبط بالمنافع؛ وأوضح دليل على ذلك أن (بيجو) يعتبر نفسه تابعاً لمولاه (فيفي) ولا يعتبر نفسه تابعاً لأبيه أو خادم أبيه، وكلاهما يطعمه ويلاطفه ويسقيه. أما (فيفي) فهو لا يطعمه ولا يسقيه ولا يتورع عن خطف طعامه إذا ساغ في مذاقه، وقد يتبرم به فيضربه أو يقبض على لسانه أو يضع إصبعه في عينه، وبيجو في كل ذلك لا يقابل الأذى بمثله ولا يفتأ متعلقاً بالطفل أشد من تعلقه بآله وذويه.
فلما زارني (فيفي) مع أبيه بعد شفائه ونجاته من خطره كان المعقول المنظور أن يخفف (بيجو) إلى الأب الكبير الذي يعني بإطعامه وإيوائه، ويشمله بمودته وحبائه، ولكنه ألتفت
أول ما التفت إلى (فيفي) العزيز دون غيره، وتهافت عليه يعانقه ويلحس وجهه بلسانه ويئن أنيناً من فرط حنينه وفرحه؛ وجهدنا جهداً شديداً في التنحية بينه وبين مولاه الصغير لفرط ما أرهقه بتحياته ومجاملاته، وكنا سبعة منا أستاذ في علم الزراعة والحيوان، وأخ له أديب جم الإطلاع، وصديق مهذب من أدباء الموظفين، وسيدة إنجليزية وابنها اليافع، ووالد فيفي وكاتب هذه السطور، فأتعبنا الكلب الأمين الودود جد التعب ونحن نبعده من هنا فيرجع من هناك على حال من اللهفة والاشتياق تجلب الدمع إلى الآماق. فماذا بين بيجو ومولاه فيفي من البر والمجازاة غير الصلة النفسية التي لا شأن لها بالطعام والشراب؟ ولماذا يحسب نفسه تابعاً للطفل ولا يحسب نفسه تابعاً لأبيه؟ أنه لا يفقه أنهم أهدوه إلى فيفي الصغير ليكون لعبته وحارسه وعشيره، ولكنه قد يفقه أنه نده وقرينه بواشجة الطفولة والملاعبة الصبيانية، وهي على كل حال واشجة غير وشائج المنافع والطعام والشراب
ويشبه هذا في الدلالة على إدراك الخلائق العجماء للصلات النفسية أن (بيجو) لا يطيق (الطاهي) احمد حمزة ولا يرتاح إلى رؤيته ولا يسمع النداء على أسمه حتى يحسبه تهديداً له بالعقوبة والإقصاء، وهو مع هذا يألف فراش المنزل (محمدا) ويهش له ويستريح إلى مصاحبته في المنزل وفي الطريق. . . فلم كانت هذه التفرقة عنده بين هذا وذاك؟؟ كلاهما يقدم له الطعام، ويزيد صديقه (محمد) بتجريعه الدواء الذي يتعاطاه لعلاج السعال أحياناً وهو يمقته وينفر منه أشد النفور. غير أن الطاهي (أحمد حمزة) يتحاشى (بيجو) خوفاً من النجاسة فيشعر (بيجو) بجفائه ويلقاه بمثله، ويحتمل التجريع والغصص من زميله لأنه يحتفي به ويأنس إليه.
من إدراكه (للمعاني) الفكرية أنك إذا لمسته بالعصا وهو غافل عن رؤيتها فهو لا يبالي ولا يحفل ولا يحسبك غاضباً أو قاصداً لعقابه، ولكنه إذا ألتفت إليك ورأى أن العصا هي عصا التأديب التي تخوفه بها ظهر عليه الرعب، أو ظهر عليه الأسف والتوسل، كأنه يقرن بالعقاب معنى غير معنى الضرب وألمه، وهو استياء سيده وأعداده له عدة العقاب.
والخلاصة أن (بيجو) مخلوق مفيد ومخلوق أنيس، وهو أفيد ما يكون في المكتبة التي يبغضها ويستثقل ظلها، لأنني استفدت على يديه فوائد جليلة وأنا أقرأ بعض الكتب الحديثة في علم النفس وعلم الاجتماع.
يقول علم النفس أن التعاطف في التربية والتعليم أنفع وأنجع من تبادل الأفكار؛ وبيجو يؤكد لي ذلك، لأنني أرى منه أن الكلاب أسرع تعلماً من القردة، وهي أرفع في مرتبة التكوين والإدراك؛ وإنما فاقت الكلاب القردة بسرعة التعلم لأنها عاشرت الإنسان طويلا فاتصلت بينه وبينها العاطفة وإن لم يتقارب بينه وبينها تركيب الأعصاب والدماغ.
ويقول علماء الاجتماع من أنصار (الفاشية) إن الغرائز لا تتبدل، وإن الحرب والعدوان غريزة الإنسان، فلا فائدة لوعظ الواعظين بالسلام، ونصح الناصحين بالإخاء والعدل والمساواة. وبيجو يدحض ذلك أيما ادحاض، لأنه قد تحدر من سلالة الذئاب فما زالت به التربية والمصانعة حتى أصبح حارس الأطفال والحملان، وقد كان قبل ذلك آفة كل طفل من بني الإنسان، وكل صغير أو كبير من أبناء الضأن.
ويعد (بيجو) بحق من أحسن الشراح للعالم الروسي العظيم (بافلوف) صاحب التجارب المشهورة في أخوان بيجو من الكلاب الروسية. . . فأنه جرب أن الكلب يسيل لعابه إذا شاهد الطعام، فقرن بين تحضير الطعام له ودق الجرس على مقربة منه، فإذا بفمه يتحلب كذلك كلما دق الجرس ولو لم تصحبه رؤية الطعام، فبنى على ذلك مذهبه في مقارنات العواطف ومصاحبات الشعور وظواهره الجسدية، وجاء علماء النفس والتربية فاستفادوا من ذلك فوائد شتى في علاج الخوف والجشع والعادات الذميمة التي يصعب علاجها في بعض الأطفال، فجعلوا يقرنون الشيء المخيف بالشيء المحبوب ليعودوا الطفل أن يسكن إليه ولا يخشاه، ويقرنون الشيء المرذول الذي يحبه الطفل بالشيء المزعج الذي يصده عنه وينفره من إتيانه، ليقلع عن ذميم الخلال بداهة وعفواً بغير أمر ولا إلحاح.
بيجو خير مفسر لهذا المذهب النافع الذي كان الفضل الأول فيه لواحد من أبناء جنسه، فقد عهدته في منزله الأول وليس أبغض إليه من السلسة والطوق، لأنهم كانوا يقيدونه بهما في حديقة الدار كلما أضجرهم بعبثه وفضوله، فلما جاء عندي وليس للمنزل حديقة واسعة أطلقه فيها أصبحت السلسة والطوق من أحب الأشياء إليه وادعاهما إلى طربه وابتهاجه، لأنه تعود كلما ربط بالسلسة والطوق أن يخرج مع الخادم لغشيان الطريق وقضاء ساعته المنذورة للمرح والرياضة في الخلاء!
ولبيجو فنون أخرى يشارك في تفسيرها وتفهيمها، وفضائل شتى يتبرع بهداياها ومزاياها،
وإن في بعض هذا لما هو حسبنا من تقدير للأستاذ بيجو والصديق بيجو والزائر الكريم بيجو. . . الذي نخشى أن نسطو عليه، لفرط ما نستفيد منه ونأنس إليه.
عباس محمود العقاد
في أي عصر تعيش مصر؟
للدكتور محمد البهي قرقر
لكل عصر من عصور التاريخ التي حصل فيها انقلاب تطوري للشعوب والعقل الإنساني على العموم، طابع خاص يتميز به عن غيره. ومن أهم تلك العصور التي كان لها حدث تاريخي عظيم في ذلك الانقلاب وخصوصاً في نشأة الدول وتطور النظم الحكومية عصر القرون الوسطى والعصر الحديث.
فالاستبداد أي قيام طائفة بعينها بالحكم في الرعية وادعائها أنها وحدها هي التي تصلح للحكومة والمختارة للسيادة - ظاهرة من الظواهر التي تكون طابع عصر القرون الوسطى. فهذه الطائفة كانت ممثلة في رجال الكنيسة، وكان مصدر اختيارها على حسب زعمها هو الله، وحكومتها تعرف في التاريخ السياسي بالـ
وهنالك ظاهرة أخرى لا تقل عن سابقتها شأناً في تكوين هذا الطابع، وهي ظاهرة التمسك بالنصوص القانونية والجمود في تنفيذها ولو كان في ذلك التضحية بالمصالح الحيوية للرعية وعدم التمشي مع ما تتطلبه العدالة العامة التي هي الغرض المقصود من أي قانون وضعي أو مصبوغ بالصبغة الدينية، وهذه الظاهرة تعرف في تاريخ التطور العقلي بالـ
وكون تلك النصوص في هذا الوقت كانت لها صبغة دينية لا يغير من قيمة هذه الظاهرة ولا من كنهها وهي التمسك بالنصوص القانونية من حيث هي نصوص، كما أن كون الطائفة الحاكمة كانت من القساوسة وأرباب الكنيسة لا يبدل من حقيقة الظاهرة الأولى وهي أن الحكم كان استبداديا، إذ أتصاف الطائفة التي حكمت والنصوص القانونية التي سادت في هذا العصر بالوصف الديني لا يدل إلا على مصدر حكم السلطة التنفيذية، وإلا على مصدر التشريع، كما أن الوصف بالديمقراطية في العصر الحديث لا يعين أكثر من أن مصدر الأمرين جميعاً هو الأمة. أما كون القانون في ذاته أو الحكومة في نفسها عادلة أو غير عادلة فليس بضروري أن يكون مرتبطاً ارتباطاً تاماً بالمصدر، وإنما هو شيء آخر سبيل معرفته الناحية العملية في الحياة الإنسانية، وكونه طبق مصالح الأغلبية من الرعية أو ليس على وفقها. فقد يكون مصدر الحكم جمعياً، وهو الأمة مثلا في الحكم الديمقراطي والذي هو مظنة العدل، ومع ذلك لا يكون طبق مصلحة السواد الأعظم من
الشعب؛ وقد يكون فردياً كما في الحكومة الاستبدادية والتي هي مظنة الجور، وبالرغم من هذا يكون وفق ما تتطلبه المصلحة العامة في الأمة، إذ الواقع إنه في الحكم الديمقراطي قد لا تمثل الحكومة في أسلوب الحكم رأي الأكثرية وإنما تمثل قوة الزعيم الشخصية التي تمكنه من الاستيلاء على نفوس الأغلبية، أو الضعف النفسي للأغلبية التي يجعل قيادها سهلا والتحكم فيها أمراً هيناً.
وسواء اعتمدت تلك الطائفة حقاً في حكومتها وفي تعلقها بالنصوص القانونية على المبادئ الصحيحة للدين المسيحي أم على تعاليم الكنيسة أي تعاليم تلك الهيئة التي تمكنت باسم الدين وهو هو دائماً الوسيلة القوية في تملك الشعور الإنساني، من سيادة أرستقراطية دامت مدة طويلة، سواء أكان هذا أو ذاك فذلك بحث أخر خارج عما أريده هنا.
وهناك أيضاً ظاهرة ثالثة كانت أيضاً من مكونات طابع عصر القرون الوسطى، وهي اتجاه التعليم نحو الناحية التي كانت تقصد إلى الإنسانية المحضة ? وربما نشأت هذه الظاهرة من تلون الحكم والنصوص القانونية بلون ديني في ذلك الوقت، لأن الدين لا يعرف جنساً من البشر بعينه ولا يقصد إلى تهذيب أمة لكونها أمة مخصوصة، وإنما لكونها جماعة إنسانية، ولعلها كانت نتيجة لرغبة تحقيق الفكرة الإمبراطورية للكنيسة. وتحقيق مثل هذه الفكرة يتأثر تأثراً سلبياً بالدعاية لمبدأ التعليم القومي.
فالأمة الإنكليزية مثلاً في العصر الحديث - وكذا كل أمة لها سياسة استعمارية عالمية - تعلم الناشئة فيها سياسة الحكم الإمبراطوري والعمل لأداء (رسالة) إنجلترا في الإمبراطورية الإنكليزية على يد رجال الشعب الإنكليزي وحدهم، وهي تربية قومية محضة، ولكنها في الوقت نفسه تعلن خارج بلادها وفي حدود إمبراطوريتها تأييد التعليم الدولي وأن الغاية منه بلوغ الكمال في الإنسانية، لأن ذلك من الوسائل السلمية لضمان بقاء الاستعمار وضغط الشعور القومي في البلاد الخاضعة لها من طريق ظاهرة المحبة والإخلاص.
أما القانون الخلقي لهذا العصر فكان العمل للسلام الإنساني والاعتراف لكل من القوي والضعيف والمفكر والأبله وغير هؤلاء من نوعي الإنسان بالتمتع بالحياة كاملة على حد سواء. وربما كان ذلك نظرياً فقط لأن حوادث التعذيب التي تنسب إلى الجهة العليا يومئذ
أي إلى الكنيسة ضد العلماء يصح أن تكون دليلاً على أن السلام الذي كان يعترف به كمبدأ خلقي كان يقصد به عدم إثارة أي نزاع ضد الطائفة الحاكمة وهي الطائفة المنتخبة من الله والموكلة بأمره في الخلق.
وهكذا اليوم مثلاً دعوة السلام التي تقرر كمبدأ سياسي دولي والتي تذيعها جمعية عصبة الأمم في كل يوم وكل مناسبة ليست إلا أمراً نظرياً يقصد منه ترك القوي يتمتع بسيادته على الأمم الضعيفة في أكبر قسط من الراحة وهناءة البال دون أن تزعجه مطالبها القومية ورغبتها في الاستقلال بالسيادة.
والعصر الحاضر يتمتع بطابع مخصوص تنم عنه جملة ظواهر تكاد تكون على الضد من الظواهر السابقة.
فالديمقراطية، أي كون الشعب هو الذي يباشر حكم نفسه بالأسلوب الذي يختاره: بالأسلوب البرلماني أو الشيوعي أو الفاشي تكون جزءاً كبيراً من هذا الطابع.
كذلك سياسة الواقع ? ومراعاة المصالح القومية ظاهرة أخرى لهذا العصر. وقد تكون هي وحدها محور المشاكل الدولية اليوم، والسبب الرئيسي في شل عصبة الأمم وإظهارها بالمظهر الخيالي الذي يتضاءل أمام الحقيقة، فضلا عن أنها منذ خلقت لم تكن إلا حلماً لذيذاً للأمم الضعيفة، وستاراً ولكنه شفاف، يكشف دائماً عن مقاصد القوى وسياسته ذات الوجهين.
ولعل من سياسة الواقع واتباعها رفض نظرية التعليم الدولي وبناءه على الأسس القومية وتوجيه نحو الصالح الوطني، واستبدال الغرض (الوطني) بالآخر الإنساني. وهذه ظاهرة أخرى توضح طابع هذا العصر.
أما قاعدته الخلقية فهي تحقيق مبدأ تنازع البقاء والاعتراف بأن الصالح للحياة هو القوي والأصلح المنتج. ولعل الإيمان بهذه القضية الخلقية نتيجة للشعور الوطني الذي ساد الأمم والدويلات، وتمكن من نفوس الجماعات البشرية المختلفة في الجنس والعادات اللغة. فإحساس كل أمة بوجوب استقلالها وخضوعها لسيادتها الذاتية فحسب أذكى قوة النضال فيها وحفظها من التوزع داخل الأمة في مكافحة الأحزاب السياسية الوطنية بعضها بعضاً ثم صوبها نحو الخارج: أي أن كل أمة وجهت قوة الكفاح نحو الأمم الأخرى دفعاً لما عساه
أن يحدث من خطر يذهب بسيادتها الذاتية. ومن النتائج الضرورية للكفاح بقاء القوي واستمرار تمتعه بالحياة. وهو حادث طبيعي؛ غير أنه أخذ في العصر الحديث صفة خلقية ونال استحساناً عقلياً وتأييداً عملياً، وهذا هو الذي جعل تلك القضية الخلقية من مميزات هذا العصر.
أما الدعوة إلى السلام العالمي الذي ينادي به نظام جنيف، والذي ربما يتنافى في الظاهر مع إقرار مبدأ تنازع البقاء إقراراً خلقيا، فهي دعوة مدخولة وأقرب إلى الخديعة منها إلى نداء إنساني عام يرجى من ورائه سعادة الجماعة البشرية، لأن القائم بها يفهم من السلام العالمي ترك النائم في أحلامه واستسلام الضعيف لضعفه واستمرار المستعمر في اذلاله، بينما هو يمثل لديهم جميعاً دور الحكم الذي اختير للفصل من خالق العالم.
تلك مظاهر العصرين ومنها يتكون طابعهما. فإذا نظرنا الآن إلى مصر، إلى مركز النص القانوني وقيمته فيها، وإلى نظامها الحكومي، وإلى المبدأ الخلقي للسياسة العملية فيها، وأخيراً إلى مبدأ التعليم واتجاهه، إذا نظرنا إلى كل هذا فهل يمكننا أن نظفر بحكم قطعي على طابع الحياة فيها؟ وهل يتهيأ لنا بصفة حاسمة أن نقول إن مصر تعيش في وقتنا الحاضر، أو في عصر القرون الوسطى، أو أنها لا تعيش في كليهما؟ وإذن في أي عصر تعيش هي؟
لنسترجع هذه الظواهر واحدة واحدة ونستعرضها في مصر حتى يكون الحكم نتيجة صحيحة لمقدماته.
أليست الـ والمبالغة في تقديس القانون من حيث هو (نص) قانوني فقط هي التي تحمل على أن يقوم برياسة الوظائف الفنية الكبرى التي تحتاج إلى تخصص وخبرة تامة في الفن كوظائف الصحة والتجارة والاقتصاد والمعارف. . . رجالُ كل مؤهلاتهم أنهم درسوا القانون الجنائي أو القانون المدني أو الدولي مثلاً؟ أليس شأن هؤلاء كشأن القساوسة في العصور الوسطى الذين ولوا الوظائف المدنية الفنية وليس لهم مؤهلات إلا أنهم من رجال الكنيسة ومدرسة القانون الديني؟
لماذا هذا الظلم وهذا الإجحاف الذي يصيب الفلاح سنوات وسنوات بسبب قانون تحريم تعديل ضريبة الأطيان قبل مضي ثلاثين سنة على وضعها أو تعديلها؟ أهذا شيء آخر غير
التمسك بالنص القانوني وإن ذهبت مصالح الشعب الحيوية ضحية ونفذ الظلم في صورة (مشروعة) في صورة قانون؟
لماذا تترك (العقبة القانونية) تتحكم في إنجاز مشروع مجلس المعارف الأعلى وهو المجلس الفني في أمور التعليم وفي سياسية البلد الثقافية سنوات عدة ولو سادت مع ذلك الفوضى في تعديل برامج التعليم وذهب وقت الرئيس، الرجل (القانوني) الذي يجب أن يكون وقته خالصاً لمصالح الأمة في دراسة تكميلية فنية شخصية أي دراسة شئون التربية التي لا تغنيه عنها شيئاً دراسته القانونية؟ أهذا أمر آخر غير التمسك بالنصوص القانونية من حيث هي نصوص فقط؟
لماذا يضحي بالكفايات الشخصية في العمل الحكومي؟ ولماذا يسود هذا القانون البيروقراطي قانون الوظائف الأوتوماتيك الذي يجعل المكافأة بالعلاوات على مدة الخدمة لا على نوعها؟ وربما يقال إنه قانون عادل لأنه يحرم طريق الاستثناء! ولكن لم لا تكون قاعدة الاستثناء هي الكفاية بدل المحسوبية؟ ولم لا تجعل الجدارة الشخصية مع مراعاة الأقدمية بعض المراعاة مبدأ للترقية المادية؟ أمن عدل القانون أن يحرم على الناس استخدام مواهبهم الشخصية في المصالح العامة؟ أمن عدله أيضاً أن يكون من جماعات الإنسان آلات أوتوماتيكية، أو من عدله أن يشجع الكسل ويعترف له باستحسان شرعي؟ أم ذلك كله هو التمسك بنص القانون من حيث هو نص فحسب؟
لماذا يقدم رجل عادي إداري - وكذا كل رجل صاحب نبوغ خاص يحمله دائماً على استقلاله في تفكيره ويهيئ له نضوجاً خاصاً في قوة التمييز بين العمل للمصلحة والطاعة (للنص) القانوني - من كبار رجالات مصر المصلحين الذين هم ثروة الأمة وذخيرتها إلى المحاكمة أمام هيئة عليا بحجة أنه نفذ إصلاحاً قبل تسلمه الرد بالموافقة من الوزارة المسئولة؟ أيقدم مصلح للمحاكمة لأنه حول مستنقعاً كبيراً كاد يقضي على سكان عاصمة إقليم من أهم أقاليم الوجه البحري إلى متنزه عام وشيد عليه معهداً للثقافة العقلية: مكتبة البلدية بدمنهور، وداراً أخرى لتلك الغاية على طراز آخر: سينما البلدية، وملعباً رياضياً لتقوية أجسام الشبيبة ومساعدتها على التمتع بالصحة في الشباب والشيخوخة، كل ذلك في زمن وجيز وبإرادة نافذة؟ أيقدم للمحاكمة لأنه عطف على الفلاح واعترف بنصيبه في
الحياة وباشتراكه في معنى الإنسانية وبمركزه في الإنتاج الاقتصادي لمصر فاستعمل معه أسلوب اللين في تحصيل الضرائب التي يدفعها للموظف الحاكم وفي الواقع لخادمه الذي يجب أن يكون تحت تصرفه ولمصلحته في كل لحظة وبكل عناية؟
ما ذنبه إذا كانت الجبهة العليا الحاكمة تجري في تنفيذها للمشروعات على أسلوب بيروقراطي وتتمسك (بنص) قانوني كم ذهبت مصالح حيوية ضحية له. وكم دام إنجاز بعض المشروعات الهامة سنوات طويلة وقد كان لا يستغرق أكثر من أشهر معدودة لو فهمت الروح القانونية. أليست فكرة معاقبة رجال الإصلاح على هذا النحو هي فكرة الكنيسة في القرون الوسطى ضد من كان يريد أن يحكم عقله مرة ما في فهم النصوص القانونية؟
هل يفهم الإنسان شيئاً آخر سوى تحكم النص القانوني وحده إذا عرف أن أحد الكنستبلات المالطيين في بوليس الإسكندرية أعيد للخدمة ثانية بعد عزله وفقاً لنص المعاهدة، لأنه تجنس بالجنسية المصرية؟ إنني أعرف رجلين من الأرمن هنا في هامبورج تجنسا بالجنسية المصرية. أنا لم أدهش من شعور أحدهما يوم قابلني في سنة 1935 في وقت اشتدت فيه حركة الطلبة بالقاهرة للحصول على غرض شريف: للحصول على دستور سنة 1923. إنه لم يستح أن يجرح عاطفتي الوطنية إذ يفاجئني بقوله: ماذا يقصد هؤلاء الطلاب أولاد العرب من حركتهم هذه؟ ألا يستحون من مطالبة بريطانيا بالتخلي عن حكم مصر؟ ألم يفهموا للآن أنها تمدنهم وتحد من همجيتهم؟ لم أدهش حقاً لهذا لأني أعلم أن تجنسه بالجنسية المصرية لا يمكن أن يكيف شعوره بكيفية مصرية مهما حاول ذلك، كما لم أدهش منه يوم قابلني هو بعينه في شهر يونيه الماضي وجعل يردد لي حبه وتعلقه بمصر وفخره أنه يحمل على صدره العلم المصري، لأني أعلم أيضاً أنه يستتر وراء هذا العلم من مطاردة بعض أفراد النازي هنا له، لأن سحنته يهودية ولأنه هو وأخاه من التجار الأجانب الذين هم تحت مراقبة البوليس لسوء سمعتهم الأخلاقية واتباع حيل اليهود الدنيئة في كسب الربح.
ولو سوغ التجنس بالجنسية المصرية لهذا المالطي حقوقاً أخرى سياسية لما كان ينبغي أن يجيز له مباشرة عمل متصل بنظام الأمة الداخلي، ولكنه (النص) القانوني الذي لا يفرق
بين مصري ومتمصر له من الطبائع النفسية وطرق التفكير ما يبعده أشد البعد عن طبيعة المصري أو العربي المتمصر مثلا؛ والسلوك العملي للإنسان خاضع لطبائعه النفسية ونوع تفكيره
وغير هذا من الحوادث كثير. فإذا ذهب من يريد الإسلام عن اقتناع لا عن محاولة وإكراه إلى قنصلية مصرية في الخارج ليسجل إسلامه فيها كهيئة رسمية تمثل أمة إسلامية تحتل المكان الأول بين أمم العالم الإسلامي لم يصل إلى غايته، لأن نص القانون المصري يحرم ذلك تجنباً لإشكال دولي بينما يبيح أعمال التبشير الإكراهية في مصر المسلمة التي يقول عنها الأستاذ المراغي إنها سرقة أرواح واغتصاب نفوس عملاً بحرية الأديان. ولكنه النص القانوني.
بجانب هذه الظاهرة: ظاهرة التمسك بالنص القانوني التي هي إحدى ظواهر عصر القرون الوسطى، نجد ظاهرة أخرى من ظواهر العصر الحاضر وهي الظاهرة البرلمانية التي لا تبيح استبداد الفرد أو الطائفة الأرستقراطية بالحكم. ولكن بالرغم من وجود هذا النظام الشكلي فإن أهم مكونات طابع العصر الحاضر لا يجدها الباحث إذا فتش عنها في مصر الحديثة.
فالسياسة العملية السائدة اليوم في مصر ليست سياسة الواقع ومراعاة الصالح الوطني؛ وغاية التعليم ليست قومية وطنية بل دولية بكل معانيها، إذ أعز أماني مصر الحديثة خدمة (الإنسانية) والعمل على تلاشي الفوارق الطبيعية قبل تكوين أمة مصرية يشعر كل فرد من أفرادها بأن عليه واجباً نحو نفسه ونحو وطنه. كما أن النظرة الخلقية التي تلقى استحساناً عند الطبقة الحاكمة والتي تشبعت بها نفوسهم هي تأييد السلام العالمي الموهوم، والعمل لقضية السلام، والافتخار بالاشتراك في جمعية المحافظة على السلام الدولية التي قضى عليها بالموت منذ خلقت.
فأنا لا أدري إذا كانت مصر تعيش في القرون الوسطى لهذا المظهر السائد اليوم: مظهر التمسك بالنصوص القانونية ولو كان فيه التضحية بالمصالح الحيوية وعدم تحقيق معنى العدالة. ولكن المظهر البرلماني يحول دون الحكم بذلك، لأن مظهر السلطة في ذلك الوقت كان استبدادياً قاصراً على الطبقة المختارة من الله
أم إنها تعيش في العصر الحاضر لوجود هذا المظهر الشعبي؟ ولكن سياستها ليست سياسة الواقع ومراعاة المصالح القومية كما أن أسلوبها في التعليم هو الأسلوب الدولي، وقاعدتها الخلقية ليست إقرار مبدأ تنازع البقاء.
أم أنها تعيش في كلا العصرين؟ ولكن محال على أمة فتية رشيدة تسير في طريق التطور الطبيعي أن تجمع حكومتها بين الأضداد. وإذن لا بد أن تكون ظواهر أحد الطابعين خادعة
وأغلب ظني أن مصر لم تدخل بعد في العصر الحاضر صاحب الطابع الوطني؛ ولكنها تقطع الآن الفترة السابقة له، وهي فترة مملوءة بالأخطار الجسيمة التي تمس حيوية الشعب، فترة الحرية الكاذبة التي تطغي على كل ناحية من النواحي العقلية والخلقية وتتجاوز الحدود الطبيعية، فترة الرغبة في التخلص مما يسمى (قديماً) - وخير الوطن في التمسك به - والنزوع إلى الجديد المبهم غير المحدود الذي تلوكه الألسن ولا تفهمه عامة الشعب بل وكثير من خواصها - وهو لهذا خطر - فترة التحرر
فإذا قوي في الأمة شعور التمسك بالوطن وبالقديم؛ وقوي الشعور بالمحافظة على ما كان للأمة والاعتزاز به في أي ناحية، كان ذلك ابتداء الحياة في العصر الحاضر
محمد البهي قرقر
دكتور في الفلسفة وعلم النفس وعضو بعثة الأستاذ محمد
عبده.
في تاريخ الجمعيات السرية
1 -
طائفة سرية عجيبة تعيش في عصر المدنية بأساليب
همجية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
قامت الجمعيات والطوائف السرية في جميع العصور والمجتمعات وتنوعت مبادئها وغاياتها الدينية والسياسية والاجتماعية، ولعبت مختلف الأدوار في تكوين الآراء والعقائد، وذهبت في الغلو والإغراق كل مذهب، وتركت أثارها في جميع الأمم والمجتمعات التي قامت بها.
ولكن التاريخ لم يسجل صفحاته السرية الحافلة سيرة أغرب وأروع من سيرة جماعة سرية من البشر الهائمين اصطلحوا على التوسل لتحقيق مبادئهم الروحية المزعومة بتشويه الإنسان وتعطيل مهمته الاجتماعية بطريقة بربرية اعتبرت في جميع الأمم والعصور وحشية مثيرة تطاردها الأمم المتمدينة بمنتهى الشدة والصرامة، تلك هي (طائفة المجبوبين)(سكوبتسي) التي قامت في روسيا في أواسط القرن الثامن عشر، ولا تزال قائمة حتى اليوم، والتي تعتبر الجب وسيلة النقاء من الدنس وطريق الخلاص الأبدي من آثام هذه الدنيا.
ولقد عرف التاريخ منذ أقدم العصور أمثلة من هذا النوع اعتبرت فيها هذه الوسيلة الهمجية ضرباً من التضحية السامية التي ترتفع بصاحبها إلى مراتب التقديس، وظهرت بين بعض طوائف الرهبان في أوائل عصور النصرانية، وذاعت حيناًَ بين رهبان الكنيسة الشرقية، ولكنها كانت دائماً مثار الإنكار من الناحيتين الدينية والإنسانية.
وعرفت معظم العصور والأمم طوائف الخصيان والمجبوبين من العبيد والخدم، وعرفتها المجتمعات الحديثة حتى أواخر القرن الماضي، ولكن طوائف الخصيان كانت تحشد دائماً من الرقيق بسائر أنواع؛ وكان نظام المجتمع منذ فجر التاريخ قائماً على التفرقة بين طوائف المجتمع، وكان الرق مشروعاً في هاتيك العصور، وكان الرقيق متاعاً مباحاً تجري عليه سائر التصرفات، وكان الخصي أو الجب وسيلة بربرية لأعداد طوائف من الحشم
تمتاز بصفات خاصة تؤهلها لخدمة القصور والبيئات الرفيعة؛ وقد استطاعت طوائف الخصيان أن تشق طريقها إلى السلطة والنفوذ في مواطن كثيرة؛ ولكنها كانت تعتبر دائماً من الناحية الاجتماعية من الطبقات الدنيا، وكان ينظر إليها دائماً في كثير من الرثاء والإشفاق لأنها تعاني حالة اجتماعية منافية للأوضاع الإنسانية الطبيعة.
ولكن المجتمعات المتمدنة تنكر اليوم الرق وتعتبره ضرباً من ضروب الهمجية الذاهبة. وتعتبر القوانين المحدثة الخصي أو الجب من أشنع الجرائم التي يمكن أن تقع على إنسان، وتعاقب مرتكب الجريمة الشائنة بأقسى العقوبات، بل تعاقبه بالإعدام كالقاتل العمد سواء بسواء.
ومع ذلك ففي قلب أوربا المتمدينة تقوم إلى اليوم تلك الطائفة السرية العجيبة طائفة (سكوبتسي) وشعارها تلك الجريمة المثيرة جريمة الخصي أو الجب كوسيلة إلى السعادة الروحية والخلاص الأبدي.
وترجع الرواية قيام هذه الطائفة السرية إلى أواخر القرن السابع عشر على يد فلاح يدعى دانيلو فليبوف؛ ولكنها عرفت يومئذ بجماعة (أهل الله)، وتزعم الرواية أن دانيلو هذا ألقى ذات يوم جميع الكتب المقدسة في نهر (الفولجا) وقال إنه لا يوجد كتاب يحقق سلام الروح الأبدي سوى الروح القدس ذاته؛ ثم صعد إلى الجبل مع نفر من أنصاره؛ فنزلت عليه سحابة من النور، ونفذ إليه الروح القدس؛ وزعم أنصاره أن الإله قد مثل في شخصه على مثل ما يزعم الدروز بالنسبة لشخص الحاكم بأمر الله.
وتتلخص تعاليم فليبوف فيما يأتي: أن الإله الذي قد بشرت به الأنبياء نزل إلى الأرض لينقذ أرواح البشر؛ وليس ثمة من إله غيره، ولا تعاليم غير تعاليمه؛ وعلى المؤمنين أن يطيعوه؛ وألا يشربوا الخمر، وألا يرتكبوا الزنا، وألا يتزوجوا؛ وعلى من تزوج ألا يقرب زوجته، وعليهم ألا يسرقوا، وأن يحتفظوا بسر تعاليمه، وأن يحب بعضهم بعضاً، وأن يؤمنوا بالروح القدس. وتبنى فليبوف بعد ذلك فلاحاً آخر يدعى سوسلوف وزعم أنه هو ابنه المسيح، واختار سوسلوف له أثنى عشر رسولاً، وتوفي سنة 1714، ودفن في أحد الأديار.
وبعد وفاة سولسوف تمثلت روح المسيح على حد زعمهم في شخص لوبكين وهو جندي
من فرقة الاسترلتزي؛ وعلى يديه انتشر مذهب الطائفة في كثير من الأديار بين الرجال والنساء معاً. ولما استفحل أمره قبض عليه وأعدم سنة 1732 وأخرجت جثته فيما بعد وذر رفاته في الهواء؛ وقبض على كثيرين من أشياعه وحوكموا بتهمة المروق والكفر ونفي كثيرون منهم إلى سيبريا؛ ولكن هذه المطاردة لم تخمد من حماسة أولئك الكفرة المتعصبين فاستمروا يبثون مبادئهم في الخفاء، ويتعاقب في زعامتهم مسيح بعد آخر؛ وكانوا يقيمون شعائرهم سراً في جوف الليل في بعض الضياع أو الأنحاء المهجورة، وفي أواخر القرن الثامن عشر تطورت مبادئ الطائفة وتوسع بعض دعاتها في تفسير تعاليم فليبوف، وقال إن الزواج المحظور هو الزواج الكنسي فقط وأن (الأخ) يستطيع أن يتصل بأخته اتصالاً روحياً؛ ولم يلبث أن ذاع بينهم الاختلاط الجنسي الحر، وكان هذا الاختلاط يتخذ أحياناً صوراً مثيرة، فتعقد جماعتهم بالليل، وتنتهي شعائرهم المزعومة بمناظر مروعة من الفجور والفسق.
وكانت هذه نقطة التحول في مبادئ طائفة (أهل الله): ذلك أن فريقاً من المؤمنين رأى في هذه الحياة الجنسية الشائنة خروجاً على تعاليم فليبوف التي تحتم التزام الفضيلة والعفة، ورأوا في (الجب) خير وسيلة للتخلص من الشهوات والموبقات الآثمة؛ ومن هنا ظهرت طائفة (المجبوبين)(السرية سكوبتسي) واكتشفت السلطات الضحايا الأولى لهذه الدعوة البربرية في سنة 1772في مقاطعة أرومل؛ وظهر من التحقيق الذي أمرت الإمبراطورة كاترين بإجرائه أن الدعاة يزعمون أنهم يرسمون للبشر طريق الخلاص الأبدي، وأنه يجب على المؤمن ألا يذوق الخمر، وألا يعاشر النساء، ويجب على الفتيان والفتيات ألا يتزوجوا، كما يجب على المتزوجين أن يضربوا عن الاتصال الجنسي؛ وظهر أيضاً أن الدعاة استطاعوا أن يؤثروا على كثيرين من الفلاحين، وأن يحملوهم على قبول الخصي أو الجب المطبق تحقيقاً للعفة والسعادة الأبدية. ولم تستطع السلطات يومئذ أن تظفر بزعيم الطائفة الحقيقي؛ ولكن ظهر فيما بعد أنه فلاح يدعى سلفانوف، وهو فتى في الثلاثين من عمره، هادئ المزاج، كثير التأمل والهيام، عارف بالقراءة والكتابة وهو ما كان يندر في ذلك العصر؛ وكان يبشر بدعوته بعبارات صوفية غامضة، وكان من زعماء (أهل الله) ولكنه راعه من رآه من ذيوع الفسق بين المؤمنين، فبدأ دعوته ضد (السحر) النسوي أصل
كل بلاء وإثم، وأخذ يدعو إلى (النقاء المطلق)؛ وهذا النقاء لا يتحقق في رأيه إلا بمجانبة كل بواعث الضعف ولا سيما الإغراء الجنسي، والكبرياء، والأنانية، ولا سبيل إلى تحقيق هذا المثل الأعلى إلا (بقتل الجبة) أو بعبارة أخرى إعدام الأعضاء الجنسية والتخلص من آثامها.
(هكذا نشأت طائفة المجبوبين)(سكوبتسي)، واستطاع سلفانوف أن يحشد حوله جماعة من التلاميذ والأشياع معظمهم من الفلاحين البسطاء؛ ولم تكشف السلطات أمره إلا في سنة 1775 إذ قبض عليه وجلد وعذب مراراً، ثم نفي إلى سيبريا؛ وقبض على كثيرين من أشياعه المجبوبين، وجلدوا، وحكم عليهم بمختلف العقوبات.
ولكن الدعوة البربرية لم تخمد مع ذلك، فحملها تلاميذ سلفانوف ورفعوه إلى مرتبة التقديس وأسموه (بالمنقذ) وجاوزت الدعوة طبقة الفلاحين إلى الطبقات الأخرى، فانتظم في سلك الطائفة جند وتجار وغيرهم خضعوا جميعاً لهذا التشويه الهمجي؛ وزعموا أخيراً أن سلفانوف هو الإنسان الوحيد الذي مثلت فيه روح المسيح، وأنه سيعود قريباً. أما سلفانوف فلبث يرسف في منفاه في أركوتسك زهاء عشرين عاماً، ثم استطاع الفرار أخيراً ولم تهتد السلطات إلى أثره.
وفي العام الثاني ظهر في قرية بيخوفو على مقربة من موسكو شخص يرتدي أسمالاً بالية، وقد حزم بطنه بسلاسل من الحديد وبدت عليه آثار السقم والورع، فالتف حوله بعض الفلاحين، وكان يصلي بينهم بلغة مجهولة؛ ولم يمض سوى قليل حتى ظهرت معجزاته إذ استطاع أن يشفي أمراه مريضة، وأن يحول الخمر إلى ماء؛ وفي ذات يوم أخذ يتكلم بالروسية وزعم أنه القيصر (بطرس فيدروفتش) ولم يكن هذا الدعي سوى سلفانوف نفسه، رأى في حوادث البلاط الروسي يومئذ منفذاً جديداً لدعوته؛ والقيصر بطرس فيدروفتش أو بطرس الثالث هو زوج الإمبراطورة كاترين، وقد توفي سنة 1762 في ظروف مؤسية غامضة، واتهمت زوجته بتدبير مصرعه لأنهما كانا على خلاف دائم؛ وكان القيصر مصاباً بالضعف الجنسي، وكانت زوجه تبغضه ويبغضها لفجورها؛ ولكنه كان محبوباً من بعض طوائف الشعب لنزعته الحرة وخلاله الرقيقة، وكان من مآثره التي زادت في حبه أن أفرج عن آلاف عديدة من المنفيين لأسباب دينية؛ فلما توفي على هذا النحو الغامض ذاعت حول
وفاته أقاويل وروايات كثيرة، وزعم كثيرون أنه لا يزال على قيد الحياة، وقام أكثر من دعي يدعي بأنه القيصر بطرس، ومن أشهر هؤلاء بوجاتشيف زعيم القوزاق الذي أثار حيناً في مقاطعة الأورال، ثم هزم وأعدم. واتخذت هذه الأسطورة على يد سلفانوف وأشياعه صبغة جديدة، خلاصتها أن المسيح تمثل لآخر مرة في شخص القيصر بطرس الثالث، وان أمه العذراء اليزابيث ولدته بمعجزة ثم تخلت عن العرش لوصيفة لها تشبهها كل الشبه، وذهبت تعيش بين (أهل الله) في مقاطعة أوريل باسم الفلاحة آكولينا إيفانوفا. ولما كبر بطرس وزوج بالإمبراطورة كاترين اكتشفت زوجه أن به عنة فاعتزمت قتله والاستيلاء على العرش من بعده؛ ولكن بطرس علم بأمر هذه المؤامرة، فترك العرش وغادر بطرسبرج (لكي يقاسي مع أهل الله) وقتل مكانه مجبوب يشبه كل الشبه؛ واختفى القيصر حيناً ثم قبض عليه، وعذب كما عذب المسيح، ونفي مدى عشرين عاماً في مكان سحيق، ولكنه استطاع أن يفر، وأن يعود متشحاً بكل مجده وعلاه.
تلك هي الأسطورة التي مزجها سلفانوف بشخصه، وحاول أن يستغلها من الناحيتين السياسية والدينية؛ ولكنه لم يلبث أن وقع في يد السلطات مرة أخرى، فقبض عليه في موسكو سنة 1797، وزج إلى دار المجانين في بطرسبرج؛ وأراد القيصر بول الأول (وهو ابن القيصر بطرس الثالث وكاترين) أن يرى ذلك الدعي الذي يزعم أنه أبوه، فاستدعى سلفانوف إليه وجرت بينهما محادثة تنبأ فيها سلفانوف للقيصر بموت سريع عنيف. ولبث الدعي في سجنه طيلة حكم بول الأول، وقبض أيضاً على تلميذه ورسوله (شيلوف) وسجن حتى موته وغدا قبره مزاراً يحج إليه المجبوبون من سائر الأنحاء.
وفي عهد القيصر اسكندر الأول تنفست طائفة المجبوبين الصعداء، لأن القيصر الجديد كان ذهناً حراً في معنى من المعاني؛ وفي عهده صدرت عدة مراسيم تحريرية، ومنها مرسوم بالكف عن مطاردة المجبوبين (لأنهم بفعلهم الذميم قد عاقبوا أنفسهم بأنفسهم عقاباً كافياً) وعلى ذلك أطلق سراح المعتقلين منهم، وانتدبت لجنة خاصة لبحث جميع المسائل المتعلقة بالطائفة، وأفرج أخيراً عن سلفانوف بتدخل سيد بولوني من ذوي النفوذ يدعى ألكسي اليانسكي، وكان من المتصوفين الهائمين، فأعتنق مبادئ الطائفة وكان أول أعضائها من خاصة المثقفين، وقد لعب فيما بعد دوراً عظيماً في تطورها وتقدمها.
وسنرى فيما يلي كيف عاشت هذه الطائفة السرية العجيبة خلال القرن التاسع عشر عصر العلم والنور، وكيف أنها لا تزال قائمة حتى يومنا في ظل النظام البلشفي، وفي قلب أوربا المتمدينة.
(للبحث بقية)
فينا في أوائل أكتوبر
محمد عبد الله عنان
الدمام
لأستاذ جليل
اللعَس سواد مستحسن يعلو شفة المرأة أو سواد في حمرة
قال (التاج): لعس كفرح لعسا، والنعت ألعس وهي لعساء من فتية ونسوة لُعس: في شفاهم - وشفاهن - سواد
وفي اللعس جمع اللعساء يقول الزمخشري: (إذا رأيت أبكاراً لعساً، وعجائز قُعسا فقل: لعاً وتعسا!!) قل: لعاً للأبكار اللعس، وتعساً للعجائز القعس.
نعم ما يوصينا به إمام عظيم في اللغة والأدب ونحلة المعتزلة! الحق أن شيخنا الزمخشري لا يستحي. . .
فاللعس هو صبغ الله، صباغ الله، (صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة؟)
ومن هوى كل من ليست مُموِّهةً
…
تركتُ لون مشيبي غير مخضوب
وإذا أحب محب أن يرشف ريق رشوف أو يرف شفتيها، أو يترضبها، فإنه يرجع بخير، إذ ما في صبغة الله إلا الطهر، وإن سمى حاسد أو عذول هذا الرضاب بغير أسمه فقال: هذا بصاق! فليس ثمة ضير.
تقول:
هذا مجاج النحل تمدحه
…
وإن ذممت تقل: قيء الزنابير
وقد رفضت المترقشات المتقينات المتنمصات المتشمات تلك الصبغة، صبغة الله، وركضن إلى صبغة العطار والصيدلاني فكان تبديل خلق الله وتصويره. وجاء من ذلك - من تلك الدواهي - هذا الوشم في الجسد واليد والوجه واللثة والشفة. وقد (لعن الله الواشمة والمستوشمة) كما (لعن الله النامصة والمتنمصة) لكن الخبيثات ما يبالين لعناً ولا ذماً، ولا يحسبن للأخرى حسابا
كان وشم الشفاه في القديم، وجاءت اليوم هذه (الحمرة) فيها، هذا (الموت الأحمر) وأمسى (التحمير) دين كل شابة وتابة. . .
وكأن أولئك الحور العين الحسان الكواعب وهن مقلات مدلات بجمالهن، ذوات أبهة،
مزدهيات - فكأنهن والغات في دماء صرعاهن، صرعى عيونهن!
وكأن شفة الرجل بعد تلك الرشفات خطم ضار في الفلا مفترس.
إنه لما عمت وطمت هذه البلية التي (ليس لها من دون كاشفة) وكنا من خدام هذه اللغة رأينا أن يوضع لها لفظة فكانت كلمة (الدمام) المسماة بالفرنسية فتقول - يا زير النساء وطلبها إن شئت أن تقول - رأيت في قهوة أو ملهى أو معهر في (شارع عماد الدين).
شارع عماد الدين! هذا شارع هاري الدين، هائر الدين، موهي الدين. . .
فتقول: رأيت فتاة مثل الدمية أو رأيت دمية، أمامها قشوتها أو عتيدها، وهي تدم شفتها بالدمام، وهو دمي في الشفة!
ليس دمي في جيدها؛ إن دمي في الشفة!!
دمُك أنت - زيرَ الغواني - لا دمي فإنه
لم يترك الدهر من قلبي ولا كبدي
…
شيئاً تتيمه عين ولا جيد
(ن)
بين العلم والأدب
للأستاذ عبد الكريم الناصري
قرأت في العدد (219) من (الرسالة) الغراء مقالة للأستاذ علي الطنطاوي يقارن فيها بين العلم والأدب، ويفاضل بينهما، ويقضي في أمرهما؛ فوجدته (لم يدع مذمة إلا ألحقها) بالعلم، (ولم يترك مزية إلا نحلها) الأدب، كأنما (الأمر قد انتهى والقضية قد فصلت) وحكم للأدب على العلم (فلم أدر متى كانت هذه المنافرة، وأين كانت هذه المفاخرة، ومن هو الذي جلس في منصة القضاء، ومن الذي زعم أنه وكيل العلم حتى أخزاه الله على يديه، وأذله به؟)
والذي لاحظته على الأستاذ وعجبت له أن يتوسع في مفهوم الأدب توسعاً كثيراً، بينما يبخل بذلك على العلم ويضيق معناه كل التضييق؛ فهو يقول:(إن الأدب ضرورة للبشر ضرورة الهواء)(لأن البشرية لم تعش ساعة واحدة من غير أدب) ولكنها (عاشت قروناً طويلة من غير علم، وما هو إلا طفل ولد أمس ولا يزال يحبو حبواً). . . وذلك لأن الأدب بمعناه الواسع يشمل (كل ما كان وصفاً للجمال وتعبيراً عنه) فكل (من يعني بالجمال ويتذوقه، بل كل من يذكر الماضي ويحلم بالمستقبل ويحس باللذة والألم واليأس والأمل يكون أديباً، ويكون الأدب - بهذا المعنى - مرادفاً للإنسانية، فمن لم يكن أديباً لم يكن إنساناً). . . أما العلم فهو هذا العلم المنظم الطرائق المقرر الأصول، هذا العلم الذي ولد أمس، علم نيوتن ودارون وإينشتين!!
كلا يا سيدي، ما هكذا تقام الموازنات، ولا هكذا تعقد المفاضلات. فإذا كنت قد توسعت في معنى الأدب كل هذا التوسع، حتى جعلته مجرد الإحساس والشعور، فمن العدل والإنصاف أن تتوسع في معنى العلم أيضاً، فتجعله مجرد التفكير والمحاكمة العقلية، فبغير ذلك لا تكون لموازنتك ولا لمفاضلتك قيمة أو معنى، لأن الأصل في المقارنة بين شيئين أن يكون أساسهما مشتركا. . .
فالعلم بمعناه الواسع قديم قدم العقل، لا (طفل ولد أمس) والمحاكمة العقلية - أي العلم - هي الفارق بيننا وبين العجماوات، فيكون العلم - بهذا المعنى - مرادفاً للإنسانية، فمن لم يكن عالماً لم يكن إنساناً. . . أليس كذلك؟
(إن أول كلمة قالها الرجل الأول للمرأة الأولى) كما يقول الكاتب: (كلمة الحب، لمكان
الغريزة من نفسه). . .
وهذا صحيح، فإن الأدب - في أعمق معانيه وأصدقها - تعبير عن الغرائز الحيوانية والبشرية؛ وقد بدأ الأدب منذ قال (الأديب الأول) ما قال (للأديبة الأولى) وكان من نتيجة اشتغالهما بالأدب واهتمامهما به، أن أخرجا مما كانا فيه، وهبطا إلى هذه الدنيا - مما يدل على أن شؤم الأدب على أصحابه بدأ منذ ذلك العهد - ثم أستمر بعدهما القتل والتخريب واتباع الغرائز وإطاعة الشهوات، وأستمر الأدب يصور ذلك كله، ويعبر عنه وينبه إليه، ويقويه في الأذهان، ويحييه في النفوس، ولولا العلم والعقل وسنه القوانين والأنظمة للجماعات، ووقفه الأفراد عند حدهم، وحده من شرتهم، لعم البلاء وعظم الخطب، ولفسدت الأرض ومن عليها!
يقول الأستاذ علي: (إن أكثر البشر استغنوا عن العلم ولم يفكروا تفكيراً علمياً) بينما (لم يستغن أحد عن الأدب ولم يعش إلا به)
وهو في هذا القول أيضاً يقصد بالأدب المعنى الواسع الذي وضعه له، ويقصد بالعلم المعنى الضيق الذي ارتضاه له. . . ولقد بينا خطأ هذا القول، وبينا أن (الفصيلة البشرية) تتميز بالمحاكمة العقلية عن بقية الحيوانات، وأن من غير الممكن أن تتصور إنساناً بغيرها، أي بغير علم.
فإذا أردنا أن نجد، أي نقصد بالعلم والأدب معنيهما العاديين، وجدنا أن كثيراً جداً من الناس يستغنون عن الأدب، وليس لديهم خيال الأدباء، ولا سمو مشاعرهم ومثلهم، بينما نجد سوادهم الأعظم لا يستغنون عن العلم، ونتائجه، ومن وسائل المواصلات، إلى وسائل التسلية والترويح عن النفس، إلى غير ذلك مما لا يعد ولا يحصر؛ كما أننا نجد هذا السواد الأعظم يفكرون تفكيراً علمياً. أجل، يفكرون كما يفكر ميليكان وجيمس جينس واينشتين. . . فان منطق العامة ومنطق العلماء واحد في (النوع) وإنما الاختلاف في (الدرجة). وهذه الحقيقة تخفي على الكثيرين، وإن كانت من بسائط علم المنطق الحديث، بل إن منطق العلماء موجود عند البشر جميعاً، لأن (الاستقراء) و (الاستنتاج) هما الميزتان اللتان تميزان العقل البشري عن سائر الحيوانات. والغسالة، كما يقول هكسلي، تستخدم في اكتشاف أن البقعة التي على الثوب هي بقعة حبر، عين المنطق الذي استخدم في اكتشاف
السيار نبتيون.
أما سؤال الكاتب: (هل بلغ أحداً أن أديباً نظر في معادلة جبرية، أو قانون من قوانين الفيزياء، أو أحس الحاجة إلى النظر فيها؟) فانه غريب حقاً. وما كنت أنتظره مطلقاً من الأستاذ الطنطاوي. . . فهل بلغك يا أخي أن بول فاليري، أمير شعراء فرنسا، كان عالماً رياضياً قبل أن يكون شاعراً، وأن جوتيه، أعظم شعراء الدنيا بعد شكسبير، كان عالماً بيولوجياً قبل أن يكون شاعراً، وأن هـ. جـ. ولز، عميد أدباء الإنجليز، كان أستاذاً في الجيلوجيا، وأن أشتغاله بهذا العلم لا يزال إلى اليوم يطبع أدبه وتكهناته وتنبؤاته؟؟ ماذا تريد بعد هؤلاء الجبابرة من أمثلة؟؟
الأدب لا يستطيع بحال من الأحوال أن يستقل عن العلم، والقول باستقلاله خطأ شائع يجب تصحيحه. . .
يقول الشاعر العظيم وردزورث: (إن الأشياء التي يستطيع الشاعر أن يستمد منها ويستوحيها موجودة في كل مكان) وإن (عيني الإنسان وسائر حواسه وإن كانت لا ريب خير مرشد له وهاد، فإنه يسير في كل طريق ويتبع كل جو يستفز مشاعره ويستثير أخيلته، ويستطيع أن يحرك فيه أجنحته)
ويقول وليم هنري هدسن المحاضر السابق بجامعة لندن: (نستطيع أن نقول إن الشاعر العظيم حقاً هو مفكر عظيم في الوقت نفسه. وهو لذلك لا بد أن يهتم، ويتأثر باكتشافات العلم المتفرقة وبقضاياه ومساجلاته، أو على الأقل بالحركات الفكرية التي تثيرها هذه. إن معارف العصر الجديدة، وكل ما تحدثه من التغيرات في معتقدات الناس الموروثة وآرائهم التقليدية في النظام الكوني وعلاقاتهم به، وكل ما تقدمه لهم وتضعه أمامهم من المشاكل والمسائل، لا محالة تسحره جوانبها العاطفية والروحية سحراً لا يقاوم؛ ثم أن ما يتراءى وراءها من خير للبشرية ومطامحها وآمالها أو من شرور، لا بد أن يسترعي التفاته ويستدعي اهتمامه. وعلى فرض أنه لا يتخذ موضوعات تأمله المباشر، فإنها تدخل إلى شعره من مسالك خفية لا تعد ولا تحصى، فتلونه بلونها وتطبعه بطابعها، كما تدخل في تفكير عصره الجاري فتلونه بلونها وتطبعه بطابعها إذن فبعيد كل البعد عن الحق أن الشاعر لا صلة له بالعلم ومعارفه، بل هو على الضد من ذلك، لا يستطيع مطلقاً أن
يتجاهل نتائجها الكبيرة تجاهلاً تاماً، وإذا كان من ذوي العقول الفلسفية فإنه يجد الاطلاع عليها ومحاربتها فيما يتصل منها بكل مسألة ومصلحة تعود إلى حياة الإنسان العليا واجباً عليه وفرضاً). . . (إن استنباط العواطف والأحاسيس من المعرفة العلمية - عملية بطيئة حتما؛ ولكن من مقاييس عظمة الشاعر كمفكر أن يقدر على أن يرى إمكان الاستنباط وعلى أن يساعد - بإدراكه المعاني الروحية للحقائق العلمية - على تتميمها وتكميلها)
ويدع الكاتب تفريقه (الفلسفي)، ويفاضل بين العلم والأدب من الناحية النفسية. فيقول:(إننا نعلم أن العلم يبحث عن الحقيقة فهو يستند إلى العقل، أما الأدب فيتكئ على الخيال، ثم ينظر في العقل والخيال: أيهما أعم في البشر وأظهر؟. . فيرى أنه الخيال (من غير شك) بل إن هذا الخيال ليمتد إلى صميم الحياة العلمية، فالعلم إذن (مدين للخيال أي للأدب)
ولكن من المبادئ الأولية في الأدب أن (التفكير) عنصر من عناصره الرئيسية الأربعة. فالأدب إذن يستند إلى العقل أيضاً. ومن ذا الذي يستطيع أن يزعم أن مسرحية (أهل الكهف) كلها خيال؟!!
فإذا كان العلم مديناً للخيال أي الأدب، فالأدب مدين للعقل أي للعلم. والنتيجة أن ليس هنالك تفاضل، ولا دائن ومدين. . . أليس كذلك؟!
أما أن الخيال أعم في البشر من العقل وأظهر، فغير صحيح والأدلة والأمثلة التي جاء بها الأستاذ لا تثبت أن من الناس من يملكون خيالاً ولا يملكون عقلاً، ليقال إن الخيال أعم من العقل، ولا أثبتت أن الذين يملكون خيالاً واسعاً أكثر من الذين يملكون عقلاً قوياً، ليقال إن الخيال أبرز في البشرية وأظهر نعم (ليس في الناس من لا يقدر على استعمال الخيال). ولكن ليس في الناس من لا يقدر على استعمال العقل، وإذا كانت عقول بعض الناس (محدودة القوى) ومحاكاتهم العقلية ضعيفة، فإن خيال الكثيرين محدود القوى ضيق المجال أيضاً. وإذا لم يكن في الناس من يعجز عن (تخيل حرارة النار وامتداد ألسنة اللهب) فليس فيهم من لا يدرك أن اقتحام اللهب، والدخول في وسط النار، يحرق جسمه ويقضي عليه! وقولك إن كثيراً من الناس (لا يقدرون على استعمال العقل على وجهه) لا معنى له، لأن جميع الناس يستطيعون أن يستقروا ويستنتجوا، وإنما الاختلاف كما سبق القول في الدرجة والمقدار
ولا أريد ههنا أن أبحث عن الصلة بين (العقل) والخيال؛ لأن المقام لا يتسع لذلك؛ ولأني أريد أن أساير الأستاذ في فروضه ونظرياته حتى يكون الرد. . . أوجز. ولكن لا مانع من أن أساله هذا السؤال: ما السر في قلة أدب القصص والخيال في الشرق عامة بالقياس إلى أدب المقالة والتفكير؟
ثم يقول الأستاذ علي: (أنا إلى هنا في القول بأن الحقيقة في صف العلم والجمال مع الأدب)(والواقع غير ذاك. ذلك أن العلم في تبدل مستمر وتغير دائم). (في حين أن الأدب باق في منزلته، ثابت في مكانته)(ولا يعتريه تغيير ولا تبديل). فأين هي الحقيقة؟ وأي الشيئين هو الثابت؟ وأيهما المتحول؟
كلا هذين الرأيين مخطئان، ولننظر أولا في الرأي الثاني: فالأدب متغير متبدل دائماً. لأن الأدب يصدر عن الشخصية ويخاطب الشخصية، وبما أن شخصيات الناس تختلف، فكل شخص يفهم من قصيدة بعينها ما لا يفهمه شخص آخر؛ ومعنى ذلك أن الحقائق العاطفية والمعاني الروحية التي أراد الشاعر أن يوصلها إلى نفس القارئ قد ضاعت وزالت، وبتعبير أدق، قد تحولت إلى ملايين من الحقائق والمعاني. وهذا هو السبب في اختلاف النقاد على الأثر الأدبي الواحد. بل إن الشاعر نفسه قد يعجز بعد مضي زمن قصير أو طويل على استعادة معانيه العاطفية التي أودعها قصيدته. وإلى جانب هذه المعاني المتبدلة المتحولة تجد ما يحتويه (الكتاب العلمي الذي ألف منذ خمسين سنة) هي نفس حقائق الطبيعة، والذي لا (نقبله) منه اليوم هو نظرياته (كما سترى بعد قليل).
فإن قلت: إن المهم ههنا أني أقرأ اليوم الديوان الذي نظم منذ ألف سنة ولا أقبل الكتاب العلمي الذي كتب منذ خمسين سنة لأن ما في الأول من صفات القوة والجمال وسمو الموضوع هو الذي يبقيه ويخلده. كما أن نسخ النظريات و (القوانين) الجديدة لتلك التي سبقتها هو الذي يدعوني لرفض الثاني. قلت: هذه النظرة إلى بقاء الأدب أقبلها على تعارضها مع الحقيقة التي ذكرتها على تغيره، لأن غايتي من هذا المقال أن أدفع التهم التي ألصقتها بالعلم لا أن أبحث في الأدب أو أفاضل بينه وبين العلم فلننظر الآن في تغير العلم الدائم، والكتاب الذي (لا يقبله طالب ثانوي). . .
يتلخص عمل العلم في أنه يجمع مقداراً من الحقائق، ثم يحاول أن يضع لها قاعدة عامة
تربطها وتفسرها جميعاً، على أن تنطبق كل ما يكشف من الحقائق بعد وضعها. فإذا أكتشف حقيقة أو أكثر لا تتفق معها عدل عنها إلى قاعدة أخرى، أعم وأشمل، وهكذا (يتدرج) العلم من قاعدة إلى قاعدة أوسع، أي تنطوي على حقائق أكثر. إن العلم لا يرى في هذه القواعد والنظريات والقوانين أكثر من (فروض). ولكن بهذه الفروض وحدها يستطيع أن يكشف الحقائق، لأن كل فرض ينبه إلى حقائق جديدة، ولأن العلماء حين يضعون فرضاً لا يكتفون به ولا يسكنون إليه، بل يجدون في البحث والملاحظة والاستقراء وابتكار الآلات واستنباط الوسائل التي تعينهم على الوصول إلى بيانات أوفى، وحقائق أكثر. وهذه تقابل مع الفرض الموضوع، فان تعارضت معه وضع فرض أشمل. إذن فوضع فرض جديد معناه كشف حقائق طبيعية جديدة - لا تغير في الحقائق السابقة - ومعناه أيضاً (تقدم) - لا تغير - من فرض إلى أخر أشمل.
ومن ذلك نستطيع أن نستنتج بسهولة أن الطالب الثانوي لا يرفض الكتاب الذي ألف منذ خمسين سنة، بل يقبله، ويقرؤه، ولكن النسخة التي بين يديه هي طبعة جديدة من ذلك الكتاب منقحة وموسعة. . .
وزيادة في توضيح المسألة أدع السر جيمس جينس يرد على الأستاذ الطنطاوي:
(إن الغرض العام للعلم هو أن يسير إلى مثل هذه النظريات ويصل إليها، ولا نستطيع مطلقاً أن نعتبر نظريةً ما نهائية أو حقيقةً مطلقة، إذ من المحتمل أن تظهر حقيقة جديدة ترغمنا على ترك هذه النظرية؛ وقد يحدث ذلك للنظرية النسبية ولو أنه بعيد الاحتمال؛ وإذا ما حدث ذلك برغم استبعاده فإن الوقت الذي أنفق في تكوينها لم يضع سدى، بل سيكون تدرجاً إلى نظرية أوسع وأكمل، تتفق مع عدد أكبر من الظواهر الطبيعية. من ذلك يظهر العلم للرجل العادي متغيراً دائم التغير دائراً حول نفسه مخالفاً لنظرياته الأولى، ولكن العالم يراه دائم التقدم، يرقى من نظرية إلى أخرى، تحظى كل نظرية منها باتفاقها مع حقائق تزيد على التي أزاحتها، ورائده الوصول إلى هدفه الأسمى وهو النظرية التي تفسر ظواهر الطبيعة الكاملة)
ثم ينظر الإنسان في نتائج العلم ويسأل: ما هي فائدة هذا العلم؟ وماذا نفع البشرية؟
يريد أن يقول: ما هي فائدة هذا العقل؟ والجواب على ذلك سهل ميسور. فالعقل لم يوجد إلا
ليستخدمه الإنسان في الدفاع عن نفسه، والتغلب على أعدائه من الحيوان، وفي حفظ بقائه، وفي الرقي بحياته وتوفير أسباب سعادته بعد ذلك، ولولا هذه الغاية لما وجد أصلاً. . . ولقد جرب العقل الفلسفة فوجدها عاجزة كل العجز عن إبلاغه هذه الغاية، لأن الفلسفة كما لا يخفى عليك كلام في كلام؛ والكلام لا يستطيع أن يقتل حشرة، أو يهلك مكروباً، أو يصنع طيارة. لذلك تركها وأساليبها و (قيمها) وخرافاتها، وسلك هذا المهيع السوي، والطريق الواضح، طريق العلم. . . فلم يلبث حتى رأى نتائجه المحسوسة الباهرة. . . فالعلم إذن آخر مظهر من مظاهر الرقي العقلي، وآخر اتجاه اتجه إليه العقل. وليس من البعيد جداً أن يتفق العلم والفلسفة والدين على أية صورة من الصور، ولكن دوره سيظل هو هو لا يتغير ولا يتبدل ودوره هذا لا يقتصر على تخليص البشرية من جميع أعدائها ولا على إسعادها مادياً، فحسب، بل هو يشتمل على إسعادها فكرياً، وتلك هي غايته العليا
تقول: (إن الاختراعات ليست خيراً كلها، وليست نفعاً للبشرية مطلقاً) وهذا صحيح، أو هو صحيح إلى حد ما؛ والمفهوم منه أن أكثر الاختراعات خير، وإن لم تكن كلها خيراً؛ ولكنك لا تلبث حتى تنقضه بهذا التقرير (الحسابي) الحاسم، وهو أن العلم (شره بخيره والنتيجة صفر). . . صفر!!
وتقول: إن العلم (سهل المواصلات وهونها، فقرب البعيد، وأراح المسافر، ووفر عليه صحته ووقته، ولكن هل أسعد ذلك البشرية؟)
بالطبع والأدلة موجودة في السؤال. ولكنك ترى غير هذا الرأي، وتجيب جواباً لا صلة له البتة بالسؤال. فوسائل المواصلات الحديثة لم تسعد البشرية، ولماذا؟ لأننا لم نعد نتحمل آلام المسافات الطويلة، أو نتعرض لمخاوفها، فخسرنا الصور والمشاعر (وصرنا نقطع طريقنا إلى القبر عدواً ونحن مغمضو عيوننا. . . لم نر من لجة الحياة إلا سطحها الساكن البراق!). . . وهذا بالطبع دليل ساطع قاطع على أي وسائل المواصلات الحديثة لم (تسعد) البشرية. . . صحيح!!
ثم تقول إن العلم تغلب على كثير من الأمراض، ولكنه هو الذي جاء بها، جاءت بها الحضارة، (وهذه فكرة خاطئة عن صلة العلم بالحضارة، وليس هذا موضع بحثها) فهو لا يزال مديناً. . تقول هذا ناسياً ناحية مهمة، وهو أن الحكم على العلم وموقفه من الأمراض
لا ينبغي أن يبنى على وضعه الحاضر فقط؛ فإذا كان العلم قد تغلب هذه المدة القصيرة على كثير من الأمراض واكتشف جراثيمها، وصنع السموم المضادة لها، فإنه سيتغلب عليها جميعاً، ويفني الجراثيم على أخرها، وكذلك يقضي على عدو آخر فظيع للبشرية، وهو الحشرات؛ وعندئذ تستريح البشرية وتسير قدماً إلى الأمام - وفي النجاح الذي أحرزه إلى اليوم خير مؤيد لما أقول. . .
إن هؤلاء البدو الذين يرفع من حياتهم الأستاذ علي سيتحضرون حتما؛ لأن التحضر يجري بحكم قانون طبيعي قاهر. وهؤلاء البدو ليسوا سعداء، كما يظن، لأنه لا يمكن أن يكون سعيداً من يفترس أخاه لقبضة من العشب، أو جرعة من الماء. ونحن يجب أن ننظر إلى فتوحات العرب نظرة اقتصادية قبل كل شيء. . .
ثم أن هنالك فرقاً بين سعادة وسعادة. وسعادة اينشتين حين يقع على حقيقة جديدة، ليست هي سعادة زنوج أفريقيا، أو بدو نجد، لأن سعادة الإنسان الراقية أعلى من سعادة الإنسانية المنحطة، وهذا الفرق يشبه تماماً الفرق بين الرواية البوليسية السخيفة وبين (هاملت) وبين (اللذة) التي يحصل عليها القارئ العامي من قراءة الأولى، وبين (اللذة) التي يحصل عليها المثقف من قراءة الثانية. فلننظر إلى طبيعة اللذة والسعادة قبل كل شيء.
عبد الكريم الناصري
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 25 -
الفلسفة الصينية
العصر المنهجي - (لاهو - تسيه)
فلسفة العملية
يغالي بعض الباحثين حين يصف (لاهو - تسيه) بأنه ميتافيزيكي فحسب ولا شأن له بالفلسفة العملية أو الأخلاق كما يصف (كونفيشيوس) بأنه عملي لا يأبه للميتافيزيكا، وإنما الحقيقة أن لكل منهما رأياً قيما في الأخلاق، وهذا طبيعي، لنهما اغترفا من منبع واحد، وهو فلسفة عصر ما قبل التاريخ، ولكن الخلاف قد دب بينهما حول الوسيلة التي توصل إلى الخير والكمال، فبينما كان (لاهو - تسيه) يرى أنها التنسك واحتقار المادة وإهمال الحياة العملية وعدم الإكثار من القوانين، ويرى أن عصر الأباطرة الذين شرعوا القوانين واللوائح كان عصر تدهور وانحلال تلا العصر الذهبي الذي كان الملوك فيه لا يعرفون القوانين، ولا يهتمون بالعقاب، كان (كونفيشيوس) على العكس من ذلك يرى أن العصر الذهبي هو عصر أولئك الملوك الذين قننوا القوانين ووضعوا القواعد التشريعية، ولهذا كان يتخذهم نماذج يسير على مناولهم. وإذن، فالاثنان أخلاقيان يريدان الكمال والسعادة للأمة، وإنما يختلفان في الوسيلة فحسب، وقد شرح (لاهو - تسيه) رأيه في الأخلاق العملية فقال ما نصه:(بقدر ما يكثر الملك من القوانين واللوائح، يهوى الشعب في البأساء؛ وبقدر ما يكون لدى الشعب من وسائل الغنى والرفهنية، تكون حالة الأسرة والوطن رديئة؛ وبقدر ما تتضاعف الأوامر الشديدة يكون عدد اللصوص والمجرمين في نمو وتضاعف) وعلى الجملة، كان المثل الأعلى من الملوك في رأيه هو الملك الذي تجهل رعيته الوجود جهلاً
تاماً
وعنده أن المعرفة الظاهرية رديئة، لأنها لا توصل إلا إلى حقائق نسبية، ومن حيث إن الغاية المقصودة هي الحقيقة المطلقة في ذاتها، فينبغي ألا ننشغل إلا بما يوصل إلى هذه الحقيقة، ولا يوصل إليها إلا الاتحاد التام، والامتزاج الكامل بـ (تاو) ولا يتيسر هذا الامتزاج بالتربية ولا بالتثقيف الظاهري، كلا، فهاتان الوسيلتان معدومتان الفائدة، وإنما هو يتحقق بالعزلة التامة ولذلك فالقديسون الذين يريدون الاتصال بـ (تاو) واتباع الصراط السوي، يجب عليهم أن ينبذوا كل ثقافة وينسحبوا إلى مكان مقفر ويعيشوا كما كان أهل العصور الغابرة يعيشون ممتزجين بالقوة غير المرئية، وهو يصف هذه الحالة فيقول: يكون خائفاً كمن يختلق سيلا في الشتاء، متردداً كمن يخشى أن يراه جيرانه، جدياً كأجنبي في محضر ضائفه، بارداً كالثلج حين يتحلل، جافاً كالخشب الخام، فارغاً كالوادي، وفي العموم أن المثل الأعلى للخيرية في رأي الفيلسوف هو الطفل الذي يولد على الفطرة بريئاً نقياً، وأن الوسائل التي توصل إلى الكمال هي: الحياء والضعف والبساطة و (الؤووي) ومعناه العزلة والتخلي عن كل عمل، وسلوك الصراط السوي
غير أن هذا كله ليس معناه أن (لاهو - تسيه) قد أمر بإهمال المسئولية الاجتماعية، كلا، بل هو قد حض بالعكس على العناية بالجمعية البشرية، وأعلن أن الأنانية وإهمال خدمة العمران من الرذائل الكبرى وقد سبقت تعاليمه الآمرة بالغيرية والمحبة العامة تعاليم المسيحية بنحو ستة قرون، ولم يكن تبشير (لاهو - تسيه) بحب الغير ناشئاً عن عاطفة، وإنما كان منبثقاً من منبع الواجب والالتزام اللذين كانا يملكان عليه تفكيره وحواسه وعنده أن القديس هو الذي يحكم الشعب ويسوسه، ولكن لا بالقوة والقسوة، بل بالمثل الأعلى الذي يقدمه مثبتاً به أنه فوق الطبيعة، وأنه لا يحكم شعبه بالقوانين والعقوبات، ولا يخضع الشعوب الأخرى بالحروب، وإنما يعامل الجميع ببساطة الطفل وطهارته؛ هذا هو وحده الأمير الذي تنتظره الصين وتعول عليه في محنتها
أحسب أنك ترى بعد كل هذا معي ومع الأستاذ (زانكير) أن (لاهو - تسيه) كان فيلسوفاً لا تنزل به عبقريته إلى ما هو أدنى من صفوف أفلاطون والقديس (أوجوستان) و (كانت) وأنه إذا كان قد أخفق أو ضل السبيل في بعض أفكاره، فإن التبعة في ذلك واقعة على
التدهور الذي كان ميزة عصره وخاصيته، وإذا لم يكن مذهبه قد أزهر فيما بعد كما أزهرت مذاهب الإغريق، فإن لذلك سببين: الأول أنه لم ينشئ في حياته مدرسة لنشر فلسفته، والسبب الثاني أن الطبيعة الصينية لم تكن تتلاءم مع تعاليمه المغالية في التنسك والسلبية، وهذا لم تكد فلسفته تعرف في أوربا حتى أزهرت في البيئات الاشراقية إزهاراً لم تعرف له نظيراً في منبتها الأصلي
(التاوايسم) أو (اللاهو - تسيه)
بعد أن توفي (لاهو - تسيه) نشأ من ميتافيزيكيته مذهبان: (التاوإيسم) الفلسفي و (التاوإيسم الديني)، وكلاهما نشأ من (تاو) وهو عنوان كتابه الذي أشرنا إليه. فأما (التاوايسم) الفلسفي فقد أنقسم فيه تلاميذ الحكيم إلى عدة أقسام، فبعضهم تخصص في دراسة المعرفة وما يمكن أن يحصله الإنسان منها، وهل هذا المتحصل مفيد أو غير مفيد. والبعض الأخر قصر بحثه على دراسة الظواهر الطبيعية وما تحتويه من أسرار، ولكن لما كان الجميع متأثرين برأي أستاذهم الذي أسلفناه، وهو القائل بأن (التاو) غير قابل للمدركية البشرية، فقد كان من الطبيعي أن يعلنوا أن العقل الإنساني قاصر على إدراك (المطلق) وبالتالي هو قاصر عن إدراك بعض الحقائق الموجودة
هناك فريق ثالث من تلاميذ هذا الحكيم لما يئسوا من إدراك العقل البشري لكنه (التاو) لم يجدوا أبداً من أن يعلنوا أن ما لم يدرك بالعقل، يدرك بوساطة السحر؛ وهنا نشأ مذهب (التاوإسيم) الديني وهو مزيج من قواعد سحرية، وتعاليم تصوفية، ولما كان هذا القسم الأخير لا يعنينا كثيراً في دراستنا الحاضرة فقد آثرنا أن نقصر إشارتنا هنا على (التاوايسم) الفلسفي ومن أشهر أولئك التلاميذ الذين أحيوا مذهب أستاذهم بعد موته وواصلوا سلسلة بحوثه هو (بين - سي) الذي سار على ضوء تعاليم أستاذه فكتب بحوثاً قيمة حول نظرية المعرفة ونقد العقل البشري وأبان قصوره عن إدراك (المطلق) ومن مشاهير هؤلاء التلاميذ أيضاً (لين - تسيه) الذي كان من أعلام عصره الإجلاء والذي كتب بحوثاً هامة حول كثير من المشاكل الفلسفية، ولكن مما يدعو إلى الأسف أن ما عثر عليه من مؤلفاته وجد مشوهاً متناقضاً مما يدل على أن بعض الأيدي قد عبثت به وقد عاش هذا الحكيم في القرن الخامس قبل المسيح.
هناك حكيم آخر من أولئك التلاميذ، وهو:(تشوانج - تسيه) الذي عاش في النصف الثاني من القرن الرابع قبل المسيح وعاصر (مانسيوس) الذي سنتناوله بعد أستاذه (كونفيشيوس)
يروي لنا المؤرخون إن هذا الحكيم شغل في مطلع شبابه مركزاً سياسياً هاماً، ولكنه لم يكد ينضج حتى عاف السياسة واعتزل الخدمة وقصر حياته على البحث والتأليف، وفي أثناء ذلك بلغت كفايته مسمع الملك، فبعث إليه رسوله بهدية عظيمة وطلب إليه أن يقبل منصب وزير في الدولة، فلما عرض عليه الرسول ذلك أجابه بقوله: إن هذا المبلغ عظيم إذا قيس إلى حالتي وإن منصب الوزير منصب محسود، ولكن ألم تر في حياتك أن الثور الذي خصص للذبح في أحد المعابد ثم أخذوا يطعمونه حتى سمن ثم أحاطوا جسمه قبل ذهابه إلى المذبح بالحلي والمجوهرات ليكون منظره جميلا، ألم تر أن هذا الثور ساعة دخوله إلى المعبد يتمنى أن لو كان خنزيراً صغيراً حتى يعفى من الذبح، ولكن هذا التمني لا يجديه فتيلا؟ أذهب إذن من هنا ولا تهني بمحضرك فأنا أفضل أن أنام في قناة حمئة مليئة بالأوحال على أن أذعن لتقاليد البلاط والتزاماته.
ويحدثوننا كذلك أن هذا الإفراط في التمسك بالكرامة والمحافظة على حرية الرأي قد جر عليه حياة مليئة بالصعوبات والأشواك، ولكنها مليئة كذلك بالاحترام، والإجلال إلى حد أن روت لنا إحدى الأساطير أن أخرى زوجاته من كانت الأسرة المالكة
مؤلفاته ومذهبه
روى التاريخ أن هذا الحكيم قد كتب ثلاثة وثلاثين كتاباً وأن هذه الكتب كلها قد جمعت تحت عنوان واحد وهو: (المناهج الحقيقية لزهور بلاد الجنوب) ولكن المدققين من المؤرخين يرون أنه لم يثبت له شخصياً إلا نحو عشرة كتب كتبها بخطه؛ أما الباقي فهو مجموعة مكونة من آرائه وآثاره مع شروح وتعاليق تلاميذه.
أما مذهبه فيمكن أن يدرس من ثلاث نواح: الناحية الأولى النظرية؛ وفيها لم يكن يختلف عن أستاذه (لاهو - تسيه) في شيء، إذ هو يرى معه أن العقلية البشرية قاصرة عن إدراك (التاو) بواسطة المعرفة الثقافية التي لا تتناول إلا الحقائق النسبية أما (المطلق) فهو لا يعرف إلا عن طريق الانفعال النفساني، وإن كل محاولة لمعرفة هذا (المطلق) عن طريق التفكير المنطقي آيلة ضرورة إلى الفشل المحقق بعد أن تقود صاحبها إلى صحراء قاحلة
من السفسطة والضلال، لأن المنطق لا يصل إلى نتائجه إلا بالتحليل؛ ولو أصبح تحليل (المطلق) ممكناً، لخرج عن كونه (مطلقا)
أما الناحية العملية من مذهبه: فهي وإن كانت مؤسسة على الأصول الجوهرية من آراء (لاهو - تسيه) إلا أنها تطورت عن المذهب القديم كثيراً. ولإيضاح هذه الناحية العملية أجرى فيلسوفنا الشاعر محاورة بين روح السحاب وبين الضباب؛ ثم بسط مذهب على لسان الضباب فقال: (صير قلبك حازماً وتجنب كل تدخل في أي شيء؛ أي ألزم الـ (وو - وي) أو (اللاعمل) ودع الأشياء تتطور حسب ناموسها الطبيعي، ولا تأبه لجسمك وأغلق عينيك وأذنيك، وانس كل ما يربطك بالعالم الخارجي، وامتزج بالمبدأ الأول. فك وثاق قلبك، ومد روحك؛ وعد إلى عالم (اللا إدراك) فإذا تحقق ذلك رجع كل كائن إلى الصدر المبدئي العام، وعاد كل شيء إلى منشئه دون علم منه بهذه العودة واجتمع كل موجود، وتوحد الجميع كما كانت الحال في البدء، ولم يصبح كل كائن مريداً ولا قادراً على البعد عن هذه الوحدة المطلقة الأبدية)
ويعلق أحد المستصينين على هذا بقوله: ينبغي ألا يتسرب إلى الأذهان أن تنسك (شوانج - تسيه) كان نوعاً من الحرمان والرهبنة على نحو ما هو موجود في الديانات الهندية والمسيحية، كلا، فالحكيم في رأيه لا يستحق هذا الاسم إلا إذا ترفع عن جميع الآلام وتخلص منها وأخضعها لإرادته. أما متنسكو تلك الديانات فهم تحت الآلام لا فوقها، وهذا فرق عظيم يجب أن يعني به الباحثون
بهذا الفيلسوف تنتهي أرقى الحركات العقلية حول (التاوايسم) الفلسفي بعد أن أزهرت إبان القرنين: الخامس والرابع قبل المسيح إزهاراً ساعد عليه تعطش الشعب إلى السعادة والهدوء في وسط معمعان هذا التدهور السياسي والعمراني الذي أشرنا إليه آنفاً
هذا، وسندرس ما عرض له (التاوإيسم) من تطورات في العصور التاريخية التي تلت هذا العصر، ولكن بعد أن ننتهي من دراسة أعلام المذهب الآخر وهم:(كونفيشيوس) وأشياعه
(يتبع)
محمد غلاب
للأدب والتاريخ:
مصطفى صادق الرافعي
1880 -
1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 9 -
(قطعتني زحمة العمل أسبوعين عن مواصلة الكتابة وقامت بيني وبين الواجب؛ ثم ألح عليّ المرض أسبوعين يغدو ويروح بين الليل والنهار، فلا أهم أن اشرع القلم لأستأنف حديثي حتى يقطعني الإعياء ويقعد بي العجز. فما كان من صمتي في الأسابيع الأربعة الماضية فهو من ذاك، ولعله عذر يبلغ بي عند الأصدقاء الذين ظنوا بي ما ظنوا لهذا الصمت الطويل فأوسعوني في رسائلهم عتباً وملامة، فكان عتابهم آية من آيات الود الصافي وحسن الإخاء)
الرافعي في سنوات الحرب
كان الرافعي رحمه الله شاعر النفس، مرهف الحس، رقيق القلب، قوي العاطفة: يرى المنظر الأليم فتنفعل به نفسه ويتحرك خاطره ويتفطر قلبه؛ وتقص عليه نبأ الفاجعة فلا تلبث وأنت تحكي له أن تلمح في عينيه بريق الدمع يحبسه الحياء. ولقد كان الرافعي يقرأ فيما يرد إليه من بريد قرائه كثيراً من المآسي الفاجعة يسأله أصحابها الرأي أو المعونة، فما يقرؤها إذ يقرؤها كلاماً مكتوباً، ولكنها تحت عينيه حادثة يشهدها ويرى ضحاياها فما تبرح ذاكرته من بعد إلا مع الزمن الطويل.
ولقد وقعت الحرب واستعرت نارها في الميادين البعيدة لا يبلغ إلينا منها نار ولا دخان ولا يراق دم، ولكنها أرسلت إلى مصر الفقر والجوع والغلاء، فما كان ضحاياها في مصر بالجوع والمتربة أقل عديداً من ضحاياها هناك في الميدان. . . كيف كان يعيش العامل المسكين في تلك الأيام؟ رباه! إنني ما أزال أذكر يوم أرسلني والدي - وأنا غلام بعد - أستدعى النجار لعمل عندنا فوجدته جالساً في أهله يأكلون: كانوا ستة قد تحلقوا حول قصعة سوداء فيها كومة من فتات الخبز أدامه الماء، تتسابق أيديهم إليه في نهم كأنما يخشى
كل واحد أن تعود يده إلى القصعة بعد الأوان فلا يجد اللقمة الثانية. . .!
هكذا كان يعيش نصف الشعب في تلك الأيام السود مما فعل القحط والغلاء، لأن أقوات الشعب قد حملت إلى الميدان لتخزن في دار المؤن وقتاً ما، لتقذفها من بعد قنابل المحاربين وتذروها رماداً في الهواء. . .!
ونظر الرافعي حواليه فارتد إليه البصر حسيراً مما يرى ويسمع، فاحتبس الدم في عينيه ولكن قلبه ظل يتحدث بمعانيه
ومضى عام وعام والحرب ما تزال مستعرة، والبؤس تتعدد ألوانه، وتتشكل صوره، وتحشد آثاره؛ والرافعي دائم الحديث إلى نفسه وهو يحمل من هم الشعب في قلبه كبير، حتى امتلأ الإناء يوماً ففاض. . .
في بعض اللحظات التي تفيض فيها النفس بالألم، يحس الإنسان كأنه شيء له نظام في الكون إرادة وتدبير، وأن من حقه أن يقول للمقدور: لماذا أنت في طريقي. . .؟ فتراه في بعض نجواه يتساءل: ربِ لم كتبت علي هذا. .؟ لماذا حكمت بذلك. .؟ لماذا قدرت وقضيت. .؟ ما حكمتك فيما كان. .؟ ألم يكن خيراً لو كان ما لم يكن. . . .؟ ثم يثوب إلى نفسه ويفيء إلى الحق، فيعود معتذراً يقول: لقد ظهر حكمك، ودقت حكمتك فمغفرةً وعفواً. . .!
وتظل حكمة الله مطوية في ظلمات الغيب، لا يتنورها إلا من غمره شعاع الإيمان وسطع في قلبه نور الحكمة، أما الذين تعبدتهم شهوات أنفسهم فهم أبداً في حيرة وضلال.
في لحظة من تلك اللحظات أغمض الرافعي عينيه وراح يفكر، وفي رأسه خواطر يموج بعضها في بعض؛ ثم فاءت نفسه، فرفع رأسه وهو يقول:(ربِ، ما أدق حكمتك وأعظم تدبيرك. .!) وأفاض الله عليه ورفع عن عينيه الغطاء. . .
وعاد ينظر إلى الناس يأكل بعضهم بعضاً، ويسرق بعضهم أقوات بعض، ويتزاحمون على الحياة فيسارعون إلى الموت؛ فدمعت عيناه ولكنه كان يبتسم، وعاد يقول:(حكيم أنت يا رب! ليتهم وليتني. . . ليتهم يعلمون شيئاً من حكمة الله في شيء من أغلاط الناس!. . . كل شيء في هذا الكون العظيم يجري على قدرٍ منك وتدبير حكيم!)
ثم شرع يؤلف كتابه المساكين
كتاب المساكين
أخرج الرافعي كتابه هذا في سنة 1917، وهو الكتاب الرابع مما ألفه الرافعي في المنثور، وثاني ما ألف في الأدب الإنشائي، ويعرف به الرافعي في الصفحة الأولى منه فيقول: هو كتاب (أردت به بيان شيء من حكمة الله في شيء من أغلاط الناس)
وقدم له بمقدمة بليغة في معنى الفقر والإحسان والتعاطف الإنساني يقول فيها:
(هذا كتاب حاولت أن أكسو الفقر من صفحاته مرقعةً جديدة. . . فقد والله بليت أثواب هذا الفقر وإنها لتنسدل على أركانه مزقاً متهدلة يمشي بعضها في بعض، وأنه ليفلقها بخيوط من الدمع ويمسكها برقع من الأكباد ويشدها بالقطع المتنافرة من حسرة إلى أمل وأمل إلى خيبة وخيبة إلى هم؛ وأقبح من الفقر ألا يظهر الفقر كاسياً أو تكون له زينةً إلا من أوجاع الإنسانية أو المعاني التي يتمنى الحكماء لو أنها غابت في جماجم الموتى الأولين. . .)
والكتاب فصول شتى، ليس له وحدة تربط بين أجزائه، إلا أنه صور من الآم الإنسانية كثيرة الألوان متعددة الظلال، تتلقى عندها أنة المريض، وزفرة العاشق، ودمعة الجائع، وصرخة اللهفان المستغيث؛ فهنا صورة (الشيخ علي) الرجل الذي يعيش بطبيعته فوق الحياة وفوق الناس لأنه يعيش بنعمة الرضى، وإلى جانبه قصة الغني الشيخ الذي حسب أنه سيطر على الحياة لأنه ملك المال، وهذه صاحبته الحسناء الصغيرة التي انتشلها الشيخ بماله من الفقر الجائع فوهب لها المال ولكنها سلبها نعمة الشعور بالحياة، وهذه، وهذه. . . من صور المساكين الذين يعيشون يحتسون الدموع أو يتطهرون بالدموع.
وأول أمر الرافعي في تأليف كتاب المساكين، أنه كان في زيارة أصهاره في (منية جناج) فلقي هناك الشيخ علي، والشيخ علي هذا رجل يعيش وحده ليس له جيب يمسك درهما، ولا جسد يمسك ثوباً، ولا دار تؤيه، ولا حقل يغل عليه؛ يجوع فيهبط على أول دار تلقاه يتناول ما يمسك رمقه، ويدركه النوم فيتوسد ذراعه حيث أدركه النوم من الدار أو الطريق، رجل يعيش بطبيعته فوق كل آمال الناس، وآمال الحياة، ولقيه الرافعي وأستمع إلى خبره فعرف من فلسفته فلسفة الحياة، ووجد عنده الحل لكل ما في نفسه من المشكلات، فكان هذا الكتاب من وحي الشيخ علي الفيلسوف الصامت في الرافعي الأديب، واجتمعت له مادة الكتاب في مجلس واحد لم ينطق فيه أحد بكلمة.
ويصف الرافعي الشيخ علي فيقول:
(. . . هو حليم لنفسه غضوب لنفسه، وكذلك هو في الخفة والوقار، والضحك والعبوس، والزهو والانقباض، وفي كل ضدين منهما لذة وألم؛ كأنه جزيرة قائمة في بحر لا يحيط بها إلا الماء فلا صلة بينهما في المادة وإن كانت هي فيه؛ فالناس كما هم وهو كما هو يرونه من جفوة الزمان أضعف من أن يصاب بأذى، ويرى نفسه من دهره أقوى من يصيب بأذى؛ ويتماشونه رأفة ورحمة، ويتحاماهم أنفة واستغناء؛ ثم إن مسه الأذى الرقيع أو سقيط أحسن إلى الفضيلة بنسيان من أساء إليه، فيألم وكان ألمه مرض طبيعي، ولا فرق عنده في هذه الحال بين أن يمغص بطنه بالداء أو يمغص ظهره بالعصا. . .! وهو والدنيا خصمان في ميدان الحياة غير أن أمرهما مختلف جداً فلم تقهره الدنيا لأنه لم يطمح إليها ولم يقع فيها، وقهرها هو لأنها لم تظفر به. . .
(. . . وهو رجل سدت في وجهه منافذ الجهات الأربع كلها إلا جهة السماء، فكأنه في الأرض بطل خيالي يرينا من نفسه إحدى خرافات الحياة، ولكنه مع ذلك يكاد يخرج للدنيا تلك الحقيقة الإلهية التي لا تغذوها مادة الأرض، ولا مادة الجسم، فهي تزدري كل ما على الأرض من متاع وزينة وزخرف وكل ما ردت عليك الغبطة من بسطة في الجسم أو سعة في المال أو فضل في المنزلة؛ وكل ما أنت من إقباله على طمع ومن فوته على خوف. . .
(. . . فهو أجهل الناس في الدنيا وأجهل الناس بالدنيا. . . وأنت إذا سطعت له بالجوهرة الكريمة النادرة فلا يعدو أن يراها حصاة جميلة تتألق، وإن هولت عليه بألوان الخز والديباج حسبك مائقا لم ترقط نضارة البرسيم وألوان الربيع. . .)
هذا هو الشيخ علي الذي أوحى إلى الرافعي كتاب المساكين ونسب إليه القول فيه ورده إلى إلهامه، وهو عنده النموذج الكامل للرجل السعيد والفيلسوف الناضج.
ولقد فرغ الرافعي من كتاب المساكين في سنة 1917؛ وفرغ الشيخ علي من دنياه بعد ذلك بقليل، ولكن روحه ظلت تعمل في نفس الرافعي وتملي عليه وتلهمه الرأي إلى أخر أيامه بعد ذلك بعشرين سنة؛ والواقع أن الرافعي كان يؤمن بفلسفة التسليم والرضى فيما لا طاقة له به، إيماناً كان مادة حياته ونظام عمله، وإيمانه ذاك هو الذي كان يفيض عليه إمارات
المرح والسرور حتى في أعصب أوقاته وأحرج ساعاته، فكنت لا تراه إلا مبتسماً أبداً أو ضاحكاً ضحكة السخرية والاستسلام.
كتاب المساكين الذي يقول عنه المرحوم أحمد زكي باشا: (لقد جعلت لنا شكسبير كما للإنجليز شكسبير، وهيجو كما للفرنسيين هيجو، وجوته كما للألمان جوته)
هو كتاب أجتمع على إخراجه سببان: أهوال الحرب التي حطت على مصر بالجوع والقحط والغلاء؛ والشيخ علي الجناجي.
(شبرا)
محمد سعيد العريان
أبحاث تاريخية جديدة
الإسلام في غرب أفريقية
مدى انتشاره في تلك الأقاليم ومبلغ أثره في الأهلين
للأديب جمال الدين محمد الشيال
تابع ما نشر في العدد الماضي
كيف عم الإسلام غرب أفريقيا
1 -
في المدة بين سنتي 640و642 تم لعمرو بن العاص فتح مصر. ومنها استطاع عبد الله بن أبي سرح وعبد الله بن الزبير فيما بعد فتح طرابلس وتونس والجزائر.
2 -
وفي سنة 661 كانت واقعة صفين المشهورة وانشق بعدها قوم على علي بن أبي طالب فسموا بالخوارج. وقد هاجرت فئة منهم إلى شمال أفريقية ونزلوا بشواطئ تونس، وقد استمرت بقاياهم حتى قبيل الحرب العظمى في جزيرة جربا وهناك انتشرت آراؤهم. ومن هذه الجزائر انتقلت هذه الآراء إلى شمال أفريقية حتى ساحل مراكش الأطلسي؛ وبعد سنة 720 أصبحت الخارجية مذهب الأهلين من البربر.
3 -
وفي سنة 669 استقر حكم العرب في شمال أفريقية، وعين عقبة بن نافع حاكما على أفريقية (تونس الحالية)؛ وفي سنة 673 أنشئت القيروان لتكون حاضرة لحكم المسلمين. وفي سنة 681 تقدم عقبة نحو الغرب بجيشه حتى وصل إلى المحيط الأطلسي.
4 -
وبعد سنة 795 تولى حكم أفريقية موسى بن نصير وتقدم في فتوحه حتى استولى على مراكش إلا مدينة سبتة وهناك لم يجد العرب صعوبة في نشر الإسلام دين الفطرة. وتمكن موسى من فتح الأندلس بعد ذلك على يد قائده البربري طارق بن زياد.
5 -
وتولى حكم أفريقية بعد هذه الأدراسة ثم الأغالبة وتبعهم أسرات أخر حتى أتى الفاطميون فورثوا الحكم وأغاروا على مصر واستقلوا بها باسطين نفوذهم على أفريقية وصقلية.
6 -
وفي المدة التي بين القرن السابع ومنتصف القرن الحادي عشر كان العنصر العربي في شمال أفريقية أقلية يمثلون في آلاف من الجنود والحكام ورجال الدين. ولكنهم
استطاعوا بمرور الزمن أن يفرضوا دينهم ولغتهم وحكمهم على ملايين من البربر.
7 -
وحوالي سنة 1045 نزل بالشاطئ الأيمن للنيل قبائل بني هلال وبني سليم آتين من أواسط بلاد العرب وابتدءوا يعملون على إثارة الشغب في مصر العليا؛ ولكي يتخلص منهم حكام مصر الضعفاء في ذلك الحين حرضوهم على أن يغزوا شمال غرب أفريقية، فعبر الصحراء منهم ما يقارب من المائتي أو الثلاثمائة محارب حتى وصلوا إلى حدود تونس وطرابلس واستقروا هناك.
8 -
وبعد مدة يسيرة رحل إلى مصر قبائل أخرى من شبه جزيرة العرب؛ ووصلوا إلى النيل الأوسط. وعلى النيل الأزرق (في سنار) أنشئوا امبراطورية الفنج العظيمة التي استقرت من القرن الرابع حتى القرن التاسع عشر. ومن النيل الأعلى قاد هؤلاء الأقوام حملات كثيرة متتالية نحو وسط وغرب أفريقية. ومن نسل هؤلاء تكونت قبائل لا زالت تعيش حتى اليوم حول بحيرة شادو في دارفور وواداي وشمال السنغال ونهر النيجر.
9 -
وفي القرن الحادي عشر أيضاً نشأت فرقة المرابطين. وعلى أيديهم اعتنق سكان سينيغمبيا ونيجريا الإسلام.
10 -
وتلت دولة المرابطين دول كثيرة كدول الموحدين والحفصيين وغيرهم، وكانت كل دولة تبدأ حكمها بنشر مذهبها الديني، وبالتالي كانت تدفع كثيراً من البربر أثناء نشر دعوتها إلى اعتناق الإسلام.
11 -
وفي عهد الملك السعدي السادس (المنصور الذهبي) وصلت مراكش إلى أقصى قوتها، وشملت مملكة نيجرية واسعة.
12 -
وفي نهاية القرن الخامس عشر قامت في مصر العليا وغرب السودان أسرة مسلمة زنجية. وتولى أحد هؤلاء الزنوج الحكم، واتخذ تمبكتو حاضرة لملكه. ومنذ ذلك الحين أصبحت هذه المدينة مركزاً علمياً وتجارياً لغرب ووسط أفريقية. ولقد أثرى حفيد هذا الملك (إسحاق بن سوكيا) وزادت قوته وبدأ النزاع بينه وبين الإمبراطور الموري أبي العباس المنصور. وتمكن الجيش الموري بقيادة جودر باشا من هزيمة إسحاق والاستيلاء على تمبكتو. وأتى بعد جودر قائد آخر أكثر شجاعة وإقداماً منه وهو (محمود باشا) فأتم الفتح الموري للسودان حتى وصل إلى بورنو وسنيغميبيا. ولم تتضاءل قوة الموريين إلا
في القرن الثامن عشر بعد قيام الغولا وهجوم الطوارق.
ويقول جونستون: (ولربما كانت مراكش تستطيع أن تغزو شمال أفريقية وتحكمه في القرن السادس عشر - لولا أن وصلها الترك. . .) - ونحن لا نستطيع أن نقر جونستون على هذا القول. . . إلا إذا كانت الحكومة القائمة في مراكش حينذاك قوية تستطيع أن ترد اعتداء الغرب عنها. . . ولكن الحقيقة أن الحكومة في كل بلاد الغرب في ذلك الوقت كانت ضعيفة أمام نشاط ممالك غرب أوربا وخاصة أسبانيا - فإنها بعد أن قضت على دولة الإسلام فيها سعت وراءه تطارده في شمال أفريقية وغربها. . . وجونستون نفسه يقول: (ولما استنجد أهل الجزائر وتونس بقراصنة الترك ضد اعتداءات مسيحي أسبانيا في القرن السادس عشر - انتهز سلطان الترك وأنشأ مناطق تركية في الجزائر سنة 1517 وفي تونس سنة 1573 وفي طرابلس سنة 1551. . .)
في هذا القول نرى أن ثورة الغضب المسيحي في أسبانيا على المسلمين لم تكن قد هدأت؛ بل إننا لنحسها بين ثنايا كلمات جونستون قوية ملتهبة دفعت أهل المغرب للاستنجاد بالترك ورضوا نجدة القراصنة منهم. وحقيقة أن الترك الذين نزلوا بشمال أفريقية كانوا قراصنة لم يتعدوا الشاطئ إلى الداخل، ولم يمضوا إليهم أراضي وملكاً جديداً بل اكتفوا بمهنتهم القرصنة وسلب سفن المسيحيين. ولو أنهم حاولوا ملكاً في الجنوب لاستطاعوه، ولغدت أفريقية الشمالية كلها مسلمة إسلاماً حقاً متصلاً بالعالم الخارجي الآن؛ ولكنهم على كل حال حموا شمال أفريقية من الغرب الساحق الماحق هذه المدة الطويلة. وها نحن أولاء نسمع كل يوم اضطهاد الطليان والفرنسيين والأسبان للمسلمين في طرابلس وتونس والجزائر، ومع هذا فإن الإسلام في ذلك الحين لم تقف موجة انتشاره، بل كان مجرد الجوار أو الاتصال بين المسلمين والوثنيين في جميع قبائل السودان حتى حدود الكمرون - كان مجرد الاتصال كافياً لنشر الإسلام في تلك الجهات كما سنرى بعد.
لم تخضع مراكش كجاراتها للحكم التركي ولكنها تأثرت بنواح تركية مختلفة، فقد أخذت عن الترك نظام الملبس ونظام تعبئة الجيوش ولقب الباشا وغير ذلك من الأمور، ولكن مراكش بقيت مستقلة، بل لقد أعلن حاكمها المنصور نفسه خليفة سنة 1538بعد انتصاره على البرتغال وبعد أن رأى الخلافة العباسية تنقرض من مصر، وتنتقل إلى تركية.
غير أننا سنرى أن نوع الحكم لم يكن له من التأثير قدر ما كان للثقافة الإسلامية العربية، فمهما أنتقل الحكم إلى أيدي الترك أو الإغريق او السلاف أو الزنوج المستعربين فإن الأثر الإسلامي والثقافة الإسلامية امتدت حتى شملت كل شمال أفريقية والسومال وسناو، ونوبيا وكردفان ودارفور وواداي وبورنو وأراضي الحوصا والصحراء ومعظم سينغمبيا وآفاقاً متسعة داخل حدود النيجر وعلى طول شواطئ الفلتا الأعلى كما أعتنق أهالي كل تلك الجهات الدين الجديد: دين الإسلام.
جهات نجهلها
ولقد كنت أحس عند قراءتي عن هذه المناطق لذة غريبة فلقد كنت أكشف لنفسي الأستار عن آفاق واسعة شاسعة من العالم الإسلامي يجهلها معظم المصريين وتجهلها برامج تعليم التاريخ في مدارسنا المصرية، ولكننا بعد هذا التمهيد نستطيع أن نصور الحالة التي كان عليها كل شمال أفريقية في هذه الكلمات:
كانت موجة التأثير الإسلامي تتسع طوال العصور الوسطى فتشمل كل يوم آفاقا جديدة من شمال أفريقية، وامتدت الموجة فشملت بعض الصور الحديثة؛ ولكن أوسع حلقة من حلقات هذه الموجة وآخرها تلاشت بانتهاء القرن التاسع عشر، وبتلاشيها تركت البربر المستعربين يحكمون شمال وشمال غرب أفريقية، والترك المسلمين يحكمون شمال شرق أفريقية، والزنوج المستعربين يحكمون النيجر والسودان الأوسط، وبعض العرب يحكمون النيل الأعلى وساحل نوبيا وعرب عمان واليمن وحضرموت يحكمون ساحل أفريقية الشرقي. وامتد نفوذهم إلى الداخل حتى وصل إلى إقليم البحيرات والكنغو الأعلى.
ولنتحدث الآن عن أثر الإسلام في بعض هذه الولايات كمثل للولايات الأخرى، وليكن حديثنا عن نيجريا والسودان الأوسط.
حضارة جديدة
كان لدخول الإسلام في أفريقية تأثير هام على سكانها وخاصة في السودان الغربي. ولم يقتصر تأثير الإسلام على التغيير الواضح الذي أحدثه في الأهلين من الناحية البشرية، بل لقد حمل معه إلى هؤلاء الأقوام حضارة جديدة منحت الأجناس الزنجية أخلاقاً وثقافة لا
زالت تميزهم في حياتهم السياسية ونظمهم الاجتماعية. ولقد رأينا كيف أن كثيراً من الهجرات القبلية العديدة خلال ألف سنة الأخيرة حدثت تحت ضغط الإسلام ضغطاً مباشراً أو غير مباشر؛ بل إننا لنرى أن ثورة الفولاني السياسية في القرن التاسع عشر ودخول الكانمبو إلى بورنو كان تحت تأثير الإسلام. ولقد كان للإسلام كذلك تأثير عميق في لغات نيجريا الرئيسية، فمعظمها تحوي كثيراً من الألفاظ العربية التي لا تزال تستعمل حتى اليوم.
والإسلام الآن دين السواد الأعظم من سكان أرض وبورنو بل لقد نفذ الإسلام إلى كثير من القبائل الوثنية التي لم يصلها التبشير المسيحي بعد، وكما أن الإسلام دخل في هذه الجهات من الشمال فإن الشمال أشدها وأكملها إسلاماً - وإن كان الإسلام في نوبيلاند ويوروبالاند له نصيب كبير من القوة والانتشار ومع هذا فهناك مساحات شاسعة لم يدخلها الإسلام بعد.
ونحن لا نعرف إلا قليلاًٍ عن حالة المسلمين خلال القرون السابقة لجهاد الفولاني. ولو أننا وثقنا بأقوال ليو الأفريقي فإن أهالي كاتسينا وكانو كانوا برابرة نصف عراة في منتصف القرن السادس عشر. وعلى الجملة فالحوصا قد يكونون أيسر قيادة وأسرع تأثراً بالدعوات الدينية من غيرهم. وفي سنة 1804وضع الشيهو عثمان (قد تكون شاه أو شيخ ثم حرفت) لبلاط جوبير نظاماً هو خير قليلاً من النظام الوثني، وقد بقي الأهلون يصلون للموتى ويمجدون الأولياء الراحلين ويسمحون لنسائهم بالخروج سافرات. ولقد لاحظ (أولدفيلد في رابا أن ابنة عثمان زايكي حاكم نوبيلاند الفولاني تحمل في يدها زجاجات برتغالية مملوءة بالمشروبات الروحية، فشرب الخمر وعقيدة الخلود لازالا سائدين.
ولا زالت بعض الطقوس الوثنية تقام عند تولية الأمير العرش؛ ورؤساء (اكوين المسلمون في هارداوا عند انتخابهم يقدمون فروض الطاعة للشجرة المقدسة.
والقرآن لديهم هو الكتاب المقدس؛ بل إنهم ليستشفون بشرب الحبر الذي كتبت به آيات القرآن. وهم ما زالوا يعتقدون في السحر والتعاويذ، ولكنهم يتقون شر السحر بالآيات القرآنية والاحجبة يحيطون بها رقابهم وأذ رعتهم وأوساطهم والمسلمون في تلك الأقاليم عند بناء منازلهم يدخنون الطلاسم لتقيهم شر الأرواح الخبيثة.
من هذا كله نرى أن الإسلام من الناحية الروحية لم يستطع تماماً استئصال شأفة الوثنية أو إزالة خرافاتها لانقطاع الصلة وبعد الشقة بينه في تلك الجهات وبين ديار الإسلام القوي الحق. ولكن الإسلام من الناحيتين السياسية والاقتصادية بادئ الأثر في هؤلاء الأقوام. لقد حمل الحضارة إلى هذه القبائل المتبربرة، ودعا جماعات الوثنين المبعثرة إلى وحدات مرتبطة، وسهل التجارة بين هذه المناطق وبين العالم الخارجي، وبذلك استيقظت الغرائز التجارية الكامنة في نفوس الحوصا والنوبي والياروبا والبري بري وحملهم على الظهور بمظهر لائق، ورفع مستوى معيشتهم بأن خلق لهم جواً اجتماعياً راقياً؛ وبث في نفوس المسلمين الشعور بالعزة واحترام النفس والغير. فتفوق المسلمين في تلك الجهات على غيرهم من الناحيتين الثقافية والسياسية يرجع إلى تعاليم دينهم؛ فنحن لا ننسى أن الإسلام حمل إليهم فن القراءة والكتابة. . .
والآن أصبح زنجي السودان بعد أن حرم عليه الإسلام شرب الخمر وأكل لحوم البشر وسفك الدماء رفيقاً لسكان العالم المتحضر.
(البقية في العدد القادم)
جمال الدين محمد الشيال.
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
259 -
فافشر ما شئت
في (الغيث المسجم) للصفدي: حكي أن بعض الوعاظ كان على منبره يتكلم في المحبة وأمور العشق وأحواله، ومد أطناب الإطناب في ذلك فقام إليه بعض الجماعة وقال:
بعيشك هل ضممَت إليك ليلى
…
قبيل الصبح أو قبّلتَ فاها
وهل رفّت إليك فروعُ ليلى
…
رفيفَ الأقحوانة في نداها
فقال الواعظ: لا والله
فقال له: فافشر ما شئت. . .
260 -
تغزل برجليها
قال ابن الجوزي في الشذور: قال ثابت بن سنان المؤرخ: رأيت في بغداد امرأة بلا ذراعين ولا عضدين، ولها كفان بأصابع معلقات في رأس كتفيها لا تعمل بهما شيئاً، وكانت تعمل أعمال اليدين برجليها، ورأيتها تغزل برجليها، وتمد الطاقة وتسويها.
261 -
وانه لمفوه
كن للمكارم بالعزاء مُقَنَّعاً
…
فلعلّ يوماً لا ترى ما تكرهُ
فلربما أستتر الفتى فتنافست
…
فيه العيون وإنه لمموَّهُ
ولربما خزن الكريم لسانه
…
حذرَ الجواب وإنه لمفوَّهُ
ولربما ابتسم الكريم من الأسى
…
وفؤاده من حرَّه يتأوَّهُ
262 -
ألله، ألله
قيل لصوفي: لم تقول: ألله، ألله، ولا تقول: لا إله إلا الله؟
فقال: نفي العيب حيث يستحيل العيب - عيب
263 -
بين إمامين
قال الحريري: قد غلظ الأصمعي في تصغير (مختار) غلطاً أودع بطون الأوراق، وتناقلته
الرواة في الآفاق؛ وذاك إن أبا عمر الجرمي حين شخض إلى بغداد ثقل موضعه على الأصمعي إشفاقاً من أن يصرف وجوه أهلها عنه، وتصير السوق له، فأعمل الفكر فيما يغض منه فلم ير إلا أن يرهقه فيما يسأله عنه، فأتاه في حلقته، وقال له: كيف تنشد قول الشاعر:
قد كن يخبأن الوجوه تسترا
…
فاليوم حين بدأن للنظار
أو حين (بدين)؟ فقال له: (بدأن) قال: أخطأت، فقال (بدين) قال: غلطت، إنما هو حين (بدون) أي ظهرن؛ فأسرها أبو عمر في نفسه وفطن لما قصده، وأستأني به إلى أن تصدر الأصمعي في حلقته، واحتف الجمع به، فوقف به وقال له: كيف تقول في تصغير (مختار) فقال: (مخيتير) قال: أنفت لك من هذا القول! أما تعلم أن اشتقاقه من الخير وأن التاء فيه زائدة؟ ولم يزل يندد بغلطه ويشنع به إلى أن أنفض الناس من حوله.
264 -
إلا الماء
سئل جحظة البرمكي عن دعوة حضرها فقال: كان كل شيء بارداً فيها إلا الماء
265 -
خذه عني
في (الأغاني): ولي قضاء مكة الأوقص المخزومي فما رأى الناس مثله في عفافه ونبله، فأنه لنائم ليلة في جناح له إذا مر به سكران يتغنى:
عوجي علينا رَبَّة الهودج
فأشرف عليه فقال: يا هذا، شربت حراما، وأيقظت نياما، وغنيت خطأ! خذه عني! فأصلحه وانصرف
266 -
ردوها عليَّ
في (الغرر الواضحة) أريج على الحجاج في صلاته فلم يجسر أحد أن يهديه لما ضل عنه، فتلا قوله تعالى (رُدُّوها عليَّ) فردت عليه. فلله دره! ما أحسن ما أجال فكره حتى أدرك به الفهم العازب، ولم تبطل صلاته بكلامه. قيل للحسن (البصري): أتى رجل صاحباً له في منزل، وكان يصلي فقال: أدخل؟ فقال في صلاته (أدخلوها بسلام آمنين) فقال الحسن: لا بأس
267 -
زلق وقع في الطين
في (صيد الخاطر) لابن الجوزي: ما زال المتيقظون يأخذون الإشارة من مثل هذا حتى كانوا يأخذونها من هذا الذي تقوله العامة ويلقبونه بـ (كان وكان) فرأيت بخط ابن عقيل عن بعض مشايخه الكبار أنه سمع امرأة تنشد:
غسلت له طوال الليل
…
فركت له طول النهار
خرج يعاين غيري
…
زلق وقع في الطين
فأخذ من ذلك إشارة معناها: يا عبدي إني حسنت خلقك وأصلحت شانك، وقومت بنيتك، فأقبلت على غيري فانظر عواقب خلافك لي. وقال ابن عقيل: وسمعت امرأة تقول من هذا (الكان والكان) وكان كلمة بقيت في قلقها مدة:
كم كنت بالله أقل لك
…
لذا التواني غائلة
وللقبيح خميرة
…
تبين بعد قليل
قال ابن عقيل: فما أوقعه من تخجيل على إهمالنا لأمور غدا تبين خمائرها!
268 -
المتنبي الأول
في (المختلف والمؤتلف) للآمدي: كان الأخطل الضبعي شاعراً، وادعى النبوة، وكان يقول: لمضر صدر النبوة ولنا عجزها. فأخذه عمر بن هبيرة فقال ألست القائل:
لنا شطر هذا الأمر قسمة عادل
…
متى جعل الله الرسالة تُرْتَبا
قال: وأنا القائل:
ومن عجب الأيام إنك حاكم
…
علي، وأني في يديك قصير
قال: أنشدني شعرك في الدجال. قال أغرب ويلك! فأمر به فضربت عنقه
269 -
فرجت وكان يظنها لا تفرج
في (الغرر والدرر): أمالي أبي القاسم المرتضى: روي الصولي أن منشداً أنشد إبراهيم بن العباس وهو في مجلسه في ديوان الضياع:
ربما تكره النفوس من الأمر
…
له فرجة كحل العقال
قال: فنكت بقلمه ثم قال:
ولرب نازلة يضيق بها الفتى
…
ذَرْعاً، وعند الله منها مخرج
كملت فلما استحكمت حلقاتها
…
فرجت وكان يظنها لا تفرج
فعجب من جودة بديهته
270 -
وما زالت الأشراف تهجي وتمدح
في (مؤنس الوحدة) لابن الأثير:
أهدى إلى سيف الدولة صدقة بن منصور بن مزيد كتاب ففتحه لينظر فيه، فوقعت عينه منه على هجاء بني أسد فأطبقه ثم قال:
وما زالت الأشراف تهجي وتمدح
إصلاح
في النقلة (250) في البيت الثاني: (وكيف) والصواب: (كيف)
غنىً.
. .؟!
للأستاذ سيد قطب
غنيَّةٌ أنتِ بالتعبير قد ذَخَرَتْ
…
أطواءُ نفسك منه زادَ أحقاب
وهبِتني منه أشتاتاً منوَّعةً
…
وزدتنِي منه في جود وإسهاب
في كل جارحة عنوانُ ملحمة
…
من الحديث، وسرٌّ جِدُّ جذَّاب
تقصُّ تاريخها في فنِّ رواية
…
منسَّقِ النبر ذي لحن وإطراب
وإِن تاريخها أقصوصة جمعتْ
…
تجاربَ الكون في أحلام أرباب
تجارب الكون في سحر وفي فتنٍ
…
من نضرة الروض أو من وحشة الغاب
ومن سناء الداري في تألقها
…
ورهبة الكون في جنح الدجى الخابي
ومن غموض الصحاري في مجاهلها
…
والعيلم الرحب يطغي جد صخَّاب
ومن صِيالِ الضواري في تقحمها
…
ومن أغاريد أطيارٍ وتَنْعاَبِ
وفرحة الظافر النشوان خافقة
…
تختال معجبةً في خطو وثّاب
هذا حديثك بينا أنت صامتةٌ
…
وعيتهُ كله في صمت محراب
فهل بلغتُ مدَى ما أنت زاخرةٌ
…
من التجارب في خلق وإنجاب؟
لا. لا وحقكِ لم أبلغْ سوى طرفٍ
…
من الحديث على وَفْر وإطناب
وخلف ذلك كنز كله طُرَفٌ
…
يزيد مذخورُه في كف وهّاب
وإن عندك ما تعطينه أبداً
…
للسائلين بإفصاح وإغراب
العين. ماذا تقص العين من خْبرٍ
…
مسلسلٍ في حنايا النفس منساب؟
وما الذي أبدعت للفن إذ همست
…
للأمنيات فلبَّتْ بضع أسراب؟
وأفصحت عن حنين كامنٍ وهوى
…
يسري الهويني شَفُوفاً بين أهداب؟
والثغر وماذا يبث الثغر من قُبَلٍ
…
في صمته العذب، بل في سحره السَّابي
وإن فيه لقبلاتٍ قد ارتسمت
…
من بعد ما نضجت، لِلاَّثم الصابي
والجسم. ماذا يقول الجسم قد خفقت
…
فيه الحياة، وتاهت تيهَ غلاَّب؟
يقول ما تعجزٌ الدنيا برمتَّها
…
عن أن تقول بتصوير وإعراب
خلاصة أنت من فن الحياة حوت
…
جميع ما تبدع الدنيا لإِعجاب
غنية أنت بالتعبير قد ذخرت
…
أطواء نفسك منه زاد أحقاب
(حلوان)
سيد قطب
يأس
للسيد جورج سلستي
يا حبيبَ الفؤادِ أسرفتَ في الصَدِّ
…
وإني من غير صدٍّ أَذوبُ!
وَتَجَنَّيْتَ يا حبيبي ومن غي
…
ر تَجَنٍّ تكادُ روحيَ تزهقْ!
شفَّ جسمي النوى فبتُّ ولي جس
…
مٌ بخيطٍ من الذِّماءِ مُعَلَّقْ!
فترفَّقْ فَدتْكَ روحي فمالي
…
بين كل الورى سواك حبيبُ!
يا حبيبي أُحسُّ من ألم البٌعد
…
وشَجْوِ النوى بقلبيَ يبكي
وبصدري المكبوت أَرمضَه الحبُّ
…
فأَدمي منهُ الحنايا الحِرارا
وبرأسي كأنما سَوْرةُ اليأْ
…
سِ أطاحتْ بلبّهِِ فاستطارا
يا لقلبي الباكي وصدري المدمَّي
…
من حبيبٍ قضى بهجري وتركي!
إيه يا هاجري جراحي تنادي
…
كَ وقلبي اللهيفُ يهفو إليكا!
كلُّ ما بي يدعوكَ فارجعْ بحقِّ ال
…
وفا إليَّ قبل وفاتي
عُدْ ولو ساعةً أُمتّعُ عينيَّ
…
بضاحي مرآكَ قبل مماتي
ذاك حسبي من الحياة ودعني
…
بعد هذا أموتُ بين يديكا!
جورج سلستي
من طرف أهل الحرف
ذكرتني مقالة الأديب البحاثة الأستاذ مصطفى جواد البغدادي (الأدباء المحترفون) وما رواه فيها من سيرة (الخبز أرزي) وشعره بإخوان له في الأدب والحرفة، فرأيت أن أملي بعض طرائقهم مضافاً إلى تلك المقالة البغدادية في (الرسالة الغراء):
قال علي بن ظافر: كان الوزير أبو بكر بن عمار كثير التطلب لما يصدر عن أرباب المهن من الأدب الحسن فبلغه خبر (ابن جامع الصباغ) فمر على حانوته وهو آخذ في صناعة صباغته، والنيل قد جر على يديه ذيلا، وأعاد نهارهما ليلا، فأراد أن يعلم سرعة خاطره، فأخرج زنده ويده بيضاء من غير سوء وأشار إلى يده وقال: كم بين زند وزند؟
فقال ابن جابر:
ما بين وصل وصد
فعجب من حسن ارتجاله. ودخل ابن عمار هذا سرقسطة فبلغه خبر يحيى القصاب السرقسطي، فمر عليه ولحم خرفانه بين يديه، فأشار ابن عمار إلى اللحم وقال:
لحم سباط الخرفان مهزول
فقال يحيى:
يقول للمفلسين: مه، زولوا
وكان يحيى السرقسطي ترك مهنته مدة ثم عاد إليها فكتب إليه الوزير أبو الفضل بن حسداي:
تَركت الشعر من عدم الأصابِهِ
…
وملت إلى الجزارة والقصابه
فأجابه يحيى:
تعيب عليّ مألوف القصابه
…
ومن لم يدر قدر الشيء عابه
ولو أحكمت منها بعض فن
…
لما استبدلت منها ذي الحجابه
وإنك لو طلعت عليّ يوماً
…
وحولي من بني كلب عصابه
لهالك ما رأيت وقلت هذا
…
هزبر صيّر الأوضام غابه
فتكنا في بني العتري فتكا
…
أقر الذعر فيهم والمهابه
ولم نقلع عن الثوريّ حتى
…
مزجنا بالدم القاني لعابه
ومن يعتز منهم بامتناع
…
فإن إلى صوارمنا إيابه
ويبرز واحد منا لألف
…
فيغلبهم وتلك من الغرابه
وحقك ما تركت الشعر حتى
…
رأيت البخل قد أوصى صحابه
وحتى زرت مشتاقاً حميمي
…
فأبدى لي التهجم والكآبه
وظن زيارتي لطلاب شيء
…
فأقصاني وغلّظ لي حجابه
وكان مظفر الذهبي مصوراً؛ ومن قوله:
كلفت بتصوير الدُّمي في شبيبتي
…
وأتقنتها إتقان حر مهذب
وحاولت عنها رجعة ومدحتكم
…
فلم أخل من تزويق زور مكذب
وكان نجم الدين يعقوب بن صابر منجنيقياً؛ ومن شعره:
كلفت بعلم المنجنيق ورميه
…
لهدم الصياصي وافتتاح المرابط
وعدت إلى نظم القريض لشقوتي
…
فلم أخل في الحالين من قصد حائط
قال ابن خلكان: كان ابن صابر المنجنيقي جندياً في ابتداء أمره، مقدماً على المنجنيقيين ببغداد، ولم يزل مغرىً بآداب السيف وصناعة السلاح والرياضة، ولم يلحقه أحد من أهل زمانه في فهمه لذلك، وصنف كتاباً سماه (عمدة السالك في سياسة الممالك) يتضمن أحوال الحروب وتعبئتها وفتح الثغور وبناء المعاقل، وأحوال الفروسية والهندسة والمصابرة على الحصار، والقلاع والرياضة الميدانية، والحيل الحربية الخ؛ وكان شريف النفس متواضعاً؛ وهو شاعر مجيد ذو معان مبتكرة، وجمع من شعره كتاباً سماه (مغاني المعاني) وكانت له منزلةً لطيفة عند الإمام الناصر، توفي سنة 626، ولابن صابر:
قالوا بياض الشيب نور ساطع
…
يكسو الوجوه مهابة وضياء
حتى سَرت وخَطاته في مفرقي
…
فوددت ألاّ أفقدَ الظلماء
وعدلت وأستبقي الشباب تعللا
…
بخضابها فصبغتها سوداء
لو أن لحية من يشيب صحيفة
…
لمعاده ما اختارها بيضاء
ومن الأدباء المحترفين السراج الوراق وأبو الحسين الجزار ونصير الدين الحمامي. قال ابن حجة في (خزانته): (وتعاصر السراج هو وأبو الحسين الجزار والنصير الحمامي وتطارحوا كثيراً وساعدتهم صنائعهم وألقابهم في نظم التورية) ومن قول السراج الوراق:
يا خجلتي وصحائفي سود غدت
…
وصحائف الأبرار في إشراق
وموبّخ لي في القيامة قال لي:
…
أكذا تكون صحائف الوراق؟!
وقال الجزار:
كيف لا أشكر الجزارة ما عشت
…
حفاظاً وأرفض الآدابا
وبها صارت الكلاب ترجيني
…
وبالشعر كنت أرجو الكلابا
وكتب إليه نصير الدين الحمامي:
ومذ لزمت الحمام صرت به
…
خلا يداري من لا يداريه
أعرف حر الأشيا وباردها
…
وآخذ الماء من مجاريه
فأجابه أبو الحسين الجزار:
حسنُ التأتي مما يعين علي
…
رزق الفتى والحظوظ تختلف
والعبد مذ صار في جزارته
…
يعرف من أين تؤكل الكتف
وفي كتاب (المغرب في حلي المغرب): حضر الجزار بين يدي الصاحب الكبير كمال الدين عن أبي جرادة مودعاً وقد أزف رحيل الصاحب عن مصر سنة (645) فاتفق أن وجه سلطان مصر شيئاً من التمر الذي يصل من أعلى الصعيد في المركب المبشر بزيادة النيل على وجه البركة، فأمر الصاحب أن يقدم فأكل الجزار في جملتهم، وقال في ذلك ارتجالاً فأتي بأبدع تورية.
أطعمتنا التمر الذي
…
للبركات قد حوى
لله ما أطيبه!
…
لو لم تشبه بالنوى
(الإسكندرية)
(* * *)
القصص
من أساطير الإغريق
مصرع بروكريس
للأستاذ دريني خشبه
رأته أروروا حينما كان الصبح يتنفس أنفاسه الندية العطرية يثبت فوق الجبال ويصيد الوحوش بين الأدغال، فهامت به، ووقفت تعبده، وتروي من جماله، وتسقي نفسها الصادية أبداً إلى كل ريان مفتان. . . وحاولت أن تكلمه فشاح بوجهه، وتصدت له فأعرض عنها، ثم أنطلق في أثر ظبي فلم يزل به حتى أرداه وانحنى يحمله. . . ولكنه وجد مكانه أورورا. . .! وجدها متجردة تمرغ جمالها تحت قدميه، فنفر نفرة جرح بها كبرياء ربة الفجر الوردية، وجعلها ترمقه بعيني أفعى، تود لو تنفث في صدره سمها فترديه.
(أنا اورورا، ربة الفجر والندى، حبيبة الزنبق والبنفسج والورد، لا أروق هذا الإنسي المخلوق من تراب!! وحق أبي لأسرنه ولأسجننه، ولأجعلنه يتلوى تحت قدمي، ويبكي من أجل قبلة أمن بها عليه!)
وأرسلت رقية من رقاها الساحرة فنشرت الظلام على عينيه والنسيان في قلبه، وبات لا يملك لنفسه حلاً ولا عقداً. . . ثم حملته إلى كناسها في شعاف الأولمب، وحبسته ثمة، وأذهبت عنه طائف السحر فأدرك ووعى، وهب مذعوراً ثم غرق في شيء كالحلم لما رأى العماد من ذهب، والطنافس من عجب، والكأس حفها الحبب، والندامى والطرب، وكل راقصة كالخيال يراقصها أمرد كالطيف، فتميل وتختال ويتأود كالسيف. . . وأورورا مع هذا وذاك تدل وتتبرج، وتفوح وتتأرج، كأنها ربيع بأكمله، زخرف الدنيا بالزهر، ووشاها بالروض، وابتعث فيها المرح والحياة
- أين أنت إذن؟ سيفال! أين أنت؟
- أين أنا؟
- ألا تعرف؟ هذه غرفات الأولمب!
- الأولمب؟!
- أجل. . . أولمب أربابك
- محال! لن يكون الأولمب هكذا!
- ولمه؟
- لأن الأولمب مأوى الصالحين! أليس الآلهة أجدر منا بالتقوى؟ ما هذا؟ أحمر ورقص وطرب. . . وفسق في الأولمب؟
- لا. . . ليس هذا الأولمب. . . لن يكون الأولمب هكذا!!
- بل هو الأولمب يا سيفال! وليس ما ترى هنا إلا قليلا مما هناك! هل ترى فينوس؟ ألم تصل لها؟ أنظر من هذه الكوة فهي تطل على حديقتها!
- وأنا ما شأني؟ أريد أن أذهب!
- تذهب؟ تذهب إلى أين يا سيفال؟ لن تبرح عاكفاً على اللهو الذي ترى!
- لا، لن يقوى الأولمب كله على قهري!
- ها. ها. . . مضحك. . . أنت مضحك يا سيفال! كل الأولمب؟
- أؤكد لك!
- ولمه؟
- لأني أحب زوجتي وأقدسها. . . إنها جميلة جدا
- أجمل من أورورا؟! أليس كذلك؟
- أجمل من أورورا لدى كل من ينظر بعيني زوج أمين مخلص!
- أنت عنيد يا سيفال! إنك تزدريني!
- بل أنا أنتصر للفضيلة التي كان ينبغي أن تتنزل علينا من الأولمب! من جاء بي هنا؟
- أنا. . .
- ولماذا؟
- أنت تعرف!
- لا أعرف شيئاً. . . والذي أعرفه لا يليق بشرف ربة! أرجو أن تطلقي سراحي!
- إذن أنت تفضل علي زوجتك! أهي أجمل مني؟ ألا تزال تعتقد هذا يا سيفال؟
- أنا أفضل زوجتي لأنها لم تتلوث. . . ولا زلت أقول إنها أجمل منك لأنني أنظر إليها
بعيني لا بعينيك!
- زوجتك أجمل من ربة الفجر الوردية؟
- أجمل من ربات الأولمب جميعاً، إلا من تجملن بمثل روحها، ولست منهن!
- أيها التعس!
- ولم أكن تعساً وأنا اسعد الناس بزوجتي بروكريس!
- بروكريس! ها! عرفتها! إحدى وصيفات ديانا! حقيرة مثلك! أغرب من وجهي أيها القذر! إذهب! إذهب إلى زوجتك بروكريس التي تفضلها على أورورا؛ ستتمنى يوماً أنك لم تعرفها، وأنها لم تكن زوجتك. . . إذهب. . . إذهب!)
وبلغ بيته وهو يلهث من التعب، ويرتجف مما ألم به، فلقيته زوجته الجميلة الحسان بابتسامةٍ شفت صدره، وقبلة ذات حميا أذهبت بعض ما وجد. . . إلا أنه كان ينتفض آنة بعد آنة، ويعود فيبتسم، ثم تغرورق عيناه بدموع نقية كاللؤلؤ كلما نظر إلى زوجته، حتى هجس وسواس في قلب بروكريس فقالت له:
- ماذا ياسيفال؟ أتخفي عني ذات صدرك؟
- كلا، ولكنها أورورا. . .
- ماذا؟ ماذا صنعت بك ربة الفجر؟
- كانت تحاول أن تسحرني عنك. . . أو. . . تشركني فيك على الأقل؟!
-. . .؟. . .
ولكنها فشلت. . . لقد أذللت كبرياءها
- وهل استطعت؟ إنها جميلة وصناع، ولها في الغزل الصارخ أساليب خارقة يا سيفال. . .
- لقد قهرتها وأساليبها. . . إن قطرة من معين إخلاص تطفئ لظى جحيم يا بروكريس!
- لا ريب يا حبيبتي. . . أنا أمزح فقط. . . سيفال، عندي لك مفاجأة طيبة
- مفاجأة! أية مفاجأة يا بروكريس؟
- تعال. . . افتح هذه الغرفة
- أوه! ما هذا. . . كلب عظيم، من أين يا بروكريس؟ إنه سينفعني كثيراً في صيدي
- ومفاجأة أخرى أعظم! أنظر في ركن الغرفة!
- هه! حربة! لم أر قط مثل هذه الحربة! إنها ليست من صنع البشر! آه! إنها من صنع فلكان لا شك! البشر لا يجيدون أن يصنعوا مثل هذه!
- إحزر إذن ممن الهديتان؟
- من الملك!
- وأنى لي أن يهدي الملك إلي؟
- ممن إذن؟
- إحزر!
- لا أدري!
- إنهما من ديانا يا سيفال! أهدتهما إلي هذا الصباح!
- من ديانا؟ آه لقد ذكرت ذلك أورورا
ماذا ذكرت لك أورورا؟
- أنك كنت إحدى وصيفاتها!
- وأي ضير علي أو عليك في هذا؟ أليست هي إحدى تابعات أبوللو؟ لقد كانت وما تزال تتمنى أن لو كانت إحدى وصيفات ربة القمر!
- لا ضير، لا ضير يا بروكريس
- إني أهب لك ما أهدت ديانا إلي!
- أشكرك!
- الكلب لا تسبقه الريح، والحربة لا تخطئ الغرض
- وظل سيفال يعود أصيل كل يوم إلى زوجته مثقلاً بشتى أنواع الصيد؛ وأحب كلبه وحربته حباً لا يعدله إلا حبه بروكريس
- واشتهر أمر الكلب في الإقليم كله، وذاع صيته، حتى لقد أخطأ بعض أفراد الشعب في حق بعض الآلهة، فسلط عليهم ثعلباً سلقاً لم يستطيعوا مكافحته، ولم تقو كلابهم له على طراد، فاجتاح ماشيتهم، وأتى على دجاجهم، وعاث في حقولهم، ونفش في زروعهم، ولم يدروا كيف خلاصهم منه، حتى سمعوا بكلب سيفال فرجوه فيه، كيما يطلقه في أثر الثعلب
فيريحهم من شره. . . وانطلق ليلاب - وهذا هو أسم الكلب - وراء الثعلب، كما يمرق السهم عن القوس، أو كما تمرق النظرة الخاطفة عن العين النجلاء؛ وما انفك يحاوره ويداوره، وينبح به فيزلزله، حتى هم أن يفتك به ويمزقه إرباً. . . ولكن حدث أن كانت الآلهة تطلع من فلال الأولمب، تتفرج بهذا الطراد، وشرح صدورها بمرآه، فالتفت بعضها إلى بعض، وعز عليها أن يقتل كلب إلهي ثعلباً إلهياً أمام الملأ من الناس، فقضوا لتوهم أن ينقلب الاثنان فيكونا تمثالين من المرمر الناصع، فهما كذلك إلى اليوم!!
وأسف سيفال على كلبه، وأنقلب على عقبيه غضبان صعقا. . . ولم يزل في كل يوم، وفي مثل تلك الساعة التي حاقت بكلبه العزيز هذه النازلة، يتوجه إليه، ويقف قليلاً عنده، حاناً لذكراه، آناً على ما حل به، ثم ينطلق بعد، وفي يديه رمح ديانا، فيصيد الظباء وليس معه ليلاب
وانطلق مرة في إثر ظبي فأنهك قواه، ونال منه الإعياء، وانسدح على العشب الأخضر في فيء دوحة باسقة، ثم راح يتخلج من شدة التعب؛ وكان الوقت ظهراً، وكان القيظ قد أجج الدنيا حوله فتفصد العرق من جسمه المنهوك، وتراخت عضلاته ووهنت روحه، وأنشأ يردد كلاماً كالأغنية يرسله هكذا:
أين أنت يا نسمة؟ يا ابنة الربيع اللعوب
يا منعشة الروح المتعبة، أين أنت؟
هلمي يا نسْمة، هلمي إلى سيفال،
فهو مشوق إليك، يرجو لو تنفسين عنه؛
هلمي يا نسمة ففرجي عن سيفال المضني،
وهبي على رأسه الملتهب، وصدره المكروب؛
لقد كنت يا نسمة، يا أحلى قُبل الحياة،
تداعبين جبيني، وتنعشين نفسي،
فماذا حال بينك وبيني، يا نسمة الربيع،
وساقية الحب، ورسول المحبين. . .
وكانت أورورا ما تفتأ تتعقب سيفال في كل فج، وترقبه في كل حنية؛ وكانت تقف في
صورة بلبل فوق رأسه، مختبئة في أفنان الدوحة التي نام في ظلها؛ فلما سمعته يتغنى غناءه، ضحكت واستبشرت، وانتهزتها فرصة نادرة للإيقاع بينه وبين زوجته، وانطلقت من فورها إلى بروكريس، حين تكشفت لها في صورة إحدى صويحباتها:
- بروكريس!
- مرحباً بأعز الحبيبات، ماذا جاء بك في هذا القيظ؟
- نبأ أسود ما كنت أؤثر أن أحضر إليك به!
- نبأ اسود؟ يا للهول! ماذا؟
- أرجو أن لا أثير سخطك علي. . .
- كلا. . . كلا. . . عجلي أرجوك!
- سيفال!
- ماله؟
- أتذكرين يوم رويت لي ما كان من أمره مع أورورا؟
- لم أنس! ولكن مال سيفال؟
- يبدو لي أني لم أكن مصيبة في تبرئته! لقد نفيت شكوكك فيم ذهبت إليه من الميل إلى ربة الفجر، وقلاه لك لما عرف إنك كنت وصيفة ديانا!
- وماذا حدث بربك؟
- إنه يحب فتاة أخرى اسمها نسمة! إنه مولع بها أشد الولوع!
- لا أصدق!
- لا تصدقين؟ وهل أنا كاذبة؟
- وكيف عرفت؟ هل أوحي إليك؟
- بل سمعته يهتف بإسمها، ويشدو بحبها، ويتغنى أحر الغناء!
- لا أصدق، لا أصدق، سيفال لا يحب واحدةً سواي!
- هل لك في أن تسمعي غناءه بأذنيك يا صديقتي!
- وأين هو؟
- قريب من الدغل الذي عند النبع. . . سأحضر لك حصاناً صافناً
وغابت أورورا، ولم تتلبث طويلاً، بل عادت بعد هنيهة ومعها حصانان مطهمان، ركبتاهما وأسرعتا إلى الدغل. . . وكان فؤاد بروكريس يخفق كالعاصفة، وكان وجهها قد شحب وامتقع حتى صار كالليمونة، وكانت ألف فكرة تزحم رأسها وتثور فيه كالبركان، وكانت ما تنفك تحدث نفسها بالهواجس فتقول:(نسمة؟ ترى ما نسمة هذه؟ عروس من عرائس البحر؟ أم غادة من غيد السوق؟ أم ربة كأورورا من ربات الأولمب؟ أهي جميلة؟ أهي أجمل مني؟ ألها عينان كعيني؟ ألها روح تستطيع أن تمتزج بروح سيفال بقدر ما امتزجت به روحي؟ أهكذا ياسيفال؟ لقد غلبت اليقين على الشك يوم أن ذكرت لي أمر أورورا معك، فلم تعد الشكوك لتفترسني؟ يا ترى؟ ألست تعود إلى أصيل هذا اليوم مثقلاً بصيدك كسابق دأبك؟ حنانيك يا آلهة السماء!) فكانت زفراتها لا تخفي على أورورا، فكانت هذه تسليها وتواسيها
واقتربا من الدوحة التي نام تحتها سيفال وراح يغني. . . وأشارت أورورا إلى الزوجة البائسة فاختبأت في الحشائش الطويلة القريبة من سيفال، بعد أن تركت جوادها بعيداً من المكان. . . وهناك أنصتت بكل سمعها وقلبها، فسمعت زوجها ما يزال يتغنى باسم نسمة ويقول:
يا نسمة إلامَ أهتف بك يا نسمة!
يا نسمة يا أحب شيء في هذه الحرور!
تعالي قبلي خدي ووجنتيّ وجبيني!
كم أنا مشتاق إلى نسمة يا سماء!
فابعثيها رَخيةً نديةً، عليلةً بليلة!
تنعش فؤادي وتثلجْ برفيفها صدري
وكان ما خافت بروكريس أن يكون! فها هو ذا سيفال يهتف باسم حبيبته نسمة ويتغنى، ويتمنى لو جاءته تقبل خديه ووجنتيه؛ وها هو ذا يضرع إلى السماء أن ترسلها رخيةً نديةً تشرح الصدر وتثلج الفؤاد. . . فماذا بعد هذا؟ وأي برهان وقد سمعت الأذنان؟ (إذن لقد كذب علي في الأولى، ولن يكذب علي في الثانية. . . إذن لقد صبا فؤاده إلى أورورا، وما يزال فؤاده يصبو إلى الغانيات من كل جنس وفي كل فج. . . آه للنساء الضعيفات من
الرجال الأقوياء. . . ويلي عليك يا سيفال. . . ويلي عليك وألف ويل!
وعاثت الوساوس في صدرها، وانقلبت أضواء الظهر الساطعة ظلاماً داجياً في عينيها الحزينتين، فأرسلت آهةً عميقةً قطعت بها على سيفال غناءه، فهب الفتى مذهولاً مروعاً، وحسب أن وحشاً يتربص به في الحشيشة، فجمع قوته، وتناول حربته - حربة ديانا التي لا تخطئ - وأطلقها إلى المكان الذي صدرت منه الهمهمة، وذهبت الحربة لتستقر في صدر بروكريس!!
وا أسفاه!
لقد جرى سيفال ليرى هذا الصيد الجديد، فماذا رأى؟
- بروكريس؟؟ يا للهول؟ أهو أنت؟
-. . .؟. . .
- وماذا جاء بك الساعة يا حبيبتي؟
- لا. . . شيء. . . فقط. . . لا تتزوج. . . نسمة، من بعدي!
- نسمة؟ أوه! إنها لا شيء. . . لقد كان الجو متأججاً من الحر يا حبيبتي. . . وكنت أتمنى أن تهب علي نسمة من الريح تروح علي!. . .
- أحق. . . هذا؟. . .
- هذا هو الحق وحبك يا بروكريس
- إذن. . . سلام. . . عليك
- بروكريس! بروكريس! لا! لا تغمضي عينيك دوني؟ افتحيها لسيفال!
ولكنها ماتت. . . وماتت بيد زوجها وحبيبها الأمين الوفي!
وودعت الحياة وليس في قلبها إثارة واحدة من الشك في حبه وإخلاصه. . .
وأرسل الفتى أنينه في الأفاق، ورفع وجهه ليقلبه في السماء بالشكوى، ولكنه رأى. . . أورورا. . واقفة تبتسم وتضحك. . فجن جنونه. . . وانطلق هائماً على وجهه، لا يلوي على شيء، ولا ترقأ له دموع. . . حتى مات!
دريني خشبة
البريد الأدبي
حادث عظيم في الصحافة البريطانية
وقع في يوم أول أكتوبر الجاري حادث عظيم في الصحافة الإنكليزية بل في الصحافة العالمية بأسرها، فقد اختفت جريدة (المورنن بوست) أقدم الصحف اليومية الإنكليزية، وفقدت كيانها المستقل لتندمج في منافستها القوية جريدة (الديلي تلغراف). ومنذ أول أكتوبر تصدر الديلي تلغراف باسمها الجديد وهو (الديلي تلغراف والمورنن بوست) ونستطيع أن نقدر أهمية هذا الحادث الصحفي متى علمنا أن (المورنن بوست) قطعت إلى اليوم مائة وخمسة وستين عاماً من حياتها المستقلة، وأنها لبثت مدى حياتها الطويلة دائماً من أعظم الصحف البريطانية وأقواها نفوذاً. وقد أنشئت المورنن بوست في سنة 1772، واستمرت تصدر بانتظام حتى اليوم وكانت نزعتها دائماً دستورية محافظة، ولكنها كانت تصطبغ دائماً بنزعة استعمارية وإمبراطورية عميقة، وكانت دائماً أشد الصحف البريطانية معارضة للسياسة التحررية، ومن ثم فقد كانت أشد خصومة لسياسة الحكم الذاتي سواء أكان في أرلنده أو الهند كما كانت من أشد خصومة للحركة الوطنية المصرية وللمعاهدات المصرية الإنكليزية. أما جريدة (الديلي تلغراف) منافستها القديمة ووراثتها اليوم فقد أنشئت في يونيه سنة 1855، على يد أسرة لادسون الشهيرة، واستمرت تحت إشرافها وإدارتها حتى سنة 1928إذ انتقلت ملكيتها من اللورد برنهام آخر أصحابها من أسرة لادسوف إلى اللورد كامروز صاحبها الحالي. وكانت الديلي تلغراف أول جريدة إنكليزية بيعت ببنس واحد (أربعة مليمات) وهو ما أعتبر يومئذ مغامرة صحفية جريئة لأن الصحف كانت تباع يومئذ بأربعة إلى خمسة بنسات، وكان صدورها في أربع صفحات فقط. أما اليوم فهي تصدر في اثنتين وثلاثين صفحة من القطع الكبير وتباع أيضاً ببنس واحد.
ونشأت (الديلي تلغراف) حرة في نزعتها السياسية، وكانت تناصر سياسة جلادستون في أواخر القرن الماضي، ولكنها تطورت في اتجاهها السياسي شيئاً فشيئاً حتى غدت محافظة اتحادية وأخذت تشاطر منافستها القديمة نزعتها الاستعمارية، ولكن بأسلوب أكثر اعتدالا وأقل تطرفاً، وجمعت الديلي تلغراف أقطاب الكتاب في أواخر العهد الفكتوري، وتألق فيها نجم طائفة كبيرة من أعظم الصحفيين؛ وتولت الأنفاق على بعثة استانلي الاكتشافية سنة
1874 -
77. ومن أشهر مواقفها الصحفية حديث نشر للقيصر سنة 1908ولهلم الثاني، فكان له أعظم صدى، وكاد يزعزع عروش آل هو هنزلرن، وكان من نتائجه أن استقال البرنس فون بيلوف رئيس الحكومة الألمانية. والديلي تلغراف اليوم من أكبر الصحف الإنكليزية حجماً، وأعظمها نفوذاً، وأوسعها انتشاراً؛ وقد كانت تطبع حتى سنة 1928، أعني أيام أن كانت في حوزة اللورد برنهام 84 ألفاً، ولكنها مذ خفضت ثمنها ثانية إلى بنس واحد في سنة 1930، ارتفع عدد المطبوع منها إلى 532ألفاً وهو رقم انتشارها اليوم
وقد صدرت الديلي تلغراف عددها الأول في عهدها الجديد بعد أن ضمت إليها منافستها القديمة بكلمة مؤثرة قالت فيها إنها ترحب بقرائها الجدد قراء المورنن بوست القدماء، وأنه إذا كان اختفاء المورنن بوست تلك الجريدة الدستورية القوية يعتبر محنة قومية، فإن القراء يستطيعون بعطفهم ومؤازرتهم أن يخففوا وقعها، وأنها باحتفاظها باسم منافستها القديمة إلى جانب اسمها تدلل على ولائها للقضية المشتركة التي دافعتا ومازالتا تدافعان عنها. وأعلنت في مقال آخر، سردت فيها تاريخ الجريدتين، أنها سوف تحافظ أبداً على مبادئ الولاء والحرية والتسامح التي سارت عليها حتى اليوم، وستكون أبداً عند حسن ظن قرائها وأصدقائها.
الكتاب المصريون باللغة الفرنسية
اهتمت الصحافة الفرنسية بالمجموعة التي نشرها المسيو روبربلوم. من نفثات أقلام الكتاب المصريين الذين يكتبون باللغة الفرنسية، وبكتاب (عودة الروح) الذي وضعه الأستاذ توفيق الحكيم، ونقله إلى الفرنسية المسيو موريك برين. فقد نشرت جريدة (البتي باريزيان) في القسم الأدبي مقالاً للمسيو جان فينيو الرئيس السابق لجمعية الأدباء تحدث فيها عن كتاب مصر وآثارهم في الفرنسية ووجوب معرفة أسمائهم ومؤلفاتهم باللغة الفرنسية ليطلع عليها القراء في فرنسا، وليأخذ هؤلاء المؤلفون مكانتهم في أسرة الفكر الكبيرة، وقد خص المسيو جان فينيو كتاب (عودة الروح) للأستاذ توفيق الحكيم بقسم من بحثه إذ قال:
(إن هذا الكتاب الحي الطريف موضوع باللغة العربية كما أن كتب فينبير موضوع باللغة العبرية. وقد نقله إلى الفرنسية موريك برين، وهو من أفضل ممثلي الثقافة الفرنسية بالقاهرة. وقد غير عنوان الكتاب بالفرنسية واستبدله بعنوان (رواية نهضة مصر) وهنا
وجه لمناقشته في هذا الاستبدال لأن القسم الاجتماعي بل القسم الأدبي والسياسي لا يتألف منهما الكتاب كله. فالمؤلف يستهل كتبه بنكات مسلية عن حياة الطبقة الوسطى في القاهرة - وهي حياة بسيطة ضيقة يعني أصحابها بأمور تافهة - وهم يقولون أن الشرقيين يقفون عند الأمور السطحية الخفيفة ولكن يوجد ثمة عدة حوادث وقعت للشاب محسن المتيم بحب جارته سنية الحسناء، وقد كان يجب أن يراعي جانب الإيجاز في الكلام عن هذا الموضوع. ثم أن الحادثين اللذين يطلق هذا التلميذ لسانه في الكلام عنهما منصرفاً عن تتمة تصريحاته الغرامية - يستطاع الاستغناء عنهما.
وبما أن الموضوع يدور على (عودة الريح) فقد كان يجب أن يبين المؤلف كيف فقدت تلك الروح. وهذه النقطة مصروف النظر عنها، ومهما يكن من الأمر فأن القسم الثاني من الكتاب وحوادثه تجري في إحدى ضواحي القاهرة في منزل والدي محسن يظهر لنا أنه أفضل قسم في الرواية، وفيه وصف لوالدي محسن اللذين كانا من أصحاب الأطيان الموسرين، بيد أنهما كانا أنانيين يعاملان الفلاح بقسوة.
ولدينا محاورة بين موظف بريطاني وعالم فرنسي تبين لنا الأماني الطامحة التي يمتاز بها هذا الجنس من البشر. فنحن نقرأ في الكتاب بعض عبارات تقتضي التأمل كالحديث الذي دار في القطار الذي سافر به محسن إلى أطيان والده، فإن أحد المسافرين وهو مصري الجنسية قال في عرض كلامه عن البلدان الأوربية (هذه بلدان خالية من الإخاء خلافاً لبلادنا حيث نرى الأقباط والمسلمين أخواناً)
وهذا الكلام موضوع نظر يبعث على التساؤل بعد مطالعة (مجموعة الكتاب المصريين باللغة الفرنسية) ورواية توفيق الحكيم عن الأفكار الأدبية الكبيرة، وعما إذا لم يكن الهدف الأسمى الديني، آخذاً في الانحطاط عن مستواه الأصلي في العالم، على أن الإنسان لا يسعه إلا إبداء الدهش من رؤية فضائل الدين الإسلامي القديمة مفقودة من هذه الكتب المختلفة وعدم اهتمام المؤلفين بها. ولم تنفرد أوربا بافتقارها إلى الحب الحقيقي وهو دون سواه قادر على تجديد شباب الأمم والنفوس)
وقد كتبت السيدة تريز هربان مقالاً عن رواية (عودة الروح) نشرته في جريدة (ليجور) وإليك بعض ما جاء فيه:
(إن مصر تظل في نظرنا أرض الماضي وهي ترتبط بحكايات النيل وأسرار الأهرام ولا نزال نسترشد بفنها وديانتها مدة طويلة وربما ظللنا مدة طويلة أيضاً صارفين النظر عن الاهتمام بحاضرها
(ولا نجد مندوحة عن الاعتراف بالجميل للكاتب العربي توفيق الحكيم وموريك برين مترجم روايته لكشفهما أسرار مصر الأخرى، أي مصر الفلاحين، والطبقة المتوسطة المقيمة في ظلال الرموس المصممة على البقاء في الحياة)
الحياة في القطب الشمالي
يفيد التقرير الأخير الذي أرسله الرفيق (بابانين) رئيس البعثة القطبية العلمية السوفيتية أن هذه البعثة دهشت عند ما رأت بعض الحيوانات والطيور الحية في المحيط المنجمد الشمالي
وقد كتب الرفيق (بابانين) من محطة القطب الشمالي يقول أنه يستفاد (اعتماداً على رواية (نانسن) أن كثيراً من الخبراء يشيرون إلى أن المحيط المنجمد الشمالي خال من الأحياء، على أننا شهدنا ظاهرة في غاية الأهمية، ذلك إننا سمعنا في اليوم الذي وصلنا فيه إلى القطب زقزقة طائر، فخيل إلينا في الحال أنه قد جئ به على إحدى الطيارات. على أنه ظهرت هنا بعد ذلك طيور أخرى من أنواع مختلفة.
وكان الرفيق شيرشوف (العالم المائي الذي يرافق البعثة) يجد دائماً كميات كبيرة من متباين أنواع السمك في مختلف الأعماق)
سرقة لوحة زيتية قيمة من متحف ليبزج
سرقت في صباح يوم 10 أكتوبر الجاري من متحف ليبزج لوحة زيتية للرسام الألماني لوكاس موللر المعروف باسم لوكاس كراناخ.
وتمثل اللوحة المسروقة رسماً فضياً لموسى الكليم وفي يده الألواح التي كتبت عليها الشريعة اليهودية، وظهر في مؤخر الصورة الشعب اليهودي.
وقد رسمت هذه اللوحة منذ حوالي 400سنة، وكانت تعد من أثمن اللوحات الموجودة بمتحف ليبزج وتقدر قيمتها بخمسة وعشرين ألف مارك تقريباً.
والذي تهمنا معرفته هو أن لوكاس كراناخ هذا فنان ألماني أصيل ولد سنة 1472 بكراناخ في أوبر فرانكين، وكان مصوراً خاصاً لقصر الأمير فريدريش العاقل بفيتيمبرج، واشتغل بكثير من الأعمال كالصيدلة وبيع الكتب إلى جانب اشتغاله بالفن، وكان له مصور كبير للتصوير.
وقد اختير عمدة لبلدة فيتمبرج المذكورة سنة 1537 وكان صديقاً حميماً لمارتن لوثر صاحب المذهب الديني المعروف، ومات سنة 1553في نفس البلدة.
وكان كراناخ أهم أستاذ في الفن الألماني في كل منطقة سكسونيا دون نزاع، وقد غلب على فنه في أول أمره طابع الدقة والقوة في إبراز المميزات الشخصية واستمر كذلك حتى سنة 1520 إلا أنه بعدئذ تهاون بعض الشيء في إخراج قطعه فجاءت ناعمة وأقل قوة مما سبقها.
والدارس للوحاته يلاحظ أنه كان ميالاً إلى الوجوه المربعة وكثيراً ما جعل سيقان النساء أطول من القدر المناسب.
ويعتبر كراناخ مصوراً ألمانياً شعبياً متبسطاً في اختيار مواقفه تخير ألوانه من تلك التي تميل إلى المرح والبهجة.
وله عدة لوحات كثيرة بالزيت وبالقلم الرصاص وبالحفر على الخشب محفوظ معظمها في ألمانيا وقليل منها في فيينا وفلورنسا وغيرهما
والعبرة هنا هي أن الزمان لم يمنح مصر بعد فناناً يستطيع تاريخ الفن أن يسجل اسمه من حيث الاتجاه الجديد أو الابتكار أو المقدرة الفذة؛ ذلك لأننا قوم نسجل لأنفسنا بأنفسنا النبوغ والعبقرية دون حاجة إلى تسجيل التاريخ.
ا. م
المستشرقون والإسلام
علمنا أن الأستاذ الشيخ عبد الرحمن حسن رئيس الوفد الذي قام بتمثيل الأزهر في مؤتمر تاريخ الأديان قد رفع إلى فضيلة الأستاذ الأكبر مذكرة تتضمن أسماء الكتب العلمية التي وضعها المستشرقون في مختلف المسائل الإسلامية، وجاء بعضها محرفاً وبعضها لا يفيد
حكمة الشارع، ثم بولغ في تحريف مدلولاتها ومعانيها على نحو يتعذر معه فهم أحكام الإسلام على وجهها الصحيح
وقد أشار الأستاذ في مذكرته إلى أن هذه الكتب تدرس في بعض الجامعات العلمية على أنها صورة صحيحة لما جاء في الشريعة الإسلامية من أحكام وقواعد، وبما أن مؤتمر الشريعة الإسلامية - الذي رؤى أن يعقد في القاهرة - سيتناول بالبحث هذه المسائل، فمن الواجب أن ندرس هذه الكتب دراسة كاملة لتقول مشيخة الأزهر فيها كلماتها في هذا المؤتمر
وقد وافق فضيلة الأستاذ الأكبر على هذا وأصدر أمراً إلى إدارة المعاهد الدينية بأن تطلب إلى المكتبات الشهيرة في إنجلترا وفرنسا وألمانيا لتبعث إلى المشيخة بهذه الكتب التي ذكرت في قائمة خاصة وستؤلف لجنتان إحداهما من كبار رجال القانون وبعض المتضلعين في اللغات الأجنبية لتطلع على هذه الكتب ولتنقل ما جاء فيها خاصاً بالمسائل الإسلامية إلى اللغة العربية. والثاني من كبار علماء الأزهر لتقوم بوضع الأحكام الصحيحة لهذه المسائل على أن تعد بياناً يشمل جميع الأخطاء التي جاءت في هذه الكتب ليلقي في المؤتمر باسم مشيخة الأزهر.
في المجمع اللغوي
وضعت مذكرة لعرضها على صاحب المعالي وزير المعارف بتحديد موعد افتتاح المجمع اللغوي في دورته الخامسة.
وقد تم طبع مجلة المجمع في دورته الثالثة وستوزع قريباً وبدئ بطبع مجلة الدورة الرابعة الماضية. وسيجري المجمع في دورته الجديدة على نظامه العادي، نظراً لتأخر صدور القانون الجديد الخاص بالمجمع؛ وكان مجلس النواب قد أقر هذا القانون في دورته الماضية ولكن مجلس الشيوخ أرجأ التصديق عليه إلى الدورة الجديدة.
كليات المقاصد والكلية الشرعية
كتب إلينا أستاذ فاضل من أساتذتها يقول:
زار سعادة العشماوي بك وكيل وزارة المعارف المصرية كليات المقاصد والكلية الشرعية
التي أنشأها سماحة الأستاذ الكبير مفتي لبنان لتعد الطلاب للدراسة العالية في الأزهر الشريف، ولتنشئ الجيل الجديد الذي يجمع بين الثقافة الإسلامية والثقافة الحديثة، فسر منها سروراً عظيماً، وزار قاعاتها ومكتباتها، وحضر درساً في الأدب العربي للأستاذ علي الطنطاوي ودرساً للأستاذ الشيخ محمد الداعوق، فكان إعجابه شديداً وأعلن أنه على استعداد لقبول اثنين من طلاب الكلية في دار العلوم العليا في مصر بلا امتحان، فكان ذلك مكرمة عظيمة لسعادته تشكرها له الكلية خالص الشكر، وترجو أن يرى أثارها الطيبة في تقدم الكلية وازدهارها، وتوثيق الصلات بين مصر والأقطار الشقيقة في أقرب وقت، ونأمل من الرسالة (المجلة العربية الكبرى) أن تبلغه هذا الشكر على صفحاتها.
جمعية فرنسية إسلامية في باريس
ألفت أخيراً جمعية فرنسية إسلامية في باريس غايتها تعزيز الصداقة وتنمية العلاقات الفرنسية الإسلامية على قاعدة المساواة بين جميع أعضائها والتعلق المتين باحترام العقائد والآراء والابتعاد عن التبشير
وستتخذ هذه الجمعية مكتباً لها على مقربة من الجامع فتجعله مركز صداقة وتربية وتعاون. وسيؤلف هذا المكتب من: قاعات درس لعمال شمال أفريقيا الموجودين في منطقة باريس، ومكتبة تحتوي على مؤلفات فرنسية وعربية، وغرفة للمطالعة مجهزة بكتب عديدة عربية وفرنسية وقاعات للمحاضرات وعرض الأشرطة السينمائية
وهذا النادي سيعد لأن يصبح مركز ثقافة فرنسوية وعربية وستنشر فائدته في فرنسا وأفريقيا الشمالية والشرق القريب بفضل العلماء والأدباء والفنانين والفلاسفة العرب والفرنسيين الذين سيترددون عليه.
ذكرى مؤرخ كبير
أحتفل أخيراً في مدينة فالنسيين بفرنسا بذكرى المؤرخ الفرنسي الشهير (فراوسار) لمناسبة انقضاء ستمائة عام على مولده إذ أنه ولد على أرجح الروايات سنة 1337، وقد أتخذ الاحتفال أهمية خاصة، لأن فراوسار يعتبر في الواقع عميد المؤرخين الفرنسيين في التاريخ الفرنسي فهو أول من كتب التاريخ في فرنسا بروح جديد، وأول من فهم أن التاريخ
شيء أكثر من القصة والرواية، وقد كان التاريخ حتى عصر فراوسار يكاد يمتزج بالقصة والأسطورة دائماً، وكان لا يزال خاضعاً لوحي الكنيسة، وكان المؤرخون هم الرهبان غالباً، فكان التاريخ مزيجاً من الروايات التي يصوغها رجال الذين حسبما تملي أهواء الكنيسة، وكانت الملوكية والشعب والحروب والحوادث جميعاً ينظر إليها من هذه الناحية، ويحكم عليها طبقاً لهذه الروح، ولكن فراوسار استطاع أن يتحرر من هذه الروح وأن يكتب التاريخ على أنه سجل الحوادث الجارية. وقد دون حوادث عصره في كتاب شهير يعتبر من هذه الناحية ذا قيمة تاريخية خاصة، وهو تاريخ فرنسا وإنكلترا وعلائقهما في عصره؛ ويعرف هذا المؤلف عادة (بتاريخ فراوسار) ويعتقد أنه أول مؤلف فرنسي وضع نهج التاريخ الحديث ومهد لتطوره كرواية حرة للحوادث والشئون
ونستطيع أن نقارن فراوسار من هذه الناحية بمؤرخنا العظيم ابن خلدون، فكلاهما عاش في نفس العصر، وكلاهما استطاع قبل غيره أن يفهم روح التاريخ الحقة، وأن ينظر إليه من ناحية جديدة، وأن يعامله باعتبار أنه أكثر منقصة ورواية تخضع لتأثير العوامل الدينية أو السياسية، ولكن ابن خلدون كان بلا ريب أوسع آفاقاً من فراوسار؛ ولم يرتفع فراوسار أو غيره من المعاصرين إلى تلك الأفاق الرفيعة التي سما إليها ابن خلدون، والتي جعلت منه أول فيلسوف اجتماعي، وأول مؤسس لفلسفة التاريخ وأصول الاجتماع.
في نادي القلم العراقي
اجتمع نادي القلم العراقي مساء اليوم الثاني من هذا الشهر في دار أحد أعضائه السيد توفيق وهبي وتلا السكرتير رسالة وردت من نادي القلم الإنكليزي يطلب فيها ترشيح أحد كبار أدباء العراق لتعيينه عضو شرف أسوة بالأمم الممثلة فيه.
فقرر المجتمعون ترشيح معالي الأستاذ الشيخ محمد رضا الشبيبي رئيس نادي القلم العراقي وزير المعارف لهذه العضوية الفخرية وقد ألقى في هذا الاجتماع الدكتور متي عقراوي فصولاً من رسالة حول التعليم الإجباري فكانت مدار مناقشات دقيقة.
الكتب
يوميات نائب في الأرياف
للأستاذ توفيق الحكيم
محاورات أفلاطون
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محفوظ
للأستاذ محمود الخفيف
تفضل الأستاذ الحكيم فأهدى إلي كتابه (يوميات نائب في الأرياف) وكنت قد قرأت فصولا في مجلة الرواية؛ بيد أني عدت فتلوته وقد انتظمه مجلد واحد فألفيتني أكثر استمتاعاً به وأكبر محبة له ولصاحبه.
المؤلف الفاضل غني بشهرته عن التعريف، عرفه جمهور القراء وأحبوه في (أهل الكهف) ووثقوا من مواهبه الفنية في تلك القصة الرائعة وفي أختها (شهرزاد) وزادتهم مؤلفاته بعد ذلك معرفة به، وارتياحاً إلى فنه، وابتهاجاً بتوفيقه. والحق عندي أن توفيق الحكيم قد صار في (القصة المصرية) أحد أعلامها الأفذاذ، بل لقد خطا بها وهي بعد في طفولتها خطوات سريعة وثيقة حتى لقد غدا في هذه الناحية (كعبد الوهاب) في الموسيقى وكالمرحوم (مختار) في فن النحت، وحق لمصر أن تفخر به كما تفخر بهما. ولست أعني بالإشارة إلى (القصة المصرية) تبريزه فيها وحدها فلقد كتب له النجاح في ذلك الفن في أوسع حدوده ورأيناه موهوباً كما يقول أهل الفن كما رأيناه يجمع إلى موهبته ثقافة من الطراز الأول. والقصصي يخلق أولاً وفيه القصة: في نفسه أسلوبها وروحها، وفي رأسه الميل الشديد إلى صوغها وإعلانها. وقل مثل هذا عن كل ذي فن.
والكتاب الذي أحدثك عنه ضرب من القصة إذ تجاوزنا عن أصولها المصطلح عليها فهو كما ترى اسمه (يوميات). غير أن الأستاذ قد ألبسه ثوب القصة في مهارة عجيبة تعد في ذاتها ناحية من نواحي نبوغه في هذا الفن. فقد جعل من (ريم) ومن حادثة مقتل (قمر الدولة) سلكا ينتظم أجزاءها ويتسلط على القارئ من أول الكتاب إلى أخره؛ ويمكنك أن تعتبرها نوعاً من القصص الإصلاحي على نحو ما كان يجري عليه دكنز في فنه وما كان
يتوخاه منه، وهنا نرى من الأستاذ الحكيم مسلكا جديداً في القصص لم ينزل به عن مستواه في مسلكه السالف في أهل الكهف وشهرزاد، تلك الناحية الفلسفية التي حلق بها في أفق عال فسيح. أجل رأينا في هذا الكتاب من مستلزمات الفن ومن آياته ما يعجب ويطرب! رأينا أولاً عنصر التشويق كما تجلى في خلق حادثة القتل ثم إخفاء القاتل والبحث عنه، وكما يتجلى في شكل أدق وأجمل من ذلك الوصف الشعري الجميل الفائق لتلك الفتاة الريفية (ريم) ذلك الوصف الذي عطف عليها القلوب، وجذب إليها النفوس، وأكسب القصة مسحة من الجمال السامي كانت تظهر فيه نظرات الأستاذ الفلسفية؛ ورأينا كذلك في القصة عنصر الفكاهة ناضجاً حلواً تسيغه الأفئدة وتعلق به، كما رأينا دقة الوصف وشموله في غير التواء أو تعقيد؛ ورأينا خبرة الأستاذ بالوسط الذي يكتب عنه تلك الخبرة المدهشة التي لم يدق عنها معرفة العبارات المحلية التي كان يجريها على ألسنة أشخاصه على اختلاف أعمارهم وطبقاتهم وفصائلهم. هذا إلى وصف الأشخاص أنفسهم حتى لكأنك تراهم وتسمع إليهم. وهاأنذا أحد أبناء الريف أشهد ما وجدت في وصفه شذوذاً ولا لمحت فيه مسحة من خيال. ورأينا في القصة إلى جانب ذلك كله النقد الصحيح الذي يرضيك؛ نعم قد يحسب بعض القراء ممن لم يروا مثل هؤلاء الأشخاص الذين وصفهم الأستاذ، كالقاضي الأهلي والقاضي الشرعي مثلاً أن عنصر (الكاريكاتير) زائد في بعض أوصافه، ولكن الذين رأوا في الحياة مثل هؤلاء شهدوا له بالصدق، وأعجبوا بطريقته وطلبوا منها المزيد
فوق هذا كله أو قل بهذا كله تحققت للكتاب ناحية فريدة وهو أنه سجل لعصر من عصورنا، فيه كثير من ألوان حياتنا في بيئة من بيئاتنا، سوف تقرأه الأجيال المقبلة وترى فيه من نواحي اللذة ما يحببه إليها ويكسبه بذلك طول الحياة. ولن أفرغ من هذه العجلة دون أن أطلب ملحاً من الأستاذ الحكيم أن يجري قلمه على هذا النحو في نواحي حياتنا الأخرى فيرينا يومياته في بيئة الموظفين مثلاً في (الدواوين) أو في غيرها من الجهات فما أحوجنا إلى هذا النوع من القصص يجري به قلم فنان.
أنتقل بالقارئ بعد ذلك إلى الكتاب الثاني (محاورات أفلاطون) وقد أضطلع بنقله إلى العربية الأستاذ زكي نجيب محمود ونشرته لجنتنا المباركة الناهضة (لجنة التأليف والترجمة والنشر)
عمل الأستاذ زكي كما ترى عمل المعرب، وقد يحسب البعض أن التعريب أمر هين لا يكلف صاحبه عناء، ولا يكشف عن مقدرة أدبية؛ ولكن الذين مارسوا هذا العمل والذين يقدرون الأمور حق قدرها، يعرفون أنه من أشق الأعمال ومن أقطعها حجة في معرض التدليل على المقدرة والكفاية الثقافية، وحسبك أن تذكر ما بين اللغات من تباين وتفاوت في الأساليب والتراكيب والاصطلاحات والمجازات وغيرها من ضروب التعبير، وأن تذكر ما تفتقر إليه اللغة العربية من الألفاظ التي تقابل ما استحدث من الألفاظ العلمية في اللغات التي ننقل عنها، لتعلم مقدار الجهد الذي يعانيه المعرب.
وفوق ذلك فهناك ما هو أهم من اللغة في ذاتها؛ هناك أصول الترجمة الصحيحة وما تتطلب من شروط، وأهمها في رأيي الإلمام التام لا باللغتين فحسب، فذلك قد يتوفر للكثيرين، ولكن الإلمام التام بالفن الذي يترجم. وعندي أن الذي يتعرض لترجمة فن من الفنون لا يفهمه حق الفهم، إنما يكون كسالك الصحراء أضلته دروبها أو ذهب بلبه فضاؤها الشاسع وقد جهل صواها، وتاه عن مبدئها ومنتهاها. أما الذي يترجم عن فهم وخبرة ووثوق من الموضوع فإنه كالربان الماهر عرف وجهته واتخذ إليها سبيله؛ نعم يكون الفاهم الموضوع من فهمه هذا ما يعينه على التعبير الصحيح، وما يجعل اللغة ذاتها طيعة في يده مواتية له فلا يتعثر ولا يقف ولا تظهر في عمله الركة ولا يشوبه الإبهام والتناقض والاضطراب.
والأستاذ زكي كما عرفته من قرب وكما عاشرته وصاحبته فيلسوف بطبعه، لا ترى الفلسفة فيه أثراً من آثار الثقافة فحسب، بل هي مظهر من مظاهر الطبع قبل هذا. تحدثه في أي أمر فيفلسفه، إن صح هذا التعبير؛ لذلك كان شغفه بالفلسفة ومسائلها نتيجة ميل ذاتي، وذلك لعمري سبيل العلم الصحيح. والذين لا يعرفونه إلا فيما كتب يشهدون له بطول الباع في هذه الناحية. وهل نسينا فصوله الممتعة في الرسالة؟ وهل نسينا كتابيه اللذين أشترك في وضعهما مع الأستاذ العلامة أحمد أمين وهما (قصة الفلسفة اليونانية) و (قصة الفلسفة الحديثة)؟
إذا عرفت هذا عن زكي، وعرفت معه أنه متين في لغته، ضليع في الإنجليزية، أدركت مقدار نجاحه في ترجمة هذا الكتاب الذي أحدثك عنه. الحق أني معجب بهذه الترجمة، محتكم فيما أقول إلى الذين قرءوا الكتاب فصولاً متتابعة في الرسالة قبل أن يجمع في
سفر. ذلك أني أخشى أن يحمل البعض كلامي على المجاملة لما بيني وبين زكي من صداقة. وإذا كانت عين الرضى عن كل عيب كليلة، فتلك العين من ناحية أخرى ترى من المحاسن ما يخفى على غيرها وما يدق على أي عين سواها على أني لو وجدت في تلك الترجمة عيباً ما ترددت في ذكره بل وفي إبرازه
هذا عن الترجمة، أما عن الكتاب في ذاته فهو من تلك الكتب التي يعد نقلها إلى لغة معينة خدمة جليلة لتلك اللغة هذا لأنه من كتب الثقافة العالية التي أحدثت أثراً كبيراً في النهضات الفكرية للأمم التي ترجمته. وحسبك أن ترى سقراط كما يصوره تلميذه أفلاطون في ذلك الحوار، وأن ترى طرفاً من فلسفته في الأخلاق والحياة الإنسانية، وأن ترى أسلوبه في التفكير وتلمس أوجه الصواب فيما يطرق من مسائل، وأن ترى خلقه القويم وتحس عظمة روحه وقوة نفسه، ونقل ذلك الكتاب إلى لغتنا بالذات مكمل لناحية من نواحي النقص من ثقافتنا ولذلك فهو مظهر من مظاهر نهضتنا الفكرية الحديثة.
الخفيف