الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 227
- بتاريخ: 08 - 11 - 1937
سورية!
للدكتور عبد الوهاب عزام
سورية الجميلة ذات الخمائل الوارفة، والجنات الناضرة، والمياه الثارّة!
سورية مراح الفؤاد، ونزهة الطرْف!
سورية الكادحة التي يجهد أهلها في السهل والجبل يُخرجون بالماء القليل شتى الثمرات، وينبتون به يانع الجنات، سوريةُ بَرَدى والعاصي!
سورية الصابرة التي وفرت الأيام نصيبها من النكبات والأزمات، المجاهدة التي تجادل عن نفسها، وتجاهد عن شرفها، دفاع البطل الأصْيَد الأعزل، يمضي بجنانه ويده يشق الأهوال إلى غايته، ويحطم الخطوب إلى طلبته، مجاهداً مثابراً، مرزّأً صابراً
سورية التي لم تجف فيها دماء الشهداء، ولم تنقطع سلسلة النوائب!
سورية التي تفيض بالذكَرة المجيدة، والسير الخالدة، وتمتّ بالرحم الواشجة، والقربى الواصلة، والجوار والذمام!
سورية الجميلة الحبيبة، الكادحة المجاهدة الصابرة، فجئها السيل كقطع الليل، ودهمها القضاء من السماء، فاستحالت جبالها أنهاراً، وسهولها بحاراً! طغى السيل بالناس والدواب، وجرف القرى والضياع، وذهب بالزروع والثمار
فهذه جثث الغرقى منثورة في السهول، وأنقاض الدور تغص بها الأودية، وتحت الماء والطين عتاد البائسين، وذخيرة المساكين، وما أبقت الأزمات، من ثياب وأقوات. فانظر إلى الشمل المبدّد، والأمل المخيّب، والهلع والفزع، والفاقة والجزع! انظر إلى الدموع الجارية، والنظرات الهالعة، والخدود الضارعة، والعقول الذاهلة، والقلوب الحائرة، واستمع زفرات الأحياء على الأموات! وبكاء الأولاد أو نحيب الآباء والأمهات! استمع فكم أنّة كليم، وآهة يتيم!
إن الشاعر المحزون الواله ليخيل إليه أن مجرى السيل خليق أن يكون مجرى الدمع؛ ويذكر قول أبي العلاء:
ليت دموعي بمنى سيّلت
…
ليشرب الحُجاج من زمزمين
لك الله يا سورية! تركتك منذ قليل تعانين ما تعانين، وارتقبت أن تتطاير الأخبار بما نؤمل
من انتعاشك، وما نرجو من نهوضك، فما راعنا إلا نبأ السيول الجارفة المدمرة. ولكن في صبرك وجهادك عزاء، وكل غمرة إلى انجلاء؛ وإن وراء هذا الظلام فجرا، وإن مع العسر يسرا
هذه سورية في نكبتها؛ فمن ندعو لنجدتها؟ إن ندعو العرب فأهل النجدة، وأولو الحمية، وحفَظة الجوار، ورُعاة العهد؛ في قلوبهم الراحمة لهؤلاء المنكوبين رجاء، وفي قرابتهم العاطفة عزاء، وفي أيديهم السخيّة ما يخفف البلاء. وهم للبائس خير وزر، وللاجئ أمنع عَصَر
وإن ندع المسلمين والنصارى فالدين يأمرهم بالتراحم ويحفزهم إلى المواساة؛ وإن لإخوانه فيهم لنُصراء رحماء يجيبون دعوة المضطر، ويمسحون دمعة المحزون، ويفرجون كربة المكروب، أن عليهم أن يمسحوا هذه القلوب الدامية، ويرفقوا بهذه الأكباد الواهية
بل أدعو البشر أجمعين والإنسانية كلها دعوة عامة شاملة، وأستنجد القلوب الرحيمة لا أستثني أحداً، أن تمد الأيدي الآسية إلى هذه الألوف التي يعوزها القوت واللباس والمأوى
يا معشر الكتاب والشعراء! كيف تقسو في هذه المحنة القلوب، وتجمد في هذه الكارثة الدموع، ويصمت في هذه الفاجعة البيان، ويخذُل القلم واللسان؟
إن ما بين دمشق إلى المعرة للسيل غارات، وللدمار آيات، وللشعر مقالاً، وللبيان مجالاً
دمشق العظيمة تستغيث، والمعرة الخالدة تستنجد؛ فيا أدباء العربية والإسلام! أحيوا الهمم واشحذوا العزائم. ويا أحباء أبي العلاء! هذا شيخ المعرة في بيانه، يستنجدكم لجيرانه:
يقول:
كيف لا يشرك المضيقين في النع
…
مة قوم عليهم النعماء؟
ويقول:
من حاول الحزم في إسداء عارفة
…
فليُلقها عند أهل الحاج والشُكر
ومن بغي الأجر محضاً فلينادِ لها
…
برّا فقيراً وإن لاقاه بالنكر
فألقوا بمعروفكم هؤلاء الأبرار الشكرُ تجمعوا الحزم والخير في مكرمة. ولا تحقروا ما تسعفون به وإن قل. واستمعوا إليه يقول:
إذا طرق المسكين دارك فأحبُه
…
قليلاً ولو مقدار حبة خردل
ولا تحتقر شيئاً تساعفه به
…
فربّ حصاة أيّدت ظهر مجدّل
عبد الوهاب عزام
المزاح البارد
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كان لنا في المدرسة الابتدائية مدرس لا نراه إلا معبّساً - لا يفتر له ثغر ولا تنبسط له أسارير وجه، ولا تلمع عيناه بنور البشر، لفرط ما يزوي ما بينهما، ولكنه على هذا كان لا يكف عن ركوب زملائه المدرسين ورئيسه الناظر أيضاً بالدعابة التي تجيء أحياناً خفيفة محمولة، وسائغة مستظرفة، وأحياناً أخرى تكون سمجة ثقيلة لا تطاق. فمن لطيف مزحه أن العادة جرت في المدارس بأن يصوّر التلاميذ مع أساتذتهم في آخر العام المدرسي لتبقى الصور ذكرى لعهد التعلم فصففنا أمام المصور - القصار من أمثالي في الصدر، والطوال وراءهم، وجلس المعلمون على كراسي أعدت لهم أمامنا وجيء بكرسي كبير ذي مسندين للناظر، وكان رجلاً جهولاً ولكنه طيب القلب، وجعل صاحبنا يروح ويجيء هنا وههنا ليسوي الصفوف كما يزعم، ويقدم واحداً ويؤخر آخر، ويقبل ويدبر، والناظر قلق يصيح به:(اخلص بقى يا فلان أفندي) فيقول: (حالاً. حالاً إن الله مع الصابرين) ويمضي فيما هو فيه من التسوية والتعديل. وكانت العادة أيضاً أن توضع خلف الصفوف خريطة أم مصور جغرافي كبير فادعى أنه نسي ذلك وذهب يعدو إلى حجرة المدرسين ثم عاد يحمل مصوراً ملفوفاً وعلقه وأبقاه مطوياً ثم صاح بنا: (الآن انظروا كلكم إلى عدسة المصور) ففعلنا ونشر هو المصور الجغرافي وأخذت الصورة فطوى الخريطة وحملها وذهب بها فأعادها إلى حيث كانت، وجاءت الصور وأدى كل من يرغب الاحتفاظ بنسخة منها الثمن المفروض ومضى بها إلى بيته فرحاً مسروراً. ثم تأملناها على مهل في البيوت فإذا مكتوب وراءنا بالخط الثلث:(حيوانات الدنيا)، ولا أحتاج أن أقول أن معلمنا نشر خلفنا مصوراً لحيوانات الأرض من أبقار وجاموس وحمير وخيل وأسود وفيلة الخ لا للكرة الأرضية وقاراتها. . .
ومما أذكره في باب المزاح العملي أن واحداً من أصدقائي كاد مرة يخرب بيتي، فقد زارني فلم يجدني وكنت يومئذ في بيت عتيق له فناء رحيب، فوقف يصفق وينادي، فلما قالوا له إني خرجت قال:(سبحان الله العظيم وهل هذا كلام؟ يُشْبُك بنات الناس ويهرب؟)
وعدت إلى البيت وأنا خالي الذهن مما حدث، فلما دخلت على أهلي قلت:(السلام عليكم)
كما هي عادتي فرأيت أمي تنظر إليّ مقطبة ثم ترخي عينها إلى الأرض، فالتفت إلى زوجتي فإذا هي تنظر إلى الحائط ولا تحول عينها عنه، كأنما عليه رسم ساحر؛ فاستغربت وأنكرت هذا الاستقبال الحافل بالنذر ولكني آثرت التباله، وأقبلت على أمي أريد أن أقبل يدها فتناولتها فنزعتها بعنف وحولت وجهها عني والدمع متحير في مآقيها فزاد عجبي وقلت:(مالكم. . . جرى إيه؟) فصاحت أمي بي: (رح. . . رح إلى حيث كنت
ووجدت زوجتي لسانها فقالت: (أيوه رح إلى حيث كنت)
فتأملتها ملياً وأنا أحك رأسي وأحاول أن أهتدي إلى سر هذا اللقاء الغريب فلم يفتح الله عليّ بشيء، فقعدت أمامهما وجذبت وجهيهما إليّ وقلت:(خبراني ما هي الحكاية فما أعرف شيئاً أستحق من أجله أن ألقى منكما هذه الجفوة)
فأفصحت أمي قليلاً وقالت: (شف بنات الناس. . .)
فقاطعتها: (بنات الناس؟ أي بنات وأي ناس؟
قالت: (هل خطبت؟)
فوثبت إلى قدمي وصحت: (خطبت؟. . خـ. . خـ. .)
فقالت زوجتي: (ألا ترين كيف يتلعثم؟ إن هذا إقرار)
فصرخت وأنا أكاد أجن: (أي إقرار يا ستي؟ أين عقلكم يا خلق الله؟ ألا تكفي غلطة واحدة؟)
ولا أحتاج أن أقول أيضاً أني خرجت بحماقتي من ورطة فوقعت في ورطة. فقد اقتنعت أمي وزوجتي بأن الزواج من أخرى لم يخطر لي على بال، وإن هذا كان مزحاً ثقيلاً من صاحبي ولكن زوجتي ظلت إلى آخر عمرها تذكر قولي:(ألا تكفي غلطة واحدة؟)
ومن الفصول الباردة ما حدث مرة في بيت قريب لنا وكان قد دعانا إلى سهرة في مصر الجديدة حيث كان يسكن، وكان بين الضيوف اثنان من المصريين الذين تعلموا في ألمانيا، فاقترح أحدهما أن يدعو صديقاً له من الألمان ليسمعنا قطعة موسيقية ألمانية فكاهية، وقال إنها:(تميت من الضحك) وأيد زميله قوله، فقبلنا وذهب رب الدار معهما لدعوة هذا الألماني الذي بُشرْنا بأنه سيميتنا من الضحك وكانت شقته في العمارة نفسها فما لبثوا أن عادوا ومعهم رجل وقور، ذو لحية كثة، ووجه رزين، ونظرة صارمة، فجعلت أتعجب فيما
بيني وبين نفسي كيف يسع هذا الرجل أن يضحك أحداً كائناً ما كان ما يغنيه أو يعزفه. وكان الشابان يكلمان الرجل بالألمانية التي لا نعرف منها حرفاً. وجلس الرجل إلى البيانو وشرع يدق فلم يبد لنا - أو على الأقل لي - أن في الأمر ما يضحك؛ وكان جاداً وكان وجهه ساهماً كأنه يحلم، وغنى وهو يدق بصوت عميق قوي فالتفت إلى أحد الشابين فألفيته يبتسم فقلت: أبتسم مثله وأستر جهلي باتخاذه قدوة، وصرت بعد ذلك أخالس الشابين أو أحدهما النظر وأفعل كما يفعلان فإذا ابتسما ابتسمت، وإذا ضحكا ضحكت، وإذا قهقها أطلقتها مجلجلة؛ ولم أكن وحدي في هذا الاحتذاء فقد كان المدعوون مثلي جهلاء - أعني باللغة الألمانية - وقد خطر لهم كما خطر لي أن يحاكوا الشابين. وكنت ربما عجبت لمطربنا فقد كان إذا ضحكنا أو قهقهنا يرمينا بنظرات حامية فالتفت إلى الشابين مستغرباً ما يبدو عليه من الغضب والغيظ والنقمة فهمس في أذني أحدهما أن هذا هو المضحك. . . هذا الجد الصارم على الرغم مما في القطعة التي يغنيها وما في تلحينها من الفكاهة الواضحة فهززت رأسي كأني فهمت وازددت اقتناعاً بأن الأمر مضحك ولاشك ورحت أقهقه. ثم استغنيت عن النظر إلى الشابين والاقتداء بهما ورحت أضحك على مسئوليتي كما يقولون وخلعت ثوب الجهل والتقليد، ولبست ثوب الدعوى العريض الفضفاض
وأخيراً نهض الرجل عن كرسيه وأدار فينا عيناً تقذف بالشرر وخرج مغضباً محنقاً يبرطم ويبرجم ونحن نتبادل نظرات الإنكار لهذا السلوك العجيب فهل كان ضحكنا يا ترى أقل مما يجب؟ هل خيبنا أمله ببلادتنا؟ لا بل بجهلنا فقد كان ما يغنيه قطعة مبكية من مأساة مشهورة، وكان الرجل المسكين يعتز بأدائها على الوجه الصحيح، فكاد يجن إذ كنا نتلقى ذلك بالهزء والسخرية. وقد اعتذرنا إليه بعد بضعة أيام - لما فهمنا الحقيقة وعرفنا أنها كانت مزحة قبيحة - ولكن المسكين كان قد تعذب ليالي لا ليلة واحدة.
إبراهيم عبد القادر المازني
إلام يسير العالم؟
طريق الحرب وطريق السلام
بقلم باحث دبلوماسي كبير
إلام يسير العالم؟ هل يوفق إلى التغلب على أزماته واضطراباته الحاضرة أم يسير حتماً إلى حرب جديدة تغمره بالويل؟ هذا سؤال يتردد اليوم على ألسنة جميع الأمم والأفراد؛ ولكن أشد المتفائلين لا يسعه إلا أن يسلم بأن العالم يجوز حالة من القلق والفوضى لا تبعث إلى الطمأنينة والرضى، بل نستطيع أن نقول إن العالم يسير اليوم إلى مستقبل محفوف بالنذر والمخاطر؛ فأينما سرحنا البصر ألقينا الأمم تجيش بالخصومات والمشاكل الداخلية والخارجية وتعاني متاعب العطلة والفاقة والأزمات الطاحنة، وتسودها حالة ظاهرة من القلق والتشاؤم؛ وفي أمم عدة تقوم نظم عنيفة طاغية تضطرم بروح الثورة على كل النظم والمبادئ القائمة، وعلى كل العهود الدولية، وتسحق في الداخل كل الحقوق والحريات العامة وتسلب الفرد كل المزايا والخواص الإنسانية، وتعد الشعوب لمعارك دموية تخوضها في سبيل أحلام ومطامع غامضة من السلطان والسيادة. وفي أكثر من ميدان تضطرم اليوم حروب عنيفة قاسية، تجني شر الجنايات على شعوب آمنة مسالمة، وتحصد أرواح البشر بأروع الأساليب والصور، ولا يجد المضرمون لنارها وازعاً يردهم عن جرائمهم لأنهم لا يؤمنون إلا بالقوة الهمجية وخصومهم ليسوا مثلهم على استعداد للالتجاء إليها
هذه هي صورة العالم اليوم، وهي صورة تحمل على التشاؤم أكثر مما تحمل على التفاؤل، فلم يبلغ العالم منذ الحرب الكبرى ما يبلغه اليوم من الاضطرام والاضطراب والفوضى؛ وكل ما هنالك يدل على أنه يجتاز مقدمات العاصفة كما كان يجوزها في سنتي 1913 - 1914، ولأسباب تشبه في معظمها تلك التي أدت إلى الانفجار في سنة 1914؛ ذلك أن الحرب الكبرى قامت لعاملين أساسيين هما الخصومات العنصرية والمطامع والمنافسات الاستعمارية، وتلك الخصومات والمطامع والمنافسات هي التي تثير اليوم معظم الأزمات الدولية، وإليها يرجع بالأخص ما يعانيه العالم اليوم من أسباب القلق والاضطراب والفوضى؛ فالحرب في الشرق الأقصى بين الصين واليابان، والحرب الأهلية الأسبانية وما يترتب عليهما من أزمات خطيرة تهدد سلام العالم؛ والمنافسة الشائكة بين إيطاليا وإنكلترا
على سيادة البحر الأبيض المتوسط؛ وما تدعيه إيطاليا وألمانيا كل لنفسها من حقوق استعمارية، وما يحفزهما إلى المبالغة في التسلح والاستعداد للحرب: كل ذلك يرجع إلى شهوة التوسع والاستعمار، وإلى المنافسة الاقتصادية والاستعمارية بين أمم كإيطاليا وألمانيا واليابان ترى أنها حرمت دون حق من نصيبها المشروع في أسلاب الأمم الضعيفة وميادين الاستعمار الشاسعة وبين أمم مثل إنكلترا وفرنسا تتمتع كلتاهما بأملاك استعمارية ضخمة وموارد اقتصادية عظيمة، وتحرص كل الحرص على ما بيدها من هذا التراث الذي ترمقه الأمم الأخرى بعين الحفيظة والجشع، وإلى هذا العامل الاستعماري يرجع أيضاً ما تعانيه الأمم المغلوبة من الآلام والمتاعب المادية والمعنوية؛ فالاضطرابات الدموية التي تجيش بها فلسطين منذ أشهر، والحركات القومية التي تجيش بها تونس والجزائر ومراكش، وما تنزله الأمم الغالبة بهذه الأمم المغلوبة من ضروب القمع المنظم احتفاظاً بسلطانها وسيادتها، إنما هي أيضاً وليدة هذه الشهوة الاستعمارية التي لا تخبو، والتي لا تعرف حقاً ولا عدالة ولا أي اعتبار إنساني
ولقد كان غزو إيطاليا للحبشة إحدى هذه الفورات الاستعمارية البربرية، كما كان غزو اليابان من قبل لولاية منشوريا الصينية، وكما هو اليوم شأنها في الحرب التي تشهرها على الصين دون رأفة ولا هوادة؛ ولم يكن موقف الأمم الأخرى بالأمس إزاء الاعتداء على الحبشة، أو موقفها اليوم إزاء الاعتداء على الصين إلا وجهاً آخر من وجوه المأساة، فهذه الأمم لا تحاول أن تعترض سبيل الأمم المعتدية لأنها تؤمن دونها بالحق وترغب في الذود عنه، ولكن لأنها تخشى أن تظفر الأمم المعتدية دونها بمغانم وأسلاب استعمارية جديدة تزيد في ثروتها وقوتها وخطرها
هذا عن العامل الاستعماري؛ وأما العامل العنصري فيرجع إليه أيضاً قسط كبير في إثارة الخصومات والقلاقل الدولية. ولقد كانت الخصومة السلافية الجرمانية من أهم العوامل التي عاونت إضرام نار الحرب الكبرى؛ أما اليوم فهنالك الدعوة الآرية أو دعوة الأجناس الرفيعة والأجناس المنحطة التي تشهرها ألمانيا الهتلرية في وجه العالم؛ وهنالك الخصومة الآرية اليهودية التي تذكي ضرامها بكل ما وسعت؛ ثم هنالك مشكلة الأقليات القومية التي تتخذ في أوربا الوسطى صوراً حادة تبث الحقد والحقيقة بين الأمم والعناصر المتجاورة،
وتنذر بتكدير السلم من آن لآخر
بيد أنه يوجد في المعترك الدولي الحاضر عامل جوهري آخر لم يعرفه العالم قبل الحرب الكبرى؛ وذلك هو الخصومة المضطرمة بين جبهتين مختلفتين من النظم والمبادئ السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ فالنضال بين الفاشيستية والديموقراطية يشغل اليوم فراغاً كبيراً في المعترك الدولي، ويثير أزمات دولية خطيرة تنذر بتقويض صرح السلم بين آونة وأخرى. والفاشيستية تذكي الأحقاد القومية والجنسية بصورة عنيفة تثير أعصاب الأمم المختلفة وتحول دون تفاهمها، وتعمل بكل ما وسعت لتمزيق العهود الدولية، وتدعيم نظرية القوة الغاشمة، وجعل الحرب هي المثل الأعلى للأمم؛ وهي بذلك تحمل أكبر تبعة في خلق الأزمة الدولية الحاضرة، وإثارة القلق الذي يساور جميع الأمم، وتكدير جو السلام، والتمهيد بحركاتها وتهديداتها العسكرية لجر حرب جديدة تبدو نذرها في الأفق حيناً بعد حين
هذه الصورة المضطربة المروعة لأحوال العالم رسمها الرئيس روزفلت في خطابه الذي ألقاه أخيراً في شيكاغو وحمل فيه على (نظم الإرهاب والانتهاك) التي فرضتها بعض الحكومات على العالم منذ بضعة أعوام، وعلى تدخل هذه الحكومات تدخلاً غير مشروع في الشئون الداخلية لبعض الأمم الأخرى؛ وعلى غزو الأراضي الأجنبية انتهاكاً للمعاهدات والعهود الدولية؛ وتساءل الرئيس روزفلت: كيف يقال إننا في أوقات سلم والغواصات تتربص بالسفن الآمنة فتغرقها دون سبب ودون إنذار، والقنابل تلقى على المسالمين الآمنين ومنهم نساء وأطفال أبرياء دون حرب ودون مبرر من أي نوع. هنالك أمم تزعم أنها تطلب الحرية وتقدسها ولكنها تنكرها على الأمم الأخرى؛ وهنالك شعوب بريئة تضحي لتحقيق شهوة سلطان وسيادة لا تبررها أي عدالة أو أي اعتبار إنساني؛ ومع ذلك فإن هؤلاء الذين يلعبون بالنار ويعملون على تكدير السلم لا يبلغون في رأي الرئيس روزفلت أكثر من عشرة في المائة من مجموع شعوب العالم. وأما التسعون في المائة الباقية فهي شعوب ترغب في السلام، وتستطيع بل يجب عليها أن تجد الوسيلة لكي تحقق رغبتها في صون السلام، وأنه يستحيل عندئذ على أية أمة مسالمة أن تلوذ بالعزلة والحياد من حالة الفوضى والاضطراب الدولي التي يخلقها انتهاك الحقوق
وصوت الرئيس روزفلت هو صوت الأمم الديموقراطية؛ والدول التي يعنيها، وهي
المنتهكة للحقوق والمعاهدات، المقدمة على تكدير السلم وعلى الفتك بالآمنين والمسالمين، هي الدول الفاشستية والاستعمارية، أو بعبارة أخرى هي ألمانيا وإيطاليا واليابان؛ ولكن الديموقراطية أبدت في الأعوام الأخيرة كثيراً من ضروب الضعف والتردد، وبالغت في التمسك بالألفاظ والوعود، ولم تحاول أن تؤيد كلمتها بوسائل فعالة إزاء العابثين بالحقوق والمنتهكين لحريات الأمم؛ واستطاع هؤلاء بما رأوا من أحجام الدول الديموقراطية وتخاذلها أن يقدموا على تنفيذ مشاريعهم بجرأة لا مثيل لها؛ فقد ذهبت الحبشة ضحية لتهاون الديموقراطية ووعودها الخلابة، واستولت عليها إيطاليا في غمر النار والدم بينما كانت عصبة الأمم والدول الديموقراطية من حولها تردد أنشودة الحق والمعاهدات والعقوبات الاقتصادية؛ وذهبت أسبانيا الجمهورية فريسة الدسائس الفاشستية وما زالت تعاني أكثر من عام أهوال حرب أهلية لم تقصدها، ولم يثر ضرامها ويمدها بالوقود سوى أولئك الذين يرون أن يشقوا إلى أطماعهم طريق النار والدم؛ وهاهي ذي اليابان تتوغل في الصين وتثخن في جنباتها وتفني جيوشها وشعوبها دون إعلان حرب ودون مبرر سوى ما ترمي إليه من تحقيق شهوتها الاستعمارية؛ كل ذلك والدول الديموقراطية تقنع بالاحتجاجات اللفظية وعقد لجان عدم التدخل والمؤتمرات التي لا طائل تحتها
والخلاصة أن الفاشستية المضطرمة تجيش بمشاريعها وتعمل لتحقيق شهوتها في الاستعمار والسيادة غير مكترثة لما تهدد به سلام العالم من الأزمات والأخطار؛ ذلك أنها لا ترى أمامها سوى طريق العنف والدم؛ والديموقراطية من جانبها تلوذ بالأحجام والمطاولة وتؤثر التراجع على الاصطدام الخطر؛ ذلك أنها ترغب عن الحرب وتفتدي سلامها بكل ما وسعت؛ ولكن النضال يصل اليوم إلى ذروته، ولابد أن تضطر الديموقراطية عاجلاً إلى العمل إذا لم ترد أن تفلت القيادة من يدها وتغدو تحت رحمة الفاشستية المتوثبة. فماذا يكون مصير السلام يومئذ؟ وهل يؤدي الاصطدام إلى الانفجار الخطر، أم تستطيع الديموقراطية بما تملك من وسائل الضغط المادي والمعنوي أن تقف هذا التيار المتوثب في الوقت المناسب فتنقذ بذلك سلامها وسلام العالم؟ يقول لنا العلامة فيريرو، وهو من ثقات التاريخ والسياسة: إن ما تعانيه أوربا الآن من الاضطراب والفوضى يشبه ما عانته منهما على أثر عقد معاهدة فينا عقب سقوط نابوليون؛ ومعاهدة فرساي تشبه معاهدة فينا في فساد الأسس
والمبادئ التي قامت عليها؛ وإن الأزمات والأخطار العسكرية التي تواجهها أوربا ترجع إلى ما يسميه فيريرو (باستعمار الخوف)؛ فإن إيطاليا واليابان تنحدر كل منهما من مغامرة إلى أخرى للاحتفاظ بما كسبته من الأراضي من طريق غير مشروع على نحو ما كان يفعل نابوليون عقب كل انتصار من الاندفاع في مغامرة جديدة للاحتفاظ بثمرة انتصاره. ويرى فيريرو أن ألمانيا التي استطاعت حتى الآن أن تجتنب هذه المغامرات يمكن أن تعد عاملاً جوهرياً في تأييد السلم إذا رأت أن تجانب هذا التيار المتوثب وأن تضع يدها في يد الديموقراطية الغربية؛ أما إذا اندفعت ألمانيا في هذا التيار فويل للسلام عندئذ. هذا ما يراه العلامة فيريرو، ونحن معه في أن الخطر على السلام إنما يرجع بالأخص إلى نزعات الفاشستية ومطامعها الاستعمارية، وأن مستقبل السلام منوط بموقف الديموقراطية، فإذا هي يئست من الحلول والوسائل السلمية، واستطاعت عندئذ أن تعتزم أمرها، وأن تقابل الوعيد بالوعيد والضغط بمثله تؤيده استعداداتها ومواردها الضخمة، فإن تيار الفاشستية لا يلبث أن ينكشف ويخبو. وفي رأينا أن الساعة قد حلت لأن تسلك الديموقراطية هذا المسلك؛ وفي يقيننا أنها فاعلة بلا ريب.
(* * *)
التشريع والقضاء في العهد الفرعوني
للأستاذ عطية مصطفى مشرفة
- 3 -
كان يفصل في القضاءين المدني والجنائي حتى القرن الثالث عشر ق. م بمصر هيئة واحدة؛ وفي عهد الأسرة التاسعة عشرة وهي من الرمامسة فصل القضاء المدني من القضاء الجنائي وأصبح لكل منهما محكمة خاصة به في الإقليم. وكان يرأس المحكمة المدنية في طيبة رئيس كهنة (آمن) ويجلس معه عشرة من الكهنة، أما المحاكم الجنائية فكان يرأسها (دجا) أي ممثل السلطة التنفيذية في الإقليم ورئيسه، وكان يساعده موظفان كبيران هما بمثابة محلفين، ونائب الملك (نم) الذي كان يمثل النيابة. أما الدعوى المختلطة أي التي تجمع بين طرفين أحدهما مدني والآخر جنائي فكانت المحكمة الجنائية تنظرها مضافاً إليها ثلاثة قضاة مدنيين يكونون في الأكثر من رجال الدين. وعندما تدخل الكهنة في القضاء في القرن الحادي عشر ق. م في عهد الأسرة العشرين زاد نفوذ الإله آمن فاستفتي في المسائل الجنائية ثم عظم نفوذه بمضي الزمن حتى أصبحت فتاوى آمن في خلال حكم الأسرة الحادية والعشرين أحكاماً نافذة في جميع الأقضية التي تعرض عليه جنائية أو مدنية أو تجارية أو إدارية؛ فكان يعرض عليه المتهمون ليفصل في قضاياهم بالوحي المنزل من عنده، وكان يدير الإجراءات بحضرته رئيس الكهنة فيقدم كتابين أحدهما يثبت البراءة والثاني يقرر الإدانة، فإذا وضع الإله إصبعه على الأول بريء المتهم، وإذا وضع الإله إصبعه على الثاني أدين. وأحياناً يحضر المتهم أمام تمثال آمن ثم يذكر رئيس الكهنة الوقائع أمام التمثال عندما ينتهي من ذكر تلك الوقائع يسأل رئيس الكهنة الوثن إن كان المتهم مجرماً أو بريئاً، فإذا هز الإله رأسه بالنفي برئ المتهم، وإن هز الإله رأسه بالإيجاب اعتبر المتهم مجرماً
قال الأستاذ ارون بيفن في كتابه (البطالسة) عن آمن: (وكان الوثن ككل أوثان التنبؤ مجبولاً بحيث يحدث عدداً محدوداً من الإشارات، فيحرك رأسه أو يلوح بذراعيه أو يشير بيديه؛ وكان يعهد إلى كاهن أن يشد الحبل الذي يحرك الوثن ثم ينطق بالنبوءة؛ وكان الجميع يعرفونه معرفة تامة، ولكن لم يدر بخلد أحد أن يتهمه بالغش أو يرميه بالخداع فإنه
كان عندهم الأداة التي يستخدمها الإله وبالأحرى آلة سيره، وكان الروح يلبسه في برهة خاصة، والروح هو الذي يحرك الصنم ويحرك شفتي الكاهن بما يريد؛ فالكاهن يعير يديه وصوته، ولكن الإله هو الذي يقدر أعماله ويوحي إليه بما يخرج من كلمات) وإذا كان المتهم غير معروف على وجه التحديد عرض المتهمون جميعاً على تمثال آمن الذي يشير بيده إلى المتهم منهم، أو يقول عنه مثلاً (هذا هو السارق). فإذا أنكر المتهم ما اتهمه به آمن أعاد آمن اتهامه، فإذا صمم على الإنكار بعد ذلك سيق إلى السجن وهناك يلقى من العذاب ما يجعله يقر بجرمه، إذ لا يمكن نسبة الكذب إلى الإله آمن. وعند اعترافه بأنه مذنب يساق مرة أخرى إلى آمن الذي يسمع اعترافه ويصادق عليه، وعندئذ يقدم المتهم للمحكمة الجنائية التي تحكم عليه بالعقوبة نتيجة لهذا الاعتراف. غير أن نفوذ الإله آمن قد ضعف في عهد الأسرتين الثانية والعشرين والثالثة والعشرين وهما من اللوبيين وأصبح الرجوع لفتاواه شكلياً بحتاً، ثم استرد بعض نفوذه بين سنتي 721 و 718 ق. م
ولما تبوأ الملك بوخوريس مؤسس الأسرة الرابعة والعشرين عرش مصر أزال التدخل الديني وأعطى للقضاء صبغته المدنية السابقة؛ غير أن استيلاء الأثيوبيين على مصر وانتمائهم لآمن أعاد له سلطته القضائية السابقة ولكنها ضعفت في عهد الملك أمازيس (أحمس الثاني) أحد ملوك الأسرة السادسة والعشرين، وبذلك قضى على سلطة آمن قضاء مطلقاً، وأعاد للقضاء صبغته المدنية التي كان عليها زمن الملك بوخوريس فأعاد أمازيس المحاكم الجنائية والمدنية وفق نظام رمسيس الثاني (رمسيس الأكبر) أي إلى ما كانت عليه المحاكم في القرن الثالث عشر ق. م وبذلك أعيد الاختصاص في المواد الجنائية إلى محكمة دجا وفي المواد المدنية إلى محكمة القضاة الكهنة كما كان متبعاً من قبل. ولم يحرم أمازيس الكهنة من الفصل في القضايا المدنية لسببين: أولهما أن القضايا المدنية تتطلب علماً ومعرفة بالقانون، والثاني أن هذا العلم وتلك المعرفة لم يتوفرا إلا لرجال الدين إذ ذاك، ولكن أمازيس ألغى طريقة الفصل في القضايا بواسطة الوحي الديني، أما القضاء الجنائي فنظراً لبساطته وسهولته بقي الفصل في أموره للملك إما بنفسه وإما بقضاة يعينهم
ولقد فصل قدماء المصريين بين وظيفة القضاء ووظيفة الاتهام إذ ظهر منذ الأسرة الثانية عشرة وظيفة لسان الملك وكان شاغلها بمثابة النائب العام في زماننا؛ وكانت مهمته أن
يباشر التحقيق وأن يقيم الدعوة العامة وأن يأمر بالقبض إن وجد لذلك مسوغاً. وكانت له بجانب وظيفته القضائية هذه اختصاصات أخرى مالية وإدارية. وقد أمكننا أن نعرف وظائفه على وجه التحديد في عهد الرمامسة أي في عهد الأسرة التاسعة عشرة. وكانوا يسمونه تارة (لسان الملك) وأخرى (فم الملك) وثالثة (نِمْ) وكما أن للنائب العام في زماننا وكلاء يباشرون الدعوى نيابة عنه في الجهات الأخرى المختلفة كذلك كان (للسان الملك) وكلاء يسمون دِنُو في الأقاليم وكانوا يباشرون الدعوى العامة أمام محاكم الأقاليم الجنائية، وكان عضو النيابة يدخل في صميم تشكيل المحكمة الجنائية عادية كانت أم غير عادية. وكان يثابر على حضور الجلسات، وكان يذكر اسمه عقب القضاة وقبل الكتبة في محاضرهم؛ وكان قدماء المصريين يعترفون للمؤسسات الدينية بالشخصية المعنوية وبذلك سمحوا لها بالتقاضي أمام المحاكم. وكان للمحكوم له أن يحجز على أموال المحكوم عليه. وكان للأفراد حق رفع الجنحة المباشرة إلى المحكمة إذا لم تقم النيابة العمومية أي (لسان الملك) ووكلاؤه برفع دعاويهم
ووجد بكل محكمة قلم لتلقي العرائض وآخر للمحفوظات تحفظ به سجلات الأحكام، وكانت محاضر جلسات المحاكم الجنائية العادية مكتوبة ومطولة تشمل كل التحقيقات من أسئلة وأجوبة واستجوابات وشهادة شهود إلى غير ذلك، وكان يقوم بتدوينها كتبة يدخلون في تشكيل المحكمة
وقد فطن قدماء المصريين إلى ما في المرافعات الشفهية من ضرر قد يصيب العدل في صميمه نتيجة لتأثر القضاة بفصاحة اللسان فمنعوها وجعلوا معظم الإجراءات مكتوبة؛ وكان للمحكمة أن تنتدب الخبراء لمعاينة مكان الحادث أو لإجراء الكشف الطبي على المجني عليهم وفحص المتهمين
وقد أشفق قدماء المصريين على قضاتهم من فصاحة المحامي وحسن دفاعه وسحر بيانه وما قد يؤدي إليه ذلك أحياناً من الإغضاء عن الحق والقانون فلم يقروا نظام المحامين عن الخصوم أمام المحاكم واعتقدوا أنه قد يكون في بلاغتهم وفصاحة لسانهم وحسن منطقهم ما يغشي على الحقيقة فيتأثر القضاة بهم لما في البيان من السحر. وكانت الطلبات تعرض في مذكرات، ولكل من طرفي الخصوم الحق في الرد عليها كتابة، فيشرح المدعي دعواه
بالتفصيل في عريضة دعواه ويرفق بها كل مستنداته ثم تعرض تلك العريضة على المدعى عليه ليطلع عليها ويرد عليها بمذكرة مكتوبة معترفاً أو منكراً بعض أو كل ما جاء فيها، ثم تترك الفرصة مرة أخرى للمدعي للرد على ما جاء بمذكرة المدعى عليه ويترك لهذا الأخير فرصة الرد الأخير على المدعي بمذكرة ثانية فكان المدعى عليه هو آخر من يقرأ له القاضي وكان يحصل هذا التبادل في المذكرات قبل الجلسة. ولا تصدر المحكمة حكمها إلا بعد الإطلاع على المستندات المقدمة من طرفي الخصوم ونظر جميع الأوراق المختصة بالدعوى وتمام المداولة واستشارة قوانين الدولة. وكان التأني في إصدار الحكم من أهم صفات القضاة حتى لا تجرهم العجلة إلى السقوط في مهاوي الخطأ. وكانت جلسات المحاكم تعقد علانية ويؤدي الشهود يميناً قبل أداء شهادتهم أمام المحكمة في الدعاوى الجنائية والمدنية. أما صيغة اليمين فهي (أقسم بآمُن وبالملك أن أقرر الحقيقة ولا أقول كذباً؛ فلئن كذبت فلتجدعن أنفي ولتصلمن أذني ولأنفين إلى إتيوبيا أو إلى خارج الحدود) ووجدت السجلات العقارية التي كانت تسترشد بها المحاكم إذا فصلت في نزاع عقاري فإذا شعرت المحكمة بأن المستندات المقدمة من الخصوم والمثبتة للملكية غير كافية لإثبات الحق أمرت بإجراء تحقيق تكميلي تسد به هذا النقص ثم تصدر حكمها مشتملا على خلاصة أقوال الطرفين في النزاع والأسباب ونص الحكم. أما المحكمة الخاصة التي كانت تنظر في القضاء الجنائي غير العادي فكانت تصدر حكمها بغير إعلان الأسباب. وكانت التحقيقات فيها سرية ومحاضرها موجزة. وكانت فكرة العقاب عند قدماء المصريين لا تنطوي على الانتقام الشخصي وكانوا يعتقدون أن حق معاقبة المجرم وتنفيذ العقوبة فيه مفوض إليهم من القوة الإلهية. وقد عرف قدماء المصريين الحبس الاحتياطي وصرحت به قوانينهم
بعض نماذج من التشريعات المصرية المدنية والجنائية في
قوانينهم
قلنا إن ديودورس الصقلي امتدح القوانين المصرية، وقال إنها جديرة بالإعجاب وإن العالم أعجب بها فعلاً. ويؤسفنا أن نقول أن هذه القوانين التي بهرت العالم برقيها والتي غذته
بمبادئها ما زالت دراستها مهملة في بلادنا. وإنه ليعز علينا أن نعترف بأنه على الرغم من أهميتها التاريخية والفنية لم نعثر في بحثنا إلا على بعض المصادر الأوروبية والعربية التي بحثت فيها. جمع (تحوت) إله القانون القوانين المختلفة بعد أن وضعها لقدماء المصريين، وكان ذلك في سنة 4241ق. م؛ إلا أن هذه القوانين قد بعثرت وشتت أغلبها بعد ذلك، ولم يتمكن من جمعها إلا الملك بوخوريس الذي عدلها وأفرغها في مجموعة واحدة نظم بها الأحوال الشخصية والمعاملات المدنية. كانت التعهدات على اختلاف أنواعها قبل الملك بوخوريس تحصل مشافهة إذ لم تكن كافة العقود تحصل بالكتابة وإنما كانت تتم بيمين أو (صنك) يصدر من المتعهد للمتعهد له بأنه سيؤدي إليه ما اتفقا عليه، ثم أطلق لفظ (صنك) بعد ذلك على العقد نفسه. ونحن نرجح بأن لفظ (سند) هي بعينها (صنك) المصرية القديمة. وكان يشترط حضور عدد من الشهود ذكوراً كانوا أم إناثا حتى يمكن إثبات العقد. ولم يكن من الجائز تعدد أحد طرفي العقد عندهم فإذا تعدد اعتبروا شخصاً واحداً، ويقولون (تكلم فلان وفلان بفم واحد أو بلسان واحد) وكان لا يترتب على العقد الالتزام من طرف واحد؛ وكان إذا تخلف المتعهد عن الوفاء بما التزم به أكره على الأداء بالعقاب البدني مع الحكم عليه بغرامة تعادل نصف قيمة الحق المدعى به؛ ولم يكن التقادم معروفاً في القانون المصري القديم قبل عهد الملك بوخوريس
قلنا إن الأصل في العقود ولاسيما البيع وهو من أهمها أن لا يكون البائع والمشتري أكثر من واحد، لأن تعدد طرفي العقد لم يعترف به قانونهم فكان إذا تعدد البائعون اعتبروا متضامنين فيما بينهم، وإذا تعدد المشترون وكانوا من عائلة واحدة صار أرشدهم وكيلاً عنهم. وكان يترتب على البيع المنعقد باليمين أمام الشهود أن يلتزم البائع بتعهدين أولهما تسليم سندات الملكية وثانيهما منع كل تعرض للمشتري. واشترطوا ذكر هذين التعهدين صراحة في العقد بادئ ذي بدء ثم عدلوا عن ذكرهما صراحة في العقد عندما كثر استعمالهما وأصبحا يفهمان ضمناً في العقد. وقسم القانون المصري القديم الأموال إلى منقولة وثابتة، وقسم الأموال المنقولة إلى جامدة وحية. وكانت تلك الأموال بجميع أقسامها السالفة الذكر ملكاً لملك مصر يمنحها لمن يشاء؛ وقد احتفظ الملك في الأموال الثابتة بحق الرقبة وأعطى حق الاستغلال لمن يشاء من رعيته
(يتبع)
عطية مصطفى مشرفة
الطريقة العلمية
في الحضارة والحياة
للأستاذ محمد أديب العامري
كيف ذهب العمر؟
يرى بعض علماء الحياة أنه قد مر الآن ما يقارب مليون سنة على وجود الإنسان على وجه الأرض. ويرى بعضهم أن هذا كثير فينزل العدد إلى نصف من ملايين السنين. ومهما يكن من أمر الخلاف بين العلماء في ذلك فالمؤكد عندهم على كل حال أن عمر الإنسان على الأرض لا يقل عن ربع مليون
ومن المعلوم أنه قد مضى الجزء الأكبر من هذه الحقب الطويلة دون أن يكون للإنسان في المدنية طَوْل يذكر، ولكن عشرة آلاف السنة الأخيرة شاهدت من تفجر عقل الإنسان ما تقر به الآثار إلى اليوم، كما أن النصف الأخير فقط من هذه الآلاف العشرة هو الذي يعرفه إنسان التاريخ في حضارة الدنيا
فحضارات العصور الحجرية والفلزية وحضارات الآشوريين والمصريين واليونان والرومان والهنود والصينيين والفرس والعرب والحضارة الحاضرة، هي النتاج البشري المهم الذي نذكره حين ندرس التاريخ
ومن الواضح أن المدنية الحاضرة أزهى هذه المدنيات وأعلاها وأكثرها ديموقراطية وتمهيداً لرفاهية الإنسان وسعادته وأن هذه المدنية الزاهية العظيمة قد ظهرت ونمت، ولا تزال تنبئ بنمو أعظم، فيما لا يزيد على الـ250 سنة الأخيرة. ومع ذلك كله فما يزال مفكر مثل ويلز يقول:(إننا لم نشهد بعد الفجر الأول الباكر للتاريخ الإنساني)
وليس من غرضنا أن نبحث هذا الآن، ولكن ويلز محق، فليس تاريخ البشر في طابعه الأكبر إلى اليوم إلا سلسلة من المجازر الوحشية والمجاعات والتدمير والغارات والسطو. فإن يكن هذا جديراً بعقل الإنسان وفكره فإن فجر الحضارة قد طلع منذ أيام رجل جاوي القردي. ولعل النوع الإنساني إذ ذاك كان أشد حضارة فقد كان أشد ضراوة وأشد فتكاً؛ وإلا فإن تاريخ النوع البشري لم يخط منه إلى الآن شيء يستحق ألا يمحى
ومع أن الواقع يؤيد ما يقول ويلز فإننا نحب أن نحسب للمائتين والخمسين سنة الأخيرة حساباً خاصاً؛ فقد خطت فيها الحضارة البشرية خطوات إن تكن راجفة فإنها واعية؛ وإن تكن في بعض صفحاتها مخزية، فإنها في بعضها لامعة مشرقة. فقد رافق هذه المدنية متاعب وآثام نحن نعاني اليوم أشد أدوارها مرارة، ولكن المؤكد لدى التدقيق هو أن هذه المتاعب ستزول إذ تمحوها الأفكار البشرية العالية يوم تصفو المدنية نفسها للنوع الإنساني خالصة من كدرها وويلها. والنظر في هذه المتاعب لا يهمنا في بحثنا الحاضر كذلك، وإنما يهمنا هنا إزالة الريب الذي يحدثه بعض الكتاب إذ يقولون إن المدنية الحاضرة لم تكن أشمل المدنيات وأرقاها وأبعدها تمثيلاً لاتجاه التطور الإنساني في معارج التقدم
فحساب الـ250 سنة التي نمت فيها هذه المدنية بالنسبة إلى ربع المليون كحساب سنة في الألف. فما الذي ضيع على تاريخ البشر هذه السنين كلها فجعلها هباء أو كالهباء؟
إن السر في ذلك هو (الطريقة العلمية) فهي طابع المدنية الحاضرة والعامل الأساسي في سرعة خطاها وسعتها
فما هي هذه (الطريقة العلمية)، وكيف أدت إلى إسراع خطوات النهضة الحاضرة، وكيف يمكن أن نفيد منها في حياتنا الاجتماعية والسياسية اليومية؟
كيف كان الناس يفكرون؟
كان الناس من قبل يؤمنون بالأرواح يصورونها لأنفسهم، ويثقون بالأذكياء منهم (العلماء) ثقة عمياء. فقد كفى أن يقول أرسطو أن الهواء عديم الوزن حتى مضى قوله هذا صحيحاً دون ريب قروناً عديدة. وقد كان يكفي هوميروس أن يقول إن الأرض مستوى مستدير حتى يؤمن الناس بقوله دون تحقيق أو يعارضوه دون تحقيق. لم تكن نظرة الناس قائمة على التجربة والاختبار؛ ومع أن النهضة العربية كانت أحدث النهضات ومن أبعدها قياماً على البحث والتحقيق، فقد تخللها جدل غيبي عابث كثير وإيمان أعمى كثير. فإذا قال القزويني إن الهواء ينقلب ماء إذا برد كان على الناس أن يصدقوه، لأنه يؤكد أنه ما افترى شيئاً مما أورد في (عجائب المخلوقات)
فإذا كان الذي يقرر الحقائق العلمية لا يسأل عن براهين وأدلة، راده الغرور أكثر الأمر، وجال ذهنه في المغيبات والمعميات يخترع للناس ويضع. وإذا كان من حق كل متكلم أن
يتكلم في رأيه عن أمر لم يخبره بالتجربة كان كل روائي الذهن عالماً مدهشاً، وساد في الناس سفسطائيوهم وكذابوهم والمتجرئون منهم على الحق والعلم
وهكذا بطأت خطوات العلم في التاريخ منذ عرف الإنسان إلى ما قبل القرون الثلاثة الأخيرة، حتى وصل الناس إلى مفتاح هذه السرعة الهائلة في الوصول إلى النتائج العملية والآراء النظرية في مدنيتنا الحاضرة. هذا المفتاح هو الطريقة العلمية، فكيف بدأت (الطريقة العلمية) بدءها الواضح في تاريخ الناس؟
كيف يفكر العلماء؟
يروى لأرسطو قوله: (لو استطعت أن أجد نقطة في الكون تصلح محور ارتكاز لرفعت الأرض كلها على رافعة). وقال ديكارت شيئاً مثل ذلك، ولكنه كان أبعد أثراً في تاريخ الفكر البشري. قال:(لو كنت أستطيع أن أجد حقيقة لا ريب فيها لبنيت عليها كل العلوم) - حقيقة واحدة فقط! هذا يدلك على مبلغ شك الرجل (العلمي) وحذره في كل ما يرى ويسمع. فليس شيء عنده حقاً حتى يتضح بالوسائل التي تدفع كل شك؛ وليس شيء ينفى إلا بعد براهين النفي كاملة. فموقف الرجل العلمي تجاه المسائل هو موقف الحياد التام
وإذا لم يعتبر ديكارت (1596 - 1650) نفسه أول واضع لأساس الطريقة العلمية في التفكير البشري الفلسفي، فلا ريب أنه من أول الواضعين، كما يعتبر جاليلو (1564 - 1642) مؤسس الطريقة العلمية التجريبية في العلوم
ويمثل كل من الرجلين في ميدانين من ميادين التفكير البشري (الرجل العلمي) الذي امتلأت جوانحه بملازمة الصفات التي يتصف بها أمثالهما من العلماء
فالرجل العلمي يعشق الحقيقة ويصبر على الوصول إليها. هو ذو عين يقظة حذرة ترى الدقائق في الأشياء المعرضة للبحث والدراسة. وما أشد هذه الخاصة ندرة! فإن عدداً من الناس يشهد حفلا فإذا سئلوا بعد انفضاضه عن عدده تشعبت أقوالهم عجباً، وتداخلت عواطفهم إلى حد يفسد الوصف ويشوه الواقع. فالرجل العلمي قوي الملاحظة صحيحها، دقيق الوصف لها. قال السير ميخائيل فوستر في خطاب له في رياسة المجمع البريطاني:(يكتفي الرجل - الرجل غير العلمي - بقوله (تقريباً) و (حوالي)، أما الطبيعة فليس عندها من ذلك شيء. ليس من طريقها التوحيد بين شيئين مختلفين مهما دقت شقة الخلاف بينهما،
حتى ولو كان الخلاف يقاس بأقل من جزء من الألف من الميليغرام أو الميليمتر) فكلما أغفل المرء دقائق هذه الفروق بين الأشياء في العلم ضل؛ ومهما يكن من أمر صراعه واجتهاده في الوصول إلى الحقيقة على أساس هذا الإغفال فإنه مخفق في النهاية. لا محالة أن العلم لا يعرف إلا الدقة المطلقة؛ والذي لا يصبر على هذه الدقة لا يستطيع أن يكون عالماً. ولم يخلق كل الناس ليكونوا علماء. على إن التمرس بالدقة في الوصول إلى الحقائق أمر لازم في التربية
والرجل العلمي متأن متحفظ، فهو لا يسرع في إبرام حكمه على شيء حتى تتوفر لديه الأدلة كافية عليه. وإن من أكثر ما يصم الباحث هو الوصول إلى استنباطات فجة قائمة على عدد قليل من الحقائق. لا يتعجل الوصول إلى فرض جديد أو نظرية حديثة ليتعجل شيئاً لنفسه، فإن الفرض أو النظرية إذ تنهار فيما بعد تنهار على صاحبها. وهو لا يتحيز إلى نفسه ولا إلى أي فرض أو نظرية. إنه ينظر إلى الحقائق مجردة
والرجل العلمي إنسان واضح صافي الذهن صافي الفكرة. وهو يعي أنه يدرك الأمور على حقائقها. فأنت تعرف أن بعض الناس يؤكدون أنهم يعرفون أشياء على وجه ما، فإذا الحقيقة أنها على وجه آخر. إنهم لا يعرفون متى يعرفون شيئاً ومتى لا يعرفونه. وهؤلاء لا يمكن أن يكونوا علماء أو تتم لهم ثقافة. وكما أن الرجل العلمي واضح الفكرة فهو صافي العبارة كذلك. إنه حين يعبر عن شيء يعبر عنه بأبسط الكلمات وأوجز العبارات؛ ومن هنا كانت لغة العلم الصحيحة سهلة. وأثر الأسلوب العلمي في أدب العصر فانتحى السهولة الممتنعة. فالرجل العلمي لا يستعمل لفظة تحتمل معنيين أو جملة تشير إلى مفهومين، بل تكون عبارته قاصدة واضحة
وبالجملة يكون الرجل العلمي رجل ثقافة وعقلية علمية. فهو بطبعه يحب الصدق والوضوح والإيجاز والتدقيق في قبول ما يعرض على عقله من حقائق وأقوال
ونجمل فنقول: إن الطريقة العلمية في بحث مسألة من المسائل تقتضي:
1 -
أن يجمع العالم من الحقائق والمشاهدات على المسألة التي يبحث فيها جهد ما يستطيع. ويجب أن يتأكد من صحة الحقائق والمشاهدات بالقياس الدقيق
2 -
أن ينسق ما يصل إليه من الحقائق
3 -
أن يكوّن بناء على الحقائق فرضاً يؤول هذه الحقائق جملة
4 -
أن يجرب صحة الفرض بحقائق أخرى. فإذا قوي الفرض أدرك مرتبة النظرية
5 -
ويمكن أن تحيط النظرية بجميع الحقائق التي تبحث عنها بعد تجربة واختبار طويلين فتصبح قانوناً، وهو أقوى تعبير يجمل الحقائق العلمية
ولنضرب مثلاً يوضح الطريقة العلمية:
فالناس يعرفون الآن أن المادة ليست متلاحمة الأجزاء. فبين أجزاء قطعة من الحديد وإن ظهرت مصمتة فراغ كبير. واضح مثلاً أن بين أجزاء الفلين فراغ يملؤه الهواء أو فراغ مطلق لا شيء يملؤه. فالذي يشاهد أن الفلين يمتص الماء يفكر في الفراغ الذي ملأه الماء، فيخطر بباله أن لا بد وأن يكون بين أجزاء الفلين فراغ. فإذا ما لاحظ أن قطعة السكر تمتص الماء كذلك اشتد خاطره بأن هنالك مادة غير الفلين يتخلل الفراغ أجزاءها. فإذا ما لاحظ أن قطعة السكر تذوب في الشاي ترجح لديه أن بين أجزاء الماء نفسه فراغ تملؤه دقائق السكر الذائب. ذلك نمط من الحقائق يجمعها العالم، ويرافق جمعها في ذهنه فكرة توحد بين المشاهدات التي يقصدها منها. فهذه الفكرة هي الفرض
فإذا ما انطلق العالم يفتش عن مواد أخرى ويلاحظ ما إذا كان يفصل بين دقائق أجزائها فراغ، ويرى أن هنالك كثيراً جداً من المواد يصدق عليه ما خطر له في الفرض أكد فرضه فجعله نظرية
والنظرية التي يمكن أن تستنبط من مثالنا هذا هي أن بين جزئيات المادة فراغ. فإذا صادف العالم المحقق أثناء بحثه مادة كالبلاتين شديدة التماسك لا يبدو للمرء أول وهلة أن بين أجزائها فراغا حاول بكل وسائله الممكنة أن يعرف ما إذا كان هذا المثل يرد النظرية أو يؤيدها. فإذا ردها عاد العالم إلى حقائق أخرى، فإذا كانت المشاهدات الجديدة غير ممكنة التأويل على أساس النظرية المقترحة سقطت وبحث عن غيرها، وإلا فإنها تتأيد وتصبح بمنزلة القانون العام.
فأسلوب البحث العلمي واضح المعالم بيّن الطريق. وهو يقتضي كما مر عقلية خاصة وإرادة خاصة وشمولاً خاصاً في النظر لا يتاح لكثيرين. واتباع هذا الأسلوب الواضح هو الذي خطا بالعلم هذه الخطوات الواسعة، وفسح للعقل البشري هذه الآفاق العجيبة
الطريقة العلمية والحياة
إن أسلوب التفكير العلمي نافع جداً في العلاقات بين الناس. والتفصيل في ضرب الأمثلة على ذلك يحمل على الإطالة أكثر مما أطلنا
فنحن نشاهد ضعف قوة الملاحظة في التلاميذ والناس. والشرق لا يختلف عن الغرب، ولكن الغربيين أخذوا بأساليب البحث العلمي زمناً فقويت عندهم ملكة المشاهدة واتزنت عقول كثيرين منهم وترفعت عن الأوهام والأخذ بالظواهر؛ وكان لهذا أثر كبير في حياتهم السياسية والاجتماعية. ولا ريب أن أخذنا بأسباب المدنية الحاضرة سيؤدي بنا ما أسرعنا باتخاذنا هذه الأسباب إلى الغاية نفسها؛ وفي هذا الخير كل الخير
فكثيرون منا ما يزالون يأخذون بظاهر الأقوال سواء أجرت هذه مجرى حقائق العلم أو حقائق الحياة. ويعزى كثير من الركود والسوء في مجتمعنا إلى هذا الأخذ البسيط. يقال لنا مثلاً إن مرافق الحياة والإنتاج في بلادنا ضعيفة، فنأخذ بظاهر هذا القول ونتقاعس عن وسائل الإنتاج العلمي فيشتد بنا الخوف والتزاحم
ومن مظاهر حياتنا اتهامنا الشديد للذين يصيبون منا شيئاً من النباهة. وهذا خلق عام في الناس، ولكن شدته عندنا ظاهرة. فما أن ينبغ نابغ حتى تدور الألسنة فيه بالكذب والافتراء. ومما يدل على ضعف الروح العلمية في الناس تصديقهم بمفتريات وادعاءات لا تنطبق على الواقع ولا يصدقها العقل. وهم يأخذون بهذه المفتريات بضعف النظرة العلمية فيهم. فالذي يحملك على رأي في إنسان لم تعرفه أنت بنفسك كالذي يحملك على القول بأن الهواء غير ذي وزن دون أن تزنه - كلا الأمرين يدل على فقدان النظرة العلمية
(السلط)
محمد أديب العامري
أبو الفرج الببغاء
للأستاذ عبد العظيم علي قناوي
- 2 -
قدمت طرفاً عن نشأة أبي الفرج وعن حياته الأدبية، فلأقدم طرفاً من شعره ونثره محاولاً أن أكشف في أثناء عرضي لها عن مكنون معانيها، وروائع أخيلتها، بما يقر عين الكاتب، وينقع غلة الشاعر، فأحيي شعراً كاد أن يندثر، وأذيع أدباً قد غمر، بينا صاحبهما كان في عصره غمر البديهة وفير النباهة. ولا أكاد أفهم لماذا ضن الزمان على أبي الفرج بما وهبه لمن هم أدنى منه مكانة وأقل قدراً، ممن ذاع في عصرنا أدبهم، وصارت ملء الأسماع والأبصار أسماؤهم؛ إلا إذا اعتقدت أن للأدب جَدّاً قد يكون لامعاً فينشر تاريخ صاحبه، وقد يكون خابياً فيأفل بأفوله صيت كاتبه؛ وهذا هو نصيب أبي الفرج من أدبه، ولكني أرجو أن أقضي حقوقاً نام قاضيها، وأوفي ذكر أيادٍ على اللغة لم تجد من يوفيها، فيتنبه علية الكتاب ورافعو ألوية الأدب في مصر إلى أمثال الببغاء ممن لفهم الدهر في طياته، وطواهم بين إمعاته ونكراته، وكانوا في إبان نهضة اللغة من النابهين، وفي عصور ازدهار الأدب من الفحول النوابغ، فيحيون تراثهم وينشرون للأدباء سيرهم، ويقرئوننا شعرهم ونثرهم
طرق أبو الفرج جميع أغراض الشعر المتداولة في عصره إلا ما يبعد صاحبه عن النبل والمروءة ويسمه بسمة الفحش والسفاهة أو ينظمه في سمط السلطاء، فلم يكن هجاء مقذعا بل كان يربأ بنفسه عن أن تكون في منزلة دنيا فيتناول الأحساب يعرضها أو الأعراض ينهشها، كما كان يفعل ذلك أكثر شعراء عصره. وإنه ليبدو لنا من دراسة شعره أنه كان رقيق الحاشية سجيح الخلق نبيل المروءة محبباً إلى علية القوم وعامتهم، يرى أن له مكانة ترفعه عن اللغو، وتسمو به عن الهجو. وإليك ما يشعرنا به من شعره قال:
أكُلُّ وميض بارقة كذوب؟
…
أما في الدهر شيء لا يريب؟
تشابهت الطباع فلا دنئ
…
يحن إلى الثناء ولا حسيب
وشاع البخل في الأشياء حتى
…
يكاد يشح بالريح الهبوب
وفيها يقول:
أبى لي أن أقول الهجر قدر
…
بعيد أن تجاوره العيوب
وإذن فاعتداده بنفسه، وعرفانه قدرها، هو الذي حدا به إلى الترفع عن الهجاء. ولقد كان أبياً عزيز النفس لا يتحمل منة ولا يستكين عن ذلة ويدعو إلى القناعة شأن شعراء الزهد في عصره:
ما الذل إلا تحمل المنن
…
فكن عزيزاً إن شئت أو فهن
إذا اقتصرنا على اليسير فما ال
…
عِلة في عتبنا على الزمن
ومع أن هذا الشعر قد يكون صادراً للحكمة وإرسال الأمثال فإنه يدلنا على صفاته ويشي إلينا ببعض خلاله. كذلك لم يكن من الرقعاء الماجنين أو الخلعاء المستهترين، وإن هو قد ألم في صدر شبابه بما تدعو إليه نزوات الشباب، وأتى في باكورة صباه ما يصبو إليه من لا يزال غض الإهاب، لكنه مع هذا كان عنيف اللسان شريف البيان، تقرأ حوادثه الكاعب الغانية والشمطاء الفانية فلا تجد الأولى ما يريق حياءها أو يبعث الخجل إلى وجهها، وإن وجدت الأخرى ما يهيج أشجانها ويتصباها، ويبعث فيها ذكريات أيام شبابها وصباها؛ وهذه قصة تريك حقيقة ما نقول:
تخلّف عن الغزو مع سيف الدولة بدمشق، وكانت سنه قرابة العشرين؛ ويظهر أنه أحس وخز الضمير وتأنيب الشهامة، فأخذ يتسلى عن تخلفه بارتياد الحدائق والرياض، ويتعزى عن اتهامه بالقعود بالقصف والمجون، فقصد إلى دير مران، واختار له من رهبانه سميراً هو أقلهم في الرهبنة حظاً، وأديرت بينهما الراح، وإذا راهب آخر يوحي إليه بطرفه يستقدمه إليه، فانتحيا ناحية، فسلمه رقعة فضها فإذا هي دعوة إلى زيارة أرسلها صاحبها في عبارة رقيقة وأبيات رشيقة ختمها بهذين البيتين:
فإن تقبلت ما أتاك به
…
لم تشِن الظنَّ فيه بالكذب
وإن أتى الزهد دون رغبتنا
…
فكن كمن لم يقل ولم يجب
فصحا من سكره، وتخيل الداعي في نثره وشعره ملكاً كريماً، أو عاشقاً نبيلا، فكان جوابه على دعوته ما ذكره في وصفه لتلك الحادثة إذ يقول:
وكان جوابي طاعة لا مقالة
…
ومن ذا الذي لا يستجيب إلى اليسر
فلاقيت ملء العين نبلا وهمة
…
مُحَلَّى السجايا بالطلاقة والبشر
فاستقبله غلام (كأن البدر ركب على إزاره) واقتعدا وغلاميهما غارب اللذة وتناهيا نوادر
الأخبار وتناهبا روائع الأشعار على كؤوس المدام، فما شملتهم بالفرح الشمول حتى أمر المضيف غلامه بالغناء فغنى:
يا مالكي وهو ملكي
…
وسالبي ثوب نسكي
نزه يقين الهوى في
…
ك عن تعرض شك
لولاك ما كنت أبكي
…
إلى الصباح وأبكي
فانتشيا من راحين، وطربا بمدامين، واستسلما للمرح، وأسلما زماميهما إلى النشوة والفرح، فاقترح المضيف على الضيف (أن يشي ليلتهما بشيء يكون لها طرازاً ولذكرها معلماً) ففعل وأنشد ارتجالاً:
وليلة أوسعتني
…
حسناً، ولهوا، ً وأنساً
ما زلت ألثم بدراً
…
بها، وأشرب شمساً
إذ أطلع الدير سعداً
…
لم يبق مذبان نحساً
فصار للروح مني
…
روحاً وللنفس نفساً
فطربوا وقصفوا ما طاب لهم الطرب والقصف، وقد وشى ليلتهما بقصيدة طويلة جميلة النسج سنية الخيال نورد منها قوله:
جَنينا جنيَّ الورد في غير وقته
…
وزهر الرُّبا من روض خديه والثَّغر
وقابلنا من وجهه وشرابه
…
بشمسين في جنحي دجى الليل والشَّعر
وغنى فصار السمع كالطرف آخذاً
…
بأوفر حظ من محاسنه الزُّهر
وأمتعنا من وجنتيه بمثل ما
…
تمزج كفاه من الماء والخمر
سرور شكرنا منة الصحو إذ دعا
…
إليه، ولم نشكر به منة السكر
مضى وكأني كنت فيه مهوماً
…
يحدث عن طيف الخيال الذي يسري
أليست أبياته كلها وهي في موقف ينسي الحياء سخية به كريمة بالاحتشام؛ ليس فيها هناة تأخذها عليه فتاة، ولا خيال تعافه الحييات أو تتنكر له الناسكات؟
ويذكرني وصف ليلته أبياتاً لشاعرنا العظيم محمود سامي باشا البارودي حذا فيها حذو أبي الفرج، فوصف ليلة قال:
وليلة من ليالي الأنس صافية
…
بلغت بالراح فيها كل مقترحي
قتلتها بعد أن نام الخلي بها
…
بغادة لو رأتها الشمس لم تلح
فكيف لا تدرك الأفلاك منزلتي
…
والبدر في مجلسي والشمس في قدحي
ولكن شتان بين الليلتين، فليلة البارودي إحدى ليالي أنسه الكثيرة، وهي لم تزد على أنها ليلة صافية، بلغ فيها مقترحه لا أمنيته؛ وما أسهل ما يبلغ الإنسان ما يقترح! أما ليلة الببغاء فليلة فريدة في حسنها حافلة بلهوها مفعمة بأنسها؛ وكيف لا تكون كذلك وهو يلثم بدراً ويرشف شمساً؛ أما صاحبه فإنه يجالس البدر أو يخالسه، وينظر إلى الشمس كما ينظر إليها عابر سبيل، وفرق بين من يلثم ويشرب، ومن يجالس وينظر، وأين هو من قول الببغاء؟
فصار للروح مني
…
روحاً وللنفس نفساً
وكان على المحتذي أن يفوق المحتذى به، ويجلي في الميدان الذي اختاره لمنازلته فيه لا أن يجيء مصلياً بينا الأول مرتجل والثاني متئد، ولكن ذلك ما لم يستطع له شاعرنا بلوغاً. ولننتقل إلى الحديث عن شعره
تأثر أبو الفرج في شعره خطوات شاعرين ملأ ذكرهما الآفاق، وذاع صيتهما في الشام والعراق، هما أبو تمام والبحتري، فقد كان اسماهما في عصره لا يزالان أرفع أسماء الشعراء فتأثر بهما، فأولع بالبديع ولعاً شديداً، وأوغل فيه أعظم إيغال، فإنك لا تكاد تجد بيتاً ليس فيه نوع من أنواع البديع، وهذا هو ما أخذه عن أبي تمام، ولكنه لم يغرب في ألفاظه إغرابه ولا تعمد الكلمات الجزلة والعبارات الضخمة ذات الموسيقى الصاخبة والرنين القوي التي أوخذ عليها أبو تمام، حتى وجد في عصره من النقدة من ينكر عليه عبقريته بل شاعريته، فإن كلفه بالإغراب وشغفه بضخامة الألفاظ كان سبباً في غموض بعض معانيه. وأخذ عن البحتري الألفاظ العذبة والأخيلة الشائقة التي لا تصك الآذان، ولا تثقل على الأسماع، ولا تدفع بالقارئ إلى قطيعة الشعر جرياً وراء المعجمات تارة، وإمعاناً في تفهم المعميات من المعاني أخرى، فأخذ من طريقتيهما بالحسنيين، وكاد يجلي في الحلبتين. ولا أدعي أنه بذهما أو ساواهما ولكني أعتقد أنه عدا خلفهما فلم يتخلف، ونهج بعض نهجهما دون أن يتكلف، فشعره سهل معبد لا تكتنفه جنادل، ولا تحوطه مفاوز، بل هو مما يلذ الأديب العريق، ويفهمه المتأدب الرقيق. وسأورد من شعره غير ما أوردته في
مناسباته ما يروق غير مدقق في الاختيار ولا متحر الجودة؛ لأني أرى شعره طبقة واحدة، ووحدة غير متنوعة، لأنه نبعة صادقة. فاسمعه يصف ولهه بحبه، وهيامه بمالك لبه، فهو يرى أن قربه وبعده يستويان عنده لأن الوصل لا يطفئ غلة ولا يبرئ علة، والبعد لا يزيد تأجج شوقه، ولا يؤرث نار وجده، فقد بلغ كلاهما النهاية وأوفيا على الغاية، وهي مبالغة طريفة ساقها في لفظ ساحر قال:
حصلت من الهوى بك في محل
…
يساوي بين قربك والفراق
فلو واصلت ما نقص اشتياقي
…
كما لو بنت ما زاد اشتياقي
وقد طُرق هذا المعنى من قبله، فلعله ألم به فسطا عليه، أو جاء من توافق الخواطر، وكلاهما جائز. وهذان بيتان في هذا المعنى لعليه بنت المهدي قالت:
إذا كان لا يسليك عمن تحبه
…
تناء ولا يشفيك طول تلاقي
فما أنت إلا مستعير حشاشة
…
لمهجة نفس آذنت بفراق
ولكنه تخلف عن علية فقد بلغت غرضها في بيت، أما هو فاحتاج بيته الأول إلى بيت ثان يوضح غرضه ويبين قصده. وهذا معنى آخر من المعاني المطروقة قبله لم يأخذه كما سبق إليه بل جود فيه وحسن حتى ليخاله القارئ معناه المبتكر، قال:
من ضر من بعد السرور ببعده
…
لو كان يجمل في صيانة عبده
يبدو فأطرق هيبة ومخافة
…
من أن يؤثر ناظري في خده
قد صرت أعجب أن علة طرفه
…
ليست تؤثر علة في وده
أخذ هذا المعنى من قول أبي تمام:
ومضمخ بالمسك في وجناته
…
حسن الشمائل ساحر الألفاظ
أبدا ترى الآثار في وجناته
…
مما يجرحها من الألحاظ
وتراه سائر دهره متبسماً
…
فإذا رآني مرّ كالمغتاظ
في القلب مني والجوانح والحشا
…
من حبه حر كحر شواظ
وقد زاد الببغاء على معنى أبي تمام أن إغضاءه لسببين: أولهما هيبته وجلالته، وثانيهما خشيته أن يؤثر طرفه في وجنته. ولعله مما يشين المحبوب أن يرى دائماً مجرح الوجنات مخدد الخدود من تلك الألحاظ اللواحظ والعيون النواظر، وأحسب أنه أخذ معنى أبي تمام
في قوله:
ومهفهف لما اكتست وجناته
…
حلل الملاحة طرزت بعذاره
لما انتصرت على عظيم جفائه
…
بالقلب كان القلب من أنصاره
كملت محاسن وجهه فكأنما اق
…
تبس الهلال النور من أنواره
وإذا ألح القلب في هجرانه
…
قال الهوى لا بد منه فداره
وإلى عدد تال وموعد قريب.
(المعادي)
عبد العظيم علي قناوي
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 -
1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 12 -
- لقد وضعك حسنك في طريقي موضع البدر؛ يرى ويحب ولا تناله يد ولا تعلق بنوره ظلمة نفس، لكن كبرياءك نصبتك نصبة جبل شامخ: كأنه ما خلق ذلك الخلق المنتثر الوعر إلا لتدق به قلوب المصدعين فيه. . . كوني من شئت أو ما شئت، خلقاً مما يكبر في صدرك أم مما يكبر في صدري؛ كوني ثلاثا من النساء كما قلت أو ثلاثة من الملائكة، ولكن لا تكوني ثلاثة آلام. انفحي نفح العطر الذي يلمس بالروح، واظهري مظهر الضوء الذي يلمس بالعين، ولكن دعيني في جوك وفي نورك. اصعدي إلى سمائك العالية، ولكن ألبسيني قبل ذلك جناحين. كوني ما أرادت نفسك، ولكن أشعري نفسك هذه أني إنسان. . .!)
(هو)
- (إن أمي ولدت نفسي ونفسي هي ولدتني، فلا ترج أن تصيب في طباع أنثى وإلا ضل ضلالك أيها الحبيب. . .)
- (هي)
هو وهي؟
(رجل وامرأة كأنما كانا ذرتين متجاورتين في طينة الخلق الأزلية وخرجتا من يد الله معاً؛ هي بروعتها ودلالها وسحرها، وهو بأحزانه وقوته وفلسفته. . .
(كانا في الحب جزءين من تاريخ واحد، نشر منه ما نشر وطوى ما طواه؛ على أنها كانت له فيما أرى كملك الوحي للأنبياء، ورأى في وجهها من النور والصفاء ما جعلها بين عينيه وبين فلك المعاني السامية كمرآة المرصد السماوي؛ فكل ما في رسائله من البيان والإشراق هو نفسها، وكل ما فيها من ظلمات الحزن هو نفسه!)
لم تكن (هي) أولى حبائبه ولكنها آخر من أحب؛ عرفها وقد تخطى الشباب وخلّف وراءه أربعين سنة ونيفا حافلة بأيام الهناءة مشرقة بذكريات الهوى والصبابة والأحلام، وكان بينهما في السن عُمرُ غلام يخطو إلى الشباب. . .
سعى إلى مجلسها يوم (الثلاثاء) سعي الخلي إلى اللهو والغزل، يلتمس في مجلسها مادة الشعر، وجلاء الخاطر، وصقالة النفس؛ ومجلسها في كل (ثلاثاء) هو ندوة الأدب ومجمع الشعراء؛ وجلس إليها ساعة، وتحدث إليها وتحدثت إليه، وكان كل شيء منها ومما حولها يتحدث في نفسه. ولمسه الحب لمسة ساحر جعلت في لسانه حديثاً ولعينيه حديثاً. وطال انفرادها به عن ضيوفها؛ فما تركته إلا لتعتذر إليهم فتعود إليه. . . وقامت تودعه إلى الباب وهي تقول:(متى تكون سعادتي بالزيارة الثانية؟) فنهى النفس عن الهوى ونسأ الأجل إلى غد. . .!
ووقع من نفسها كما وقعت من نفسه، فما افترقا من بعدها إلا على ميعاد؛ ومحت صورتها من ماضيه كل ما كان من أيامه وكل من عرف، لتملأ هي نفسه بروعتها ودلالها وسحرها؛ وانتزعها هو من أيامها فما بقي لها من أصحابها وصواحبها غير مُصْيَفٍ مشغلةً في الليل والنهار
وكان الرافعي أول من يغشى مجلسها يوم الثلاثاء وآخر من ينصرف، فإن منعه شيء عن شهود مجلسها في القاهرة كتب إليها من طنطا وكتبت إليه على أن يكون له عوض مما فاته يومٌ وحده. . .
كان يحبها حباً عنيفاً جارفاً لا يقف في سبيله شيء، ولكنه حب ليس من حب الناس، حب فوق الشهوات وفوق الغايات الدنيا لأنه ليس له مدى ولا غاية. لقد كان يلتمس مثل هذا الحب من زمان ليجد فيه ينبوع الشعر وصفاء الروح، وقد وجدهما، ولكن في نفسه لا في لسانه وقلمه، وأحسّ وشعر وتنورت نفسه الآفاق البعيدة، ولكن ليثور بكل ذلك دمه وتصطرع خواطره ولا يجد البيان الذي يصف نفسه ويبين عن خواطره. . .
بلى، قد كتب ونظم وكان من إلهام الحب شعره وبيانه، ولكنه منذ ذاق الحب أيقن أنه عاجز عن أن يقول في الحب شعراً وكتابة، ومات وهو يدندن بقصيدة لم ينظمها ولم يسمع منها أحد بيتاً، لأن لغة البشر أضيق من أن تتسع لمعانيها أو تعبر عنها، لأنها من خفقات القلب
وهمسات الوجدان
و (هي) أديبة فيلسوفة شاعرة؛ فمن ذلك كان حبها وكان حبه (من خصائصها أنها لا تعجب بشيء إعجابها بدقة التعبير الشعري. . . إنها تريد أن تجمع إلى صفاء وجهها وإشراق خديها وخلابتها وسحرها، صفاء اللفظ وإشراق المعنى وحسن المعرض وجمال العبارة، وهذا هو الحب عندها. . .)
(ولا يستخرج عجبها شيء كما يعجبها الكلام المفنن المشرق المضيء بروح الشعر؛ فهو حلاها وجواهرها؛ وما لسوق حبها من دنانير غير المعاني الذهبية؛ فإنها لا تبايعك صفقة يد بيد، ولكن خفقة قلب على قلب)
وكذلك تحابا، وتراءيا قلباً لقلب، وتكاشفا نفساً لنفس، ومضى الحب على سنته. ونظر الرافعي إليها وإلى نفسه وراح يحلم، وخيل إليه أنه يمكن أن يكون أسعد مما هو لو أنها. . . ولو أنها كانت زوجته. . . ثم عاد إلى نفسه يؤامرها فأطرق من حياء. . . وكانت خطرة عابرة من خطرات الهوى أطافت به لحظة وما عادت. وقالت له نفسه وقال لنفسه، فكأنما انكشفت له أشياء لم يكن يراها من قبل بعيني العاشق، وأوشكت القصة أن تبلغ نهايتها وتنحل العقدة، فجاءت كبرياؤه لتخط الخاتمة. . .
وراح الرافعي يوماً إلى ميعاده، وكان في مجلسها شاعر جلست إليه تحدثه ويحدثها؛ ودخل الرافعي فوقفت له حتى جلس، ثم عادت إلى شاعرها لتتم حديثاً بدأته، وجلس الرافعي مستريباً ينظر؛ وأبطأت به الوحدة، وثقل عليه أن تكون لغيره أحوج ما يكون إليها، ونظر إلى نفسه وإلى صاحبه، وقالت له نفسه:(ما أنت هنا وهي لا توليك من عنايتها بعض ما تولي الضيف. . .؟)
فاحمر وجهه وغلا دمه، ورمى إليها نظرة أو نظرتين، ثم وقف واتخذ طريقه إلى الباب. . . واستمهلته فما تلبث، وكتب إليها كتاب القطيعة. . .!
وعاد إليه البريد برسالتها تعتذر وتعتب وتجدد الحب والإخلاص في أسطر ثلاثة، ولكن الرافعي حين وجد كبرياءه نسي حبه، وكان هو الفراق الأخير. . .!
كان ذلك في يناير سنة 1924
وثابت إليه نفسه رويداً رويداً، وخلا إلى خواطره وأشجانه ليكتب رسائل الأحزان!
ومضت ثلاث عشرة سنة لم يلتقيا وجهاً لوجه، إلا مرة في حفل أدبي في طنطا؛ فما كانت إلا نظرة وجوابها، ثم فر أحدهما من الميدان وخلف الآخر ينتظر. . .
على أن الرافعي لم ينس صاحبته قط، وعاش ما عاش بعد ذلك اليوم وما تبرح خاطره لحظة، وما يأنس إلى صديق حتى يتحدث إليه فيما كان بينه وبين (فلانة)، ثم يطرق هنيهة ليرفع رأسه بعدها وهو يقول:(هل يعود ذلك الماضي؟ إنها حماقتي وكبريائي، ليتني لم أفعل، ليت. . .!) ثم ينصرف عن محدثه إلى ذكرياته، ويطول الصمت. . .
وكان لا ينفك يسأل عنها من يعرف خبرها، حتى عرف أنها سافرت إلى الشام تستشفي منذ عام فأقامت هناك، فهفت إليها نفسه وتحركت عاطفته إليها في لون من الحب وغير قليل من الندم؛ فكتب إلى صديقة في (دمشق) لتزورها في مستشفاها وتكتب إليه بخبرها؛ فكتبت إليه:
(. . . . . . بالصدق يا صديقي إنني كلما استعدت بذاكرتي وصية (فلانة) المؤلمة ونتيجتها المحزنة، تعتريني حالة انقباض شديد وحزن لا حد له. . . إن الموت في مثل هذه الحالات يعد كنزاً ثميناً لا يحصل عليه إلا السعيد. وإني أتهمك قانوناً. . . بأنك كنت السبب فيما نابها، فماذا عليك لو لبيت الدعوة؟ آه، لقد كنت قاسياً وفي منتهى القسوة، فهل كان يحلو لك تعذيبها بهذا الشكل، وإلا فماذا تقصد من هذه القطيعة؟ إن المرأة على حق حين تظن، لا بل حين تعتقد أن الرجل. . . . . . لا، السكوت أولى الآن. . .)
أما هذه (الوصية) التي أوصت بها (فلانة) زائرتَها لتبلغها إلى الرافعي، فلست أعرف ما هي؛ فقد قص الرافعي هذا الجزء من الخطاب قبل أن يصل إليّ، ولست أعرف أين خبأه من مكتبه، ولعل ولده الدكتور الرافعي يدري، فإن كان عليه حقاً للأدب أن يحتفظ بما عنده من الرسائل إلى أوانها، فسيأتي يوم تكون فيه هذه الرسائل شيئاً له قيمته في البحث الأدبي
قلت: إن الرافعي قطع ما بينه وبين صاحبته منذ ثلاث عشرة سنة لم يلتقيا إلا مرة، ولكنه كان يكتب لها وتكتب له رسائل لا يحملها ساعي البريد، لأنه كان ينشرها وتنشرها في ثنايا ما تنشر لهما الصحف من رسائل أدبية، يقرؤها قراؤها فلا يجدونها إلا كلاماً من الكلام في موضعها من الحديث أو المقالة أو القصة، ويقرؤها المرسل إليه خاصة فيفهم ما تعنيه وما تشير إليه، ثم يكون الرد كذلك: حشواً من فضول القول في حديث أو مقالة أو قصة؛ هي
رسائل خاصة ولكنها على أعين القراء جميعاً وما ذاع السر ولا انكشف الضمير، وفي أكثر من مرة والرافعي يملي عليّ مقالاته - كان يستمهلني قليلاً ليُعَيِّث في درج مكتبه قليلاً فيخرج ورقة أو قصاصة يملي عليّ منها كلاماً، ثم يعود إلى إملائه من فكره، وأعرف ما يعنيه فأبتسم ويبتسم ثم نعود إلى ما كنا فيه؛ وتنشر المقالة، فلا نلبث أن نجد الرد في رسالة تكتبها (فلانة) فيتلقاها الرافعي في صحيفتها كما يفض العاشق رسالة جاءته في غلافها مع ساعي البريد من حبيب ناء. . .
هي طريقة لم يتفاهما عليها ولكنهما رضياها، وأحسب ذلك نوعاً من الكبرياء التي ربطتهما قلباً إلى قلب، والتي فرقت بينهما على وقدة الحب وحرقة الوجد والحنين. . .!
وكنت مع الرافعي مرة بالقاهرة في شتاء سنة 1935، فقال لي:(مِلْ بنا إلى هذا الشارع!) ولم تكن لنا في ذلك الشارع حاجة ولكني أطعته، وانتهينا إلى مكان، فوقف الرافعي معتمداً على عصاه، ورفع رأسه إلى فوق وهو يقول:(إنها هنا، هذه دارها، من يدري، لعلها الآن خلف هذه النافذة. . .!)
قلت: (مَن؟) قال: (فلانة!)
قالت: (ولكن النوافذ مغلقة جميعاً ولا بصيص من نور؛ فأين تكون؟)
قال: (لعلها الآن في السيما. إذا كان الصباح فاغْدُ عليّ مبكراً لنزورها معاً، إن بي حنيناً إلى الماضي. . . ليتني. . . ولكن أترى من اللائق أن أزورها بعد كل ما كان؟)
قلت: (وما يمنع؟ أحسبها ستسرّ كثيراً بلقياك. . .!)
قال: (إذن في الصباح، ستكون معي، ولكن احذر، احذر أن تغلبك على قلبك. . . أو تسمح لخيالك أن يسبح وراء عينيك. . . إنها فاتنة!)
قلت: (لا، إنها عجوز، فما حاجتي بها. .؟) وضحكت مازحا
فزوى ما بين عينيه وهو يقول: (وَيْ! عجوز، إنها أوفر شباباً منك!)
قلت: (قد يكون لو وقفت بها السن منذ اثنتي عشرة سنة. . .!)
قال: (صدقت. . .! اثنتى عشرة سنة. . .!)
وسكتَ وسكتّ حتى أوصلته إلى الدار، فلما كان الصباح غدوت عليه فأذكرته موعده، فابتسم ابتسامة هادئة وهو يقول: يا بنيّ، إنها ليست هناك، إن (تلك) قد ذهبت منذ اثنتي
عشرة سنة، أما (هذه) فأظنني لا أعرفها. . . إنني أحرص على الماضي الجميل أن تتغير صورته في نفسي. . بحسبي أنها في نفسي. .!)
ثم يلبث بعد ذلك أن جاءه أنها سافرت إلى الشام لعلة في أعصابها. . .!)
(لها بقية)
محمد سعيد العريان
الكميت بن زيد
شاعر العصر المرواني
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 2 -
سيرته
ولد الكميت بالكوفة سنة ستين للهجرة، وهي السنة التي قتل فيها الحسين رضي الله عنه، وكان أهل الكوفة قد دعوه ليبايعوه في بدء عهد يزيد بن معاوية، فسار إليهم من مكة إلى أن وصل إلى كربلاء، فقتله فيها جيش عبيد الله ابن زياد
وكانت الكوفة عاصمة العراق وما إليه من بلاد فارس وما حواليها، وكانت أيضاً مهداً للتشيع العلوي من يوم أن اتخذها علي رضي الله عنه عاصمة لخلافته، كما كانت دمشق بالشام مهداً للتشيع الأموي بتأثير معاوية رضي الله عنه، ولعلهما بهذا أرادا أن يستغلا العصبية القديمة بين العراق والشام، فقد كانت هناك منافسة شديدة في الجاهلية بين عرب العراق وعلى رأسهم دولة المناذرة، وبين عرب الشام وعلى رأسهم دولة الغساسنة. ولم يترك علي (ض) المدينة التي كانت عاصمة الخلفاء قبله إلى الكوفة إلا ليكون له أهل العراق على معاوية وأهل الشام، ويساعدوه على أن تكون الخلافة بعاصمتهم، فتحيا بها بلادهم، ويكون خيرها لهم، ولا يستأثر به أهل الشام دونهم؛ وهذا إلى ما في العراق من الرجال والخصب، فيضاهي بهذا خصب الشام بالمال والرجال، ويجد من الحاقدين على معاوية وبني أمية ما لا يجده في مكة والمدينة
وقد كان الكميت من بني أسد بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن معد بن عدنان، وهو الجد الأعلى للنبي عليه الصلاة والسلام، فنشأ بين من نزح من قبيلته من البادية إلى الكوفة، وأخذ عن علمائها من أهل الحضر علوم الدين والأدب، وكانت له جدتان أدركتا الجاهلية فكانتا تصفان له البادية وأمورها، وتخبرانه بأخبار الناس في الجاهلية، فإذا شك في شعر أو خبر عرضه عليهما فتخبرانه عنه، فتأثر من هذا وذاك بثقافة البدو والحضر، واجتمع له علم غزير بلغات العرب وغريبها وأشعارها وأيامها ومفاخرها ومثالبها، وروى
الحديث وغيره من العلوم الدينية، وقد ذكر صاحب الأغاني بعض رواياته في الحديث فليرجع إليها من يريدها
ولم يقصر الكميت نفسه على العلم والأدب، بل كان يأخذ نفسه بقول الشعر والاستماع إليه، ولكن ميله إلى هذا لم يكن يبلغ ميله إلى العلم والأدب. ويحكى أنه وقف وهو صبي على الفرزدق وهو ينشد أشعاره، فراع الفرزدق حسن استماع الكميت وأخذه الزهو والخيلاء، فلما فرغ من إنشاده أقبل على الصبي وقال له: هل أعجبك شعري يا بني؟ فأجاب الكميت: لقد طربت لشعرك طرباً لم أشعر بمثله من قبل، فانتشى الفرزدق، وأخذ العجب منه كل مأخذ، وقال للصبي في نشوة المفتون: أيسرك أني أبوك؟ فقال الكميت: أما أبي فلا أريد به بدلاً، ولكن يسرني أن تكون أمي. فحصر الفرزدق، وقال: ما مر بي مثلها
فلما أتم الكميت دراسته اشتغل بما كان يغلب ميله إليه من العلم والتعليم، فكان يعلم الصبيان بمسجد الكوفة، ولكن عشيرته من بني أسد كانت تريد منه أن يكون شاعرها الذي يعلي من شأنها، وينشر من مفاخرها، وينافح عنها أعداءها، وقد صار الشعر في الدولة المروانية كما كان في الجاهلية مفخرة القبائل العربية فتعلقت به تلك القبائل كما كانت تتعلق به في جاهليتها، فأخذ بنو أسد يرغبون الكميت في قول الشعر، ويحملونه على الانصراف إليه والتفرغ له، ويحكون في ذلك أن عمه وكان رئيس قومه أخذ الكميت يوماً وقال له: يا كميت لم لا تقول الشعر؟ ثم أخذه فأدخله الماء وقال: لا أخرجك منه أو تقول الشعر، فمرت به قنبرة فأنشد متمثلاً:
يالكِ من قُنْبُرَةٍ بِمَعْمَرِ
…
خلا لكِ الجَوُّ فبيضي واصفري
ونَقِّري ما شئت أن تُنَقِّري
فقال له عمه ورحمه: لقد قلت شعراً فاخرج، فقال الكميت لا أخرج أو أقول لنفسي، فما رام حتى عمل قصيدته المشهورة، وهي أول شعره، ثم غدا على عمه فقال: اجمع لي العشيرة ليسمعوا فجمعهم له فأنشد:
طَرِبْتُ وما شوقاً إلى البيض أطْرَبُ
…
ولا لعباً منِّي وذو الشوق يلعبُ
وقد طعن الأستاذ زكي مبارك في صحة هذه القصة، وذكر أنه ليس بمعقول أن تكون هذه القصيدة أول شعره، لأن فيها من القوة ما يقطع بأنها ليست بداية شعرية، وإنما هي صرخة
شاعر فحل طال منه الصيال
ولا وجه عندي لهذا الطعن في صحة هذه القصة، لأن هذه القصيدة:(طربتُ وما شوقاً إلى البيض أطرَبُ) من قصائد الهاشميات، وقد ثبت من غير هذا الطريق أن هاشمياته على العموم وهذه القصيدة على الخصوص كانت أول ما قاله من الشعر، وواضح أنه لا يراد من هذا إلا أنها أول ما قاله من الشعر الجيد الذي يعتد به، فلا يمنع أن يكون له شعر قبل هذا الشعر ترقى فيه إلى أن وصل إلى درجة هذا الشعر الجيد
فلما أرادته عشيرته أن يكون شاعراً ينافح عنها ويصاول أعداءها، صرف نفسه إلى قول الشعر وتفرغ له حتى أجاد إنشاءه، وكان قد ورث التشيع لأهل البيت عن بيئته بالكوفة التي نشأ فيها، ولم يكن للشيعة في عهده شاعر يتعصب لها وينشر دعوتها كما كان لبني مروان من الشعراء الأخطل وغيره، وكما كان للخوارج الطرماح بن حكيم وعمران بن حطان، فرأى أن يكون هو شاعر الشيعة وناصر دعوتها، والمشيد بذكر أهل البيت والناشر لفضلهم
وقد كانت الشيعة في ذلك الوقت تعادي بني مروان والخوارج معاً؛ ولكن العداوة بين الشيعة والخوارج لم تكن تبلغ درجة العداوة بينها وبين بني مروان، لأن الخوارج كانوا قد اشتغلوا بعداوة بني مروان بعد أن صار لهم الأمر، وتناسوا عداوتهم للشيعة بعد انصراف الأمر عنهم، فاشترك كل من الشيعة والخوارج في مناهضة الدولة المروانية، ومناوأتها بسيوفهم وألسنتهم، وكان اشتراكهم في معارضة هذه الدولة سبباً في تخفيف ما بينهم من العداوة
ولهذا كان تعصب الكميت في شعره للشيعة موجهاً إلى بني مروان وحدهم، ولا يدخل في أولئك الخوارج الذين لقي الشيعة منهم ما لقوا في عهد علي رضي الله عنه، بل لم يمنع ذلك التعصب الكميت من إخلاص المودة للطرماح بن حكيم من شعراء الخوارج، فقد كان بينهما من الخلطة والمودة والصفاء ما لم يكن بين اثنين، حتى إن راوية الكميت قال: أنشدت الكميت قول الطرماح:
إذا قبضتْ نفسُ الطِّرمَّاح أخلقتْ
…
عُرَى المجد واسترخى عنانُ القصائِد
فقال الكميت: إي والله، وعنان الخطابة والرواية
وهذه الأحوال كانت بينهما على تفاوت المذاهب والعصبية والديانة، فقد كان الكميت شيعياً عصبياً عدنانياً من شعراء مضر متعصباً لأهل الكوفة، وكان الطرماح خارجياً صفرياً قحطانياً عصبياً لقحطان من شعراء اليمن متعصباً لأهل الشام، فقيل للكميت: فيم اتفقتما هذا الاتفاق مع اختلاف سائر الأهواء؟ فقال: اتفقنا على بغض العامة
والعامة التي اتفقا على بغضها كانت في ذلك الوقت جمهور الأمة من خاصة الناس وعامتهم، فقد استكانوا لحكم بني مروان حين طال عليهم أمده، وخضعوا لظلمهم ولم يعنهم إلا أمورهم الخاصة، كشأن العامة في كل وقت وفي كل أمة، ولا يزال بغض الحكومات القائمة يقرب الآن بين معارضيها، وينسيهم ما بينهم من عداوات، واختلاف في المشارب والأهواء
فنصب الكميت نفسه لمناهضة بني مروان بشعره، وهم أصحاب الملك في الناس، وأخذ ينصر عليهم أهل البيت والأمر مدبر عنهم، وليس هناك مطمع فيهم، وإنما هو سبيل اتخذه لنفسه يرضي به عقيدته، وينأى بعلمه وشعره أن يتخذهما أداة كسب كما فعل ذلك غيره من الشعراء، فكان يقول الشعر للشعر ويتخذه وسيلة لإرضاء نفسه وعقيدته، ويجاهد به في إصلاح حال أمته، ويؤدي به ما يجب على الشاعر في عصره، ولا يهمه بعد هذا ما يفوته من دنيا الملوك، ولا ما يصيبه من عنتهم وإرهاقهم
وقد أراد ثراة أهل البيت أن يثيبوه على ما يقوم به من نصر دعوتهم، وإنشائه القصائد الطوال في مدحهم والإشادة بذكرهم، فكان يعرض عما يعرضونه عليه من الصلات والجوائز، ويذكر أنه يريد من ذلك وجه الله تعالى، ونصرة الحق الذي يدين به، وقد حدث صاعد مولى الكميت قال: دخلنا على أبي جعفر محمد ابن علي فأنشده الكميت قصيدته التي أولها:
مَنْ لقلبٍ متيَّم مستهامِ
فأمر له بمال وثياب، فقال الكميت: والله ما أحببتكم للدنيا، ولو أردت الدنيا لأتيت من هي في يديه، ولكنني أحببتكم للآخرة، فأما الثياب التي أصابت أجسامكم فأنا أقبلها لبركاتها، وأما المال فلا أقبله، فرده وقبل الثياب
وحدث أيضاً فقال: دخلنا على فاطمة بنت الحسين رضي الله عنهما، فقالت: هذا شاعرنا
أهل البيت، وجاءت بقدح فيه سويق فحركته بيدها وأسقته للكميت فشربه، ثم أمرت له بثلاثين ديناراً ومركب، فهملت عيناه وقال: لا والله لا أقبلها، إني لا أحبكم للدنيا
وحدث محمد بن سهل صاحب الكميت قال: دخلت مع الكميت على أبي عبد الله جعفر بن محمد في أيام التشريق فقال له: جعلت فداك ألا أنشدك؟ فقال إنها أيام عظام، قال إنها فيكم، قال هات، وبعث أبو عبد الله إلى بعض أهله فقرب، فأنشده فكثر البكاء حتى أتى على هذا البيت:
يصيبُ به الرَّامونَ عن قوس غيرهمْ
…
فيا آخراً أسْدَى له الغيَّ أوّلُ
فرفع أبو عبد الله يديه وقال: اللهم اغفر للكميت ما قدم وما أخر، وما أسر وما أعلن، واعطه حتى يرضى
عبد المتعال الصعيدي
الحكم في مباراة الأقصوصة
اجتمعت لجنة التحكيم في مباراة الأقصوصة التي اقترحتها مجلة الرواية وجعلت للفائز فيها جائزة قدرها خمسة عشر جنيها، يوم الأحد الماضي مؤلفة من حضرات الأساتذة: محمد فريد أبو حديد، توفيق الحكيم، إبراهيم عبد القادر المازني، محمود تيمور، ثم صاحب هذه المجلة، ونظرت فيما تجمع من الأقاصيص المتسابقة، ثم قررت النظام الذي تتبعه في قراءتها وفحصها. وستجتمع مرات أخرى متوالية حتى يصدر حكمها فننشره في الرواية والرسالة وبعض الصحف.
الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
للدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 27 -
الفلسفة الصينية
العصر المنهجي - كونفيشيوس
مؤلفاته
تنقسم مؤلفات هذا الحكيم إلى قسمين. فأما القسم الأول فهو مجموعة شروحه وتعليقاته على الكتب المقدسة التي نسخها بخطه ثم أحاطها بطائفة ضخمة من معارفه العامة وآرائه الشخصية في الدين والفلسفتين النظرية والعملية، كما أن تلاميذه قد أحاطوا الأقسام الفلسفية من هذه الكتب بشروحهم وتعليقاتهم كذلك إلى حد أن اختلطت على الباحثين آراؤهم بآراء أساتذتهم
وأما القسم الثاني فهو كتبه الخاصة التي وضعها وضمنها مذهبه وعارض في بعضها مذاهب من سبقوه وعاصروه من الفلاسفة الذين أسلفنا الحديث عنهم في الفصول السابقة.
وهذا القسم أيضاً ممتزج بآراء التلاميذ على نحو ما امتزجت آراء سقراط بمذهب أفلاطون وإن كانت آراء حكيمي الإغريق قد وضحت وتبين منها ما للأستاذ وما للتلميذ بفضل علماء العصر الحديث الذين نخص منهم بالذكر العالمين الفرنسيين (ريفو) و (بريهييه)
القسم الأول
يحوي هذا القسم كل الكتب المقدسة الهامة التي سبقت عصر (كونفيشيوس) ولكن الذي يعنينا هنا هو الكتب الرئيسية وهي: (وي - كينج) أي الكتب الخمسة. فأما (شو - كينج) و (شي - كينج) فقد كان حكيمنا معنياً بهما عناية فائقة إلى حد أنه اتخذ مما فيهما من صور مُثله العليا التي يجب أن يحتذيها العلماء والملوك؛ ولم يعرض المستصينون لتحقيق ما احتواه هذان الكتابان وتبين ما للأستاذ فيهما وما للتلاميذ من شروح وتعليقات. وأما (إي - كينج) فقد وجد عليه الباحثون شروحاً مطولة، وتعليقات مسهبة، وتقريرات مطنبة، فدرس العلماء كل هذه دراسة دقيقة خرجوا بعدها مقتنعين بأن هذه المطولات مزيج من آراء:(كونفيشيوس) وتلاميذه، ولكنهم لم يستطيعوا إلى الآن أن يحلوا هذه المشكلة تماماً فيبينوا ما للأستاذ وما للتلاميذ. وأما (لي - كي) فقد ضاع أكثره، لأنه حين أحرقت الكتب لم يكن متداولاً كغيره ففقد منه ما فقد، والجزء القليل الباقي منه وجد - فيما يظهر - بدون شرح ولا تعليق، لأنه كتاب طقوس دينية أكثر منه أي شيء آخر، فلم يكن هناك داع للشرح أو للتعليق. وأما كتاب (تشون - تسيو) ومعناه:(يوميات الربيع والخريف) فهو الكتاب الوحيد الذي لم يَرتبْ أحد من الباحثين المدققين في نسبة ما عليه من شروح وتعليقات إلى (كونفيشيوس) وحده. ويؤكد أولئك الباحثون أن هذه التعليقات هي أسمى بكثير من النصوص الأصلية للكتاب، لأن هذه التعليقات تدل على علم واسع ودراية شاملة بالتاريخ الصيني القديم والمعاصر لهذا الحكيم بدرجة أدهشت علماء العصر الحديث
القسم الثاني
يتكون هذا القسم من أربعة مؤلفات تدعى بالصينية (سي - شو). وتعبيرنا في جانب هذه الكتب بألف أو وضع فيه شيء من التجوز، لأن المستصينين يكادون يجمعون على أن الحكيم أملى بعض هذه الكتب على تلاميذه إملاء كما حاورهم أو حاضرهم بالبعض الآخر
فرووه عنه وأثبتوه مقترنا باسمه دون تغيير ولا تبديل. وليس هذا فحسب، بل إن كتاب (لون - يو) أحد الكتب الأربعة وأكثرها انتشاراً قد وجد مكتوباً بأسلوب أحد الذين تتلمذوا على تلاميذ (كونفيشيوس) بعد أن روى له أستاذه عن الحكيم الأكبر ما رواه شفهياً من الآراء والأفكار بنصوصها وعباراتها. ويحتوي هذا الكتاب على مجموعة من آراء مقتضبة وجوامع كلم، ومحادثات مع التلاميذ وملاحظات هؤلاء على آراء أساتذتهم وهلم جرا. وليس لهذا الكتاب - على سعة ذيوعه وتداوله - أهمية فلسفية عظمى
أما الكتاب الثاني وهو (تا - هيو) أو الدراسة الكبرى فهو دراسات وجيزة لبعض الآراء والمشاكل الفكرية في صورة أمثلة وحكم، وقد كتبه (تسيه سي) حفيد كونفيشيوس) ولكن (تشو - إي) أحد شراح (كونفيشيوس) الصينيين في القرن الثاني عشر يؤكد أن النصوص الأصلية لهذا الكتاب قد وجدت مثبتة بخط الحكيم نفسه وأن حفيده لم يزد على شرحها والتعليق عليها. ولا يرى العلماء في هذا الرأي بأساً إذ يحتمل أن يكون هذا الحفيد قد استولى على نصوص جده وأضاف إليها مذكرات من معارفه الخاصة المتواترة في الأسرة عن هذا الجد. ويرى بعض آخر من الباحثين أن هذا الحفيد لم يجد في الغالب نصوصاً مكتوبة من هذا السفر، وإنما وجد روايات شفوية مأثورة عن جده فأثبتها بأسلوبه. وأما الذي شرحها وعلق عليها، فهو (تسانج - تسيه) أحد تلاميذ (كونفيشيوس)
أما الكتاب الثالث، فهو (تشونج - يونج) وهو أهم كتب هذا الحكيم الفلسفية، لأنه هو الكتاب الوحيد الذي يحوي مذهبه، والمؤلف الجوهري الذي يعتمد عليه الباحثون في فهم المدرسة (الكونفيشيوسية)، ويتكون هذا الكتاب من مقدمة واثنين وعشرين فصلا فأما المقدمة فقد كتبها حفيده السابق الذكر، وهي مجموعة وافية من الآراء الأساسية في أخلاق (كونفيشيوس) سمعها هذا الحفيد من جده مباشرة فأثبتها في المقدمة وشرحها شرحاً مفصلا في بقية الكتاب
ويرى (ألين) الإنجليزي و (فون إركس) الألماني أن هذا الكتاب ليس إلا مجموعة مشوهة من (تاويسم)؛ فأما الأول فيرى الأستاذ زانكير أن من العبث الرد عليه، لأنه هو الذي زعم أن (كونفيشيوس) أسطورة، وأما الثاني فالسبب الذي خدعه وأوقعه في هذا الخطأ هو أنه وجد أن هذا الكتاب يحتوي على شيء غير يسير من التنسك الذي يشبه ميول (لاهو -
تسيه) فاستبعد صدور هذه الآراء عن (كونفيشيوس)، ولكن هذا خطأ بحت، لأن (كونفيشيوس) ليس مادياً جافاً ولا نفعياً أثراً، وإنما هو حكيم جليل قمين بأسمى الأخلاق
وأما الكتاب الرابع فهو مجموعة كتب (مانسيوس) السبعة التي سنعرض لها عند حديثنا عن هذا الفيلسوف
منهجه وتأثيره
يشبه منهج (كونفيشيوس) منهج (سقراط) كثيراً، إذ هو يحاول أن يرشد تلاميذه إلى الحقيقة، ولكن لا عن طريق التقليد والتحفيظ، بل عن طريق البحث الشخصي الذي يتدرج من المحسات إلى المعقولات، ويصعد من الماديات إلى المعنويات؛ فتارة يلمح إلى البرهان الحق تلميحاً خفياً، وأخرى يشير إلى تناقض الباطل إشارة غامضة ثم يقود التلاميذ في طريق المحاورة قيادة منطقية محكمة إلى أن يعثروا على الحق بأنفسهم أو يهدموا الباطل بمجهوداتهم الشخصية المراقبة بإرشاد الأستاذ. وفي هذا يقول:(أنا لا أعلِّم من لا يشتهي أن يفهم، ولا أساعد على الكلام من لا يحاول أن يوضّح أفكاره)
ومن منهجه أيضاً أنه كان يضع أمام تلاميذه مُثُلاً حية من أخلاق الحكماء والملوك السابقين أو من المأثورات الدينية العالية أو القصائد الشعرية المفعمة بالفضيلة أو الحوادث التاريخية التي تصلح لأن تتخذ نماذج للسمو والنبل، وكان يسلك هذا المنهج في تعليم تلاميذه الفلسفة والأدب والفن والأخلاق
ويروي المؤرخون أن تلاميذ هذا الحكيم الذين استفادوا من منهجه بلغ عددهم في حياته ثلاثة آلاف تلميذ، وأن عدداً كبيراً من بين هؤلاء التلاميذ شغلوا في الدولة مناصب هامة وأنهم كانوا العنصر الأساسي للعلماء والأدباء الذين حكموا الصين أكثر من ألفي سنة، لأن (كونفيشيوس) قد أحسن تأديبهم فلم يخلق فيهم الميل إلى الانزواء واليأس، وإنما بث في نفوسهم روح الإصلاح والانتصار والسيادة، ولهذا لم تكن حلقات دروسه مقصورة على التلاميذ، بل كانت تضم بينها عدداً ضخما من كبار النبلاء والأرستوقراطيين الذين وجدوا فيه أكبر محقق لعظمة الصين المنشودة فدفعتهم وطنيتهم إلى الاغتراف من نمير علمه الصافي وإلى محاكاة أخلاقه السامية النبيلة
وفي الحق أن كونفيشيوس يجب أن يعد في طليعة أفذاذ الرجال الذين خلقوا المدنية
الصينية، بل المدنية العالمية؛ إذ هو الذي أنشأ السياسة الصينية القيمة، وهو الذي وضع قواعد أخلاق الأسرة على الأسس الفلسفية المحترمة، وهو الذي قسم الفلسفة العملية إلى فروعها الثلاثة: الأخلاق الشخصية، وتدبير المنزل، وسياسة الدولة أو المدينة الفاضلة؛ فسبق بذلك أرسطو وأفلاطون كما سنشير إليه حين نعرض لأخلاقه النظرية. وليس هذا فحسب، بل هو الذي رفع علم التاريخ في الصين إلى مصاف العلوم الأخرى عند الأمم الراقية، وهو أول من أناروا سبيل علم المنطق للذين أتوا بعده فزادوا عليه ما جعله قميناً بالاحترام والإجلال
غير أنه على الرغم من ذلك كله لم يصادف في حياته نجاحاً باهراً كما أسلفنا. والسبب في ذلك الإخفاق هو أخلاقه المتينة التي لم تسمح له أن يتملق أعظم الملوك والأمراء مرة واحدة في حياته، ولا أن يحني رأسه إلا للحق وحده، فضايقت هذه الأخلاق القويمة المبطلين من الطغاة والمتجبرين. وكانت نتيجة ذلك أن ربح فيلسوفنا الفضيلة وخسر الحياة المادية
على أن الشعب لم يلبث أن تنبه إلى حكمة (كونفيشيوس) الخالدة القائلة: (إن الجوهر الأساسي العملي للشعب يجب أن يكون هو الأخلاق، وإن سياسية الدولة لا تنجح نجاحاً حقيقياً إلا إذا أسست على الأخلاق)
لما تنبه الشعب إلى هذه الحكمة وآمن بها وأخذ يطبقها تطبيقاً عملياً دقيقاً أخذت أحواله العامة تتحسن شيئاً فشيئاً حتى بلغت الأوج. والفضل في ذلك كله راجع إلى التماسك الأخلاقي الذي وضع هذا الحكيم بذوره في تعاليمه القيمة الجليلة
(يتبع)
محمد غلاب
دراسات في الأدب الإنكليزي
جون ملتون
للأستاذ خليل جمعة الطوال
تتمة
خلاصة الفردوس المفقود
تقع هذه الملحمة بعد تنقيحها في اثني عشر جزءاً، وقد نقلها العلامة دريدن والشاعر الفذ (لوريت إلى أوبرا تمثيلية بطولية، وذلك بإذن مؤلفها عام 1674؛ وجعلا عنوانها وإليك خلاصة موضوعها:
(1)
يحتوي الجزء الأول من هذه الملحمة على خلاصة موجزة لها. وبعدها يصف ملتون كيف أن الشيطان يتمرد على الله تعالى مع طغمة من الملائكة الأشرار، فيسقطهم الله في جهنم المتقدة حيث يفقدون الوعي مدة وجيزة، وبعدها يثوبون إلى رشدهم، ويقف إبليس فيهم خطيباً، ويذكرهم بالنبوة التي جاء فيها أن الله سيخلق خليقة جديدة وعالماً جديداً، ويقترح عليهم أن ينتقموا من هذه الخليقة الجديدة التي سيخلقها الله - لمجدهم الضائع
(2)
فيعقد الملائكة الأشرار وعلى رأسهم إبليس اجتماعاً هاماً في مجلس إبليس الخاص ويدرسون فيه هذا الاقتراح وطرقة تنفيذه، فيقر أمرهم على إيفاد أحدهم إلى ذلك العالم لينشر فيه روح الشر، ولينصب فيه فخ المكيدة، فيتعهد إبليس أمر هذه الرحلة الخطرة، ويشرع بها وهو غير عابئ بما فيها من الصعوبات الجمة، فيصل أبواب الجحيم وقد سهر على حراستها وحشان غريبان مخيفان، فيتخطاهما بكل صعوبة وجهد. وبعد سفر طويل يواجه ذلك العالم الأرضي الجديد
(3)
ثم يُبصرُ الله تعالى، وهو جالس على عرشه الشيطان وهو مسرع نحو ذلك العالم الجديد، فيشفق على خليقته الجديدة من شره، ولكنه يعدُ بإرسال ابنه فدية. أما الشيطان فيواصل السير حتى يصل إلى الشمس ويتقابل هناك مع (أوريال) - ملاك الشمس - فيرشده هذا إلى طريق العالم الجديد الذي جعله قبلته، فيسلكها حتى يصل إليه، وهناك يستريح على قمة أحد الجبال
(4)
ثم يبحث عن طريق الجنة، فيتسلل إليها بعد أن يتقمص جسم (غراب الماء وهناك يجثم على غصن من أغصان شجرة الحياة، ويأخذ في التطلع حوله، فيدهشه جمال الجنة الرائع، ثم ينظر آدم وزوجه حواء أثناء رجوعهما من صلاة العشاء للاستراحة
(5)
وفي الليل ترى حواء حلماً مزعجاً، وتقصه في الصباح على آدم فيفسره هذا بما يسكن من روعها، ثم يذهبان للصلاة وبعدها يشرعان في الشغل في الجنة
(6)
، (7)، (8) ثم يرسل الله الملاك رفائيل إلى آدم فيحذره من مكيدة إبليس، ويدور بينهما حديث طويل جداً
(9)
ويعلم حارس الجنة بوجود إبليس فيطرده منها، ولكنه يرجع إليها ثانية في الليل بشكل الضباب، ثم يتقمص جلد حية. وفي الصباح التالي تقترح حواء على آدم أن يشتغل كلٌ منهما منفرداً عن رفيقه فيلبي اقتراحها، فيجد الشيطان الفرصة سانحة لتنفيذ مكيدته، فيسير إلى حواء ويغريها أن تأكل من الثمرة المحرمة، فتأكل وتناول بعلها فيأكل هو أيضاً
(10)
فيحكم عليهما الله تعالى بالعذاب والموت ويطردهما من الفردوس. أما الشيطان فيرجع إلى بطانته مسروراً جذلاً
(11)
ثم يندم آدم وحواء على إثمهما، ويطلبان منه تعالى الصفح، فيصفح عنهما ولكنه لا يرجعهما إلى الجنة ثانية
(12)
بل يعدهما بإرسال ابنه ليكفر بموته عن خطيئتهما
أشعاره وشاعريته
قال العلامة (جون دريدن) وهو من معاصري ملتون: لقد جمع ملتون في شعره بين الجيد والرديء، وبين الجليل والمبتذل، وذلك لأنه كثيراً ما كان يعتسف النظم على غير حضور بديهته أو شبوب عاطفته؛ ولكن هذا لا يضع من مكانته كشاعر فذ ومفكر نابغ؛ إذ ليس من الضروري أن يكون الشاعر حاضر الخيال متوقد العاطفة في كل مناسبة يشعر فيها. وهل من الضروري أن تكون الشمس دائمة الإشراق والنور لنستدل على وجودها في الكون؟؟؟ ولست أرى مثيلاً لهذا القول إلا رأي سلم الخاسر في شعر أبي العتاهية إذ يقول: شعر أبي العتاهية كساحة الملوك، فيها الدرُّ والساقط. . .
ولئن لم يكن ملتون متوثب الشعور في جميع أشعاره، لقد جمع في شعره بين إحساس
العاطفة ورزانة العقل، أو قل بعبارة أوضح بين الشعر كفن والفلسفة كميزان لجميع الفنون والعلوم. تدل على ذلك قصائده العديدة التي تحمل خلال جميع أبياتها جرثومةً من مسحة العقل وأثراً من عمق التفكير. وما أشعاره في الحقيقة إلا قبس من النور يومض في عتمة تلك الحروب المذهبية السياسية الحالكة التي اندلعت في إنكلترا بسبب تحطيم الأرستقراطية على صخرة الديمقراطية الناشزة. وهل أوحى إلى ملتون بملحمة الفردوس المفقود غير ذلك النزاع الذي خاض غماره؟ أم هل كانت أشعار ملتون جميعها إلا صورة جلية تتبين منها حقيقة ذلك النزاع؟
ابتدأ ملتون يعبث بالشعر ولما يبلغ بعد الثالثة عشرة من العمر. ولئن كانت أشعاره إذ ذاك خالية من ابتكار المعنى إلا أنها كانت - بالنسبة لصغر سنه - تحمل بين أسطرها جراثيم النبوغ والتفوق. فهذه قصيدته الشهيرة المعروفة والتي نظمها عام 1629 تكاد تكون لروعتها وجمالها خير قصيدة غنائية في الشعر الإنكليزي، بل هي من فتىً حدث كملتون لم يبلغ بعد حدّ نضوج العقل والعاطفة، أروع قصيدة على الإطلاق. . .
وفي عام 1633 نظم ملتون قصيدتين رائعتين وهما:
(1)
' و (2) وقد أجمعت آراء الأدباء على أنهما خير نموذج للجيد من شعره، وذلك لما فيهما من الدقة البالغة في التصوير والحرارة الملتهبة في الشعور. وفي عام 1634 نظم قصيدة القومس وهي قصة شعرية دراماتيكية، يكثر فيها ظهور الأحراج والأشباح الغيبية، ولكنها ليست من دقة الفن بقياس قصص شكسبير الدراماتيكية التي من نوعها - كدرامة كما تحب مثلا - وذلك لأن شكسبير كان شاعراً بالفطرة، وبارعاً في تمثيل سوءات المجتمع وعاداته؛ وهو إذ ينظم القصيدة فكأنما يصور بالألفاظ عواطفه الحساسة، وينحت في صخر اللغة مشاعره الوثابة، بينما كان ملتون - مع اعترافنا به كشاعر فذ - مبالغاً في التصنع، ومسرفاً في إجهاد القريحة، واستفزاز المخيلة، فمعانيه - في معظمها - تكاد تقرب من الابتذال في شيوعها، وأخيلته إلا القليل منها مستكرهة على الشعر، ثقيلة على الطبع لشذوذها. وليس أدل على هذا من مناجاة كومس لليدي!! ولعل خير قطعة في هذه القصيدة هي تلك التي تمثل الشجار بين ليدي وكومس، وذلك لأنها قطعة فنية من نفس ملتون الثائرة المتمردة التي تهزها الثورة أكثر مما تحركها الدعة والطمأنينة، ولأنه في هذه
القطعة إنما ينفض علينا مكنون طويته ويصور لنا دخيلة نفسيته. وإليك تحرير المعنى في هذه القصيدة:
يذهب أخوان وأختهما إلى حرج عظيم كثيف، فتضل الأخت طريقها في هذا الغاب، فيتركها أخواها هائمة على رأسها تائهة في طريقها، ولا يهتمان ألبتة بما تقاسيه في ذلك الحرج المخيف من مرارة الجوع، وحرارة العطش، وألم الوحدة، ووحشة الغابة التي ترتعد منها الفرائص. ويذهبان بعيداً عنها في جمع ثمر العليقي؛ حتى إذا تضيفت الشمس للمغيب عادا إلى بيتهما تاركين في الغابة القفر أختهما الوحيدة ضحية للألم والجوع، وفريسة للوحوش والسباع
فأنت ترى أن مثل هذا التخيل الفسل المكروه ليس من الحقيقة في شيء، إذ ليس من الممكن للطبع البشريّ مهما أوغل في التحجر والقساوة أن يتصور وقوع مثل هذه المأساة الخيالية الملفقة!!
أما الصونيتس فقد كتبها في فترات متقطعة ومناسبات كثيرة. ويذهب جونسون في نقده لملتون إلى أن - الصونيتس - ليست من الفن الشعري بدرجة تستحق أن توضع في غربال النقد. ولكنها مع ذلك عذبة اللفظ طلية الأسلوب. وفي عام 1644 ألف الـ وهي رسالة نقدية دافع فيها عن حرية الطبع والنشر دفاعاً قيماً في وقت بلغ فيه التزمت حداً عظيماً. أما الفردوس المسترجع فقد ألف عام 1671 وهو يمتاز عن بقية مؤلفاته الشعرية بميزات سامية كثيرة سنوردها في مقالاتنا الآتية التي سنكتبها عنه، وفي ذلك العام أيضاً ألف قصيدة الـ وسنعرض لها أيضاً فيما بعد
أسلوبه
لم يكن أسلوب ملتون على نمط واحد في جميع أشعاره، فقد كان مشرق الديباجة سلس العبارة حيث تكون الفكرة مختمرة في رأسه، والعاطفة متوثبة في صدره، ولكنه حين كان يعتسف النظم كانت تجيء أشعاره ملتوية العبارة، غامضة المعنى، ووعرة الأسلوب
وتدل أشعاره العديدة التي كتبها بخط يده والتي لا تزال محفوظة في مكتبة كلية ترنتي في كمبردج على أنه كان مولعاً بصيد أوابد الكلمات، واستقصاء غريب الألفاظ. ومما تجب الإشارة اكتظاظ أسلوبه بالكلمات اللاتينية المهجورة
قال العلامة ماكولي في مقالته عن ملتون: ألم تسمع قط بتأثير الشعر السحري وبتياره الكهربائي العنيف؟ ألم تسمع قط بالأسلوب الرائع الذي يقيد عليك مشاعرك ويهز منك جميع أوتار حسك؟ أما سمعت قط بالشعر الذي يأسر القلب، ويذيب العاطفة؟ إن هذه الصفات جميعها إن هي إلا من مدلولات شعر ملتون وأسلوبه. . . لم يكن ملتون بارعاً في ابتكار المعاني، إلا أنه كان كثيراً ما كان يتناول المعاني المبتذلة الشائعة فيسبكها في قالب لفظي متين يزيد في روعتها وجمالها ويجعل منها أفكاراً سامية تسحر العقل وتذهب اللبّ. على أنك لو بدلت كيفية صياغتها اللفظية، أو حوَّرت ولو قليلا أسلوبها الذي صيغت به لما كان لها أي أثر في نفسك أو تقدير في قياسك
خاتمة حياته وموته
لقد عاش ملتون وهو في عنفوان الشباب عيشة مترفة رخية، شأن أبناء ذوي اليسر والجاه، ولكن الدهر أبى ألا أن يقلب له ظهر المجن، ويجرعه كأس الشقاء المرة حتى الثمالة. ففي عام 1652 غشيت إحدى عينيه، ثم ابتدأت المصائب تنثال عليه بغير حساب، فقد شُرد وطُرد وغرم في أمواله وأملاكه ثم أصيب بداء النقرس. ونفي خارج وطنه وأهله أكثر من مرة. وأخيراً عزل من منصبه السياسي الذي كان يتبلغ براتبه. وفي عام 1662 فقد عينه الأخرى فتم عماه؛ إلا أن هذه المصائب كلها لم تضع من عنجهيته، ولا فلت من شباة نفسه، بل صادفها وتقبلها بقلب وادع مطمئن وصدر عامر بالإيمان والثقة بالنفس. ولئن كان لها من أثر يذكر في نفسه فذلك أنها شحذت قريحته وأرهفت إحساسه، ووثبت شعوره، وزادته جلداً على الدرس، ومثابرة على الاجتهاد
تزوج ملتون ثلاث زوجات. والراجح أنه لم يكن موفقاً في غرامه ولا سعيداً في زواجه. وقد توفي في شهر نوفمبر عام 1674 في مزرعة بنهل تاركاً وراءه زوجه الثالثة، وثلاث بنات. وقد قبر في مقبرة. وبعد وفاته بسنين عديدة أقيم له نصب تذكاري في وست منستر أبي. وهكذا بات ملتون مزملاً بنبوغه وشهرته، تئن رفاته في جدثها من ظلم المنتقصين المغرضين، وغلو المناصرين المفرطين.
خليل جمعة الطوال
أسانيد البحث
1 -
2 -
1779.
3 -
4 -
5 -
6 -
1825
7 -
8 -
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
293 -
لا أدخل مكاناً فرقت فيه بين متحابين
في (تزيين الأسواق) من لطف الفقيه أبي بكر محمد بن داود (الظاهري) ورقته أنه كان يدخل الجامع من باب الوراقين فهجره أياماً. فسئل في ذلك فقال: دخلت يوماً فرأيت متحابين يتحادثان، فتفرقا منذ رأياني، فآليت ألا أدخل مكاناً فرقت فيه بين متحابين
294 -
نموذج من نثر أبي تمام
في (رهبة الأيام): كتب أبو تمام مع أخيه سهم بن أوس إلى علي بن اسحق (والي دمشق وأعمالها) كتاباً يذكر فيه حرمته به، ومنازلته إياه في الفندق في (سرّ من رأى) وضرب له في كتابه مثلاً فقال: (ومثلي مع الأمير - أعزه الله - مثل عجوز كانت بالكوفة من جَرم قضاعة، وكان الوالي على الكوفة رجل من عُكل. فأجرم ابن العجوز جرماً، فحبس، فتعرضت العجوز للوالي على ظهر الطريق، وقالت: أصلح الله الأمير، لي حاجة، ولي بالأمير وسيلة. فقال ما حاجتك؟ وما وسيلتك؟ قالت: حاجتي أن تطلق ابني من محبسه، ووسيلتي إليك أن الشاعر جمعني وإياك في بيت السوء حيث يقول:
جاءت به عُجُزٌ مقابَلةٌ
…
ما هُنّ من جَرم ولا عُكل
وأنا امرأة من جرم، وأنت رجل من عكل. فأمر بإطلاق ابنها. وأنا أقول: وسيلتي إليك (أيها الأمير) منازلتي إياك في الفندق بسر من رأى مع فتور الماء، وكثرة الذباب) وكتب إليه في أسفل الكتاب قصيدة نونية
295 -
أن كان وضاح إلا مفتيا لنفسه
في (أغاني) أبي الفرج قال يوسف بن الماجشون: أنشدت محمد بن المنكدر قول وضاح اليمن:
إذا قلت يوماً: نوّليني، تبسمت
…
وقالت: معاذ الله من فعل ما حرم!
فما نوّلت حتى تضرّعت عندها
…
وأعلمتها ما رخص الله في اللمم
فضحك وقال: إنْ كان وضاح إلا مفتياً لنفسه!
296 -
أفتراك مني تفلتين
كان العباس بن علي (عم المنصور) يأخذ الكأس بيده ثم يقول لها: أما المال فتبلعين، وأما المروءة فتخلعين، وأما الدين فتفسدين! ويسكت ساعة ثم يقول: أما النفس فتسمّحين، وأما الهم فتطردين، أفتراك مني تفلتين؟ ثم يشربها. . .
297 -
أربعة أحاديث
قال أبو بكر بن داسة: سمعت أبا داود (سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني) يقول: كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس مائة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب (يعني كتاب السنن) جمعت فيه (4800) حديث ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه. ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث أحدها قوله عليه السلام:(إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)؛ والثاني قوله: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)؛ والثالث قوله: (لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه)؛ والرابع قوله: (الحلال بيّن والحرام بيّن، وبين ذلك أمور مُشَبّهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه. ألا وإن لكل ملِك حمى، ألا وإن حمى الله في الأرض محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله: ألا وهي القلب)
298 -
فالطباع جوامح
أبو الجوائز الحسن بن علي بن محمد بن باري:
دع الناس طرّا واصرفِ الود عنهمُ
…
إذا كنت في أخلاقهم لا تسامح
ولا تبغ من دهر تظاهر رَنقه
…
صفاء بنيه؛ فالطباع جوامح
299 -
إنه الله!!!
في (تاريخ بغداد): قال أبو القاسم عبيد الله بن سليمان: كنت أكتب لموسى بغا، وكنا بالري، وقاضيها إذ ذاك احمد بن بديل، فاحتاج موسى أن يجمع ضيعة هناك كان فيها سهام ويعمرها، وكان فيها سهم ليتيم، فصرت إلى احمد بن بديل وخاطبته في أن يبيع علينا
حصة اليتيم ويأخذ الثمن، فامتنع وقال: ما باليتيم حاجة إلى البيع، ولا آمن أن أبيع ماله وهو مستغن عنه فيحدث على المال حادثة فأكون قد ضيعته عليه. فقلت فإنا نعطيك في ثمن حصته ضعف قيمتها، فقال: ما هذا لي بعذر في البيع. والصورة في المال إذا كثر مثلها إذا قل. فأدرته بكل لون وهو يمتنع؛ فأضجرني فقلت له: أيها القاضي، إلا تفعل فإنه موسى بن بغا!
فقال لي: أعزك الله، إنه الله تبارك وتعالى!!
فاستحييت من الله أن أعاوده بعد ذلك وفارقته، فدخلت على موسى فقال: ما عملت في الضيعة؟ فقصصت عليه الحديث، فلما سمع:(إنه الله) بكى وما زال يكررها ثم قال: لا تعرض لهذه الضيعة وانظر في أمر هذا الشيخ الصالح، فإن كانت له حاجة فاقضها، فأحضرته وقلت له: إن الأمير قد أعفاك من أمر الضيعة وهو يعرض عليك قضاء حوائجك فدعا له وقال: هذا الفعل أحفظ لنعمته، وما لي حاجة إلا إدرار رزقي، فقد تأخر منذ شهور أضرني ذلك. فأطلقت له جاريه
300 -
كان ينسج الشمال باليمين
قال عليّ (رضي الله تعالى عنه) للأشعث بن قيس الكندي: إني لأجد بنَّة الغزل منك. فسئل (رضي الله تعالى عنه) فقال: كان أبوه ينسج الشمال باليمين. . .
في أعقاب الخريف
للأستاذ محمود الخفيف
ألْقَى على الدوح فتورَ الكرى
…
فلاحَ كالناعِسِ
لا تستبينُ العين فيما ترى
…
من أفقه العابس
غيرَ الأسى في جوه منذرا
…
بليليَ المكتئب الدامس
يَبكْرُ بني في الأُفْق هذا القطوبْ
…
وهذه الكُدْرَةُ في لونه
وتُجْفِلُ النَّفْسُ لهذا الغروبْ
…
وحُمْرَة المحزون في جفنه
يا ويْلَتاَ تلك الرؤَى أفْرَخَتْ
…
في قَلْبَي المسْتَسْلِم اليائس!
أسْلَمَني للوجْدِ هذا الخريف
…
في لَفْتَةِ الراجِل
وأنكرتْ أذْناي هذا الحفيف
…
من عُودِهِ الناحِلِ
يَلْمَحُ لي منه خياَلٌ مُطِيفْ
…
لكل شيءٍ هاَلِكٍ زائِلِ
أوْرَاقُه نَهْبُ رياح المساءْ
…
تُلْقَى بها مُصْفَرَّةً ذابِلَهْ
تسوقُهاَ مُعْجَلَةً للفناء
…
قافَلةً في إثرِها قافِلَهْ
تَطَايرت كما تَطيرُ المنى
…
من لمحةِ الوَهْم إلى الباطِلِ
حَطَّتْ على الدَّوْح بنات الهديل
…
ساهمةً عانيهْ
للشَّفَقِ الباكي بهذا الأصيل
…
ما فتئت رانيه
طالعَها منه شتاء طويلْ
…
عِشاَشُها في كفه واهيه
قد أشبهتني الوُرْقُ في غُمَّتي
…
لكنها تذهل عن أمسها
وكل شيءٍ مُوقِظٌ مُهجَتي
…
حتى رياح الليل في همسها
أسْمَعُ في هسيِسها أنَّةً
…
بالأمسِ كانت نَغْمَةً شادِيَهْ
شَبَّابةُ الراعي بأنغامِه
…
في مِسْمَعي صاَخِبَهْ
يا لاعباً طيوف أحلامِه
…
خافقة لاعبه
نَبَّهَت القلبَ لآلامه
…
إذ بَعَثَتْ أحَلامَهُ الذاهبه!
يا ليتني أذهل عما مضى
…
أوْ أَرْعَوِى بَعْدَ فواتِ الأمَلْ
يا ليت مثلك هذا الرضى
…
يا ناعماً ما ذاق إلا الجذَلْ
تَغَنَّ ما شِئْتَ ودع لي الجوى
…
هَوَاكَ لمْ تَعْلَقْ بهِ شائِبَهْ!
يَسْتَيْقظ القلبُ إلى وجده
…
في أُخْرَيات الخريف
يَعُودُ ما لم يَنْسَ من عهده
…
فَهْوَ وَجيعٌ لهيف
تَغَرَّبَ (الطائِرُ) عن عُوده
…
وخَلَّفَ القلب لهذا الوجيف
ما روعةُ الكون وما سِحْرُهُ
…
وكلُّ حُسْنٍ باعث للشجَنْ؟!
هذا الخريفُ هاجني ذكره
…
هل أرْتجي في ظِلهِ من سكن؟؟
تَغَرَّبَ الطائِرُ لم ألْقَهُ
…
في مَرْبَعٍ بَعْدُ ولا في مصيف!
يا سائلاً يُنْكِرُ أشْجاَنِيهْ
…
ما كُنْتُ بالمدَّعي
يا صاحِ لو كُنْتَ تَرى ما بِيَهْ
…
بكيتَ حظِّي معي
تبَسُّمِي يَحْجُبُ أتراحَيه
…
كالرَّمْسِ تحت الزَّهَرِ المُمْرِعِ!
ما أنا بالشاكي ولكنها
…
أُغْنيةٌ ضاقت ضلوعي بها
أُغْنيةٌ صاغ الجوى لحنها
…
وأُجْبِرَ القَلْبُ على سَكْبِها
يا أيُّهاَ المُنْكُر أَشْجاَنيهْ
…
وُقِيتَ ما أُضمرُ في أضلُعي
قد أغرق الدَّوْحَ فتُورُ الكرى
…
فلاحَ كالناعِس
لا تستبين العين فيما ترى
…
من أفقِهِ العابس
غيرَ الأسى في جَوِّه منذرا
…
بَلْيلَيَ المكتئبِ الدامِسِ
الخفيف
رسالة الفن
فرانز شوبير
1797 -
1828
للأديب عبد الرحمن فهمي
كانت حياة شوبير القصيرة حياة كفاح قضاها تاركاً للأجيال التي بعده حظاً من المتعة أوفر مما كان لنفسه. وهو أشهر الموسيقيين النمساويين ولد بفينا عام 1797 ولا تزال عاصمة النمسا إلى اليوم تحيي ذكرى ميلاده
وأبوه ابن فلاح من منطقة مورافيا كان يدير مدرسة صغيرة في قريته ويستعين بإيرادها على عول أسرة كبيرة كان فرانز من بينها
وسيرة فرانز إحدى سير العظماء الذين أنجبهم العالم. بدأ أبوه يعلمه العزف على آلة موسيقية مماثلة (للربابة) وكانت أسرة شوبير تمتاز بحذق العزف على الآلات الموسيقية فنبغ في هذا الفن نبوغاً جعله يفوق أخوته وهم أكبر منه سناً. فلما بلغ السنة الحادية عشرة بعثت به أسرته إلى مدرسة تابعة لكنيسة صغيرة ليتعلم بها الترتيل، وتقدم معه إليها أولاد عديدون كانوا يتسلون انتظاراً لدورهم في امتحان القبول بالتهكم على فرانز لصغر سنه ورثاثة ملبسه، ولكنه بعد أن قبل بالمدرسة استبدل بلباسه لباس المدرسة الرسمي الأنيق في حين لم يقبل بها الطلاب الآخرون لفشلهم في الامتحان
وكانت هذه المدرسة مكاناً طريفاً للدرس، يكون تلاميذها فيما بينهم مجموعة موسيقية (أركسترا) يمرنون كل يوم في الدرس. وكان فرانز في أول الأمر غير ظاهر بين زملائه الذين كانوا جميعاً يكبرونه سناً، ولكن حذقه في الفن لفت إليه نظر رئيس الفرقة وهو صبي يدعى سبون ويقول عنه:(وبحثت عن هذا العازف الحاذق فوجدته صبياً صغيراً على عينيه منظار يدعى فرانز شوبير) ومن ثم أضحى سبون وفرانز صديقين حميمين
واستطاع فرانز يوماً أن يؤلف قطعة موسيقية، إلا أنه عجز عن الحصول على الورق الخاص بكتابة الموسيقى (النوتة) لفقره، فأعانه صديق له بالمال. وهكذا بدأ تاريخ الموسيقي الصغير. وكانت غرفة التمرين بالمدرسة قاسية البرد شتاء، والطعام لا يملأ
بطون التلاميذ لعدم كفايته، فهو يقدم في وجبتين ضئيلتين إحداهما عند الظهر والأخرى في الثامنة مساء. وعلى رغم ذلك استطاع فرانز في فترة الدراسة أن يخرج عدة (نوتات) موسيقية لاشك في أنها كانت تظهر أحسن من ذلك لو أن أساتذته أخذوه بالنظريات الموسيقية التي أهملتها المدرسة في تعليمها وتركت لهذا العبقري الصغير الحرية في الجموح دون أن تصقله بتغذية روحه الفني بالنمو المنتظم المطرد؛ غير أن أخذه الدرس على سالييري فيما بعد - وهو موسيقي مشهور - جعل أسلوبه في هذا الفن ينضج وينمو وينتظم
ولا ننس أنه أتى على شوبير حين من الزمن بعد إتمام الدراسة بهذه المدرسة كان فيه بائساً لأنه عاد إلى قريته واضطر أن يعلم التلاميذ في مدرسة أبيه القروية القراءة والكتابة. ومَن أشد بؤساً من معلم لم يُخلق لمهنة التدريس؟ إلا أنه كان صاحب ذمة فأخلص للعمل الذي ينال عليه أجراً لكنه لا تكاد تنقضي ساعات التدريس حتى كان يهرع إلى داره ويخلو بنفسه في غرفته وقتاً طويلا منكباً على عمله الخاص ملقياً عن نفسه كل حمل خارجي؛ وشوبير الشاب النابغ كان يحمل بين جنبيه عبقرية فذة في فن الموسيقى وتفانياً وإخلاصاً في ميدان الصداقة. هيأ لنفسه أصدقاء عديدين في فترة التعليم وأحاط به أصدقاؤه كما تحيط الهالة بالقمر وكثيراً ما خففوا عنه بؤسه ومتاعبه
ولم يكن قد بلغ الثامنة عشرة عندما ألقي أول (أصواته) الموسيقية بالكنيسة وأعقب ذلك بتلحين قطعة أخرى؛ ثم أنشأ فرقة موسيقية تتكون منه رئيساً ومن أخيه عازفاً على الأرغن ومن موسيقي كان مدير مدرسة الترتيل التي تخرج هو فيها، ومن صديق يغني الأدوار الرئيسية. ونستطيع أن نتصور السرور والإعجاب اللذين لاقى بهما أبوه هذا العبقري الصغير حتى لقد ابتاع له نوعاً من البيانو مشهوراً في ذلك الوقت واستعان على ثمنه بما اقتصده مما حصل عليه بعرق جبينه طوال حياته
وأول فشل صادف شوبير كان وهو في التاسعة عشرة من عمره عندما أنشأت الحكومة مدرسة للموسيقى فيما جاور بلدته والتمس أن يقبل بها مديراً بأجر إن كان واحداً وعشرين جنيهاً فقط في العام الواحد إلا أنه كان يفضل كل ما عدا مهنة التدريس عليها. فلما لم يعين لهذا المركز يئس يأساً شديداً، ولكن الحياة عوضته عن ذلك خيراً، فإن صداقته الجديدة
لشاب يدعى شوبار أدخلت في نفسه انشراحاً وحبوراً وتحولت حياته إلى حياة جديدة
وترجع هذه الصداقة إلى سماع شوبار بشهرة فرانز الفنية من بيت سبون فقرر أن يزوره في داره فلقيه بعد أن عاد من المدرسة القروية جالساً إلى مكتبه تتكدس حوله أكوام المخطوطات الموسيقية
رغب أبوه في هذا الوقت في أن يقوم ابنه بتعليم تلامذة مدرسته الأحرف الموسيقية، ونفذ الابن هذه الرغبة إلى حين حتى نجح شوبار بإلحاحه عليه بالعودة معه إلى فينا فهجر التدريس ورجع معه حيث تقاسما العيش فرحاً معترفاً بجميل صديقه إذ بتمام الصداقة بينهما تقدم سير مصنفاته تقدماً سريعاً في جو هذه الحرية الجديدة. ولكنه برغم ذلك لم تتقدم حالته المادية بسبب إسرافه وتبذيره وعدم انتظامه في معاملة الناشرين. بل إن الحالة أدت به إلى أن يبيع أغانيه مرة بما يساوي أربعة قروش للأغنية الواحدة؛ إلا أنه خفف من هذه الحالة كثيراً اشتراكه هو وأصدقاؤه في العيش حتى أن القبعات والمعاطف كانت على الشيوع فيما بينهم جميعاً. وهذا النوع من الحياة وما كان يتخلله من فترات يقضيها فرانز مع أصدقائه في الجبال الهنغارية بقي على هذا الأسلوب حتى آخر أيامه القصيرة. ولذلك لا نعجب إذا كنا نراه يرفض بلباقة ما كان يُعرض عليه بين حين وآخر من وظائف العزف على الأرغن علماً منه أنه غير جدير بعمل يحتاج إلى الاستقرار والنظام
ولم يُسمع عنه أنه وهن يوماً أو تباطأ في عمله الخاص، بل كان يجلس إليه في الساعة التي يستيقظ فيها؛ بل إن حمى العمل إذا أصابته دفعته إلى الكتابة والقراءة في الوقت الذي كان عليه أن يهجع فيه للنوم
وبرغم أن الحياة صدمته صدمات عنيفة لم تستطع أن تغير من خلائقه، فقد كان شوبير الطائش الغافل ذو الفكر المضطرب المثل الأعلى للصداقة، المحبوب من كل معارفه، المتواضع الذي لا يعنيه من أمر الظهور شيء. أما قده فلم يكن جميلاً، وأما طلعته فلم تكن بهية، فهو في كل أدوار حياته (فرانز شوبير الصغير ذو المنظار على عينيه)
ويحسن أن نعرف أنه ألف فرقة موسيقية قبل وفاته بعام واحد وافتتح بها صالة كانت تزدحم بالمتفرجين، وأصابه منها ربح يعادل اثنين وثلاثين جنيهاً، ولكنه أتى عليها سريعاً. ويدل على إسرافه أن باجانيني الموسيقي المشهور جاء إلى فينا ليطرب جمهورها لأول
مرة فحجز شوبير لنفسه أغلى مقعد ليحظى بسماعه، ثم عاد فحجز مقعدين له ولصديقه ودفع هو أجرهما. وعلى هذا النمط من التبذير أضاع نصيبه فيما كان قد ربحه. لم يتزوج شوبير قط؛ وكان إذا سئل في ذلك أجاب بأنه متزوج لموسيقاه
ومنذ بلوغه الثامنة عشرة بدأ يُخرج للعالم تصانيف كثيرة أدهشت كثرتها الموسيقي العادي فكتب في عام واحد ثماني روايات غنائية (أوبرات). وكان ذا ميل إلى الشعر يقرأ منه ما تقع عليه عيناه فيختار منه ما بَعُد غرضه وجَمُل معناه، ثم يلحنه فإذا به كنغمة عذبة من نغمات طير مغرد. ويحكى أنه عاد أصيل يوم أحد إلى داره من نزهة خلوية فقابل أحد أصدقائه في حديقة فندق القرية وأخذا يتسامران، وكان بيد صديقه مجلد لشكسبير يطالعه فانتزعه شوبير منه وتصفحه فوقع نظره على سطر معناه (أنصت واستمع إلى صوت القبرة) وتساءل (لِمَ لا يكون معي الآن ورق لكتابة الأحرف الموسيقية؟) وسرعان ما رسم له صاحبه خطوطاً مهيئاً له طلبته على قائمة حسابه بالفندق وعليها بين ضجة المكان وصخبه خط فرانز الأغنية المشهورة:(أنصت واستمع إلى صوت القبرة) ملحناً إياها. وفي المساء لحن أغنية أخرى من رواية أنطونيو وكليوباترا؛ وكذلك لحن الأغنية المحبوبة (من هي سلفيا؟) وكان في هذا الباب تياراً جارفاً لا يقف عند حد، فلا يقع تحت ناظريه شعر إلا لحنه. وقد قال شومان في ذلك:(إن كل ما لمسه شوبير كان يتحول إلى موسيقى) وقال لِيسْت (يُعد شوبير أعرق شعراء العالم الموسيقيين) ووصفه كتاب سيرته (بأنه ملك كتاب الأغاني) وكلهم محقون في ذلك فإنه أخرج في حياته القصيرة ما يقرب من الستمائة أغنية
وحل وقت هجر فيه شوبير عمله وتركه نسياً منسياً فقد أرسل يوماً مقداراً من مخطوطات أغانيه الجديدة إلى صديق له؛ وحدث أن زاره بعد أسبوعين من ذلك الوقت وكان يعزف على البيانو مغنياً أغنية أعجب بها فرانز فسأله (لمن هذه الأغنية الجميلة؟) فأجابه: (إنها لك!)
وكان شديد الإعجاب بما كتبه فيمور كوبر يدلك على ذلك كتابه لصديقه شوبار: (صديقي شوبار إنني منذ أحد عشر يوماً لم أتذوق طعاماً ولا شراباً لأني طريح الفراش مريض. . . فأشفق عليّ وأنا في هذه الحالة البائسة بزيارتك لي لتقرأ عليّ ما أنا غير مستطيعه. وقد
كنت قرأت لكوبر (الجاسوس والدليل وطلائع الجيش) فإن كان لديك غير ذلك له فلتتفضل عليّ بإحضاره معك) (صديقك)
وكانت غرفته مزدحمة جداً بالمخطوطات المبعثرة هنا وهنالك، وذلك لأنه لا يكاد ينجز عملاً حتى يبدأ في غيره أغنية كان أو ترتيلة أو أوبرا أو غير ذلك مما لم يخلق شوبير إلا لها. ولن نستطيع أن نتصور الكثرة المطلقة التي كان يخلفها لنا لو أنه عاش أكثر من ذلك؛ إلا أن المنية وافته ولما يبلغ الواحد والثلاثين عاماً.
عبد الرحمن فهمي
بكالوريوس في الآداب
القصص
من أساطير الإغريق
2 -
خرافة جاسون
للأستاذ دريني خشبة
مساكين هؤلاء الآرجونوت!
لقد كانت رحلة شاقة مضطرمة بالمتاعب، مليئة بالأشجان، في بحر لجي وأمواج كالظُلل، ظلمات بعضها فوق بعض، وأهوال جسام يأخذ بعضها برقاب بعض، وطريق كله سعالي وأغوال
لقد لقي الأبطال الصناديد من أمرهم رهقاً أي رهق. . . فلقد أرسوا مرة بأرض شجراء باسقة الدوح، نما أيكها واستطال، وغلظت جذوعها واستوت، فبدا لهرقل أن يصطحب غلامه هيلاس وينطلق في الغابة يقطع أغصاناً تصلح لأن يصنع منها مجاذيف للآرجو، فأوغلا. . . وكانت الطريق ملتوية مُضلة. . . فلما أن قطعا من الأغصان شيئاً كثيراً، أصاب هرقل ضمأ شديد لم يصبر عليه، فأمر هيلاس أن ينطلق فيملأ جرة الماء التي كانت معهما من نبع قريب كانا يسمعان خريره يتلاشى كالصدى في سكون الغابة. . . وذهب هيلاس، وجلس هرقل ينتظره. . . ولكن وقتاً كافياً مضى قبل أن يعود الفتى. . . ثم مضى من الوقت ساعة أو نحوها. . . ثم ساعتان. . . ثم أكثر من ذلك. . . ثم أكثر. . . ماذا؟ ترى ما الذي عوق هيلاس؟ أواه! لقد كان هيلاس أجمل شباب الدنيا في ذلك الزمن، ولقد كان له جسم سمهري ممشوق، وصدر رحب أخيلي، ووجه تمتزج فيه بداوات الرجولة والفتوة بقسمات الفتنة والجمال، وعينان يترقرق في بريقهما لون من السحر لا يعرفه إلا العذارى، ولا تحسه إلا قلوب الحسان. . . وشفتان إن كانتا لرجل، فقد سرقتهما له الطبيعة الفنانة من فم غادة. . . وجبين متلألئ وضاح، لمّاح كإشراقة الشمس في مولد الصباح. . . تبارك الله ما كان أسبى وما كان أصبى، وما كان أجمل هيلاس!!
ذهب يملأ الجرة. . . وما كاد ينثني ليضرب بها الماء، حتى رأته عرائسه الغيد، الخرّد الأماليد، فشغفهن وامتلك قلوبهن، وبرزن من القاع ليسكرن بجماله، وينهلن من حسنه،
وليقسمن بسيد الأولمب ما هذا بشراً إن هذا إلا ملاك كريم!! واقتربن من مكانه، ثم لم يقوين على البعد فاقتربن أكثر، ثم تأجج الهوى في فؤاد إحداهن، وهي أجملهن، إن كان فيهن من هي أجمل من أختها، فهتفت به، فلم يجب، فجذبته من ذراعه جذبة نزل بها إلى الماء
- ماذا بالله عليك يا عروس؟
- تعيش معنا!
- أعيش معكن في الماء وأنا بشر؟
- لن تكون بشراً بعد اليوم، بل تكون إلهاً كريماً
- وأنى لي هذا وأنا غلام هرقل ومولاه، وهو ضمئ إلى جرعة من مائكن تشفي جُوادَه؟
- ومن أذن لهرقل أن يرسو بأرضنا؟ إذن هذا عقابه! تعال! سيمنحك الخلود سيد الأولمب!
وجذبنه إلى القاع. . . ولكنه لم يغرق. . . وهو يعيش إلى اليوم مع هذا السرب من الحور العين لا يخدم أحداً، ولا يجوع ولا يظمأ!
ونهض هرقل يقص أثر فتاه، حتى إذا انتهى إلى النبع، ووجد الآثار هابطة إلى الماء، إلى غير عود، صرخ صرخة تجاوبت أصداؤها في أركان الغابة، ثم جلس ساعة على حفافي المقبرة التي ابتلعت هيلاس ينشج ويبكي. . . وأقسم لا يذوقن من مائها قطرة، وأقسم كذلك لا يصحبن الآرجو في هذا السفر. . وعاد أدراجه، بعد رحلة طويلة قطعها على قدميه إلى أرض الوطن، وعاش حياته الطويلة المقاحمة لا يفتأ يذكر هيلاس، ولا يفتأ يبكي على هيلاس!
وأرست الآرجو في شاطيء تراقيا، ونزل جاسون في نفر من رجاله يمتارون، فعلموا أن ملكا أعمى يقال له فِنْيُوس، شديد البؤس، طويل الشقاء، يحكم هذه المملكة. . . ولم يكن عماه وذهاب بصره علة شقائه فحسب، بل كان ذلك بسبب طيور غريبة الخَلق، لها جسم الطير وريشه ومخالبه، ورأس الإنسان ولُؤمه وخَبَثُ طباعه. . . كانت هذه الطيور تنزل بساحة القصر الملكي، ثم تهجم على غرفة الملك كلما حان موعد الطعام، فتلتهم غذاءه، فلا تبقي ولا تذر. وكان الملك في أكثر الأحيان لا يجد لقمة واحدة يتبلغ بها. لأن هذه الطيور لم يكن من دأبها أن تبقي على شيء. . . حتى على الفتات. . . ولم يكن يردها عن قصر
الملك وعن غرفة غذائه خاصة شيء مطلقاً. . . فلقد كانت تخمش وجوه الجند وتمزق جلودهم كلما حاولوا صدها عن بيت مولاهم؛ وكانت تفلت من سيوفهم وتمرق من سهامهم بخفة تخير الألباب، ولم يحدث مرة أن أصاب أحد الجنود منها غرضاً، حتى جن جنون الملك وتضاعفت بلواه، وجأر بالشكوى إلى آلهة السماء
ودهش جاسون، وذهب بالقصة إلى رفاقه الآرجونت، فتقدم إليه البطلان الضرغامتان، ولدا بوريس، يقترحان أن يذهبا معه إلى الملك المسكين فيعرضا عليه حرباً عواناً يشبان نيرانها على هذه الطيور، فأما أن يتم لهما النصر عليها، وأما أن تكون لها الكرة عليهما. . . وصادف الاقتراح هوى في نفس جاسون فانطلق معهما إلى الملك الذي هش لهما وبش، وفرح بما عرضاه فرحاً شديداً. . . فلما حان موعد الغداء، جلس الملك وضيفاه - وكان جاسون قد عاد إلى السفينة - إلى المائدة. ثم لم تمض لحظات حتى أقبلت الطيور ترنق فوقهم وتُدَوّم، فوقف البطلان وامتشقا سيفيهما، فلما هبطت ناوشاها مناوشة عنيفة، ولم يمكناها من خدش واحد تحدثه ببدنيهما، بل هجما عليها هجوماً ذريعاً وأخذا يسقطان منها عدداً كبيراً كان يهوي فوق الأرض فيلطخها بدماء حارة فائرة. . . وكلما هبطت واحدة طفقت تشكو وتبث بلسان يوناني مبين. . . ثم فرت بقية الطير. . . لكن ملكتها حطت بمكان قريب من الملك وهتفت به كي يأمر بوقف الملحمة حتى تدعو بعض جندها لنقل جثث القتلى. . . بيد أن الملك رفض طلبتها حتى تقاسمه أغلظ الأقسام وأوكدها أنها لا تعود إلى الاعتداء عليه أبداً، ولا تعود إلى زيارة تراقيا كلها أبد الحياة. . . فقاسمته ملكة الطير، فأشار إلى ولدي بوريس فأغمدا حساميهما، وذهبت الملكة وعادت بعد قليل في شرذمة من جندها، وبعد أن ذرفت من دموعها على قتلاها حملتها وذهبت إلى غير عود. . . وبرت قسمها، فلم تزر تراقيا بعد هذا أبداً. وشكر الملك لولدي بوريس، وعرض أن يستوزرهما، فرفضا شاكرين، ليصحبا جاسون
وكأنما ذاع نبأ الهزيمة في عالم الطير فهبت جبابرته تأخذ بثأر الهاربِز؛ فإنه ما كادت الآرجو تبعد عن شطئان تراقيا، حتى رأى راكبوها سرباً كبيراً من البزاة والنسور البواشق يقبل من علو كأنما تفتحت عنه أبواب السماء، ثم لا يفتأ يضرب الهواء بخواف من نحاس تلمع في أشعة الشمس كالذهب؛ حتى إذا كان فوق الآرجو طفق يضرب راكبيها بحجارة
مسومة من سجيل ألحقت بهم أذى كبيراً. . . ولم تنفع معها سيوفهم ولا قِسّيهم شيئاً، فاختبأت كل كوكبة منهم في قمرتها، وخلا جاسون إلى عصاه السحرية يستشيرها ماذا يصنع لينجو بقبيله من هذا الطير، فتكلم الرأس العجيب فأشار بأن يضرب الجنود بأغماد سيوفهم على دروعهم ضرباً شديداً فيحدث صوتاً تنزعج الطير منه، وتفر مروّعة إلى غير عود. . . ودعا جاسون جنوده ففعلوا كما أشارت العصا، وفرت الطير ذاهلةً ممزقةً في رجب السماء
وحاق بهم كوارث أخرى لا حصر لها. . . ثم اقتربوا من برزخ سِمْبِلْجِيدز الذي ليس لمسافر إلى مملكة كولخيس سبيل غيره. . . وهو مضيق رهيب يصل ماء بحرين وعلى كل من عُدوتيه صخرة هائلة، فما تزال الصخرتان تنطبقان وتنفرجان، بحيث تسحقان كل شيء يحصل بينهما فيصيرانه هباءً عفاءً كأن لم يغْن من قبل. . . وكأيّن من سفينة جازف ملاحوها بالمرور بينهما، فحطمتهم وعفت على آثارهم. . . ولم يدر جاسون ماذا يصنع، وجلس رفاقه يقلّبون الأكف على ما أنفقوا في مخاطرتهم هذه، وظلوا ينظرون إلى الصخرتين ساعاتٍ وساعات وهما ترتطمان وتبتعدان، وكلما سمعوا قصيفهما يجلجل في الآفاق جعلوا أصابعهم في آذانهم حذر الغشية وتَقِيّةً من الصمم. . . وخلا جاسون إلى عصا جونو يستوحيها ماذا يفعل، فما كانت غير لحظات حتى تكلم الرأس العجيب، فأشار بأن يطلق جاسون حمامةً بين الصخرتين حين تنفرجان، ويرى هل تمرق قبل أن تنطبقا عليها، ثم يرى، هل يستطيع أن يمرق ملاحوه بسفينتهم بمثل سرعة هذه الحمامة. . .؟ ودعا جاسون رجاله يستشيرهم، ثم أطلقوا الحمامة البيضاء كما أشارت العصا، وكم كان عجبهم شديداً حين رأياها تفلت من بين الصخرتين إلا ريشةً واحدة انتُزعت من ذنبها فصارت هباءً نثره الهواء! واستعدوا للمقاحمة، وطفقوا يقيسون مسافة ما بين البحرين في البحر الذي هم فيه، ثم يطلقون حمامة كالتي أطلقوا، بحيث يعملون مجاذيفهم حين تنطلق في الجو. . . وأعادوا التجربة مثنى وثلاث ورباع، حتى وثقوا من قدرتهم على قطع المسافة في مثل البرهة التي قطعتها فيها حمامتهم الأولى. . . ودفعوا سفينتهم إلى أول المضيق، وانتظروا حتى أوشكت الصخرتان أن تنفرجا، ثم أعملوا مجاذيفهم بأذرع مستبسلة، وأرواح ترتعد فَرَقاً من الموت في أبدانها، فمرقت السفينة كما يمرق السهم عن سِيَة القوس. . .
واحربا!! لقد استطاعوا أن يفلتوا بفلكهم، وإن حطمت الصخرتان سكانها، كما حطمتا ريشة ذيل الحمامة من قبل؟!
وما كادوا ينجون من هذه الموتة المحققة، حتى انسدحوا في الفلك يلهثون ويتنفسون، ويهنئ بعضهم بعضاً. . .
وبلغوا كولخيس بعد عناء وبعد جهد، ومثلوا بين يدي إيتيس ملكها الجبار، فسلّم جاسون بسلام الملوك، ثم سئل عن طلبته فقال:
- عَزّ نصر مولاي، لقد تجشّمنا مشاق هذه السفرة في سبيل الفروة الذهبية التي يقتنيها ملك الملوك، لأنه نُمي إليّ أنها كانت من تراث آبائي. . . ولا أدري كيف حصل عليها السيد بعد إذ أفلتت من كنوزنا
وقهقه الملك ملء شدقيه كالساخر المستهزئ، ثم ربت على كتف جاسون وقال:
- أيْ بني! أَبق على شبابك الغض، وجمالك الفينان، وعلى شباب هذه النخبة أولي القوة والفتوة الذين معك. . .! أي فروة ذهبية يا بني تبتغي؟ وتراث آبائك من؟! لقد ذبح فركسوس الكبش بيديه أمام عيني، وسلخه بين يدي، وضحى باللحم والحوايا للآلهة، ثم أهدى إليّ الفروة الذهبية التي تعدل كنوز الدنيا بأسرها! ففيم إذن تجشمك تلك المشاق، وفيم مجازفتك بالسفر بين صخرتي سمبلجيدر؟! وفيم كل تلك المهاوي والمهالك؟ عد يا بني إلى بلادك فهو خير لك، وأبق على حياتك، وانعم بحضن أمك الدافئ فهو أرحب لك من ميدان كله ذؤبان وغيلان، ومنايا تثير الأشجان والأحزان!
وتبسم جاسون وتشبث بما سأل الملك، فأخذ إيتيس يعظه وينصحه، فلما رأى تصميمه واستمساكه، قال له:
- (لك إذن ما طلبت يا بني، ولكن اسمع، وأصغ إليّ؛ إن أمامك مخاطر كنت أوثر ألا تلقي بنفسك في تهلكتها، ولكن مادمت قد غرتك الأماني، وازدهتك هذه النخبة من أبطال بني جلدتك، فاذهب إذن، وحاول ما استطعت أن تلجم عِجْليْ فلكان الهائلين اللذين ينقذف اللهب من منخريهما، ويفتكان بكل من اقترب منهما؛ ثم حاول بعد ذلك أن تحرث بهما الأرض الجَبوب التي تقدست باسم مارس، فإذا فعلت فازرع ما حرثت بأنياب تنين كما فعل قدموس باني طيبة، فإنك لا تلبث أن ترى الأرض تُنبت جيلاً من المَرَدَة مقنعين في الحديد
يلاعبونك بأسنة الرماح، فإذا قدرت عليهم فإن عليك أن تقتل التنين الهائل الذي يحرس الفروة الذهبية، فإذا فعلت، ولا أحسبك تفعل، فإن الفروة لك، كنزاً ليس كمثله كنز، وذخيرة من الذهب الإبريز ليست تعدلها ذخيرة؛ هذا إلى فخر يرفعك إلى عِليين، وينقش اسمك في لوحة الخلود إلى آخر الزمان!)
وسمع جاسون. . . وخفق قلبه، ووجبت روحه وجيباً محزناً ثم أخذ على نفسه عهداً أن يفعل!!
ونصحه رفاقه أن ينكث، وأشفقوا عليه أن يضحي بهم وبنفسه في مثل هذه المهالك؛ بيد أنه صمم على أن يلجم عجلي فلكان، وأن يحرث بهما الأرض الجبوب، وأن يزرع فيها أنياب التنين، وأن يحارب المردة فإما هزمهم وإما غلبوه، وأن يقتل التنين الذي يحرس الفروة الذهبية ليفوز بها، وليعود إلى الوطن بالفخر والمجد وخالد الذكر، فيحكم ويكون خير الحاكمين!
وكان يتكلم أمام رفاقه في شجاعة مُدَّعاة، وفتوة مُفتراة، فإذا خلا إلى نفسه حزن أشد الحزن، وأسلم نفسه للتفكير العميق. . . ثم استوحى عصاه السحرية فقالت له إنه ينبغي عليه أن يلقي ابنة الملك، الأميرة ميديا، فإنها مشغوفة به حباً منذ رأته يحدث أباها. . . وأنها تكاد تجن به جنوناً
- وكيف ألقى ميديا هذه يا معجزة جونو الحبيبة؟
- اتصل بإحدى عجائز كولخيس تقض حاجتك!
- ومتى ألقاها وأين؟
- يالك من فتى؟! ألم تسمع من يقول: وكم لظلام الليل عندي من يد؟ القها في جنح الليل، ولتكن له يد عندك، والقها في حديقة قصر أبيها الملك!
(التتمة في العدد المقبل)
دريني خشبة
البريد الأدبي
أزمة الكتاب والثقافة العالمية
عقد أخيراً في مدينة نيس في جنوب فرنسا مؤتمر نظمته أكاديمية البحر الأبيض المتوسط برياسة رئيسها الكاتب الكبير جورج دوهامل للنظر في مسألة ثقافية خطيرة هي أزمة (الكتاب). وقد أجمع المؤتمرون وهم رهط من كبار المفكرين والكتاب من مختلف أمم البحر الأبيض على أن مسألة الكتاب هي مسألة الثقافة العالمية كلها، وأنه لا يمكن أن تقوم بدون الكتاب أية ثقافة أو حضارة أو إنسانية أو سلام أو مثل عليا؛ ولذلك رأوا أن يعرضوا إلى المسألة من ناحيتها الدولية والعالمية
وجرى البحث في النقط والتفاصيل الآتية: هل يمكن أن تحل المجلات الدورية محل الكتاب؟ وهل يمكن أن تحل الإذاعة اللاسلكية (الراديو) مكان الكتاب والمجلة معاً؟ وهل يمكن أن يحل السينما مكان الكتاب والجريدة؟ وهل يمكن أن تشترك وسائل الإذاعة مع الكتاب أم لا يمكن إلا أن تضربه؟ وهل يمكن أن تستعمل هذه الوسائل بطريقة تتفق مع مصلحة التفكير والذهن الإنساني؟ وأخيراً هل يمكن أن يفيد تنظيم المكاتب العامة وإعارة الكتب بلا مقابل في تهذيب القراء، ويعاون في حل أزمة الكتاب؟
هذه النقط وجميع ما يتعلق بها كانت وما تزال موضع بحث المؤتمر أو محكمة الكتاب كما يسميه المسيو دوهامل
ولا ريب أن أزمة الكتاب والثقافة مسألة عالمية وهي مسألة الحضارة كلها؛ وقد بدأت هذه الأزمة من نهاية الحرب الكبرى إذ انصرفت الأذهان شيئاً فشيئاً عن الكتب القيمة وأغرقت الشعوب المختلفة بسيل من الآداب والكتب السطحية. ثم جاءت السينما الناطقة والراديو فزادت الأزمة حدة، وطغت الصحافة من جانبها على الكتاب وأخذت بتنويع محتوياتها الأدبية والثقافية تصرف الأنظار عن الكتاب
وقد شعرنا في مصر، كما شعرت جميع الأمم المتمدنة بهذه الأزمة الثقافية الخطيرة؛ ومن ثم فإنه يجدر بنا أن نبحثها كما يبحثها غيرنا، وأن نحاول معالجتها بنفس الوسائل والأساليب.
دانونزيو في رياسة الأكاديمية الإيطالية
من أنباء رومة الأخيرة أن الكاتب والشاعر الإيطالي الأشهر جبرائيلي دانونزيو قد عين رئيساً للأكاديمية الإيطالية الملوكية. وقد علقت الصحف الإيطالية والخارجية على هذا التعيين بالاستحسان، وقال إن الدوتشي (موسوليني) بإسناده هذا المنصب لأعظم كاتب إيطالي في العصر الحديث قد أسدى خدمة جليلة للثقافة الإيطالية. على أنه يلاحظ أن هذا الاختيار لا يرجع فقط إلى خلال الشاعر الأدبية، ولكنه يرجع أيضاً إلى ماضيه الوطني؛ فلم يكن دانونزيو شاعراً وكاتباً عظيماً فقط، بل كان وطنياً وجندياً عظيماً أيضاً؛ وهو اليوم شيخ في الرابعة والسبعين من عمره. وقد بزغ مجده منذ خمسين عاماً كشاعر موهوب إذ نشر مجموعة أولى من قصائده؛ ثم توالت بعد ذلك كتبه بين منثور ومنظوم وقصص ونقد. ومنذ أوائل هذا القرن يتبوأ دانونزيو ذروة الشعر والكتابة في إيطاليا الجديدة. وفي إبان الحرب الكبرى كان دانونزيو في فرنسا، وكان يدعو في كتبه وقصائده إلى انضمام إيطاليا إلى الحلفاء. ولما دخلت إيطاليا الحرب انتظم دانونزيو في الجيش ضابطاً في المدفعية، وفقد إحدى عينيه في خدمة الطيران. وفي نهاية الحرب حدث خلاف بين إيطاليا ويوجوسلافيا على ملكية ثغر فيومي، وانتهى النزاع بأن وافقت إيطاليا على تركه ليوجوسلافيا، ولكن دانونزيو لم يرتض هذا الحل وزحف على فيومي على رأس ألف من المتطوعين واحتل الثغر عنوة وأعلن ضمه إلى إيطاليا. وهناك زاره موسوليني الصحفي يومئذ وأعجب به وبخلاله الوطنية والعسكرية العالية. ولما قام الحكم الفاشستي وتبوأ موسوليني ذروة النفوذ والسلطان حدث جفاء بين الرجلين في البداية، ولكنه لم يلبث أن زال وأحيط الشاعر الكبير بكل مظاهر التكريم، وأنعم عليه بلقب الإمارة في سنة 1925، وهو يتبوأ اليوم رياسة الأكاديمية الإيطالية ومن ورائه ذلك الماضي الحافل في الشعر والأدب والوطنية والحرب
الشرائط المصورة في خدمة المكتبات
في حين أن أنصار الكتاب يرون أن الأفلام الناطقة من العناصر الضارة التي تؤثر في رواج الكتب، يرى بالعكس خبراء المكتبات أن الأفلام الناطقة يمكن استخدامها بنجاح في خدمة المكتبات العامة وفي تذليل مهامها. هذا ما رآه المندبون في مؤتمر عقد أخيراً في
كامبردج للنظر في شئون المكتبات وتنظيمها. وقد صرح الأستاذ، واطسون دافيس أحد المندوبين الأمريكيين أنه بمرور الزمن يمكن أن تستخدم هذه الأفلام في حفظ نفائس أعظم المجموعات العالمية، وبذلك تسهل مهمة تبادلها بين مختلف العواصم والمكتبات: بل يمكن بهذه الوسيلة أن ننقل نفائس مكتبة بأسرها من قارة إلى أخرى مدونة في بعض هذه الأقلام الناطقة
وذكر الأستاذ هتون من خبراء المتحف البريطاني أن إدارة المتحف ستقوم بإخراج أفلام ناطقة من جميع الكتب الإنكليزية التي ظهرت قبل سنة 1550م، ثم ترسل نسخا منها إلى الولايات المتحدة (أمريكا). وقد صار من الميسور الآن أن تصور الصفحة الكبيرة في حجم لا يزيد على طابع البوستة، وبذلك يمكن تصوير آلاف من الكتب في أحجام صغيرة، ثم يمكن بعد ذلك لكل راغب أن يحصل بواسطة الجهازات المكبرة على صور منها في حجمها الطبيعي، أو يمكن عرضها على ستار السينما
الأدب الأردي
اللغة الأردية هي لغة مسلمي الهند، وهي من الفصيلة الفارسية، وتكتب بالحروف العربية؛ ولها أدب خاص يتأثر أشد التأثر بالآداب الفارسية والعربية. وقد ظهر أخيراً بالإنكليزية كتاب عن الأدب الأردي بقلم الدكتور موهان سنغ الأستاذ بجامعة لاهور تحت عنوان وهو بحث جامع في تاريخ اللغة الأردية وآدابها، من النثر والشعر والقصص، والعوامل التي اشتركت في تطويرها، ومدى تأثرها بالأدب الإنكليزي والأدب الهندي القديم، وما كان للقرآن الكريم والآداب العربية من أثر في تطور الثقافة الأردية وقد تناول الدكتور سنغ بحثه بأسلوب جديد يسبغ على مؤلفه قيمة خاصة، بحيث تقرأ فيه تاريخ الأدب الأردي كما تقرأ تاريخ الأدب الإنكليزي أو الفرنسي
بول فاليري أستاذ في الكوليج دي فرانس
أصدرت الحكومة الفرنسية أخيراً مرسوماً بتعيين الكاتب والشاعر الفرنسي الكبير وعضو الأكاديمية الفرنسية بول فاليري أستاذاً للشعر في معهد (الكوليج دي فرانس) وبذلك يتبوأ الشاعر الكبير فوق مكانته في عالم الشعر والأدب مركزاً رسمياً خطيراً يستطيع أن يبث
منه إلى الشباب نظرياته الطريفة في الشعر الفرنسي
هذه بضاعتنا ردت إلينا
لما قرأت في (الرسالة الغراء) مقالة (أخبار أبي تمام للصولي) تذكرت بيتاً لهذا الشاعر العظيم (وكم بيت بديوان) سلبه إياه أبو عبيد البكري، ووهبه للمتنبي. . .
ومقسم يعطي العشيرةَ حقّها
…
ومُغَذ ِمِر لحقوقها هضّامها
ورأيت أن يُردّ اليوم الحق إلى أهله. وهذه قصة الذهب والهبة:
جاء في كتاب (اللآلي في شرح أمالي القالي) أو سمط اللآلي (الجزء الأول. الصفحة 217):
(وقال المتنبي في النسيب:
إنسيّة الإنسان إن هيَ حُصّلت
…
جنيّةُ الأبوين ما لم تُنسبِ)
وقال محقق الكتاب ومنقحه الأستاذ عبد العزيز الميمني في الحاشية: (لا يوجد البيت في شيء من نسخ شعره (أي شعر المتنبي) وقد جمع العاجز - يعني الأستاذ نفسه - زيادات ديوانه؛ ولعله وهم (أي البكري) في حمله البيت عليه)
قلت: قوله (العاجز) هو من تواضع العلماء، وقد أظهر في (اللآلي وسمطه) كل قوة، وأخبر فضله أن ليس بعد هذا التحقيق تحقيق (ليس وراء عبادان قرية). ومن خصائص الأستاذ الميمني أنه يعرف جميع المواطن التي ورد فيها بيت من أبيات (اللآلي) ويذكرها كلها قلت أو كثرت
وهذا البيت الذي عزاه البكري إلى المتنبي، وأنكر الأستاذ عزوته، ولم يدلنا على صاحبه - على اتساع ذاك الإطلاع - هو لأبي تمام في قصيدة مطلعها:
أحسِنْ بأيام العقيق وأطيب
…
والعيش في أطرافهن المعجب
ورواية صدر البيت (المسلوب) في الديوان هو (أنسية إن حصلت أنسابها) وقبله:
وإذا رنت خلت الظباء ولدنها
…
ربعية واسترضعت في الربرب
فاقرأ اليوم يا حبيب: (هذه بضاعتنا رُدّت إلينا) في (اللآلي)
(الإسكندرية)
(* * *)
وفاة المؤرخ التركي أحمد رفيق
روعت الأمة التركية في غضون هذا الشهر بوفاة عالمها المؤرخ الجليل احمد رفيق، ولقد كانت وفاته فاجعة كبرى أصابت الأمة التركية في شعرها وأدبها وتاريخها
بدأ رفيق حياته العامة بالانضمام إلى الجيش، ثم أكب على الدراسات العلمية الدقيقة وراح يبذل قصاراه في المطالعة والبحث والاستقصاء في العلوم التاريخية إلى أن وهنت قواه فخرج من السلك العسكري وكان خروجه هذا سبباً في انغماره في مضمار الدراسة العنيفة، والمطالعة المضنية، فأكب على دراسة التاريخ وهي الناحية التي كان يميل إليها بالفطرة فدرسها درساً وافياً وشرع في تأليف مؤلفاته القيمة التي تزيد على الاثني عشر مجلداً، وجميعها من أروع الكتب التاريخية التي نالت تقدير كبار أساتذة التاريخ في العالم
مارس احمد رفيق الشعر والأدب فألّف ديواناً في الشعر، وأنشأ مقالات عديدة في الأدب، فكان توفيقه في هذين الفنيين ضئيلاً بالنسبة إلى ما أصابه في التاريخ من نجاح باهر ومكانة سامية
وأسلوب الرفيق التاريخي يمتاز من غيره بالسهولة وتبسيط المعقد من التاريخ بطريقة لا تجعل الملل يتسرب إلى القارئ
ويحزننا أن نقول أن ذلك المؤلف الكبير على رغم الخدمات العظيمة التي أسداها إلى أمته كان في أواخر أيامه فريسة للحرمان والفاقة
الكتب
كان ما كان
تأليف الأستاذ مخائيل نعيمة
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
كان ما كان. . . ألا إنها كلمة سحرية تفيض بالذكريات والأحلام، وتفتح على النفس آفاقاً من الماضي، وما أحب الماضي إلى النفس وإن كان كله الشقاء! ولعل هذا المعنى هو الذي لحظه الأديب اللبناني الأستاذ مخائيل نعيمة في وضع هذه الكلمة عنواناً لمجموعة من قصصه، وهي مجموعة تشتمل على ست قصص وفصل من رواية مسرحية اسمها (جمعية الموتى) كان الأستاذ قد كتبها عن المجاعة اللبنانية إبان الحرب. ونعيمة لاشك أديب قصاص، عنده طبيعة فنية، وله في فنه ميزات ومواهب، وهو في قصصه يحيا حياة روحية نبيلة كلها صفاء وتصوف، فعنده (أن الفطرة حقيقة صافية، والمدنية رياء موشى) وهو (يحب الروح النظيفة في جسم قذر، عن الروح القذرة في جسم نظيف) ومن رأيه (أن الأرض روح طاهرة في جسم طاهر لا تساد ولا تستعبد، فهي ميزان العدل الإلي، ولذلك لا تخجل من أن تنبت الوردة والشوكة والقمحة)، وإنه لينظر إلى سبل الحياة في الشرق والغرب، فيرى (الشرق يسير إلى المحجة ومركبته قلبه، وجياده عواطفه وأفكاره، وأعنته إيمانه وتقاليده المتصلة بالآزال، بينما الغرب يسير في مركبة روحها البخار أو الكهرباء، وعضلاتها لوالب ودواليب من حديد وفولاذ، وأعنتها ادعاؤه واعتداده بنفسه). ومع أن الغرب يلتفت إلى الشرق هازئاً، والشرق يبهره ما يرى فيقر للغرب بالمجد، فإن نعيمة يرفع الشرق في روحانيته الصافية، على الغرب في ماديته الملوثة؛ وهو يأسف على الشرق إذ (يطرح مركبته، ويبيع روحه، ليحصل على مركبة كمركبة جاره)، لأن الحياة المادية في الواقع (حياة مقنعة) كلها زحمة باطلة، وجلبة فارغة، وما الإنسان في وسط هذه الجلبة إلا (كالهر يلحس المبرد فيتلذذ بطعم الدم السائل من لسانه جاهلاً أنه دمه. . .)
ونعيمة أيضاً رجل باحث، يعاني النقد والدراسة التحليلية، وله (سياحات في ظواهر الحياة وبواطنها). ولاشك أن القصاص في حاجة إلى مواهب الباحث، من دقة الملاحظة،
وصواب الفكر، وحسن التقدير؛ ولكن ليس من الصواب أن يفنى شخص القصاص في شخص الباحث، حتى لا يضعف النهج القصصي في القصة كما يلاحظ في بعض قصص نعيمة؛ فهو يهتم بأن يقول لك كل شيء في نفسه، ويعنيه كثيراً أن يشرح كل شيء يعترضه؛ ومن ثم فهو يستطرد كثيراً ويخرج بك إلى كل ناحية تتصل بالحديث، ومن ثم كانت القصة عنده فكرة قويمة، وحكمة غالية، وبحثاً اجتماعيا كاملاً، ولكنها ليست على ما يجب من الاستواء الفني والاتساق القصصي، فأنت تقرأها وكأنك تقرأ مقالاً ممتعاً، أو بحثاً ضافياً؛ ولقد تعمد إلى بعض أجزائها بالحذف فما يضير ذلك، ولا هو يقطع صلة الحوادث في القصة؛ ولقد تجده يطيل كثيراً في التحليل النفسي للأشخاص إطالة قد تتحملها القصة الطويلة، ولكنها لا تليق بالقصة القصيرة. وإليك مثلاً: تلك القصة التي أسماها (ساعة الكوكو) والتي صدر بها الكتاب، فإن نعيمة قد حشاها بكثير من الحكم والمواعظ، ونقل فيها كلاماً طويلاً من كلام (بو معروف) وعرض فيها لشخصية (خطار) فحللها تحليلاً نفسانياً دقيقاً صور فيه كل شيء حتى الخواطر والأحاسيس، وساق كلاماً عن الشرق والغرب، والمادية والروحية، ولكنه ساق كل ذلك مساقاً إن اغتبط به فكر الباحث فلن يرتضيه تقدير القصاص، لأن القصة ليست خطاباً يلقى أو حكاية تروى، ولكنها حدود مرسومة، وأبعاد مقدرة، وحبكة قوية في البدء والنهاية، وخطة هي طبيعة الحياة ومظهر الواقع؛ وبالجملة فهي قطعة فنية مستوية لا استطراد فيها ولا زوغان. ولو أن نعيمة راعى ذلك في قصصه لكان من غير شك سباق الحلبة وحامل لواء القوم في القصة
أما أسلوب المؤلف فأسلوب سهل مرسل، يريده نعيمة على أن يكون أداة لإفهام القارئ فحسب. ولقد يهمل حق البيان واللغة في بعض الأحيان، فيقدم حيث يجب التأخير، ويحذف في مقام الذكر، ويرجع بالضمير إلى غير ما هو له، كأن يقول:(ولا يزال نحو المائة منهم ينتظرون الدخول وراء السور) يريد ولا يزال نحو المائة منهم وراء السور ينتظرون الدخول. وكأن يقول: (لكنهم يبكون كلاماً، وينوحون من قلوب ضاحكة وأجواف مفعمة) يريد أن بكاءهم لا حزن فيه وأنهم ينوحون وأجوافهم ممتلئة (بالسرور)، ولكن العبارة لا تفي بما يريد، لما في صدرها من الخطأ اللغوي، ولما في عجزها من القصور. وكأن يقول في بعض تشبيهاته: (فكأن دماغي قد تحول إلى مسحوق دقيق ذرته يد خفية في هاوية
تلبدت بدخان) وهذا تشبيه لا يسوغه الذوق البياني
على أننا لو تجاوزنا عن مثل هذا فما يصح أن نتجاوز عن حق اللغة والنحو في مثل قوله: (ويلتقي الأخ أخاه) وقوله: (لنشاركه بالفرح) وقوله: (ولا يلعب بالقمار) وقوله: (كانت تحوي على صفات) وقوله: (فلنباشر يفحصهم) وقوله: (وذقنك المستطيلة وأحناكك النافرة) إلى آخر ما هنالك من التعابير التي لا أحسب أن نعيمة الناقد يرضاها من غيره. وهل من اللائق أن تكون الفكرة من الذهب وأن يكون لبوسها من الخشب؟!
ثم هناك هنوات طفيفة كأن يقول (ص57) واختلت مع جميل في مخدعها، وسياق الكلام يقضي أنها اختلت مع عزيز وما أحسب ذلك إلا سبق قلم
وفي قصة الكوكو (ص8) يقول: في حقيبتي رسالة تسلمتها في أيار سنة 1922 والذي في ذيل القصة أنها كتبت بتاريخ سنة 1915 ولعل هذا من تحريف الطابع
أما بعد، فقد كانت فترات طيبة تلك التي قضيتها في قراءة (كان ما كان)، وما أبالغ إذا قلت إن نعيمة قد غمرني بفيض من الفكرة (الروحية البحتة) التي يخدمها ويخلص لها في قصصه. وإنها لفكرة سامية ما أحوج الناس إليها وقد جرفتهم أوضار المادة الفاسدة، ولكن من لها بأمثال نعيمة في روحانيته وإخلاصه؟
محمد فهمي عبد اللطيف