المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 226 - بتاريخ: 01 - 11 - 1937 - مجلة الرسالة - جـ ٢٢٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 226

- بتاريخ: 01 - 11 - 1937

ص: -1

‌الخريف في الريف

دعنا الآن من القاهرة! فبشرُها الباسم قد استسرَّ في قطوب الطبيعة، وشجرها الوارف قد اقشعر من رياح الخريف، وهدوءها الشاعر قد غاب في صخب الفتنة؛ وكأنما خفقت في جوها المستنير الصفو أبابيلُ سودٌ من طيور الليل!

دعنا الآن من القاهرة! فقد أصيب عِلمها بداء السياسة، ونُكب رأيها بتدليس الهوى، وامتُحن خُلقها بشهوة المنفعة؛ وكأنما فرغ القادة من جهاد الأجنبي ليشوي بعضهم بعضاً في حريق الوطن!

دعنا الآن من القاهرة! وتعال نرفه عن حواسنا وأعصابنا في سكون الريف الآمن، وفي كنف الفلاح المؤمن، حيث الهوى جميع، والخريف ربيع، والطبيعة الكهلة رُواء وغناء وسحر!

يقول (هوجو): (إن الخريف هو الربيع انبعث من القبر ناسياً حُلاه وحُلله) ولكن الخريف المصري في الريف هو الربيع الحق في نضرته وزينته وعطره؛ فبينا ترى الحقول المتصلة في بياض الدمقس أو صفرة النضار، يجردها سبتمبر من القطن الحريري الأشوك والرز العسجدي الهائج، إذا بها في خضرة السندس أو زرقة اللازورد يكسوها أكتوبر أعواد الذرة اللّفاء وقصب السكر الوريق ونبات البرسيم المؤزر؛ فأينما أدرت بصرك لا تجد إلا رياضاً شجراء من شراب وحب، ومروجاً فيحاء من زهور وكلأ. ثم ترى النيل في أعقاب فيضانه كذوب التبْر ينساب هادراً في الترع والقنوات، فيجعل من ضفاف الجداول، وحفافى الطرق، وحواشي الغيطان، سلاسل زبرجدية من الريحان والعشب. وتنزل على الفلاح المكدود سكينة الرضى والأمل، فينقلب شاعراً يتهادى في ظلال الذرة الخفاقة على مدرجة الطريق المخضوضر، وفكره مستغرق في الله الذي يضع البركة في غيطه، أو في المرأة التي تجلب السعادة إلى بيته

هاهو ذا بعد صيفه الجديب المجهد، يستنشي نسيم الراحة بين أولاده على مصطبة الدار، أو بين بهائمه على رأس الحقل، ويتربص بقطنه المخزون الثمن الربيح، ليقضي دينه فيستريح، ويزوج ابنه فيفرح، ثم يكسو عواري الأبدان (بالدبلان) و (الشيت)، ويمحو مرارة الأفواه بالرمان والبلح؛ وترى القرية بذكورها وإناثها تعيش من فسحة هذا الأمل، ودعة هذه الحياة، وبهجة هذه الحقول، في فيض من الرخاء والغبطة لا يسممه كيد، ولا

ص: 1

تكدره منافسة

خريف الريف وربيعه يتفقان في الخصوبة والبهجة، ويختلفان في الحيوية والطبيعة. فبينا تجد ربيع أبريل ومايو موّاراً بالحياة، فواراً بالعاطفة، هداراً بالهتاف، يجعل من كل حي حركة لا تني ورغبة لا تخمد، إذ تجد ربيع أكتوبر ونوفمبر ساجي النهار، سجسج الظل، ساكن الطائر، ينفض على كل امرئ دعة الطمأنينة، وسكون التأمل، وروعة العبادة. فالمشية وئيدة الخطوات، والوقفة بعيدة النظرات، والجلسة طويلة الصمت، والشبان والشواب يتبادلون التحايا بغمز العيون وافترار الشفاه، كأنما هم وهنّ نشاوي من رحيق عجيب يعقد الألسن، ولكنه ينعش الروح، ويوقظ القلب، ويبسط المشاعر!

أي جمال أملك للنواظر والخواطر من جمال السماء الريفية وقد زينتها رياح الخريف بقزعات من الغيم الرقيق كأنها القطعان البيض ترتعي في المروج الخضر؟ هذه السماء بألوانها السحرية المختلفة التي تتعاقب عليها بتعاقب الساعات، تنطبق على أرض كرقعة الفردوس لا ترى فيها خلاء ولا عراء ولا وحشة، ولا تسمع فيها لغواً ولا تأثيماً إلا هتاف الطير الحائمة على أعذاق النخل اليانعة وسنابل الذرة النضيدة، وإلا شَدَوات الرعاة قد كوموا الحشيش أمام الماشية وتحلقوا حول النار المشبوبة يشوون عليها الأمطار والسمك، ثم يأكلون ويغنون في لذة وبهجة

عهدُنا بالريف في أيام الخريف أن يكون بنجوة من الهم وسلامة من الكآبة. فالأهراء طافحة بالحب، والمخازن مفعمة بالقطن، والغيطان كاسية بالزرع، والجيوب غنية بالمال، والنفوس رخية بالرجاء؛ ولكن ما بال فتيان القرية وفتياتها على غير ما نعهد: يمشون ساهمين، ويقفون واجمين، كأنما غاب عن كل عين حبيب، ومات في كل نفس أمل؟

ألا تراهم يا حسن يدافعون الأسى عن وجوههم ببسمات مكذوبة لا تخدع النظر عن الكمد الباطن؟

- ماذا يصنعون يا صديقي والدائن يقتضي (القسط)، والصراف يطلب (المال)، والمالك يريد (الإيجار)، والأسرة تبتغي (الكسوة)، والقطن وهو سداد هذا العوز كله يصبح عقدة المشكلة وغَلَق الأزمة؟ فثمنه البخس لا يفي بأكلاف زرعه، بَلْهَ ما يُحمل عليه من الأسباب، ويناط به من المنى

ص: 2

هاهم أولاء بنوهم وبناتهم كانت أحاديث أحلامهم أن يتزوجوا في هذا العام الذي يتزوج فيه مليكهم المحبوب، تفاؤلاً بطالعه وتيمناً بجده، فرد هذا الكساد الموئس أحلامهم أضغاثاً وأطماعهم وساوس. فكيف تطمع مع ذلك أن ترى البسمة التي تعهد، وتسمع الأغنية التي تحب؟

فقلت له والأسف يغلب على صوتي وكلامي: مهما يكن من الأمر فإن خريفكم أجمل من ربيع الشعراء، وعبوسكم أنبل من بشر الكبراء، وغيمكم أفضل من صفو القاهرة

احمد حسن الزيات

ص: 3

‌فلسفة الأسماء

للأستاذ عباس محمود العقاد

أقام السير رونالد ستورز طويلاً في القاهرة، واشترك في كثير من حوادث مصر والشرق الأدنى قبل الحرب العظمى وبعدها، وأعطى نفسه نصيباً وافياً من المتعة بالأدب والفنون ولاسيما الموسيقى والتصوير إلى جانب اشتغاله بالسياسة خافيها وظاهرها. وقد لقيته مرة أيام البحث في تحويل (الأوقاف) من ديوان إلى نظارة، وكان يومئذ (سكرتيراً شرقياً) لدار الوكالة البريطانية، فبدأنا الكلام بروايات برناردشو والنقد الإنجليزي الحديث، ثم استطردنا إلى أعمال الاحتلال والإدارة الوطنية فقال: أظن أن ديوان الأوقاف مختل لأنه المصلحة الوحيدة التي ليس عليها رقابة أجنبية! ولا أدري أكانت هفوة لسان منه أم كان سبراً لغوري واختباراً لمقدار ما يستبيحه من الأقوال والآراء على مسمع مني في صدد الأوقاف وتحويلها إلى رقابة الحكومة. فقلت له: إن المجلس البلدي الإسكندري أعظم اختلالاً من ديوان الأوقاف وهو مملوء بالرقابة الأجنبية. فاستدرك كلامه الأول وأخذنا في حديث آخر، وانصرفت وهو يقول بعد انصرافي للأستاذ حسين روحي الذي كان واسطة التعارف بينه وبيني:(صاحبك لا يزال في بداية الشباب)

ولم أره بعد ذلك، ولكني سمعت بمشروعاته الكثيرة ومنها ما حدثني به في تلك الزيارة، كإحياء صحيفة (المؤيد) وإنشاء بعض الصلات الأدبية والفكرية بين الغرب والشرق على أيدي المثقفين من الأوربيين والمصريين. ثم وصل إلينا في هذا الشهر كتابه الذي أسماه (تشريقات) أو مشرقيات، وضمنه تاريخ حياته في مصر وفلسطين وقبرس وبلاد العرب وغيرها من الأقطار الشرقية القريبة، فإذا هو كتاب حافل بالملاحظات واللمحات كما ينتظر من تعليقات رجل سياسي فنان حسن المراقبة للناس والمتابعة للحوادث والأحوال. ولقد أخطأ في بعض هذه الملاحظات واللمحات خطأ ربما ساقه إليه حب الزخرفة والتنميق. ولعلنا نعود إلى بيان بعضه في مقال آخر، ولكني أردت في هذا المقال أن أقف عند ملاحظة لاحظها على أسماء الخدم والخصيان في قصر الأميرة نازلي وغيره من القصور، وهي أنها محصورة في محاكاة الجواهر والرياحين قلما تخرج عنها، لأنني عنيت بهذه الأسماء في بعض الأوقات ودار البحث فيها بيني وبين أناس من المشتغلين بعلم النفس في

ص: 4

المدارس المصرية العليا، فعللوها تعليلاً يخالف ما اعتقدت ولا يوافق المتواتر عن تاريخ الزنوج والعبيد

كنا في إحدى المكتبات العامة فدخل إليها خادم زنجي له اسم من أسماء الجواهر، فقال أستاذ واقف معنا: ألا ترون (مركب النقص يفعل فعله في أسماء هؤلاء الخدم؟ إنهم يشعرون بما لهم من بخس القيمة فيعوضونها بنفاسة الأسماء!)

وكان هذا التعليل يستقيم على ذلك الوجه لو أن الخدم الزنوج يختارون الأسماء لأنفسهم ولا يختارها لهم النخاسون والسادة الذين يشترونهم، ولكن الواقع أنهم يسمون بغير علم منهم، وعلى غير معرفة باللغة العربية ولا بأسماء الجواهر والرياحين فيها أو في غيرها

وإنما الحقيقة على ما يبدو لي أن رغبة السادة هي الملحوظة في التسمية لا رغبة العبيد والخدم المبيعين، ولهذا يقصرون تسمية العبيد على نوع من أربعة أنواع بين الأسماء: المقتنيات النفيسة وما شابهها من الرياحين الجميلة، أو ألفاظ التفاؤل، أو الشهور والأيام التي تم فيها الشراء أو تمت فيها الولادة، وإلا فكلمة عبد مضافاً إليها اسم من أسماء الله الحسنى كعبد الله وعبد الكريم وعبد الباسط وما يشعر بالتفاؤل والدعاء خاصة

فالخصيان والعبيد يسمون بجوهر وفيروز ومرجان وياقوت ولؤلؤ وألماس كأنهم قنية نفيسة يباهي بها صاحبها؛ ويلحق بهذا تسميتهم بريحان وكافور ونرجس كأنهم من أدوات التجمل والزينة في البيوت

فإن لم يكن هذا فهم يسمون بما يدل على التفاؤل والاستبشار بالخير بعد شرائهم، فيدعونهم بسعيد وبخيت وسرور وفرحات وقدم خير وخوش قدم وما إلى ذلك من ألفاظ التمني والرجاء؛ والملحوظ في ذلك هم المالكون كما أسلفنا لا العبيد والجواري

فإن لم يكن هذا ولا ذاك فأسماء العبيد تكثر فيها أسماء الأيام والشهور والمواسم مثل خميس وجمعة وشعبان ورمضان ومحرم وعيد وربيع، لأن مالكيهم حين يشترونهم لا يعرفون لهم سمة يسمونهم بها غير اسم اليوم أو الشهر الذي كان فيه الشراء

عنيت باستقصاء هذه الأسماء ودلالاتها في بلدي أسوان حيث تعيش جمهرة من الزنوج السود، وحيث يندر بيت لا يكون فيه عبد أو جارية من بقايا أيام الدراويش

ثم التفت إلى الأسوانيين أنفسهم فتبين لي من أسمائهم وحدها أن البلدة (عصبة أمم) عجيبة

ص: 5

يلتقي فيها أناس ترجع أصولهم إلى جميع القارات ما عدا القارة الأمريكية، فمنهم من هو في أصله تركي أو كردي أو من فارس وأعلى العراق، ومنهم من هو عربي أو مغربي أو حبشي، ومنهم من هو مجري أو بشناقي أم من أهل البلقان، وبعضهم لا يذكرون هذه الأصول وإن دلت عليها حروف وإضافات في الألقاب

على أنني لم أكن أحفل بالدلالات الجغرافية والتاريخية كما كنت أحفل بالدلالات النفسية والاجتماعية، ففي هذه دليل أمتع من كل دليل على قرابة الإنسان وتشابه العقائد والخوالج بين البشر وإن باعدت بينهم البحار والصحاري وآماد الدهور

كنت أعجب لأناس يدعون بأسماء الكلاب والحشرات، وأحسب أنها ألقاب تحقير أطلقها عليهم الأعداء أو المتهكمون الماجنون ثم غلبت عليهم فعرفوا بها بدلاً من أسمائهم، ولكني علمت أن أسماء الكلاب والحشرات هي أسماؤهم التي دعاهم بها آباؤهم وأمهاتهم، وأن الآباء والأمهات قصدوا إلى ذلك قصداً ليعيش لهم أولئك الأبناء، كأنما يحقرونهم ويشبهونهم بالحيوان الأعجم والحشرة المهينة ليزهد فيهم الموت ويأنف من أخذهم إليه!

والعجيب أن هذه العقيدة كانت سارية في يونان القديمة ومصر القديمة والشرق القديم، ولا تزال سارية حتى اليوم في بعض القبائل الأفريقية التي تؤمن بالأرواح الشريرة وتخاف منها على أطفالها وصغارها، وتحصنهم منها بمحصنات شتى إحداها حقارة الأسماء أو بشاعتها. ولا شك أن اسم (معاوية) مثلاً وهي الكلبة التي تعاوي الكلاب يمت بصلة إلى هذه العقيدة، كما يمت إليها اسم هريرة وما إليه

ولحقارة الأسماء وبشاعتها سبب آخر غير تزهيد الأرواح الشريرة فيها، وذاك هو التخويف بها أو احترام (الطواطم) المعبودة حيث كان الأقدمون يتبركون بها ويعتقدون أن أسلافهم من سلالتها

ففي القبائل المقاتلة التي تعيش على الغارة ولا تزال في خوف من الإغارة عليها يسمى الرجل بما يكره الأعداء، وترى بينهم من يدعونه ذئباً أو أسداً أو حنظلة أو جمرة أو حرباً وما إلى ذلك من المخوفات والمنفرات

وفي القبائل التي تؤمن أو كانت تؤمن (بالطواطم) يسمى الرجل كلباً أو ثعلباً أو صقراً أو نسراً كما يتفق من أصول الطواطم القديمة الباقية بعناوينها وإن نسيها أبناء القبيلة

ص: 6

ويقول السائحون بين القبائل التي على الفطرة إنهم يكرهون البوح بأسمائهم ويستريبون بمن يسألهم عنها، لاعتقادهم أن الاسم جزء من الإنسان من عرفه استطاع أن يسلط على صاحبه أرواح الشر والمرض واتخذه هدفاً يقذف عليه المتاعب والملمات. ونحن المتحضرين المحدثين نحسب أننا بعيدون مترفعون عن هذه الطبقة المسفة من طبقات العقول الآدمية، حتى نسمع (سحاراً) يسأل عن اسم المقصود بالسحر واسم أمه فنعلم أن المسافة بيننا وبين الفطريين أقرب مما نتوهم، ولاسيما في سراديب الظلام التي يهبط إليها من يهبطون ساعة الفزع أو ساعة الضغينة

ولا ريب أن حياة الأمة بين ماضيها وحاضرها تتمثل كثيراً في أسماء أبنائها؛ فنعلم أن الأقوام التي تنحصر أسماؤها في الظواهر الطبيعية سماوية كانت أو أرضية إنما هي أقوام فطرية لم تدرك من العلامات غير هذه الظواهر لتمييز الرجال والنساء، وأن الأقوام التي تظهر فيها أسماء الصناعات كالنجار والحداد والقصاب والزيات والعطار والعقاد قد تقدمت أشواطاً في الحضارة، وأن الأقوام التي تظهر فيها العناوين الاجتماعية قد عرفت بذخ الملك وألقاب التشريف ومراتب الطبقات، وأن الأقوام التي يذكر فيها الحرب والبطش والعداء قد درجت على الغزو ورعاية الماشية، والتي يذكر فيها الهدى والرشد والصلاح وأوصاف الفضائل قد أخذت بقسط من الدين وفلسفة الإخاء، وقس على ذلك ما تنم عليها معاني الأسماء وتراكيبها

بل ربما استطلعنا تاريخ الأمة السياسي من بعض الأسماء. فاسم (تفيدة) في مصر يدل على أن المصريين كانوا زمناً من الأزمان يتشبهون بالترك تشبه المحكومين بالحاكمين، إذ الاسم في أصله عربي صحفه الترك من (توحيدة) لأنهم ينطقون الواو فاء ولا ينطقون الحاء، فأصبح تفيدة ونقلناه نحن عنهم نقل المحاكاة

بل ربما عرفت الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الرجل من دلالة اسمه واسم أبيه، فالأغنياء مثلاً قلما يسمون أبناءهم بعبد الغني أو عبد الرزاق، والمثقفون قلما يسمون أبناءهم بالأسماء المنسوبة إلى أماكن وبلاد إلا لمناسبة مفهومة، فالرجل المثقف لا يسمي ابنه (حجازي) أو (حبشي) وهو لم يولد في الحجاز أو الحبشة أو في موسم حج وعلاقة حبشية، ولا يسمي ابنه (مرسي) وهو لم يولد في مرسية ولا في مكان إلى جوار المرسي

ص: 7

أبي العباس وما شابه ذلك من المناسبات

وربما ألممت بقبس من تاريخ الأسرة وتكوين ذريتها إذا سمعت اسم رجل أو امرأة منها. . . فإذا سمعت في الصعيد باسم (قنعنا) فاعلم أنها اسم بنت لها أخوات ثلاث أو أربع، ويغلب أن تسمى إحداهن (رضينا) والأخرى (حمدنا) وهكذا مما يشف عن الغيظ وعن الخوف مع ذلك من التمرد والشكاية

ونحن نعرف أسماء كثيرة تكذب مسمياتها: حسن وهو دميم، وبدر وهو مظلم، وعزيز وهو ذليل، وصادق وهو كاذب، وسليم وهو شديد الإيذاء، ولكني لا أعرف اسماً يكذب مسماه أدل على المجون والظرف من اسم (قبيحة) جارية الخليفة (المتوكل) وقد كانت أشهر جواريه بالصباحة وروعة الجمال؛ ولخير ألف مرة أن يفاجأ الإنسان هذه المفاجأة من أن يترقب الحسن فيخيب رجاؤه بمرأى قبيح ومخبر لئيم. ومن سمع اسم (قبيحة) قنع بجمال يسير ليرضى ويبتهج، أما من سمع اسم (جميلة) فهو يحسب أنه مغبون مخدوع إن لم ير هذه الجميلة في الذروة العليا من الجمال

إن فلسفة الأسماء بحث ليست له نهاية، وفيما تقدم نموذج لمن يشوقه أن يسترسل فيه

عباس محمود العقاد

ص: 8

‌المحفوظات التاريخية المصرية

متى تنظم بطريقة علمية

للأستاذ محمد عبد الله عنان

عرضت لي منذ بضعة أعوام فرصة لزيارة دار المحفوظات المصرية بالقلعة، ولست أذكر الآن من زيارتي سوى ممرات حجرية ضيقة تفضي إلى غرفة عتيقة شاسعة قد طرحت فيها الأوراق الصفراء أكداساً على الأرض، وغصت جنباتها وزواياها برزم متناثرة من الوثائق القديمة؛ ولم يكن يومئذ بالدار سجلات أو فهارس منظمة، ولم تكن تعرف محتوياتها بالضبط ولم تلفت محتوياتها حتى اليوم أنظار الباحثين

وفي أواخر هذا الصيف زرت دار المحفوظات النمسوية بمدينة فينا، وترددت عليها مراراً لمراجعة بعض الملفات والوثائق التي تتعلق ببعض مباحثي فدهشت لما رأيت من دقة التنظيم وحسن التنسيق وسهولة البحث والمراجعة، وشهدت كيف يستطيع الباحث أن يعمل في جو من النظام والترتيب، وكيف يتاح له أن يظفر في الحال بما يطمح إلى مراجعته من الوثائق والملفات، منسقة مصنفة طبق الموضوعات والتواريخ، مدونة في سجلات دقيقة تدل في الحال على ما فيها، وترشد الباحث إلى غايته بأيسر أمر

وقصدت أيضاً إلى دار مجموعة الصور التاريخية النمسوية - وهي من أعظم المجموعات العالمية في نوعها - لأشاهد صوراً لبعض الشخصيات التاريخية، ولأستأذن في نقلها، فقدمت إليّ الصور المطلوبة في دقائق معدودة، واخترت في الحال للنقل منها ما شئت؛ ذلك لأن هذه المجموعة الحافلة قد نظمت بمنتهى الدقة ورصدت محتوياتها مرتبة وفق العصور والتواريخ والأسماء، ويكفي أن يلقي الموظف المختص على السجل المعين نظرة ليعرف في الحال إن كانت الصور المرغوبة ضمن المجموعة، وليستخرجها في الحال من مكانها

أعجبت بهذا النظام الدقيق الذي يوفر على الباحث كثيراً من الوقت والعناء، وذكرت في كثير من الأسف ما انطبع في ذاكرتي من مناظر دار المحفوظات المصرية، وكيف أن هذه الدار التي تغص جنباتها العتيقة بكثير من وثائق التاريخ المصري في مختلف عصوره - ولاسيما العصر التركي وعصر محمد علي - لا زالت بحالتها الساذجة، وأكداسها المختلة المجهولة مغلقة على البحث والتحقيق

ص: 9

إن لدور المحفوظات مهمة من أجل المهام التاريخية والعلمية فهي مستودع الماضي وسجلاته ومستودع وثائقه السياسية والدينية والاجتماعية؛ وهذه السجلات والوثائق هي أهم مصادر المؤرخ والمحقق، وهي أصدق الدلائل على أحوال عصرها لأنها تصطبغ غالباً بالصبغة الرسمية، ومنها الوثائق الملوكية والإدارية والعسكرية ومنها الوثائق والمعاهدات الدولية المختلفة؛ ثم هناك الوثائق السرية التي لم تعرف في عصرها، وهي أنفس ما في دور المحفوظات، تتلقاها من مكامنها في عصر متأخر أو تحتفظ بسريتها فترة من الزمن حتى يختتم العصر الذي صدرت فيه ويختتم آثاره؛ وتقدر هذه الفترة عادة بخمسين عاماً، تعرض بعدها هذه الوثائق لأنظار البحث والتحقيق؛ وفي دور المحفوظات الأوربية كنوز من الوثائق المختلفة الملوكية والإدارية والدولية التي ترجع أحياناً إلى عصور متأخرة، والتي تلقي أعظم ضوء على تواريخ الأمم الأوربية وعلائقها في مختلف العصور

ولنا في دار المحفوظات النمسوية التي حظينا بالتردد عليها ووقفنا على بعض محتوياتها ونظمها خير مثل لما يمكن أن تؤديه المحفوظات المنظمة من خدمات جليلة للبحث والتحقيق؛ فهذه الدار التي يرجع تأسيسها إلى نحو قرنين، والتي تشكل الآن جناحاً كبيراً من دار وزارة الخارجية، تعتبر من أهم مصادر البحث والتحقيق في شئون التاريخ الأوربي منذ القرن الرابع عشر؛ ويطلق على الدار اسم (محفوظات الأسرة والبلاط والدولة) ، - دلالة على صفتها الشاملة، فهي مستودع محفوظات الأسرة أعني أسرة آل هبسبرج، ومحفوظات البلاط، ومحفوظات الحكومة والدولة، وبها مجموعات هامة من الوثائق الملوكية والسياسية والإدارية والدولية، وبها على الأخص طائفة كبيرة من الوثائق السرية التي تتعلق بأعمال المجلس السري أو مجلس البلاط الخاص، وقد نظمت محتوياتها في مراحل متعاقبة تشمل جميع عصور التاريخ النمسوي والتاريخ الأوربي العام حتى سقوط الإمبراطورية النمسوية في سنة 1918، ويرجع أقدم أقسامها إلى عصر القيصر فرديناند الأول في أوائل القرن السادس عشر، وتشمل الوثائق السياسية والدينية والإدارية والعسكرية عصور التاريخ الإمبراطوري حتى سقوط الإمبراطورية الرومانية المقدسة في سنة 1806؛ وأهم أقسامها بلا ريب هو مجموعة وثائق مجلس الدولة السري ومجلس البلاط الخاص، والمجلس الاستشاري، وهي الهيئات الثلاث التي كانت تشرف منذ أواخر

ص: 10

القرن السادس عشر على شئون الإمبراطورية، وتحدث بأعمالها وسياستها أعظم الأثر في مجرى السياسة الأوربية، وفي هذا القسم طائفة كبيرة من وثائق التاريخ الأوربي العام، وبه على الأخص مجموعة نفيسة من وثائق عصر الوزيرين الشهيرين كاونتز وزير الإمبراطورة ماريا تيريزيا، وقرينه ماترنيخ أعظم شخصية سياسية في التاريخ الأوربي في أوائل القرن التاسع عشر؛ ثم هنالك قسم المحفوظات السياسية، وهو يحتوي على مجموعة عظيمة من الوثائق التي تتعلق بالسياسة الداخلية والسياسة الخارجية، والمراسيم والبروتوكولات المختلفة، والمعاهدات والاتفاقات والمكاتبات الدولية، ولاسيما خلال القرن التاسع عشر، ووثائق الحكومة القيصرية منذ عصر ماريا تيريزيا حتى سقوط الإمبراطورية في سنة 1918، ثم قسم الوثائق الدستورية، وهو يضم مجموعات مختلفة من أوراق المجالس الإمبراطورية والمحلية حتى العصر الأخير. ولوثائق الأسرة، أعني أسرة آل هبسبورج قسم خاص يضم كثيراً من الوثائق والأوامر والتقارير الخاصة بالقياصرة وأعضاء الأسرة بوجه عام؛ وكذلك للبلاط قسم خاص يضم الوثائق المتعلقة به وبهيئاته المختلفة؛ وأخيراً يوجد ثمة قسم خاص للوثائق والمجموعات العلمية والتاريخية التي يهبها كبار العلماء والهواة إلى دار المحفوظات

وقد أفردت دار المحفوظات النمسوية معرضاً خاصاً لطائفة من التحف والوثائق التاريخية النادرة، يضم عدة مخطوطات لاتينية وقوطية قديمة، وقرارات إمبراطورية ترجع إلى عصور متأخرة وعدة معاهدات ومكاتبات تاريخية شهيرة رأينا من بينها مكاتبة طويلة من السلطان سليمان خان إلى القيصر، يلقب فيها (بسلطان سلاطين الشرق والغرب، صاحب ممالك روم وعجم وعرب. . الخ) وصورة معاهدة تركية نمسوية عقدت سنة 1189هـ بشأن تنظيم الحدود بين الدولتين، ومعاهدة أخرى صادرة من السلطان عبد المجيد خان، وقرارات مؤتمر فينا الشهيرة الذي نظمت فيه حدود الدول الأوربية وأحوالها عقب سقوط نابوليون وعليها توقيعات أعضاء المؤتمر، وغير ذلك من التحف والوثائق التاريخية النادرة.

ولنعد بعد ذلك إلى دار المحفوظات المصرية فنقول إنه من أشد بواعث الأسف أن تبقى هذه الدار على حالها من الخلل والفوضى، وأن تبقى بذلك مغلقة دون البحث والتحقيق،

ص: 11

وإذا كانت محتويات هذه الدار لم تعرف بعد بطريق الحصر الدقيق؛ فإنه لا ريب أن هذه الأكداس المبعثرة من الأوراق والوثائق التي تغص بها أركانها وجنباتها، تضم كثيراً من الوثائق التاريخية والسياسية والإدارية الهامة ولاسيما في أواخر العصر التركي وعصر محمد علي؛ وإنا لنذكر بهذه المناسبة أن المغفور له الملك فؤاد الأول كان قد اهتم بأمر هذه المجموعة منذ أعوام، وندب لها بعض الموظفين الذين يعرفون التركية لنقل ما فيها من الوثائق التركية إلى العربية، ولسنا نعرف ماذا تم في أمرها بعد، وهل حققت أمنية الملك الراحل على نحو مرضي، وهل بدأ القائمون بأمر هذه الدار بتنظيمها وحصر ما فيها في سجلات منظمة تدل على ما فيها؛ ذلك أن الوقت قد حان لأن يكون لنا دار محفوظات منظمة على أمثال دور المحفوظات الحديثة، تصنف محتوياتها بأسلوب علمي طبق العصور والموضوعات، وتحمل إليها أشتات الوثائق والأوراق القديمة المبعثرة في مختلف المصالح والجهات، وتعرض محتوياتها لأنظار الباحثين والمحققين، تمدهم بمواد وحقائق جديدة تؤيدها الأدلة والوثائق التي لا ريب في صحتها

ونحن نعرف أن دار الكتب المصرية تضم طائفة كبيرة من أوراق البردي ومن الوثائق التاريخية، ومنها أعلام شرعية وحجج أوقاف ومراسيم إدارية قديمة وغيرها، وقد عهدت دار الكتب أخيراً إلى أحد العلماء الأجانب بتنظيم مجموعتها من أوراق البردي وتنظيمها وتصنيفها في كتاب خاص؛ وأما الوثائق الأخرى فهي مبعثرة في فهارسها لا تجمعها رابطة ما؛ كذلك يوجد في محفوظات وزارة الأوقاف، والمحكمة الشرعية العليا، وبعض المصالح الحكومية الأخرى أوراق ووثائق تاريخية قديمة في غاية الأهمية، وهذه كلها مهملة تبلى في ظلمات الأروقة الرطبة، ولا يكاد ينتفع أحد بمراجعتها إلا في ظروف شخصية نادرة. فمن الواجب أن تجمع هذه الأشتات كلها في دار محفوظات عامة تكون مرجع البحث العام؛ ومن المحقق أننا سنظفر من ذلك بتراث جليل، لا يقل في أهميته ونفاسته من الناحية القومية عما تحتفظ به دور المحفوظات العامة في الأمم الأخرى

لقد نشأت دار الكتب المصرية في ظروف متواضعة، وبدأت بثروة أدبية قليلة حملت إليها من بعض المساجد والمجموعات الخاصة؛ وهاهي ذي اليوم ولما يمض على إنشائها نحو نصف قرن تغص بتراثها الزاخر من مخطوط ومطبوع، وتتبوأ مكانة بين دور الكتب

ص: 12

العالمية؛ فلنبدأ بإنشاء دار محفوظات مصرية منظمة تقوم إلى جانب دار الكتب، وتعاون البحث والتحقيق من جانبها، وتمد المؤرخ المصري بمادة جديدة نفيسة، ونحن على يقين من أنه لن تمضي فترة يسيرة حتى تغدو دار المحفوظات المصرية، كما غدت دار الكتب، مقصد العلماء والباحثين من جميع الأنحاء

(الباخرة كوثر في 24 أكتوبر)

محمد عبد الله عنان

ص: 13

‌الوحدة

للدكتور إبراهيم مدكور

مدرس الفلسفة بكلية الآداب

شبح يهولنا اسمه، ويزعجنا رسمه؛ مع أنا لو عرفناه لألفناه، ولو خبرناه لتعشقناه؛ ووحشة نفر منها فرارنا من الخطر الداهم، أو العدو المهاجم، ولو ثبتنا لها في صبر وجلد لكسبنا المعركة وأصبحنا بوحدتنا سعداء؛ وعزلة قد يضيق لها الصدر، وتنقبض النفس، ولكنها عادة لا يمكن أن تكتسب إلا بشيء من الدربة والمران؛ ورياضة لا تخلو من مجهود أو عناء. وكيف لا تكون مجهدة وهي تقف حجر عثرة في سبيل بعض الغرائز الكامنة، وتحرم الفرد من لذائذ المجتمع ومغرياته الخادعة، فتحول دون غريزة حب الاجتماع وسد حاجتها، وتعارض صلات القرابة والمودة في امتدادها وانبساطها؛ بيد أنها في كل هذه أشبه ما يكون بالدواء الممض يتعاطاه المريض لما يرجوه بعده من برء وشفاء

حقاً إن الوحدة طب للنفوس وعلاج للأرواح، نستطب بها من ويلات المجتمع وآلامه، فتقينا ولو زمناً لهيب الحقد والحسد وسموم القيل والقال، وتبعدنا ولو إلى حين عن مظاهر الشره والجشع وظلم الإنسان لأخيه الإنسان، فلا تقع العين على وجوه شاكية، ولا تسمع الأذن أصواتاً باكية، ولا يقر اللسان مكيدة، ولا تقاسم اليد في جريمة، ولا تسعى القدم إلى خطيئة. وقديماً قالوا تشفي الوحدة من المجتمع بقدر ما يشفي المجتمع من الوحدة. وبالوحدة نداوي كذلك أمراض القلب والروح ونعالج أنفسنا بأنفسنا، فنخرج من زمرة الأهل والأخوان وتيار الحياة الهائج المائج إلى حيث السكون والتأمل، ونبدد تلك السحب الكثيفة التي نسجتها الجمعية حولنا، والأضواء البراقة التي تعشى لها أبصارنا لنرى بعين الحقيقة والاعتبار. ولم تكن الوحدة عبادة إلا لأنها توبة وندم وتهذيب وتطهير

وقد عرفت لها الأديان هذه المنزلة فدعت إلى الخلوة والاعتكاف الذي لا يراد به مجرد أوراد تتلى أو أناشيد يترنم بها، بل يُقصد أن تُعرض صفحة الحياة على بساط البحث وتعقد محكمة الضمير في جو هادئ ساكن وتقضي بقضائها العادل إن بالبراءة أو الاتهام. وما أحوجنا إلى هذه الرقابة وهذا الحساب الدقيق دون انقطاع! ولكن جد الحياة ولهوها وحلاوة العيش ومرارته تصدفنا عن ذلك وتلقي بنا في بحر لجي لا سكون فيه ولا اطمئنان. ونحن

ص: 14

فوق هذا مولعون بستر هفواتنا وتغطية زلاتنا، نسترها على الناس وعلى أنفسنا، ونتجاهلها وكل الأدلة قائمة عليها: مغالطة مدهشة وصلف كاذب وغرور غريب. وإنك لترى الفرد يأتي أمراً يأباه العرف وينكره الدين، فيسارع إلى أن يعد نفسه في صف المحافظين على التقاليد والمتدينين طمعاً في أن ننسى فعلته وتخفى خطيئته. وقد نفهم هذا التصنع إن أراد أن يرضي به من حوله؛ فأما أن يخدع به نفسه فتلك حماقة حمقاء وغفلة عمياء؛ وما منا من أحد إلا لاحظ أنه إذا حاسب نفسه على ذنب ارتكبته، أو إثم اقترفته، عز عليها هذا الحساب، وقد تأبى وتستكبر وتشرد وتجمح. وكثيراً ما تفر إلى المجتمع لتنزوي في ركن من أركانه وتضل في منعرجاته وعطفاته. والجناة والمجرمون أنفر الناس من العزلة والوحدة وأرغبهم في الجلبة والضوضاء التي تخدر أعصابهم فلا يحسون ولا يشعرون. فلم يكن بد من أن تستثيرنا التعاليم السماوية إلى الخروج من هذا التجاهل المزري والتنكر المرذول

والتصوف وهو فلسفة الوحدة يرى أن علاج الروح لا يتم إلا إن شخص الإنسان أدواءه بنفسه، ووقف على عيوبه مباشرة وبدون واسطة، ثم تعهدها بالتقويم والإصلاح. ويعتقد أن المرء أقدر على هذا التقويم إذا خلا إلى نفسه وخلص من شو اغله؛ فإنه يلتقي بحسناته وسيئاته وجهاً لوجه، ولا يجرؤ على المبالغة في الأولى ولا على إنكار الأخرى. وإذا صح أن الطبيب هو الذي يقود المريض نحو طريق البرء والعافية، فلاشك أن المريض هو الذي يقطع هذا الطريق بقدميه. على أنه لا يكاد يوجد طبيب يستطيع أن يتكهن بعلة قبل أن يعرف ظروفها ومكوناتها، ولا أن يصف دواء قبل أن يقف على حقيقة الشكوى وموضع الألم. فإذا أضحى العليل آسياً كان أعرف الناس بعلته وأقدرهم على علاجها. لهذا تعشق الصوفية الوحدة، وحببت إليهم الخلوة التي يستطبون فيها من آلامهم ويداوون أمراض نفوسهم. حقاً إنهم ينشدون وراء الفراق تلاقياً، ويأملون بعد الهجر وصلاً، ويرجون في الوحشة أنساً، ولكنهم لن يصلوا إلا عن هذا الطريق الوعر والمسلك الصعب. فالوحدة وسيلة لتهذيب النفوس والأرواح وسلم الوصول إلى الغبطة والسعادة

وليس أثرها مقصوراً على الروح فحسب، بل يتعداها إلى العقل. ففيها تنضج الأفكار وتختمر الآراء وتتمحص الحقائق؛ وفوق سطحها الهادئ تنفجر ينابيع الحكمة، ومن سمائها

ص: 15

الصافية تتنزل آيات النور والمعرفة. فلولاها ما نعمنا بكثير من الأدب الرائع والخيال العذب والشعر الرقيق؛ وفي غير جوها لا يستطيع أن يتوفر عالم على فرض يحققه، أو فيلسوف على نظرية يناقشها ويحللها؛ وبدونها لا يجد السبيل مصلح إلى وضع نظمه السديدة ومبادئه القويمة. وإذا تتبعنا تاريخ الأنبياء والعظماء والقادة والمصلحين والفلاسفة والمفكرين وجدنا أن أشدهم تعلقاً بالمجتمع وشئونه أرغبهم في ساعات خلوة يدبر فيها ما اضطلع به من مهام جسام. ولئن كانت الجمعية تمدهم بقدر كبير من الغذاء العقلي فهم في مسيس الحاجة إلى ساعات فراغ يمثلون فيها هذا الغذاء، ويتعهدون هذه البذور لتخرج للناس أينع الثمرات. ففي ردهات الأكاديمية ومتنزهات الليسيه أخرج أفلاطون وأرسطو أكمل وأتم فلسفة عرفت في التاريخ القديم. وفي غار حراء أعد (محمد) صلى الله عليه وسلم نفسه لقبول الوحي الإلهي والتعاليم السماوية. ولولا خلوات العلماء اليوم المستمرة وعزلتهم في تجاربهم الدائمة ما خطا العلم خطوة واحدة إلى الأمام. وهاهو ذا بعض الساسة المعاصرين يحتذي حذوهم، ويسير على سننهم؛ فإذا ما حز به أمر لجأ إلى نفسه فاستفتاها في غير جلبة ولا ضوضاء. ففي الخلوة صفاء عزّ أن يتوفر في المجتمع؛ وفيها ضياء إن مرت به سحب حياتنا الصاخبة خسفته. وفي العزلة تفكير وروية ونظر وتأمل لعل جيلنا الحاضر الذي انغمس في بحار المادية أحوج ما يكون إليها

هذه هي الوحدة في أثرها الروحي والفكري والأخلاقي والعقلي. وهنا نتساءل: هل نحن نقدرها قدرها ونتعلق بأهدابها؟ وهل يعنى الكثيرون منا بلحظات فراغ يطمئنون فيها إلى أنفسهم ويركنون إلى أشخاصهم؟ وهل عوائدنا وتقاليدنا تحترم ساعات الوحدة والانفراد؟ لا أظن؛ فإن المقاهي والأندية تأكل نصف أعمارنا أو يزيد، وبيوتنا مبغضة إلينا كل البغض فلا نقصدها إلا للنوم أو الطعام أو الشراب. وقد يصل الأمر بالطالب أن يذاكر دروسه على قارعة الطريق، وبالأستاذ أن يحضر أعماله في مجتمع الإخوان، وبالقاضي أن يدرس قضاياه في ناد عام. وكأننا نأبى إلا أن نفكر جهرة كما أن نتكلم جهرة، وأن نشترك في كل شئ لأنا لا نحسن الاستقلال بشيء، وإذا ما شاء أفراد أن ينظموا أوقاتهم ويخلصوا إلى أنفسهم ساعة أو ساعتين كل يوم عدا عليهم الزوار فقصدوهم على غير موعد، وأطالوا مكثهم لديهم. وبذا أصبحنا لا يشعر واحد منا أن وقته ملكه بحال

ص: 16

إبراهيم مدكور

كلية الآداب

ص: 17

‌التشريع والقضاء في العهد الفرعوني

للأستاذ عطية مصطفى مشرفة

- 2 -

أثر القانون الحمورابي في قانونهم القديم

يعتبر القانون الحمورابي منبعاً استقى منه القانون المصري القديم بعض مواده، فالشريعة البابلية من أقدم شرائع العالم وهي أقدم من شريعة موسى بل تتقدمها بعدة قرون. وقد عرفت تلك الشريعة باسم شريعة حمورابي نسبة إلى الملك (حمورابي) سادس ملوك بابل الذي عاش حوالي سنة ألفين ق. م

ويقول المؤرخون بأن الملك (حمورابي) بعد أن دون عادات بلاده وضعها في مواد شملت المسائل التجارية والمدنية والجنائية، وأنها كانت في مستوى أرقى مما كانت عليه قوانين البلاد الأخرى، فكان مما نصت عليه (الوراثة) فجعلت مال المتوفى ينتقل بأكمله إلى ورثته، وبذلك وضعت للشرائع الأخرى الحجر الأساسي لكيفية انتقال الحقوق إلى الغير، وجعلت للموهوب له ملكية ما وهبه إليه الواهب. ويكفي الشريعة الحمورابية فخراً أن الشرائع السماوية جاءت ببعض المبادئ التشريعية الموجودة إذ ذاك فيها، فقد جعل حمورابي بعض مواد شريعته وفق قوله تعالى:(الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى) فالله تعالى قد كتب على المسلمين القصاص في القتل والجروح كما كتبه على بني إسرائيل من قبل، فقال تعالى:(النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص) فقد كانت شريعته تنص على أنه (إذا سمل أحدهم عين حر تسمل عينه، وإذا كسر أحدهم عضو حر يكسر له عضو، وإذا خلع أحدهم سن رجل من طبقته تخلع سنه)

ومما هو جدير بالذكر أن حمورابي فصل السلطة التنفيذية عن السلطة القضائية وعهد بالقضاء إلى من يتخرج في مدرسة التشريع في بابل

ولما ساءت الحالة السياسية في بابل بعد موت ملكهم (حمورابي) واشتدت المظالم وعمت الفوضى البلاد، هجرها كثير من العلماء نفوراً من الضيم واستوطنوا بعض الممالك

ص: 18

الأخرى ثم نشروا ثقافتهم وتشريعهم وعلمهم بتلك الممالك؛ وكان حظ مصر من تلك الشريعة الحمورابية وفيراً، إذ استوطن بعضهم البلاد المصرية ونشروا فيها حضارتهم البابلية، ثم ضرب المصريون بسهم وافر في التشريع وأدخلوا في تشريعهم تعديلات جمة وافقت روح عصرهم، وبذلك بذوا أساتذتهم الحمورابيين وعلوا بالتشريع المصري علواً كبيراً، وخصوصاً عندما أنشئوا مدارس التشريع في طيبة وغيرها لتغذي القضاء بنوابغ المشترعين

أثر القانون المصري القديم في القانونين الإغريقي والروماني

تدل الاستكشافات الأثرية والمباحث العلمية الحديثة على أن اليونان والرومان يدينون لمصر بكثير من المبادئ القانونية؛ فمنذ أوائل العصر التاريخي هبط مصر، بفضل الصلات البحرية والتجارية، بعض علماء اليونان مثل فيثاغورس وهيرودتس الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد ودرسوا نظمها وقوانينها. كذلك حضر إلى مصر عام 559 ق. م المشرع الإغريقي صولون، فلما عاد إلى بلاده أدخل في تشريعها ما اقتبسه من مجموعة قوانين بوخوريس وأدمجه في قانون صولون الذي وضع في أثينا في مبدأ القرن السادس ق. م ومما أخذه المشرع صولون من قانون بوخوريس مبدأ أن المدين لا يجوز حبسه، لأن التنفيذ يجب ألا يتعدى مال المدين ويتجاوزه إلى شخصه. وقد أخذ صولون من قانون أمازيس أحد ملوك الأسرة السادسة بعد العشرين فكرة معاقبة كل متعطل ومن مالت نفسه إلى الراحة وعدم العمل فيما يدر عليه من المال الحلال ما يسد به رمقه وحاجات أسرته

كذلك اقتبس الرومان الكثير من القوانين المصرية وأدمجوها في قانون الألواح الأثني عشر الذي وضع في روما في منتصف القرن الخامس ق. م فقد أثبت العالم الفرنسي الأستاذ ريفيو وهو ممن وقفوا حياتهم على دراسة القوانين عند الأمم القديمة أن القوانين الرومانية ترجع إلى القوانين التي وضعها قدماء المصريين، إذ أن قانون الألواح الأثني عشر الذي هو أساس القوانين الرومانية مستقى من القوانين المصرية وأنه لا يتيسر معرفة كنه القوانين الرومانية ولاسيما المدنية منها إلا إذا فهم الإنسان أصولها التي وضعها قدماء المصريين فقد قال الأستاذ ريفيو ما تعريبه (إن المبادئ القانونية البحتة التي نص عليها

ص: 19

قانون الألواح الأثني عشر مأخوذة من القوانين التي وضعها قدماء المصريين) وعندما هبط رسل روما بلاد اليونان لتحضير قانون الأثني عشر لوحاً أخذوا كثيراً من قانون صولون اليوناني الذي وضع في أثينا في أوائل القرن السادس ق. م وقد نقل الرومان عن القوانين المصرية طريقة التعاقد الشفاهية التي كانت تتم عند المصريين في جميع عقودهم بقسم أي صنك يصدر من المتعهد للمتعهد له بأنه سيؤدي إليه ما اتفقا على أدائه، وقد أطلق الرومان على هذا الشكل من التعاقد فيوجه المتعهد له للمتعهد القسم بقوله أتقسم - فيجيب المتعهد أقسم وكانت تشبه طريقة التعاقد هذه ما يسمى عند الرومان بالـ

كذلك أخذ الرومان عن المصريين طريقة تحرير العبيد بواسطة محاكم دينية أعدت خصيصاً لذلك، كما شرع (أمازيس) طريقة الإشهاد بالميزان في كافة العقود الناقلة للملكية ولاسيما في البيع والتبني، وهي الطريقة التي نقلها الرومان في تشريع الألواح الاثنى عشر. لذا يمكننا أن نقول بحق أن القانون الروماني قد أخذ أيضاً مبادئ كثيرة عن القوانين المصرية في مختلف العصور بعد صبغها بصبغة رومانية. ولا غرو فقد بلغت القوانين المصرية إذ ذاك من الرقي ما جعل ديودورس الصقلي - وهو مؤرخ يوناني عاش في القرن الأول قبل الميلاد - يقول عنها:(إنها كانت جديرة بالإعجاب وأعجب بها العالم فعلاً)

القضاء عند قدماء المصريين

تبعاً لسنة التقدم الاجتماعي وتنوع الصلات الاجتماعية والاقتصادية وتهذيب الأفكار والنفوس شعر قدماء المصريين منذ القدم بحاجتهم لقاض يفصل في خصوماتهم ويحمل في يده ميزان العدل فيقر الحقوق في نصابها ويرفع الظلم ويدفع الأذى ويستخلص حق الضعيف من القوي؛ غير أن النظام القضائي في العهد الفرعوني يشوبه بعض الغموض لسببين: أولهما قدم عهده، وثانيهما قلة المصادر التي كتبت عنه؛ غير أنه مما لا جدال فيه أنه كان للملك كل السلطة العمومية إدارية وقضائية، بل كانوا يؤلهونه ويقدسونه ويحترمونه احترام العبد للسيد، ويعبدونه في حياته ومن بعد مماته، ويسمونه بأسماء الآلهة، فهو المحيي الدائم، وهو الإله الرحيم، أو الإله الأعظم، إلى غير ذلك

كان هذا الفرعون إذن خليفة الإله وظل الله في أرضه؛ فهو رئيس الديانة وحامي الدين

ص: 20

والمدافع عن الوطن وأراضيه، وهو السيد الآمر الناهي في جميع مرافق البلاد، فهو رئيس الدولة ومصدر جميع سلطاتها وكان يستمدها من الآلهة رأساً

كان الملك يباشر القضاء إما بنفسه وإما بواسطة موظفيه الدينيين أو المدنيين. ولم يكن هؤلاء القضاة منقطعين لأعمالهم القضائية، بل كان بعضهم من الكهنة وبعضهم من كبار العلماء يختارهم الملك للقضاء مضافاً ذلك إلى وظائفهم. وكان للملك الرأي الأعلى في القضاء بالرغم من أنه كان يسمح لغيره بالفصل فيه. وكان لأي فرد من رعايا الملك أن يطلب الإنصاف منه إذا ظلم، فيعيد الملك النظر في القضية ويفصل فيها بنفسه. وكان للملك الحق المطلق في النظر والفصل في القضايا؛ وله أن يستعمله بنفسه أو ينيب غيره فيه بناء على التماس يرفع إليه من المتظلمين عن حكم اعتبروه جائراً وقد فصل فيه غيره. وكانت هذه الحالة الأخيرة هي الشائعة، فكان الملك لا يجلس للقضاء في الأكثر إلا إذا اشتكى أحد رعاياه من الحكم الصادر عليه وطلب منه التدخل

كانت مصر مقسمة إلى عدة أقاليم يدير شؤون كل منها رئيس هو حاكم الإقليم ونائب الملك فيه؛ وكانت له كل السلطة العمومية من إدارية وقضائية على جميع أنحاء إقليمه. وكان إذا جلس للقضاء وجب عليه أن يشرك معه مجلساً مكوناً من قضاة يعينهم الملك؛ وكان لهذا المجلس بعض المدونين. وانقسم كل إقليم إلى مراكز عدة، وانقسم كل مركز إلى عدد من المدن والقرى تكوّن جملة نواح؛ وكان في كل ناحية محكمة يختار قضاتها من أهلها وتنظر في القضايا البسيطة، وكانت أحكامها قابلة للنظر فيها من المحكمة العليا التي كان مقرها عاصمة القطر، فلم تكن السلطة التنفيذية إذن مستقلة عن السلطة القضائية، فالوزير الأكبر كان رئيس الحكومة، وهو في ذات الوقت رئيس المحكمة العليا وله سلطة القضاء في المملكة. كذلك كان حكام الأقاليم رؤساء لمحاكمها. وكان الحكم يصدر متوجاً باسم الملك؛ وكان يطلق على القضاة لقب (ساب) وكانت وظيفة القاضي يرمز لها بالهيروغليفية بصورة ابن آوى. وكان القضاة يؤدون قسماً يلزمهم الطاعة لجميع أوامره متى كانت عادلة. وكانت القوانين تسجل في دار العدل ويعتبر تسجيلها في هذه الدار بمثابة نشر لها، إذ بمجرد تسجيلها تسري على أهل البلاد. أما المراسيم فكانوا لا يسجلونها في دار العدل، بل كانت تنفذ بمجرد ختمها بخاتم الدولة

ص: 21

كان القضاة في زمن الفراعنة من القسس المتخرجين في مدارس التشريع في معابد منفيس وطيبة وآن (أو عين شمس) وكانت المحكمة الكبرى بمدينة طيبة تؤلف من ثلاثين قاضياً يختارون من فطاحل الكهنة المتضلعين في المسائل القانونية، بنسبة عشرة عن كل مدينة من تلك المدن الثلاث، وأعطيت الرياسة لأكبرهم سناً، كما منح الرئيس مرتباً أكبر من بقية إخوانه القضاة. وكان على معبد المدينة الذي ينتخب الرئيس منه أن يرسل إلى المحكمة بقاض آخر حتى يصير عدد القضاة في المحكمة بما فيهم الرئيس واحداً وثلاثين قاضياً. وكان رئيس المحكمة الكبرى إذا جلس للحكم بين الناس يضع في عنقه سلسلة ذهبية معلقاً بطرفها حجر كريم على شكل تمثال إله العدل (ما) أو (معت)؛ وكان يدير هذا التمثال على الأعضاء عندما يدلي كل برأيه، فإذا تم ذلك نطق الرئيس بالحكم. وكانت توضع على منصة القضاء أثناء انعقاد الجلسات ثمانية مجلدات ضخام تحوي كل القوانين المصرية القديمة

وكانوا ينتخبون قضاتهم ممن وسعت تجاربهم وعظمت معلوماتهم الدينية والدنيوية وكثرت ثقافتهم العلمية، وكانت أحكامهم محترمة ونافذة. أما مرتبات القضاة فكانت تصرف لهم من خزينة الملك وقد كثرت أنواع المحاكم عندهم بحسب اختصاصها فوجدت المحاكم الأسرية أو المنزلية التي كانت لا تتناول إلا المسائل البسيطة، وكان قاضيها رئيس الأسرة الذي خول السلطة التأديبية على جميع أفرادها. وكما وجدت المحاكم المدنية عند قدماء المصريين ذات الدرجات الثلاث: جزئية بالقرى والمدن، وابتدائية بعواصم الأقاليم، واستئنافية بعاصمة الدولة، كذلك وجدت المحاكم العسكرية والقضاء الإداري الذي كان يصل بين الأفراد والجهة الإدارية كالمنازعات التي تقع بين دافعي الضرائب وبين الموظفين المكلفين بجبايتها. كذلك وجد القضاء الجنائي بنوعيه العادي الذي يفصل في قضايا الأفراد، وغير العادي الذي ينظر في الجرائم التي تمس الملك أو الدولة بصفة عامة؛ وكانت تتولاه المحكمة الخاصة، وكان يدخل ضمن تشكيلها نفر من رجال الجيش. وكان القضاء الجنائي العادي على درجتين: الدرجة الأولى محكمة المدينة أو محكمة الإقليم وتستأنف أحكامها أمام الملك أو مجلس الملك الخاص كما وجدت محاكم دينية لتحرير العبيد منذ الأسرة الحادية والعشرين، فكان إذا ظلم السيد عبداً له لجأ العبد لمعبد من المعابد

ص: 22

واحتمى بتمثال أحد الآلهة، فإذا اقتنع كهنة المعبد بظلامته قضوا بجعله من حيث الشكل عبداً للإله الذي احتمى به، وبذلك تزول سلطة السيد عنه ويصبح حراً. وسمح لكل مصري حر ظلمه أحد الحكام أو جهة إدارية أن يلجأ إلى إله يحميه من هذا الظلم

(يتبع)

عطية مصطفى مشرفة

ص: 23

‌الفلسفة الشرقية

بحوث تحليلية

للدكتور محمد غلاب

أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين

- 26 -

الفلسفة الصينية

العصر المنهجي - كونفيشيوس

حياته

ليست كلمة (كونفيشيوس) هي الاسم الصيني الصحيح لهذا الحكيم، وإنما هو تركيب (لَتَّنَهُ) الأوربيون كما اقتضت طبيعة لغاتهم إذ أصلها (كونج فوتسيه). فأما (كونج) فهو اسم الأسرة، وأما (فووتسيه) فمعناها الأستاذ المبجل

ولد هذا الحكيم في مدينة (تسيئو) سنة 551 قبل المسيح من إحدى الأسر الملكية الماجدة التي أثبت تاريخ دوحات الأسر العريقة أنها تصعد إلى عهد أسرة (تشو) في القرن الحادي عشر قبل المسيح، وأن رئيس هذه الأسرة في ذلك العهد الغابر الذي سبق مولد (كونفيشيوس) بأكثر من خمسة قرون كان يدعى دوق (دي سونج)

تزوج (شوليانج - هي) والد حكيمنا للمرة الأولى وعاش مع زوجته زمناً طويلاً دون أن يرزق بولد، وكان إذ ذاك حاكماً على مدينة (تسيئو) فلما بلغ من العمر سبعين سنة تزوج مرة ثانية فرزق هذا الحكيم الذي منت به السماء على الصين، ليحفظ تراثها الغابر، ويبعث مجدها الدائر، ويسطع في سماء مستقبلها سطوعاً يسجل اسمها بين أسماء الأمم الخالدة؛ ولكنه لم يكد يبلغ العام الثالث حتى توفي والده وترك الأسرة في حالة من الضنك يرثى لها، بيد أن مجد الأسرة وسمعتها الأدبية ساعداها على تربية هذا الطفل وتثقيفه كما يتثقف أبناء طبقتها من الأثرياء، وقد كونت هذه التربية العالية (كونفيشيوس) تكويناً قيماً كان أساس تلك الفلسفة الباهرة

ص: 24

لا يعرف التاريخ عن حياته الخاصة أكثر من أنه متزوج في التاسعة عشرة من عمره، وأنه لم يكن موفقاً في زواجه، ففارق زوجته بعد بضعة أعوام من تاريخ الزواج، ولكنه أعقب منها غلاماً وفتاة زوجها فيما بعد لأحد تلاميذه الأوفياء، وأنه بعد زواجه بزمن يسير عين مراقباً في إحدى إدارات الزراعة فكان هذا التعيين ثقيلاً على نفسه، لأنه كان يراه من ناحية غير متناسب مع سمو مكانته، وكان من ناحية ثانية متنافياً مع مواهبه وثقافته، ولكن ضرورة البأساء قد ألجأته إلى قبوله فقبله على مضض؛ ثم ظل يتحرق إلى مهنة التعليم التي كان يعتقد أنه خلق لأجلها، فلما حيل بينه وبينها أخذ يقوم بها في أسرته، وأخيراً عين أستاذاً في مدينة (لُو) حيث كرس مجهوداته كلها للعلم والتعليم والبحث وراء الحقيقة، ونشر الفضائل الأخلاقية. وكان منزله أرقى ناد في المدينة يجتمع فيه أجل الشبان المهذبين الراغبين في العلم والأخلاق والتقدم الاجتماعي؛ وكان جميع المهذبين من شيوخ وشبان مفتونين بما حواه رأس هذا الحكيم الشاب من معارف سامية. وفي الحق أن رأيه كان موسوعة لعلوم عصره وفنون زمنه. وإليك ما يصف به نفسه في كتاب (لون - يو):(في الخامسة عشرة كنت أفرغ كل عنايتي في الدراسة، وفي الثلاثين كنت أسير بخطى أكيدة وحازمة فوق صراط الفضيلة، وفي الأربعين لم يكن لدي أي ريب، وفي الخمسين كنت أحيط علماً بناموس السماء، وفي الستين كنت أفهم كل ما تسمعه أذني، وفي السبعين كانت كل رغبات قلبي متجهة إلى عدم مخالفة أية قاعدة أخلاقية)

في سنة 525 قبل المسيح ارتحل إلى (لو) مدينة (لاهو - تسيه) ليكمل معارفه بالاطلاع على محفوظات الدار الملكية كما أشرنا إلى ذلك آنفاً؛ وبعد أن أقام بهذه المدينة سنة عاد إلى بلده. وفي سنة 516 شبت حرب أهلية بين كبار الملاك في مقاطعته، فغادرها إلى مقاطعة أخرى، فاستقبله رئيسها أعظم استقبال، وأخذ يستنصحه في كثير من نواحي الحياة، ولكنه لم يتبع نصائحه في حياته العملية، فلما قدم إليه المال رفضه الحكيم قائلاً:(إن الرجل الفاضل لا يتسلم من المال إلا بقدر ما يقوم به من الأعمال، وإني قدمت إلى الأمير نصائح فلم يعمل بها، فإذا حسب بعد ذلك أنني سأقبل ماله فهو بعيد عن فهمي)

وبعد إقامته خمسة عشر عاماً في هذه المقاطعة عاد إلى بلاده، وكانت المياه فيها قد رجعت إلى مجاريها، وهناك عين مديراً أعلى لمدينة (تشونج - تو) فمكنه هذا التعيين الجديد من

ص: 25

أن يخرج مبادئه إلى حيز العمل وأن يحقق أفكاره العمرانية الراقية. إذا صدقنا ما يقوله أحد معاصريه المؤرخين، جزمنا بأن عصره كان عصر إعجاز في النجاح الإداري. فالرقي الذي ظهر في تلك المدينة والسلوك الأخلاقي الذي استحدث فيها جعلا أمراء المدن الأخرى يتخذونها نموذجاً لمدنهم، بل إن دوق مدينة (لو) سأل (كونفيشيوس) عما إذا كان من الممكن تطبيق قواعد إدارته على جميع مدن الدولة، فلما أجاب بالإيجاب عينه الدوق نائباً للسكرتير العام للدولة ثم وزيراً للحقانية فلم يكد يتولاها حتى انقطعت جميع الجرائم وتعطل تطبيق قانون العقوبات تعطيلاً تاماً، لأنه لم يعد في الدولة جانون يطبق عليهم

لا ريب أن في هذا شيئاً من المبالغة، ولكن الذي لاشك فيه هو أن البلاد قد قطعت في عهد إدارة (كونفيشيوس) شوطاً بعيداً في التقدم الأخلاقي والعمراني والسياسي، وأن هذا الحكيم قد أعاد إليها صورة العصر الذهبي وأشعرها من جديد بالرخاء والسعادة. وبمعاونة صديقيه (تسيه لو) و (تسيه يو) اللذين كانا يشغلان وظيفتين عاليتين من وظائف الدولة قد تمكن من تقوية سلطة الأمراء وإضعاف قوة الأسر المتمردة فاستتب الأمن وسادت السكينة في البلاد

غير أن هذه النعمة لم تدم طويلاً، إذ لم يكد حكيمنا يصل إلى أوج الشهرة الحقة حتى حسده جماعة من معاصريه وهيأوا للدوق أسباب اللذة؛ فلما أفرط فيها أصم أذنيه عن سماع نصائح (كونفيشيوس) فهدده هذا بالاستعفاء إن لم يستقم ويُعْنَ بمرافق الدولة. فلما أصر الدوق على عناده لم يسع الحكيم إلا اعتزال الخدمة، وقد فعل، فاستقال في سنة 496

ومنذ هذا التاريخ أخذ (كونفيشيوس) يرتحل من بلد إلى بلد حتى آخر حياته دون أن يقيم في بلد أكثر من ثلاثة أعوام، وكان يستقبل في كل مكان بالإجلال والإعظام، ولكن لم يتبع نصيحته أي ملك، بل كثيراً ما تعرضت حياته للخطر، وكان قلبه من أجل ذلك مفعماً بالمرارة والحزن في جميع أسفاره التي كان لا يرافقه فيها إلا تلاميذه المخلصون والتي أذاقته من التشاؤم واليأس ما دفعه يوماً إلى أن يسائل نفسه قائلاً:(هل أنا إذن، يقطينة مرة لا يستطيع أحد من بني الإنسان أن يذوقها)

بعد أن أنهكته هذه الأسفار المختلفة ألقى عصا التسيار في مدينة (لو) وكانت سنه إذ ذاك تسعة وستين عاماً فاستقبله دوقها الجديد بكل ترحاب وإجلال، ولكنه نهج نهج أسلافه فلم يتبع نصائح الحكيم في أي شأن من شؤون الدولة، فلم يكن ذلك جديداً على نفس

ص: 26

(كونفيشيوس) ولكن الذي حطم قلبه في هذه الشيخوخة هو أنه رأى بعينيه الفانيتين موت ابنه الوحيد وتلميذيه المختارين (هُوِي) و (تسيه - لو). فلما حلت به هذه الكارثة أحالت الدنيا في نظره ظلاماً، ولكنها لم تقعده عن واجبه في الحياة، فكرس الشهور الأخيرة من حياته لجمع ونسخ الكتب القديمة المقدسة التي أشرنا إليها في حديثنا عن مصادر الفلسفة الصينية

وأخيراً هوى هذا الكوكب في اليوم الحادي عشر من الشهر الرابع من سنة 478 قبل المسيح بعد مرض لم يدم إلا أحد عشر يوماً

كونفيشيوس وجد حقاً

كتب أحد المؤلفين الإنجليز وهو: (هـ. ج. ألين) كتاباً سخيفاً بعنوان (كونفيشيوس أسطورة) عانى فيه عَرَقَ القِرْبة كما يقول العرب لإنكار (كونفيشيوس) ومحاولة تصويره في صورة الأساطير الخيالية. ولست أحب أن أرد على هذا المتعالم الإنجليزي بأحسن من تعليق الأستاذ (زانكير) الذي اقتطف منه ما يلي: (في ذلك العصر المحزن أي الربع الأخير من القرن التاسع عشر الذي كان الناس يظنون فيه أن العلم ينحصر في الإنكار والشك في الحوادث والشخصيات التاريخية الثابتة، فأنكروا (لاهو - تسيه) و (بوذا) والمسيح. في ذلك العصر الأسيف هب إنجليزي خامل، بنية إنشاء الضجيج حول اسمه الذي لولا هذا الإنكار لما ذكره أحد، فزعم أن (كونفيشيوس) أسطورة من الأساطير، ولكن إذا كان ينبغي لنا أن نشك في وجود حكيم (تو) فلست أدري لماذا نحن نؤمن بوجود (سقراط) و (يوليوس قيصر) و (شارلمان) بل، ولكي لا ننسى الإنجليز في ردنا نقول لهذا الزاعم أيضاً: وكذلك يجب أن نؤمن بوجود (غليوم الفاتح)، وأظن أنه ليس لدينا من الأسباب ما يحملنا على إنكار واحد من هؤلاء

ولكن لحسن الحظ قد بدأ العقلاء يعدلون عن النظر إلى هذا النوع من العلم نظرة جدية

أما الذي لا يقبل الريبة بحال: فهو أن (كونفيشيوس) - بالرغم من قلة مصادرنا العلمية عنه - قد وجد وجوداً حقيقياً لأن تلاميذه ومعاصريه قد أعطونا عنه صوراً مادية وأخلاقية أمينة

أخلاقه الشخصية

ص: 27

إن أهم ما اشتهر به هذا الحكيم من أخلاق سامية هو الهدوء الذي لا حد له؛ إذ حدثنا تلاميذه أنه لا الظلم المروع، ولا الألم المبرح، ولا الخطر المميت، كانت تهزه أو تحدث في نفسه أقل اضطراب. ومن هذه الأخلاق أيضاً ما يروونه لنا عن وداعته الفائقة، وتواضعه المنقطع النظير الذي يصفه لنا هو شخصياً فيقول:(كيف أستطيع أن أشبه نفعي بالحكيم أو بالرجل الذي يعمل للفضيلة؟! إن كل ما أستطيع أن أقوله عن نفسي: هو أنني أقهرها على محاولة مساواتهما بدون ملل، وعلى تعليم الآخرين دون انفكاك)

ومع ذلك فقد كان عنده ثقة عظيمة في نفسه وفي رسالته الأخلاقية، غير أنه كما أن تواضعه لم يهنه أمام من هم أقوى منه، كذلك ثقته بنفسه لم تدفعه إلى الكبرياء على من هم دونه

ومن محامده الجليلة أنه لم يسمح يوماً لعاطفته أن تتعدى حدودها المرسومة لها في أي ناحية من نواحي حياته العلمية أو العقلية حتى قيل عنه: إن التفكير العاطفي لم يجد له مكاناً قط بين تعقلاته. وقد كان هذا القول حقاً إذ أنه حين سأله تلاميذه عن رأيه في حكمة (لاهو - تسيه) القائلة: (أحبوا أعداءكم كما تحبون أصدقاءكم) أجاب بقوله: (إذا أحببتم أعداءكم وكافأتم بغضهم إياكم بحب من جانبكم، فبماذا إذاً تكافئون حب أصدقائكم؟ كلا، بل أجيبوا على البغض بالعدل وعلى الحب بالحب)

ولكن ليس معنى هذا أنه كان جافاً محروماً كل عاطفة نبيلة، كلا، لأنه كان يحمل بين جنبيه قلباً يفيض بالعطف على أصدقائه وتلاميذه، وبالحب الحار لوطنه، وبالإشفاق القوي على الضعفاء

(يتبع)

محمد غلاب

ص: 28

‌رؤيا (مرزا)

للكاتب الإنجليزي أديسون

بقلم الأستاذ محمود الخفيف

قال أديسون:

قد اتفق لي حينما كنت في تلك المدينة العظيمة، مدينة القاهرة، أن اشتريت بثمن بخس بعض المخطوطات الشرقية القديمة التي مازلت محتفظاً بها

وبين تلك المخطوطات التي صادفتها مجموعة تسمى (رؤى مرزا) قرأتها في سرور عظيم ثم عولت على تقديمها إلى القراء إذ لا أجد لدى غيرها أسرى به عن نفوسهم؛ وسأبدأ بأولى تلك الرؤى وهأنذا أترجمها كلمة كلمة فيما يأتي:

في اليوم الخامس لظهور القمر ذلك اليوم الذي كنت أقدسه جرياً على عادة جدودي ارتقيت تلال بغداد العالية بعد أن أديت فرائض الصباح، لأقضي هنالك بقية اليوم في التأمل والصلاة

وبينما كنت أنعم هناك بالهواء الطلق على قمم الجبال، إذ وجدت نفسي غارقاً في تأمل عميق حول حياة الإنسان وما يكتنفها من غرور، وإذ كنت أتنقل من فكرة إلى فكرة فقد ناجيت نفسي قائلاً:(حقاً إن الإنسان خيال، وإن حياته حلم). وبينا أنا كذلك أعمل الفكر، إذ أخذت عيناي رجلاً في زي الرعاة على رأس صخرة تقع غير بعيد مني، وكانت في يده آلة موسيقية، فلما رآني أنظر إليه رفعها إلى شفتيه وجعل ينفخ فيها ألحانه؛ وكان صوت تلك الآلة فائق الجمال كما كانت تنبعث منها طائفة من النغمات الرخيمة لم يسبق أن صادفت مثلها رونقاً وطرباً. ولعمري لقد صورت لي تلك الألحان هاتيك الأنغام السماوية العذبة التي تقابل بها أرواح الصالحين حينما تصعد إلى الجنة، هنالك حيث تذهب عنها آثار آلامها الأخيرة وحيث تتأهب لما أعد لها من النعيم في ذلك المكان السعيد، وسرعان ما اهتز قلبي في انتشاء عجيب

وكثيراً ما أخبرت من قبل أن الصخرة القريبة مني مسكن جني، وأن كثيراً ممن مروا بها قد سمعوا تلك الألحان الموسيقية، ولكني لم أسمع قبل اليوم أن ذلك الموسيقار يظهر للأعين

وقد أنعش ذهني بأنغامه العذبة وهيأ فكري لسماع محاورته وأنا أنظر إليه نظرة الحائر،

ص: 29

فلما استوثق مني أشار إليّ أن أسير إلى حيث يجلس. ولقد اقتربت منه باحترام يليق بطبيعته العلوية، ولما كان قد تملك قلبي بأناشيده الحلوة فقد ألقيت بنفسي على قدميه وعيناي تذرفان الدمع

فنظر إليّ الجني نظرة عطف وحنان سرعان ما جعلته أليفاً إلى نفسي، وسرعان ما بددت تلك المخاوف التي ساورتني وأنا أدنو منه، ومد يده فرفعني عن الأرض وتناول يدي قائلاً:(مرزا! لقد سمعتك وأنت تناجي نفسك فاتبعني)

واقتادني إلى أعلى صخرة بين تلك الصخور ثم وضعنني فوق أعلى قممها وقال:

- (ول وجهك نحو الشرق وأخبرني ماذا ترى هنالك؟)

قلت: (إني أرى وادياً مترامي الأطراف يخترقه مجرى هائل من الماء)

قال: (إن الوادي الذي تراه هو (وادي الشقاء)، وإن المجرى الذي يخترقه هو جزء من ذلك المجرى العظيم (مجرى الأبدية)

فقلت وما السبب في أن هذا الجزء من المجرى يخرج في أوله من خلال ضباب كثيف ثم ينتهي عند آخره إلى ضباب كثيف؟

قال (إن ذلك الجزء الذي ترى هو قسم من الأبدية تعبرون عنه بالوقت وتقيسونه بالشمس، وهو يمثل الحياة من أولها إلى منتهاها)

ثم قال: (أنظر إلى هذا البحر الذي تكتنف الظلمة طرفيه وحدثني عما ترى فيه)

قلت: (إني أرى قنطرة كبيرة في هذا الخضم)

قال: (إن هذه القنطرة ليست إلا الحياة الدنيا، فانظر إليها بإمعان)

نظرت فرأيتها مكونة من ثلاث حلقات تكون في مجموعها عشر أقواس؛ ثم شاهدت إلى جانبها عدداً من الأقواس المحطمة يصل بها الفرد إلى ما يقرب من المائة، وبينما كنت أعد هذه الأقواس أخبرني الجني أنها كانت في أول أمرها تبلغ الألف عدداً، ولكن فيضاناً هائلاً قد اكتسح معظمها وترك القنطرة على تلك الحالة المتهدمة التي كنت أراها

قال الجني: (أخبرني ماذا ترى فوق تلك القنطرة؟)

قلت: (إني أرى جموعاً من الناس تسير فوقها وأرى الضباب يكتنف نهايتها)، ولكني لما أمعنت النظر قليلاً شاهدت بعض الناس يسقطون من أعلى القنطرة إلى العباب المتلاطم

ص: 30

تحتها

وازداد إمعاني فرأيت عدداً من (الأبواب المسحورة) أو الفخاخ كان لا يلبث المار إذا مسها بقدمه أن يهوى من خلالها إلى اليم ويذهب إلى غير رجعة. وكانت تكثر هذه الفخاخ عند أول قنطرة؛ وكان كثير من الناس لا يكادون يظهرون من تحت الضباب حتى رأيتهم يسقطون من خلالها إلى البحر؛ غير أنها كانت تقل تدريجياً نحو الوسط، ولكن لتعود إلى كثرتها عند نهاية الأقواس السليمة

ولقد شاهدت بعض الناس يسيرون سير المقيد الموثق فوق الأقواس المتهدمة، ولكنهم كانوا قليلين، وما لبثوا أن رأيتهم يسقطون الواحد تلو الآخر بعد أن أخذ منهم التعب، وبلغ من نفوسهم الجهد من جراء هذا السفر الطويل

وقضيت وقتاً غير قصير أتأمل في هذا البناء العجيب وما يحوي من مختلف الأشياء. وتالله لقد بلغ من نفسي أن أرى بعض الناس يسقطون وهم في لحظات سرورهم وفترات انتشائهم، وكانوا يتعلقون بكل ما قرب منهم علهم ينجون من هذا السقوط؛ وكنت أرى غيرهم يهوون في هذا القرار السحيق بينما كانوا يرفعون أبصارهم نحو السماء في تأمل وتفكير

ورأيت غير هؤلاء جماعة كانوا يلهون سعياً وراء الحصول على بعض الفقاقيع الزاهية التي كانت تخلب ألبابهم، وبينما هم يحسبون أنهم على قاب قوسين منها، كانوا يهوون في هذا الخضم الزاخر

وتبينت من خلال هذا العماء قوماً يحملون في أيديهم نوعاً من السيوف البواتر، بينما كان يحمل غيرهم بعض القاذورات وهم يدفعون بها المارة فيمرون على تلك الفخاخ التي لم تكن في طريقهم فإذا هم فيها يغرقون. ولما رآني الجني أتأمل في هذه المناظر المحزنة قال (دع عنك هذا فقد أطلت النظر إليه)

ثم قال: (حول نظرك عن القنطرة وانظر هل ترى شيئاً غيره لا تستطيع أن تفهمه؟)

قلت: (إني أرى جماعة من الطير تحوم باستمرار حول القنطرة ثم تعود فتسقط فوقها من حين إلى حين. أرى عدداً من النسور والعقبان والغربان وأرى أشكالاً عجيبة وطيوراً مزعجة أجسامها آدمية نسوية ولها أجنحة مخيفة، وأرى طائفة من الغلمان ذوي أجنحة

ص: 31

يتجمعون في تزاحم حول الأقواس الوسطى)

قال الجني: (إن ما تراه إنما يمثل الحسد والطمع والوساوس والأوهام واليأس والحب وغيرها من الهموم والعواطف التي تحيط بحياة الإنسان)

وهنا تنهدت تنهداً عميقاً وقلت: (وا أسفاه! إنما خلق الإنسان عبثاً، فهو فريسة للشقاء والفناء يذوق العذاب في حياته ثم لا يلبث أن يبتلعه الموت)

وتالله لقد أشفق عليّ الجني إذ سمعني أنطق بهذا وأمرني أن أحول بصري عن هذا المنظر الذي يثير الشجن وخاطبني قائلاً: (كفى نظراً إلى الإنسان في حياته الأولى إذ يأخذ أهبته إلى حياة الخلود وانظر إلى هذا الضباب الذي يحمل إليه الموج هؤلاء الذين يسقطون في اليم)

فحولت نظري كما أمرت، ولست أدري هل زاد ذلك الجني قوة إبصاري أم هل أزال بسحره جزءاً من ذلك الضباب الذي كان أكثف من أن تخترقه العين، فقد رأيت الوادي وقد فتح من نهايته وتكشف عن محيط واسع تتوسطه صخرة فتقسمه قسمين متساويين؛ ولقد تجمعت السحب فوق أحد هذين القسمين فلم أر فيه شيئاً، ولكني رأيت في الآخر محيطاً واسعاً تتناثر فيه طائفة من الجزر لا عداد لها؛ وكان سطح تلك الجزر مغطى بأشجار الفواكه والزهور تتخللها غدران صغيرة عديدة، واستطعت أن أرى أناساً يلبسون فخم الثياب وتكلل هاماتهم الزهور وهم يمشون بين الأشجار أو يجلسون حول النافورات أو يضطجعون على سرر من الزهر، واستطعت أيضاً أن أسمع ترنم الطيور الشادية وخرير المياه المتدفقة مختلطة بأصوات الناس وأنغام الموسيقى

ولشد ما أبهج نفسي أن رأيت ذلك المنظر الرائع وتمنيت لو أتيح لي جناحا نسر فأطير إلى هذا المكان السعيد، ولكن الجني أفهمني أن لا سبيل إليه إلا سبيل الموت؛ ثم خاطبني قائلاً (إن الجزر الخضراء التي تراها أمامك والتي تغطي سطح البحر على مد البصر أكثر عدداً من الرمال التي تغطي شاطئ ذلك البحر، ويوجد وراء هذه الجزر التي تراها أعداد أخرى لا يصل إليها نظرك ولا يمكن أن يتسع لها خيالك، وتلك هي مساكن الصالحين بعد الموت، وهم يحلون بها كل حسب درجة صلاحه، وفيها من ألوان النعيم ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. أو ليست تلك الجنان يا مرزا جديرة بأن يسعى الإنسان إليها؟ وهل تكون الحياة

ص: 32

شقية إذا كانت وسيلة إلى تلك الغاية السعيدة؟ وهل تخشى الموت الذي يذهب بك إلى مثل هذا النعيم المقيم؟ كلا لا تحسبن الإنسان قد خلق عبثاً. وكيف يخلق عبثاً من أعدت له هذه السعادة في تلك الخبأة البهيجة؟)

وهنا خاطبت الجني قائلاً: (هل لك أن تطلعني على ما تحت هاتيك السحب التي تحجب القسم الآخر من الأسرار؟ ولما لم أتلق جواباً عن سؤالي درت رأسي لأخاطب الجني مرة أخرى، ولكني لم أجد أحداً بجواري، فتلفت ثانية نحو المنظر الذي كنت أراه أمامي ولكني لم أجد في مكان الموج الزاخر والقنطرة ذات الأقواس والجنان الخضراء سوى وادي بغداد المستطيل وقد وقفت الثيران والأغنام والإبل ترعى العشب على جانبيه.

محمود الخفيف

ص: 33

‌أبو الفرج الببغاء

للأستاذ عبد العظيم علي قناوي

أبو الفرج الببغاء أديب سامق البناء أدبه، فله الشعر العذب الرقيق، والنثر الحلو الرشيق. إذا أنشدت شعره كنت كمن يسرح طرفه في حديقة فينانة أريضة، غانية بمختلف الأزهار، ساحرة بموسيقا الأطيار، قد انتظمت أسماطاً وقلائد، وضمت أوساطا وخرائد؛ تجيل فيها بصرك فلا تدري أي شعابها تسلك؛ فوصفه يهدي إليك صورة أروع من المصوّر، يعرض عليك الحقيقة مرصعة بالخيال، والخيال موشي بجمال الحقيقة؛ ومدحه فرائد يطول بها جيد الممدوح، ولآلئ ليس لها مثال، بل هي مضرب الأمثال. فمن ذلك الذي يوصف بمثل قوله:

يا عارضاً لم أشم مذ كنت بارقه

إلا رويت بغيث منه هطَّال

رويدَ جودك قد ضاقت به هممي

وردَّ عني برغم الدهر إقلالي

لم يبق لي أمل أرجو نداك به

دهري لأنك قد أفنيت آمالي

من هذا الذي يبلغ نداه أن يرغم الدهر ويفني الأمل؟ ولا يطاول الجوزاء فيطولها، ويسامي السماء فيسمو عليها، وخمرياته وتشبيباته وتشبيهاته فعلها في الرءوس دونه معتق المدام، وأثرها في النفوس أنكأ من أثر الحسام، فكل شعره يبهر من يراه ويسحر من ينظر فيه، فهو أزاهير من الجمال، وطاقات من الحسن والروعة تحير الألباب وتخلب الأبصار. وإنه لمما يشق على النفس الشاعرة أن ينفرط عقد لا يجيد تنظيمه غير راسمه، أو ينتكث نظم لا يحسن تنضيده سوى ناظمه، فلا محيص حينئذ من أحد أمرين كلاهما محبب إلى النفس مرهف الحس؛ إما أن تستوعب ذاكرتك ما قرأت فتلتهمه روحك بعد أن أنتهبه بصرك، وإما أن ترسمه في مخيلتك ليرقى برسمه خيالك وترق بصوره آثارك

نسبه: ينتسب أبو الفرج إلى قبيلة عريقة في عربيتها لا تفرعها قبيلة شرفاً وخيماً هي قبيلة بني مخزوم؛ وولد بنصيبين في أوائل القرن الهجري الرابع، ولم أعثر على مصدر يحقق لي سنة مولده. ترجم له الخطيب البغدادي في الجزء الحادي عشر من تاريخ بغداد فقال عنه:(عبد الواحد بن نصر بن محمد أبو الفرج المخزومي الحنطُبي الشاعر المعروف بالببغاء. كان شاعراً مجوداً وكاتباً مترسلا، مليح الألفاظ جيد المعاني حسن القول في المديح والغزل والتشبيه والأوصاف)

ص: 34

وترجم له أبو منصور عبد الملك الثعالبي في الجزء الأول من كتابه يتيمة الدهر فقال: (هو أبو الفرج عبد الواحد بن نصر المخزومي من أهل نصيبين نجم الآفاق، وشمامة الشام والعراق، وظرف الظرف، وينبوع اللطف، وأحد أفراد الدهر في النظم والنثر، له كلام بل مدام بل نظام من الياقوت بل حب الغمام. . .) إلى آخر ما نعته به من أوصاف

أما سبب تلقيبه بالببغاء فلثغة كانت مدار أحاديث طريفة ومحاورات ظريفة بينه وبين صديقه أبي اسحق الصابي نورد بعضها لأن في قصصها متعة ولذة. رُوي أن كلاً من أبي الفرج الببغاء وأبي اسحق الصابي كان يشتاق رؤية صاحبه ويتلهف على اللقاء به ويتمنى أن يجتمع به بأي ثمن؛ وكانا يتكاتبان دون تلاق فتعارفت رسائلهما قبل تعارف شخصيهما. واتفق أن قدم أبو الفرج بغداد، فكان أول ما يهمه أن يبحث عن صديقه فإذا هو معتقل، فزاره في محبسه ولم يُثنِّ زيارته، فعتب عليه الصابي بقصيدة منها:

أبا الفرج اسلم وابق وانعم ولا تزل

يزيدك صرف الدهر حظٍّا إذا نقص

مضى زمن تستام وصلي غالياً

فأرخصته والبيع غال ومرتخص

وآنستني في محبسي بزيارة

شفت كمداً من صاحب لك قد خلص

ولكنها كانت كحسوة طائر

فواقاً كما يستفرص السارق الفرص

وأحسبك استوحشت من ضيق محبس

وأوجستِ خوفاً من تذكرك القفص

فأجابه الببغاء دون ريث مع رسوله:

أيا ماجداً مذ يمّم المجد ما نكص

وبدر تمام مذ تكامل ما نقص

تقنصت بالألطاف شكري ولم أكن

علمت بأن الحرَّ بالبرد يقتنص

وصادفت أدنى فرصة فانتهزتها

بلقياك إذ بالحزم تنتهز الفرص

فإن كنت بالبَبْغاء قدما ملقبا

فكم لقب بالجور لا العدل مخترص

وبعد فما أخشى تقنص جارح

وقلبك لي وكر ورأيك لي قفص

فأنهي الحديث إلى عضد الدولة غريم الصابي فأعجب به وكان سبباً من أسباب العفو عن الصابي وإطلاقه، فرأى أن يكون أول ما ينشده وصف الببغاء وذكر محاسنه والتلميح بفضل أبي الفرج وذكائه فأرسل أرجوزة منها:

ألفتها صبيحة مليحه

ناطقة باللغة الفصيحهْ

ص: 35

عدت من الأطيار واللسانُ

يوهمني بأنها إنسان

ومنها وهو آخرها:

تلك التي قلبي بها مشغوف

كنيت عنها واسمها معروف

نشرك فيها شاعر الزمان

والكاتب المعروف بالبيان

وذاك عبد الواحد بن نصر

تقيه نفسي عاديات الدهر

فأجاب أبو الفرج بأرجوزة منها:

من منصفي من حكم الكتاب؟

شمس العلوم قمر الآداب

أضحي لأوصاف الكلام محرزاً

وسام أن يلحق لما برزا

وهل يجاري السابق المقصر؟

أم هل يساوي المدرك المعذِّر؟

ومنها بعد أن أطال في وصف الببغاء:

لو لم تكن لي لقباً لم أختصر

لكن خشيت أن يقال منتصر

وإنما تنعت باستحقاق

لوصفها حذق أبي إسحاق

شرفها وزاد في تشريفها

بحكم أبدع في تفويفها

فكيف أجزي بالثناء المنتخب

من صرَّف المدح إلى اسمي واللقب

ومن أبدع ما مدح به اللثغ ما كتبه الصابي إلى أبي الفرج:

أبا الفرج استحققت نعتاً لأجله

تسميت من بين الخلائق بَبَّغا

بياناً منيراً كاللجين مضمنا

نضاراً من المعنى أذيبا وأفرغا

فلو لامرئ القيس انتدبت مجاريا

كبا أو لقس في فصاحته صغا

ومنها:

وما هجنت منك المحاسن لثغة

وليس سوى الإنسان تلقاه ألثغا

أتعرفها فيما تقدم خاليا

بعير إذا ما صاح أو جمل رغا

فيالك حرفاً زدت فضلاً بنقصه

فأصبحت منه بالكمال مسوغا

وبعد فلنترك حديث اسم أبي الفرج ولقبه، ولنتحدث عن حياته الأدبية لنصل منها إلى دراسة شعره ونثره

اتصل أبو الببغاء فتى بأمير حلب سيف الدولة علي بن حمدان وهو حينذاك حلبة آمال

ص: 36

الأدباء وكعبة رجاء الشعراء، يملأ أفواههم بالنضار، فيملئون أرجاء ملكه بروائع الأشعار، ويرفع أقدارهم بمنحه، فيرفعون عقائرهم بمدحه، وليس ذلك من مثله بمستغرب، فإن صلته بهم وشيجة فهو أديب مجيد وشاعر رقيق تهزه الأريحية وتتملكه موسيقى الشعر، فيسح عليهم وسميه وتهمي ديمه، ولأنه رأى أن يتشبه بعظماء الخلفاء ممن قربوا الشعراء وأدنوا مجالس الأدباء والعلماء كعبد الملك والرشيد والمأمون فغمرهم بلجينه ليروي منبت عزهم ومعين شعرهم ومهبط وحيهم وسماء فيضهم، ولأن دولة الأدب سناد قوي لدولة السياسة وعماد حصين لرجالها يذيعون حسناتها ويذودون عن رجالاتها، فجمع حوله من فحول الشعراء من لم يجتمع مثله لأمير أو خليفة قبله؛ فالمتنبي وأبو فراس الحمداني، والصابي والموصلي والببغاء والوأواء وغير أولئك وهؤلاء جعلهم في حياطته ينشدون محامده ويدبجون مدائحه، ولا يعرف تاريخ الأدب ممدحاً مدح بعشرة آلاف بيت من عيون الشعر سوى سيف الدولة. قال الثعالبي في يتيمته في ترجمة سيف الدولة:

(كان كل من أبي محمد عبد الله بن محمد القاضي الكاتب، وأبي الحسن علي بن محمد الشمشاطي قد اختار من مدائح الشعراء لسيف الدولة عشرة آلاف بيت)

ولأن سيف الدولة كان أرفع أمراء الدولة قدراً وأوسعهم مُلكاً وأقواهم سلطاناً هرع إليه الشعراء وكان زعيمهم من يصل سببه بأسبابه

لذلك ولغيره سار أبو الفرج في ركابه فعاش طوال عمره وفياً له ولابنه من بعده، فمدائحه فيض قلبه ونبعة حبه لا رغبة في ولاية، ولا خوفاً من وشاية، ومتى كان الشعر باعثه الشعور ومصدره الوجدان، بلغ أقصى الجودة والإحسان؛ ولاشك أن اللهى تفتح اللهاة. قيل إن سيف الدولة ضرب دنانير للصلاة عليها اسمه ورسمه وأمر عقب ضربها بعشرة منها لأبي الفرج فانطلق منشداً:

نحن بجود الأمير في حرم

نرتع بين الشعور والنعم

أبدع من هذه الدنانير لم

يجر قديماً في خاطر الكرم

فقد غدت باسمه وصورته

في دهرنا عوذة من العدم

فزاده عشرة أخرى، فهو لهذا قمين بالوفاء له لم يتغير عن وده في قربه أو بعده، ولكن هذا لم يمنعه أن يمدح غيره من لداته لا من عداته، ولعل هذا يرسل إلينا قبساً من أخلاقه

ص: 37

وسيكشف لنا ما سنقدمه من شعره ونثره عن خلال كريمة وموعدنا بدراسة نثره وشعره عدد تال

(المعادي)

عبد العظيم علي قناوي

ص: 38

‌من وحي الشجرة الضالة

على طريق الشعر المنثور

للأستاذ خليل هنداوي

- 1 -

ما تقول الشجرة. . .

من هو هذا الضال الذي ملأ سكينتي نداؤه؟

وما عسى يفعل الضال في ظلالي؟

أيبتغي مني هداه؟

وكيف يجد هداه من لا ينطوي قلبه على هدى؟

أنا لست ضالة وإن رأيتني في وحدتي ووحشتي:

أنا لست صامتة وإن لم تسمع لساني!

أنا لم أعتزل رفيقاتي ولو شئت الاعتزال لما استطعت!

وكل ما بي من جذور يتصل بجذورهن تحت الأرض الصامتة،

وكل ما يجري في عروقهن من دم الأرض يجري في عروقي!

- 2 -

لا تحدثني عن الاعتزال!

إن التفكير في الاعتزال هو مرض الحياة!

نحن هنا في دائرة الوجود الشاملة يتصل بعضنا ببعض!

أيستطيع عالم من هذه العوالم المختلفة أن يحيا منعزلاً!

نحن على ضلال ما ظللنا نطلب الاعتزال!

- 3 -

ألا أين هذه النار التي ستضرمنا؟

ألا حبذا النار!

لأنها عصر موحد. . . لا يترك وراءه إلا الرماد!

ص: 39

ينبغي لنا أن نحول رماداً حتى نشعر بالاتصال!

- 4 -

لست ضالاً إلا حين تعتقد أنك جئتني منفصلاً!

وأنت ترى أن كل جذورك متعلقة بجذور الأرض

وأن خيالك متمنطق بجميع آفاق السماء!

أأنت قادر على بتر جذورك وقطع خيالك

ومن أمامك ومن ورائك سلسلة حلقاتها لا تتناهى!

- 5 -

إن في جسدي جزءاً منك

وفي جسدك جزءاً مني. . .

ونحن لا ندرك هذه الأجزاء الغريبة فينا حتى نقدر على اقتلاعها، لأنها أجزاء تآخت مع

أجزائنا

- 6 -

لم تخلق الحياة جزءاً يستطيع أن يحيا منفصلاً!

حتى الأموات الذين أكملوا دوراتهم يبقى اتصالهم بأرواحنا!

وهل يستطيع الأحياء أن يعيشوا بغير أموات؟

إنهم في يقظاتهم يمشون وراء خواطرهم وأفكارهم!

وهم في أحلامهم يعيشون في جزائرهم النائية. . .

أن إبادة الحياة لبعضها الموجود ثم تكريرها لبعضها المفقود هما سواء في معنى

الاتصال!. . .

قل معي كما أقول. . .

لتدخل كل الأكوان في روحي فإنها واسعة جداً!

ولتتزاحم كل الآفاق في عيني فإنها لا تضيق. . .

وليتمثل لي الفناء كاشراً عن أنيابه فلن يروعني

ص: 40

لأنني جزء هائم من أجزاء الحياة الثابتة التي لا تقدر الحياة نفسها على هضمي. . .

هي تحملني تائهة من مكان إلى مكان!! إلى التربة التي أنجم فيها جديداً لأناجي فيها كل

الأكوان

- 8 -

قل للحياة. . .

اصنعي بي ما تريدين! فأنا حياة مثلك!

واجعليني إذا شئت رماداً لغذاء الزهور المتفتحة. . . إنني سأغذيها بقلبي!

لأن هذه الزهور المتفتحة تدري مثلي أنها تأكل رماد زهور كانت تحيا مثلها. . .

ليس سر الحياة في الذرة أن تشعر بأنها حبة!

إن سر الحياة في كل ذرة أن تؤدي الغاية من حياتها ثم تمضي لتأتي الذرة الثانية التي

نشأت في حضنها. . .

أنت من حياتك تمثل كل يوم هاتين الذرتين، فمثلهما على وجههما الأسمى الذي تنشده

الحياة

خليل هنداوي

ص: 41

‌الحرف العربي والإفرنجي

لأستاذ جليل

قرأت في (الرسالة الغراء) قطعة (الدمام) التي فيها شرح اللعس. . . ووصية الزمخشري. . . - ولن نعمل بها - بلن الاعتزالية - إن شاء الله - فلما وصلت إلى (شارع عماد الدين، هذا شارع موهي الدين) كركرت وقهقهت، وقلت في نفسي: لو ماشت جماعة من العرب أصحابنا الكماليين في اتخاذ تلك الحروف المسماة باللاطينية لأمسى محي الدين موهي الدين وتذكرت حديثاً طريفاً أحببت أن أقصه على قراء الرسالة:

في الإسكندرية رجل تركي يكتب بالعربي، والدجاج يخطب أيضاً ويكتب. . . وهو مولع بحرية القول، والحرية - يا أخا العرب - من غرائز هذا الجيل (التركي) منذ القديم. . . وقد عرفت مصر حرية القوم المعرفة البليغة المتقنة. . .

ولاقاني هذا الرجل ذات يوم وعلق يطنب في تقريظ الكماليين، وفي تجديدهم، وفي هذه الحروف التي استبدلوها بالقديمة، فقلت له: يا شيخ، اسمع: أما ذلك العظيم فإن إجلالي إياه ينسف هرفك به. ووالله ما ذكرته في وقت إلا تذكرت أبيات حفص بن الأحنف الكناني في ربيعة بن مُكَدّم:

لا يبعدَنّ ربيعةُ بنُ مكدّم

وسقى الغوادي قبرَه بذَنوب

نفرتْ قَلوصي من حجارة حَرَّةٍ

بُنيت على طَلْق اليدين وهوب

لا تنفري (يا ناق) منه فإنه

شِرّيب خمر مِسعرٌ لحروب

لولا السفار وبُعْدُ خَرْق مَهْمهٍ

لتركتها تحبو على العرقوب

فالرجل فوق ما في نفسك، وهو بطل من أبطال هذا الزمان؛ وأما ذلك التجديد فليس لليوم أن يقضي فيه قضاءه، وللغد الحكيم فتنظر أأحسن القوم أم أساءوا. وأما تلك الحروف الإفرنجية فما عمل الكماليون شيئاً، كانوا يكتبون من اليمين، فصاروا يكتبون من الشمال

قال: لم أفهم

قلت: الحرف العربي هو الحرف الإفرنجي نفسه، والحرف الإفرنجي هو الحرف العربي عينه (وأنفه)

قال: زدني إيضاحاً

ص: 42

قلت: هات نُتفة ورقة، رَ، أنظر، تكتب اللام من اليمين بالعربي هكذا (ل) وتكتبها بالإفرنجي من الشمال هكذا وتكتب النون العربية بهذه الصورة (ن) والإفرنجية بهذه الصورة بسبب رقمك إياها من جهة الشمال، والجيم العربية هي هذه (ج)، والجيم الإفرنجية هي هذه وهذه سيننا (س) وهذه سين الفرنج وقس على ما ذكر ما لم يذكر. وللجهة (جهة اليمين أو الشمال) أثر فيما تخاله اختلافاً، فالحروف واحدة غير أن الحضارة العربية - التي مدّنت أوربة كما يقول الإفرنج - قد نقحت الحرف العربي وحسنته؛ فالاختلاف الظاهر هو من حرف تقدم وارتقى وهُذّب، ومن حرف وقف. ولو استبدل مثلُ الصيني بحرفه الحرف العربي أو اللاطيني لكان له عذر مقبول، ولكن قومك قل لهم:(أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟!)

ولما ندب الكماليون ذلك العالم الأوربي منذ بضع سنين ليفتش المدارس العالية في اصطنبول، وشاهد من تقهقرها بتغيير الحروف ما هاله، نصح للترك أن يعودوا سريعاً إلى الحروف العربية

فلما أوريت صاحبنا التركي الذي يكتب بالعربي حراً ما أوريته، وأنبأته بحديث العالم الغربي وجم وجوماً (فبُهت الذي كفر، والله لا يهدي القوم الظالمين)

(الإسكندرية)

(* * *)

ص: 43

‌مصطفى صادق الرافعي

1880 -

1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 11 -

1 -

(إن المرأة للشاعر كحواء لآدم، هي وحدها تعطيه بحبها جديداً لم يكن فيه؛ وكل شرها أنها تتخطى به السموات نازلاً. . .)

2 -

(إن النابغة في الأدب لا يتم تمامه إلا إذا أحب وعشق. . .)

3 -

(. . . إن ملكة الفلسفة في الشاعر من ملكة الحب؛ وإنما أولها وأصلها دخول المرأة في عالم الكلام بإبهامها وثرثرتها. . .)

(الرافعي)

الرافعي يعشق. . .!

أتراني أستطيع الحديث عن الرافعي العاشق فأوفّي القول وأبلغ الغاية. . .؟

وهل يكون لي أن أدعي أنني أكتب في هذه الصفحات تاريخ الرافعي إذا أنا لم أعرض لحديث الرافعي العاشق. . .؟

وهل خَلتْ فترة في حياة الرافعي من الحب؟

ذلك الرجل الذي لا يتخيله أكثر من لم يره إلا شيخاً معتجر العمامة مطلق العذبة مسترسل اللحية مما قرءوا له من بحوث في الدين وآراء في التصوف وحرص على تراث السلف وفطنة في فهم القرآن مما لا يدركه إلا الشيوخ بل مما لا يدركه الشيوخ. . .

هذا الذي يكتب إعجاز القرآن وأسرار الإعجاز، والبلاغة النبوية؛ ويصف عصر النبوة ومجالس الأئمة وكأنه يعيش في زمانهم وينقل من حديثهم. . .

هذا الذي كانت تتصل روحه فيما يكتب - من وراء القرون - بروح الغزالي، والحسن البصري، وسعيد ابن المسيّب؛ فما تشك أن كلامه من كلامهم وحديثه من إلهام أنفسهم. . .

هذا الذي تقرأ له فتحسبه رجلاً من التاريخ قد فر من ماضيه البعيد وطوى الزمان القهقري ليعيش في هذا العصر ويصل حياة جديدة بحياة كان يحياها منذ ألف سنة أو يزيد في

ص: 44

عصر بعيد. . .

. . . هذا الرجل كان عاشقاً غلبه الحب على نفسه وما غلبه على دينه وخلقه. . .!

إن الحديث عن حب الرافعي لحديث طويل؛ فما هي حادثة أرويها وأفرغ منها، وحبيبةٌ واحدة أصفها وأتحدث عنها؛ ولكنها حوادث وحبيبات، وعمر طويل بين العشرين والسابعة والخمسين، لم يشرق فيه صباح ولم يجنّ مساء إلا وللرافعي جديدٌ في الحب؛ بين غضب ورضى، ووصل وهجر، وسلام وخصام، وعتب ودلال، وحبيب إلى وداع وحبيب إلى لقاء. . . وشابَ الرافعي وما شاب قلبه، وظل وهو يدب إلى الستين كأنه شاب في العشرين. . . ومات وعلى مكتبه رسالة ودادٍ من صديقة بينها وبينه جواز سفر وباخرة وقطار، وكان في الرسالة موعد إلى لقاء. . .!

وقلت للأستاذ الزيات مرة وبين الرافعي وبين أجله عام: هل لك في موضوع طريف عن الرافعي أنشره لقراء الرسالة؟ إن للرافعي في الحب لحديثاً يلذ ويفيد. . .

قال: ومن لي بهذا؟

قلت: أنا لك

قال: ولكنه حديث يُغضب الرافعي!

قلت: وعليّ أنا أن يرضى. . .

وذهبت إلى الرافعي فأفضيت إليه بعزمي. قال: أو تفعلها؟ أفكان لهذا مجلسك مني كل مساء تسترق السر لتدخره إلى يوم تنشره فيه على الناس بثمن. . .؟

قلت: لو أنه كان سراً لم يعلمه غيري ما عقدت العزم على شئ ولكنك يا سيدي. . .

وما كان للرافعي سر يستطيع أن يطويه بين جوانحه يوماً وبعض يوم، فكأنما أذكرتُه ما كان ناسياً؛ فعاد يقول: وماذا تريد أن تقول في حديثك عن حبي؟

قلت: حديثاً لو همّ غيري أن يجعل منه مقالاً لقرائه لما كان الرافعي هو الرافعي عند من يقرؤه، ولكن أحسبني أنا وحدي الذي أستطيع أن أقول إن الرافعي كان يحب فما أغيّر شيئاً من صورة الرافعي كما هو في نفسه وكما هو عند من يعرفه. . . إنني أنا وحدي الذي أعرف الحادثة وجوّها وملابساتها وما كان في نفسك منها؛ ولعلي يوم عرفت كنت أسمع نبضات قلبك وخلجات وجدانك ومرمى أملك وما كانت غايتك في الحب ومداك. أما غيري

ص: 45

فهل تراه يعرف إلا الحادثة؟ وحسبه أن يقول: إن الرافعي يحب. . . ثم تكون الفضيحة التي تخشاها وأنت منها طاهر الإزار. . .

واستمع الرافعي إلى حديثي ثم أطرق هنيَّة وعاد يسألني: وهل أقرأ ما تعدّه قبل أن تنشره، أو يكون يومك كأمسك؟

قلت: لك ما تريد

قال: أنت وشأنك!

وأجمعت أمري، وأعددت فكري، وتهيأت للكتابة، ثم شغلتني العناية بطبع (وحي القلم) وتصحيح تجاربه عن الوفاء بما وعدت. . . ومات الرافعي!

فإن يكن في الحديث عن (الرافعي العاشق) حرج فلا عليّ فقد استأذنته فأذن، وما أكتب الآن إلا مستمداً من روحه، راوياً من بيانه، ولديّ شهودي من كتبه ورسائله، وما يعرفه أصدقاؤه وصفوته. وإذا كان الرافعي قد خفت صوته إلى الأبد فلا سبيل إلى أن أسمع رأيه فيما أكتب عن تاريخ قلبه، فإني لمؤمن شديد الإيمان بأنني ما أزال في رضاه ومنزلتي عنده وإن كان بيننا هذا البرزخ الذي لا أعرف متى أجتاز إليه فأسمع من حديثه ويسمع من حديثي!

الحب عند الرافعي

وهل في الحب عار أو مذمة؟

هذا سؤال يجب أن يكون جوابه إلى جانبه قبل أن أمضي في هذا الحديث. . .

أما الحب الذي أعنيه - وكان يعنيه الرافعي - فشيء غير الحب الذي يدل عليه مدلول هذه الكلمة عند أبناء هذا الجيل. . .

إن الحب عند الناس هو حيلة الحياة لإيجاد النوع؛ ولكنه عند الرافعي هو حيلة النفس إلى السمو والإشراق والوصول إلى الشاطئ المجهول؛ هو نافذة تطل منها البشرية إلى غاياتها العليا وأهدافها البعيدة، وآمالها في الإنسانية السامية؛ هو مفتاح الروح إلى عالم غير منظور تتنوّر فيه الأفق المنير في جانب من النفس الإنسانية؛ هو نبوّة على قدر أنبيائها: فيها الوحي والإلهام، وفيها الإسراء إلى الملأ الأعلى على جناحي ملك جميل. . . هو مادة الشعر وجلاء الخاطر وصقال النفس وينبوع الرحمة وأداة البيان

ص: 46

كذلك كان الحب عند الرافعي، ولذلك كان يحب. . . وسعى إلى الحب أول ما سعى على رجليه، منطلقاً بإرادته ليبحث في الحب عن ينبوع الشعر، فلما بلغ أغلق الباب من دونه فظل يرسف في أغلاله سنين لا يستطيع الفكاك من أسر الحب؛ وكانت (عصفورة) أول من فتح لها قلبه فسيطرت عليه وغلبته على نفسه؛ وكانت سنه يومئذ إحدى وعشرين. . .

وبلغ الرافعي بعصفورة إلى غايته، واشتهر (شاعر الحسن) وترنم العشاق بشعره وما بلغت عصفورة إلى غايتها. ثم مضى كل منهما إلى طريق. وأتمّ الرافعي طبع ديوانه. وكما ينتهي الحب الذي هو حيلة الحياة لإيجاد النوع إلى الزواج أو إلى الغاية الأخرى ثم يبدأ في تاريخ جديد - كذلك انتهى حب الرافعي وعصفورة وأنجب ثمرته الشعرية، ثم كان تاريخ جديد. . .

وعلى مثال هذا الحب كم كانت له حبيبات وكم أنجبت ثمرات؛ وإنه ليخيّل إليّ أن الرافعي كان كلما أحس حاجةً إلى الحب راح يفتش عن (واحدة) يقول لها: تعالي نتحابّ لأن في نفسي شعراً أريد أن أنظمه أو رسالة في الحب أريد أن أكتبها. . .! ولقد سمعته مرة يقوله لإحداهن. . . وسمعت إحداهن مرة تقول له: متى أراني في مجلسك مرة لتكتب عني رسالة في (ورقة ورد)؟

على أن الرافعي كان له إحساس عجيب في مجالس النساء، وكان لهن عليه سلطان وله سحر وفتنة. وهو في هذه المجالس فكِه مداعب رائق النكتة لا تملك السيدة الرّزَان في مجلسه إلا أن تخرج عن وقارها؛ وكانت هذه أداته في استمالتهن حين يلتمس الوحي أو يجد الحاجة إلى أن يقرأ شعراً في عينٍ ساحرة. فإذا استوى له ما أراد عاد إلى مكتبه لينشئ وينظم وتنتهي قصة الحب

وكان يسمي كل جميلة (شاعرة) لأنها هي تمنحه الشعر، و (الشواعر) عنده طبقات، على مقدار ما يبعثن فيه من الشاعرية ويرهفن من إحساسه؛ ففلانة شاعرة كالمتنبي، وهذه كالبحتري، وتلك بنت الرومي، ورابعة بشار بن برد، وخامسة عبد الله عفيفي أو شاعر الرعاع. . .!

وحين يجلس في شرفة قهوة (لمنوس) بطنطا وتمر به الجميلات في رياضتهن أو في حاجتهن، تسمع ثبتاً حافلاً بأسماء الشعراء يبدأ من مهلهل بن ربيعة وينتهي بفلان الذي

ص: 47

يؤمل أن يكون أمير الشعراء بعد أن يموت كل الشعراء. . .!

هذه لمحات أذكرها على غير صلتها بالموضوع لأنها تشير إلى بعض عناصره؛ على أنني وقد بلغت هذا القدر من الحديث لم أبدأ القول بعدُ عن حب الرافعي الذي حاولت هذا المقال لأتحدث عنه

إنها حادثة وقعت في تاريخ الرافعي وسنه ثلاث وأربعون سنة فأنشأته خلقاً جديداً، كانت دعابة من مثل ما قدّمتُ فأوشكت أن تكون علة، فلما اختار الله له أنقذه بكبريائه من دائه، ولكنه خلّف في قلبه جرحاً يَدمَى، ولكنها كانت بركة في الأدب وثروة في العربية

من تكون هذه الشاعرة التي غلبته على إرادته فغلبها بكبريائه؟ ما شأنها وما خبرها؟ هذا موضوع حديثي في العدد القادم

محمد سعيد العريان

ص: 48

‌دراسات في الأدب الإنجليزي

جون ملتون

للأستاذ خليل جمعة الطوال

تابع ما نشر في العدد الماضي

على أن كرمويل ما لبث أن توفي، فكان موته زلزالاً عنيفاً قوض دعائم ذلك الدستور الذي شاد بيده الحديدة بنيانه؛ وزاد في الطين بلة ضعف خلفائه السياسي، فعادت الملكية إلى مكانتها السابقة، وكان طبَعيّاً أن تنتقم من البرلمانيين، وتثأر منهم لعرشها المغصوب وعزها المسلوب. أما ملتون فقد أدرك ما للملكيين عنده من الثأر الجسيم، وذلك لما نالهم منه من الطعن والامتهان والزراية، فأوجس خيفة من شرهم وانتقامهم، فتوارى عن عيونهم مدة من الزمن تجنباً لكيدهم؛ إلا أن هؤلاء بثوا وراءه العيون والأرصاد، فتمكنوا من القبض عليه، وزجوه في غياهب السجن وغرموه غرامات مالية فادحة؛ ثم سيق للمحاكمة، وقد كاد يحكم عليه بالإعدام لو لم يدافع عنه أمام المحكمة أشهر رجال المحاماة في ذلك العصر

وفي عام 1662م اعتزل ملتون السياسة، إذ فقد بصره وأصبح غير قادر على الاتصال الفعلي بالهيئة البشرية الاجتماعية، والإشراف على أحداثها السياسية والدينية والاجتماعية، فقصر وقته لذلك على الدرس والاجتهاد، وأكب على التأليف حتى نبه صيته في جميع الأوساط الأدبية كشاعر فذّ وكاتب بليغ، ومع اعتزال ملتون الفعلي للأمور السياسية فقد ظل يهز الرأي العام بكتاباته وشخصيته الفنية بعد الأخرى، وهو وفيذ وحدته، ووحيد عزلته. وما هي إلا ثلاث سنوات قضاها في عقر بيته منعزلاً عن المجتمع حتى أخرج للعالم ملحمته الشهيرة المعروفة بالفردوس المفقود وهي أعظم سفر أدبي في سجل الأدب الإنكليزي؛ وقد لا نجد لها حتى اليوم مثيلاً إلا بالرجوع إلى الملاحم العالمية السبع

الفردوس المفقود

لقد أجمعت الآراء على أن ملحمة الفردوس المفقود في الأدب الإنكليزي كالإلياذة في الأدب اليوناني والكوميديا الإلهية في الأدب الإيطالي، وأنها في شهرتها الواسعة هي الثالثة لهاتين الملحمتين العالميتين. ولئن وجد فيها بعض المتحذلقين من نقدة الأدب مجساً لمشارطهم

ص: 49

ومغمزاً لمباضعهم، إلا أن ذلك لا يمنع الأديب المنصف من أن يرى فيها للأدب الإنكليزي تعويضاً عادلاً لركوده وتغلب الموجة السياسية عليه في عهد الإحياء

لم ينظم ملتون هذه الملحمة المشهورة دفعة واحدة، ومن المؤكد أن ابتدأ نظمها بعد أن اعتزل السياسة، وبعد أن فقد بصره. ولقد أملى أبياتها على أكثر من كاتب واحد، يدل على ذلك نسخها الخطية الأصلية التي لا تزال محفوظة في مكتبة (كلية ترنتي) في (كمبردج). وقد طبعت لأول مرة عام 1667 في عشرة أجزاء، ثم نقحت وزيد عليها جزءان آخران، وطبعت في المرة الثانية في اثني عشر جزءاً وذلك عام 1674. أما موضوعها فقد استمده من الكتاب المقدس، وأوحى إليه بمادتها الجزلة ذلك النزاع الخطير الذي قام في إنكلترا من اصطدام المبادئ الديمقراطية التي ترمي إلى رفع لواء حرية الشعب الدينية والسياسية بالمبادئ الملكية الأرستقراطية التي غايتها جعل شئون الأمة وحريتها في أيدي الملوك كالآلة الصماء يديرونها في لهوهم وعبثهم أنى شاءت لهم أنانيتهم وكيفما رغبت أهواؤهم. وإذ كان لا بد للأدب الحي من أن يصور المجتمع في سلمه وحربه، ويجاري الزمن في تقلبه وتطوره، فقد صور ملتون ذلك النزاع الخطير الذي خاض غماره في ملحمته هذه تصويراً دقيقاً لا مزيد عليه

لقد كان الدين إذ ذاك مشتجر الآراء، ومصطرع البطانات، ومحور الخلاف بينها؛ وكان لا بد لمن أراد أن يكون مبرزاً في هذا الميدان الديني من أن يكون ملماً بجميع النصوص الدينية، ولذلك أقبل الأدباء على الكتاب المقدس يتدارسونه وعلى الإنجيل يتدبرونه، طمعاً في الشهرة والفوز؛ وقد كان ملتون أبعدهم في ذلك غوراً وأكثرهم في الدرس مطالعة واجتهاداً يحفزه عليه سُعاره للشهرة، وحبه للجاه، وطموحه للسمو والمجد؛ ناهيك بتوقد فطنته، وطاعة ذهنه، وتوثب شاعريته، ولذا فلا عجب إذا رشحت دراساته للدين، وتغلغله في ثناياها بمثل ملحمة (الفردوس المفقود) التي اختلف الأدباء على تقديرها، وانقسموا إزاء تمجيدها شأن انقسامهم إزاء كل أمر خطير، إذ كانوا في ذلك بين منتقص ذي هوى لم يسلم من الغلو والإسراف، ومطنب في المديح لم يسلم من التحذلق والإغراق؛ وليس أدل على هذا من هذه الفقرات الموجزة التي نثبتها فيما يلي بإسنادها إلى أصحابها تاركين للقارئ حريته في تمييز غَثِّها من سمينها

ص: 50

رأي جونسون

لقد مهد جونسون لرأيه في ملتون بما قرره (بوصو) عن الشاعر المجيد إذ يقول: (الشاعر الفذ المجيد هو الذي ينظم قصيدته وينشرها لغاية سامية ينشدها ومثل عليا يتطلبها، وتكون الحقيقة فيها هي بيت القصيد بل أسها الذي تقوم عليه؛ وما الخيال بجانبها إلا أداة طيعة يمهد بتلفيقه سبل الوصول إلى غايته المنشودة ومُثُله العليا المقصودة)، ثم جعل من هذه الفقرة الموجزة دستوراً للنقد ومحكاً للشعر يعرف بها غثُّ القصائد من سمينها - ولو إلى حد - وأخيراً قال: لقد ألف ملتون ملحمة الفردوس المفقود ليمهد للدين سبله الوعرة التي ضلت فيها عديد البطانات وليدحرج من هذه السبل تلك الصخرة الناشزة التي تحطمت عليها مختلف العقائد، وتنكرت أمامها أكثر الحقائق؛ ولعله لم يكن له من غاية أخرى سوى نظم الحقائق الدينية، ونقلها إلى الغير عن طريق القلب لا العقل، وبصورة لا أثر فيها البتة لالتواء اللاهوت وإبهامه، ولتعسف المنطق واحتمال تأويلاته، ولكنه لم يوفق إلى ذلك، إذ جمح به الخيال حتى أخرجه عن دائرة الحقيقة، وشردت به الشاعرية المتوثبة حتى أبعدته عن منطقة المعقولات؛ فجميع أغراضه متنكرة كأنها لغز غامض، وتعابيره ملتوية كأنه يقول شيئاً ويريد غيره، وصوره شائهة حتى لكأنها من تلفيق الخيال المحض الذي لا حقيقة له في الوجود. وبالجملة فإنه ليس فيها من أثر لما يريد خلا ما كان من بعض القوافي الممقوتة المصطنعة، والألفاظ المزركشة الآبدة، والتعابير المستعصية الغامضة، التي يند عنها الطبع وينشز منها الذوق

رأي ماكولي

الفرق بين أشعار ملتون ودانتي كالفرق بين الكتابة الهيروغليفية المصرية والكتبة التصويرية المكسيكية؛ فبينا يصور الثاني احساساته صورة لفظية كاملة، وينفض عليك عواطفه كما جاشت في صدره واعتلجت في قلبه، إذ بالأول لا يزيد في وصفه على الإشارة الغامضة، ولا في تصويره عن الصورة المبهمة للشيء - أي المسودة - ذلك يصف الأشياء بجزئياتها، وهذا يحيطها بستر كثيف من التورية البعيدة، والاستعارة الدقيقة، التي لا تظهر معها إلا بعد إعمال الفكر وكد الخاطر. وأكاد أجزم جزم اليقين أن ليس بين

ص: 51

الأدباء من قرأ ملحمة الفردوس المفقود فعلقت شحنتها بشغاف قلبه، أو هزت نبراته وتراً من أوتار حسه. وعندي أنها ليست في الشعر إلا كالأحاجي في اللغة، ولولا ثوب الشهرة الفضفاض الذي يضفيه الأدباء على ملتون في غير استحقاق لكانت ملحمته هذه صفراً على هامش الأدب؟؟!

رأي هزلت

لقد كان شكسبير يعنى بنقد المجتمع وسوءاته أكثر من اعتنائه بنقد الديانات وطوائفها، وكان أيضاً ينظم الشعر بدافع الفطرة الشعرية الكامنة في نفسه لا بحافز الشهرة الذاتية، ولهذا كان مغايراً لملتون كل المغايرة؛ وذلك لأن ملتون كان مصاباً بسعار الشهرة، وشديد التمسك والتعصب لمبادئه الطهرية الدينية. لقد كان كلاهما شاعراً فذاً، إلا أنه بينما يسير الأول - شكسبير - وراء خياله وعاطفته، إذ بالثاني - ملتون - يُسيّر خياله وعاطفته وفق إرادته؛ فعاطفة الأول هي التي تدفعه إلى قرض الشعر، بينا إرادة الثاني هي التي تستكره خياله على النظم؛ ذاك تتسم أشعاره بعفو الخاطر وبداهة الفطرة وتوقد العاطفة، وهذا تتسم قصائده بجهد الفكر، وغزارة المعرفة، ومسحة العقل، وتصنع الخيال، وبرود العاطفة؛ ذاك تتسم أشعاره بحرارة القلب الملتهبة، وهذا بغزارة العقل الرائعة

لقد كان ملتون محباً للوحدة، على حين كان شكسبير مغرماً بالمجتمعات الزحمة، ولذا فبينا يصور الأول - على العموم - نفسه بأشعاره، إذ بأشعار الثاني صورة جلية لمحيطه، ومرآة مجلوة تنعكس عنها مرئيات بيئته. كان ملتون مشغوفاً بالدرس والمطالعة، بينا كان شكسبير لا يجد اللذة والراحة إلا في مطاوي الطبيعة ومناجاة أسرارها ومحاكاة مرئياتها. ذاك - أي ملتون - يمثل بأشعاره قوة العقل وسلطان الإرادة، وهذا يمثل حرارة العاطفة وسلطان القلب

على أنه ليس في هذا ما يمنعنا من أن ننظر إلى ملحمة الفردوس المفقود نظرنا إلى الإلياذة والأوديسة - أو القدس المحررة - لتاجور؛ ذلك لأنها وإن كانت تتسم بقوة العقل وجبروته إلا أن فيها من حرارة العاطفة ما ينماث له القلب، ويعتلج له الصدر. ولئن دقتْ تعابيره، والتوت أغراضه، وسما أسلوبه في بعض المواضع، فما ذاك إلا لسمو الفكرة التي يصورها ودقة التعبير عنها ولأنه يخاطب بأشعاره الخاصة لا العامة

ص: 52

لم يتقيد ملتون في ملحمته (الفردوس المفقود) بالتزام قافية واحدة، وليس ذلك لعجزه وضعفه، فقد كانت القوافي أطوع لخاطره من بنانه، كيف لا وهو أعلم بأوابد اللغة وشواردها؟ ولكن لأنه رأى في القافية قيداً للعاطفة يجب التحرر منه

(البقية في العدد القادم)

خليل جمعة الطوال

ص: 53

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي

283 -

الله والنبي والعيد العربي

في رسالة لأبي الفضل أحمد بن الحسين الهمذاني (بديع الزمان):

إن عيد الوَقود لَعيدُ إفك، وإن شعار النار لشعار شرْك. وما أنزل الله بالسذق سلطاناً، ولا شرّف نيروزاً ولا مِهرجاناً. وإنما جعل الله (تعالى) النار تذكرة ومتاعاً، ولم يضرب لها عيداً، ولم يجعلنا لها عبيداً. الله والنبيّ، والعيد العربيّ، والتكبير الجهير، وتلك الجماهير، والملائكة بعد ذلك ظهير، والرحمة صوباً وصبّا، والبركات فيضاً وفضاً، والموسم الطاهر من لغو الحديث. هذا هو العيد، وذلك هو الضلال البعيد. . .

284 -

. . . والوجوه قباح

الإمام أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن:

لا يوحشنَّك أنهم ما ارتاحوا

مما جلاه عليهم المُداحُ

فهمُ كقوم عُلّقت بإزائهم

بيضُ المرائي والوجوه قباحُ

285 -

إذن تستوي

سمع بعض الحكماء رجلاً يقول:

قلب الله الدنيا!

فقال: إذن تستوي لأنها مقلوبة

286 -

رسالة. . .

قال صاحب البدائع: خرج المعتصم بن صُمادح صاحب المَريّة يوماً إلي بعض متنزهاته فحلّ بروضة قد سفرت عن وجهها البهيج، وتنفست عن مسكها الأريج، وماست معاطف أغصانها، وتكللت بلؤلؤ الطلّ أجياد قضبانها. فتشوّف إلى الوزير أبي طالب بن غانم أحد كبراء دولته فكتب إليه بديهاً بورقة كُرُنب بعود من شجرة:

أقبلْ أبا طالب إلينا

واسقط سقوط الندى علينا

287 -

لئيم العطاس

ص: 54

في (كامل) المبرد: يروى أن عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس - أتته وفود من الروم، وقام السِّماطان فأتى برجل منهم، وعطس أحد من السماطين، فأخفى عطسته فقال له عبد الملك لما انقضى أمر الوفد: هلاّ - إذ كنت لئيم العطاس - أتبعت عطستك صيحة حتى تخلع بها قلب العِلج

288 -

سرقت حمرة الخدود الملاح

ابن الزقاق الأندلسي:

ورياض من الشقائق أضحت

يتهادى بها نسيم الرياح

زرتها والغمام يلطم منها

زَهرات تفوق لون الراح

قلت: ما ذنبها؟ فقال مجيباً:

سرقت حمرة خدود الملاح!

289 -

ليس الهوى بالاختيار

في (نهاية الأرب): قال رجل من أهل المدينة كان أديباً ظريفاً طلاباً للأدب والملح: كنت يوماً في مجلس رجل من قريش، ومعنا قينة ظريفة حسنة الصورة، ومعنى فتى من أقبح ما رأته العين، والقينة مقبلة عليه بحديثها وغنائها. فبينا نحن كذلك إذ دخل علينا فتى من أحسن الناس وجهاً فأقبل عليّ صاحب البيت فقال: إن في أمر هذين لعجباً، قلت: وما ذاك؟ قال: هذه الجارية تحب هذا (يعني القبيح الوجه) وليس لها في قلبه محبة، وهذا الحسن الوجه يجدها وليس له في قلبها محبة. قال المدني: فقلت لها: تختارين هذا وهو أقبح من ذنوب المصرين، على هذا الذي هو أحسن من توبة التائبين! فقالت لي: ليس الهوى بالاختيار، ثم أنشأت تغني وتقول:

فلم تُلمِ المحبَّ على هواه

فكلُّ متيمٍ كلفٍ عميدِ

يظنّ حبيبَه حسناً جميلاً

وإن كان الحبيب من القرود!

290 -

رحمة الله عليه

(في سيرة عمر بن عبد العزيز) لابن الجوزي: قال إبراهيم ابن هشام بن يحيى بن يحيي العناني: حدثني أبي عن جدي قال: كنت عند هشام بن عبد الملك جالساً، فأتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إن عبد الملك أقطع جدي قطيعة فأقرّها الوليد وسليمان حتى استُخلف

ص: 55

عمر رحمه الله نزعها. فقال له هشام: أعدْ مقالتك، فقال: يا أمير المؤمنين إن عبد الملك أقطع جدي قطيعة فأقرها الوليد وسليمان، حتى إذا استخلف عمر رحمه الله نزعها. فقال:(والله) إن فيك لعجبا! إنك تذكر من أقطع جدك القطيعة ومن أقرها فلا تترحم عليه، وأنا قد أمضينا ما صنع عمر رحمة الله عليه. . .

291 -

الورد والياسمين

قال هبة الله محمد النصيبي: كنت في زمن الربيع والورود في داري بنصيبين، وقد أحضر من بستاني من الورد والياسمين شيء كثير، وعملت - على سبيل الولع - دائرة من الورد تقابلها دائرة من الياسمين فاتفق أن أدخل على المهذب والحسن ابن البرقعيدي الشاعران فقلت لهما: اعملا في هاتين الدائرتين. ففكرا ساعة ثم قال المهذب:

يا حسنها دائرةً

من ياسمين مشرق

والورد قد قابلها

في حلة من شفق

كعاشق وحبّه

تغامزا بالحدق

فاحمرّ ذا من خجل

واصفر ذا من فرق

فقلت للحسن: هات، فقال: سبقني المهذب إلى ما لمحته في هذا المعنى وهو قولي:

يا حسنها دائرة

من ياسمين كالحلي

والورد قد قابلها

في حلة من خجل

كعاشق وحبه

تغامزا بالمقل

فاحمر ذا من خجل=واصفر ذا من وجل

فعجبت من اتفاقهما في سرعة الاتحاد، والمبادرة إلى حكاية الحال!

292 -

أخاف ألا أموت في أوله

قيل لخالد بن صفوان: مالك لا تنفق؟ فإن مالك عريض

قال: الدهر أعرض منه

قيل: كأنك تؤمل أن تعيش الدهر كله

قال: لا، ولكن أخاف ألاّ أموت في أوله

ص: 56

‌الغني والفقير

للكاتب الفرنسي لابرويير

بقلم الأديب يوسف جوهر

جيتون لامع البشرة، طلق المحيا، ممتلئ الخدين، عينه حادة مقتحمة، ومنكباه عريضان، وصدره منصوب ومشيته مزهوة مختالة، يتكلم باعتداد، ويستعيد من يحدثه، ثم لا يكاد يسيغ ما يفضي به إليه. يخرج منديلاً فخماً ويفرغ أنفه في جلبة شديدة، يبصق بعيداً، ويعطس عالياً جداً؛ ينام في الليل وينام في النهار، ويغط في المجتمعات؛ يشغل من المائدة وفي المجالس مكاناً أكثر من غيره؛ يكون وسط زملائه عندما يتنزهون، يقف فيقفون، يستأنف السير فيسيرون؛ يقاطع ويخطّئ من يتكلمون ولا أحد يقاطعه، ويصاخ السمع لحديثه مهما أطال الكلام؛ كل الناس من وجهة نظره، والجميع يصادقون على ما يرويه؛ إذا جلس تراه قد استلقى في كرسيه ووضع ساقيه الواحدة على الأخرى، وقد عقد جبينه وخفض قبعته على عينه حتى لا يرى أحداً، أو يجذبها عن جبهته ليُرى كيف تكتسي بالعتو والصلف. وهو مهذار ضحوك سريع الضجر، معتدّ بنفسه غضوب، جرئ على المعتقدات، سياسي. وهو كتوم لمشاكل الساعة؛ وهو يعتقد في نفسه العبقرية وقوة العقل. ذلك لأنه غني. . .

لفيدون عينان غائرتان، ولون محترق، وأعضاء يابسة، ووجه نحيل؛ ينام قليلاً، ونومه خفيف جداً. وهو مهموم مشدوه كأنه صاحب ذهن بليد، فهو ينسى أن يقول ما يعرف أو يتحدث عن الحوادث التي يعلم، فإذا ما جازف أحياناً روى بركاكة. يعتقد أنه يثقل على من يتحدث إليه، ويتكلم باقتضاب وتهيب. يذهل عن الإصغاء فلا يناقش؛ يصفق ويبتسم لما يحدث به الآخرون؛ يجري ليؤدي لهم خدمات صغيرة، وهو مجار متملق مطيع، هو كتوم لشئونهم حييّ، يمشي برفق وقلق كأنه يخشى أن يطأ الأرض؛ يسير وقد خفض عينيه لا يجسر على رفعهما في وجوه المارة، ليس له بطانة لتستمع؛ يجلس خلف من يتحدث؛ يزن في نفسه ما يقال ويتراجع إذا ما رمقه أحدهم؛ هو لا يشغل مكاناً ولا يملأ مقعداً؛ يسير وقد زوى كتفيه وأمال قبعته على عينه كي لا يراه أحد؛ يختبئ ويتوارى خلف معطفه، تختفي عن عينه الطرقات والأروقة إذا ما ازدحمت بالناس لأنه لا يجد وسيلة للمرور من غير أن

ص: 58

يُعترض، والانسلال من غير أن يُرى، إذا ما دعاه أحد للجلوس جلس على حافة المقعد؛ يتكلم خفيضاً في المناقشة ويتلعثم، غير أنه صريح فيما يختص بالشئون العامة، ناقم على الظروف؛ له فكرة غير متطرفة عن الوزراء والوزارة. هو لا يفتح فمه إلا ليجيب؛ يسعل ويفرغ أنفه مستتراً بقبعته؛ يبصق فيكاد يلوث نفسه، ينتظر حتى يصير منفرداً ليعطس، فإذا ما اضطر عطس في غفلة من الجماعة، وهو لا يساوي في نظر الناس لا تحية ولا ترحيباً. ذلك لأنه فقير. . .

يوسف جوهر

ص: 59

‌عبادة جديدة؟!

للأستاذ سيد قطب

لك يا جمال عبادتي

لك أنت وحدك يا جمال

تُعصى تعاليمُ الطغا

ة، أو الهداة على ضلال

ويخالَف التشريع جه

راً، أو خفاءً في احتيال

وتجانَبُ الأديانُ أو

تُنسى وتهجرُ عن ملال

وأراك وحدك يا جمال

تَلقى الخضوعَ والاحتفال

والحبَّ والإيمانَ من

كل الأنام بكل حال!

المال معبود الحيا

ة المستذل قوى الرجال

هو بعض قربان النفو

س إلى مقامك في ابتهال

وأرى الألوهة فيك تو

حي بالعبادة في جلال

ما أنت إلا مظهر

منها تُوشِّيهِ الظلال

فإذا عبدتك لم أكن

يا حسن من أهل الضلال

بل كنت محمود العقي

دة في الحقيقة والخيال

أعنو لمن تعنو له

كل النفوس بلا مثال

متفرقاً في الكون في

شتى المرائي والخلال

فإذا تركز هاهنا

بَطَلَ التمحل والجدال!

ص: 60

‌رسالة الشعر

القطة

للأستاذ فخري أبو السعود

بادلتُها الوداد من زمانِ

كأكرم الأصحاب والخلان

تهش لي حين تراني بشراً

وتعقص الذيل وتحني الظهرا

تمسح بي فراَءها الصقيلا

ترتقب التربيت والتدليلا

لها فراء ناعم كثيفُ

مهدَّل مرجَّل نظيف

تخطر فيه خطرة الثرىِّ

في خير ثوبٍ مونق عصريِّ

مجدَّدُ اللمعة والرواءِ

تلبسه في الصيف والشتاء

تغسله بِطَرَفِ اللسانِ

أجملْ بذيِّاك اللسان القاني

وقد بدا من فمها الأنيقِ

بين ثنايا الدر والعقيق

ثيابُنا والفرشُ والوسادُ

أو حِجْرُ مَن شاَءتْ لها مِهادُ

تنام في الظهر وكلّ آنِ

وتسهد الليل بلا أشجان

تجوس في الدار وفي الحديقَهْ

تطلب فأراً تبتغي تمزيقَهْ

تَحْمَرُّ عيناها وتخضرَّانِ

كما بدا في الليل كوكبان

أنيقة السكون والحراكِ

رشيقة الوثاب والعراك

ما اٌهْتَزَّ شيءٌ دون ناظرَيْها

إلاَّ أصابتْه بمخلبَيْها

مِن كُرَةٍ أمامها تَمُرُّ

أو ذيل ثوبٍ حولها يُجَرُّ

أو أَنْمُلِي في الطرس أو أهدابي

أو شَفَتي تَهَتزُّ في الخطاب

ياَ حُسْنَها حيثُ مَضَتْ مِن تُحفَهْ

إن جَثَمَتْ في البهو أوْ في الشُّرْفَه

تدلف من دوح إلى خميلَهْ

كَنِمرٍ يمشي إِليك غِيلَهْ

وآنَةً تزحف كالأَفاعي

وآنة تهجم كالسباع

مُكْرَمةٌ حيث مضت أميرهْ

عزيزة ما بيننا أَثيره

سعيدة بعيشها راضيَهْ

مُدِلَّةٌ بنفسها آبيه

لها وداد بيننا أكيدُ

يحمله الكبير والوليد

ص: 61

أحببتُ فيها صورة من نفسي

وكلِّ مخلوق وكلِّ جنسِ

يُنبئُ عن ودي وعن وفائي

نَظْمِيَ فيها الشِّعْرَ وَاُحتفائي

فخري أبو السعود

ص: 62

‌ذكريات الهوى

للسيد جورج سلستي

يا نفسُ خلِّي ذكريات الهوى

وانسي فكم أشقَتْكِ ذكرى الغَرامْ!

ذادتْ عن الأجفانِ طيبَ الكرى

وحرمتْها من لذيذِ المنامْ

وسربلتْ جسمي بثوبِ الضنى

وألبستْني حلَّةً من سقام

وأنزلتْ بي ذكرياتُ الهوى

شتى الرزايا والخطوبَ الجِسام

كأنني أصبحت مُسْتودعاً

للهمِّ والأحزان دون الأنام

لا تذكري يا نفسُ ما قد مضى

واُسلي فقد يقضي عليكِ الحنينْ

وصلتِ أطرافَ الضحى بالدجى

من وَلَهٍ حتى متى تسهرين؟

صدّعتِ بالآهاتِ هدَْء الدجى

وشقَّ صمتَ الليل منكِ الأنين

ورحتِ لما اشتدَّ فيكِ الظما

ترتشفين الدمعَ لا ترتوين

أصبحتِ بين الناسِ أُمثولةً

وبتِّ فيهم عِبرةَ العاشقينْ

أَغرقتِ في التذكارِ يا مهجتي

وشقوةُ الإنسانِ تذكارهُ

فَعَصَفَتْ بي عاصفاتُ الشقا

وصوَّح اللذاتِ إعصارُهُ

وكلُّ منْ داوى الأسى بالأسى

أربتْ وزادتْ فيه أكدارُهُ

وذكرياتُ الحبّ بحرٌ طما

يجتاحُ نفسَ الصبِّ تيَّارُه

والحبّ نارٌ أُججتْ في الحشا

وكم فتى أودتْ به نارُهُ

ربَّاهُ حظّي كالدجى فاحمٌ

محلولكٌ ما فيه غيرُ السوادْ!

أنّى مشتْ منِّي الخطى لا أَرى

على سبيلي غيرَ شوكِ القَتاَدْ

قد عِيلَ صبري يا إِلهَ السما

وبلغَ السيلُ الزُبى والنجادْ

أَغلق كوى التذكار في خاطري

وانزعْ شعوري واجعلنِّي جماد

إحساسيَ الجاني على عيشتي

والشاعرُ الحسّاسُ أشقى العباد

جورج سلستي

-

ص: 63

‌ليتني

للأديب محمود السيد شعبان

أظْلَمَ الكونُ فَمَنْ فيهِ نِياَمْ

غيرَ قلبٍ في دُجَى الَّليلِ يَسِيحْ!

هتَفَ النجمُ بهِ: ياَ ابْنَ الظلامْ

ما الذِي تَهَوى مِنَ الليلِ القبيح؟!

قالَ: أهوَى وَحْشَتَهْ!

قال: أهوى ظُلْمَتَهْ!

قال: أهوى فيه أطيافَ الهمومْ

وأنينَ العاشقِ الباكي الحزينْ

وأناجي البدرَ فيهِ والنجومْ

مُنْشِداً وحدِي نشيدَ العاشِقِينْ

ساهداً أحرُسُ حبِّي!

ساهراً أعبُدُ رَبِّي!

إيهِ يا ليلَ الأمانيِ والحنينْ

دَعْ فؤادِي فِيكَ يحياَ بالمُنَى!

إِنَّنِي يا لْيلُ مِنْ ماءٍ وطِينْ

ليتني كنتُ شُعاَعاً مِن سَنَا!

ساطعاً يهدِي الأناماَ!

لامعاً يمحُو الظلاماَ!

ليتني كنتُ على خَدٍّ أسِيلْ

دَمْعَةً يشرَبُ مِنها وَرْدُهُ!

دمعة تجري على خَدٍّ جميلْ

قدْ حَلَا لِي وصَفاَ لِي وِرْدُهُ

حيثُ لا أخْشَى رقيباَ

أوْ بعيداً أو قريباَ!

ليتني ضَمَّةُ معْمُودٍ صَرِيعْ

قد تلاقَى بعد هجرٍ بحِبِيبِهْ!

يَخْفُقُ القلبُ لها بيْنَ الضلوعْ

كذبالٍ يَتَلَوَّى فِي لهِيبِهْ!!

ليتني كنتُ عِناقاَ!

أو صُدوراً تَتَلَاقَى!

ليتني قُبْلَةُ ظمآنٍ علىَ

شفَتَيْ حَسنْاَء يهواهاَ فُؤَادُهْ!

قبلة طابَتْ ولذَّتْ مَنهلَا

هي خمر العاشقِ المُضْنَي وَزَادُهْ!

هيَ كأسٌ مِن عقيقِ!

ص: 64

مَلأُوها بالرَّحيقِ!!

ليتني آهَةُ محزُونٍ كئيبْ!

ليتني أَنَّةُ مظلومٍ ينوحْ!

إِننَّي أهوَى البكا أهوَى النحيبْ

إنَّ قلبي بِدُموعي يسترِيحْ!

فدعُوني يا رفاقِي. . .

فالبكا حُلْوُ المذاقِ!!

ليتني قَطْرَةُ ماءٍ فوقَ زَهْرَهْ

في رياضٍ باسماتٍ لِلنَّدَى!

إنَّ طَلَّ الفجرِ ما أعَجبَ أمْرَهْ

يَمْلأُ النفْسَ جلالاً وهُدَى!

جَلَّ باريهِ تَعالىَ

ملأَ الدُّنيا جَمالَا

ليتني كنتُ فَرَاشاً هائماَ

جَالَ في الروضِ فحيَّاهُ العَبِيرْ!

أقْطَعُ العيْشَ وحيداً حائماَ

بيْنَ روضٍ وسماءٍ وغدِيرْ!!

ذاكراً حُلْوَ الأمانِي

ناسِياً مُرَّ الزَّماَنِ!

ليتني سَجْدَةُ شَيْخٍ في صَلَاتِهْ

يعبُدُ اللهَ الذِي يَرْهَبُ بأْسَهْ

ليتني زَفْرَةُ مَيْتٍ في مَماتِهْ

حَطَّمَ الدَّهرُ ويا لَلْهَوْلِ كأْسَهْ!

إنَّنا أهل التراب

قد خُلقنا لِلْعذابِ!

ذاكَ ما أهوَاهُ من دُنيا الشُّرورْ

ذاكَ ما أَرْضاَهُ مِنْ دار الفَناَءْ

عالَمٌ كادَ على الناسِ يَثُورْ

مُذْ طَغَوْا فِيهِ وَلَجُّوَا في العَدَاءْ

هَلْ لِنفْسِي مِنْ مُؤَسىِّ

قَبْلَ أَنْ تأفُلْ شَمْسي؟!

(الإسكندرية)

محمود السيد شعبان

ص: 65

‌القصص

من أساطير الإغريق

1 -

خرافة جاسون

للأستاذ دريني خشبة

غلب بلياس الظالم أخاه إيسون على مُلك تساليا، فهام الملك على وجهه في أقصى الأرض، وهامت معه زوجته الملكة الصالحة آلسِميديه، وطفلهما الوحيد اليانع جاسون. . . وعرجا في تطوافهم بأستاذ أخيل العظيم شيرون، فدفعا إليه بالطفل يهذبه ويؤدبه، وينشّئه على الفروسية ومكارم الأخلاق؛ ورجواه أن يكتم سرهما عنه حتى يشب ويترعرع، ويبلغ أشده، فيثير في صدره الحمية، ويرسله ليثأر لأبويه، وليستخلص العرش من غاصبه. وأخلص شيرون في تربية جاسون الإخلاص كله، وكان يردفه خلفه ليعلمه الرماية، وهو شرف عظيم لم ينله من تلاميذه غير أخيل الخالد، وغير جاسون. . . ثم مرت الأيام، وشبّ الفتى على غرار أستاذه، فلم يكن في الدنيا بأسرها أحملُ منه لسيف، ولا أرمى لسهم، ولا أرجح في تفكير، ولا أوفر في حظ من جمال وكمال. ووقفه شيرون على سر أبويه، وما كان من اغتصاب عمه بلياس عرش والده؛ فثار ثائر الغلام، وازّلزل قلبه، وضرب برجله يود لو يخرق الأرض فيكون عند الظالم، فيذرو عظامه في الريح!

ووعظه شيرون، وأوصاه بالصبر وطول الأناة وإعمال الروية وحذره أن يعيث فساداً في الأرض، ونصحه أن يكون رحيماً بالضعفاء، وألا يألو جهداً في مساعدة من يطلب منه المساعدة، وألا يكون عداؤه لعمه سبباً في عدائه لجميع الناس. . . وأعطاه الفتى موثقه، ثم اخترط سيفه، وربط على قدميه وساقيه نعليه الذهبيتين، وودع أستاذه وحياه أحسن تحية، وانطلق يذرع الرحب إلى يولكوس، حاضرة تساليا

ولقي في طريقه سيلاً زاخر العباب، فوقف حياله ينظر ويفكر، ويدبر لنفسه خطة يعبره بها. وكان السيل جياشاً ينحدر من شعاف الجبل القريب، فيجرف في سبيله الجلاميد والنّؤى، وتظل تتدحرج ويضرب بعضها بعضاً فتنسحق وتتفتت، فراعه أن ينزلق وسطها، ويكون مصيره مصير جلمود منها. . . وفيما هو يعمل فكره، وفيما هو يتلفت يمنة ويسرة،

ص: 66

إذا به يرى عجوزاً تابّةً تدب على عكاز غليظ، مقبلة نحوه، مادة ذراعها المعروقة مستغيثة لهفى:(بُني! بُني! انتظر أرجوك! انتظر يا ولدي!!) من هذه؟ لا يدري جاسون. بيد أنه انتظر حتى أقبلت العجوز وسألها عن شأنها، فتوسلت إليه أن يحملها على ظهره ليعبر بها مجرى السيل! ووجم جاسون قليلاً، ولكنه ذكر وصاة شيرون أستاذه، فتبسم، وانحنى للمرأة فاحتملها على كاهله القوي العتيد، ثم رجاها أن تدفع إليه بعكازها يتوكأ عليه ففعلت، وتقدم بخطى وئيدة، ولكنها أكيدة، إلى مجرى السيل لا يفكر في نؤيه وجلاميده، ولا جيشانه واصطخابه، بل يفكر في أنه يجب أن يؤدي يداً لهذه العجوز التي استغاثت به. . . وعبر مجرى السيل، وبلغ عُدْوته الأخرى بعد عناء وجهد، ووضع على الرمال اللينة المتطامنة حمله. . . ولكن. . . يا عجبا!! أين هي المرأة العجوز الحيزبون؟ أين الكومة من الجلد المتهافت، والعظام النخرة، التي كانت ترهق كاهله؟ لقد ذهبت، ووقف مكانها شباب رائع، وجمال فتان، وغادة حُسّان مفتان!!

- يا للآلهة! من أنت بحق السماء يا ربة؟

- أنا؟. . . ألا ترى إلى هذا الطاووس المزهو بذيله وألوانه أيها العبد الصالح؟

- أوه؟! أو أنت جونو؟

وسجد جاسون بين يدي الربة، سيدة الأولمب، ثم أذنت له أن ينهض، وأخذت برأسه فباركته، وسألها أن تهبه رعايتها في حله وترحاله فوعدت، ثم رفت في أثير السماء التي تفتحت لها أبواباً، وغابت عن بصر جاسون!

ووقف الفتى لحظة مسبوهاً مشدوهاً ثم انطلق في طريقه. . . وراعه بعد مرحلة طويلة أن يرى إلى قدميه فلا يجد إلا نعلاً واحداً في إحداهما. . . أما الأخرى، فقد ذكر أن السيل انتزعها من قدمه واحتملها، وهو لا يستطيع استعادتها، لأن حمله كان يرهقه!

ثم بلغ يولكوس

ورأى جمعاً حاشداً حول ملكها بلياس، الذي وقف ينحر الذبائح، ويقرب القرابين للآلهة، ويفرق حواياها في الفقراء! فدافع الناس، وشق طريقه إلى الهيكل حيث وقف الملك، ثم سار إلى عمه قُدُماً، حتى كان قبالة المذبح. . . وما كادت عين صاحب العرش - أو غاصبه - تقع على الفتى الذي يلبس نعلاً واحدة حتى شحب لونه، وغاضت الدماء الوردية

ص: 67

من خديه، وأخذ قلبه يخفق ويضطرب اضطراباً شديداً. . . ذلك لأنه ذكر تلك النبوءة التي تنبأ له بها أحد سحرائه، والتي حذرته من الشاب الذي يقبل من بلاد بعيدة لابساً نعلاً ذهبيةً واحدةً في إحدى قدميه في حين يكون هو مشغولاً بتقريب القرابين للآلهة!! إن هذا الشاب يقتله!!

وأمر حراسه بالقبض على الفتى وإحضاره إلى غرفة العرش فجيء به إليها، ولم ينتظر جاسون حتى يبدأه عمه بالكلام، بل وقف أمامه جباراً يغلي الدم في عروقه، وطلب إليه أن يعتزل الملك، ويخلع التاج، ويعطي الصولجان صاحبه، وأن يعيد الحق إلى نصابه. . . (لأنك انتهزت ضعف أبي الذي أوهن منه عظامه، واشتعل رأسه شيباً. فعَتَوْتَ عليه، وألبت عليه الأوشاب من مرتزقة الجند، ورعاع الشحاذين والأفاقيين، فلبست تاجاً ليس لك، واستويت على عرش تزعزعه الجريمة من تحتك، ثم حاولت أن ترشو الآلهة وتخدع السناء بالأضحيات والقرابين، ولكنك لا تخدع إلا نفسك فالتمس لها السلامة من موت يبغتك، ومغبة وبال يحيط بك. . .)

وكان بلياس يسمع هذه الكلمات الثائرة كأنها سهام تملأ أذنيه، ومنايا تطير حول قلبه. . . بيد أنه استعد لها بالمكر، وتهيأ لصيدها بالخدعة، فتبسم لابن أخيه وقال:(ماذا تقول يا جاسون؟ أتحسبني يا بني قد سلبت أباك عرشه، وغلبته على صولجانه؟؟ كلا والله يا بني كلا. . . ولكن. . . ليسكن طائرك قبل كل شئ. . . فلقد دعوت نفراً من (رعاياك!) لوليمة إلهية، وقد أقبلوا من كل فج، وهم ينتظروننا الآن، وليس من حسن الرعاية ولا من مروءة الملوك أن يستأنوا عن مواعيدهم، فهلم تلقهم يا جاسون، وترحب بهم، فإذا فرغنا وفرغوا من طعامهم، عدنا سوية لنبحث هذا الأمر الذي أهمك وأقلقك، وملأ فؤادك بالوساوس والأراجيف؛ وسترى أن الذي أنبأك هذا النبأ زخرفه عليك، وشوه حقيقته في نفسك، بدليل هذه النيران التي تنقذف كلمات من فمك!! تعال. . . مرحباً بابن أخي جاسون! لشد ما أنا مشتاق إليك يا حبيبي!)

ثم قبله في جبينه قبلة صفراء قاتلة، أفتك من قبل التماسيح؛ وانطلقا إلى البهو الكبير، حيث صُفّت الأخاوين الحافلة بأشهى الآكال وأطيب الأشربات، وحيث جلس المدعوون إليها صفوفاً وصفوفاً وألوفاً وألوفاً. . .

ص: 68

وجلس جاسون فأكل وشرب، ثم أخذت الموسيقى تعزف فتشرح الصدور الحرجة، وتشفى النفوس من كل حرد؛ واعتلى المنصة التي أقيمت في صدر الحفل جماعة من المنشدين ورواة القصص، شرعوا يسردون قصصهم، ويتناشدون أشعارهم، ويروون من أنباء الأبطال ما يأسر القلوب ويسحر الألباب، حتى أن جاسون نفسه كان يصغي إليهم وكأنه يتلقى وحياً من السماء يتنزل على قلبه، ويدعوه إلى فعال الفتية الأبطال

قال أحد المنشدين (واسمعوا أيها الناس حكاية الملك الذي صبا قلبه إلى امرأة غلبت فؤاده وسحرته بجمالها عن زوجته وأم طفليه، فبنى عليها، ولم يبال أن ينقض ركن الأسرة وينهار عمادها. . . ذلك هو أتماس أحد ملوك تساليا في الزمان القديم. ولقد فزعت الملكة البائسة وخشيت أن يصيب طفليها مكر ضرتها فاعتزمت أن ترسلهما إلى ملك كولخيس ليكونا بنجوة من إينو الخبيثة. . . وفيما هي واجمة تفكر في ذلك إذا هرمز الأمين يتنزل من السماء فيسألها وتجيبه:

- نيفيل أيتها العزيزة؟ فيم تفكرين حزينة هكذا؟

- هرمز؟ تباركت يا رسول السماء! أفكر في ولدي هذين وما عسى أن يصيبهما من مكر إينو. . .

- لا عليك يا حبيبة الآلهة، إنني مساعدك، كفكفي دموعك!

- شكراً يا إله الرحمة، سأسبح لك ما حييت!

- وأين تحسبينهما يكونا في سلام وأمن يا نيفيل؟

- لا يكون ذلك إلا عند ملك كولخيس، ولا أدري كيف أرسلهما إليه؟!

- لا أهون من هذا، فانتظري طرفة عين!

ومضى الإله فغاب برهة، ثم رجع ومعه كبش عظيم ذو فروة ذهبية وقرنين وحوافر من خالص الإبريز، فقدمه إلى الملكة المحزونة ليركبه طفلاها، ولينقلهما إلى ملك كولخيس؛ وسجدت الملكة شكراً لهرمز، ثم ودعت طفلها فركسوس، وابنتها هِلّه، وطبعت فوق جبينهما وخدودهما ألف ألف قبلة، ودعت لهما؛ ثم انطلق الكبش في الأثير يطويه بين بكائها الطويل وآهاتها التي لا تنتهي. . . وطفق الكبش يعرج في السماء، ويخطف فوق الممالك، حتى كان فوق بحر صاخب مضطرب، تقلبت أمواجه، وتناوحت زوابعه، فنظرت

ص: 69

الفتاة المسكينة هِلّه تحتها لترى ما هنالك، ولكنها فزعت فزعاً شديداً حينما رأت سراطين البحر وحلازينه تقتل وتحترب ويأكل بعضها بعضاً، فارتجفت رجفة هائلة، وانفلت صوف الفروة من قبضتها فسقطت من عَل وجعلت تهوي حتى تردّت في البحر وابتلعتها أمواجه. . . ومنذ ذلك الوقت، وهذا المكان يعرف من أجل ذلك باسم (الهلسينت) نسبة إلى الفتاة البائسة هِلّه! ومضى الكبش يستبق الريح، ويطوي العوالم، حتى وصل إلى مملكة كولخيس، فهبط قليلاً قليلاً، حتى إذا كان على الأرض نزل الفتى فركسوس فصلى للآلهة، وذرف الدمع على أخته، وسلم على الملك الذي هش له وبش، وأحسن لُقياه وأكرم مثواه، ثم شحذ سكينه وتلّ الكبش لجبينه، وكبر وسبح باسم جوف، وبأسماء آلهة السماء وجزر الحيوان قرباناً لهم جميعاً. . . وسلخ الجلدة الذهبية وقدمها هدية للملك الذي فرح بها فرحاً شديد، ولأنها كانت تعدل كل ما في كنوز الملوك من ذهب. . . وقد ربطها الملك في سنديانة باسقة، ووكل بها تنيناً هائلاً ليحرسها وليسهر عليها من كل سارق رجيم. . . ومنذ ذلك اليوم والفروة التي تعدل ألف كنز معلقة لا تمتد إليها يد، ولا يجسر أحد أن يقترب منها وإلا جازف بنفسه وأصبح لقمة سائغة للتنين. . .)

ولحظ بلياس كيف زاغت عينا جاسون عندما سكت المنشد، فانتهز الفرصة، وانطلق يغريه بالاستيلاء على الفروة الذهبية، ليكون بها أعز الملوك وأضخمهم غنى، وأوفرهم ثراء؛ ثم ليخلد اسمه بين أسماء الأبطال الذين دوخوا الممالك، وأتوا من الفعال ما جعلهم أنشودة المجد في فم الزمان. . . (ولم لا يا ابن أخي؟ لقد علمت أن أستاذك الذي نشأك، وهذبك وأدبك، هو شيرون السنتور الأكبر، أستاذ أخيل العظيم؛ وقد خلد أخيل اسمه على أسوار طروادة، وأعلى ذكره في جميع الأنام، فلم لا تذهب إلى كولخيس لتحصل على الفروة الذهبية إما سَلْماً وإما حرباً، وأنت من أنت في أبطال الوغى، وصناديد الحروب؟ ألست أرمى الناس لسهم، وأضربهم بسيف، وأحذقهم طعاناً برماح؟ إنها فرصة المجد لمن يبتغي المجد يا جاسون، فلا تضعها! لا تقل (بل حسبي أن أحكم الناس) فالناس يعشقون أشجع الناس. . .) وهكذا طفق بلياس المخادع يزخرف للفتى، حتى هاج في صدره الشاب نائم المنى وأبعد الآمال. . . فرضي جاسون بالاضطلاع بهذه المجازفة، وظن أنها من اليسر بحيث لا تستعصي على شجاعته. بيد أنه عندما خلا إلى نفسه، وراح يفكر في الوسيلة

ص: 70

التي يبلغ بها مناه، بدت له حقائق أسقطت في يده، وجعلته يتخاذل، ويندم على الوعد الذي وعد عمه؛ غير أنه ذكر ما قال له أستاذه شيرون من ضرورة احترام الوعد، وربطه بالشرف، فصمم على السفر إلى كولخيس وجلس يفكر فوق عدوة النهر، وكانت سمادير اليأس تملأ بظلماتها عينيه، فلم يهتد إلى الوسيلة!!. . . وانطلق إلى غرفته فقضى فيها ليلة ليلاء مثقلة بالهم والفكر. . . ثم انبلج الصبح، فانطلق إلى هيكل جونو عند دودونا. . .

- جونو. . . جونو. . . لقد كدت أنسى جونو. . . يجب أن أصلي لجونو، فقد وعدتني أن تدركني بغوثها كلما حزبني أمر. . . لقد حملتها على كتفي هذين في صورة عجوز شمطاء! وهي ستحمل عني هذه المرة!)

ووقف بجانب المذبح يرجو ويتوسل ويصلي؛ وكانت سنديانة هائلة - هي الناطقة بنبوءات جونو - نامية وراء المذبح، فسمعها جاسون تهتف باسمه وتقول:

- لبيك أيها الفتى لبيك! لبيك وسَعْدَيك يا جاسون! يا حبيب جونو لبيك! كفكف غوارب دمعك فسترعاك الربة وتحفظك. . . تعال! اصعد فوقي! اقطع أحد أغصاني واصنع منه عصاً، واجعل لها رأساً على هيئة السفينة التي تحملك إلى كولخيس وسيبنيها آرْجس لك، وذلك بإشراف مينرفا. . . ولتكن العصا معك دائماً، ولكن لا تنقلها من السفينة فهي حارستها، وكلما ألم بك خطب أو حز بك أمر، فارجع إليها فهي تكلمك وتشير عليك. . .) وسكتت السنديانة، وصنع جاسون العصا، وذهب عند سيف البحر ليرى عمال آرجس، بإشراف مينرفا، قد فرغوا من السفينة الهائلة وأنزلوها الماء. ففرح واستبشر، وسماها (آرجو) نسبة إلى صانعها ثم أعلن عن حاجته إلى نفر من شجعان هيلاس، يقاسمونه مجازفته، فاجتمع إليه عدد غير قليل، منهم هرقل الجبار وكاستور وأدمتوس وتيزيوس وأرفيوس وبولكس ويليوس. . . وأعدوا ميرتهم، واستكثروا من ذخيرتهم، ثم همت الفلك، واحتواها الماء

(البقية في العدد الآتي)

دريني خشبة

ص: 71

‌البريد الأدبي

قضية صحفية خطيرة

قرأنا في البريد الإنكليزي الأخير تفاصيل قضية أدبية خطيرة ظهرت فيها شدة القانون الإنكليزي على اللغة القاذفة وأساليب الجدل المستهجنة؛ فقد نشرت جريدة (أكشن) وهي جريدة حديثة تناصر المبادئ الفاشية مقالاً حملت فيه بشدة على جريدة (الديلي تلغراف) الشهيرة، فنسبت إليها أنها واقعة تحت نفوذ جماعة من الماليين والدوليين، وأنها تعمل لخراب البلاد والإمبراطورية البريطانية وتمكين نفوذ العصبة الدولية من ناصية السياسة البريطانية؛ وتناولت في مطاعنها اللورد كمروز صاحب الديلي تلغراف، فذكرت أنه ينتمي إلى أصل يهودي، وأنه بهذه الصفة يخصص جريدته لمناصرة اليهودية الدولية والمالية العليا. فرفعت الديلي تلغراف وصاحبها الأمر إلى القضاء وطلبا تعويضاً ضخماً عن هذا القذف المزدوج. وللصحافة الإنكليزية تقاليد سامية في الأساليب الكتابية وفي المناقشات الحزبية تجعل مثل هذه المطاعن خارجة عن كل ما تبرره الخصومة السياسية من صنوف الجدل. والقانون الإنكليزي صارم جداً في مثل هذه المواطن التي تساق فيها الأقلام إلى القذف المثير؛ ومن ثم فقد حكم القضاء للورد كمروز ولجريدة الديلي تلغراف بتعويض قدره عشرون ألفاً من الجنيهات على الجريدة الفاشية وأصحابها وناشريها، من ذلك مبلغ 500ر12 جنيه للورد كمروز نفسه، والباقي لشركة جريدة الديلي تلغراف. وقد كان لهذه القضية الأدبية وتطوراتها صدى عميق في جميع دوائر الصحافة والأدب

والذين يقرءون الصحف الإنكليزية يعجبون حقاً بأساليبها الرفيعة في المناقشات الحزبية وجميع ضروب الجدل الأخرى، ويقدرون ما تمتاز به من الأدب الجم والتعفف عن المطاعن الشخصية المحضة؛ فالصحافة الإنكليزية مثل أعلى في هذه الناحية، ومن ثم كانت صرامة القضاء الإنكليزي في الحكم على كل ما يعتبر خروجاً على هذا المبدأ السامي

أرقام عن معرض باريس

نشرت الصحف الفرنسية أخيراً بعض إحصاءات عن معرض باريس تبين سير الأحوال السياحية التي ترتبت على قيام المعرض؛ فمن ذلك أن عدد الذين استفادوا من التذاكر المخفضة لزيارة المعرض بلغ حتى شهر سبتمبر سبعة ملايين، وزار المعرض في يوم

ص: 72

واحد من أيام سبتمبر نحو أربعمائة ألف زائر، فكان هذا رقماً قياسياً لم يسبق تسجيله في أي معرض دولي سابق؛ وزار قصر اللوفر حتى سبتمبر 759 ألفاً، وزار قصر فرساي مليون و744 ألفاً في حين أن زوار فرساي في مثل هذا الفصل لا يزيدون عادة على ربع مليون؛ وصعد إلى سطح قوس النصر في هذا الفصل مليون و750 ألفاً في حين أن هذا العدد لم يبلغ في مثل هذه المدة في العام الماضي أكثر من 369 ألفاً؛ وزادت نسب السفر في خطوط الملاحة المفضية إلى الثغور الفرنسية من 19 إلى 227 في المائة حسب الخطوط، وزادت النسبة في خطوط البحر الأبيض وحدها 66 في المائة؛ واستهلكت باريس في شهري يوليه وأغسطس نحو مليون ونصف كيلو من اللحم؛ وزادت إيرادات المسارح الباريزية منذ افتتاح المعرض أربعين مليون فرنك، وهي زيادة لم تعرفها من قبل قط

على أن معظم الخبراء يرون هذه الأرقام بعيدة عن تحقيق ما كان معقوداً على قيام المعرض من الآمال؛ فقد كانوا يقدرون مثلاً أن يزور المعرض منذ افتتاحه حتى شهر أكتوبر عشرون مليوناً، والآن لا يمكن أن يبلغ عدد الزائرين أكثر من نصف هذا العدد؛ وكان المظنون أن تكاليف المعرض يمكن تحقيقها في المدة التي قررت لافتتاحه أي حتى آخر نوفمبر، ولكن إدارة المعرض منيت في ذلك الأمل بصدمة عنيفة؛ ولذلك يرجح أن تقرر الحكومة الفرنسية امتداد المعرض خلال العام القادم. ويقال إنها قد بدأت فعلاً بمفاوضة الدول الكبرى للموافقة على إبقاء معروضاتها، والمنتظر أن يتم التفاهم على ذلك في المستقبل القريب، ثم تذيع الحكومة الفرنسية قرار الامتداد قبل نهاية شهر نوفمبر الآتي

كتاب جديد عن كرمويل

يعتبر الإنكليز أن الطاغية الوحيد الذي تولى الحكم في تاريخ إنكلترا هو أوليفر كرمويل زعيم الثورة الإنكليزية الدستورية التي انتهت بإعدام الملك شارل الأول؛ وقد صدر أخيراً كتاب عن حياة كرمويل وأعماله بقلم المؤرخ الإنكليزي موريس آشلي عنوانه (أوليفر كرمويل، الطاغية المحافظ) وقد كان حرياً بمؤلف مثل هذا الكتاب أن يتأثر في تصويره للطاغية الإنكليزي بروح الطغيان المعاصر، وأن يحاول المقارنة بينه وبين الطغاة المعاصرين من حيث الغايات والأساليب. ولكن الأستاذ آشلي لم يحاول هذه المقارنة، ذلك

ص: 73

لأنه يعتبر كرمويل بعيداً عن هذا الجو، ويعتبره طاغية محافظاً بالغريزة، يؤيد سلطانه بهيبته وماضيه. ويعرض لنا الأستاذ آشلي تاريخ كرمويل بإسهاب، ولاسيما في الفترة القصيرة التي تلت إعدام الملك شارل الأول، ويحلل أساليبه في الحكم وسياسته الخارجية والمالية والدينية والاجتماعية بدقة وبروح من الإنصاف المدهش؛ ويقول لنا إن كرمويل كان إدارياً بعيد النظر لم تذهب روعة الطغيان بحسن تقديره ولم تؤثر في وسائله؛ وإذا كان كرمويل لم يبد كل ما كان يريد من التسامح الديني فذلك لأنه غلب على أمره في هذه الناحية فقط، ولم يستطع أن يحتفظ بكامل حريته. ولقد كان كرمويل في الوقت نفسه دستورياً يدعو البرلمان ويحافظ على سلطانه، ولكن الجيش كان هنالك يملي إرادته. ويؤيد الأستاذ آشلي نظريته في أن كرمويل كان محافظاً بكثير من أقوال كرمويل في خطبه ورسائله، ويقول لنا إن كرمويل كان يواجه جميع المسائل بنفس الروح التي يواجه به المسائل العسكرية؛ فإذا كان النظام الذي شاده كرمويل لم يعمل طويلاً بل انهار عند موته، فذلك لأنه لم يكن متفقاً مع روح التقاليد الإنكليزية، ولكنه مع ذلك كان نظاماً جديراً بالتقدير والاحترام

وقد لقي كتاب الأستاذ آشلي كثيراً من التقدير في دوائر النقد والتاريخ، واعتبر من أحسن الكتب التي صدرت في هذا الموضوع

مترسة

اطلعت على سؤال الأديب المهذب السيد (أحمد العربي) - لله هذا الاسم! - وهذا ما أقوله:

التفسير الحق للذريعة هو ما جاء في (لسان العرب):

(الذريعة مثل الدريئة جمل يُختل بها الصيد، يمشي الصياد إلى جنبه فيستتر به، ويرمي الصيد إذا أمكنه، وذلك الجمل يسير أولاً مع الوحش حتى يألفه؛ والذريعة السبب إلى الشيء وأصله من ذلك الجمل) وفي (الأساس): (ومن المجاز: فلان ذريعتي إلى فلان، وقد تذرعت به إليه)

فـ (الذريعة) هي ذريعة ختل لرمي الصيد، لا طريقة وقاية من شر أو كيد. فلن تلاقي - وذلك معناها - الكلمة الفرنسية

وهناك كلمة قيلت لها منذ مدة طويلة هي (المترسة) ولم يجد الناقلون ما يضارعها، دع

ص: 74

عنك ما يفضلها، وأنا لا أنفر منها، ففي (المخصص والمصباح والقاموس):(كل ما تترست به فهو مترسة لك) وفي شرح القاموس (ضبطه بكسر الميم)

فهذه العربية لتلك الفرنجية، و (تترسوا بالمتارس) للجملة الفرنسية ولكل حرب عدة وعدد، ولكل قتال مترسة ومتارس

الإسكندرية

(* * *)

جهود الفنانين في مصر الحديثة

يسر لجنة تخليد عظماء مصر بجمعية هواة الفنون الجميلة بالإسكندرية أن تعلن أنها تستعد بعونه تعالى لإخراج مطبوع ضخم يضم بين دفتيه أشهر آثار الفنانين المعاصرين في مصر الحديثة مع فذلكات خاصة عن تواريخهم ومجهوداتهم الفنية وكلمات تفسر أعمالهم وتنقدها ومقدمة مع بيان موجز عن أثر الفنان المصري القديم بقلم عظيم قدير

واللجنة ترجو من حضراة الهواة والفنانين أن يعاونوها في تحقيق مهمتها الفنية الجليلة

ولزيادة العلم عن المشروع يُرجع إلى مدير الجمعية الأستاذ حسن كامل شارع الوراق رقم 13 بميدان المحطة

جائزة نوبل للسلام

تبحث الآن اللجنة المختصة بجامعة ستوكهلم في ترشيح من يصلح للحصول على جائزة نوبل للسلام هذا العام. وجائزة السلام قدرها نحو عشرة آلاف جنيه تمنح كل عام لإحدى الشخصيات التي خدمت السلام في أي ناحية من النواحي. وقد ظفر بها من قبل عدة من أقطاب السياسة العالمية مثل أرستيد بريان رئيس الوزارة الفرنسية الأسبق، والدكتور شتريزن وزير الخارجية الألمانية السابق؛ وظفر بها عدة من الكتاب السلميين مثل السير نورمان انجيل الكاتب الإنكليزي، والهرفون أوسيتسكي الكاتب الألماني، وقد ظفر بها في العام الماضي، وكانت لذلك ضجة في ألمانيا انتهت بتحريم الحكومة الألمانية ترشيح أحد من رعاياها لنيل جوائز نوبل. وفي هذا العام يرشحون عدة في مقدمتهم الزعيم الهندي الكبير مهاتما غاندي، واللورد بادن باول مؤسس حركة الكشافة الدولية، والكاتب النمسوي

ص: 75

ريخارد كودن هوفي، وغيرهم ممن برزوا في خدمة السلام بجهودهم وأقلامهم ودعاياتهم؛ وربما كان غاندي هو الذي تختاره اللجنة من بين المرشحين

برناردشو والمسرح القومي

من الغريب حقاً أن تبقى إنكلترا حتى اليوم بلا مسرح قومي. وقد وجه برناردشو الكاتب المسرحي الطائر الصيت بهذه المناسبة إلى الأمة الإنكليزية كلمة لاذعة نعى فيها هذا النقص البارز في حياتها الفنية والثقافية. ومما قاله: إن الأمة الإنكليزية لا تشترك في الاعتماد الخاص بإنشاء المسرح القومي لأنها ترغب عن مثل هذه المؤسسة، ولابد من أن يفرض إنشاؤها فرضاً على شعب لم يتحرر تماماً من الهمجية، ولا يزال يعتقد أن الفنون الجميلة إنما هي مظاهر للخلاعة، وأن باب المسرح هو أحد أبواب جهنم، وليس في ذلك شيء جديد أو غريب؛ فمن الحقائق التاريخية المعروفة أن المعاهد الثقافية يجب أن تفرض على الشعب بواسطة الحكومات أو الأفراد المستنيرين الذين يعلمون أن مثل هذه المعاهد ليست ترفاً ولا لهواً، بل هي على العكس من ضرورات الحياة المتمدنة. ولو أن المعاهد الأوربية العلمية ترك إنشاؤها لرغبة الجمهور وأهوائه في العطاء والمن لماتت جميعاً في مهدها، ولكانت أوربا اليوم أكثر همجية مما هي عليه. ثم إن المسرح القومي إذا وجد لا يستطيع أن يعيش وحده، ولابد له من مديرين وممثلين أكفاء وكتاب مسرحيات بارعين، ويتوقف وجود هؤلاء على مقدرته على الدفع والتعويض

هكذا يخاطب الكاتب المسرحي الكبير أمته بأسلوبه الفكه اللاذع ويوجه إليها قوارص الكلم لأنها لم تبد حماسة في مشروع إنشاء المسرح القومي. وإذا كنا في مصر نشعر بأشد الحاجة إلى مثل هذا المشروع الثقافي العظيم، فإنه من المحقق أنه لا يمكن أن يقام بالاكتتاب العام؛ ولابد أن تنهض به حكومة مستنيرة تقدر أثر الفن والثقافة المسرحية في ترقية أذواق الشعب ومداركه

تاريخ غانية شهيرة

قد تستحق غانية شهيرة أن تترجم وتؤرخ كما يؤرخ ملك أو قائد أو مفكر عظيم؛ فقد لعب الغواني دورهن في التاريخ، وكان بينهن طائفة شهيرة استطاعت أن تؤثر في مصاير

ص: 76

العروش والأمم؛ ويكفي أن نذكر في هذا الموطن أسماء مثل بومبادور، ودوباري. وكان عصر لويس الرابع عشر بالأخص عصر الغانيات الشهيرات، ومن هؤلاء امرأة اشتهرت بجمالها وذكائها ونفوذها الاجتماعي، هي نينون دي لانكلو؛ وقد ترجم هذه الغانية الشهيرة من قبل غير كاتب، وظهر أخيراً تاريخ جديد لها بقلم مسيو جان جودال بعنوان (نينون دي لانكلو، غانية عظيمة في عصر لويس الرابع عشر) ، وتاريخ نينون هو في الواقع رواية غرامية اجتماعية ساحرة، تمتاز بكثير من الأناقة والظرف، ولكنها تتكشف أيضاً عن مواطن مريبة كثيرة؛ فقد اتهمت نينون من أهل عصرها بأنها كانت ساحرة تزاول السحر الأسود، وتتعاقد مع الشيطان للاحتفاظ طويلاً بجمالها. واتهمت أيضاً بأنها تسببت في موت ولدها الشفالييه دي فلييه، وأنها جلبت الشؤم والنحس على كثيرين من أصدقائها؛ ولكن نينون كانت مع ذلك نجماً ساطعاً في مجتمعها، وكانت صديقة لأعلم عصرها مثل موليير ولافونتين، وكان لها بهو رائع يختلف إليه عظماء العصر وأمراؤه. وكانت نينون ابنة جندي وموسيقي مغامر وأم ورعة، فاستقت خلالها من الناحيتين، وتلقت تربيتها الأولى في الدير، ولكنها فرت منه فيما بعد؛ وكان مولدها سنة 1620، وتوفيت سنة 1705، وعرفت فولتير فتى حدثاً، ونفحته بعطية يشتري بها كتباً؛ وكانت في عصرها ملتقى الوصل بين التيارات المتضاربة؛ من الخلاعة إلى السياسة والفلسفة، وكانت من أعلام الفكر الحر، وكانت أديبة رفيعة الثقافة كما كانت غانية ماجنة ساحرة، وكان لها أثر عظيم في صوغ الخلال النسوية في عصرها

تلك هي الشخصية التي يتناولها جان جودال في كتابه؛ وهو يقص علينا حياة نينون بأسلوب شائق يستمد سحره وقوته من حياة نينون نفسها، ومن الألوان المختلفة التي اتشحت بها خلال حياتها الطويلة الحافلة

ص: 77

‌الكتب

ابن المقفع

تأليف الأديب عبد اللطيف حمزة

للأديب محمد فهمي عبد اللطيف

الوجه في إفراد شاعر أو كاتب من الماضين بالتأليف هو - كما يقول الرافعي رحمه الله أن تصنع كأنك تعيده إلى الدنيا في كتاب وكان إنساناً، وترجعه درساً وكان عمراً، وترده حكاية وكان عملاً، وتنقله بزمنه إلى زمنك، وتعرضه بقومه على قومك حتى كأنه بعد أن خلقه الله خلقة إيجاد، يخلقه العقل خلقة تفكير.

وهذا كتاب (ابن المقفع) وقد وضعه الأديب عبد اللطيف حمزة، وحاول فيه هذه المحاولة، واجتهد في إدراك تلك الغاية، فأخذ كاتب العربية بالقول من جميع جهاته، وتناوله من كل ناحية يمكن أو تصح أن تلابسه، وكان أن جرى في ذلك على مذهب الناقد الفرنسي المشهور (تين) الذي يرى أن الكاتب صنيعة لعوامل ثلاثة:(الجنس، والبيئة، والزمان) ولذلك فقد تناوله من جهة شخصيته فتكلم عن حياته ولونه السياسي ومصرعه وأخلاقه ومكانته ونظرته إلى المثل الأعلى وزندقته وما قيل فيها، ثم انتقل إلى الكلام عنه في فنه وعبقريته، وعرض له مصلحاً اجتماعياً وكاتباً له أسلوبه وطريقته، واهتم بتحقيق آثاره وخص بعضها بالتحليل والدرس، وأطال القول خاصة في كليلة ودمنة، ثم ختم كتابه بالقول في الأثر الأدبي لابن المقفع، أثره في الشعراء وأثره في الكتاب، وأثره في القصة، وأثره في العقل الشرقي بوجه عام

فالأديب الفاضل قد توسع بالموضوع حق التوسع، ودخل عليه من كل ناحية يمكن أن تتصل بابن المقفع، وهو في كل ناحية للقول يعن كثيراً بأن يستعرض آراء السابقين في الرجل فيناقشها مناقشة حادة عنيفة، ينتهي من ورائها إلى نقض ما يراه جديراً بالنقض، وإلى تأييد ما يراه حقيقاً بالتأييد، ثم يتقدم برأيه الشخصي محاولاً أن يحتج له ما وسعته الحجة، وأن يتلمس له ما يمكن أن يكون هناك من دليل، ولست أزعم لك أني معه في كل ما انتهى إليه من الرأي، ولكني - كما يقول الأستاذ أحمد أمين - قد أخالفه في بعض ما

ص: 78

ذهب إليه من النتائج، وقد أخالفه في طريقة عرض بعض الفصول والأبواب، وقد أخالفه في تعميم الحكم أحياناً حين يحسن التخصيص - بل إني لأراه قد يفرض الرأي في بعض الأحيان فرضاً ولو لم يقم عليه شبه دليل. ومثال ذلك ما نقله عن أستاذه طه حسين (ص31) من (أن صلة ما لا بد موجودة بين أشعار صالح بن عبد القدوس وأبي العتاهية، وبين شاعر يوناني قديم هو آبيدوس عرف بفن من فنون الشعر اليوناني هو فن الشعر التعليمي؛ ثم قال: (وعندي أن ليس هناك ما يمنع العباسيين من أن يتصلوا (كذا) بهذا الفن من فنون الشعر الذي لا يتعارض والدين، ولكني لا أعلم كيف تسنى لهم هذا الاتصال وليس في المصادر العربية ما يدلنا على ترجمة لهذا الفن الشعري ولا لغيره من الفنون الشعرية عند اليونانيين). والواقع أن الدكتور طه قد ألقى رأيه فرضاً من غير دليل، وهو رجل يدرس الأدب بالفرض والتخمين؛ ولاشك أن الأديب حمزة قد تورط إذ أخذ برأي أستاذه هذا وتابعه على مذهب (ليس ما يمنع) وإني لأعجب كيف يقول: إن صلة ما لا بد موجودة بين شاعري العربية والشاعر اليوناني، مع أنه (لا يعلم كيف تسنى لهم هذا الاتصال وليس في المصادر العربية ما يدلنا عليه)

هذا ولقد تورط حضرته مرة أخرى في مطاوعة أستاذه، إذ رأى (ص80) أن السبب الوحيد أو من الأسباب في قتل ابن المقفع (رسالة كتبها توشك أن تكون برنامج ثورة موجهة إلى المنصور وهي رسالة الصحابة) قال:(وفي هذه الرسالة نجد تشريعاً جديداً من عمل الكاتب يقترحه على الخليفة ليعمل به في أمور شتى كان أهمها أمر القضاء) والذي نراه أن رسالة الصحابة على ما ينطق به موضوعها ليست برنامج ثورة، ولكنها في الواقع برنامج إصلاح رفعه الكاتب إلى الخليفة، لأن فيه توطيداً لملكه، وتقوية لنفوذه؛ وكأني بالكاتب قد كتب هذه الرسالة يريد بها المثوبة عند الخليفة. والواقع أن الأديب حمزة قد أبعد كثيراً في تلمس الأسباب التي أودت بحياة ابن المقفع وانتهت به إلى تلك النهاية الأليمة؛ مع أن السبب ظاهر واضح. . . وهل قتل الرجل غير (السياسة) قاتلها الله؟! تلك التي طالما طاحت برقاب وهوت برؤوس، كمثل ما صنعت بعبد الحميد الكاتب وبشار بن برد وغيرهم من الكتاب والشعراء

وثمة أحكام تخالف المؤلف في الأخذ بها، فأنا مثلاً لست معه في تصحيح تلك الرواية التي

ص: 79

نقلها عن إسلام ابن المقفع (ص56) ولا في تلك التي أثبتها عن معارضته للقرآن، كما أني لست معه في أن بن المقفع (أوذي في سبيل حرية الفكر) وأنه كان (عدواً للعرب يسخر منهم) وأنه كان (زنديقاً ملحداً) إلى غير ذلك من الأحكام التي يتلمسها المستشرقون للرجل بالحق والباطل. ولقد كان في تقديري أن أناقش الأديب حمزة الرأي لولا أني رأيت المجال محدوداً، وأني لست بصدد الكلام على بن المقفع، ولكني بصدد القول في (كتاب). . .

بقي القول في أسلوب الكتاب وهي ناحية مهمة في تقدير الأثر الأدبي وتعيين قيمته؛ ولست متجنياً على الأديب الفاضل إذا تنقصت أسلوبه في بعض نواحيه، فهو ينهج نهج أستاذه الدكتور طه في تكرير اللفظ، ومرادفة الجمل، والإكثار من الحشو والاعتراض، ولكنه لا يُحكم ذلك ولا يجوّده، وربما تهافت إلى حد لا يطيقه الذوق، كأن يقول:(وهذا وهذا وهذا عدا الكتب الأخرى) وكأن يقول: (ويذهب به ما ذهب بنفوذ الأعراب وتقاليد الأعراب وعقول الأعراب) وأكثر من هذا فقد يهضم حق اللغة كأن يقول: (وقد كان القدماء يخشون من وضع الكتب. . . ولعلنا نخشى كذلك من وضع الكتب) وكأن يقول: (ثمناً غالياً وغالياً بأكثر مما يتصور الناس) وكأن يقول: (ولعل كتاب الأدب الكبير يكون أصدق مثل لما نقول) و (كان) لا تنقاس زيادتها إلا بين ما وفعل التعجب ولا تكون إلا بلفظ الماضي. وما أريد أن أتقصى وإنما أريد أن أنبه الأديب الفاضل لعله يتلافى هذه الهنوات وأمثالها في الطبعة القادمة إن شاء الله، خصوصاً وهو ربيب قسم اللغة العربية في كلية الآداب؛ ثم هو يزعم أنه يتصوف تصوفاً علمياً وأدبياً فيعكف على العلم والأدب آصائل النهار ونواشئ الأسحار، وما يليق (بمتصوف) الأدب أن يكون أسلوبه في شيء من التهافت وضعف التأليف؛ وما يليق به أن يفنى في غيره، وإنما الواجب أن يكون له طريقته ونهجه، فإن الفناء في شخصية أخرى (فناء)

على أن الأديب حمزة والحمد لله ليس من المكابرين في قيمة الأسلوب فهو يرى أن (من حق الأسلوب أن يجود وليس كاتب ولا عالم ولا مؤرخ إلا ويجب (؟) أن يصرف في العناية أقصى ما يستطاع) ولكنه يعتذر عن نفسه بأن (الوقت لم يتسع للتجويد في الأسلوب) وأنا لا أدري ما الذي ضيق عليه الوقت، وما الذي حمله إلى إخراج كتابه قبل أن يستكمله تجويداً وتحريراً كأنه لم يعلم أن المرء ما يزال في فسحة من عقله حتى يؤلف

ص: 80

كتاباً. . . وكأنه لم يعلم أن الناقد لا يقدر الأثر الأدبي إلا من حيث هو هو في مادته، وليس مما يعنيه مراعاة المسافة والزمن، ولقد سألت صديقنا الأستاذ الزين الشاعر فقلت له: أراك تتنطس في حوك شعرك حتى لتقضي في ذلك الوقت الطويل. فقال: نعم! لأني لا أريد أن أفوت ثلمة يتقحم منها الناقد. وإن القارئ ليقرأ وهو مطمئن، فليكتب الكاتب وهو أكثر اطمئناناً

أما بعد، فأنا مقدر للأديب حمزة ما صرف من جهد في البحث والاطلاع وإخراج هذا الأثر النافع، ولعل كتابه - على ما أعرف - هو أوفى بحث خرج عن ابن المقفع للآن، وإني لأرجو له أبحاثاً أوفى وأتم، وأشمل وأعم، فتكون كالإعجاز بعد الإرهاص؟

محمد فهمي عبد اللطيف

ص: 81