المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 225 - بتاريخ: 25 - 10 - 1937 - مجلة الرسالة - جـ ٢٢٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 225

- بتاريخ: 25 - 10 - 1937

ص: -1

‌أي زمان هذا؟!

فرغ الشيخ منصور من قراءة (الأهرام) ثم ألقاها من يده الراعشة على الوسادة وقال بلهجة الساخط القانط: (أي زمان هذا؟) هل أتى أمر الله وقامت القيامة؟

وكنا خليناه لنفسه ساعة شغلها بالنظر في الجريدة، وشغلناها في شأن من شؤونه. فلما تحرك هذه الحركة العصبية، وقال هذه الجملة التعجبية، أقبلنا عليه نستفهمه الأمر ونناقله الحديث. والشيخ منصور هذا فقيه نابه من فقهاء الأزهر القديم، قضى عمريه في خدمة الدين وعلومه وهو على الحال القروية الأولى من بساطة الطعام والمنام والملبس، فلم يشْك داء ولم يشرب دواء قط!

أولاده مثقفون مترفون، يشغلون المناصب الرفيعة ويسكنون المنازل الأنيقة وينعمون بمتع الحضارة؛ ولكنه لا يزال هو وزوجه الشيخة يعيشان في دارهما العتيقة في حي الباطنية على النمط الأول: يأتدمان بالفول، ويتفكهان بالتمر، ويستصبحان بالزيت. ولا يخرجان - إن خرجا - إلا لصلة رحم أو لزيارة ضريح. والشيخ لا ينفك يحمد الله على أنه لم يركب سيارة، ولم يغش قهوة، ولم يشهد حفلة، ولم يتعلق بشيء من أسباب الدنيا إلا بما لا بد منه لسلامة البدن والدين؛ فلولا أنه يقرأ الصحيفة كل صباح، ويسمر مع نفر من تلاميذه كل مساء، لكان بينه وبين هذا العالم المتغير (كمال الانقطاع). وهو اليوم يدخل في حدود التسعين من سنيه قطيعَ القيام قعيدَ الغرفة، إلا أنه سليم الحواس شاهد اللب؛ ويرى أن الفضل فيما يتمتع به من طول العمر ونقاء الجسم وفراغ البال، إنما يرجع إلى الإيمان بحكمة الله والرضى بقسمة القدر. وبلغه أن قوماً من العلماء يسكنون في أحياء الأغنياء، ويستطيلون على الناس بالجاه والثراء، وأن أحدهم بلغ من ترفه وسرفه أن اشترى ثلاجة بعشر جنيهات، فاستهال الخبر، وتعاظم الأمر، ثم بكى وقال: يا حسرتا على الدين والعلم! إن العالم إذا امتلأت عينه من الدنيا، فرغ قلبه من الدين!

سأله أحدنا: ماذا قرأت يا مولانا في الجريدة فأنكرته على الزمان؟ فأجاب بلهجته تلك:

(حرب داخلية في الغرب، وحرب خارجية في الشرق، وحرب عالمية تترقب في البحر، وتتوثب في البر، وتتنزى على ألسنة الساسة المساعير من أبناء المدنية وربائب الحضارة؛ ثم سقوط الفرنك في سورية، وحبوط السياسة في فلسطين، وهبوط القطن في مصر، وقنوط الناس في كل مكان من صلاح الحال وانفراج الأزمة؛ ثم وباء الدنج الذي يؤازر

ص: 1

الملاريا والأنفلونزا على خمود الحياة وشل الحركة. لقد كنا لا نرى الموت إلا حيث تكون الشيخوخة الفانية، ولا نسمع بالمرض إلا قُبيل الموت المرغوب، ولا نعرف من الأطباء إلا طبيب المركز يوم يزور القرية كل أربع سنوات، فيأمر بتسوية التلال، وكنس الأزقة، ورش الحيطان الخارجية بالجص؛ وكانت النفوس راضية مطمئنة تسبح في فيض من نعيم السلام والدعة، لا يُرمضها حقد على إنسان، ولا يقلقها حرص على شيء؛ وكان الناس لا يعلمون عن أوزار الحرب إلا ما يتسقطون من أنبائها الحين بعد الحين بين العثمانيين والمسكوف؛ وكانت السلامة أدوم، والأعمار أطول، والأرزاق أيسر، ورحمة الله أقرب، وأمة الرسول بخير

أما اليوم فكأنما أصاب الناس سُعار من الجحيم فلا يبرحون بين عمل دائب، وهم ناصب، وطمع شره، وتنافس دنيء، وعداوة راصدة. ثم فشا الطب ففشا المرض، وانتشر العلم فانتشرت الجريمة، وفاض الخير وغاضت البركة، واستبحرت المدنية المادية فخَفَت بين ضجيجها الآلي صوت الضمير، وهلك في عبابها المزبد سلام النفس. وكان الظن بالمدنية والعلم أن ينزعا من نفوس بني الإنسان غرائز الحيوان، ويهيئا لهم حياة الجنة التي حرمتهم إياها رذيلة الطمع. فهل رُفع الإيمان من الأرض حتى عم الناس هذا البلاء، وأصاب العلماء منه ما أصاب الجهلاء؟

فقلت له يا شيخنا! كان عدد الناس في صدر أيامك قليلاً، وخير الله بالنسبة إليهم كثيراً؛ فكانت الحياة وادعة، والنفوس قانعة، والجوارح عَفّة والجوانح سليمة. وبراءة الصدور من الحسد تصل قطيعة القلوب بالألفة، وترفه لغوب العيش بالمعونة؛ وخلو البال من الهم يدفع المرض عن الجسم، ويصد الرذيلة عن الروح. فلما جاءت المدنية الكاذبة وفرت وسائل الصحة، ومدت أسباب الأمن، فزاد النسل أضعافاً مضاعفة، وكثرت الحاجات كثرة فاحشة، فتزاحم الناس على موارد الرزق، وتكالبوا على مواد العيش؛ ثم أيأستهم هذه المدنية من عزاء الدين، وشككتهم في ثواب الله، وأرابتهم في غَناء الخُلق، فعادوا في حضارتهم الزاخرة بعجائب العلم كأوابد الوحش، لا يقودهم إلا غريزة الحي، ولا يحكمهم إلا قانون الحياة. والله وحده يعلم كيف المصير

فقال الشيخ منصور في تسليم المصدق واستسلام المؤمن:

ص: 2

(الأمر لله يا بني! لا يقع في ملكه إلا ما يريد. نسأله تعالى أن يبقينا فيكم على سلامة، ويخرجنا من دنياكم على خير)

احمد حسن الزيات

ص: 3

‌الحظ المعاكس

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

الذين يعتقدون أنهم مضطهدون في الحياة وأن كل من في الدنيا وما فيها من ناس وأشياء يناوئهم ويكيد لهم ويناصبهم معذورون، وإن كان الأطباء يقولون أن هذا مرض؛ فقد تتوالى المصادفة على وتيرة واحدة لا تختلف أو تتنوع حتى يكبر في وهم المرء أن هناك عمداً، فيروح يعذر بن الرومي الذي حكوا أنه كان إذا رأى النوى مبعثراً أمام باب البيت يرتد داخلاً ويقعد عن التصرف في يومه ذاك إيثاراً لطلب السلامة مما يتوهم أنه لا محالة ملاقيه من السوء والشر

حدث يوماً أني بكرت في القيام من النوم ليتيسر لي أن أكتب ما ينبغي لي أن أكتبه في ذلك اليوم، ثم أخرج لقضاء عدة حاجات لا سبيل إلى إرجاء واحدة منها. فأما الكتابة فاستحالت لأن الآلة الكاتبة تعطلت لعلة لم استطع أن أهتدي إليها، ولأني لم أجد في البيت كله لا حبراً ولا قلماً ولا شيئاً مما يستطيع المرء أن يكتب به، فابتسمت - فما بقيت لي حيلة - وقلت:(صدق المثل. . . باب النجار مخلع) وحدثت نفسي أن هذا يفسح الوقت لقضاء الحاجات الأخرى، فارتديت ثيابي وخرجت من الشقة متوكلاً على الله، فلم أكد أضع رجلي على الدرج حتى زلت قدمي، فنهضت متوجعاً على يدي ورجلي فقد هاضني الاصطدام بالدرجات وحدثت نفسي أن ساقي على الأقل لا ينقصها هذا الرض الجديد، ثم نفضت التراب عن ثيابي - بحكم العادة فإن السلم نظيف - ومضيت متحاملاً على نفسي إلى (الجراج) ولكن السيارة أبت كل الإباء أن يدور محركها. ولست حديث عهد بالسيارات ولا اعرفني عجزت عن علاج حرانها إذا كان لأسباب عارضة، ولكن الأمر استعصى عليً في ذلك الصباح حتى كدت أجن، فتركتها واستأجرت سيارة وفي ظني أنها أسرع من الترام وما إليه، فلم نكد نقطع كيلو واحداً من الطريق حتى عرض للسائق راكب دراجة خرج فجأة من زقاق، فأراد السائق أن يتقي أن يدوسه ويزهق روحه فاصطدم بحافة الرصيف وكاد يقتلني أنا أو يحطمني على الأقل. فنقدت الرجل ما استحق من الأجر وقلت: الترام أسلم وكنا عند محطته، فوقفت ثلث ساعة أنتظره وهو لا يجيء لسبب لا أدريه؛ وأنا أحتمل المشي مهما طال، ولكني لا أحتمل الوقوف خمس دقائق، فأحسست أن بدني قد

ص: 4

تضعضع وأن ساقيّ أصبحتا لا تقويان على حملي، وإن كنت دقيقاً خفيفاً - وزناً ولا دماً - ورأيت مركبة خيل مقبلة فأسرعت إليها وركبتها، والقارئ أعرف بمركبات الخيل، وأكبر الظن أنه رأى كيف ينام الجواد وهو يوهمك أنه يجر المركبة. . . ما علينا. . . سرنا دقائق بسرعة كيلو وربع في الساعة وإذا بالترام الذي نفد صبري وتهدم جسدي وأنا أنتظره يدركنا ويمر بنا كالبرق الخاطف ويتركني أتحسر على العجلة التي صدق من قال إنها من الشيطان لعنه الله. وأوجز فأقول إن كل باب طرقته في ذلك اليوم الأسود ألفيته مسدوداً، وإن كل رجل أردت أن ألقاه وجدته مسافراً أو مريضاً، فاقصرت خوفاً على الباقين الذين كنت أريد أن أقابلهم أن يدركهم الموت. ولاشك أن بن الرومي كثرت تجربته لأمثال هذه المصادفات فصار يؤثر اختصار الأمر والنكوص من البداية اتقاء لمعانات الخيبة التي مل تكررها ولم يكن يجد فيها لذة وله العذر

وأذكر أنه كان معنا في المدرسة الابتدائية تلميذ مجد مجتهد وذكي بارع، وكان حرياً بالنجاح والسبق في أي امتحان، ولم يكن لأحد منا أمل في مزاحمته، ولكنه كان قبل كل امتحان يصاب بمرض يقعده عن أداء الامتحان. وكنا نحن على نقيضه لا نصاب بمرض حتى ولا بزكام خفيف، وكان يتفق أن ينذرنا المدرس أنه مختبرنا غداً مثلاً في الجغرافيا فتهبط قلوبنا إلى أحذيتنا، فقد كانت الجغرافيا أثقل ما نتلقاه من المعارف والعلوم في المدارس الابتدائية لأنها كانت عبارة عن أسماء خلجان وأنهار وجبال ورؤوس وبلدان ليس إلا؛ وكان حفظ هذه الأسماء التي لا آخر لها يسود نور الضحى في عيوننا، ولا أعلم ماذا كان يفعل سواي، ولكني أعرف أني كنت أنشد المرض بكل وسيلة أعرفها فأروح أقف ساعة وساعتين في تيارات الهواء، وأصب الماء البارد على رأسي في الشتاء وأتركه مبلولاً للهواء وفي مرجوي أن أزكم أو أحم فلا يحدث من ذلك شيء، وأضطر إلى الذهاب إلى المدرسة فما بي بأس يصلح أن يكون مسوغاً للتخلف وأعاني الاختبار الذي أنذرنا به، وألقي جزاء العجز عن الحفظ، وتمضي الأيام وأنا صحيح معافى، وإذا بأحد المدرسين يبشرنا بأنه سيذهب بنا إلى حديقة الحيوان في يوم كذا فنفرح ونعد طعامنا ونمني النفس بيوم جميل نلعب فيه وننط ونمتع العين بمنظر القرود والفيل ذي الخرطوم - أبو زلومة كما نسميه - والأسود. ويصبح الصباح الذي أحلم به فأهم بأن أرفع رأسي عن الوسادة فإذا

ص: 5

به أثقل من حجر الطاحون، فأستغرب وأتحسسه فلا أجده مشدوداً إلى شيء، فأسأل أمي فتقبل عليّ وتجسني ثم تقول:(أنت سخن. . لا بد من شربة حالاً) فأصيح: (ولكن كيف أذهب إلى جنينة الحيوانات إذا شربت الشربة؟) فتقول: (جنينة الحيوانات؟ أنت مجنون؟ نم نم. . . لا جنينة الحيوانات ولا غيرها. . .) فأتحسر وأقول لنفسي: (بقى يا رب تشفيني يوم امتحان الجغرافيا وتمرضني يوم جنينة الحيوانات؟ الأمر لله) وأرقد وتجيء الشربة فأتجرعها بكرهي، وبعد ساعتين اثنتين تهبط درجة الحرارة إلى الحد الطبيعي

ومن غرائب الدنيا أن فيها متزوجين يسخطون على نسائهم ولا يريدونهن - ولا يدري أحد لماذا تزوجوهن إذاً - ورجالاً يطلبون الزواج ولا يجدون النساء الموافقات، وفقراء لا يكادون يجدون الكفاف ولهم من البنين تسعة أو عشرة أصحاء يأكلون الزلط كالنعامة؛ وأغنياء يسر الله لهم الرزق وأدر عليهم أخلاف الثروة يشتهي الواحد منهم أن تكون له طفلة واحدة ولو كانت عوراء أو كسيحة. وترى بنات دميمات ثقيلات الدم والروح يتزاحم الشبان عليهن ويطرحن أنفسهم تحت أقدامهن وهن لا يردنهم ولا يشجعنهم ويرفضن أن يكن زوجات لهم وإن كانوا صالحين وأحوالهم حسنة وسيرهم مرضية. وترى بنات جميلات رشيقات ممشوقات يفتن العابد بالحسن والظرف وحلاوة الطبع وطيب الحديث وبراعة الذكاء، ولكنهن مسكينات لا يرغب فيهن أحد ولا يباليهن مخلوق ولا يحلم بوجودهن لا شاب ولا كهل. قالت لي مرة واحدة من هؤلاء الجميلات المسكينات - اعني المنبوذات - إن أغلب ظنها أن العنس هو كل حظها من الدنيا. فتألمت وقلت لها:(يا شيخة حرام عليك. . . أهذا كلام تقوله شابة في العشرين من عمرها؟) قالت: (هذا اعتقادي. . . وأي شيء هناك يغري بالأمل؟. . إن الناس يطلبون المال) قلت: (مالك جاملك وعقلك وحسن تدبيرك وأخلاقك الطيبة) قالت: (أشكرك ولكنك لن تستطيع أن تحيي أملاً مات. . . إني أدرى منك. . .) فتذكرت فتاة هي مثال مجسد للدمامة وثقل الدم وقلة العقل فقلت: (إذا كانت فلانة قد وفقها الله إلى زوج صالح كريم. . .) فقاطعتني وقالت: (هذا هو الذي يحدث دائماً. . . أليس حظ فلانة هذه مدهشاً؟ من كان يتصور؟ اللهم لا اعتراض. . .) قلت: (إنك مازلت صغيرة فاصبري) قالت: (بالطبع. . . ثم إنه لا حيلة لي إلا الصبر ولكنه لا يسعني إلا أن أرى وأتعجب. . . هل تعرف إن كل من زارتنا خاطبة

ص: 6

- وإن كانت لم تصرح ببواعث الزيارة - ذهبت ولم تعد؟. . وليس هذا فقط بل سمعنا من معارفنا أن هؤلاء الزائرات الخاطبات عبنني بكيت وكيت (وذكرت لي عيوباً ليس فيها شيء منها) وإن كل حديث جرى مع أبي في أمر الزواج انتهى بالانقطاع بلا سبب نعرفه) فلم يسعني إلا أن أرثي لها. فليس كل ما تعانيه إبطاء الحظ عليها بل شر من ذلك الإيلام الذي تحدثه صدمة الخيبة كلما نشأ الأمل. وقد كان من أثر ذلك أنها صارت تجنح إلى التمرد أحياناً على المجتمع وعلى حالاته وما يكون بين الناس فيه؛ فلولا أن لها من عقلها وحسن تربيتها وازعاً قوياً. . .

وقالت لي مرة وأنا ماض بها إلى بيت خالة لها: (شف. . . أنا لا أخرج قط إلا مع أبي أو أخي أو معك أحياناً. . ولكني واثقة أن الناس يعرفون وجهي ولا يعرفون صلتك بنا سيرونني اليوم واثقة أيضاً أنهم سيعتقدون أنك. . . أنك. . . غريب. . . وأني خارجة معك للنزهة أو. . . وأني باختصار بنت فاسدة الأخلاق. . . وواثقة فوق هذا أنهم سيعنون بأن يذيعوا هذا عني كأن لهم ثأراً عندي. . . فما رأيك؟)

فقلت لأخفف عنها: (المصيبة واحدة. . . أنا أيضاً رجل تقي ورع أخاف الله وأتقيه ولي زوجة وأولاد؛ وأنا واثق أن ناساً يعرفونني ولا يعرفونك سيروننا فيقول كل منهم في سره أو لصاحبه: شف. . . شف. . . أما إن معه لبنتاً!!! يا ابن الـ. . .)

فضحكت فقالت: (هذا أحسن. . . ليس في وسعنا أن نصلح الكون إذا صح أن به حاجة إلى الإصلاح، ولكن في وسعنا دائماً أن نتلقى ما تجيء به الحياة بابتسامة حلوة كابتسامتك وإن لم يرزق كل إنسان مثل هذا الفم الجميل)

وهكذا الدنيا دائماً. . .

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 7

‌في تاريخ الجمعيات السرية

طائفة سرية عجيبة تعيش في عصر المدنية بأساليب همجية

تتمة البحث

للأستاذ محمد عبد الله عنان

كان عهد القيصر إسكندر الأول أصلح عهد لنمو الحركات الروحية السرية في روسيا. ففيه أنشئت في بطرسبرج عدة محافل سرية لمزاولة الشعائر والتجارب الروحية، وكان قوام هذه الحركة عدة من سيدات الطبقة العليا مثل البارونة بكشفدن ومدام تتاريبوفا. وكان الأكابر والخاصة يشهدون هذه الحفلات الروحية التي اشتقت رسومها وشعائرها من رسوم بعض الجمعيات السرية الوثنية قبل جمعية (أهل الله) وطائفة (سكوبتسي) ذاتها؛ ووقع القيصر نفسه تحت تأثير البارونة فون كرورنر الشهيرة، وهي سيدة اشتهرت يومئذ بنزعتها الصوفية والروحية وكان لها أكبر الأثر في توجيه سياسة القيصر، وفي سير الحوادث والشؤون؛ وكان القيصر يعتقد أن مؤازرة هذه الحركات الروحية هي خير وسيلة لمكافحة حركة البناء الحر (الماسونية) والجمعيات السرية الأخرى التي كانت منها طائفة (سكوبتسي)، ولكن طائفة (سكوبتسي) أو طائفة المجبوبين لقيت في عهد إسكندر الأول كما قدمنا فترة صالحة للنمو، واستطاعت بما خول لها من الحرية والتسامح أن تلم شعثها، وأن تنشط لإذاعة مبادئها، واستطاعت بالأخص أن تنفذ إلى الطبقات المستنيرة التي لم تصل إليها من قبل. وغدا سليفانوف في شيخوخته كأنه ملك غير متوج تحج إليه الوفود من كل صوب، وتنهال عليه العطايا والمنح؛ وكثرت أموال الطائفة، واشتد نفوذها، وقدم اليانسكي وهو زعيم الطائفة الفكري إلى كبير الوزراء رسالة وضعها عن مبادئ الطائفة ومثلها، وفي يبرر إجراء (الجب) بحرارة، ويقترح على القيصر مشروعاً للإصلاح السياسي تنقل بمقتضاه السلطة الفعلية إلى طائفة (المجبوبين)، ويبقى القيصر رئيس الدولة بالاسم تحت زعامة سليفانوف الروحية؛ فأثارت هذه الجرأة اهتمام القيصر وحكومته بأمر المجبوبين مرة أخرى، وقبض على اليانسكي، وسجن في أحد الأديار. أما سليفانوف فقد ترك حراً نظراً لشيخوخته وضعفه، بعد أن وعد بالكف عن الدعوة إلى الجب والاقتصار على الدعاية

ص: 8

الروحية

على أنه لم يف بهذا الوعد، بل استمرت الدعوة الهمجية وذاعت بين طبقات كثيرة، واعتنقها عدد من الأغنياء وذوي النفوذ، وبلغ عدد المجبوبين في هذه الفترة آلافاً كثيرة. وانتظم في سلك الطائفة يومئذ وصيف سابق للإمبراطور بطرس الثالث (فيدوروفتس) يدعى كوبليف، وأخذ يؤكد أن سليفانوف إنما هو القيصر بطرس بلا مراء، وإن القيصر إسكندر يعرف جيداً أن جده يعيش بين المجبوبين منذ عهد بعيد؛ وأسبغ سليفانوف على هذا الداعية لقب (النبي)؛ وهكذا أصبح سليفانوف يزعم أنه المسيح وأنه القيصر معاً

واكتشف حاكم بطرسبرج الكونت ملورادفتش أن ابني أخيه قد وقعا في شرك (المجبوبين) وأن أحدهما قد كابد بالفعل عملية الجب فثار سخطاً؛ وضاقت حكومة القيصر ذرعاً بهذا الاجتراء المجرم الذي لم تنج منه حتى طبقة النبلاء، فانتدبت في سنة 1820 لجنة سرية للتحقيق. وبعد البحث قرر قرارها على اعتقال سليفانوف. وفي الحال اعتقل الداعية، ولكن في رعاية ورفق، وألقي في دير سوزدال؛ فارتاع أنصاره، وحاولوا السعي لإطلاق سراحه، ولكن الحكومة كانت هذه المرة جادة ثابتة العزم. ولما رأى الزعماء أن السلطات تتربص بهم وترقب حركاتهم عمدوا إلى أساليب السرية القديمة، وأخذوا يعملون في الخفاء، ويتظاهرون بأنهم من أخلص أنصار الكنيسة، ولكن السلطات قبضت على معظم زعماء الطائفة وزجتهم في مختلف الأديار والقلاع. وتوفي سليفانوف في معتقله سنة 1832؛ ولكن (المؤمنين) يعتقدون إلى اليوم أنه حي، وأنه سيعود ليتولى السلطات في روسيا ويقيم يوم الحساب على نحو ما يعتقد الدروز في عودة الحاكم بأمر الله

ولم يخمد نشاط هذه الطائفة السرية العجيبة خلال القرن التاسع عشر، بل لبثت دعوتها تتسرب إلى جميع الطبقات؛ ونفذت الدعوة إلى الجيش بكثرة، واكتشفت السلطات مئات من (المجبوبين) في كرونستات وفي القوقاز، وأمر القيصر أن تؤلف من هؤلاء الخصيان فرقة خاصة في الجيش. وفي سنة 1842 قدم جند هذه الفرقة إلى القيادة بلاغاً قالوا فيه أنهم لا يعترفون بالقيصر، وإن القيصر الحقيقي هو بطرس الثالث الذي اعتقل في سوزدال وأعلنت وفاته كذباً، فقبض على زعماء الفرقة ونفوا إلى سيبيريا

وتوالت محاكمات دعاة (السكوبتسي) خلال القرن التاسع عشر، وأدمجت في قانون

ص: 9

العقوبات الروسي العقوبات الآتية: وهي أن يعاقب الشخص الذي يقوم بتشويه نفسه بالنفي إلى سيبيريا؛ ويعاقب الذي يقوم بتشويه (بخصي) شخص آخر بستة أعوام في الأشغال الشاقة؛ ويعاقب الدعاة بالنفي إلى سيبيريا؛ ويعاقب الشخص الذي يقوم بإيواء الدعاة في منزله عقاب مرتكبي جريمة التشويه

ومن أشهر قضايا (المجبوبين) في هذه الفترة، محاكمة وقعت في سنة 1869 أمام محكمة جنايات تمبوف، وفيها حكم بالنفي على مكسيم بلوتتزين، وهو تاجر غني كان يأوي في منزله تسع نساء مشوهات؛ ذلك أن هذه الطائفة البربرية كانت تجتذب إليها النساء أيضاً، وكان تشويه النساء يجري بقطع أجزاء من الثديين أو بانتزاعهما، وكذلك بتشويه أعضاء أخرى؛ وكان يخرج من هؤلاء النسوة المشوهات بين آونة وأخرى (مريم) تزعم أنها أم المسيح المزعوم. وكان بلوتتزين من أكابر الدعاة، وكان يعتبر من (أنبياء) الطائفة وله نفوذ عظيم في الولاية كلها. وفي سنة 1876، كانت محاكمة رنانة أخرى أمام محكمة جنايات مليتوبول، وفيها ظهر أمام القضاة مائة وستة وثلاثون مجبوباً حكم على معظمهم بالنفي. وكانت هذه المحاكمة الشهيرة خاتمة حركة سرية واسعة النطاق تعدت حدود روسيا إلى رومانيا، وذهب ضحيتها مئات من الفلاحين والعمال. وكان الدعاة قد أخذوا إزاء اشتداد المطاردة في روسيا يتسربون إلى رومانيا وهنالك أسسوا لهم (محافل) سرية في ياسي وجلاتز؛ وظهر في جلاتز بين الدعاة شخص يدعى ليسين وهو روسي من موسكو، وكان يمتاز بنوع من الهيام الصوفي، فالتف المؤمنون حوله ولقبوه (بالمنقذ) وزعموا أنه القيصر بطرس الثالث. وصرح ليسين لأنصاره أنه أعظم من المسيح، لأنه أتى لأجل المجد وليس كالمسيح لأجل المعاناة، وأسبغ صفة الأنبياء والحواريين على عدة من أنصاره؛ وذاعت الدعوة الجديدة في رومانيا بسرعة، وهرع الخصيان من كل صوب لتحية المسيح الجديد؛ وبعث ليسين رسله يبشرون بقيامه؛ ثم سار بنفسه في حفل من أنصاره إلى بطرسبرج ليقدم نفسه إلى (القيصر الظاهر)؛ ولكنه اعتقل مع زملائه في الطريق؛ وقامت السلطات بتحقيق واسع النطاق في أمر المجبوبين استغرق أربعة أعوام، وقدم إلى محكمة مليتوبول مائة وستة وثلاثون متهماً، وكان جلهم من الفلاحين ومعظمهم شبان ومنهم شيوخ قلائل وأحداث لم يجاوزوا الخامسة عشرة؛ وكانت في الواقع أشهر محاكمات هذه الطائفة السرية المدهشة

ص: 10

واعترف بعض (الأنبياء) المتهمين أثناء المحاكمة بكثير من أسرار الطائفة وإجراءاتها ورسومها الوثنية؛ ولكن ليسين (المسيح والقيصر) صرح أمام قضاته بأنه غير مذنب، وأن المؤمنين قد اختاروه وفقاً للنبوءات المقدسة، وأن رسل الطائفة يبشرون بالمسيح الجديد وفقاً لتعاليم الإنجيل، وإنه لا يزال على عقيدته مخلصاً لمبادئه ورسالته، وأنه منذ شبابه يبحث عن السلام والحقيقة فلم يجدها إلا لدى طائفة (سكوبتسي)؛ وألقى آخرون من الدعاة تصريحات روحية وفلسفية، وأشادوا بنقاء المثل التي ينشدها المجبوبون؛ وقضت المحكمة في النهاية على ليسين بالأشغال الشاقة ستة أعوام، وقضت على آخرين من الأنبياء بالأشغال الشاقة لمدد مختلفة، وقضت على معظم المتهمين الآخرين بالنفي إلى سيبيريا

وفي أوائل هذه القرن بعد ثورة سنة 1905 سمح للمجبوبين أن يختاروا مكان إقامتهم، فهرع كثير منهم إلى روسيا؛ وقدر عدد المنتمين إلى الطائفة يومئذ في روسيا بخمسة عشر ألفاً، وجرت بعد ذلك عدة محاكمات أخرى اتهم فيها الدعاة بالتحريض على (الجب) وقضي على مئات منهم بالسجن والنفي

وفي ظل النظام البلشفي استطاعت الطائفة أن تجوز العاصفة بسلام بالرغم مما لحق زعماءها الأغنياء من فقد ثرواتهم وأملاكهم الواسعة؛ ورأى الدعاة أن يسايروا النظام الجديد اجتناباً للمطاردة وقام منهم داعية يدعى ارماكوف، فوجه إلى جميع (المؤمنين) خطاباً مفتوحاً يناشدهم فيه أن يجانبوا الغنى والكبرياء والشح، وأن يعودوا إلى الحياة الأخوية الساذجة التي دعا إليها سليفانوف، واقترح أن ينتظم أبناء الطائفة في جماعات روحية مشتركة، ووضع للطائفة نظاماً تعاونياً جديداً على أساس الشيوع؛ وحمل ارماكوف على الاختلاط الجنسي، ووصفه بأنه أعظم عقبة تحول دون تحقيق الصفوة الإنسانية لمبادئ الحياة الرفيعة؛ وتبعه داعية آخر يدعى منشنين، وأذاع في سنة 1928 رسالة قال فيها إن مصائب الإنسانية كلها، وجميع المنازعات والجرائم والحروب، هي نتيجة الغريزة الجنسية؛ ثم يقول ما يأتي:(ما الذي يدفع إنساناً إلى الاختلاس والجريمة؟ هي الغريزة الجنسية. وفي كل مكان نرى عيادات الأمراض السرية، وفي كل يوم تقع آلاف من حوادث الإجهاض وقتل المواليد؛ ولقد كان العالم وما يزال غاصاً بالبغاء والبغايا، وكل ذلك يرجع إلى فعل الأعضاء الجنسية) ويقترح منشنين كعلاج لهذه المحنة الإنسانية أن يعاني

ص: 11

الرجال عملية (الجب) في سن النضج، ويقول إن ذلك لا يضير الإنسانية في شيء

وفي سنة 1929 اكتشفت السلطات السوفيتية محافل سرية للمجبوبين في موسكو ولننجراد، وظهر من التحقيق أن الدعاة يرتكبون جريمة التشويه، ويبشرون في اجتماعاتهم السرية باقتراب حكم القيصر بطرس الثالث؛ فقبض على كثيرين من الزعماء والدعاة، وحوكموا أمام المحكمة الثورية، وقضي على كثير منهم بالسجن (لأنهم يذيعون خرافة دينية تقترن بها فائدة مادية، ولأنهم ارتكبوا جرائم الضرب والجرح). ووقعت في سنة 1930 محاكمة رنانة أخرى في لننجراد حيث قبض على كثيرين من أعضاء الطائفة وبينهم عدة من أكابر الأغنياء السابقين، وعدة من العاملات؛ فقضت المحكمة على الزعماء بالسجن، ولكنها قضت ببراءة الضحايا من العمال والعاملات. وظهر من التحقيق أن الطائفة تعمل بنشاط في جميع أنحاء روسيا، وأنها تبذل كل الوسائل وكل صنوف الإغراء لاجتذاب الأنصار، وأنها لا تحجم عن ارتكاب صنوف الإفساد والوعيد والعنف لتحقيق غايتها؛ وأنها تستظل في دعايتها ببعض نصوص الإنجيل والتوراة، وتعمد إلى خصي الأطفال وبذل العطايا للفقراء الذين يرتضون التشويه، واستخدام اليتامى ثم تشويههم بعد ذلك. وتجري عملية التشويه دون رسوم معينة بل تجري حيثما أمكن؛ ويأخذ الداعي على الضحية دائماً عهداً وثيقاً بالكتمان. وظهر أيضاً أن الدعاة يجتمعون تحت جنح الظلام في مصلى خفي يقام فيه حاجز بين الرجال والنساء، ويرتدي (المؤمنون) ثياباً بيضاء ويحملون الشموع المنيرة، ويتلون صلوات من تأليف رسلهم ودعاتهم، ويتمايلون أثناء الصلاة في حركات عنيفة تبلغ أحياناً درجة الهيام

وهكذا نرى أن هذه الطائفة السرية التي قامت منذ القرن السابع عشر على مبادئ وثنية، وأساطير روحية سخيفة، والتي تتوسل إلى تحقيق مثلها بأشنع الأساليب البربرية، لا تزال تقوم إلى اليوم في قلب أوربا، وفي قلب روسيا السوفيتية التي يغمرها جو من الإلحاد والإنكار لم تعرفه من قبل أمة من الأمم. على إن قيام هذه الطائفة الهمجية في قلب روسيا بالذات أمر يمكن فهمه وتفسيره، ففي قفار روسيا النائية توجد مجتمعات من الفلاحين يسحقها الجهل والفقر، وتنحدر في سذاجتها إلى مستوى يدنو من الهمجية، وفي هذه المجتمعات الساذجة المتأخرة تفشو الخرافات والأساطير الدينية بصور مروعة تذكرنا

ص: 12

بأساطير الوثنية الأولى؛ وفيها بالذات استطاع الدعاة أن يحشدوا ضحاياهم. بيد أننا قد رأينا أن دعوة المجبوبين قد وصلت في العصر الأخير إلى طبقة المثقفين والنبلاء. وأعجب من ذلك أن تقوم مثل هذه الطائفة إلى اليوم تبشر بمبادئها ورسومها الهمجية. ولكن روسيا بلد العجائب؛ ومن الصعب أن نتصورها قطعة من أوربا المتمدنة، وقد كانت وما تزال اليوم مسرحاً لأغرب الدعوات والمذاهب والأساطير

(فينا في أوائل أكتوبر)

محمد عبد الله عنان

ص: 13

‌التشريع والقضاء في العهد الفرعوني

للأستاذ عطية مصطفى مشرفة

- 1 -

قبل أن نتكلم عن تاريخ القضاء في مصر، ينبغي أن نمهد بكلمة عامة تتناول حالة المصريين في عصورهم الأولى قبل أن تنشأ فكرة القانون بينهم وقبل أن يخضع نظامهم لقواعد معينة مرتكزة على قوة الدولة تحدد سلوكهم وتنظم ما بينهم وبين غيرهم من علاقات

تدل الآثار المصرية على أن النوع الإنساني قطن مصر منذ أزمان عهيدة، وأثبت أكثر الباحثين في تاريخ الأجناس البشرية أن هذا النوع الإنساني عندما استوطن وادي النيل أخذ في استثمار أرضه، فظهرت الأسرة تبعاً لثبات المعيشة واستقرارها وأصبحت النواة الاجتماعية الأولى للمجتمع المصري. وكانت الأم في الزمن الغابر هي قطب دائرة الأسرة إذ لم يعرف الطفل إلا والدته؛ ثم ظهر الأب وأصبح له السلطة العليا عليها فخضع له جميع أفراد أسرته من زوج وولد ونزيل ورقيق

قامت إذن الحياة الاجتماعية الأولى عند قدماء المصريين كما قامت عند غيرهم من الأمم القديمة على جماعة الأسرة؛ ذلك بأن الإنسان مدني بطبعه ليس في قدرته أن يظل منعزلاً عمن حوله، فهو محتاج دائماً إلى مساعدة غيره له في كل أطوار حياته

فالأسرة إذن هي أول خلية اجتماعية وجدت في الجنس البشري؛ وهذه الوحدة الاجتماعية الأولى اشتملت على جمع من الأفراد ربطتهم عاطفة القرابة وجمعتهم صلة الدم، وكانوا يخضعون خضوعاً تاماً في أموالهم وأرواحهم لرجل فيهم هو أب الأسرة أو جدها؛ فكان هذا الرئيس هو الذي يوفي بعهودها ويطالب بحقوقها ويقضي بين أفرادها، وكانت كلمته فيهم بمثابة فرض يطيعه أفراد أسرته ولو كان ظالماً؛ وكان أفراد الأسرة متضامنين يحافظون على أموال أسرتهم وحقوقها ويحمون أفرادها ويتحملون أعمال كل فرد فيها، فعلى كل منهم تقع مسؤولية أخيه ونتيجة جرمه، لأنهم متضامنون في الشر والخير معاً، فلكل منهم أن يطالب بحق أخيه، وعلى كل منهم أن يأخذ بثأر أخيه

ثم اتسعت دائرة الأسرة على مر الأيام تبعاً لازدياد النسل حتى أصبحت عشيرة تتكون من

ص: 14

عدة أسر ترجع إلى أصل واحد وتدين بعقيدة دينية واحدة؛ ثم اتسعت دائرة العشيرة فتحولت إلى قبيلة تتكون من مجموعة من العشائر تضم جمعاً من الأفراد تربطهم رابطة القرابة أو المصاهرة أو المصادقة أو الضرورة للتعاون على اتقاء الأخطار؛ ثم توطنت القبيلة في الإقليم، وكانت مصر مكونة من عدة أقاليم كثيراً ما كانت تتحارب، فيتغلب إقليم على آخر ويضمه إليه. وقد أدت هذه الحروب إلى تكوين مملكتين عظيمتين إحداهما في الشمال والأخرى في الجنوب، إلى أن وحدهما (مينا) أو (ميناوس) أو (مصرايم) أول ملوك مصر بجعلهما مملكة واحدة تخضع لسلطانه سنة 3400 ق. م فكان بذلك أول مؤسس لأسر الفراعنة. لذا قال (أرسطو) في الكتاب الأول من السياسة: إن الأسرة هي مصدر الدولة وأساسها الذي تقوم عليه

وإذ اتضح لنا أن الأسرة هي أول جماعة فطرية وجب علينا أن نبين كيف كانت تلك الخلية الأولى من الوجهة القانونية وعلى أي قاعدة حددت صلاتها وعلاقاتها بين أفرادها من جهة، وبين الجماعات الأخرى من جهة ثانية

كانت سلطة رب الأسرة أو رئيس العشيرة أو شيخ القبيلة مطلقة، يقضي بين أفرادها بما يشاء لا ينازعه في قضائه منازع؛ وتمتد سلطته إلى أموالهم امتدادها إلى أرواحهم. وكان يدير شؤونها الداخلية ويتولى أمورها الخارجية أمام الجماعات الأخرى وفقاً للتقاليد والعادات، فكانت كلمته قانون الأسرة بين أفرادها كما كانت القوة هي القانون الذي يحكم صلاتها مع الجماعات الأخرى؛ فهي التي كانت تفض كل نزاع مهما كان نوعه، سواء أكان هذا النزاع مدنياً أم جنائياً، فمن كتب له النصر وتمت له الغلبة كان الحق والعدل في جانبه. فكانت القوة تحمي الحق بل كانت تخلقه وتوجده؛ فمن كان قوياً استطاع أن يحصل على كل حقه، ومن كان ضعيفاً فات عليه من حقه على نسبة ضعفه؛ وكان الانتقام الفردي هو طريق عقاب الجاني أو الجناة، وكان للمجني عليه أو لأي فرد في أسرته أن يقضي رغبة الانتقام التي تجول في صدره فيختار من طريق العقاب ما يزيل به حقده على كل مرتكب للجريمة. وقد يقوم أفراد أسرة المجني عليه بمهاجمة أفراد أسرة الجاني لتضامنهم في الأخذ بالثأر، ولاعتقادهم بأن جرم الدم لا يمحوه إلا الدم إذ لم يكن هناك من قوانين وقواعد تنظم استعمال ذلك الحق كما لم يكن هناك من سلطات عليا تحدد العقوبة وتشرف

ص: 15

على تنفيذها

كان الأخذ بالثأر إذاً حقاً وواجباً معاً؛ وكثيراً ما كان عبئاً ثقيلاً يقع على أفراد أسرة الجاني فتختار أهون الشرين وذلك بتسليم الجاني إلى أصحاب الدم، وبذلك تتخلى عن المعتدي إما خوفاً من الهزيمة وإما اجتناباً للحرب ورغبة في حقن الدماء. وقد تكتفي أسرة المجني عليه إذا وجدت نفسها أمام خصم قوي بالصلح تلقاء تعويض أو فدية تؤخذ من الجاني حتى تغض النظر عن طلب الثأر، وبذلك نشأت فكرة شراء الجريمة بالمال، وسمي ذلك بالدية أو بدل الصلح على الجريمة؛ فكان القاتل ينجو من العقاب إذا أفلح في الصلح مع أهل القتيل. ولم يكن المال الواجب دفعه ثمناً للصلح متساوياً في جميع الجرائم المتعددة من حيث الجسامة، بل اختلف كثرة وقلة بحسب مركز الجاني والمجني عليه معاً رفعة وضعة وبحسب مركز أسرتيهما وبحسب الإهانة التي لحقت الأسرة المعتدى عليها. بسبب الجريمة قامت العدالة إذن وتأسست على المصلحة المادية المؤيدة بالقوة والمعززة بها؛ وشاع نظام المبارزة الذي هو التجاء صريح إلى حكم القوة لفض نزاع مدني أو جنائي، فكان المنتصر هو صاحب الحق؛ وأصبحت المبارزة وسيلة قضائية أخرى لفض النزاع بين المتخاصمين

ثم خطا المجتمع المصري القديم خطوة أخرى إلى الأمام تبعد بعض الشيء عن حالة الوحشية السابقة، فركن إلى مهارة الخصمين لفض النزاع، فشرع مثلاً مساجلات غنائية بين الخصمين يكون المنتصر فيها صاحب الحق، أو ترك ذلك إلى المصادفة كإلقاء الخصمين مكتوفي اليدين أو الرجلين أو هما معاً في الماء، ومن أشرف منهما على الغرق كان هو مقترف الذنب؛ أو يكوى به اللسان أو أي عضو آخر في الجسم بحديد محمى، ومن يمتنع منهما كان امتناعه دليلاً على أنه المذنب، إلى غير ذلك. وكانوا يلجئون إلى هذه الوسائل وأشباهها في تعرف الحق لاعتقادهم أن الله لا يخذل صاحب الحق أبداً

ثم تدرجوا في الرقي فاختاروا (وسيطاً) يفصل في النزاع بحكمته بينهم، وانتهى التدرج إلى قبولهم (حكماً) يفصل في منازعاتهم، فحل (الحكم) محل (الوسيط) وبذلك أقبل الناس إلى شيوخ العشائر وإلى رؤسائها وإلى رئيس القبيلة وإلى كل شخص عرف بأصالة الرأي وصحة الحكم ليفصلوا فيما شجر بينهم من نزاع، فكان قضاء مضطرباً غير ثابت لأنه لم يصدر عن قانون مسنون يمده بقواعده، ولا يستند إلى سلطة عليا تتولاه وتؤيد أحكامه ولو

ص: 16

بالقوة عند الاقتضاء، لأنهم كانوا غير ملزمين بالالتجاء إلى هذا (الحكم) ولا مجبرين على اتباع قراراته، بل لم يكن هو نفسه مجبراً على الفصل بين من يحتكمون إليه؛ وكانت القوة هي الملاذ الأخير يلجأ إليه من لم يرض بنتيجة التحكيم لفض النزاع. ثم خطت الأمة المصرية بعد ذلك خطوات سريعة إلى الرقي إذ أحلت النظام القضائي محل الطرق السابقة وحتمت الالتجاء إلى المحاكم لتفصل في النزاع وفق قانون معين مسنون

نشوء فكرة القانون عند قدماء المصريين

لما كان الإنسان محتاجاً إلى زاجر يزجره أو رادع يردعه فقد أحس منذ القدم وجوب وضع القواعد والقوانين التي تحدد له مدى سلوكه ونشاطه وتحفظ له حقوقه وتقي الناس اعتداءه؛ لهذا وجب أن نتكلم عن المظاهر الأولى التي برزت فيها فكرة القانون في المجتمع المصري القديم وكيف استقل وتباعد عن المصلحة المادية المعززة بالقوة

لما نشأت المدينة كوحدة سياسية وتكونت من جماعات هذبتها العقائد الدينية وثنية كانت أم سماوية، وخضعت تلك الجماعات لسلطة رئيس الإقليم أميراً كان أو ملكاً، نشأت عندئذ فكرة القانون مستقلة عن القوة

كان قدماء المصريين يعتقدون أن المعبودة (ما) أو (معت) هي إله العدل والحق؛ لذا وضعوا على تاجها ريشة نعامة، وكانت تدل عندهم على العدل. وكانوا يقولون إن (توت) أو (طهت) أو (تحوت) المعروف عند اليونان باسم (هرمس) نزل إلى الأرض ووضع لسكان وادي النيل القدماء القواعد الأساسية للقوانين المدنية والجنائية فاعتبروه رب القوانين وإله كل المعارف؛ وكانوا يقولون عنه إنه أول مشروع مصري يحتذي وينسج على منواله. ويزعمون أنه ترك كتباً قيمة في التشريع وفي نظم القضاء، ولكنا لم نهتد إلى شيء من تلك الكتب. وكانوا يعتقدون أن للعدالة إلهاً يوحي بالحكم لمن يرفع إليه النزاع من الكهنة أو السحرة. وكان من نتيجة اعتقادهم أن قوانينهم منزلة عليهم من السماء وأنها صادرة بوحي الآلهة ومشورتهم أن صبغ القضاء عندهم بالصبغة الدينية التي أكسبته الإجلال والوقار. ثم تكونت بمضي الزمن وتكرر الحوادث والمنازعات المتماثلة أو المتشابهة وصدور أحكام مصدرها الإلهام - عادات مرجعها الإلهام ليس لها صفة إلزامية، وإنما تستمد قوتها من صفتها الدينية ومصدرها الإلهي المنسوبة إليه؛ ثم تولى القضاء حفظ

ص: 17

هذه العادات والتقاليد القانونية ومفسريها من زعماء الكهنة أو الأشراف (إما لضعف السلطة الملكية وإما لاتساع المملكة وعجز الملك عن القيام بالقضاء بين أفرادها) واحتكروا معرفتها وساعدهم على الاستئثار بمعرفة هذه القوانين جهل العامية من المصريين، فأصبحوا يفسرونها بحسب ما تمليه عليهم شهواتهم ويطبقونها بحسب ما يكون فيه منافعهم ويؤولونها بما يؤيد استمرار سلطتهم واتساع نفوذهم؛ ويسمى هذا العصر بعصر التقاليد غير المدونة. ولما كثر ظلمهم لعامة الشعب المصري وظهر للشعب سوء نيتهم قلبوا لهم ظهر المجن وطالبوا بتدوين هذه العادات وتلك التقاليد في نصوص تنشر على الناس جميعاً حتى يعرف كل شخص في الأمة حقوقه وواجباته؛ وبذلك بدأت مرحلة تدوين القانون. وقد جمعت تلك القواعد العرفية في نصوص كتبت في ألواح من الفخار أو الخشب أو البرنز وباشرت الحكومة إصدارها ونشرها في الناس

ولقد كانت القوانين المصرية في دورها الأول ذات صبغة دينية، وكانت تميل إلى الإنصاف والعدل كما كانت مشربة بمكارم الأخلاق فأصبحت بذلك قريبة إلى المثل الأعلى للحق؛ ثم تشبعت بعد ذلك بالمسحة المدنية وبخاصة عندما ضعف نفوذ الكهنة بمصر

ويرجع ظهور التشريع بمصر إلى القرن الخمسين ق. م إذ في هذا القرن تعلم المصريون الكتابة عندما وضع لهم (تحوت) إله القانون ما وضع من قوانين ثم جمعها لهم سنة 4241 ق. م وعلى مر السنين بعثرت تلك القوانين فجاء الملك (بوخوريس) مؤسس الأسرة الرابعة والعشرين (718 - 712 ق. م) وجمعها ثم عدلها ووضعها في مجموعة واحدة نظم بها المعاملات المدنية والأحوال الشخصية وبذلك سميت بمجموعة بوخوريس عند المصريين وبقانون العقود عند الإغريق فيما بعد ذلك

وقد عمل في مصر في مجموعة قوانين بوخوريس هذه بعد أن امتدت إليها يد التنقيح أكثر من مرة في العهد الفرعوني وطبقت على المصريين أيام حكم الإغريق والرومان لمصر حتى سنة 212م حيث أصدر الإمبراطور الروماني كراكلا (211 - 217م) قانوناً منح به الرعوية الرومانية لسكان الإمبراطورية الرومانية وكانت مصر جزءاً منها، وبذلك طبقت في مصر القوانين الرومانية

(يتبع)

ص: 18

عطية مصطفى

مشرفة بكالوريوس في الآداب في التاريخ ودرجة ليسانس في

الحقوق

ص: 19

‌الاجتهاد لا يزكو مع الفوضى

للأستاذ علي الزين

- 1 -

لقد اتفق لي منذ سنين خلت أن ضمني مجلس في إحدى القرى مع بعض العلماء المجتهدين - بعرف أنفسهم - وكان فيمن حضر هذا المجلس ضابط فلسطيني من إخواننا أهل السنة. وما أن استقر المقام بالجميع حتى تنحنح فضيلة العالم وانطلق يتحدى في كلامه مواضع الخلاف بين أهل السنة والشيعة بكل ما في نبراته من اعتداد بأحقية الشيعة، وبكل ما في قلبه من حرص على توجيه الأنظار نحوه، وبكل ما في لهجته من عنجهية ونبو عما تقتضيه اللياقة من الاحتفاء بالضيف الفلسطيني ومراعاة عواطفه كمسلم سني أو كرجل قانون لا رجل دين يحسن الجدل ويستسيغه في مثل هذه الموضوعات: وكان بيت القصيد في حديث مولانا الاجتهاد وخطره - من حيث الإباحة والحظر، وأثر ذلك إيجاباً وسلباً في الدين والعلم والعقل أيضاً، ثم كيف أن الشيعة - دون غيرهم من الفرق الإسلامية - استقلوا بهذا الفضل وفاقاً للأحاديث النبوية، وطبقاً للمأثور من أقوال العلماء والحكماء والمؤرخين، وما إلى ذلك من شواهد على فضل الاجتهاد وفوائده. كل ذلك جرى والضابط الفلسطيني واجم تحاشياً لهذا المجتمع الشيعي وتهيباً من هذا العالم الأرستقراطي الذي لم يترك مجالاً لغيره في الكلام، أو جهلاً بالموضوع، أو استخفافاً بالتحدث عنه لغير مناسبة لا أدري؛ غير أن هذا الحديث أثار حفيظتي من العالم لا لشيء سوى أن يتملق العامة بالانتصار لمذهبهم أمام رجل سني، كما استفز عواطفي هذا الوجوم من رجل غريب بروحه وميوله عن المجلس قد فوجئ بما لم يكن يترقبه ويألفه من حديث، فاندفعت للاعتراض بما أوحته إليّ هذه الحال من خواطر وأفكار يمكن أن يفترضها ويقدرها الشيعي وغير الشيعي من المسلمين إذا اضطره الأمر إلى أن يتجرد من عصبيته، وأهاب به المقام للتمسك بكل ما يمكن أن يقال في تحرير موضع النزاع. ولكن مكان مثل هذا العالم في مثل هذا المجلس من العامة لم يدع سبيلاً إلى إتمام كلامي وتوضيح مرادي، بل اضطرني كما اضطر غيري إلى السكوت والإصغاء لو كان في الإمكان أن يسكت الفكر العنيد، أو يرتاح الضمير الحر بدون أن يفضي بمكنونه ويفرغ سورته في قالب من اللفظ وسمط من البيان،

ص: 20

فرحت أرفه عن النفس بعد الانصراف عن هذا المجلس بتسجيل تلك الخواطر وكتابة هذا المقال؛ بيد أنه لم يكن لي من الشجاعة الأدبية أو من الاعتداد بما كنت أكتبه آنئذٍ ما يجرئني على النشر، فطويت المقال فيما طويت من الأبحاث وجعلت مع الأيام أترقب المناسبات والفرص التي تهيئ لي نشره إلى أن أقامت الرسالة الغراء تعالج هذا الموضوع - موضوع الاجتهاد - وتشجيع الأقلام على تمحيصه بحثاً وتفكيراً، فحولت وجهي نحوها معتداً بإنصاف الأستاذ الكبير - صاحب الرسالة - وعطفه على مثل هذه الموضوعات التي تتوالى على صفحات مجلته، وإن كنت قد خالفت أولئك الباحثين في لهجتي ومنحاي، اعتقاداً مني بأن المجاملة والمداورة والتملق في مثل هذا المقام لا تسمن ولا تغني، بل هي إلا إغراء المتعنتين بتعنتهم وجمودهم أقرب منها إلى تأييد المخلصين والأخذ بيدهم إلى مكامن الداء ومواضع العلة، وهي كذلك إلى التلبيس والإبهام أقرب منها إلى الصراحة والجهر بالحق الذي يجب أن يقال في محاربة العرف الزائف ومعالجة الأهواء المريضة، وتقويم الأفكار المستعبدة، من حيث لا يغني التردد والخوف عن الثقة بالنفس والإقدام بالقول والعمل شيئاً

- 2 -

لا جرم أنه كان في إقفال باب الاجتهاد بعض التقييد للحرية والاستقلال في الرأي، وبعض الحجر على العقل والفكر والمنطق أن تجري مجراها الطبيعي الذي أعدته الشريعة السمحاء وهيأته طبيعة الحياة الحرة: ولا جرم أنه كان في فتحه على مصراعيه تعزيز للعلم وتحرير للفكر والمنطق، وتنزيه للإسلام - دين الفطرة - عن الجمود والضيق لو قد انتهى بنا الأمر إلى ما كان يجب من الانطلاق مع نتائج التحرير العلمي والفكري، وجعل الدين - بذلك - مآلاً للمحبة وغاية للاتحاد وتفسيراً للحياة من سائر الوجوه والنواحي تفسيراً يقره منطق الحياة الحكيم، وتكبره الفطرة الإنسانية الحرة

أما والنتيجة ليست - بجميع ذيولها - كما يظن ويفترض لا أحسب أنه كان في فتح باب الاجتهاد على هذا النحو من الاضطراب والفوضى التي نجدها عند علمائنا اليوم - خدمة للعقل والدين أكثر مما كان في سده وإقفاله عند غيرهم

. . . فها نحن أولاء معشر الشيعة الإمامية ممن استمروا على القول بالاجتهاد وخطوا على

ص: 21

ضوئه خطوات واسعة في العلوم الدينية والإسلامية وتأنقوا ما شاء لهم التأنق في علوم الكلام، والحديث، والتفسير، والفقه، والأصول، وإنهم لتأنقهم وتوسعهم في هذا الأخير قد أحالوه إلى مزيج من الفلسفة والنظريات الغريبة وأوشكوا أن يخرجوا ببعض مباحثه عن حدود المعتقدات الشيعية كما هو الشأن في بحث (اتحاد الطلب والإرادة) على ما قرره صاحب الكفاية - ها نحن أولاء قد استحال عندنا الاجتهاد أو كاد أن يستحيل - بتشعب أفكار الباحثين وتعسفهم في التفكير والتخييل وتسامحهم في النتائج إلى نوع من الافتراضات والوساوس والشكوك، يستطيع معها ضعاف الوجدان والعقيدة من ذوي الأهواء والمآرب الشخصية أن يستنبطوا لكل مأرب حكما، وأن يخلقوا لكل عسف عذراً، وأن يمهدوا لكل شذوذ في القول والفعل قياساً وشكلا، يدرأ عنهم التهم، ويحتفظ لهم بثقة الجمهور، ويشحذ لهم من منطق الدين شركاً للصيد وسلاحاً للنقمة، من حيث لا يستطيع - مع هذه الوساوس والشكوك - من يحتاط لدينه ووجدانه أن يجزم بحكم من الأحكام الفرعية إلا فيما شذ وندر من الأحكام التي لا تتسع للتأويل والافتراض والجدل

ذلك إذا كان الذين يتخصصون بتلكم العلوم الدينية من ذوي الكفايات والمواهب السامية، فكيف بنا إذا كانوا من البله والحمقى الذين من شأنهم أن يكونوا عرضة للتلبيس ومظنة للأوهام وأرجوحة للأهواء السياسية والمنبهات العصبية، أو الذين لا يتعلمون هذه العلوم في الغالب إلا احتفاظاً بتقاليد آبائهم وإلا ذريعة للرزق والاكتساب؟

أفترى أن الأمة أو أن الدين - بمثل ذلك - يمكن أن ينتهي إلى غاية أو يستقر على رأي؟ أم هل يمكن مع هذه الحال أن تكون النتيجة إلى غير ما نحن عليه اليوم من فوضى الاجتهاد وإطلاق العنان لكل طامح ولكل معتوه يسول له غروره وجشعه أن يستغل هذا الاسم ويدنس روحانيته بما يوسوسه له الهوى وحب الذات من فتاوى وأحكام وبدع يرسلها إرسال المسلّمات، ويصرفها تصريف المطمئن إلى صوابه، وكفايته، وإخلاصه؟ أم هل يمكن أن تؤول بنا الحال إلى غير ما منينا به في جبل عامل من تنابذ العلماء وتجريح بعضهم بعضاً ومحاولة كل منهم أن يذهب إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر في تحريمه وتحليله وتقريبه وتبعيده؟

أم هل لنا مع كل هذا - ومع تيقننا من أن الدين الإسلامي إنما وجد لخير الإنسان وصالحه

ص: 22

وتوجيهه نحو المثل العليا التي توحد بين أفراده وشعوبه وتجعلهم إخواناً في السراء والضراء - أن نقول إن فتح باب الاجتهاد عندنا كان أجدى على الدين من سده وإقفاله عند إخواننا السنية؟ هيهات هيهات! ولو أن الذين أوصدوا باب الاجتهاد لم يتأثروا بعوامل زمنية واعتبارات سياسية بأن انقطعوا فيما وقفوا عنده واختاروه من المذاهب، لما كان أكثر انطباقاً على جوهر الكتاب والسنة وأقرب ملائمة لمنطق الحياة الاجتماعية والعقلية، وأشد اتساقاً مع دواعي الاحتياط والحزم واختلاف الأيام والظروف، وتطور الحاجات. . . لكان إقفاله على ذلك النحو من الإحكام والاعتدال - في تلك الأيام العصيبة والظروف الحرجة - أجدى على الإسلام من فتحه على هذا الشكل من الفوضى والتسامح والاسترسال مع كل شذوذ وتعسف وادعاء شخصي، وأضمن لمنعته واتحاد كلمته، واتساق سلطانه

هذا وإن الأمر الذي ما انفك يقلق بال كل أريب ويريب خاطر كل مفكر - وللاجتهاد حكمته البالغة ومزيته العظمى في ترويض الأصول العلمية وتصريف الأحكام على ما توجبه ضرورات الحياة ويقتضيه تطور أحوالها واختلاف دواعيها وجعل الدين (بذلك) يتسع لأبعد مدى في تطورها وتقدمها - خمولنا نحن الشيعة حملة لواء الاجتهاد وتخلفنا في ميادين الحياة على اختلاف أنواعها وفروعها، دون بقية الفرق الإسلامية التي حُلئت عن نعمة الاجتهاد ولم ترزق مرونة منطقه ورحابة صدره تخلفاً لم ينفع معه استقلال إيران الشيعية في السلطان ونزولها على آراء المجتهدين وامتثالها لإرادتهم في كل شأن من شؤونها وفي كل طور من أطوارها، طول هذه الحقبة الغابرة من الدهر

ثم جمود أكثر أولئك المجتهدين منا وتحرجهم تحرجاً يغري الناس بالجمود والتقليد، ويميت فيهم حياة العزة والطموح، كأنما أوتوا منطق الاجتهاد ليحاربوا كل جديد في الحياة، ويطاردوا كل مصلح، ويفرضوا على الناس حياة الاتكال الراتبة، وعيش الاعتزال المبتور، أو ليختصروا هذه الشريعة الكونية ويضيقوا هذه السهلة السمحاء، ولا يوجهوا كبير عنايتهم وجهودهم لغير هذه الفوارق والتقاليد المذهبية التي أوشكت أن تكون - بحكم ذلك الخلاف والتعصب الإسلامي العام - بمنزلة الأصل للكتاب والسنة، يؤول ما التبس منهما واختلف على حسب المألوف والمعتبر من ذلك لدى كل فرقة من فرق الإسلام

- 3 -

ص: 23

ثم ما الاجتهاد إن لم يكن في جملته ومآله عبارة عن استقلال الفقيه في تفسير الكتاب والسنة، واستنباط الأحكام الشرعية من ذلك لكل واقعة من وقائع الحياة قديمها وحديثها على حسب المنطوق والمفهوم، وعلى مقتضى العموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، وما إلى ذلك مما توضحه القرائن ويقره الذوق والمنطق؟

وهو بهذا المعنى محدود النطاق ليس لعقل المجتهد باصطلاحنا ولا لخياله أن يتجاوز به ما وراء الجمل والألفاظ في الكتاب والسنة، فإنه على فرض أن تنص القرائن الحالية والمقالية - وفرض المحال - ليس بمحال - على معنى من معاني الكتاب والسنة لا يساعد على استخراج الحكم الذي يقتنع به العقل ويستسيغه الذوق ويتفق مع ماجريات الحياة، لا يستطيع المجتهد أن يتجاوز النص في حكمه ويراعي مقتضى العقل المجرد، والذوق السليم، لنتحلل من إطلاق القول:(أنه كان في سد باب الاجتهاد حجراً عاماً على العقل)

ثم ما يدرينا من أن يكون هم من أوصدوا هذا الباب آن ذلك بعد أن اتضحت عندهم أكثر أحكام الفقه وقضاياه واطمئنوا إلى تحرير نصوصه وأدلته:

أولاً - الاحتياط من أن تتعدد المذاهب الإسلامية إلى غير نهاية وأن يكثر الخلاف ويستحكم حتى تتفرق الكلمة ويتمكن الدخلاء والدساسون من الكيد للإسلام، فتنحل قواه، وتلتبس حكمته، ويضطرب قصده، وتنعكس الآية (إنما المؤمنون إخوة)

ثانيا ً - تحرير الفكر وتوجيهه إلى باقي النواحي العلمية والفكرية التي استقبلها الإسلام في أوج نهضته وازدهار مدنيته وحضارته - باعتقاد أن مجاهل الحياة المتشعبة وحاجات الإنسان المتعددة المتنوعة أبعد مدىً وأوسع نطاقاً من أن تنحصر أو تتضح أو تحد بما ينطوي عليه الفقه والأصول من أحكام وقواعد ليقتصر البحث عليها كما كانت الحال إذ ذاك

هذا وإذا كان الاجتهاد في الفقه لا يعدو في جملته ومآله أن يكون من قبيل الاجتهاد في تفسير الجمل والمفردات اللغوية والتمييز بين الحقيقي وبين المجاز، والمنقول، والمشترك منها، بعد البحث عن تاريخ نشأتها، وعما كان يلابسها آن ذلك من قرائن حالية ومقالية وما كان يتصل بها ويكتنفها من عوامل الاجتماع والسياسة ومن خصائص الزمان والمكان، ثم عما رافق تطورها وتنقلها في الأيام، والجماعات، والأشخاص، من تحوير وتغيير. وكما

ص: 24

أنهم هنا قد اختلفوا بين القول بإباحة التفسير بالرأي وبين القول بعدمه، وترددوا بين القول بجواز الاشتقاق والتصريف، والوضع للمستحدثات من المعاني وبين القول بعدمه. ثم انتهى بهم الخلاف والتردد إلى عدم الاطمئنان للفرد مهما كان شأنه، وإلى الاتفاق على تأليف مجمع من العلماء الاختصاصيين يوكل إلى مجموعه التصرف فيما يتفقون عليه من رأي

فلماذا لا يكون واقع الأمر هناك - في الفقه - كذلك؟ ولماذا لا ننتهي بعد هذا النزاع الطويل العريض الذي أحكمه ووسعه استئثار الفرد وتمادي الفوضى إلى ما قد انتهى إليه علماء اللغة من تأليف مجمع من علماء الدين على اختلاف مذاهبهم ونحلهم ثم إنشاء (مجلة) لتحرير البحث في مواضع النزاع بينهم وتعميم ما يقرره منطق العلم والدين، والحياة الحرة، ويفرضه التجرد لمحض الحق والخير؟

وعلى فرض أن تصطدم هذه الوسائل - في أول الأمر - بما قد فطر عليه الجمهور من جمود في الطبع، واحترام للشائع من أوضاع وتقاليد، والتمسك بالمألوف من عرف ورواية، أو أن تحدث هذه الأبحاث رد فعلٍ في الأوساط الإسلامية كما هو الشأن في كل فكرة جديدة - علميةً كانت أو دينية - لا تنسجم مع الشائع والمألوف من عادة وقول - إنه على فرض أن يكون ذلك كله في أول الأمر، فلابد لهذه الوسائل في النهاية من أن تقوى وتسلس لنتائجها الأفكار والعقول وتراض على مقرراتها الأذواق والنفوس من عامة المسلمين وخاصتهم ولاسيما إذا استمرت معها عواطف المصلحين وحججهم الدامغة وتضافرت على تأييدها وتقريرها في المجتمع الإسلامي الحياة في تطورها والثقافة في تقدمها، وإلا فالاتكال على المصادفات أو ما يشبه الاتكال عليها - في الإصلاح والتأليف - عجز وقنوط لا يقتنع به المصلح المعتد بصواب مبادئه، وسداد خططه، وسمو غايته، ولا يليق بالأمم المتفائلة الطامحة

أجل! ماذا يمنع حماة الدين وقادة الفكر في العالم الإسلامي أن يؤلفوا لجنة دائمة أو لجاناً من العلماء الاختصاصيين الذين عرفوا بمرونة الرأي وسمو الفطرة وسلامة الذوق، وهيأت لهم الظروف أن يضيفوا إلى ثقافتهم الدينية ثقافة اجتماعية عالية تشعرهم بواجبات الحياة وواجبات الدين، وتمكنهم من التوفيق بين ما التبس أو تفاوت من نواميسهما - يوكل إلى هذه اللجنة تسوية الخلاف القائم بين المذاهب الإسلامية وتحرير النصوص والأدلة على

ص: 25

ضوء العلم وسداد المنطق النزيه، وتعديل الأحكام والنواميس وتقريرها على وجه تذوب فيه النعرات والفوارق، ويستقيم القصد والغاية، ويستمر العمل والسير على المنهج القويم اللاحب

وهل ذلك بعزيز على همم المخلصين من القادة إذ هم احترسوا في أخذ النصوص والأدلة والأحكام، مما جره عليها عادي الزمن وتصادم العصبيات وتزاحم المذاهب السياسية والدينية وتنازع الأهواء الشخصية والحزبية، من تلبيس، واختلاق، وتصحيف وإدغام

ثم راعوا في تفسيرها وتوجيهها، تجدد الحياة واتساع أفقها وتطور مقتضياتها، وتشعب ضرورياتها وكمالياتها عما كانت عليه في صدر الإسلام وعهد أئمته الأول

فإنه لم يبق في إمكان الفرد أن يقوم بمثل هذه المهام - مهام الاجتهاد - كما ينبغي ويجب حتى في الطائفة الواحدة من طوائف المسلمين، لأن الدين بالنظر لتوسع أبحاثه وتشعب فروعه، ولأن الحياة بالنظر لتعقدها وتطورها المستمر، قد أصبحا أكبر من أن يستقصي حقائقهما ويستكنه أسرارهما ويطابق بين داعيهما فرد مهما كان، ليوكل إليه بمثل هذه المهام الشاقة ولأن الفرد مهما كانت عبقريته ومهما كانت جهوده لا يمكنه أن يكون منزهاً عن الخطأ معصوماً من الزيغ حرياً بأن يستقل بجهود أمة وتراث أجيال، ويتصرف بمقدرات الأفكار والعواطف الدينية

- 4 -

ولكن مثل هذا العمل الإنساني الخطير لا أحسبه يتم على وجهه الأكمل ويكون له أثره الفعال في جميع الأوساط الإسلامية إذا لم تتحفز (النجف) ويهيب بها داعي النهضة إلى أن تجاري (الأزهر) وتتلافى هذه الفوضى السائدة في مدارسها وفي كتبها الدراسية وفي أساتذتها وتلامذتها، ثم في الاجتهاد والتقليد أيضاً بالعمل على تنظيم تلك المدارس ومراقبة الأساتذة والتلامذة والكتب الدراسية فيها، وإعداد اللجان الاختصاصية لتعديل برامج التعليم وتوسيع هذه البرامج، ثم تحوير الكتب الدراسية أو تغييرها وترتيبها على حسب عقلية التلامذة وعلى حسب مراتبهم العلمية، لتتضح بذلك السبل أمام الطالب وتقرب النتائج ويتوفر عليه من الوقت والنفقة ما يزيد في نشاطه وطموحه إلى أن يتثقف ثقافة عالية تيسر له بعد الاختصاص بما يختص به من علوم الدين أن يتذوق الدين وأن يتذوق الحياة بدون

ص: 26

مشقة، وأن يتفهمهما ويؤدي فرائضهما على الوجه الصحيح الأكمل لكي يتهيأ للنجف نفسها من وراء ذلك كله أن تتفاهم مع الأزهر، وتجعل للاجتهاد - بالتعاون معه - المحل المرموق والأثر البالغ في نفوس المسلمين وعقائدهم وآدابهم

ثم لكي يتسنى للمعهدين الخالدين ويروق لهما على هدى الاجتهاد وبركة الائتلاف أن ينزلا عن بعض التقاليد، وينظرا للدين وللحياة نظراً مجرداً يرتفع بالدين عن كل هذه الحواشي العفنة البالية، ويسمو بالإنسانية عن كل هذه الفصول التي تثير الريب وتشعب الظنون، وتوسع الخرق بين الأخوين، نظراً حكيماً ملؤه الإخلاص والسمو، يخطو بالإسلام والإنسانية خطوة الأبدية الكبرى إلى الأمام، إلى الاتحاد، إلى السعادة الأبدية والحياة الخالدة

وإلا فإذا دامت النجف على ما نعهدها من الأوضاع المدرسية فمسافة الخلف بعيدة بين المعهدين بعد الفوضى عن النظام، والبداوة عن الحضارة، لا يمكن أن تغني فيها الأقوال والمجاملات عن العمل والإخلاص شيئاً

(النبطية - جبل عامل)

علي الزين

ص: 27

‌مصطفى صادق الرافعي

1880 -

1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 10 -

الرافعي شاعر الأناشيد

ولع الرافعي منذ نشأته في الشعر بالأناشيد الوطنية والأغاني الشعبية، يفتنّ في نظمها، ويبدع في أوزانها وأساليبها؛ ففي سنة 1903 أخرج في الجزء الأول من ديوانه بضع قصائد وطنية، تفيض عاطفة وتشتعل حماسة؛ واشتهر من بينها قطعته (الوطن) التي يقول في مطلعها:

بلادي هواها في لساني وفي دمي

يمجِّدها قلبي ويدعو لها فمي

وذاعت على ألسنة تلاميذ المدارس، يحملهم المعلمون على استظهارها في دروس المحفوظات إلى يومنا هذا، كما اشتهر كثير من قصائده الوطنية وأغانيه الشعبية. وجاء في هامش ديوانه بعد تمام هذه المقطوعات:(قد تمت القطع التي نظمت للنشء من تلامذة المدارس، وقال ناظمها: إنه إذا وجد الناس أقبلوا عليها أقبل هو على نظم غيرها مما هو أرقى، غير مبال بوعورة هذا المسلك الذي لم يسلكه قبله أحد. فها نحن أولاء ننتظر من الصحفيين وشبان العصر أن يأخذوا بيده في هذا المشروع، حتى لا يغيض ما بقي في ذلك الينبوع. . .)

ثم دأب على نظم أمثال هذه الأغاني، ينشر منها طرفة رائعة في كل جزء من ديوانه، فنشر نشيد الفلاحة المصرية، وأرجوحة سامي، وغيرهما، وأذاع في الصحف كثيراً مما نظم من (أغاني الشعب)

وإنك لترى الرافعي في هذه الأغاني والأناشيد، له طابع وروح غير ما تعرف له في سائر شعره، فتؤمن غير مضلل أن الرافعي هبة الزمان للعربية ليزيد فيها هذا الفن الشعري البديع الذي تقطعت أنفاس شعراء العربية دونه منذ أن أنشد شاعرهم في الزمان البعيد:(نحن بنو الموت إذا الموت نزلْ. . .) ثم لم يقل أحد من بعده شعراً يترنم به في الحرب،

ص: 28

أو يدعو إلى الجهاد، أو يستنفر إلى المعركة، حتى أنشد الرافعي. . .

ويقيني أن اسم الرافعي إذا كتب له الخلود بين أسماء الشعراء في العربية، فلن يكون خلوده وذكره لأنه ناظم ديوان الرافعي، أو ديوان النظرات، أو المدائح الملكية في المغفور له الملك فؤاد، أو قصائد الحب والغرام بفلانة وفلانة من حبائبه الكثيرات، ولكنه سيخلد ويذكر لأنه شاعر الأناشيد. . .

ونهضت الأمة نهضتها الرائعة في سنة 1919، ودوّي صوت الشعب هاتفاً: إلى المجد إلى المجد، إلى الموت أو الحرية؛ وصاح صائح الجهاد يدعو كل نفس من داخلها، فإذا الأمة صوت واحد؛ على رأي واحد إلى هدف واحد؛ وإذا مظهر رائع من مظاهر الإيمان بحق الموجود في وجوده يتمثل في كل مصري، ويستعلن على كل لسان في مصر

واجتمع رأي طائفة من رجالات مصر على أن يكون لهذه النهضة نشيد يعبر عن أمانيها وغايتها، ويكون أغنية كل مصري، تجتمع عنده خواطر نفسه، وخلجات فكره، وهمسات قلبه؛ فيكون صوتها من صوته، ولحنها من أحلامه، وبيانها من معاني نفسه.

وتلفّت الناس يفتشون عن ذلك الشاعر الموهوب الذي يؤملون أن تتحدث الأمة بلسانه وتهتف بشعره. وأعلنت لجنة النشيد عن جائزة وضربت أجلاً. . .

وتبارى الشعراء في الافتنان والإجادة، وتقدم كل شاعر ببضاعته، وتقدم الرافعي فيمن تقدم؛ ولكن اثنين لهما مكانهما وخطرهما بين شعراء العصر لم يتقدما بشيء إلى لجنة النشيد: هما شوقي أمير الشعراء، وحافظ شاعر النيل. أما حافظ فلأنه من المحكمين في اختيار النشيد، وأما شوقي. . . من يدري؟

وكان على رأس لجنة النشيد الوزير العالم والأديب، الأستاذ جعفر ولي باشا، فكأنما عز عليه أن ينتهي الأجل المضروب فيتقدم الرافعي، ويتقدم الهراوي، ويتقدم عبد الرحمن صدقي، ويتقدم غير هؤلاء ممن يقول الشعر، وممن لا يحسن إلا أن يزن فاعلاتن ومفعولاتن على كلام، ولا يتقدم شوقي وحافظ

ونسأت اللجنة الأجل المضروب، وسعى الساعون إلى الشاعرين الكبيرين ليحملوهما على الاشتراك في المباراة؛ فأما حافظ فأصر وأبى، وأما شوقي. . . يرحمه الله، لقد كان حريصاً على أن يقول الناس في كل مناسبة: لقد قال شوقي. . . ولكن ماذا يقول ذلك اليوم؟

ص: 29

وكان لشوقي نشيد، أنشأه منذ عهد لتفتتح به (فرقة عكاشة) موسمهما التمثيلي؛ فماذا عليه لو تقدم بهذا النشيد القديم إلى لجنة المباراة؟

وتقدم شوقي إلى اللجنة بنشيده المشهور:

بني مصرٍ مكانكمو تهيَّا

فهيا مهِّدوا للمجد هيَّا

وتساءل الأدباء بينهم: لماذا مدّت اللجنة الأجل المضروب؟ فلم يلبثوا أن جاءهم الجواب الصريح؛ فعرفوا أن اللجنة لم تفعلها إلا حرصاً على أن يكون النشيد المختار من نظم شوقي. . .

عندئذ نجمت ثورة أدبية حامية، وتمرد الأدباء على اللجنة وحكم اللجنة، وهل كان لهم أن يطمئنوا إلى عدالتها وقد ذاع الحكم قبل موعد الفصل في القضية؟

وكان الرافعي على رأس الثائرين، فأنشأ بضع مقالات في (الأخبار)، وللأخبار يومئذ مذهبها السياسي وكاتبها الأول هو المرحوم أمين بك الرافعي؛ فسحب الرافعي نشيده من اللجنة قبل أن يسمع الحكم فيه، وراح يعلنها ثورة صاخبة على اللجنة وأعضاء اللجنة، وعلى شوقي وأنصار شوقي، وقال في نشيده ما يقال وما لا يقال، وتابعه جمهرة من الأدباء؛ فكتب المازني والعقاد في (الديوان)، وكتب غير المازني والعقاد؛ وشوقي رحمه الله رجل كان على فضله ومكانته وعلى منزلته في الشعر، ضيق الصدر بالنقد والناقدين؛ فمن هذا كان بينه وبين الرافعي شيء من يومئذ، إن لم يكن من قبل يوم نشر الرافعي مقاله في (الثريا) عن شعراء العصر في سنة 1905؛ فما التقيا من بعد حتى لقيا الله؛ على أن أحداً من أدباء العربية لم ينصف شوقي بعد موته ولم يكتب عنه مثل ما كتب الرافعي عن شوقي في مقتطف ديسمبر سنة 1932، وهو نموذج من الأدب الوصفي أحسبه نادر المثال فيما يكتب الكتاب عن الأدباء المعاصرين

ومضت لجنة المباراة في طريقها غير آبهة لما يقال، ومضى الرافعي في ثورته؛ ثم لم يلبث أن جمع لجنة غير اللجنة، من أصدقائه وصفوته، والآخذين عنه، لتنظر في نشيد الرافعي وحده

وأصدرت اللجنة الأصيلة حكمها، فكان الفائز الأول هو شوقي، وفاز من بعده الهراوي وعبد الرحمن صدقي، وأعلنت اللجنة الأخرى أن نشيد الرافعي هو النشيد القومي

ص: 30

المصري. . . وسبّقت بين المغنين جائزة، ليصنعوا لحناً لنشيد الرافعي

إلى العلا، إلى العلا، بني الوطن

إلى العلا، كلُّ فتاةِ وفتىً

وفاز الموسيقار الكبير الأستاذ منصور عوض بالسبق إلى اللحن والجائزة!

ليس من همي هنا أن أوازن بين نشيدي شوقي والرافعي؛ فقد مات نشيد الرافعي (إلى العلا. . .) بعدما سبقه نشيد شوقي إلى الموت بعشر سنوات، ولم تُجْدِ كل المحاولات في بعثه ونشره. . . وإن كان لي أن أقول شيئاً هنا في الفرق بين النشيدين فهو أن أصف كيف كان استقبال الناس لنشيد الرافعي واحتفائهم به في كل مكان، وكيف كان نشيد شوقي

لقد سمعت نشيد الرافعي أول ما سمعته في حفل رسمي أقيم لإذاعته بطنطا في سنة 1921 أو 1922 بمسرح البلدية؛ فما أحسب أني رأيت نشيداً احتفل له الناس ما احتفلوا لنشيد الرافعي يومئذ؛ فإذا كان قد مات بعد ذلك بسنين وجر عليه النسيان أذياله، فما أظن ذلك كان لضعف فيه أو نقص يعيبه، ولكننا نعيش في شعب أكبر فضائله أن ينسى. . . وعند الله الجزاء. . .!

اسلمي يا مصر

وتطورت الفكرة الوطنية فتمثلت بشراً في سعد زغلول؛ فهو المصري الذي لو أرادوا أن يمثلوا ذلك الشعب العريق إنساناً تراه العين لما وجدوا إلا صورته، ولو سألوا: من الرجل الذي يقول أنا الأمة صادقاً غير محتال لما وجدوا غيره. . .

وتطورت فكرة النشيد القومي عند الرافعي فرأى رؤياه في منامه، فلما أصبح ألف نشيده (اسلمي يا مصر) وما كان هم الرافعي عندما ألفه أن يجعله نشيداً قومياً؛ إنما قصد إلى أن يجعله بياناً رمزياً على لسان سعد، أو كما يقول الرافعي في خطابه إلى سعد في جبل طارق:

(وما أردت بإظهار نشيدك إلا أن تظهر في كل فرد من الأمة على قدر استعداده، ويبقى اسمك الجليل مع كل مصري على الدهر ليكون مصدراً من مصادر إمداده

(ويقولون إنه نشيد يقربك من الأجيال الآتية، وأنا أقول إنهم هم يتقربون به إليك، ويجدون منه الوسيلة لتقبيل اسمك المحبوب إذ لا يستطيعون مثلنا تقبيل يديك، ويعلمون في كل زمن من شرح هذا الاسم الكبير أنه الرجل الذي خط قلم الأزل كتاب نهضته الكريمة، واختاره

ص: 31

الله للأمة كما اختار الأنبياء إلا أنه نبي الفكر والعزيمة. . .)

قلت: إن الرافعي لم يكن يعني بإنشاء نشيده (اسلمي يا مصر) أن يجعله نشيداً قومياً، فإنه لمطمئن إلى أن نشيده (إلى العلا. .) ماض في طريقه إلى هذا الهدف؛ إنما كان يعني أن يضع في هذا النشيد صوت سعد كما تصورت حقيقته في نفسه؛ لكن نشيده ما كاد ينشر ويذاع، حتى أبدت البلاد رأيها؛ فقام الطلبة والأدباء والفنانون يدعون دعوتهم إلى اتخاذه نشيداً قومياً لتجعل صوت سعد في هذا النشيد صوت البلاد، ولتتخذ ما فيه من معاني المجد شعاراً لكل مصري، أن كان صوت سعد يومئذ هو صوت كل مصري

وتألفت اللجان في مختلف البلاد لإعلانه وإذاعته، وتسابق الملحنون إلى ضبط نغمته ورسم لحنه؛ فكان أسبقهم إلى ذلك الموسيقار منصور عوض، والموسيقار صفر علي؛ واللحن الأول أدق اللحنين وأوفاهما بالغاية؛ ولكن اللحن الثاني أذْيع وأعم، وبه تنشده فرق الكشافة المصرية بعد إذ صار نشيدها الرسمي

النشيد القومي في سنة 1936

ونجحت الدعوة نجاحها المؤمل، فصار نشيد (اسلمي يا مصر) هو نشيد مصر القومي من سنة 1923 إلى سنة 1936 حين أعلنت الحكومة عن المباراة العامة لتأليف نشيد قومي يهتف به الشعب وتعترف به الحكومة

في هذه الفترة كان الرافعي على نية إنشاء نشيد وطني جديد، إجابة لرغبة تقدم بها إليه شبان الوفد؛ فما أذاعت الحكومة بيانها عن المباراة حتى تقدم بنشيده الجديد:

حماةَ الحمى، يا حماة الحمى

هلمُّوا، هلموا لمجد الزمن

لقد صرخت في العروق الدما

نموت، نموت، ويحيا الوطن

كما تقدم بنشيده الآخر: (اسلمي يا مصر)؛ ولأمر ما استبعدت لجنة المباراة النشيد الثاني، ومنحته الجائزة الثانية على النشيد الأول. وما أريد أن أعرض لرأي اللجنة وحكمها في هذا النشيد الجديد، فذلك باب من النقد الأدبي ليس من قصدي التعرض له في هذا المقال؛ فإن للتاريخ الأدبي حكمه في هذا الشأن، يوم تُنسى الأحقاد وتمحى العداوات

ليس ما ذكرت هو جهد الرافعي في الأناشيد، وليس بهذا وحده يستحق أن نخلع عليه هذا اللقب الذي لا أرى غيره من شعراء العربية جديراً به؛ فما أستطيع أن أحصي كل ما أنشأ

ص: 32

الرافعي في هذا الباب، وحسبي أن أذكّر بنشيده الخالد الذي أنشأه في سنة 1927 ليكون شعار (الشبان المسلمين)، فهنا، في هذا النشيد، يُعرف الرافعي الشاعر المسلم المجاهد الذي وقف قلمه وبيانه على خدمة المسلمين والعرب

أما (نشيد الملك)، و (نشيد بنت النيل)، و (نشيد الطلبة) الذي أنشأه ليكون به هتاف تلاميذ المدرسة الثانوية بطنطا - فذلك من البيان له فصل بعنوانه في تاريخ الأدب العربي

البحر المنفجر

في أناشيد الرافعي عامة، تعرف له طابعاً وروحاً ونغمة هي سر نجاحه فيما ألّف من أناشيد، ويميل في أناشيده الوطنية خاصة إلى إبراز معنى القوة في سبك اللفظ ولحن القول؛ ولو أنك سمعته مرة وهو في خلوته الشعرية يحاول شيئاً من هذه الأناشيد لسمعت لحناً له رنين يشترك فيه صوت الرافعي، ونقر أصابعه على المكتب وخفق نعله على أرض المكان؛ وعلى أن الرافعي كان أصم لا يسمع قصف المدافع، فإنه كان لا يستوي له النظم إلا في مثل هذه الحال. واسألوا صديقنا الأستاذ مصطفى درويش المحقق بوزارة المعارف: ماذا رأى وماذا سمع يوم صحب الرافعي من طنطا إلى القاهرة وكان يؤلف في القطار نشيده (حماة الحمى. . .)؟

واسألوا الآنسة ماري قدسي معلمة الموسيقى بوزارة المعارف تحدثكم عن خبر الرافعي يوم جلس إليها وهي تعالج تلحين نشيده (بنت النيل) ويوم جلست إليه تعزف له على البيانة لحنها لنشيد (اسلمي يا مصر) وهو يسمعها بعينيه تتبعان أصابعها على المعزف وهو ينقر على الأرض بعصاه ورجليه، وينفخ شدقيه وفي أذنيه وقر ثقيل. . .!

هذه النغمة التي كانت تتمثل للرافعي في سمعه الباطن وهو يعالج نشيداً من الأناشيد، كان لها أثرها الفني في عمله، وهي هي التي كانت تشعره أحياناً بالعجز عن أن يجد في موازين الشعر العربي النغمة التي كان يريدها في أناشيده كطبل الحرب؛ فلما هم أن يضع نشيد الطلبة:

مَجْداً مَجْداً مَدْرَستي

مدرستي مَجْداً مَجْداً

عن علمي عن تربيتي

مدرستي حَمْداً حمداً

لم يجد له نغمة تلائمه فيما يعرف من بحور الشعر، فاخترع له هذا الميزان الذي يزنه به

ص: 33

قارئه، وسماه:(طبل الحرب) ولكن صاحب المقطم أشار عليه أن يسميه (البحر المنفجر) وتفعيلاته (فَعْلٌ، فَعْلٌ، فُو) مكررة في كل شطر، مع بعض علل في الميزان يمكن إدراكها بالموازنة بين الشعر وتفعيلاته

هذا هو الرافعي شاعر الأناشيد، وهذا جهده وما بلغ؛ وقد كان على نية إصدار ديوان من شعره سماه:(أغاني الشعب) جمع فيه ما أنشأ من الأناشيد الوطنية، وأغاني الجماعات والطوائف لولا أن عاجلته المنية. فلو أن أدباء العربية ذكروا يوماً أن عليهم واجباً لإمام من أئمة الأدب العربي كان يعيش في هذا العصر فاجتمعوا على العناية بآثاره وإتمام رسالته الأدبية، لأخرجوا لقراء العربية ذخراً من الأدب العربي والبيان الرفيع لا يقدر على إنشاء مثله جيل كامل من مثل أدباء هذا الزمان. . .!

ورحم الله جماعة تألفت منذ بضعة أشهر لتأبين الرافعي في شهر أكتوبر، وأوشك شهر أكتوبر أن ينتهي وما استطاعت الجماعة أن تثبت أن فيها حياة. . .!

يرحمك الله يا مصطفى، وفي ذمة الله ما جاهدت لهذه الأمة التي لا تعرف الجميل!

(شبرا)

محمد سعيد العريان

ص: 34

‌الكميت بن زيد

شاعر العصر المرواني

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

تمهيد

في الأدب اجتهاداً لم يغلق بابه كما أغلق في الفقه وغيره من علومنا الشرعية، وقد كان لامتياز الأدب بهذا على غيره من العلوم أثر كبير في ازدهاره في هذا العصر، وفي وصوله إلى ما لم يصل إليه في عصر من العصور السابقة، وهو في هذه النهضة المباركة شغل الطالب في معهده، والتلميذ في مدرسته، بل شغل الناس جميعاً على اختلاف أنواعهم ومذاهبهم. ولو أن غير الأدب من العلوم كان له حظه من فتح باب الاجتهاد لم يصر إلى هذا الجمود الذي صرف الناس عنه، وجعلهم يكرهون النظر فيه، ويخشون ما يصيبهم من العنت إذا خرجوا عن مألوفه

وللنفس حاجات في هذا الاجتهاد المغلق تجعلها تحن إليه الفينة بعد الفينة، فإذا خشيت العنت أو أصابها فيه شيء من العنت عدلت عنه إلى غيره حباً في المسالمة، أو يأساً من حال الناس في هذه الناحية؛ ولا تجد مثل الأدب في رحابة صدره للاجتهاد، وعدم ضيق أهله بأثر الاجتهاد فيه، فتلج بابه، وتسلى عنها به ما يصيبها من أذى الناس وجحودهم لفضل المخلصين العاملين فيهم

وهأنذا الآن بصدد الكتابة عن الكميت بن زيد الأسدي، وبصدد التنويه بالفتح الجديد الذي فتحه في الأدب العربي بهاشمياته، لأرفعه بها إلى درجة الزعامة على شعراء عصره (عصر بني مروان) ولأبعد جريراً والفرزدق والأخطل عن هذه الدرجة التي اتفق الناس على منحها لهم، ولا عليّ من مخالفة الناس فيما ذهبوا إليه في زعامة الشعراء في هذا العصر، فليس في الأدب كفر ولا إلحاد ولا غيرهما مما يرمي به الباحثون جزافاً في هذه الأيام

ونحن إذا بحثنا في هذه الزعامة الشعرية التي عرفها الناس لجرير والفرزدق والأخطل نجد أن ملوك بني مروان هم الذين روجوا لهذه الزعامة، وهم الذين شغلوا الناس بهؤلاء

ص: 35

الشعراء عن الكميت وغيره ممن يخالف سياستهم، ويناوئ بشعره ملكهم، ويناصر به غيرهم من منافسيهم، وقد مضى عهد بني مروان ومضت بعده عهود وعهود، وكان لحب التقليد الذي مني به الإسلام والمسلمون أثره في بقاء الناس على هذه الزعامة الشعرية

وإنما روج ملوك بني مروان لجرير والفرزدق والأخطل لأنهم وجدوا في شعرهم انحرافاً عن الجادة التي يجب أن يكون الشعر عليها، ووجدوا فيه ما يخدم مآربهم في حكم الأمة الإسلامية حكماً مطلقاً لا يقيدهم فيه قانون سماوي أو وضعي، وفي الاستئثار لأنفسهم وأنصارهم بأموال هذه الأمة وخيراتها، يصرفونها في اقتناء القيان، وشراء الجوار الحسان، وإشباع شهواتهم في هذه الحياة، والقضاء على روح المقاومة للظلم في الأمة حتى تخضع لهم، وتستكين لحكمهم؛ ولا نستثني منهم في ذلك إلا الملك الصالح عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فقد سار في حكمه القصير على خلاف سيرتهم، وأشاح بوجهه عن أولئك الشعراء الذين كانوا يروجون لهم

ولم يكن مثل جرير والفرزدق والأخطل في ذلك إلا كمثل من يعيش منا الآن بعقول القرون الماضية، ولا يتأثر عقله بشيء من العصر الذي يعيش فيه، فهكذا كان أولئك الشعراء يعيشون بعد الإسلام بعقول الشعراء الذين لم يدركوا عهده، ولم تعمل في نفوسهم رسالته، ولم تؤثر في قلوبهم هدايته، ولم يهذبهم تقويمه وإصلاحه، فاستعملوا شعرهم في خدمة أغراضهم وقضاء مآربهم، وتملقوا به ملوك بني مروان طمعاً في أموالهم ودنياهم، ولم ينظروا فيه إلى الأمة وما تطلبه من الشعر الذي يوفظها من غفلتها، وينهض بها من كبوتها، ويحارب عوامل الفناء التي تعمل عملها فيها، بل ساعدوا خصومها عليها، وعملوا بشعرهم على تفريق كلمتها، والرجوع بها إلى حالة الجاهلية، فكان شعراً رجعياً جامداً بغيضاً، ولا تسري فيه روح الحياة، ولا يصح أن يمون صاحبه به زعيماً في الشعراء

فإذا نظرت في شعر الكميت بن زيد وجدته يمثل لك عصر بني مروان تمثيلاً صادقاً، لا أثر فيه للخداع والغش، ولا يشوهه الحرص الممقوت على الصلات والجوائز، وخيل إليك أنك تعيش في عصر بني مروان مع الذين عاشوا فيه، وأن ظلمهم وإفسادهم حاق بك كما حاق بهم، فأخذ قلبك يضطرب بالحقد عليهم، وأخذت نفسك تضطرم بالثورة على ملكهم، وتنشد في ملكاً آخر يسود فيه العدل، وينتصر الحق على الباطل، وتنهض به الأمة،

ص: 36

وينتظم لها أمر دينها ودنياها

فهو شعر حي ناهض يدعو إلى الحياة والنهوض؛ أما شعر جرير والفرزدق والأخطل فهو شعر ميت جامد يدعو إلى الموت والجمود، ولم يكن الخضوع لزعامة هذا الشعر إلا أثراً من آثار الروح الشيطانية المستولية على النفوس منذ فقد في المسلمين الحكم الصالح، وأخذوا يعيشون عيشة آثمة جاهلية، يضيع فيها الحق، وينتصر عليها الباطل، وتنشر فيها أعلام الشر، وتطوى أعلام الخير، فأظلمت العقول، والتبست عليها الأمور، فصارت ترى الباطل حقاً، والشر خيراً، والإثم طاعة وبراً، وجمدت على هذا بطول الزمن حتى صارت حالها تدعو إلى اليأس في إصلاحها، وإزالة هذه الغشاوة عنها

على أني فيما أراه من زعامة الكميت على شعراء عصره أذهب في هذا مذهب بعض العلماء والشعراء كانوا يتعصبون له ويقدمونه في الشعر على غيره من الشعراء جميعاً. قال أبو الفرج الأصبهاني: أخبرني محمد بن القاسم الأنباري، قال حدثني أبي، قال حدثنا الحسن بن عبد الرحمن الربعي، قال حدثنا احمد بن بكير الأسدي، قال حدثنا احمد بن أنس السلامي الأسدي، قال سئل معاذ الهراء: من أشعر الناس؟ قال: أمن الجاهليين أم من الإسلاميين؟ قالوا: بل من الجاهليين، قال: امرؤ القيس وزهير وعبيد بن الأبرص. قالوا: فمن الإسلاميين؟ قال: الفرزدق وجرير والأخطل والراعي. قال فقيل له: يا أبا محمد ما رأيناك ذكرت الكميت فيمن ذكرت؟ قال: ذاك أشعر الأولين والآخرين

وقال أبو الفرج أيضاً: أخبرني الحسن بن علي الخفاف، قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي، قال حدثني احمد بن بكير، قال حدثني محمد بن أنس الأسدي السلامي، قال حدثني محمد بن سهل راوية الكميت قال: جاء الكميت إلى الفرزدق لما قدم الكوفة فقال له: إني قد قلت شيئاً فاسمعه مني يا أبا فراس، قال: هاته، فانشده قوله:

طَرِبتُ وما شوقاً إلى البيض أطْرَبُ

ولا لعِباً مني وذو الشوق يلعبُ

ولكن إلى أهل الفضائل والتُّقَى

وخير بني حوَّاَء والخير يُطْلَبُ

فقال له: قد طربت إلى شيء ما طرب إليه أحد قبلك، فأما نحن فما نطرب ولا طرب من كان قبلنا إلا ما تركت أنت الطرب إليه

وفي رواية أخرى عن محمد بن علي النوفلي، قال سمعت أبي يقول: لما قال الكميت بن

ص: 37

زيد الشعر كان أول ما قال الهاشميات فسترها ثم أتى الفرزدق بن غالب فقال له: يا أبا فراس إنك شيخ مضر وشاعرها، وأنا ابن أخيك الكميت بن زيد الأسدي، قال له: صدقت، أنت ابن أخي، فما حاجتك؟ قال: نفث على لساني فقلت شعراً فأحببت أن أعرضه عليك، فإن كان حسناً أمرتني بإذاعته، وإن كان قبيحاً أمرتني بستره، وكنت أولى من ستره عليّ. فقال له الفرزدق: أما عقلك فحسن، وإني لأرجو أن يكون شعرك على قدر عقلك، فأنشدني ما قلت، فأنشده:

طَرِبتُ وما شوقاً إلى البيض أطْرَبُ

قال فقال لي: فبم تطرب يا ابن أخي؟ فقال:

ولا لعباً مني وذو الشوق يلعبُ

فقال: بلى يا ابن أخي فالعب فإنك في أوان اللعب، فقال:

ولم يُلهني دارٌ ولا رسم منزل

ولم يتطرّبني بنانٌ مُخضَّبُ

فقال: ما يطربك يا ابن أخي؟ فقال:

ولا السانحات البارحات عشية

أمر سليم القرن أم مر أغضب

فقال: أجل لا تتطير، فقال:

ولكن إلى أهل الفضائل والتقى

وخير بني حوَّاَء والخير يطلبُ

فقال: ومن هؤلاء ويحك؟ فقال:

إلى النَّفر البيض الذين بحبِّهمْ

إلى الله فيما نابني أتقرَّبُ

قال: أرحني ويحك من هؤلاء؟ قال:

بني هاشم رهط النبِّي فإنني

بهم ولهم أرضى مراراً وأغضبُ

خفضتُ لهم مني جناحي مودَّةً

إلى كَنَفٍ عطفاه أهل ومرحبُ

وكنت لهم من هؤلاء وهؤلا

مُحباً على أني أُذمُّ وأغضبُ

وأُرَمى وأرْمِى بالعداوة أهلَها

وإني لأُوذَى فيهمُ وأؤنَّبُ

فقال له الفرزدق: يا ابن أخي أذع ثم أذع، فأنت والله أشعر من مضى، وأشعر من بقى

وهذه الهاشميات من الدرر اللوامع في سماء الشعر العربي، وبها يسمو شعر الكميت على غيره من الشعر، وقد أجاد فيها في مدح بني هاشم والدعاية لهم، وتصوير حكم بني مروان

ص: 38

تصويراً شنيعاً ينفر الناس منه، ويدعوهم إلى الثورة عليه، حتى هيأ النفوس إلى تلك الثورة التي قام بها بعده أبو مسلم الخراساني، فقضى على حكم المروانيين، وأقام بعده حكم العباسيين الهاشميين

ولاشك أن الشعر الذي يبلغ به صاحبه هذه المنزلة العالية ويستطيع به أن يقيم دولة ويقعد دولة، هو الشعر الذي يستحق به صاحبه الزعامة على شعراء عصره، لا ذلك الشعر الذي لا يعد وأمره أن يكون ألفاظاً جوفاء لا طائل تحتها، ولا ثمرة في هذه الحياة لها

وقد شهد الفرزدق شهادة أخرى لهذه القصائد، فقيل له: أحسن الكميت في مدائحه في تلك الهاشميات، فقال: وجد آجراً وجصاً فبنى

عبد المتعال الصعيدي

ص: 39

‌دراسات في الأدب الإنكليزي

جون ملتون

للأستاذ خليل جمعة الطوال

تمهيد

لقد كانت إنكلترا قبل الحكم الأليزبثي غارقة في بحر خضم من الحروب الدينية والمنازعات المذهبية، وكان أدباؤها منقسمين إلى عديد البطانات السياسية المتضادة التي كانت لا تفتأ تتناحر فيما بينها على اجتناب حبل الرأي في الأمة، ومقاليد الأمور في الحكومة، والمراكز الملحوظة في السيادة، وصرفتهم هذه الحروب الدينية السياسية عن طبيعتهم، واجتاحتهم إلى ميادينها الدامية، كما يجتاح السيل الأتيُّ قطعة من الخشب، أو قصبة من القش. فلا عجب إذا تضيفت شمس الشعر - في إنكلترا - للمغيب، ولا عجب أيضاً إذا تعطلت في الناس أخيلتهم المتوثبة، ومشاعرهم المشبوبة، وصدورهم المليئة بالأحاسيس الوثابة، والعواطف الجياشة، إذ ليس في البيئة السياسية ثمة ما يغذي هذه الأمور، أو يثير أسبابها ويوقد جذوتها

وما هو إلا أن اعتلت اليصابات سدة العرش، وتسنمت عاليها وتقلدت بيدها الحديدية زمام المملكة وأعنتها، حتى سارت في خطتها على المبادئ القويمة اللاحزبية، فأباحت الناس على مختلف طبقاتهم ومللهم الحرية المطلقة في معتقداتهم، فخمد بذلك روح التناحر المذهبي - ولو إلى حين - وانفرط عقد هذه البطانات السياسية المتضادة، إذ قطع التسامح الديني الذي أوجدته اليصابات أسباب تضادها، فاستيقظت مشاعر الشعراء وعواطفهم على هدوء ريح هذا التعصب المذهبي الممقوت، وأخذت أخيلتهم المتوثبة تتحرر من أصفادها وقيودها التي كبلتها بها البيئة السياسية مدة من الزمن ليست بالقصيرة. وقد ساعد على هذه النهضة المباركة ذوق الملكة الأدبي، إذ استدنت الأدباء إلى قصرها وقربت الشعراء من بلاطها، فكان عملها هذا وتشجيعها للأدباء بمثابة التعويض العادل للآداب عما خسرته تحت نقع تلك الحروب المذهبية - السالفة الذكر - التي خلقها تكالب الكاثوليك والبروتستنت على السيادة

ص: 40

وما هي إلا فترة من الزمن حتى توفيت اليصابات، فأخذ الأدباء عامة، والشعراء خاصة، ينحتون سبلهم الوعرة في صخر السياسة الأصم بكل عناء وجهد، إذ كان موتها كالريح الهادئة أذكت سعير تلك النار المذهبية الخامدة، فعادت النفوس إلى شنشنتها القديمة من التخاذل والانقسام الديني. والتف الأدباء ثانية، كل حول بطانة خاصة، يناصرها في الجهر والخفاء، ويذود عنها بلسانه وقلمه، وإذ كان الدين علة هذا الانقسام وسبب تحزب هذه الأحزاب، فقد كان نتاج الأدباء إذ ذاك، متسماً بالميزات الدينية، والمظاهر الحزبية. وخير من نلتمس هاتين الظاهرتين بوضوح وجلاء في آثاره (جون ملتون) وهو الذي سنعرض لدراسته في هذه الكلمة العجلى

شخصيته وحياته

لملتون شخصية فذة محاطة بستر كثيف من الغموض والإبهام، ليس من الهين علينا خرقه؛ يدل على ذلك: تشعب الأحكام فيه، وتباين وجهات النظر إليه، وتناصر الآراء عليه. فبينا نرى المعجبين بسمو شخصيته، والمفتونين بسحر شاعريته، يوغلون في تقديسه وتبجيله، ويبوؤونه وشكسبير سناماً واحداً من الشهرة والعظمة ولا يرون (لفردوسه) في الشعر مثيلاً إلا بالرجوع إلى الإلياذة والأوذيسة - إذ بالكثيرين من خصومه يجردونه من جميع مواهب الشاعرية السامية، ويجهدون الفكر في تسقط سقطاته، وتقصي هفواته، والإحاطة بكل ما من شأنه أن ينتقص من شاعريته وينال من شخصيته. أما الفريق الأول فزعيمهم (وليم هزلت)، وأما الفريق الثاني فعلى رأسهم (جونسون)؛ ولا تظهر الحقيقة بين حالتي الإغراق في الإعجاب، والتحذلق في التغرض إلا مجسمة مكبرة، ومشوهة ملفقة، فلا عجب إذا قلنا إن ملتون كان ولم يزل غامض الشخصية، مكتوم الطوية. ونحن إذ نعرض له بمثل هذه الكلمة العجلى، فلسنا ندعي أن فيها فصل الخطاب الذي لا يرد، ولا التوفيق بين مختلف هذه الأقوال المتبلبلة والأحكام المتشعبة، وإنما نريد توجيه اهتمام الناقدين، وجهود الباحثين إليه، وعرض مختلف المقالات فيه، تاركين - ما أمكن - للقارئ الكريم الحرية في إمازة غثِّها من سمينها

ولد ملتون في (برودستريت) بلندن، وكان والده كاتباً؛ وإذ كان من أهل اليسر والرخاء فقد كان شديد الرغبة في تعليمه تعليماً جامعياً عالياً. ولقد كانت طفولته النادرة تنبئ بما سيكون

ص: 41

له من المجد المخبوء في جوف المستقبل، وليس أدل على طموحه وعبقريته وتحفزه للوثوب إلى قمة المجد من تلك المقطوعات الشعرية الجميلة التي نظمها وهو لا يزال بعد في ربيع صباه، تائهاً بكبرياء فتونه

كان ملتون طويل القامة، ساهمَ الوجه، شتيت الثغر، أبلج الحاجبين، ذا عينين نجلاوين، أشم الأنف، سخامي الشعر رجلَه، مليح الفم، معتدل الأعضاء، وكان (كما يروى عنه) بارع الجمال، تعشق منظره العين، وترتاح لحديثه النفس، وهو - إلى جانب ذلك كله، مزهوّ بنفسه معجب بخلقه، ومعتد بذكائه، تشهد بذلك آثاره العديدة، وأساليبه الشعرية المستعصية؛ وما أسلوب الشاعر في قصيدته إلا صورة لطبعه، ومرآة لأخلاقه

مكث ملتون في بيت والده في (هارتون) حتى منتصف العقد الثاني من عمره، حيث عاش تحت كنفه عيشة مترفة رخية، لا ترنق صفوها الأكدار والأحزان، ولا تعبث بهنائها الهموم والأشجان، فشب محباً للحرية، وما من شيء يضع في جذوة نفسه المتوقدة، أو يقل من شباة عزيمته المتحفزة، وإذ ليس من شاغل يشغله بأمور عيشه، فقد كان منصرفاً إلى افتعال الشعر والعبث به، وإلى احتذاء أساليب أفذاذ الشعراء في القريض. وفي عام 1624 أدخله والده مدرسة في كمبردج، فأقبل على الدرس لا يلوي عنه إلا حين يجهده الفكر، فنال بذلك استحسان معلميه ومديح عارفيه، إذ بزّ جميع أقرانه، واشتهر بين سائر لداته بذكائه اللامع، وفطنته المتوقدة. وفي عام 1632 أنهى علومه الجامعية ونال درجة السامية فغادر كمبردج راجعاً إلى بيته في هارتون، حيث أكب على مطالعة الآداب الكلاسيكية مدة خمس سنوات تمكن في خلالها من الإحاطة بجميع ما فيها من رائع النثر وجيد الشعر. أما اللغة الإنكليزية، فقد بلغ اطلاعه عليها حدّ الإحاطة بجميع أوابدها المستعصية. وليس أدل على ذلك من مطالعة ملحمته الشهيرة المعروفة (بالفردوس المفقود) إذ تحتاج في كل صفحة إلى الاستعانة بالمعجم عشرات المرات

وبعد أن قضى في هارتون خمس سنوات في الجد والمطالعة، أخذ يطوف في أنحاء أوربا، ويتنقل بين مدنها العامرة وعواصمها الزاهرة، فتلقحت بذلك عبقريته بعناصر أدبية جديدة، وتجلت مواهبه عن جراثيم شعرية سامية، لطفت من عرام نفسه، وليّنت شيئاً من حرونة طبعه، وزادت في قيمة إنتاجه. ففي عام 1638 ذهب إلى إيطالية، وكانت إذ ذاك كعبة

ص: 42

الأدب، ومثابة الفن، وقبلة الشعراء والمتأدبين، يحجون إليها في كل عام ليردوا شرعة آدابها الرائعة، وليروِّحوا عن أنفسهم من عنائها، وذلك بالتمتع بسمائها الصافية، وأشجارها الباسقة، ومناظرها المتناسقة. وقد زار من مدن إيطالية فلورنسة، واجتمع فيها غير مرة بأعظم علمائها وهو غاليلو، ومنها عرج على رومة وهي العاصمة، والمثابة العزيزة لسائر أنواع الفن؛ ثم سار منها إلى نابولي، وهناك قرع سمعه نبأ الحروب الداخلية التي شبت في إنكلترا عن اصطدام حق الملوك الإلهي برغبة الشعب الملحة في الحصول على حقوقهم كاملة غير منقوصة، ولهذا فإنه لم يتم رحلته بل رجع إلى وطنه وهو يقول: إنه لمن المزري بالرجل أن ينشد الراحة في السفر، بينما مواطنوه يجالدون في سبيل حريتهم

ملتون والسياسة

وبرجوع ملتون من رحلته تبتدئ حياته السياسية، وهي دور مليء بالجهود الجبارة والأحداث الخطيرة؛ ولئن كان إذ ذاك مأخوذاً بنزق الشباب وتهور العاطفة إلا أنه أظهر في ميدان السياسة من الحنكة والدهاء والمرونة الدبلوماسية ما لا طاقة على مثله إلا لذوي النبوغ والعبقرية. كان حبل السياسة إذ ذاك مضطرباً بين حق الملوك الإلهي وبين ديمقراطية الشعب؛ وأحياناً بين البروتستنتية المصلحة، والكاثوليكية المبالغة في المحافظة على تقاليدها - ولو بليت - وكان ملتون خصم الملكية اللدود، وعدو البابوية الأزرق، فلا عجب إذا انهال عليهما بكثير من الامتهان والزراية، أو تسقط لهما كل ما من شأنه أن يحط من جلالهما أو ينال من عظمتهما

لقد ناهض الملكية كثيراً، وقاومها مقاومة غماء الجبين، حتى أنه لم يدع سانحة تمر إلا اهتبلها مندداً بعيوبها ومثالبها، شاهراً ظلمها ومساوئها؛ كما ناصر الطهريين كثيراً في تقويض دعائم الكاثوليكية. والطهريون في ثورتهم على الكاثوليكية ومن ورائها الملكية، أشبه ما يكونون في التاريخ العربي بالخوارج في ثورتهم على العلويين أولاً والأمويين ثانياً؛ ووجه الشبه بينهما اختلاط الدين بالسياسة في مبادئهما. وما مبادئ الطهريين التي هبوا متشمرين للنضال السياسي في تحقيقها، إلا صورة من المبادئ الوهابية في جزيرة العرب. ولقد كانت الدعوة الطهرية في بادئ أمرها دينية محضة، أي كدعوة الخوارج إبان خروجهم على عليّ، ولكنها - كمثيلتها - لم تلبث أمام أرستقراطية الملوك أن تنكرت لهم،

ص: 43

واصطبغت لمجالدتهم بالصبغة السياسية، فقد ناهض الطهريون الملوك مناهضة عنيفة، وأنكروا عليهم حقهم الإلهي في السيادة والسلطة، وانتزعوا لفظه من أفواههم بعد أن كانوا يتشدقون بمضغه تشدق من يمضغ لقمة دسمة. وما انتصار النظام الدستوري في إنكلترا وانهيار دعائم الملكية إلا رمزاً لانتصار المبادئ الديمقراطية على الأرستقراطية، بل صورة لانتصار الطهريين على جميع منافسيهم، ذلك الانتصار الذي أملى على ملتون ملحمته الشهيرة المعروفة بالفردوس المفقود، وهي صورة حية لما كان عليه الدين إذ ذاك من التبلبل والانقسام، تطلعنا على مدى ما وصل إليه الطهريون في جهادهم لتدعيم أسس حرية الشعب الدينية والسياسية تلك الحرية التي أنجبت أمثال دن، وبنيان، وملتون

ومن كتابات ملتون السياسية رسالته المعروفة: وقد كتبها عام 1649 دفاعاً عن إعدام الملك - ذلك الإعدام الشنيع الذي صوره فيما بعد بصورة ترتعد منها الفرائص وتقشعر لها الأبدان في كراسته المعروفة

وإذ كان ملتون ظهيراً لكرمويل ومساعداً له ضد الملكية الظالمة، فقد عينه هذا بعد تسنمه سدة الحكم بمدة وجيزة - أي عام 1649 - ترجماناً له في قسم السكرتارية اللاتينية، وكان عمله ترجمة جميع الدواوين والرسائل إلى اللغة اللاتينية، إذ كانت اللاتينية إذ ذاك هي اللغة السياسية الوحيدة المتفق عليها بين جميع دول أوربا

(يتبع)

خليل جمعة الطوال

ص: 44

‌أبحاث تاريخية جديدة

الإسلام في غرب أفريقية

مدى انتشاره في تلك الأقاليم ومبلغ أثره في الأهلين

للأديب جمال الدين محمد الشيال

تتمة

ولقد حمل إليهم الإسلام أيضاً نظام الحكم الديموقراطي. ذلك أن نظام الإدارة في الإسلام نظام ديموقراطي - لا فارق بين رجال الدين وعامة الشعب - فرئيس المقاطعة هناك هو الليمان (ويبدو لي أنها محرفة عن لفظة الإمام بالعربية) ويختار من بين أفراد الشعب، وكل الصفات التي يراعيها الناس أثناء انتخابه هي أن يكون على خلق طيب وأن يكون ملماً بالقرآن إلماما ًَلا بأس به. ومن وظيفته أن يؤم الناس في الصلاة. وليس هناك نظام مركزي يوحد بين هؤلاء الليمانز فكل منهم مستقل في إدارته. ويزود الليمان هو والمالم (وأرجح أن أصلها معلم، فوظيفته تعليم الناس ولابد أن يكون على علم ولو قليلاً بالقرآن) بما يقدمه الناس لهم من عطايا عن طيبة خاطر. ومهمة هؤلاء المعلمين تعليم الصغار؛ غير أن أكثر اعتمادهم في الكسب على التمائم التي يقدمونها للناس. والمعلمون كذلك أطباء يستخرجون الأدوية من جذوع الشجر وأوراقه. ومعظمهم طفيليون على المجتمع، بل إن بعضهم يستخدم تلامذته لسؤال الناس. وكثير منهم ممن ذهبوا إلى مكة وحجوا البيت الحرام يشاع تقديسهم؛ وهم يستغلون هذه الإشاعات الخيالية طول المدة الباقية من حياتهم. ولكننا برغم هذا لا نعدم أن نجد بين هؤلاء المعلمين من يحيا حياة كلها تقوى وورع وسعي لنشر العلم. وفي معظم الولايات الإسلامية تقام الصلاة كل يوم كما يحتفل المسلون بعيدي الفطر والأضحى إذ يسمونهما & أي العيد الأصغر والعيد الأكبر

المذاهب الدينية

ويعتبر سلطان سكوتو الرئيس الروحي لجميع مسلمي السودان الأوسط حيث يسمونه ولقد امتد نفوذه في أوائل هذا القرن حتى شمل تمبكتو غرباً وأجادز شمالاً (ولكن هذا النفوذ لم يشمل بورنو حيث يتمتع الشيهو بمركز ديني يضاهي مركز سلطان سكوتو)

ص: 45

وهناك مذاهب دينية مختلفة تعمل على تقدم الإسلام ونشره، أهمها مذاهب القادرية والتيجانية والسنوسية. وللمذهبين الأولين أتباع كثيرون في مختلف أنحاء نيجيريا، وخاصة مذهب التيجانية الذي أسسه أحد أساتذة بلاد المغرب واسمه (سيدي أحمد التيجاني) وكثير من ثورات السودان المحلية يرجع لتأثير هذا المذهب في السودانيين. أما مذهب السنوسية فلم يتعمق إلى الجنوب كثيراً؛ لقد بلغت دعوته شمال نيجيريا وله بعض الأتباع في سكوتو وبورنو. وليس هناك ما يميز أتباع هذه المذاهب عن بقية المسلمين سوى رغبتهم وسعيهم للتطهر، وسوى حلقات الذكر التي يقيمونها في الحين بعد الحين (وإن كانوا لا يفهمون معنى ما يقولون أثناء الذكر كما يقول

والمساجد منتشرة في كل مدن الإسلام، أما في القرى فالمسجد قطعة من الأرض مسورة بحاجز من الخشب

الإسلام ينتشر وإن كان المسلمون لا يبشرون به

لا يوجد بين المسلمين الآن إرساليات تبشيرية تعمل لنشر الإسلام، ولكن الإسلام ينتشر عفواً بين تلك الجماعات دون بذل مجهود. والجهاد عند المسلمين واجب لنشر دينهم بين الوثنيين ولكننا لو عرفنا أن الجانب الأعظم من دخل الفولاني يعتمد على تجارة الرقيق بدا لنا السبب في عدم اهتمام هؤلاء كثيراً بالتبشير لدينهم بين الوثنيين

ومع هذا فقد كانت هناك إرساليات تبشيرية هامة في أوائل حكم الفولاني. فإن لاندر يحدثنا أنه قابل في معلمين من الفولاني أرسلهم أمير نوبي لينشروا تعاليم الإسلام بين السكان الوثنيين

غير إن الإسلام لم ينتشر في تلك الجهات نتيجة سعي الإرساليات قدر ما انتشر نتيجة جذب ثقافة المسلم العالية لجيرانه الوثنيين. والآن بعد سهولة المواصلات أصبح المسلمون أكثر اتصالاً بالوثنيين، وكانت نتيجة هذا أن الوثني الذي يتعدى منطقة إقامته يرى أن من الصالح أن يعتنق الإسلام، وأن يتبع المسلمين في أسلوب حياتهم، لأنه سريعاً ما يدرك ضيق دينه إذا قارنه بعالمية الإسلام؛ وهو إلى هذا كله لا يجد صعوبة في انتقاله من الوثنية إلى الإسلام، فهو بالمعاشرة يستطيع بسرعة أن يستسيغ نظم الدين الجديد. والوثني كذلك يرى أن المسلم متسامح وأنه يعيش في منزل أنظف من منزله ويرتدي ملابس خيراً

ص: 46

من ملابسه، وله بالعالم معرفة أوسع من معرفته. فلا غرو بعد هذا إن فضل الوثني الإسلام فاعتنقه. والوثني عندما يسلم يغسل جسمه كله ثم يعلن إسلامه في المسجد

نظم التعليم في تلك الجهات

وهناك مدرسة في كل بلدة من بلاد الإسلام يديرها معلم من الأهلين، ويرسل إليها الأطفال في سن مبكرة غالباً بين الثالثة والرابعة، يرسلهم آباؤهم إلى هذه المدرسة فراراً من الجهد الذي يبذلونه لرعايتهم. ومن هؤلاء المعلمين من يمارس التجارة إلى جانب مهنة التعليم. أما الأطفال فهم يستمعون إلى دروسهم في العادة ساعة في الصباح وساعة في المساء، وهؤلاء الأقوام لا يهملون تعليم بناتهم. ويتلقى التلاميذ دروسهم عادة قبل شروق الشمس وبعد غروبها حتى يستطيع الصبية منهم خدمة الحقول أثناء النهار

وأول ما يتعلم الأطفال الصلاة، ثم يعلمون كيف يقرأون القرآن، ثم يتلقون بعض الواجبات الدينية كشروط الوضوء وطرق الاغتسال وغيرها. والأطفال يقرأون العربية جميعاً وراء معلمهم بصوت مرتفع منغم. وإذا تقدم الأطفال في السن وكبروا علموا شيئاً من تفسير القرآن؛ غير أن نظم التعليم العامة عندهم تسير على نهج آلي. فمعظم الأولاد يحفظون القرآن كله أو بعضه، وهم لا يفقهون له معنى. بل أن أكثر المعلمين هناك ثقافة لا يعرف شيئاً عن التطور الفكري الذي يسود العالم الإسلامي اليوم. وإن كان هناك نفر من النيجيريين على درجة كبيرة من العلم والثقافة فمنهم شيهو دان فوديو وقد ألف كتاباً في اللاهوت وابنه بلو وهو نحوي ومؤرخ مشهور وغيرهم كثيرون. ولا يتقاضى المعلمون مرتبات غير الهدايا التي تقدم إليهم. وعندما يتم الولد دراسته يأخذ المعلم من أهله حملاً أو عنزة ومع هذا فإن 3 % من المسلمين فقط هم الذين يقرءون ويكتبون

فضل الإسلام في توحيد هذه القبائل المبعثرة

يبدو لنا بعد هذا بوضوح كيف أن نظم الإسلام الاجتماعية والسياسية توافق الزنوج كل الموافقة خصوصاً وإن الزنوج السودان يسود بينهم الدم الحامي أو دم البحر الأبيض المتوسط. فالإسلام إذ يفرض على هؤلاء الناس الختان ويبيح لهم تعدد الزوجات ويمنعهم عن أطعمة خاصة ويحرضهم على أن يكونوا أحراراً، لا يطلب منهم المستحيل، بل إن

ص: 47

يقول (إن الإسلام إذ يفرض على الزنوج عبادة الله لا يفرض عليهم جديداً فإن في نيجيريا يعتبرون إله السماء هو المسيطر والمنظم للعالم)

وبعد هذا فإنا لا ننسى كيف حمل الإنسان إلى هؤلاء الأقوام الشعور بضرورة الوحدة، فلقد جمعهم بعد تفرقة. والفضل كل الفضل للإسلام إذ كون من تلك القبائل المبعثرة وحدات متحدة قوية؛ بل إن ميك يعترف بالفضل للإسلام إذ وحد هؤلاء الناس حتى استطاع الإنكليز أن يحكموهم هذا الحكم غير المباشر. وإن كان المسلمون في تلك الجهات هم الذين يتولون أمورها ولهم قيادة الرأي العام فيها

لقد رأينا كيف اتسعت موجة الإسلام واتسعت حتى تلاشت في القرن التاسع عشر وابتدأت حركة الاستعمار ووجد المستعمرون أن مصدر الصعاب التي قامت في طريقهم هو الإسلام والخلاف الديني بينهم وبين أهالي الجهات المستعمرة. ولذلك فهم يبذلون الآن جهدهم لنشر المسيحية حيثما حلوا. وهم يجذبون الناس إليهم بمختلف الوسائل التي تحمل طابع الإنسانية، فهم ينشئون المستشفيات والمدارس ودور اللهو والكنائس وغيرها. ثم هم يجتهدون أخيراً أن يحولوا بين مسلمي السودان وزنوجهم لينشروا بينهم المسيحية. ولكن واجب المسلمين الآن أن يلقوا بالدعوة من جديد حتى تبتدئ الموجة ثانية وتتسع. . وتتسع حتى تصل إلى هؤلاء الأقوام فتحسن من تعليمهم وتعمل على تقوية إيمانهم. ولا أحسب أن هناك قطراً يصلح لهذه المهمة غير مصر؛ ولا أحسب أن معهداً في مصر يصلح لهذه المهمة غير الأزهر، ورجال الأزهر. فهل يفكر القوم في هذا؟!

جمال الدين محمد الشيال

المراجع

1 -

2 -

1930.

3 -

; 1913

4 -

1 -

ابن عذارى المراكشي: البيان المغرب في أخبار المغرب. طبعة لايدن سنة 1848

ص: 48

2 -

ابن خلدون: المغرب في تاريخ الدول الإسلامية بالمغرب طبعة لايدن 1847

3 -

المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب طبعة لايدن سنة 1847

4 -

ابن بطوطة: رحلته المسماة (تحفة النظار. . . الخ)

ص: 49

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي

271 -

فإن لم ينتهوا راجعت ديني

كان أبو المطراب من لصوص الحجاز فتاب فظُلم فقال:

ظلمتُ الناس فاعترفوا بظلمي

فتبت، فأزمعوا أن يظلموني

فلست بصابر إلا قليلاً

فإن لم ينتهوا راجعت ديني

272 -

الشاهد عند الحاجة

قال أبو العيناء: ما رأيت قط أحسن شاهداً عند حاجة من ابن عائشة. قلت له يوماً: كان أبو عمرو المخزومي يصلك ثم جفاك، فقال:

فإن تنأ عنا لا تِضرْنا، وإن تعد

تجدنا على العهد الذي كنت تعلم

273 -

ما زلت تخفي الصدقات

مر الفرزدق بالحكم بن المنذر بن الجارود فاستسقاه ماء، فقال: هلا لبناً يا أبا فراس؟ قال: ذاك إليك. فملأ له عُساً من خمر، وأمر فحلبت عليه لقحة فصعدت الرغوة فوق الشراب وأتاه به فشربه حتى صك بالعس جبهته، وانتفخت أوداجه، واحمرت عيناه، فمسح سِباله وقال: جزاك الله خيراً! فإنك ما زلت تخفي الصدقات، ونعمّا هي

274 -

وهذا ينتسب عرضا

سئل رجل عن نسبه فقال: أنا ابن أخت فلان. فقال أعرابي: الناس ينتسبون طولاً، وهذا ينتسب عرضاً

275 -

بل يزوج

كان ذئب ينتاب بعض القرى ويعيث فيها، فترصده أهلها حتى صادوه وتشاوروا في تعذيبه. فقال بعضهم: تُقطع يداه ورجلاه، وتدق أسنانه، ويخلع لسانه. وقال بعضهم: بل يصلب ويرشق بالنبال. وقال بعضهم: بل توقد نار عظيمة ويلقى فيها. وقال بعض الممتحنين بنسائه: لا، بل يزوج. وكفى بالتزويج تعذيباً! وفي هذه القصة يقول الشاعر:

ص: 50

رب ذئب أخذوه

وتمارَوا في عقابهْ

ثم قالوا:

زوِّجوه

وذروه في عذابهْ

276 -

فأما البخاري وكافر فما سمعناه

قال ابن العمار الحنبلي: كان عبد السلام بن عبد الوهاب بن عبد القادر الكيلاني - ويلقب بالدكن - أديباً كيساً مطبوعاً عارفاً بالمنطق والفلسفة والتنجيم وغير ذلك من العلوم الردية! وبسبب ذلك نسب إلى عقيدة الأوائل

رأى عليه والده يوماً ثوباً بخارياً - كان عبد الوهاب كثير المجون والمداعبة - فقال: والله هذا عجب! مازلنا نسمع (البخاري ومسلم) فأما (البخاري وكافر) فما سمعناه!

277 -

كفيتنا مؤونة مراجعته. . .

كتب القاضي أبو يوسف كتاباً وعن يمينه إنسان يلاحظ ما يكتبه، ففطن له أبو يوسف، فلما فرغ من الكتابة التفت إليه وقال: هل وقفت على شيء من خطأ؟

فقال: لا والله ولا حرف واحد

فقال له أبو يوسف: جزيت خيراً حيث كفيتنا مؤونة مراجعته. ثم أنشد:

كأنه من سوء تأديبه

أُسلِم في كُتاب سوء الأدب

278 -

فانظر إلى حجر صلد يكلمنا

قال أبو عامر البرياني في الصنم الذي بشاطبة:

بقيةٌ من بقايا الروم معجبة

أبدى الثبات بها من علمهم علما

لم أدر ما أضمروا فيه، سوى أمم

تتابعت بعد سموه لنا صنما

كالمبرد الفرد، ما أخطا مشبهه

حقاً لقد برد الأيام والأمما!

كأنه واعظ طال الوقوف به

مما يحدث عن عاد وعن إرما

فانظر إلى حجر صلد يكلمنا

أسمى وأوعظ من قُسّ لمن فهما

279 -

وأنتم كدود الخل

في (إرشاد الأريب) لياقوت: حدث الرئيس أبو الحسن هلال قال: قلت لجدي أبي اسحق

ص: 51

(الصابي) - تجاوز الله عنه - وهو يشكو زمانه: يا سيدي، ما نحن بحمد الله تعالى إلا في خير وعافية ونعمة كافية. فما هذه الشكوى التي تواصلها، ويضيق صدرك بها، ويتنغص عيشك معها؟ فضحك وقال: يا بني، نحن كدود العسل قد نقلنا منه إلى الخل فلهذا نحس بحموضته، ونأسى ونحزن على ما كنا فيه من العسل ولذته. وأنتم كدود الخل ما ذقتم حلاوة غيره، ولا رأيتم طلاوة ضده

280 -

با اين تيمار بايد اندكي شادي

في (عيون الأخبار): قال علي بن هشام: كان عندنا بمرو قاص يقص فيبكينا، ثم يخرج بعد ذلك طنبوراً صغيراً من كمه فيضرب به ويغني ويقول:

با إين تيمار بايَدْ أندكي شاكي

معناه: ينبغي مع هذا الغم قليل فرح

281 -

ولكن بدموعي!!!

نَوْرَزَ الناس ونورزتُ ولكن بدموعي! وذكت نارهمُ والنار ما بين ضلوعي!

282 -

قبل أن يبادرني بالعقوق

تزوج أعرابي على كبر سنه، فقيل له في ذلك، فقال: أبادره باليتم قبل أن يبادرني بالعقوق. . .

ص: 52

‌قطعتان من روائع أدب الغرب

1 -

حنين إلى الوطن

للشاعر الناثر: شاتوبريان

ما أكثر ما تكن جوانحي من ذكريات عِذاب

عن البلد الجميل الذي فوق أرضه ولدت، وتحت سمائه ترعرعت!

أختاه، ما أجمل تلك الأيام التي أنفقناها في فرنسا!

دمت يا بلادي محطاً لغرامي ومنية لفؤادي!

هل تذكرين يا حبيبتاه أمنا الرءوم

حين كانت تضمنا إلى صدرها الحنون

باسمة الثغر، متهللة الوجه بقرب موقد كوخنا

وحين كنا نلثم معاً شعرها الأبيض الجميل

هل تذكرين؟

هل تذكرين يا أختاه ذلك القصر الباذخ

وقد خوّص في النهر بقدميه

وذلك البرج القديم، المسرف في لقدم

حيث يقرع الناقوس مؤذناً بانبلاج الصبح وعودة النهار

هل تذكرين؟

هل تذكرين تلك البحيرة السجواء

وقد داعبها السنونو بأجنحته الخفيفة السوداء

والقصب المياس وقد طأطأت هامه الرياح النكباء

ومليكة النهار الفتانة، وقد احتُضرت فوق ثبج الماء

هل تذكرين؟

هل تذكرين صديقتي (هيلانه)، رفيقة الحياة الحنون

هل تذكرينها في الغابة حين كانت - وهي تقتطف الزهرة البديعة

تسند صدرها الجياش إلى صدري

ص: 53

وتضم قلبها الخفاق إلى قلبي

هل تذكرين؟

أواه! من ذا الذي يعيد إليّ (هيلانه)

وطودي وتلك السنديانه؟

ذكرياتهم هي التي ترمض أحشائي بالألم

آناء الليل وأطراف النهار

دمت يا بلادي محطاً لغرامي ومنية لفؤادي

ص: 54

‌2 - الفراشة

للامارتين

تولد حين يذر قرن الربيع، وتقضي لما يرفرف الموت فوق أكمام الورد:

تسبح وقد امتطت جناح النسيم، في سماء صافية الأديم

وتتأرجح على أكمام أزاهير لا تكاد تتفتح

فيسكرها عَرْف نفاح، ونور لماح، وزرقة بهيجة

تنفض الغبار عن جناحيها والميلاد حديث

وتطير صاعدة إلى السموات العلى خفيفة كالنسيم

تلك حياة الفراشة المشرقة

إنها لتحكي الرغبة: تمس كل شيء ولا تقع أبداً على شيء

ثم تعود أخيراً إلى السماء تنشد اللذة الفقيدة

حماة

(سوريا)

عارف قياسه

ص: 55

‌إحياء النحو

أهدى الأستاذ إبراهيم مصطفى أستاذ اللغة العربية بالجامعة المصرية كتابه النفيس (إحياء النحو) إلى صديقه الشاعر الراوية الأستاذ أحمد الزين، فأجابه الأستاذ على هديته الثمينة بهذه الأبيات:

// لَوْ كانَ عَصْرُكَ لِلمَواهِبِ مُنْصِفا

لَدَعَاك حَقَّا (سِيبوَيهِ مصطفى)

أَحْيَيْتَ للفُصْحَى لِساناً مُرْهَفاً

سَلَّت عليه الأَعْجَمِيَّةُ مُرْهَفَا

لَوْ عَاصَرَ الدُّؤَلِيَّ فَضْلُكَ لَمْ يكُنْ

لِلنَّحْوِ غيرُكَ وَاضِعاً ومُصَرِّفَا

شَرُفَتْ بِكَ العَرَبُ الكِرَامُ وَإنَّها

لَجَدِيرَةٌ بك أن تتِيهَ وتَشْرُفَا

أَلْقَتْ وَدِيعَتَها إليك فَصُنْتَها

لا وَانِياً عنها ولا مُتَكلِّفَا

للهِ سِفْرٌ أنت ناسِجُ وَشْيِهِ

أَزْرَى بما نَسَجَ الرَّبِيعُ مُفَوِّفَا

كَمْ مَذْهَبٍ في النَّحْوِ عادى مذهباً

فَجَرَى بَيَانُكَ في الْعُدَاةِ مُؤَلِّفَا

وَتَنكَّرَتْ سبل الهدَى فِيهِ إلى

أَنْ لَاحَ نُورُ حِجَاكَ فيهِ مُعَرِّفَا

أحمد الزين

ص: 56

‌القصص

من أساطير الإغريق

بومونا

للأستاذ دريني خشبة

عروس من عرائس الغاب يترقرق الجمال في إهابها الوردي وتلتمع في فمها الرقيق الخمري ثنايا من اللؤلؤ الرطب، وتبسم. . . فتثور من عينيها وشفتيها أسراب من النحل في قلوب العاشقين، تلسعهم، وتسقيهم رحيقاً!!

هي بدع من عرائس الغاب؛ فهي لا تغشى الأنهار تتلاعب في طيات أمواجها؛ وهي لا تحب البحر لا هادئاً ولا متمرداً؛ وهي تكره الغابة لأنها تعج بالأفاعي والوحوش، ومنظر هذه حين يساور أحدها الآخر يبعث في نفسها اشمئزازاً، ويثير فيها غضباً على الطبيعة الظالمة التي جعلت الضعيف فريسة للقوي يذله ويقتله. . . ثم يأكله

لذلك أولعت بومونا بالحقول الساكنة الهادئة، إلا من نشاط الحياة يسري فيها فتهتز وتربو، ثم تكتسي بالسندس، وتنضر بالزهر، وتطن بموسيقى اليعاسيب. . . وأولعت كذلك بالحدائق. . وقد غرست حديقتها على عُدْوَة النهر، وسوّجت عليها بسياج من شوك، ثم جعلت لها بوابة جميلة عرشت فوقها عساليج الشّبر والياسمين. . . وكانت تقضي في جُنينتها أكثر وقتها، ولو استطاعت لم تبرحها قط، لأن الزنبق الغض، والنسرين الجميل، وأكمام الورد، وهالات البنفسج، ونضرة الشقائق، وأرج التفاح، وعبق الرياحين، وشذى أزهار الخوخ العقيقية، وابتسامات الأقاح، ولآلئ الندى المبعثرة فوق العشب. . . كل هذا كان أحب إلى قلبها الخلي، ونفسها العزوف، من هؤلاء الناس، والآلهة، وأنصاف الآلهة، الذين كانوا ينتظرون أوبتها في المساء إلى دارها، فيقفون في طريقها، ليفوز من يفوز منهم بنظرة أو خطفة أو لمحة، يعود بعدها إلى منزله مصدع القلب، حائر الروح، خفق الأحشاء موهون القوى!

وكأيّن من قائل لآخر:

- أرأيت بومونا هذا المساء يا صاح؟

ص: 57

- الحُسّان المفتان! أجل والله. . . رأيتها، وأورثتني ألف حسرة يا صديقي!

- أوَ مشغوف أنت بها حباً؟

- ومنذ الذي لم تشغفه بومونا حباً، وقد تبلت قلوب الآلهة؟

- إني أغار من كلماتك أيها الصديق. . . فاقصر!

- وأنا أغار من غيرتك، فاذهب لطيتك!!

ويكاد أحدهما يحرق صاحبه بالشرر الذي ينقدح من أغوار قلبه. . . عن طريق عينيه. . . ثم يمضي كل في سبيله. وهكذا تعادى الناس في بومونا، وهكذا تنافس الجميع في حبها حتى الآلهة فلقد رآها أبوللو وجن بها جنوناً، ولقيها مارس وفتن بها فتوناً. . . ولكن العروس كانت لاهية عن الجميع، لا يتفتح قلبها لحب ولا يرق قلبها لشكاة القلب المغرم الصب؛ وكل ما كان يصبيها، ويشغل بالها، هو هذا الفردوس الحبيب، الذي لا يضايقها بكلمات الغزل، ولا يضجرها بالأنظار الجائعة؛ بل يحييها دائماً بالابتسامات البريئة وبالرّوْح والشذى

غير أن واحداً من عشاق بومونا كان يعدل لا حبه لها حب، ولا يسمو إلى افتتانه بها افتتان. . . فتى لمحها مرة تطوي الطريق قبيل الشروق إلى حديقتها، فوجده منجذباً إليها، مجنوناً بها، فتبعها، وجعل يقلب عينيه في مفاتن شعرها المتهدل فوق ظهرها وكتفيها، حتى ليكاد يقبل العقبين الرائعتين، اللتين أخذتا تعلوان وتهبطان على ثرى الطريق، كأنهما ختم الطبيعة في صك البكور أو زهرتان من اللوتس، ترشفان سلافة الندى. . . وكان جسمها الرخص يتأود كالخيزران، وساقاها الناصعتان المرمريتان تضيئان في غبشة الصبح، فتضرمان في قلب فرتمنوس نيران الحب، وتزلزلانه زلزالاً عظيماً

وعرف الفتى ميعادها، فكان يصحو مع الفجر، ويهرع إلى الطريق، ويلبث يعد الدقائق والثواني كأنها ساعات بل أيام بل دهور وآباد. . . حتى إذا أقبلت، شعر بقلبه يخفق، وأعصابه تذوب، وأحس كأنه خفّ على الأرض، وغدا طيفاً يوشك أن يسري مع نسيم الصباح الذي تنشقه بومونا. . . له الله! لكم منّى نفسه بقبلةٍ يطبعها على هذا الفم الشتيت تُذهِب حرّ قلبه وتشفي صدى روحه الظامئة المتعطشة، ولكنه كان يعود أدراجه كل صباح بعد أن يتأثر سالبة لبه، ولا لب له، ولا قلب معه، ولا مداوي لجراحات فؤاده إلا دموعه

ص: 58

يسكبها عبرة في إثر عبرة، وإلا آهاته يرسلها من أعماقه فتزيد فؤاده جراحاً!

وذوى فرتمنوس وذبل شبابه، وشَفّه الهم وأضوى جسمه الفكر، واستسلم لبكاء طويل يتعلل به، وغناء يشبه العويل، يرسله في نبرات تشبه الأنين، يضمنه بثه، وينظمه شكواه، ويلف فيها بقايا فؤاده المعذب، ويودعه النُّطَف الأخيرة من روحه الحيرانة، ويذهب به في الليلة المقمرة فتجتمع حوله الوحوش، وتسكر بموجع أنغامه الهوام، ويرقص من فوقه الشجر. . . ثم يبكي كل هؤلاء له. . . ويعود من حيث أتى!

ولقيته مرة فينوس فرقت له، ورثت لحاله، وراعها أن يلقى محب كل هذا العذاب، في هوى عروس غاب، فجلست إليه تسامره وترفه عنه

- أهكذا يقتل الناس الحب يا فرتمنوس؟

- إي وحقك يا ربة! لقد نال مني هواها، ولم أعد أفكر في أحد سواها!

- مسكين! وهل كلمتها قط؟

- مرة واحدة اجترأت أن أهتف باسمها، ولكنها أشاحت وأعرضت عني

- وفيم تطمع إذن؟

- أطمع في رضائها، وأطمع بعد ذلك في العيش في ظل حبها

- وإذا لم ترض؟

- سأعيش لحبها وآلامي! ولكن؟

- ولكن ماذا يا فرتمنوس؟

- ألا تساعدينني يا ربة الجمال؟ ألا تتفضلين فترققي قلبها عليّ؟

- عندي فكرة!

- أضرع إليك يا ربة!

- سأمنحك قدرة التشكل، وتستطيع أن تبدو في أي صورة شئت

وانحنت ربة الحب والجمال فتناولت من ماء الغدير قطرات، ثم نفثت فيهن وتمتمت بكلمات سحرية، ونظرت إلى الفتى في ظرف ودل، ونثرت الماء في وجهه

- والآن، فكر في أي صورة تنقلب إليها

وأخذ فرتمنوس يتقلب في صور شتى. . . وكلما حاول أن يرتد إلى صورته الأولى لم

ص: 59

يستطع، فتضاحكت فينوس وقالت له:

- فكر أيضاً في صورتك الأصلية قليلاً. . .

وسرعان أن عاد إليها. . . ثم ودعته ربة الجمال والحب وهي تقول له:

- تستطيع الآن أن تلقى بومونا، وسأرى ما يسوقك إليه ذكاؤك! ورفت فينوس فكانت في سماء الأولمب!

واستطاع فرتمنوس أن يدخل حديقة حبيبته في أي لحظة شاء. وكان يدخلها في صورة بلبل غرد، ما يزال يغني ويهتف حتى يلفت إليه أنظار بومونا وأسماعها؛ وكان يتبعها أينما ذهبت فيقف على أقرب شجرة، ثم يرسل أغاني الحب وأغاريد الغرام، فتنسكب في أذني عروس الغاب، فتقف لتسمع لحظة، ثم تأخذ في عملها كأنها لم تسمع شيئاً. . . فيتضايق الفتى، ويطير أسوان أسفاً. . .

واستمر على هذه الحال أشهراً، وكل يوم يمر يزداد بالعروس هياماً، ويفنى فيها حباً، حتى خيف عليه من المرض؛ وأحس هو أن ريب المنون يسري في عظامه، وبرد اليأس يوشك أن يوقف نبضات قلبه؛ ثم بدا له آخر الأمر أن يزور حبيبته في صورة أخرى تختلف عن تلك الصور البلبلية التي اعتاد أن تراه فيها، ثم عول هذه المرة - إذا لم يفز بحبيبته بومونا - على أن ينتحر تحت قدميها في صورة البلبل الحزين!

رأى أن يزورها في صورة عجوز شمطاء! ولم لا؟ أليس عجائز النساء أقدر على إيلاف قلوب العذارى من كل أحد غيرهن؟ أليس لهن حديث طلي يتصل من حيث ينقطع، ويتشقق عن كل خرافة حلوة وكلمة طيبة، وبأسلوب ظريف يشبه (تنميل) الخمر في أطراف السكارى؟!

وقف فرتمنوس في ظل أيكة باسقة نامية في منعرج قريب من حديقة بومونا، ثم طفق يفكر في صورة عجوز طيبة القلب، سمحة الملامح، وراح يتخيل شعرها الأشمط وذوائبها الخلس وغدائرها الزُّعر، ويديها عريَتي الأشاجع، وعينيها الغائرتين، وجبينها المجعد، ووجهها المعروق. . . فكان له كل ذلك، ثم كانت له هيبة ووقار وأسْر، في سكينة ودعةٍ وحسن سمت. . . وأضفى عليه حِبَرة سوداء فضفاضة، وجعل في قدميه خفين هرمتين، وفي يده عكازاً مقوساً ما أشبهه بصولجان الموت!

ص: 60

ثم جعل يدب في هيئته تلك، حتى كان لدى باب الحديقة فطرقه؛ وكانت بومونا تقطف الزهر وتضع منه باقات تقدمها لصويحباتها عرائس الغاب في مثل ذلك اليوم من كل أسبوع. . . فلما لمحت العجوز تتهالك على نفسها بباب حديقتها، أسرعت إليها وحيتها أحسن تحية وألطفها، ثم فتحت لها وأدخلتها، وكانت الخبيثة - أو كان الخبيث - تبالغ في إظهار الضعف وتعمُّل الإعياء، فكانت بومونا تسندها من هنا، وتشد أزرها من هناك. . . حتى وصلتا آخر الأمر إلى ضُلّة وارفة ذات أفياء، يعرش فوقها كرم نضير تدلى جناه الحلو الناضج، يغازل العيون والأحشاء؛ وأشارت العروس إلى العجوز كي تجلس على إحدى الأرائك التي صُفت عليها الوسائد والحُسْبانات ففعلت، ولكن. . .؟ بعد أن أخذت بفَوْدَي بومونا. . . وطبعت على ثغرها القبلة الأولى الحارة. . . قبلة الأماني والأحلام!!

لقد شُدهت بومونا من أسر هذه القبلة، لأنها من تلك القُبَل الفاترة الباردة التي تخرج من شفاه العجائز كزمهرير الشتاء، بل كانت قبلةً ناعمةً فيها خمر ولها حُمَيّا، وفيها شعر وموسيقى، وفيها روح وامقة صادية كانت تتردد على شفتي العجوز كأنما حاولت أن تلقي في صدر الفتاة بكل أسرارها!!

ولولا أنها كانت عجوزاً حَيْزَبوناً لعشقتها بومونا. . .

ووثبت الفتاة فقطفت عِزقاً من العنب وقدمته للضيفة العجوز. . . ولكنها بدلاً من أن تجدها تهش للثمر الجني الشهي وجدتها غائبة عن رشدها. . . أو. . . كالمغشي عليها! ترى! ماذا أصاب أخانا فرتمنوس المختبئ في جلد هذه العجوز؟! آه! مسكين! إنه لم يكد يفيق من سحر القبلة، حتى رفع بصره إلى بومونا، فشهد العجب العاجب، والجمال النادر، والحسن الباهر، والرونق والبهاء والرواء!! لقد شهد الساقين الجميلتين والقدمين الصغيرتين وشهد الركبتين الرائعتين الملتفتين. . . وقليلاً من الفخذين اللجينيتين. . . فاستطير لبه، وصبا قلبه، وشردت أفكاره، وغشي عليه؟!

ولما أفاق - أو أفاقت العجوز - سألتها ماذا أصابها، فشكت وطأة السنين وضعف البدن، وتهافت أعضائها من الكبر؛ ثم شكرت لها عِزق العنب، وأخذت في أكل حباته، وهي تخالس العروس النظرات. . . ثم نظرت إلى الكرم العارش فوقهما، وأرسلت من أعماقها آهة طويلة حامية، ثم قالت تحدث الفتاة:

ص: 61

- أرأيت يا حبيبتي (!) لو نما هذا الكرم على الأرض من غير أن يحمله هذا العريش، هل كان يُؤتي أُكله، ويحلو عنبه كما هو حلو هكذا؟

- كلا يا أماه! هذا شيء بدهي!

- تعنين أن الكرم لا يستغني عن هذا العريش!؟

- طبعاً!

- ولا غناء للعريش من غير كرم!

- لا يكون منظره جميلاً رائعاً كما يكون ومن فوقه الكرم!

- عجباً لكن والله يا عذارى!! تعرفن ذلك، ولا تفكرن في عطلكن!!

- أوَ عاطل أنا يا أماه؟ ماذا تقولين!

- عفواً يا ابنتي. . . فإن لك ألف حلية من جمالك الذي لا جمال مثله. . . إنما قصدت أنكن تزهدن دائماً في أن يكون لكُن أزواج كما لهذا الكرم عريش. . . لاسيما أنت يا صغيرتي بومونا إني أعرف أن كل شباب المدينة مولعون بك، وكل أمراء النواحي متيمون في هواك؛ وأعرف أيضاً أن منهم من يتعذب بالليل، ويذل بالنهار، لأنك ترفضين أن تمنحيه نظرة حين يلقاك في الطريق، وقد وقف لهذا اللقاء ساعات وساعات. . . بل أعلم يا أجمل عرائس الغاب أنك قد برزت هيلين الهيفاء، وبنلوب اللعوب في كثرة العشاق الذين يعبدون جمالك، وتخبت قلوبهم لحسنك، وتتصدع صدورهم من هول ما تهجرين وتصدين. ماذا؟ لم يا بُنيَّتي لا تختارين لنفسك من بينهم كفءً يقاسمك هذه الحياة وتقاسمينه، ويشركك في هذه الحديقة الفيحاء وتشركينه، ويبسم لك وتبسمين، ويواسيك وتواسين؟ ما غايتك من هذه الوحدة، وأنت بها في منفى، ولو أينعت حولك ألف ألف بنفسجة، ومثلها من الورود والرياحين؟ وهذا الفتى المسكين الذي اسمه. . . اسمه. . . اسمه ماذا؟ آه! فرتمنوس! ذكرت أني سمعت أنه يحبك حباً أورثه السهد، وأولاه الضنى، حتى لم يبق منه هواك إلا حشاشة تترقرق دموعاً في عينيه، وتتأجج نيراناً في صدره. . . لم لا ترحمينه يا بومونا؟ لم لا ترثين له يا أجمل عرائس الغاب؟ إنه ليس إلهاً ولا نصف إله، ولكنه خليق بحبك جدير بأن تكوني له من دون العالمين، لأنه مغرم بك أكثر من كل عشاقك؛ وهو ليس كجميع العشاق، لأنه لم يحببك إلا عن بصر بك، وتقدير لحسنك، ولأن عشاق هذا الزمان

ص: 62

مفاليك لا ألباب لهم، فهم ينظرون النظرة فتهيج شياطين الهوى في صدورهم، ثم ينظرون النظرة إلى حسناء أخرى فتنجذب شياطينهم إليها، فإذا لقيتهم ثالثة لم تأب تلك الشياطين أن تتصرع تحت قدميها. . . أما فرتمنوس، فقد أحبك ولم يشرك حسناء في هواك، لأنه لا يرى لك في قلبه شريكة تسمو إلى إخمصيك. . . ارحميه يا بومونا، اعطفي عليه، وانظريه كأنه يتوسل إليك بلساني، ويشكو لك بثه بعيني (!). . . ألا تخافين أن تقتص له فينوس منك؟ ألا تعلمين أنها تتأثر للعشاق من كل حبيبة قاسية القلب؟ ألم تعرفي ما صنعت بالقاسية أنَاْجزَرْتيه؟

- ومن أناجزرتيه يا أماه؟ وما قصتها؟

- ألا تعرفينها؟ ولا تعرفين مأساة الفتى إيفيس؟

- وما مأساة إيفيس؟ قصيها عليّ بالله عليك!

(لقد كان إيفيس فتى جميل المحيا وضاء الجبين، ولكنه كان من صميم الشعب؛ وكانت أناجزرتيه من بنات الأعيان الموسرين. . . وكانت بينهما من أجل ذلك هوة سحيقة لم تمنع إيفيس من حب الفتاة لدرجة الجنون. وكان كلما لقيها غشيه من الغرام ما لو حمله جبل لناء به، ولكن الفتاة كانت تعرض عنه ونزْوَرّ، وتطوي الطريق عجلاته إلى قصرها الباذخ المنيف ذي الشرفات. . . وكان الفتى يتبعها بقلب وامق متصدع ولكنها كانت تدخل من باب الحديقة الحديدي ثم توصده من دونه، فيقف ثمة يتزود منها نظرات الموجع اللهفان من خلل القضبان، ثم يذرف دموعه، وينثني إلى داره، وليس في قلبه إلا حبها مع ذاك، ولا في عينيه الباكيتين إلا صورتها! وطالما كان يهب من نومه في جنح الليل فيطوي الطريق مُفَزَّعاً، حتى إذا كان لدى البوابة الحديدية وقف عندها، وعانق قضبانها، وبكى ما شاءت الآلهة، وتغنى آلامه وغرامه، ثم ارتد وقد تضاعف وجده، وازدادت صبوته. . . وكم ذا رأته أناجزرتيه فكانت تحقره وتسخر منه، بل كانت لا تعفيه من كلمة قارصة، أو غمزة تهكم واستهزاء، ولم يشفع لديها ما قاله مرة لمرضعها العجوز وما بث من شكاة، بل زادها ذلك قسوة وعناداً. . . ولما جد به الجد، ولم يكن بد مما ليس منه بد، ذهب إليها في ضحوة ضاحكة من ضحوات الربيع، ثم تعلق بالبوابة، وكانت حبيبته ترتع وتلعب في حديقة القصر، فهتف بها وقال: (أيتها القاسية أناجزرتيه اسمعي! لقد قهرت قلبي وغزوت نفسي

ص: 63

وتم لك النصر! فهنيئاً لك! تَغَنّي أناشيد الفرح واللذة الصارمة لأنك قتلت إيفيس! اعقدي فوق هامتك إكليل الغار لأنك أذللت قلبه العزيز، ومرغت في التراب روحه العالية. . . ولكن أصغي إليّ يا متحجرة القلب. . . لقد عولت على أن أشرب كأس المنون، ولكني آثرت أن أشربها أمامك إن لم يكن بين يديك، لتتلذذ عيناك بهذا المنظر الموجع الأخير، وليبتهج قلبك بآخر صورة من صور انتصاراتك عليّ. . . بيد أني أهتف بك يا آلهة السموات أن تثأري لي، وأن تجعلي لي ذكراً في قصص المحبين يتناقله الخلف عن السلف، ويتذاكره الناس في طويل العصور والآباد. . .) وكانت السماء كلها تصغي لما يقول إفيس فلبّت واستجابت. . . وكان قد ربط حبل مشنقته في قضبان البوابة، وجعل أنشوطتها في عنقه، فلما انتهى من مقالته ألقى بنفسه. . . وقبضت روحه! ولم تتحرك أناجزرتيه مع ذاك، بل أرسلت خدمها الذين نقلوا الجثة إلى أم الفتى وهم يبكون ويضجون. . . وصرخت الأم المفجوعة وولولت على وحيدها، ثم حمل الجثمان في إران إلى المقابر، ومر الموكب الحزين من الشارع الذي فيه قصر الفتاة القاسية، فصعدت لتنظر إليه، ولكنها ما كادت ترى إلى الجثة مسجاة في النعش حتى تثلجت عيناها، ثم استحالتا إلى رخام بارد. . . وروعت لما أصابها، وأرادت أن ترجع قليلاً، ولكنها لم تستطع لأن الرخام سرى في قدميها أيضاً. . . ثم في ساقيها. . . ثم في ذراعيها. . . ثم في جميع جسمها. . . أما قلبها، فقد كان رخاماً منذ زمن بعيد. . . وكذلك تحولت أناجزرتيه إلى تمثال ما يزال محفوظاً في متحف فينوس بسلاميس. . . عظة وذكرى. . .)

وكأنما عملت القصة عملها في نفس بومونا. . . فانذرفت من عينيها الحزينتين عبرتان حارّتان. . . ونظرت لترى إلى العجوز. . . ولكن. . . لقد كان فرتمنوس العاشق الحزين الجميل القوي يجلس مكانها، ويأخذ برأس الفتاة على صدره. . . فقالت له:

- من أنت أيها الفتى؟

- أنا. . .

وانفجر في بكاء شديد وقال:

- حبيبك فرتمنوس يا بومونا. . .

فقالت: أهو أنت؟

ص: 64

وتبادلا قبلات أشهى من الشهد، وأشد أسراً من الخمر. . .

دريني خشبة

ص: 65

‌البريد الأدبي

معرض عظيم للحضارة الرومانية

احتفل أخيراً في رومة بافتتاح معرض عظيم إحياء لذكرى الإمبراطور أوغسطوس (أوكتافيوس) منشئ الإمبراطورية الرومانية، وذلك لمناسبة انقضاء ألفي عام على وفاته، وسيبقى المعرض مفتوحاً مدى عام كامل؛ وقد جمعت جميع الآثار والتحف الفنية المتعلقة بالإمبراطور أوغسطوس وعصره وأصلحت، وأقيمت في مواقع مناسبة، وساهمت في ذلك العمل العلمي الجليل جميع المتاحف الإيطالية، ومعظم المتاحف الخارجية التي تحتفظ بآثار من عصر أوغسطوس، وفي مقدمتها المتحف البريطاني؛ وأصلح أثر أوغسطوس العظيم في رومة وهو (الأوغسطيو) أو قبر أوغسطوس الذي يضم رفاته ورفات زوجه وأخته وبعض خلفائه، وغدا أعظم مناظر هذا المعرض. وقد استغرق العمل لإعداد هذا المعرض العظيم خمسة أعوام، وأشرف على تنظيمه من الناحية العلمية العلامة الأثري الأستاذ جليو جليولي، وبذل جهوداً عظيمة ليحقق أمنية (الدوتشي) في أن يكون المعرض صورة عظيمة خالدة من الحضارة الرومانية؛ وقسم المعرض إلى خمسين قسماً، وجمع فيه نحو ثلاثة آلاف تمثال وصورة ونقش من آثار العصر، ومائتي نموذج تمثل الأثاث الروماني، ومجموعات كثيرة من الأنواط والنقود الرومانية؛ والمقصود أن تقدم هذه الأقسام المختلفة صورة بارزة من الحياة الرومانية في مختلف نواحيها، من الأسرة والحياة الخاصة إلى الدولة والحياة العامة، والجيش والبحرية والتجارة والصناعة والزراعة والعلوم والفنون. وقد أقيم نموذج كامل لمنزل روماني في هذا العصر، مؤثث بنماذج من أثاث العصر وحفل القسم الحربي بنماذج من السلاح والعدد المعاصرة؛ وأفرد قسم خاص للدين جمعت فيه تماثيل الآلهة الرومانية، وآلهة الأمم التي كانت خاضعة للدولة الرومانية؛ وللنصرانية قسم خاص بها جمعت به نماذج وتماثيل تمثل حياة المسيح والرسل والشهداء حتى عصر قسطنطين، هذا وستلقى خلال العام الذي يقوم فيه المعرض سلسلة قيمة من المحاضرات العلمية والأثرية عن الإمبراطورية الرومانية وعصر أوغسطوس والحضارة الرومانية، ويشترك في إلقائها أعظم الأساتذة الإيطاليين

ولما كانت إيطاليا الفاشية تضطرم اليوم بروح إمبراطورية فهي تريد أن تحيي مناظر

ص: 66

رومة الإمبراطورية؛ وقد عمل السنيور موسوليني كثيراً في هذا السبيل، وبذل عناية خاصة لتجميل رومة، وإقامة الأبنية الجديدة الضخمة، وشق الشوارع العظيمة وإصلاح الآثار والهياكل والقناطر الرومانية القديمة، وإعادة كثير من الأسماء اللاتينية؛ وشجع السنيور موسوليني أيضاً كل الأبحاث الأثرية والعلمية المتعلقة برومة القديمة وحضارتها، وصهرت في هذا الباب في الأعوام الأخيرة كتب ومباحث قيمة وقد كان عصر الإمبراطور أوغسطوس أعظم عصور رومة، وكانت رومة في عصره حاضرة العالم السياسية والفكرية، وكانت ملاذ العلوم والآداب، فلا غرو أن تتخذ إيطاليا الفاشية عصره رمزاً للعظمة الرومانية وأن تعمل لإحياء ذكراه بكل ما وسعت من حماسة وتكريم

ضوء جديد على تطور الأجناس

اشتهر العلامة الإنكليزي السير جيمس فرازر منذ ربع قرن بمباحثه ونظرياته عن تطور الأجناس البشرية، وله مؤلف جليل كبير في هذا الفن عنوانه ولكن نظريات الأجناس البشرية تطورت في العصر الأخير تطوراً عظيماً، واستطاع السير فرازر أن يخرج من دراساته ومباحثه المختلفة في هذا الميدان بنظريات جديدة يضمنها اليوم مؤلفاً جديداً تحت عنوان وهذا المؤلف الجديد يعتبر في بابه مجهوداً بديعاً سواء من حيث الوضوح في عرض الآراء والنظريات، ومن حيث الدقة العلمية والفنية. وللسير فرازر ثلاث نظريات شهيرة في تطور الأنواع البشرية ومؤثراتها تتلخص فيما يأتي: الأولى نظرية الروح الخارجية، والثانية نظرية الرسوم السحرية التي تجري لزيادة محصول الغذاء، والثالثة نظرية التجاذب غير الزوجي لإنتاج النوع البشري. والسير فرازر يلقي ضوءاً جديداً على هذه النظريات، وعلى تفاعلها في تطور الأجناس، وهو لا زال على رأيه القديم من أن الإنسان الأول كان يعمل عامداً لاجتناب مساوئ الازدواج وأن الإنسان المتوحش له آراء معينة في ضرورة الزواج، ويلجأ السير فرازر في التدليل على نظرياته إلى العوامل الجغرافية، ويقول لنا إن الشعوب المتجاورة تمكن المقارنة بينها، ويمكن تقدير الظروف التي أثرت فيها نظم كل في الآخر. وهو لا يسلم بالرأي الحديث القائل بأن التفاعل الثقافي بين الأمم أشد تأثيراً في تطورها من الاختراع المستقل. ومن رأيه أنه مع التسليم بأهمية الصفات الفردية أو صفات الجماعات، ومع التسليم بأن الإنسان يستطيع الاضطلاع بمقدار

ص: 67

من الاختراع المستقل، فإن الأمم مدينة في تطورها على الأغلب إلى عامل التقليد؛ ولنا في اللغات القومية المختلفة أكبر شاهد على ذلك

ويرى العلامة فرازر في أوستراليا أصلح معهد لدراسة التطورات البشرية، ففي هذه القارة الساذجة لا تزال تمثل عادات الإنسان الأول والعصر الحجري، وهي العادات التي عرفتها أوربا وعرفها العالم قبل فجر التاريخ؛ كذلك في جزر المحيط والهند وأفريقية وأمريكا لا تزال تمثل آثار بارزة من ذلك العهد الذي هو أول عهد لتطور النوع الإنساني

تمثال لبلزاك

لم يحظ الكاتب الأشهر أنوريه دي بلزاك كمعظم الكتاب الأعلام من معاصرين ولاحقين بتمثال يخلد ذكره في باريس، تلك العاصمة العظيمة التي أحبها وخلد حياتها الاجتماعية في أوائل القرن الماضي في كتبه ورواياته. وكان المثال رودان قد تقدم منذ سنة 1898 بنموذج برونزي لتمثال لبلزاك ولكنه رفض يومئذ. وأثار رفضه جدلاً عظيماً في الصحف والدوائر الأدبية، ومنذ العام الماضي تألفت في باريس جمعية كبيرة تضم نحو خمسمائة من أقطاب الأدباء والعلوم والفنون لتقوم ببذل المساعي اللازمة لإقامة تمثال لبلزاك من أصل نموذج رودان، وبالفعل استطاعت أن تحصل على موافقة مجلس بلدية مدينة باريس على أن تعين بذاتها ميداناً يصلح لإقامة تمثال الكاتب الكبير، ثم اقترحت أن يكون هذا الميدان هو شارعي ملتقى بومبارناس وراسباي وهما في أعظم شوارع باريس. وسيعرض نموذج رودان أولاً في بهو الفنون الجميلة، ثم يصنع تمثال لبلزاك على نمطه، ويقام بعدئذ في الميدان المذكور، وبذلك يحظى بلزاك بتمثاله بعد مضي أكثر من ثمانين عاماً على وفاته، وتزدان العاصمة الكبيرة بتمثال كاتبها العظيم

أفريقية مستودع الماس

كان المعروف حتى الآن أن إقليم الترنسفال وناتال في جنوب أفريقية يضم أعظم مناجم للماس في العالم، ولكن المباحث الأخيرة دلت على أن مستعمرة (سيراليوني) البريطانية في غرب أفريقية قد تصبح في المستقبل القريب مورداً من أعظم موارد الماس في العالم. ففي سنة 1930 عثر المستر بوليت أحد مندوبي القسم الجيولوجي على قطعة كبيرة من الماس

ص: 68

في إحدى بقاع المستعمرة؛ فاهتم المعهد الإمبراطوري بالأمر، وأجريت في هذه البقعة مباحث فنية أسفرت عن نجاح مدهش إذ بلغ المستخرج من الماس من هذا المنجم الجديد في سنة 1936 أكثر من نصف مليون جنيه. والمنجم الآن في يد إحدى شركات الماس الكبيرة تستغله طبقاً للامتياز الممنوح لها في مساحة تقدر بنحو أربعة آلاف ميل في شرق سيراليوني.

ويقول مستر بوليت مكتشف المنجم إن أصناف الماس التي استخرجت تضم جميع الأنواع المعروفة من الأنواع الرديئة إلى أثمن وأبدع الأنواع، وقد استخرج المنقبون ذات مرة ياردة مربعة فقط نحو مائتين وخمسين قيراطاً من الماس، وهي نسبة مدهشة. وتزن القطع المستخرجة عادة من 12 إلى 144 قيراطاً، وقد وقع المنقبون ذات مرة على قطعة زنتها 78 قيراطاً من أفخر أنواع الجواهر وبلغت قيمتها نحو خمسة آلاف جنيه. والمنظور أن يكون لهذه المناجم الجديدة في المستقبل القريب شأن عظيم في إنتاج الماس، وربما غدت مثل مناجم الترنسفال مورداً من أعظم موارد الماس في العالم.

ذريعة وباريكاد

الذريعة لغةً الوسيلة. يقال فلان ذريعتي بمعنى وسيلتي. والذريعة أيضاً عند العرب الناقة التي كانوا يختفون وراء جنبها لصيد الحيوانات المفترسة. كان الصياد يعين الموضع الذي ربما تأتي منه الفريسة، فينيخ ناقته في مكان قصيّ ويختفي وراء جنبها حتى تأتي وتهجم على الناقة. فإذا دنت منها صوّب الصياد نبلته إليها فيصيبها

فاختفاء الصياد وراء جنب الناقة للوقاية من هجوم الوحش وانتظاره إياه في شيء من الأمن ومحاربته عن بعد، ثم هجوم الحيوان الوحشي على الناقة وتعرضه للخطر الكامن وراءها وهي رابضة، ينبهنا إلى حيلة من حيل الإفرنج في حروبهم الداخلية إذ يسدون الطرق بأكداس من أثاث بيوتهم كموائد ومقاعد تحول بين ناصبي الحيلة وبنادق أعدائهم فيطلقون على تلك الأكداس الواقية لفظة (برِّكاد) وإقامة الأكداس لها عبارة مشهورة وهي

فهل من الجائز ترجمة اللفظة الفرنسية (بركاد) بلفظة (ذريعة) وعبارة بعبارة (نصبوا الذرائع؟)

ص: 69

فإلى أرباب اللغة وحماتها أوجه هذا السؤال راجياً الجواب عنه على صفحات الرسالة الغراء ولهم جزيل الشكر

احمد العربي

طالب بكلية الآداب بباريس

الصلات الثقافية بين مصر وجاراتها الشرقية

دأبت وزارة المعارف المصرية في السنوات الأخيرة على تقديم المساعدة إلى جاراتنا الشرقية، رغبة في توسيع الثقافة المصرية

وقد عاونت وزارة المعارف المدارس الحجازية في العام الدراسي الماضي، إذ مدت بعض مدارسها بمدرسين مصريين أكفاء على نفقتها الخاصة

وقد تلقت الوزارة نبأ من جدة جاء فيه إن إحدى المدارس الأهلية تلقى ضيقاً مالياً، وأن بها مدرسين مصريين يقومان منذ أمد غير قريب بالتدريس فيها وأن المدرسة تطلب إلى وزارة المعارف المساهمة في دفع نصيب من مرتبيهما

وقد أصدر معالي وزير المعارف قراراً بإعانة هذين المدرسين رغبة من الوزارة في السير على خطتها المرسومة

تصويب

جاء في قطعة (الدمام) في العدد (224) في الصفحة (1694) في السطر (19): (زير الغواني) بفتحة على الياء، وهذا تطبيع، وفي مثل هذه الكلمة (الغواني) تقدر الحركة في حالتي الرفع والجر، وتظهر في حالة النصب، وهي هنا مجرورة بالإضافة

(ن)

ص: 70

‌الكتب

أخبار أبي تمام للصولي

لأستاذ جليل

حبيب الطائي، أو أبو تمّام، أو أبو التَّمَام، أو ملك القريض الأول - والملك الثاني هو المتنبي، والبحتري نائب ملك ثم أمراء (كبار وصغار) ووزراء، والمعري شيخ إسلام، وبن الرومي إمام (خليفة) خوارج، وقواد وعمال ولايات (ولاة) ورعايا وجنود وقَدِيديون، ولا ملك ثالث في المملكة - حبيب هذا شاعر عبقري أيّ شاعر، ومنزلته هي منزلته، وشعره هو شعره، فما تقريظ أو تقحيم بنافعه، ولا تعييب بضاره؛ إنه الشاعر ذو العبقرية والإبداع، وإنه في سماء القريض الشمس ذات الضياء الباهر والإشعاع؛ وقد كان الشعر قبل أبي تمام تجربةً وتمريناً، ومقدمةً وتمهيداً؛ وكان كلاماً، ثم جاء بن أوس وبن الحسين فقالا - وغيرهما مثلهما لا يقول -:(لأبي تمام استخراجات لطيفة، ومعان طريفة لا يقول مثلها البحتري)(نحسن أن نقول ولكن مثل هذا - مثل قول المتنبي - لا نقول)

وإن الباعث اليوم على هذا القول هو كتاب في أخبار (الحبيب) ظهر، وهو كتاب:(أخبار أبي تمام) تأليف أبي بكر محمد بن يحيى الصولي

وكتاب يصنفه إمام الأدباء وسيد الظرفاء أبو بكر الصولي طرفة تحفة دونها كل طرفة. وقد أبى الله أن يضام هذا الكتاب (كما ضيم من قبلُ ديوان هذا الشاعر بتلك الطبعات المخزيات المحرفات. . .) فسخر له أدباء مهذبين مثقفين ثلاثة، وهم (خليل محمود عساكر، ومحمد عبده عزام، ونظير الإسلام الهندي) - أبٌ وابنٌ وروحُ قُدُس كما تقول النصارى - فحققوه أبلغ تحقيق راجعين في كل مشكلة إلى الأساتذة الأجلاء: (الأستاذ احمد أمين، والدكتور طه حسين، والأستاذ أمين الخولي، والدكتور كراوس، والأستاذ إبراهيم مصطفى) وطبعته (لجنة التأليف والترجمة والنشر) في مصر أكمل طبع، واختارت له الكاغد الجيد

طالعت هذا الكتاب فألفيت الصولي قد سطر فيه من أخبار أبي تمام ما لم نره في تصنيف من كتب الأدب قبله، وروى أقوالاً لأئمة كبار في هذا الشاعر لم يطرفنا إياها غيره، وهي تعالن معالنة بعبقرية (الطائي الأكبر) وعلو منزلته. (قال عمارة بن عقيل: لقد عصفت رائية طائيكم هذا بكل شعر في لحنها. لله دره! لقد وجد ما أضلته الشعراء حتى كأنه كان

ص: 71

مخبوءاً له). و (قال الحسن بن وهب: وأما الشعر فلا أعرف مع كثرة مدحي له وشغفي به في قديمه ولا في حديثه - أحسن من قول أبي تمام في المعتصم بالله، ولا أبدع معانيَ، ولا أكمل مدحاً، ولا أعذب لفظاً؛ ثم أنشد (البائية العبقرية) ثم قال: هل وقع في لفظة من هذا الشعر خلل؟ كان يمر للقدماء بيتان يستحسنان في قصيدة فيجلون بذلك، وهذا كله بديع جيد) وللقصيدة واحد وسبعون بيتاً. وأما رسالة الصولي إلى مزاحم بن فاتك في أول الكتاب فهي كتاب وحدها، على حدة. وقد أملتها البلاغة الصولية الطلّة العذبة العربية، وفيها العلم والنّصَفة

وفي (أخبار أبي تمام) أشياء هينة الخطب أذكرها ليهتم بها في الطبعة الثانية بعد مدة قريبة إن شاء الله:

ففي الصفحة (56) في السطر (5): (خفت إعراضك) وفي الحاشية: (في الأصل: خفت غرضك، ولعل الصواب ما أثبتناه) قلت: الأصل (غرضك) هو الصحيح، والغرض الملل والضجر، وجملة (كرهت إملالك) بعدها - تحقّ ذلك. والصولي لم يخف إعراض صاحبه لكنه خاف - إذ طوّل كما حسب - ضجره، والغرض الضجر

وفي الصفحة (89) السطر (8)(وأرعف كلَّ ذي قلم خيانته) فهل أرعف هي أزعف (بالزاي) أو أزعفت أي أهلكت قتلت قتلاً سريعاً؟

وفي الصفحات (218)(223)(244): (كالمعائب، من معائب، المخائل) بالهمز، وهي بالياء في المعايب والمخايل، والقاعدة الصرفية معروفة

وفي الصفحة (123) في السطر (12)

وفوّارة ثأرها في السما

ء فليست تقصر عن ثارها

جاءت الهمزة في أول عجز البيت وهي من ملك الصدر في عروضه (في السماء) والبحر من المتقارب والقبض في عروضه كثيرة بل هو عند بعضهم أحسن من التمام

وفي الصفحة (150):

سقى عهدَ الحمىَ سَبَلُ العهادِ

ورَوَّض حاضر منه وبادي

كتبت (روَّض) بالبناء لما سمي فاعله وهي بالبناء لما لم يسمَّ فاعله. ولو أراد أبو تمام الأول لقال: (أروض) وروّض الغيث الأرض: جعلها روضة، وأروضت الأرض ألبسها

ص: 72

النبات، أو كثرت رياضها

وفي الصفحة (217)

نجمان شاء الله ألاّ يطلعا

إلا ارتداد الطرف حتى يَأْفلا

جاءت (يأفلا) بالهمز وهي في البيت مخففة لأن الألف ألف التأسيس

وفي الصفحة (230)

فلعل عينك أن تعين بمائها

والدمع منه خاذل ومواسي

رويت (مواسي) بالواو، وواساه لغة ضعيفة أو رديئة كما في (الصحاح والتاج) لآساه

وفي الصفحة (235)

(عربي عربياجإيّ ماترام) اجإي بهذه الصورة:

أجئي - أقعد وإن لم تكن للهمزة قاعدة نحوية مضبوطة مجمع عليها حتى اليوم

وفي الصفحة (238) السطر (9):

(هيّجتَ مني شاعراً أَرَبّا) وفي الحاشية: (أرب: أقام بالمكان أو زاد) قلت: ليس للأرب قبلة (جهة صحة) يتوجه إليها معنى، فهي (الأزبّ) بالزاي أي المنكر الداهي، والأزب من أسماء الشياطين كما في (التاج) وأصل الأزب الكثير الشعر وكذلك أصل الزباء وهي من الدواهي الشديدة، ومثلها الشعراء وفي (مجمع الأمثال): جاء بالشعراء والزباء أي بالداهية الدهياء

هذه هي الأشياء القليلة في الكتاب وهو (340) صفحة. وإذا عرفت أن هناك مصنفاً ضبطه أديب مشهور، له صيت، وطبعته مطبعة، فصادف فيه ناقده قرابة ألف غلطة - أعوذ بالله من ذلك!! - تجلت لك فضيلة هذا الكتاب: أخبار أبي تمام أو أبي التّمام والسلام

(قارئ)

ص: 73

‌رسالة النقد

النحو والنحاة

بين الأزهر والجامعة

للأستاذ محمد عرفة

كتاب ألفه الأستاذ محمد عرفة المدرس بكلية اللغة العربية في مناقشة كتاب (إحياء النحو) للأستاذ إبراهيم مصطفى المدرس بكلية الآداب. وقد بحث الكتاب فيما أشكل من مسائل النحو وأبهم من علله وأسبابه

وقد أراد مؤلفه أن ينشر منه فصل معاني الإعراب بمناسبة ما دار في الرسالة من جدل حول معاني الإعراب

معاني الإعراب

يرى مؤلف (إحياء النحو) أن بينه وبين من تقدمه من النحاة خلافاً في حركات الإعراب؛ فهم يرون أن هذه الحركات اجتلبها العامل وليست تدل على شيء من المعاني؛ فالإعراب حكم لفظي خالص يتبع لفظ العامل وأثره، وليس في علاماته إشارة إلى معنى ولا أثر لها في تصوير المفهوم

أما هو فيرى أن حركات الإعراب دالة على معان، وأنه قد استكشف أصلاً عظيماً وهو أن من أصول العربية الدلالة بالحركات على المعاني وأنه رأى أن الضمة علم الإسناد وأن الكسرة علم الإضافة، وأما الفتحة فهي الحركة الخفيفة عند العرب يلجئون إليها إذا لم تكن بهم حاجة إلى أن يبينوا أن الكلمة مسند إليها أو مضافة. انظر كتاب إحياء النحو ص22 و41 و48 و194 تر المؤلف قد وضح طريقه وهو أن المتقدمين جعلوا الإعراب حكماً لفظياً، وأن علاماته لا تدل على معنى، وأنه قد هدى إلى معان لعلامات الإعراب خفيت على النحويين. وهذا عمل جليل وابتكار وإبداع لو تم له

ومشايعة المؤلف على هذا الرأي ظلم عظيم للنحاة المتقدمين منهم والمتأخرين؛ وإن من غمط النحاة حقهم، ومن ظلم تاريخ النحو أن ننسب إلى النحاة أنهم كانوا يرون أن علامات الإعراب لا تدل على معنى ولا تؤثر في تصوير المفهوم. وإننا إذا شايعنا المؤلف على هذه

ص: 74

الفكرة رأى سكان الأقطار العربية ومن يأتون بعدنا أننا لم نفهم النحو، وأن مصر تدرس النحو وتقرأه في كتب المتقدمين والمتأخرين ولا تفهم أقوالهم الواضحة فتعزو إليهم ما لم يقولوه

وأنا أبادر إلى بيان رأي النحاة في علامات الإعراب وأقرر أنهم جميعاً - لا مستثنياً أحداً - يرون أن الحركات علامات على معان تركيبية؛ وأنهم قرروا أن الضمة علم الفاعلية، وأن الفتحة علم المفعولية، وأن الجر علم الإضافة، وأنه لا فرق بين ما ذهب إليه الأستاذ من أن الحركات أعلام على معان، وما ذهب إليه النحاة. وأنا أؤكد للأستاذ المؤلف أنه ما من نحوي واحد ذهب إلى أن الإعراب حكم لفظي خالص وليس في علاماته إشارة إلى معنى ولا أثر في تصوير المفهوم، وأنى أتحدى - وأنا أقصد ما أقول - من يخالفني أن يقيم الدليل على ما يقول

إن علماء النحو جميعاً يرون أن الحركات دوال على معان وقد صرحوا به تصريحاً جلياً

أليسوا قد ذكروا في سبب وضع النحو أن أبا الأسود الدؤلي سمع قارئاً يقرأ (إن الله برئ من المشركين ورسوله) بالجر فقال: معاذ الله أن يكون بريئاً من رسوله. اقرأ (إن الله برئ من المشركين ورسوله) بالرفع؛ فالكلام واحد ولم يتغير فيه إلا حركة اللام، فإذا حركت بالجر أدى إلى كفر، وإذا حركت بالرفع أدى إلى معنى مستقيم لا كفر فيه. فهل كانوا يرون ذلك وهم يرون أن حركات الإعراب لا تدل على معنى ولا أثر فيها لتصوير المفهوم؟

أليسوا يذكرون أن أبا الأسود سألته ابنته: ما أحسن السماء يا أبت (برفع أحسن وجر السماء) فقال: نجومها. فقالت: لا أريد هذا أنا أتعجب من حسنها. فقال: ما هكذا تقولين، قولي ما أحسن السماء (بفتح أحسن ونصب السماء) هل كانوا يحكون هذا ويتداولونه في كتبهم وهم يرون أن الحركات لا تدل على معنى في لغة العرب؟

أليسوا قد عرفوا العامل بأنه ما به يتقوم المعنى المقتضى للإعراب؟ أليس ما حكوه من قول بن مالك:

ورفع مفعول به لا يتلبس

ونصب فضلة أجز ولا تقس

كان كافياً لأن ينبه المؤلف إلى أنهم يعتقدون أن علامات الإعراب دوال على المعاني؟ فالبيت معناه أن الرفع علامة الفاعلية والنصب علامة المفعولية؛ فإن كان هناك موضع

ص: 75

تميز فيه الفاعل عن المفعول بغير العلامة فأعط كل واحد منهما علامة الآخر مادام لا يلتبس ككسر الزجاجُ الحجرَ فإنه معلوم هنا الكاسر من المكسور. أليسوا قد ذكروا أن الأصل في الأسماء الإعراب وعللوا ذلك بأنها هي التي تتعاور عليها المعاني المقتضية للإعراب كالفاعلية والمفعولية الخ؟ أليسوا عند تفسير القرآن أو الشعر يعربونه أولاً ثم ينزلون المعنى على حسب هذا الإعراب ويعربونه إعراباً آخر فينتظم نظاماً آخر ثم ينزلون المعنى على حسب هذا النظم؟

وذلك كقوله (إنما يخشى الله من عباده العلماء) بالنصب، والمعنى عليه أن الذين يخشون الله هم العلماء، وعلى القراءة التي ترفع لفظ الجلالة وتنصب العلماء يكون المعنى لا يخشى الله أحداً إلا العلماء

إن النحو كله مبني على أن حركات الإعراب دوال على معان تركيبية مقصودة من الكلام، ومن لم يفهم هذا الأصل لم يقدر أن يفهم علم النحو ولا آراء المفسرين ولا آراء علماء العربية في تفسير الشواهد والقصائد من الشعر

فإذا لم يقنعك هذا دليلاً على أن علماء النحو يعتقدون أن علامات الإعراب دوال على معان، فسنأخذ في بيان أصرح، وسننقل لك من كلامهم ما هو أوضح

قال الخضري في حاشيته على بن عقيل في ص30 في بحث المعرب والمبني: (وإنما أعرب المضارع لشبهه الاسم في أن كلاً منهما يتوارد عليه معان تركيبية لولا الإعراب لالتبست. فالمتواردة على الاسم كالفاعلية والمفعولية والإضافة في ما أحسن زيداً، وعلى الفعل كالنهي عن كلا الفعلين أو عن أولهما فقط أو عن مصاحبتهما في نحو لا تعن بالجفا وتمدح عمراً. ولما كان الاسم لا يغني عنه في إفادة معانيه غيره كان الإعراب أصلاً فيه بخلاف المضارع يغني عنه وضع اسم مكانه كأن يقال في النهي عن كليهما ومدح عمرو وعن الأول فقط، ولك مدح عمرو، وعن المصاحبة مادحاً عمرا. فكان إعرابه فرعاً بطريق الحمل على الاسم. هذا ما اختاره في التسهيل)

وقال بن يعيش في شرح المفصل للزمخشري في ص72 من الجزء الأول:

(والإعراب الإبانة عن المعاني باختلاف أواخر الكلم لتعاقب العوامل في أولها. ألا ترى أنك لو قلت ضرب زيدْ عمرْ وبالسكون من غير إعراب لم يعلم الفاعل من المفعول؟ ولو

ص: 76

اقتصر في البيان على حفظ المرتبة فيعلم الفاعل بتقدمه والمفعول بتأخره لضاق المذهب ولم يوجد من الاتساع بالتقديم والتأخير ما يوجد بوجود الإعراب. ألا ترى أنك تقول ضرب زيد عمرا، وأكرم أخاك أبوك، فيعلم الفاعل برفعه والمفعول بنصبه سواء تقدم أو تأخر

فإن قيل فأنت تقول ضرب هذا هذا، وأكرم عيسى موسى وتقتصر في البيان على المرتبة، قلت هذا شيء قادت إليه الضرورة هنا لتعذر ظهور الإعراب فيهما. ولو ظهر الإعراب فيهما أو في أحدهما، أو وجدت قرينة معنوية أو لفظية جاز الاتساع بالتقديم والتأخير)

وقال الزمخشري في المفصل ص71

(القول في وجوه إعراب الأسماء)

(هي الرفع والنصب والجر وكل واحد منها علم على معنى؛ فالرفع علم الفاعلية، والفاعل واحد ليس إلا: وأما المبتدأ وخبره وخبر إن وأخواتها، ولا التي لنفي الجنس، واسم ما ولا المشبهتين بليس فملحقات بالفاعل على سبيل التشبيه والتقريب، وكذلك النصب علم المفعولية، والمفعول خمسة أضرب: المفعول المطلق والمفعول به والمفعول فيه والمفعول معه والمفعول له. والحال والتمييز والمستثنى المنصوب والخبر في باب كان، والاسم في باب إن والمنصوب بلا التي لنفي الجنس وخبر ما، ولا المشبهتين بليس ملحقات بالمفعول

والجر علم الإضافة، وأما التوابع فهي في رفعها ونصبها وجرها داخلة تحت أحكام المتبوعات، ينصب عمل العامل على القبيلين انصبابة واحدة)

وقال بن يعيش في شرحه ص72:

(وجوه الإعراب. يريد بها أنواع إعراب الأسماء التي هي الرفع والنصب والجر، لأنه لما كانت معاني المسمى مختلفة: تارة تكون فاعلة وتارة تكون مفعولة وتارة تكون مضافاً إليها كان الإعراب المضاف إليه مختلفاً ليكون الدليل على حسب المدلول عليه. . وقوله (وكل واحد منها علم على معنى) يريد الرفع والنصب والجر كل واحد منها علمٌ على معنى من معاني الاسم التي هي الفاعلية والمفعولية والإضافة. ولولا إرادة جعل كل واحد منها علماً على معنى من هذه المعاني لم تكن حاجة إلى كثرتها وتعددها؛ ثم قال فالرفع علم الفاعلية فقدم الكلام على الفاعل من بين المرفوعات ولاسيما المبتدأ لمشاركته في الإخبار عنه،

ص: 77

وذلك لأن الفاعل يظهر برفعه فائدة دخول الإعراب الكلام من حيث كان تكلف زيادة الإعراب إنما احتمل للفرق بين المعاني التي لولاها وقع لبس؛ فالرفع إنما هو للفرق بين الفاعل والمفعول الذي يجوز أن يكون كل واحد منهما فاعلاً أو مفعولاً)

كلام الأستاذ إبراهيم مصطفى صريح في أن النحاة جعلوا الإعراب حكماً لفظياً خالصاً، ولم يروا في علاماته إشارة إلى معنى ولا أثراً في تصوير المفهوم. وكلام النحاة صريح لا لبس فيه أيضاً في أن الإعراب حكم معنوي وأنهم يرون أن الحركات دوال على معان وبينوا كل معنى، وكل حركة تدل عليه، والنحو كله مبني على ذلك لا يمكن أن نفهم قواعدهم، ولا أن نفهم اللغة العربية إلا على ذلك، وهو من الوضوح بحيث لا يخفى على مبتدئ في تعلم النحو بله الدارسين له والمتخصصين فيه

ليت شعري، ماذا نفهم في هذا الموقف المحير، موقف الأستاذ من نصوص المتقدمين في هذه المسألة؟ أنفهم أنه فاته وجه الصواب فيها، وهو من وقف حياته على دراسة النحو، ووقف سبع سنين من عمره في بحث هذه المسائل؟

أم أفهم أن المؤلف لم يخف عليه وجه الصواب في هذه المسألة عند النحويين ولكنه نَفِسَهُ عليهم وأغرم بالتجديد، فحرمهم علمهم وتجاهل هذه النصوص التي تتكرر في كل كتاب

إنني حاولت نفسي على فهم ذلك، ولكن منعني أن الأستاذ إبراهيم حجة ثبت وهو كما يقول الدكتور طه حسين في المقدمة (له أمانة في الرأي والنقل جميعاً)

على أن هذا البحث الشخصي لا يعنينا فسواء علينا أكان هذا أم ذاك، إنما الذي يعنينا هم أن ننصف شيوخ العربية وقد كاد يظلمهم بعض من تربوا في حجورهم وتثقفوا على أيديهم، وأن ننير تاريخ علم العربية. فإن كنت قد بلغت بعض ذلك فجدود ساعفت؛ وبحسبي أن أؤدي في هذا الكتاب ديناً في عنقي لقوم راحوا وخلفوا هذه الثروة العلمية في النحو والصرف واللغة والبلاغة

جمال ذي الأرض كانوا في الحياة، وهم

بعد الممات جمال الكتب والسير

محمد عرفة

ص: 78