المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 228 - بتاريخ: 15 - 11 - 1937 - مجلة الرسالة - جـ ٢٢٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 228

- بتاريخ: 15 - 11 - 1937

ص: -1

‌الصيام بين عهدين

والتجدد أو التطور يصيب كل شيء فيجعله أعلى عالٍ أو يردُّه أسفلَ سافل!

كان عهدنا بالصوم قبل اليوم أن يكون عصياناً للنفس في طاعة الله، وحرماناً للجسم في مَبرَّة الروح، ونكراناً للذات في معرفة الناس؛ فالجوارح مغلولة عن الأذى، والمشاعر مكفوفة عن الشهوة، والخواطر مستغرقة في الدعاء، بين نهار كله إحسان وتأمل وتصدُّق، وليلٍ كله قرآن وتواصل وتهجُّد؛ فلا الغنيُّ يهيج به البطر، ولا القوي تفرط عليه القدرة، ولا الفقير يتجهم له الحرمان، وكأنما زالت الفروق بين الناس فأصبحوا سواسية في نعمة الدين وسعادة الدنيا!

كان الرجل الدنيوي الشهوان إذا أقبل عليه رمضان تاب وتطهر، فلا يفتح فمه لِهُجر، ولا عينَه لفحش، ولا أذنَه للغو، ولا قلبَه لخطيئة. يقضي يومه مضطرباً في المعاش على أفضل ما يكون الخلق؛ فإذا كان تاجراً لا يدلِّس، أو صانعاً لا يزوّر، أو عاملاً لا يُفرِّط، أو معاملاً لا يخون. ويحيي ليله في استماع القرآن ومواصلة الإخوان ومُوادَّة ذوي القربى؛ فإذا ما انقضى بعض الشهر بدا عليه شحوب الصوم وذبول الصلاة وكلال السهر وخشوع الورع. فلو كنت حاضر ذلك العهد لرأيت رمضان عيداً قومياً ودينياً يؤكد أسباب القرب بين الله وعباده، ويوثق عرى الحب بين الشعب وأفراده

ذلك عهدنا برمضان الأمس؛ أما رمضان اليوم فبحسبك أن أصف لك حياة من حيوات القاهرة فيه؛ وتستطيع أنت أن تصور لنفسك الطور العجيب الذي آل إليه شهر القرآن والعبادة

هي أسرة لا أقول إنها مثال لكل الأسر؛ ولكنها استجابت لنوازع التجديد الأبله استجابة الإِمَّعَة فأصبحت تمثل ما عسى أن يكون بين التقاليد والتقليد من التناقض المضحك

ميم باشا يتبوأ منصباً من مناصب الدولة الرفيعة. بلغه بعد حياة طويلة كادحة، تبتدئ من القرية الحقيرة والأسرة الفقيرة والوظيفة الخاملة، وتنتهي إلى هذا الجاه العريض والثراء الضخم والمنزل المرموق؛ فهو وزوجه من عهد، وابناه وبناته الثلاث من عهد؛ والتفاعل بين هذين العهدين هو الذي أحدث هذه الظاهرة التي تجدها اليوم في أكثر بيوت القاهرة. لابد لهذه الأسرة أن تصوم؛ ذلك حكم النشأة وسلطان العادة. ولابد كذلك لهذا الصوم المتزمت الجافي أن يتسع باله وترق حواشيه إذا ما استضاف هذه الأسرة. فهو يسبل

ص: 1

جناحيه الرءومين على أَسِرَّتها الوردية الوثيرة من طلوع الفجر إلى متوع النهار؛ ثم يمس بريشهما الناعم خدود الأوانس النواعس فينتبهن؛ ويهبُّ الوالدان على زقزقتهن في غرف الزينة وطنُف القصر؛ ثم يجتمع بعد قليل مجلس الأسرة لينظر في مقترحات البطون على إدارة المطبخ. فهذه تقترح، وتلك تعترض، وهذا يطلب لوناً، وذاك يطلب آخر، والباشا يدير هذا الجدل الشهي إدارة موفقة، فيعدِّل أو يكمل أو يؤجل، حتى ينتهي النقاش بثبَت حافل بالمشهيات والمقليات والمشويات والمحشوات والفطائر لا تجد بعضه في مطعم كبير

يتغير هذا الثبَت كل يوم فيطول أو يقصر، ولكن لونين فيه لا ينالهما تغير ولا يمسهما نقص: لوناً من الأرانب مطبوخة في النبيذ يحبه الباشا، ولوناً من الشرائح الوردية مطعمة بفصوص من شحم الخنزير تحبه الآنسة الكبرى سين!

هاهو ذا الباشا البطين يتذبذب وئيداً بين المطبخ والمائدة كأنه رقاص الساعة؛ في يده مسبحته الكهرمان الصغيرة يهش بها على الطهاة والخدم، وشفتاه تختلجان من غير كلام، وعيناه تتحركان من غير نظر، حتى إذا دنت المغرب خفت حركته واحتد نشاطه فأقبل على المائدة ينسق الآنية، وينضد الأكواب، ويسكب أمام كل آكل الشراب الذي تعوده؛ فهنا قمر الدين، وهنا منقوع التين، وهنا الكينا، وهناك الفرمود، وهنالك إفيان، وأمامه هو شراب صحي فاخر من صيدلية (يني)؛ ثم يدبج الخوان المخملي بنوافل المائدة من السلطات والكوامخ، ويرتب الألوان مع النادل على أصول مقررة في الفن؛ ثم يسرح بعد ذلك بصره في السماط المكتظ فيرتد إليه ملآن بالرضا والعُجب؛ فيخرج إلى الردهة، ومن الردهة إلى الشرفة، فيلقي النظرة الأخيرة على الشمس الغاربة، ثم يعود فيرى الأسرة بجنسيها لم تفرغ بعد من إعداد الأهَب للسهرة الراقصة؛ فالحلل تنتقى، والحلي تُختار، والشعور ترجل وتموج، والأظفار تدرَّم وتصبغ، والحواجب تدقق وتخطط، والخطوات واللفتات والبسمات تتكرر أمام المَرايا لتراض وتُتقن. حتى إذا انطلق مدفع الإفطار من الراديو أهرعوا إلى المائدة إهراع جنود الإطفاء إلى السيارة؛ ثم يجلس الباشا بين بنيه ويضع المسبحة المعلومة مكان القدح المجهول، ثم يرفعه إلى فيه وهو يقول:(اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، وبك آمنت، وعليك توكلت.) ثم يقبلون على هذه الآكال وهذه الأشربة إقبال الشره الفاره! فلو رأيتهم حسبتهم صاموا العام كله ليفطروا في رمضان!

ص: 2

أذنت العشاء فصلاها الباشا الصالح، ولم يكد ينلفت منها حتى أخذ يُعد مقصف الليلة من النقول المختلفة، والأشربة الهاضمة، والأزهار الجنية. وأخذت الأسرة زينتها النمامة الكاشفة واجتمعت في البهو الفسيح الفخم تستقبل أسراب السيدات والأوانس ومعهن أبناؤهن وأخوتهن من الأيفاع والشباب؛ فيعزف البيان، ويخفق العود، وتشدو الكواعب، ويهزج الحاكي، ويدور الرقص على نمطيه الشرقي والغربي، فتلتف الأيدي على الخصور، وتلتصق الصدور بالصدور، وتمتزج أنفاس الكحول بأنفاس العطور، ويقف رمضان المسكين من هذه المناظر المريبة وقفة شيخ من شيوخ الدين دفعت به الأقدار إلى ماخور!

هذه والله صورة ناطقة لأسرة أعرفها ويعرف أمثالها الناس. فمن عرفها فسيقول قصَّر، ومن جهلها فسيقول بالَغ؛ والحق أنها الواقع لا تنقصه إلا تسمية الأسماء وتعيين المنزل.

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌الحد الحاسم

للأستاذ عباس محمود العقاد

من العقول عقل كالرسول الذي تثق بقدميه ولا تثق برأسه: ترسله وتفصل له ما يعمل في كل حالة، فإذا طرأ طارئ لم تُسلف له فيه وصية فلا عمل ولا تصريف حتى يرجع إليك. فالشيء عنده إما معمول بأمر أو متروك بأمر، وإما حسن كما تراه أو قبيح كما تراه، ولا توسط ولا تدرج بين الأمور

ومن العقول عقل كالرسول المفوض: تنبئه بمرادك ثم تكل إليه تحصيله كما يريد، فلا تبيح ولا تمنع، ولا تقسم الأمور كما تراها، بل تدع له أن يقسم ما يشاء حين يشاء

العقل الأول لا غنى له عن الحدود الحاسمة في الكلام؛ فالشيء عنده إما أبيض أو أسود، وإما حلو أو مر، وإما مأخوذ أو متروك؛ ولا يجوز أن يكون مأخوذاً في حال ومتروكا في حال، ولا أن يكون حلواً ومراً في وقت واحد، ولا أن يكون بين البياض والسواد تارة يبيض وتارة يسود على حسب الضياء والظلام، وعلى حسب الموقع الذي تنظر منه إليه

والعقل الثاني لا يتقيد بالحدود الحاسمة ولا يحتاج إليها، لأنه يرى الدرجات بين المسافات، ويرى الظلال بين الألوان، ويرى التشكيلات بين الأشكال

فالشيء عنده لا يكون بعيداً وحسب، ولا قريباً وحسب، وإنما يكون بعيداً بمقدار كذا وقريباً على درجة من القرب مقسومة بين الدرجات؛ وقس على ذلك سائر ما يدركه ويحده ويعيه

ولغات الأمم تبين لنا مقدار نصيبها من العقل المسخر ومن العقل المفوض

فاللغة التي تقل فيها (الظروف) هي اللغة التي قلما يستغني أصحابها عن الحدود الحاسمة والأوامر المفروضة، لأنهم يجهلون الفروق ولا يدركون وجوه الاختلاف، إلا إذا بلغت من الظهور والاتضاح مبلغ النقيض من النقيض، أو مبلغ الشيء المميز بعلامة لا تشتبه بغيرها من العلامات

واللغة التي تكثر فيها الظروف هي لغة العقول المفوضة أو العقول المتصرفة، لأنها تمح الفرق الصغير فلا تقف عند الحد الحاسم الكبير، وتري العمل الواحد على أشكال متعددات، فلا تحصره في شكل واحد محدود محتوم

و (الظرف) في اللغة هو الكفيل بإظهار هذه الفروق الصغيرة، وتقسيم الدرجات بين

ص: 4

المسافات الواسعة. فإذا رأينا (الظروف) في لغة من اللغات فنحن إذن أمام ناس متصرفين غير محدودين، أو أمام عقول تستنبط الفهم من بواطنها ولا تنتظر حتى يقال لها: أفهمي هذا هكذا، وافهمي ذاك على ذاك المثال

وأحسب أن (الظروف) تقل، وأن العقول تعجز عن التصرف لسبب من سببين:

أحدهما طول عهد الاستبداد، فيتعود العقل إملاء الأوامر عليه وإسناد الفرائض إليه، فيصدع بما يؤمر ويطيع ثم لا يتصرف، وينتظر الإرشاد والتسديد في كل خطوة وعند كل طارئ جديد

والثاني نشأة الأمة في بيئة محدودة لم تتشعب فيها مسالك العمران ومذاهب التفكير، فكل ما فيها فروق كبيرة بارزة، ومسافات بعيدة شاسعة، فلا محل فيها للفرق الدقيق ولا للدرجة الصغيرة ولا للمسحة المترددة بين الألوان

وأنت تستطيع أن تفتح (معجم) اللغة من اللغات فتعرف نصيبها من الحرية أو من سعة العمران بتلك العلامة التي لا تخطئ، وهي علامة (الظروف) المصوغة أو التي تسهل صياغتها من الأسماء والأفعال

يضحك الإنسان ضحكة السرور، وضحكة الألم، وضحكة التشفي، وضحكة التهكم، وضحكة الرصانة، وضحكة الطيش، وضحكة المعرفة والحكمة، وضحكة الجهل والبلاهة، وضحكة القوة والعزة، وضحكة المجون والاسترخاء؛ وكله ضحك إذا نظرت إلى اسمه في اللغة. . . فماذا يفيد هذا الاسم إن لم يميزه مميز من الظروف؟

وتقول مثلاً في عنوان مقال أو قصيدة: (شجاعة الجبن) فيفهم العقل المتصرف أو عقل (الظروف) معنى ما تقول

أما العقل المغلق أو عقل الحدود الحاسمة فيعجب حتى يغرب في الضحك ويسخر ممن يلقي إليه بذلك العنوان، لأن المسألة عنده إما شجاعة وإما جبن ولا يلتقيان. وليس في علمه أن الجبن قد يؤدي إلى الإقدام بعض الأحيان، وأن الجبان والشجاع في بعض المواقف سيان

ومن هنا كان استغراب الجامدين لما كانوا ينعتونه (بالتفرنج) من تلك العناوين، وما هو بالتفرنج ولا بالوصف الموقوف على الفرنجة، ولكنه وصف شائع بين جميع العقول التي

ص: 5

بلغت رشدها وخرجت على وصاية (الحدود الحاسمة) أو على وصاية الأسماء والأفعال التي لا تميز بينها الظروف والإضافات

وليس أصعب من إفهام عقل حاسم يتحذلق ويقيم الاعتراضات على ما سمع. فأنت إذا قلت مثلاً: إن النهار مضيء والليل مظلم، فذلك تفريق من أصدق التفريقات بين الأضداد: يسمعه العقل المتصرف فيعلم ما تعنيه لأول وهلة، ويسمعه العقل الحاسم المحدود المتحذلق فيقول لك: كيف؟ إن النور الكهربائي يضيء بعض الحجرات بالليل، وإن الستائر لتلقى الظلام على بعض الحجرات بالنهار! وقس على ذلك أمثال هذه الاعتراضات وما تنم عليه من الضيق والعجز وقلة التصرف والتواء التفكير

وإلا فانك إذا أردت أن تمنع ذلك الاعتراض وأشباهه فقد وجب عليك أن تقول: إن النهار مضيء والليل مظلم، ثم تتبع هذا التفريق بإحصاء جميع الحجرات التي تحجبها الستائر والنوافذ وجميع الحجرات التي تضيئها المصابيح الكهربائية وغير الكهربائية، وتعود فتقول: إن النهار مضيء والليل مظلم ماعدا حجرة في بيت زيد في طريق كذا في مدينة كيت وكيت بمصر بالقارة الإفريقية، وهكذا حتى تستوفي بيان جميع الحجرات في جميع الطرقات في جميع المدائن في جميع الأقطار. فإن لم تذهب إلى هذا التفصيل فأقل ما في الأمر أن تعمد إلى استثناء لا حاجة إليه ولا مزيد فيه

فما الذي يدعو العقل المحدود إلى أشباه ذلك الاعتراض؟ أَدقة في فهم؟ كلا! بل عجز عن إدراك الحدود بغير إملاء حاسم وعجز عن طلب المعرفة يشغله بالقشور عن اللباب وبالتوافه عن مهام الأمور

وهنا ينبعث لنا من التمثيل مثل آخر للتفريق بين العقل المتصرف المفوض والعقل الحاسم المسخر

فهل من الضروري أن يلجأ العقل المتصرف إلى التفريقات والظروف في تعبيراته؟

وهل إذا قال القائل: (إن النهار مضيء والليل مظلم) نحسبه من أصحاب اللغات الغنية التي يتكلمها المتصرفون أو من أصحاب اللغات الفقيرة التي يتكلمها المحدودون المغلقون؟

الجواب هنا ينفع فيه التصرف المطلق، ولا ينفع فيه الحسم المغلق!

الجواب هنا أن ذلك القائل يكون من المتصرفين إذا قدر أن سامعيه لا يعترضون على ذلك

ص: 6

الاعتراض السخيف ولا يطالبونه ببيان الحجرات في جميع البيوت والطرقات والأمصار والقارات، أو باستثناء هو وذلك على حد سواء. فإذا هو سكت بعد تفريقه الموجز فسكوته خير من الإفاضة والتشعيب

وأنه يكون من المحدودين إذا قال: (إن النهار مضيء والليل مظلم) ثم سكت عن المزيد لأنه يجهل مواقع الاستثناء كما يجهلها سامعوه

فالتصرف لازم في جميع التفريقات حتى التفريق بين المتصرفين والمحدودين

ومن ثم نستطيع أن نقول: إن (الظروف) والتفريقات تكثر في اللغات الغنية، ثم نرى أن أصحاب تلك اللغات قد يستغنون عن الظروف والتفريقات ويعرفون كيف يستغنون عنها ومتى يحسن الاستغناء؛ فلا نعجل بالاعتراض ولا نحسب أننا متناقضون، لأن التصرف خليق أن ينفي هذا التناقض الظاهر عن أذهاننا وأن يغنينا عن الإسهاب حيث لا حاجة إلى إسهاب

ساقني إلى موضوع الحد الحاسم رأيٌ في علاقة الأدب والديمقراطية قرأته في كتاب (لونارد وولف) المسمى بعد الطوفان، وسأعود إليه ببعض الشرح والتعليق في غير هذا المقال

وخلاصة رأيه أن الشعراء والقاصين كانوا يرسمون للناس قبل القرن السابع عشر نماذج من طوائف وجماعات. أما بعد القرن السابع عشر وانتشار الديمقراطية فأبطال القصص (أفراد) مستقلة قلما تتكرر في غمار السواد، وليست نماذج من طبقة أو طائفة أو قبيل

وعلاقة الديمقراطية بهذا في رأي (لونارد وولف) ومن يجارونه أن المساواة قد خولت الفرد حربة الظهور فبرزت الخصائص واستحقت من الشعراء والكتاب عناية لم تكن تستحقها حين كان الجمهور أرقاماً متكررة على نموذج واحد، أو حين كان النبلاء طرازاً مرسوم المراسم لا يختلف فيه إنسان عن إنسان

رأي جميل لا شك في صدقه واحتوائه للكثير من الأصول والملاحظات ودلالته على سعة المعرفة وحسن التحليل والتعليل

ولكن ما نصيب ذلك الرأي لو وقع للمحدودين من أصحاب الحدود الحاسمة ومن جماعة المطالبين بتعداد الحجرات إذا قيل إن النهار ضياء والليل ظلام؟

ص: 7

فقبل القرن السابع عشر رسم شكسبير بطله (هملت) وهو ولا ريب (فرد) بين أمراء جميع الأزمان وليس بالنموذج المتكرر في طبقة الأمراء

وقبل القرن الأول رسم هومير أبطاله الفرسان وهم مختلفون اختلاف أفراد لا اختلاف نماذج

فأين يذهب رأي وولف الجميل لو صدمناه باعتراضات شتى على هذه الوتيرة؟

يذهب إلى حيث نخسره ويخسره النقد وميزان الآداب، لأن وصف الشخوص بعد القرن السابع عشر قد اختلف وكانت لاختلافه علاقة بالديمقراطية ما في ذلك مراء. وعلينا نحن أن (نتصرف) في التفريق بين أجزاء ذلك الرأي فنضيف إلى ميزان الأدب صنجة تعين على الضبط والتمييز. أما إذا أبطلنا الرأي وعطلناه حتى يعود لنا وولف ببيان الحجرات المضيئة في الليل والحجرات المظلمة في النهار فنحن الخاسرون لأننا نجهل مواقع التدقيق لا لأننا نعرف التدقيق في نقد الآراء

الحد الحاسم أو العقل المحدود هو آفة الجامدين الكبرى، وهو علة الركود في آدابنا وفنوننا، ولكننا نتغلب عليه ونروض عقباته، ولا نستدل على ذلك بشيء أدل من زهدنا في الجدل (البيزنطي) عاماً بعد عام

عباس محمود العقاد

ص: 8

‌كلمة موجزة

المتنبي

أبو تمام، الوزن، القافية، التجديد

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

في (العمدة) لابن رشيق: ثم جاء أبو الطيّب فملأ الدنيا، وشغل الناس

في (المثل السائر) لابن الأثير: وقفتُ على أشعار الشعراء قديمها وحديثها فلم أجد أجمع من ديوان أبي تمام وأبي الطيب للمعاني الدقيقة، ولا أكثر استخراجاً منهما للطيف الأغراض والمقاصد

في (خزانة الأدب) للبغدادي: المتنبي سريع الهجوم على المعاني

في (شذرات الذهب) لابن العماد: ليس في العالم أشعر من المتنبي أبداً، وأما مثله فقليل

قلت ذات مرة للعربيّ الألمعيّ الأستاذ (رياض الصلح) - وقد ذكرنا المتنبي وأبا تمام -: إن الأول كان يحلق في سماء الشعر بمعانيه، وإن الثاني كان يغوص في بحره على لآليه، فقال: قِفْ. إذن، المتنبي (طيارة). . . وأبو تمام (غواصة). . .

ولقد جاء الذي شغل الناس، والذي هو دهره من رواة قلائده بما جاء به وهو من تلك القافية وذاك الوزن في سجن. ولولا هذان لأسمعك (أحمد) من القريض - الذي هو أعجب، وأراك ما هو آنق ممّا رأيتَ وأغرب. ولولا هذان لجوّدَت الأيام أيّما تجويد تسطيرَ ما أملي فلم يقل:

ولم تُحسنِ الأيام تكتبُ ما أملي

رُبَّ ما لا يُعبّر (الشعر) عنه

والذي يُضمرُ الفؤادُ، اعتقادُهْ

وما قيّد الشعرَ العربيّ إلا قوافيه، وما قصَّرَ خطواته في ميادين الشؤون إلاّ تلكم الأوزانُ (البدويّة) وإلاّ هي؛ والقافية في أكثر الأحايين هي القائلة لا القائل، والوزن هو الوازن لا شعور الشاعر؛ فأكثر الشعر ليس لأهله لكنه للوزن أو للقافية. . . إنه مما أتى، مما وُجد. . . ليس هو مما قُصِد. . . وكائنْ في الضمائرِ من معانٍ باهراتٍ مدهشات قد غيبتها القوافي!

وإذا كان ذلك القديم الكريم الموروث قد كفى في شيء فثمّةَ أشياءُ لم يستقلَّ بها، والرغائب

ص: 9

والمطالب في (الحضارة) في كل وقت جمّة

ولولا أنّ عبقرّيةً منتخيةً قويّة عند المتنبي قد أنكرت الجرْيَ على أساليب القوم أو بعض أساليبهم،

إذا كان مَدْحٌ فالنسيبُ المقدَّمُ

أكلُّ فصيح قال شعراً متّيم؟

وأرادت أن تحرر ربّها لأقام (الكندي) دهرَه من تُبّاع (الطائي) يأخذ بأخذه فلا يجاريه، ويكدّ روحه في أن يصوغَ كما يصوغُ فلا يساويه؛ وحبيبٌ في صَوْغِهِ وغَوْصِهِ لا يلحق. (أراد المتنبي أن يسلك مسلك أبي تمام فقصرت عنه خطاه، ولم يعطه الشعر من قياده ما أعطاه) وقّلما ضارع كبيرٌ مقلِّدٌ عظيماً مقلَّدا

ولم يستطع المتنبي - على تبريزه وارتقائه - أن يزحزح حبيباً عن مكانته، وما قدر إلا أن يقعد في عرش الشعر معه. وليس بقليل أن يقتطع من ملك حبيب ما اقتطع، ويختلج من رعاياه من اختلج. فالناس بعدهما في كل زمان حزبان: متنبيّ، وتماميّ، لكن جماعة (أحمد) أكثر عدداً، و (للحبيب) شيعة به مغرمون

وقد قالوا: أبو تمام عند الخاصة أشعر، والمتنبي أشعر عند العامة. وما أنصف المتنبي هؤلاء القائلون. إن في (السيفيات والكافوريات والعضديات) وغيرهن لآيات بينات، وإن فيهن لسحرا. وإذا كان لأبي تمام عشر قصائد علا بهن علوّاً كبيراً، فان للمتنبي قدّامهن خمسين قصيدة أو أكثر من ذلك. وقد يقول قائل - وفي قوله حق - إن طول الأجل وقصره قد أعطيا ومنعا، فلم يعمَّر (حبيب) ما عمِّر (أحمد)

وكان شيوخ ابن خلدون يرون - كما قال - أن نظم المتنبي والمعري ليس هو من الشعر في شيء - الله أكبر! - لأنهما لم يجريا على أساليب العرب

وكلام هؤلاء الشيوخ (شفاهم الله، وشفى ناقل قولهم معهم) ليس بشيء إلا شيئاً لا يُعبأ به؛ فأساليب العرب متنوعة مختلفة، وليس هناك أسلوب أوحد؛ ولكل قبيل طريقة، وللبدوي بلاغة، وللحضري بلاغة، وللإقليم أو المكان، وللخليقة والمزاج أثرٌ وسلطان؛ ولكل عصر أو قَرن زيّ ولحن. و (أحسنُ الكلام ما شاكل الزمان) والدنيا في تبدّل مستمر، (وأحوال العالم لا تدوم على وتيرة واحدة، ومنهاج مستقر) ولكل نابغة نهجٌ معلوم

فتنكّبُ المتنبي عما تنكّب عنه، وسلوكه السبيل الذي سلكه ما ضاراه بل ظاهراه في إبداعه

ص: 10

ونبوغه، وكان ذلك على هذه اللغة من نِعمِ الله. فتحرَّرَ (ابن الحسين) من تقليده، ومشى مشيَ المُدِلّ المستقل في تجديده؛ والمقلد عبْد، ولا يرضى بالعبودية حرّ؛ والتقليدُ عدم، والاستقلال كون، وشَعَرَ المتنبي ذاك الشعر، وأظهر (أحمد) معجزه

ولي فيك ما لم يقل قائل

وما لم يسر قمر حيث سارا

ورأت العربية أكبر شاعر، وظهر في العرب شاعرهم

ودع كل صوت غير صوتي فإنني

أنا الصائح المحكّي والآخر الصدى

وما الدهر إلا من رواة قلائدي

إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا

فسار به من لا يسير مشمرا

وغنى به من لا يغني مغرّدا

محمد إسعاف النشاشيبي

ص: 11

‌قصة واقعة

للأستاذ على الطنطاوي

(أغارت سيول هائلة ليلتي 24 - 25 أكتوبر على حارستا والمعظمية والضمير من أكبر قرى دمشق الشمالية، فخربتها ولم تدع في الضمير حجراً على حجر، وقتلت الناس بالمئات وتركت من تركت بلا مأوى ولا مال. . .)

كانت (منطرة)(سعد الخطار) أعلى منطرة في (دوما)، وكانت تطل على كروم دوما الواسعة والسهول التي تليها ممتدة إلى ثنيّة العقاب التي انحدر منها خالد مَقْدَمه من العراق في طريقه إلى اليرموك ساحة الشرف الخالد، وتشرف من هناك على جنان الغوطة تلوح من ورائها دمشق جنة الأرض أقدم مدن العالم، يرى خيالها حيال الأفق بمآذنها التي لا يحصيها عدّ، ومسجدها العظيم تتوّج هامته قبة النسر الباذخة المشمخرة، والمنائر السامقة العالية، ويرى منها قاسيون الحبيب، وهاتيك الجبال. . . وكان سعد الخطار سيد شباب الضمير، وأشدهم أسراً، وأجرأهم جناناً، وأقواهم ساعداً. اشتغل منذ عشر سنين ناطوراً في كروم دوما، فعرف فيها بالشدة والبأس، فتجنب الناس كرْمه وابتعد عنه اللصوص والطرّاء. وكان يجول المساء في أنحاء الكرم أو ينزل إلى البلد، وخيزرانه في يده، فيجتمع النساء في طريقه ينظرن بإعجاب إلى قامته المديدة، وصدره الواسع، وأكتافه العريضة، وشاربيه الأسودين المعقوفين؛ ولكن سعداً كان مع هذه الشدة وهذا البطش رقيق العاطفة، مرهف الحس، يحمل بين جوانحه قلب شاعر شاعر. . .

كان عصر اليوم الخامس والعشرين من أكتوبر سنة 1937 وكانت السماء متلبدة بالغيوم، والأمطار ترش رشاً خفيفاً، والدنيا مظلمة ترى كأنها في ساعة الغروب، وكان سعد في منطرته ينظر إلى الكرم الواسع الذي حرسه الصيف كله، وكان موقَرا بالثمر تبدو عناقيده الحمر والبيض من خلال الورق الأخضر كأنها عقود اللؤلؤ والياقوت، يمتد إلى حيث لا يدرك البصر حافلا بالحياة، فرآه قد اصفرت أوراقه وعطل من الثمر وعاجله الخريف فذوت أوراقه واسّاقطت تطير مع الريح؛ ورأى أشجار المشمش التي كان يبصرها دائماً عن يمين الكرم خضراء زاهية، قد تجردت ولم يبق عليها إلا أوراق صفراء جافة؛ ثم هبت رياح باردة من رياح الخريف فلفحت وجه سعد، وحملت هذه الأوراق الذاوية فألقتها

ص: 12

في منطرته فكان يسمع لوقعها تحت المطر صوتاً حزيناً مؤلماً، فشعر سعد بالأسى يملأ قلبه. . . سيضطر غداً إلى فراق هذه المنطرة الحبيبة، وهذا الكرم الذي ثابر على حراسته عشر سنين وتعلقت حياته به، وانتثر قلبه في أرجائه، فأصبح جزءاً من حياته وقطعة من نفسه، لا غنى له عنه، ولا حياة له بدونه. . . لقد ملأوا أمس آخر صندوق (سحارة) من العنب جمعوه من بقايا العناقيد ولم يبق في الكرم ما يحرسه، فشعر كأنه يفارق ولداً عزيزاً عليه، قد رباه وتعهده بالعناية ثم فقده. . . أو لم يرافق الكرم وهو لا يزال حصرما؟ أو لم يتعهده حتى نضج وأينع؟ أو لم يشاهد التجار كل مساء وهم يأتون ومعهم العمال بالعشرات يملأون صناديق (سحاحير) العنب، وهم يغنون ويصيحون ويترعون الفضاء أنساً؟ كم بين هذا المشهد وبين مشهدهم أمس وهم يملأون آخر (سحارة) صامتين تلوح على وجوههم إمارات الحزن والكآبة؟ لم يستطع سعد أن يراهم على هذه الحال فانسل إلى منطرته ووضع رأسه بين يديه يفكر حزيناً ملتاعاً. . .

جلس سعد يتأمل هذا المشهد ذاهلاً غائباً عن نفسه والمطر يشتد ويقوى، والماء ينفذ من سقف المنطرة، وكان سقفها من ورق الكرم الجاف، ويبلل رأسه وثيابه لا يحس به ولا يحفله لأنه ابن البر وصديق الطبيعة، ولأنه كان ذاهلاً عن نفسه لم يصح حتى أسدل الليل ثوبه الأسود على الدنيا فغيب تحته هذه المشاهد كلها. . . صحا سعد فنفض الماء عن شعره وثيابه، ونشر خيمته فوق رأسه لتمنع عنه المطر، وأوقد مصباحه الألماني الذي يظهر للسائرين في هذا المرقب العالي كأنه نجم من نجوم السماء. . . وجلس يفكر. . .

ذهب به الفكر إلى بعيد. فذكر حين جاء هذه المنطرة مع عمه وابنة عمه ليلى، وكان ذلك قبل أحد عشر عاماً. لقد كان في السادسة عشرة، وكانت هي في التاسعة من عمرها، وكان عمه ناطور الكرم يحرسه منذ ثلاثين سنة، وهو الذي بنى هذه المنطرة وأعاد بناءها أكثر من عشرين مرّة إذ كانت تهدمها الرياح والأمطار والسيول. لقد تصوّر عمه بقامته العالية وجسمه المتين وظهره الذي انحنى قليلا تحت أعباء الزمان، ولحيته البيضاء. . . لقد كان عمه قوياً شجاعاً وكان سعد يعجب به كثيراً كما كان يحب ابنته ليلى. . . أحبها منذ كانت طفلة ولكنه لم يكن يعرف أنه يحبها، ولم تكن كلمة الحب دائرة على ألسنة القرويين، بل كان من العار على الشاب أن يذكرها لفتاة. . . لم يكن يعرف أنه يحبها ولكنه لم يكن

ص: 13

يستطيع أن يبتعد عنها أو أن يمرّ عليه يوم لا يراها فيه؛ وإذا هو لقيها وذهب معها يلعب أو يرعى العنزات أو يسوق البقرة إلى المزرعة أو يملأ الجزّة من العين، إذا كان معها ينسى الدنيا كلّها ولا يفكر في شيء. . .

ذكر حين جاء هذه المنطرة أول مرة مع عمه وابنة عمه ليلى وحين تركه عمه مع ليلى لينزل إلى دمشق، وأوصاه بأن يعتني بها، ويحرس الكرم. . .

- لقد صرت شاباً يا سعد. كن عاقلا وشجاعاً. لا تدع ليلى تنزل في الليل من المنطرة. إذا رأيت وحشاً أو سارقاً فأطلق عليه النار. لا تخف من شيء. . . هذه هي البندقية. . .

وذهب عمه، وهو يتبعه بصره. فلما غاب عن عينيه أحس سعد بأنه غدا منذ تلك اللحظة رجلا، وأنه هو حامي ليلى، وحارس الكرم، وأنه يستطيع أن يطلق النار من البندقية كما كان يفعل عمه تماماً، وتمنى من كل قلبه أن يرى وحشاً أو لصاً ليري ليلى شجاعته ورجولته، ولكنه لم ير شيئاً.

ذكر كيف قضى الليل مع ليلى، وكانت ليلة قمراء رخيّة النسيم لطيفة. فتحدثا وتبادلا النكات، وأحس بلذة لا تشبهها لذة، ولكنه لم يمسها بيده، ولم يذكر لها كلمة الحب لأن الشرف والأمانة كانت شعار الشباب في تلك الأيام، وليلى ابنة عمه وعرضه ائتمنه عمه عليها، والله شاهد عليه. . .

وقفز به الفكر إلى بلده الضمير، وقد كبرت ليلى وحجبت عنه فلم يعد يراها إلا على العين أو في الحقل؛ ولم يكن يمنعه الحجاب من رؤيتها لأنه حجاب شرعي يظهر الوجه والكفين ويستر كل شيء، لا كحجاب المدن الذي يستر الوجه بغشاء رقيق يزيده فتنة وجمالا ثم يكشف العنق والصدر والساق وما فوق الساق، ويظهر الكف والساعد. . . فكان يحدثها ويصحبها في الطريق؛ ولم يكن بينهما سوء، لأنها خطيبته المسماة عليه منذ كانا صغيرين. . . فهي له، ولم يجرؤ شاب في القرية على خطبتها احتراماً لسعد، وخوفاً من بطشه. . .

ومرت في ذهنه صورة العرس وحفلاته، ووفود القرى المجاورة والولائم العامة في الساحات والطرق، و (الدبكات) والأهازيج. . . مرت في ذهنه مراً سريعاً، فأبصرها حية قريبة كأنما كانت أمس، وقد كانت منذ سبع سنين لم ير فيها من زوجته ليلى إلا ما يعجبه يرضيه. ولم تغضبه مرة واحدة. كانت تحيا من أجله، تهيئ له الطعام وترتب الدار،

ص: 14

وتنتظره حتى يجيء من عمله. فإذا جاء رآها قائمة وراء الباب منتظرة فقبلت يده، ثم أعانته في نزع ثيابه، وصبت على يديه الماء حتى يتوضأ ويغسل رأسه ووجهه بالصابون، ثم قدمت إليه الطعام، ولم تدخر وسعاً في تسليته وإيناسه. وإذا كان كئيباً أو مهموماً رفهت عنه وواسته. وأضاق مرة ولحقه الدائنون حتى هددوه بالسجن من أجل عشرين ليرة، فلم يشعر إلا وزوجته تقدمها إليه زاعمة أنها قد وفرتها من نفقات المنزل، فصدقها ووفى دينه؛ ثم علم بعد أنها باعت حليّها التي لا تملك غيرها. . .

كانت مثال الزوجة الشرقية المسلمة التي تعيش لبيتها وزوجها وتتخذه سيداً لها؛ وكان هو مثال الزوج الوفي الصالح الذي يشتغل ويحيا لزوجته وبيته، ليس له سهرة ولا خليلة ولا عادة من العادات السيئة التي تذهب الأموال وتشقي العيال. . .

ثم ذهب الفكر بسعد إلى ولده، ولده الوحيد يسار، فهاجه الشوق إليه، وبرّح به الحنين إلى بيته، وغلب على حبِّه لهذه الأرض وتعلقه بها. وكان الليل قد انتصف ولم يذق سعد مناماً فنهض ورفع طرف الخيمة فنظر فإذا السماء صافية قد انقشعت عنها الغيوم، وطلع القمر من وراء الأفق هلالاً ضعيفاً يلقي على الدنيا نوراً كابياً، فرأى الكرم أسود مظلماً فعاوده الحنين إليه والحزن على فراقه؛ وكانت منزلة الكرم من نفسه كمنزلة زوجته وولده، بل كانت هذه المنطرة أحب إليه من بيته. وجعل يتأمل الكرم فامتلأ قلبه أسى؛ وذكر ليلى ويساراً فأزمع الرحيل ولكنه اضطر إلى انتظار الفجر، ولبث صامتاً فغلب عليه النعاس فأغفى إغفاءة قصيرة ثم نهض مذعوراً يرتجف. لقد رأى حلماً مرعباً فتعوذ بالله وسأله أن يحرس زوجه وولده، ولم يطق البقاء فقام يجمع أمتعته - وما أمتعته إلا فراش ولحاف وبساط وخيمة وصندوق صغير فيه قدر وأطباق وإبريق للشاي - ويلقى على المنطرة النظرة الأخيرة كأنه يريد أن يثبت صورتها في نفسه، وأن يودع ما فيها من ذكريات لذة هي أعز ما يملك في حياته، ثم نزل إلى دابته والفجر يهم بالانبثاق. . .

راقه سكون الليل وجمال الفجر وهذه الكروم الواسعة التي استيقظت وتسربت إليها خيوط النور من ناحية الشرق فأضاءت صفحتها، فاشتد به الحنين إلى زوجته وولده، وشعر أن حبه لهما قد نما في هذه الساعة وازداد وطغى على نفسه، فجعل يتصور حركاتهما وسكناتهما، وكيف يخرجان لاستقباله، وكيف يتعلق به يسار فيرفعه إلى وجهه ويقبله؛

ص: 15

ورنت في أذنيه كلمة (بابا) حلوة مستحبة، وشعر بعالم من الحب والعطف والوئام يغمره، حتى أحس بنفسه يطير على متن الهواء في حلم فاتن لذيذ، فانطلق يغني شتى الأغاني القديمة وصوته العذب القوي يشق السكون ويوقظ الطبيعة، فتجاوبه الديكة من الكروم المجاورة بزقائها، والعصافير بسقسقتها الحلوة

أشرف على البلد ضحى، فتأمل الفضاء فلم يبصر شيئا، أين البلد؟ هل أخطأ الطريق؟ أم هو لا يزال بعيداً عن البلد؟ لقد نظر حوله وأنعم النظر فلم يشك أنه حيال البلد. لقد سلك هذا الطريق مئات المرات، ويستطيع أن يسلكه مغمض العينين، فكيف يخطئ أو يضل؟ لا شك أنه على صواب، وأنه قد وصل، ولكن أين البلد؟ وأحسّ سعد كأنه قد بدأ يجنّ. أتختفي بلد برمتها أيها الناس؟

ودنا حتى وصل البلد، فلم يجد إلا أكواماً من التراب مبتلة عليها آثار الماء، تتخللها برك مالها من آخر، وحجارة منثورة في البادية نثرا، فجن جنونه، وانطلق يصيح: ليلى! ليلى! يسار! يسار! ليلى. . . ويهم شارداً على وجهه، يدور بلا وعي، وإذا بشيخ مسنّ من حكماء القرية يهتف به ثم يأخذه من يده، فيتبعه سعد صاغراً، حتى يجلسا على كومة من هذه الأكوام. . .

- هذه حال الدنيا يا بني. . . إن لله حكمة لا يعلمها أحد، فلنصبر ولنرض بالواقع، الحمد لله على كل حال. . .

- ولكن ماذا جرى يا عم؟ أين ليلى، أين ابني يسار؟

- هذا قضاء الله يا بني. لقد كنت نائماً ليلة أمس فسمعت ضجة في الطريق ولغطاً، فخرجت فإذا الناس مجتمعون، وعلى وجوههم إمارات الذعر الشديد، وهم يصغون في خوف شديد ورعب بيّن، إلى صوت عجيب آت من بعيد، فأصغيت فإذا صوت عميق مستمر لا ينقطع، فجزعنا ولم ندر ما هو؟ فقائل إنها ريح، ولكنه ليس بصوت ريح، وقائل هو من أصوات الجن، وقائل إنه رعد، وما هو كذلك، فوقفنا وتهيأنا للنضال، وحملنا السلاح، وكان الصوت مستمراً ولكنه جعل يقوى. . . ويقترب حتى تبينا فيه هدير الماء. . . إنه السيل! السيل! وطارت هذه الكلمة على الأفواه، فأسرع قوم إلى بيوت القرية العالية، يحسبونه سيلاً كالذي عرفوا من السيل، لا يبلغ هذه البيوت؛ وخاف قوم فأسرعوا إلى

ص: 16

الجبل، وقد أعجلهم الخوف فلم يأخذوا معهم غطاء ولا وطاء، وكنت ممنّ أم الجبل

- وليلى؟ وليلى ويسار؟

- لقد بقوا في البلد. . . اسمع يا بني، إنها لم تكن إلا ربع ساعة حتى بدا الهول، نعوذ بالله. . . لقد أقبل سيل علوّه أكثر من أربعين مترا، يتكسر ويقذف بالصخور والحجارة والأشجار فغمر أعلى بيت في المدينة، واختلط هديره العاتي بصراخ النساء وصياح الأطفال وأصوات الشباب. . .

- وليلى ويسار؟

وانحنى سعد على قدمي الشيخ يقبلهما بجنون ويصرخ:

- وليلى ويسار؟ أرجوك يا عم خبرني عن ليلى ويسار؟

قال الشيخ:

- لا حول ولا قوة إلا بالله. . . لقد أصبح الصباح وليس في المدينة حجر على حجر، ولم يبق ممن كان فيها أحد. لقد وجدت الجثث طافية على وجه البرك وغارقة في الوحل ومطمورة بالأنقاض، وجثث حملها معه السيل إلى بحيرة العتيبة، ولم ينج إلا من كان على الجبل، بقى بلا مأوى ولا مال. . .

- وليلى ويسار؟ وليلى ويسار؟

ووثب سعد هائماً على وجهه يصرخ وينادي:

لقد جنّ (سعد الخطار) حزناً على ليلى ويسار!

(بيروت)

علي الطنطاوي

ص: 17

‌التشريع والقضاء

في العهد الفرعوني

للأستاذ عطية مصطفى مشرفة

- 4 -

أما الزواج عندهم فكن نوعين: زواج مدني تكتسب فيه الزوجة بالشراء، وكان شبيهه في روما الزواج المعروف باسم الذي كان خاصاً بالعامة؛ وزواج ديني يعقد على يد أحد الكهنة، وكان يقابله عند الرومان الذي كان قاصراً على الأشراف. وكان المتبع أن يحصل الزواج المدني قبل الزواج الديني الذي يقوم بعقده أحد رجال الدين؛ فكان الزواج بذلك يتم أولا على حسب الأصول القانونية المدنية بطريق الشراء ثم يحصل الزواج الديني بعد ذلك

وكان ينص في عقد الزواج على العلاقة المالية بين الزوجين؛ وكان هذا الاتفاق المكتوب في صلب عقد الزواج لا يخرج عن طريق من ثلاث: أولها أن يفصل مال الزوجة عن مال الزوج، وفي هذه الحالة يكون للزوجة أن تتصرف في مالها دون إجازة زوجها. ثانيهما أن يخصص بعض أو كل أموال الزوجة لمساعدة الزوج للقيام بالإنفاق على الأسرة، وفي هذه الحالة يجب على الزوج ردها بعينها إذا كانت عقاراً أو ردها بقيمها المبينة في صلب عقد الزواج إذا كانت منقولا. وثالثها أن يشترك الزوجان في بعض الأموال أو كلها. وسمح القانون للزوجة بأن تشترط في عقد الزواج أيضاً أن يدفع لها الزوج مبلغاً معينا كغرامة ونفقة لها إذا طلقها الزوج فأعطى لها حق الرهن العام على جميع أموال زوجها ضماناً لما يكون لها من الحقوق عليه. فلما جاء بوخوريس في القرن الثامن قبل الميلاد وضع القوانين التي تعتبر بحق أًصل التشريع الحديث وأعطاه صبغة مدنية بعد أن كانت ذات صبغة دينية. ولقد تأثر بوخوريس عند وضعه شرائعه بقوانين حلفائه الآشوريين والكلدانيين فأخذ عن الكلدانيين مبدأ التعاقد بالكتابة، فبعد أن كان العقد يتم عند قدماء المصريين قبل بوخوريس بقسم وبحضور شهود أصبح لا يجوز إثبات حق مدعي به إذا أنكره المدين إلا إذا ثبت بدليل كتابي، وبذلك أصبح زوال الدين مرهوناً بإعطاء سنده. ثم أوجب تسجيل العقود عند كاتب التسجيل في سجلات مخصوصة نظير رسم معين فأصبح من السهل على

ص: 18

أي شخص إثبات صحة سنده

أخذ بوخوريس أيضاً عن الكلدانيين المشتغلين بالتجارة نظام الفوائد فحددها وحرم أن تزيد الفائدة السنوية على ثلث رأس المال، كما حرم أيضاً زيادة الفائدة على ضعف أصل الدين مهما طالت المدة. وحرم بوخوريس الربح المركب، وحرم إكراه المدين الجثماني، وأبطل استرقاق المدين عند عدم الوفاء، وجعل التنفيذ قاصراً على أموال المدين دون شخصه

أما في الأموال فقد اعترف بوخوريس بالملكية العقارية للأفراد بعد أن كان لهم فقط حق الاستغلال دون حق الرقبة؛ وبذلك أباح بتشريعه هذا حق التصرف في الأراضي بعقود عرفية، وبذلك أصبحت تلك الأراضي ضامنة لتعهدات الأشخاص عند عدم وفاء الدين بعد أن كان ضمان الدائن قبل ذلك جثة والد المدين؛ وكان إذا لم يقم المدين بوفاء دينه قبل موته يحرم من ميزة الدفن وحفلاته

أما في الإيجار فقد رتب بوخوريس على عقده أن تصبح جميع أموال المستأجر مرهونة رهناً عاماً لوفاء الأجر المتفق عليه. وألغى بوخوريس الزواج الديني الذي كان يتم على يد الكاهن وأصبح الزواج مدنياً، واكتفى بالرضا فيه ليتم كباقي العقود. وكان للذكر مثل حظ الأنثى في الميراث. وكان لا يجوز للرجل أن يتزوج بأكثر من زوجة. وجعل بوخوريس حق الرهن العام الذي للزوجة على أموال زوجها يتم بقوة القانون دون حاجة للنص عليه في صلب عقد الزواج كما كان متبعاً قبل ذلك

من ذلك نعلم أن اصطلاحات بوخوريس التشريعية شملت الأموال والأحوال الشخصية والالتزامات، وبذلك أوجد للمصريين قانوناً عادلاً للتجارة والمعاملة. ويؤسفنا أن نقول: إن هذه الاصطلاحات التشريعية التي قام بها هذا الملك لم تبق طويلاً لأنه فقد عرشه بعد نحو سبع سنوات فاستولى الأثيوبيون على مصر وأسسوا بها الأسرة الخامسة بعد العشرين. وكان أول عمل لهم أن أبطلوا العمل بشرائع بوخوريس وألغوا الملكية الفردية العقارية ومنحوها للإله آمن؛ وبذا اقتصرت ملكية الأفراد على حق الاستغلال دون الرقبة، وسمح لهم بأن يتصرفوا داخل دائرة أسرتهم فقط وبعد موافقة كهنة آمن لهذا التصرف في مقايضة أرض بأرض. ولما ظهر الملك أمازيس أو أحمس الثاني - وهو من ملوك الأسرة السادسة بعد العشرين - حتم على كل مصري أن يثبت في آخر كل سنة اسمه ولقبه وصناعته

ص: 19

وسبل تعيشه في سجل وضع خصيصاً لهذا الأمر في محكمة الجهة القاطن بها؛ وهذا النظام المبني على تقسيم العمل وارتباط المصري بمكان نشأته كان سبباً في تماسك أفراد الأمة ورقيها اجتماعياً واقتصادياً وصناعياً. وكان عاملاً قوياً في توزيع الفلاحين على الأراضي الزراعية

تأثرت شريعة أمازيس بالشريعة الإسرائيلية بعض الشيء فأخذت جزءاً كبيراً من مبادئها عن اليهود الماليين الذين كانوا مقيمين بمصر إذ ذاك

أرجع أمازيس العمل بقانون بوخوريس فأباح لأصحاب الأراضي حق التصرف التام في أراضيهم بأن أعطاهم حق ملكيتها التامة ثم أرجع مبدأ ثبوت العقود بالكتابة واحتفظ بحد الفوائد القانونية التي قررها تشريع بوخوريس، وجعل الالتزام بعقد ملزم لطرف واحد، وأدخل طريقة الإشهاد في الميزان في سائر العقود الناقلة للملكية وفيها البيع، فكانت تطبق على المنقولات الجامدة، المراد نقل ملكيتها، وعلى المنقولات الحية كالحيوانات والعبيد كما طبقت على العقارات لصبغة شكلية كما كانت تطبق أيضاً في التبني، وكان يجب لإتمام العقد من وجود ميزان وقطعة من النحاس والعين المراد نقل ملكيتها، فيحضر طرفا العقد والشهود، وهنا يمسك المشتري بالعين المراد نقل ملكيتها مقرراً أنه اشتراها بالثمن المقدر بالميزان، ثم يضرب الميزان بقطعة النحاس مشيراً بذلك إلى وزن الثمن. لذلك كان الميزان يستخدم لغرضين: أولهما وزن العين، وثانيهما وزن الثمن؛ وكان يحرر بهذه الإجراءات عقد كتابي

وكان يطبق في الزواج إجراءات الإشهاد بالميزان؛ وكان الزواج يتم بطريق الشراء، إلا أن الزواج الديني لم يلغ بتولي أمازيس، إذ ركن إليه نفر من المصريين المتعبدين. وبذلك بقى الزواج الديني أيضاً بجانب الزواج المدني في حكم أمازيس ردحاً من الزمن

ولقد فقدت الزوجة المركز الممتاز الذي كان لها في القانون القديم وقانون بوخوريس إذ أصبحت في قانون أمازيس هي وأموالها ملكا للزوج تحت تأثير الشريعة اليهودية. من هذا نرى أن أمازيس قد هذب القوانين المصرية وأفرغها بعد أن نقح قوانين بوخوريس في مجموعة سميت بمجموعة قوانين أمازيس سنة 554 ق. م

وفي عهد الأسرة الثامنة بعد العشرين تولى الملك أمرنوت أو أمرنوس أو نفيريت واستمر

ص: 20

فيه حتى سنة 399 ق. م فأمر بتشكيل لجنة لتعديل مجموعة شرائع بوخوريس وتنقيحها فأدخلت اللجنة عليها التعديلات الآتية: وهي أن جعلت سريان الفوائد تبتدئ من يوم حلول ميعاد الدفع، واعترفت بعقد الرهن (الغاروقة) الذي فيه يعطي المدين عقاره للدائن يستغله وينتفع به لنفسه لحين تمام وفاء الدين. وقد استمر العمل بهذه المجموعة المعدلة بمصر أثناء المدة الباقية من العهد الفرعوني. أما قوانين قدماء المصريين الجنائية فقد صاغوها في مواد كفلت لهم استتاب الأمن واطمئنان الشعب وقطع دابر البطالة ومنع الغش والتدليس إلى غير ذلك؛ وذلك بالضرب على أيدي المفسدين ومعاقبة المجرمين بالعقاب الرادع الزاجر، فكانوا يحكمون بالإعدام بقطع الرأس أو بالشنق على كل من يحلف يميناً كاذبة أمام المحاكم، وعلى كل من يقتل نفساً عمداً بغير حق مع سبق الإصرار سواء أكان المجني عليه حراً أم عبداً، وعلى كل من رأى إنساناً يشرف على الهلاك وكان في مقدوره أن ينجيه ولم يفعل، وعلى كل من قدر على تخليص المقتول من القاتل أو القتلة بدون حق ولم يخلصه، وعلى كل من ظهر أنه يعيش بطريق غير شرعي

وكان يحكم بالعذاب ثم بالحرق حياً على كل من يقتل أحد أبويه عمداً، فتقطع أصابعه أولا ثم يحرق. وكان الحكم لا ينفذ على الحبلى حتى تضع حملها لئلا يعاقب الطفل البريء، وبذلك سنوا لنا حكمة أن العقاب قاصر على المجرم لا يتعداه إلى غيره

وكانوا يبيحون إقامة الحدود على الأموات كما تقام على الأحياء فيمنعون من أتى جرماً ومات قبل تنفيذ الحكم عليه من الدفن مع الاحترام

وكانوا يحكمون بالجلد على كل من سب غيره أو وشى به. وكان جزاء الآباء والأمهات الذين يقتلون أولادهم ذكوراً كانوا أم إناثاً معانقة الجثة والبقاء بجانبها ثلاثة أيام بلياليها تحت رقابة الحراس العموميين

وكانوا يحكمون بسل لسان من يهدي عدواً مهاجماً إلى السبل أو يطلعه على أسرار وطنه ومواضع الضعف فيه. وكانوا يقطعون يد من يطفف الميزان والكيل، أو من يزيف النقود، أو يقلد خاتم الأهالي والسلطان، أو يزور في العقود العرفية أو الأوراق الرسمية. وكانوا يقصرون العقوبة على العضو الذي قام بعمل الجريمة

وكان يشَهَّر على رؤوس الأشهاد بكل ولد لم يقم بالإنفاق على أبويه العاجزين عن الكسب،

ص: 21

وليس للولد على الوالدين مثل ذلك. ويحكم بالتشهير أيضاً على كل جندي فر يوم الزحف أمام العدو، وعلى كل من لا ينفذ أوامر رؤسائه. وكان لمن حكم بتجريده من شرفه وفضيحته أن يسترد شرفه واعتباره، وبذلك تنمحي العقوبة نهائياً إذا قام بأعمال مجيدة بعد ذلك لوطنه في ميدان القتال

وكان عقوبة كل من به عاهة تمنعه من إنقاذ شخص قتله آخرون أمامه ولم يبلغ الجهات المختصة عن الجريمة ومرتكبيها منع الطعام عنه ثلاثة أيام وجلده. وكان يحكم بهاتين العقوبتين معاً أيضاً على كل من كلف بالإرشاد عن قطاع الطرق وتسليمهم للمحكمة ولم يفعل ذلك. وكان يحكم على المدعي بالباطل على غيره بنفس الحكم الذي يحكم به على المتهم لو صحت الجريمة. وكان يحكم على كل من حلف من المتهمين أو الشهود بالإله آمن وبالملك بأن يقول الصدق ولم يقله بجدع الأنف وصلْم الأذنين وبالنفي في أثيوبيا أو إلى ما وراء حدود المملكة

وكان لآمُنْ أن يحكم بفقدان الشرف وما يترتب عليه الحرمان من الوظائف العامة

(تم البحث)

عطية مصطفى مشرفة

ص: 22

‌أبو الفرج الببغاء

للأستاذ عبد العظيم علي قناوي

- 3 -

لأبي الفرج الببغاء في أحاديث الطيف ومناجاة الخيال شعر أفعم حسنا وجودة وعذوبة وحلاوة، ومعان ملئت جمالاً وروعة وصفاء ورقة؛ حتى لكأني به قصد إلى أن يميل ذوي الصبوة والهوى إلى وصال طيف الحبيب ورسمه لا شخصه وجسمه، فهو يعلمهم كيف يتسلون بمناجاة القلوب عن مداعبة المحبوب، ويدعوهم مفتنا إلى هذا اللون من الوصال الذي لم يدعهم إليه قبله أحد في مثل رشيق تعليله وبديع تصريفه وعجيب لعبه بالخيال وجميل استلهامه المعاني، فمن ذلك قوله:

علمت طيفك إسعافي فما هجعت

عيناي إلا وطيف منك يطرقني

فكيف أشكر من إن نمت واصلني

بالطيف منه وإن لم أغف قاطعني؟

فمن من العشاق المولهين لا يرقب أن يسعده ذلك الطيف الطارق، ولا يشتري الكرى بكل ما يملك إذا علم أنه لا سبيل سواه إلى الوصال، وهو داعية المتعة بالحسن والجمال، وإن الغفوة نهزة رسول الحبيب، ينتهزها ليشفي بها حر الوجيب؟ وأين من هذا قول ابن المعتز في مثل هذا المعنى وهو ملك الشعر ولاسيما في هذا الضرب:

شفاني الخيال بلا حمدة

وأبدلني الوصل من صده

وكم نومة ليَ قوَّادة

تقرب حِبي على بعده

وإنها لجفوة جافية - لا نعرفها في ابن المعتز - ألا يحمد من يشفيه، وألا يستحق شكره مبعوث حبيبه المصطفيه، وينسب ذلك إلى نومة قوادة لا تستأهل حمداً، ولا يستجيز لها أحد شكراً، لأنها أتت شيئاً نكراً لا أظن ابن المعتز يستميحه لنفسه في اليقظة، فكيف يستملحه في الغفوة؟ ولو أنه قال:

وكم نومة لي مزدانة

بوصل حبيبي على بعده

لكان - فيما أرى - أكثر توفيقاً وأنبل خيالاً وأعف لفظاً وأكرم حباً. ومما قاله أبو الفرج في الطيف أيضاً:

يا طيف من أنا عبده من أين لي

شكر يقوم ببعض ما توليه

ص: 23

ينأى فتدنيه إليَّ على النوى

فأراه كالتحقيق في التشبيه

ما كان أحسن حالتي لو أن ما

أوتيت من كرم وعطف فيه

ولا يساورني شك في أن هذه الأبيات أروع خيالاً وأسطع في معناها جمالاً من أبيات تحاكيها للبحتري قال:

طيف الحبيب ألمَّ من عُدَوائه

وبعيد موقع أرضه وسمائه

يهدي السلام، وفي اهتداء خياله

من بعده عَجَب وفي إهدائه

لو زار في غير الكرى لشفاك من

خبل الغرام ومن جوى برحائه

الحق أن ديباجة أبيات البحتري ناصعة مجلوة، ونسجها مجمل مفوف، ولكني مع هذا أرى العجب العاجب من عَجَب البحتري لاهتداء خيال محبوبه إليه من بعيد عدوائه ونائي صحرائه وإهدائه السلام إليه. فكيف يكون حبيباً من يضل محبة طيفه مهما نأى عنه جسمه؟ ومن هو أولى من المحب المستهام بإهداء السلام؟ ولعل خبل الغرام هو موحي ذلك الخيال، وإلا فمن يجحد حتى غير العشاق - أن الأرواح تتناجى وتتواصل، والقلوب تتآلف فتتراسل؛ سواء في ذلك تباعدت الأجسام أو تقاربت، وتناءت الأبدان أو تدانت؛ فتلك حقيقة لا سبيل إلى نكرانها. وهلا قال كما قال أستاذه أبو تمام:

استزارته فكرتي في المنام

فأتاني في خيفة واكتتام

فالليالي أحفى بقلبي إذا ما

جرعته النوى من الأيام

يا لها ليلة تنزهت الأر

واح فيها سراً من الأجسام

مجلس لم يكن لنا فيه عيب

غير أنا في دعوة الأحلام

واستمع إلى هذا العتب الحلو العبارة، الرقيق الإشارة، والاستعطاف البارع اللطيف يكشف به لحبيبه عن غرام ويستوحيه فيه وصله، إذ يريه أن خياله أعظم به رأفة وطيفه أكثر عليه عطفاً، إذ يواصله في غفوة العيون؛ ولو أنه وجد سبيلا إلى المواصلة في اليقظة وعلى مسمع الرقباء لفعل؛ لحظره عليه السِّنة ومنعه عنه النوم، قال:

خيالك منك أعرف بالغرام

وأرْأف بالمحب المستهام

فلو يستطيع حين حظرت نومي

عليّ لزار في غير المنام

ومن غزله العذب ووصفه الدقيق الممتع قوله:

ص: 24

يا من تشابه منه الخَلق والخُلق

فما تسافر إلا نحوه الحدق

توريد دمعي من خديك مختلس

وسقم جسمي من جفنيك مسترق

لم يبق لي رمق أشكو هواك به

وإنما يتشكى من به رمق

ومثله قول أبي فراس الحمداني، وكأني بهما ينهلان من معين واحد، أو أن أبا الفرج جرى في ميدانه لما أعجبه حسن بيانه؛ وما من عابٍ عليه أن يسير على نهج أبي فراس، فهو في الشعراء ملك وفي العلياء فلك، قال:

وشادن قال لي لما رأى سقمي

وضعف جسمي والدمع الذي انسجما

أخذت دمعك من خدي وجسمك من

خصري وسقمك من طرفي الذي سقما

وترى أن بيتي أبي فراس أنضر معنى وأوفر حسناً، وأجزل رقة وأجمل دقة من أبيات أبي الفرج، وإن كلمة تسافر لنابية في مكانها، قلقة في موضعها، لأن الحدق لا يسافر، وإنما هو ينتقل أو يتحول، كما أن السقم لا يسترق إلا إذا كان مسترقه يسعى إلى حتفه بظلفه كما يقولون

ولو أنا أردنا لغزله العنيف استقصاء، ولنسيبه الطريف إحصاء، لطال بنا الشوط وما بلغنا الغاية؛ فلنختم غزله بأبيات بعث بها إلى حبيب رمدت عيناه فأبدع أيما إبداع في الأسى لأساه ووصف حمرة عيني حبيبه، وهي تلك التي تقذى لرؤيتها العيون، وتتأذى من النظر إليها الأبصار وصفاً جعلها مما يسعد لرؤيتها الطرف، وصورها تصويراً تطمئن له النفس، قال:

بنفسي ما يشكوه مَن راح طرفه

ونرجسُه مما دهى حسنه ورد

أراقت دمي ظلماً محاسن وجهه

فأضحى وفي عينيه آثاره تبدو

غدت عينه كالخد حتى كأنما

سقى عينه من ماء توريده الخد

لئن أصبحت رمداء مقلة مالكي

لقد طالما استشفت بها أعين رمد

والوصف في شعر أبي الفرج له المقام الأول، فجل فنون شعره يحليها الوصف، وتنتظم التشبيهات الدقيقة الخلابة، والأوصاف البارعة الجذابة؛ وإن وصفه ليبلغ ذروة الإجادة والإحسان، ويصل إلى منتهى الجمال والجلال عندما يصف الحرب، أو ما يتصل بها من حشد الكتائب وتسيير الجحافل؛ وقد عرفنا أن طبيعة كل امرئ أن يحسن فيما يحبه، وأن

ص: 25

يجيد القول فيما يرغبه، فلعلَّ أبا الفرج كان من رجال الحرب وأبطالها. أصخ إليه يصف جيش سيف الدولة، فإنه ليصك الآذان بريح الحرب تدوي في قصيده، فقصف الرعد وزمزمته دون صهيل الخيول، ووميض البرق ولمعانه لا يبلغان بريق السيوف، وحوافر الخيل أهلة ونجوم تنافس ذكاء، تلك تضيء في السماء، وهذه تتطاير رجوماً للأعداء، وعين الشمس قد طرفها بعثيره ولكنها احتملته وجعلت منه إثمداً تحتكل به وتستشفى؛ كل ذلك في ألفاظ جزلة وعبارات ضخمة، وطبع قوي، وخيال سري؛ لا ينال من جماله ناقد، ولا يحط من جلاله حاقد، قال:

قاد الجياد إلى الجياد عوابساً

شُعثاً ولولا بأسه لم تنقد

في جحفل كالسيل أو كالليل أو

كالقطر صافح موج بحر مزبد

متوقد الجنبات يعتنق القنا

فيه اعتناق تواصل وتودد

مثعنجر بظبا الصوارم مبرق

تحت الغبار وبالصواهل مرعد

رد الظلام على الضحى فاسترجع ال

إظلام من ليل العجاح الأربد

وكأنما نقشت حوافر خيله

للناطرين أهلة في الحلمد

وكأن طرف الشمس مطروف وقد

جعل الغبار له مكان الإثمد

وهذه أبيات من قصيدة أخرى يمدح بها أبا شجاع فاتك بن يانس، ويصف فيها إحدى وقائعه الحربية التي خلدتها هذه القصيدة بما جاء فيها من تشبيه رائع، ووصف جامع. وأي خلود لموقعة انقلب نهارها ليلاً غاسقاً، لا يكشف حلكته إلا كر الفرسان في الميدان ومبادلة الضراب والطعان، بأسياف لامعة، وصوارم بارقة قاطعة، حتى استحال البر بحراً بما سال في جنباته من دماء الشجعان، ورأى الأعداء أن الفرار رمز الانتصار، وأن أعظم فروسية يعتز بها أن يستطيعوا إعطاء الجياد القياد، لا أن يثبتوا للجلاد والذياد. قال:

واليوم من غسق العجاجة ليلة

والكر يخرق سجفها الممدودا

وعلى الصفاح من الكفاح وصدقه

روع أحال بياضها توريدا

والطعن يغتصب الجياد شياتها

والضرب يقدح في التريك وقودا

وعلى النفوس من الحمام طلائع

والخوف ينشد صبرها المفقودا

وقد استحال البر بحراً والضحى

ليلا ومنخرق الفضاء حديدا

ص: 26

وأجل ما عند الفوارس حثها

في طاعة الهرب الجياد القودا

حتى إذا ما فارق الرأي الهوى

وغدا اليقين على الظنون شهيدا

لم يغن غير أبي شجاع والعلا

عنه تناجى النصر والتأييدا

وتكفينا في وصف الحرب هاتان القطعتان فهما تغنيان عن قصائد وتبينان عما له في الوصف الحربي من قدم راسخة وأخيلة سامية؛ ولنعرض لأشياء أخرى وصفها فأجاد، فمن ذلك قوله يصف فرساً:

إن لاح قلت: أدُمية أم هيكل؟

أو عنَّ قلت: أسابح أم أجدل

تتخاذل الألحاظ في إدراكه

ويحار فيه الناظر المتأمل

فكأنه في اللطف فهم ثاقب

وكأنه في الحسن حظ مقبل

وهو من أجود ما وصفت به الجياد، ومن أحسن ما استحدث في تشبيهها بالفهم الثاقب والحظ المقبل، كما أنه أتى في وصف سرعتها بما لم يأت به الكثير ممن وصفوها قبله؛ فأي سرعة تلك التي تتخاذل الألحاظ دون إدراكها، ويحار الطرف المتأمل في معرفة كنهها؟ ومن قصيدة له في وصف النرجس وهي من خير ما قيل فيه:

ونرجس لم يعد مبيضه ال

كأس ولا أصفره الراحا

تخال أقحاف لجين حوت

من أصفر العسجد أقداحا

كأنما تهدِي التحايا به

لطفاً إلى الأرواح أرواحا

يلهى عن الورد إذا مارنا

ويخلف المسك إذا فاحا

أحبب به من زائر راحل

عوض بالأحزان أفراحا

فانتهز الفرصة في قربه

وكن إلى اللذات مرتاحا

وله يصف الورد، وقد ألمَّ في الأبيات بوصف مجلس الأنس فأبدع في الغرضين، وفوق فأصاب في الرميتين، وأتى بأنواع من البديع أزهر من أزهار الربيع، فأشرقت ديباجة شعره عن در منضود وأسفرت عن جوهر منظوم قال:

زمن الورد أظرف الأزمان

وأوان الربيع خير أوان

أدرك النرجس الجني وفزنا

منهما بالخدود والأجفان

أشرف الزهر زار في أشرف الده

ر فَصِلْ فيه أشرف الإخوان

ص: 27

واجلُ شمس العقار في يد بدر ال

حسن يخدمك منهما النيران

وأدرها عذراء وانتهز الإم

كان من قبل عائق الإمكان

وقال يصف قدحاً أزرق قد صورت عليه تهاويل ورسم عليه نقوش وتصارير، تحسده عليها كؤوس لم تنل ما نال من زينة منحته شعراً خالداً:

كم منة للظلام في عنقي

بجمع شمل وضم معتنق

وكم صباح للراح أسلمني

من فلق ساطع إلى فلق

فعاطنيها بكراً مشعشعة

كأنها في صفائها خلقى

في أزرق كالهواء يخرقه اللح

ظ وإن كان غير منخرق

كأن أجزاءه مركبة

حسناً ولطفاً من زرقة الحدق

مازلت منه منادماً لعباً

مذ أسكرتها الشفاه لم تفق

تختال قبل المزاج في أزرق ال

فجر وبعد المزاج في الشفق

تغرق في أبحر المدام فيسْ

تنقذها شربنا من الغرق

فلو ترى راحتي وزرقته

من صبغها في معصفر شرق

لخلت أن الهواء لاطفني

بالشمس في قطعة من الأفق

وحسبنا من وصفه الممتع ما قدمناه ففيه صورة رائعة له، ورسم صادق لشعره، يملأ النفس روعة وإعجاباً. وإلى عدد تال نذكر أمثلة لبقية أغراض شعره ونماذج من نثره إن شاء الله

عبد العظيم علي قناوي

ص: 28

‌مقالات إسماعيلية

لأستاذ جليل

حلّ برَقّادَةَ المسيحُ

حل بها آدم ونوحُ

حل بها (الله) ذو المعالي

وكلُّ شيء سواه ريحُ

هذا (مَعَدٌّ) والخلائق كلُّها

هذا (المعزّ) متوَّجاً والدينُ

هذا ضميرُ النشأة الأولى التي

بدأ الإلهُ، وغيبُها المكنونُ

من أجل هذا قُدِّر المقدور في

أمّ الكتاب، وكُوِّن التكوينُ

فارزقْ عبادَك منك فضل شفاعة

واقربْ بهم زلفى فأنت مكين

هذا ما وُعِدَه العالمون والمتعلمون المثقَّفون قرّاءُ (الرسالة الهادية) من (المقالات الإسماعيلية)، وإن الناس منذ الأزمنة القديمة ليتطلعون إلى علْمِ نحلة القوم، وإن الباحثين في الشرق والغرب ليجدّون مفتشين منقبين في كل وقت عن تلك المقالات لينشروها، إذ أنّ أهلها في القديم والحديث قد خبؤوها وكتموها - ويا ليت شعري أيّان يريدون أن يعلنوها؟ - ولم تفدنا كتب (الملل والنحل) لمثل الشهرستاني والأشعري وابن حزم والبغدادي والتصانيف في (مفاضح الباطنية) لمثل الغزالي وابن تيمية - إلا نُتَفاً نُتِشت من مكنونات الجماعة نتشاً. وليس هناك كتاب معروف مطبوع ظاهر ألَمّ بمذهب (الإسماعيليين) إلا (رسائل إخوان الصفاء) فإن فيها خلاصة الإسماعيلية ملفوفة بإسلامية لَفَّ ماكر داه، وهي الإسماعيلية، هي الباطنية، وهم الدهاة دعاتها!

وقد توَّه ما فيها علماءً متعمقين كأبي حيان التوحيدي وشيخه أبي سليمان السجستاني وغيرهم في المتقدمين، وحيّر حاذقين ألمعيين من المتأخرين من أعجميين وعربيين مثل (بارييه دومينار) والدكتور طه حسين. ولولا أن الأمر استعجم عليهم ما قال أبو حيان وشيخه مثل الذي رواه القفطي في كتابه (إخبار العلماء بأخبار الحكماء)، وما كان الدكتور طه حسين سطر في (مقدمته) لتلك الرسائل ما سطر، ولم يكتب دومينار إلى الأستاذ أحمد زكي رحمه الله ذلك الكتاب. وإذا كان أمثال هؤلاء البارعين النحارير قد حاروا ودير بهم (فهم في أمرٍ مَريج) فكيف حال من هم دونهم؟

والقصد من هذا الكلام أن (مقالة) الجماعة - وإن ضمتها تلك الرسائل المطبوعة المنشورة

ص: 29

- لم تنفك مستورة محجوبة.

وقد قال لي منذ بضع سنين (الدكتور حسين الهمداني) - وهو من شيعة الدعوة القديمة للإسماعيلية - إنه قد اطلع على مائة مخطوطة من كتب القوم منها (زهر المعاني) الذي أخذ بمؤلَّفه فيه درجة (الدكتوراه) من جامعة في لندن، وأنه عازم على نشرها أو نشر طائفة منها. أفنقول - ولم تحقق تلك الأمنية المتمناة -:(وحِيل بينهم وبين ما يشتهون) أم نرتقب تلك الكتب في المرتقبين؟

إذا ضنّ الأضنّاء بالضنائن ولم تصل أيدينا إلى تلك الخبايا في المخادع والزوايا، فليس لنا إلا غزو الغازين من الغربيين، والغازي - وإن كان قوياً - يُغزى. . . والناهب - يا أخا العرب - يُنهب. . .

وكنت إذا قومٌ غزوني غزوتهم

فهل أنا في ذيّاك (همدانُ) ظالم

وقد قلت لإسلاميتي (الصحيحة) وعربيتي - وأنا أنسج ما ستتلوه -: قفا واسمعا ولا تتكلما. لا تجادلا ولا تناقشا، فليس المقام مقام جدَل، ولا عدْل ميَل، فالمقالات - والنّية هذه - تحكى كما وجدت، وتعطى كما أخذت؛ وإن وجد الخطأ اللغوي لا يُصلح، وإن جاء تصحيف أو تحريف في كلمة أو جملة - حاشا الآيات القرآنية - يُستبْق، وليس لديّ نسخة ثانية حتى أرجع إليها. ورب إبقاء على شيء خير من تغييره، والقارئ الفهِم لا تخفي عليه الكلمة محرفة ولا تستبهم. ولن يصدنا ذلك عن تعليق أو حاشية

ولو قلنا لأصحاب لنا أدباءَ فاضلين من (الحاكمية) و (الإسماعيلية) في بر الشام ممن لا يعبدون (العَدَم) وقد عبَد الأجداد والآباء (العبيديين) وإن كانوا هم - أي الأبناء المثقفون - بعبادتهم كافرين. فلو قلنا لهم: أَطلِعونا يا جماعة على رسائلكم حتى نعارض (نقابل) هذه (المقالات) بها ونصلحها لقالوا: ما عندنا ولا نعرفها، وأنا مسلمون؛ وإنها لديهم، وإنهم يعرفونها، ولكن المتشيطنين يكتمون. . .

ولم يكن في المقالات هذا المسمى بعلامات الترقيم - إلا في اثنتين - فرأيت وضعه حتى لا تقتحم العين الصفحة قد التصق بعضُ عباراتها ببعض فكدّ البصر، وما هذا الصنع بأمر نكر

وقدرُ هذه (المقالات) عظيم. ومن عرف نحلة القوم أو ألمّ بها أدرك مما يتلوه مما نمليه ما

ص: 30

لا يدركه غير العارف؛ ولو درى شيئاً من اصطلاحات الباطنية الذين قالوا تائهين ضالين ما قالوه في (رسائل إخوان الصفاء) ما جاءوا خابطي عشوة، وصاروا في عصر البحث والتحقيق ضحكة. ومن قذف بمقال لا ينصره نص ولا يسانده دليل، فهو هذِر، وكلامه هدَر. . .

واعلم أن هذه الإسماعيلية لم تظهر فيها حتى اليوم كتب قديمة تبين كيفية بدئها وحقيقة حالها تبييناً صحيحاً موضحاً شافياً، ولم يهد بحث الباحثين في هذا الزمن إلى شيء من ذلك

قلت مرة لعالم عاقل إسماعيلي: دعْ قول الإسماعيلية في أصلها ودع حديث خصمها، فهل أوصلك تحقيقك الناقد، وتفتيشك المدقق، إلى مصدرها الصحيح ومنبعها؟

فقال: لا

فنحن من نشوء هذه النحلة في ظلمات بعضها فوق بعض. ولعل كتباً قديمة تنجم فتضيء هذا الليل المظلم. ورب علماء محققين لا يجتزئون بالقريب المعروف، بل يمشون أقوياء أشداء صابرين في فلوات البحث فيصلون إلى (عين المعرفة)؛ وربّ غوَاصين يغوصون في بحور البحث والتنقيب غوْصات إثر غوصات فيخرجون لنا شيئاً. ولن يجيء بالدر إلا الغواصون الماهرون

فصل في مناجاة المعز لدين الله

قال هذه:

(إلهي) كنت رتقك، قبل أن تظهر فيّ بفتقك، وأوجدت عني خلقك، وصدرت عني دنياك في الذات والأسماء والصفات. ولست أنا بك متصلا، ولا عنك منفصلا، إذ أنا بك تبعيض، وأنا راجع إليك عند النقلة والتفويض. انقلْ الصورة كيف تشاء، وأعط النور الإلهي لمن تشاء بما قدمت أيديهم ولا نضْم مثقال ذرة. (إلهي) أني كما أنت عظيم في سلطانك، وأنا قدرتك وبرهانك، وإرادتك ومكانك. (إلهي) بمعرفة بي استجبْ وسلمْ وأشرقْ ألوانك، وأني وجدتك بعد أن عرفتني التلاقي، واتلف واضمحل. (إلهي) وأُفني من جهلك، وفاز وبقي من عرفني بالبداية وفضّلك. (إلهي) أترى يعرفك سواك، ويدنو منك إلا إياك، أم يعدو إليك من خرج عن طاعتك، وطاعة حدودك وأوليائك. إلهي بك استدللت ومنك وصلت وإليك (إلهي) ليس غيري لك حجاب، فكيف الوصول إليك من غير باب، فأنا منك بحيث النهوض

ص: 31

والنهمة، وأنت أنا بحيث أنا القدرة والعظمة، وحيث أنا بك خلقت أولياءك، وبدعت ملائكتك وأنبياءك، فلما عرفتك كنت ذلك، إذ ليس يعرفك سواك، ويدنو منك إلا إياك، باتصالك بحدودك وأوليائك. (إلهي) إن كثرت الأشخاص، فهي أنت بلا اختصاص، وأنا منك بديت، لأني بحدودك اهتديت؛ إن عرشك عليه استويت. (إلهي) أوجدتني منك في ظاهر الأمر بصفة كانت الموجودات على دفعة واحدة، فأنت بي باطناً وأنا بك ظاهراً. (إلهي) ظهرت الموجودات كلها بي، واخترعت مني كل رسول ونبي، وأنا ابن لك وأنت أبي. أنا منك كالفيض، وشراقه وليف فليس الفيض غير الفيض، فقد غاب، واضمحل كلما في النار وذاب. (إلهي) رامت رؤساء الجهل وأهل العمى والضلال وذوي الإنكار والجحود، وأنهم خرجوا من العدم إلى الوجود، وهم في العدم. يا (إلهي) وصلت إليك، ومنك دخلت عليك، فأنا قدرتك الظاهرة، وعني ظهرت آياتك الباهرة. إلهي حقني ابتلاؤك، لأنها حلاوة رضائك، فنفسي منك وإليك انتهت. (إلهي) ظهرت للخلق حتى يعرفوك من حدودك فحجبتهم عنك لما زادوني إنكارك، وذلك أنهم ضلوا في التكبير عن أبيهم، فلم يجدوا لهم مرشداً أبداً يهديهم، فأظهروك بي لأني أنت، وكوني بك ظاهر، وأنت فيّ حاضر. (إلهي) أنا الكرسي والمكان، والوقت والزمان، وأنا منشئ المثقلات، وأنا بك عالم ما يكون وما كان. (إلهي) أنا اسمك وموجود اسمك، وأنا البشير إليك، والدالّ عليك، والدالّ على من دالّ عليك، فمن تمسك بحدودك نجا، والصورة معادة ورآء ليس دونك حجاب غيره فقصده لا بلاء سواك بأوحد ولا لك اسم سواي فيستطاع ويعبل، وأنا صاحب البقاء، وعلى ذات النطقاء، وأنا فيّ النطق. (إلهي) قصرت لذاتك إنكار الباحثين إذ لم يقصدوا لحجابك، وأحجبتهم عن معرفتك إذ لم يدخلوا إليك من بابك، فهلكوا لما أنكروا لكلمتك، وتاهوا لما عجزوا عن معرفتك. (إلهي) أنت ذاتي ونفسي، ومعدني وقدسي، ونطقي وأنسي، ألا ففيَّ اختفيت فأشرقت، وبي اقتربت فأبرقت. أنا نظرتك بكلمتك الإلهية، وكلمتك القدسية، وذاتك الأبدية، والذات الأزلية الكلية، ونورك، وبي ظهورك، بك ظهرت وبي نهيت وأمرت، فمن عرفني فقد نزهك، ومن اتصل إليك بحدودي (فقد عرفك) فقد عرفتك أنا غيري فتكون أعدادك، ولا أنت غيري فتكون أفرادك. أنا كنت فيك رتقاً، وفيّ ذلك حقاً، فأطلقتني ولم تفصلني في وجودي. أرجوك تعيد ووقت تطلب فتقصد، فأنا منك كضوء

ص: 32

السراج من السراج، بلا تبعيض ولا إمزاج. (إلهي) صدق المستجيب لما قال لأبيه، إلهي منك بديت، وإلى معرفتك اهتديت، وإليك توجهت، وإليك تبت، وبك منك إليك سعيت، ولو فرطت فيك لاضمحللت وتلاشيت، ولو اقتديت بغيرك أشركت وتعديت في طاعتي لك فعرفت ودركت (إلهي) كادت نفسي لعظيم امتحانك أن تجهل وتخْفَى كنه علمك وتكفر حتى ألقت عنانها بجودة من نور معرفتك، فجذِبت وتلطف قداراتها بضوء من علمك فمسكت فيه بعد ما كنت جحْت وتبتُ عندما سليت بنعمتك فتهدت بعد (أن) كانت جحدت فأورثها الثبات بالنعيم المقيم والنجاة من العذاب. (إلهي) عجزت المقصرون بنظرهم إليك وقالوا لا يجوز الصفة أن تدرك الصانع، فلو علموا أني بك استقرارهم، وأن تصديقهم هو إنكارهم. (إلهي) هل يعرفك من ليس منك ويتفكر إنما هو أنت محال. (إلهي) لم لم لا تنقل الصورة بما لا تريد، بل في وقت تريد، فلولا نظرك إليها بالمشاكلة لأُفقدَت، ولولا تعطفك بالمناسبة لأُبْعِدتْ. (إلهي) لقد خاب من أنكر معرفة نفسه منك، ولقد ظلم من لم يعرفك بك، وهو بك ظهر، وبي حجابك وفي حجابك استتر، وأنت الناظر بلا حركة. (إلهي) تناهوا الجاهلون في طلب معرفة حدودك وطلبوها معرفة في تيجان الملوك، فلما نظروا حدودك، نكروك. (إلهي) ناجتك المحقون وقالوا يا مبدع الأحد، من غير عدد، تختلف الأعداد بك، بقدرة منك، دعوناك فالذي عرفك منك إليك، عاد إليك. (إلهي) تحيرت العقول عند طلبتك، أتاهت الأبصار في رؤيتك. (إلهي) قالوا الجاهلون في معرفتك وما تُبَيّن فلا عرفوا، (إلهي) لقد غاب من نادى سواك، ومن عرفك بحقيقة المعرفة تيقن أنك دائم، ومن أفضل الغنائم. (إلهي) ظهرت لهم فوق المنائر، فتوهموا أنهم حصلوك بالعناصر، فأثبتوا التشبيه والتمثيل، وعدموا التنزيه والتحصيل. (إلهي) عجزوا عن إثبات النفر ولم يعلموا ما حقيقة العيان من الخبر، فالنظر حجاب عنك لا لك، والمنظور أنت به لا (هو) فيك. (إلهي) من قال إنه لا يعرفك، فقد عدمك، ومن عبدك، من غير حدودك، فقد حال إلى غائب معدوم، فأنا الذي لا تدركه الأبصار، وأنا أدرك الأبصار، وأنا اللطيف الخبير، فاللطيف الخبير، صورني بالصورة المرئية، التي هي الحدود العلوية. (إلهي) بوجود معرفتك اهتديت، وبعّدت المعصرين عنك تباركت وتعاليت. (إلهي) كنت أنت والمكان، لأن المكان هو إشارة بالفيض وتكرير الفكر بإحضار المكان، والمكان هو المركز هو الدال عليك. (إلهي) كلما

ص: 33

ظهرت عني صورة فظهّرتها أبدع على أولها اخفيّا لأنقلها عني (وأنا فعال لما أريد)

هذه الأولى من (المقالات الإسماعيلية) والباقيات في الأعداد الآتيات من (الرسالة)

(قارئ)

ص: 34

‌الفلسفة الشرقية

بحوث تحليلية

للدكتور محمد غلاب

أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين

- 28 -

الفلسفة الصينية

العصر المنهجي - كونفيشيوس

مذهبه

صدر (كونفيشيوس) في فلسفة النظرية عن نفس النقطة التي صدرت عنها فلسفة عصر ما قبل التاريخ، وفلسفة (لاهو - تسيه)، والتي أشرنا إليها في حينها، وهي نقطة القول بوحدة الوجود التي تفرع عنها نشوء كائن سلبي أو يتأثر عن الكائن الإيجابي المؤثر، ومن اجتماع قولي هذين الكائنين نشأت المادة، وبتأثير النفس على هذه المادة وجدت الكائنات الحية التي بين السماء والأرض

غير أن (كونفيشيوس) تعمق في هذه النقطة وصيرها فلسفية جديرة بالدراسة والتمحيص، إذ أضاف إليها أن جميع جزئيات الطبيعة مشتملة على الانسجام التام الذي هو سر جمالها وتقدمها وصلاحيتها للوجود، وأن هذا الانسجام ليس موجوداً في هذه الكائنات بطريق المصادفة، بل هو تنفيذ لإرادة إلهية مرسومة خطتها في منهج السماء، وأن هذا الانسجام محكم الوضع في جزئيات الطبيعة إلى حد أنه يظهر (ديناميكيا) وأنه هو العلة في تطور الكائنات المادية والظواهر الطبيعية، ولكن كيف ولماذا كان هذا الانسجام علة لذلك التطور؟ لم يجب (كونفيشيوس) على هذا السؤال مطلقاً، لأنه عد البحث فيه فوق طاقة العقل البشري، فوافق في هذه الناحية (لاهو - تسيه) الذي أسلفنا أنه صرح هذا التصريح أيضاً وإن كان لم يكن قد وصل إلى كشف سر هذا الانسجام وأثره العظيم اللذين وفق (كونفيشيوس) إلى كشفهما

ص: 35

على أن المشاهد لدينا هو أن كثيراً من الكائنات تتحرك وتعمل مقودة بالهوى، فلا تنتج هذه الحركات إلا السوء والشر والرذيلة؛ فإذا بحثنا عن علة هذا الانقياد للهوى ألفيناها الحيدة عن هذا الانسجام، فكل خضوع للقانون الطبيعي ينتج الخير والفضيلة والتقدم نحو الكمال، وكل انحراف عن هذا المنهج ينجم عنه الشر والأضطراب، لأن الطبيعة في ذاتها ليس فيها للشر أثر البتة، ولهذا كان أهم واجبات الحكيم هو محاولة رد الانسجام إلى كل جزئية فقدته، فأنتج فقدها إياه الشر والسوء. وعلى أساس هذه النظرية بنى (كونفيشيوس) مذهبه الأخلاقي وأعلن أن الواجب ينحصر في تنفيذ أوامر الطبيعة وتطبيق قوانينها القويمة كما سنشير إلى ذلك فيما بعد.

وعنده أن الإنسان مشتمل على قوتين كالطبيعة سواء بسواء؛ وأن كل الفروق الموجودة بين الأفراد البشرية ناجمة عن تغلب إحدى القوتين على الأخرى، فإذا كانت الغلبة في الإنسان مثلا للقوة الإيجابية المؤثرة، كان ذلك الإنسان حكيما بالمعنى الكامل، وإذا غلبت فيه القوة السلبية كان حكيما عادياً، وهذا النوع الأخير يظل هكذا حتى يتعرض لعواصف الأهواء والشهوات المختلفة، فإذا نجا منها ظل كما كان على الفطرة أي في درجة الحكمة العادية، وإذا غلبه الهوى فحاد به عن صراط الطبيعة السوي نزل من درجة الحكمة العادية إلى درجة العامة الذين يحدثون الشر والسوء

وعنده أن الكمال يتحقق لنوعين من البشر: الأول رجل تبدأ السماء في إلهامه الحقيقة من يوم ميلاده دون مجهود شخصي من جانبه، وهو يحصل في المبدأ على ما يحصل عليه الآخرون في النهاية، وهذا الحكيم الموحى إليه أو (شينج - جين). أما الثاني فهو الحكيم الذي يعمل على كسب الحكمة ببحوثه المتواصلة، ومجهوداته المتتابعة فيحصل على الحقيقة، وبها يصل إلى الكمال، ويسمى هذا الأخير:(كيون - تسيه) وفي هذا الصدد يقول (كونفيشيوس) في كتاب (تايو): (إن البعض يحصلون عليها (أي الحقيقة) عند ميلادهم، أما البعض الآخر فإنهم إما أن يتلقوها عن الغير وإما أن يحصلوا عليها بوساطة مجهوداتهم وأعمالهم الشخصية)

وعنده أن الإنسان الملهم هو ابن السماء الذي يحرس الصراط السوي ويرعاه بفضلها في جميع أحوال الوجود، وهو مشتمل على سر إلهي عظيم. أما الحكيم المكتسب الحكمة

ص: 36

بمجهوداته فهو ابن الأرض الذي حمايته من الهوى والشر موكولة إلى مجهوده الخاص، والذي لا يعتمد في مقاومة ضعفه وفي احتفاظه بانسجامه الطبيعي إلا على نفسه؛ فإذا نجح اقترب من درجة الحكيم الملهم

وعنده أن حكمة وجود الحكيم الموحى إليه هي إذاعة قانون السماء والسهر على تنفيذه وإنقاذ بني الإنسان من الخروج على الصراط السوي، وما ذلك إلى رحمة بهم وإشفاقاً عليهم من الحيدة عن الواجب الذي لا تُنْقَذُ الإنسانية من الدمار والاضطراب إلا بالحرص عليه والاحتفاظ به

مطابقة الأسماء للمسميات، أو التعريفات العامة

لا تزال الأكثرية الغالبة من المثقفين والعلماء في أوروبا تعتقد أن سقراط هو أول حكيم وضع التعريفات العامة كما صرح بذلك أرسطو. وقد كنت أنا أحد أولئك الذين يؤمنون بهذه الفكرة إلى أن درست (كونفيشيوس) في شيء من الدقة، فتبين لي تبيناً يقينياً أن حكماء الصين قد سبقوا حكيم الإغريق إلى هذه الفكرة، وأن لهم فيها نصوصاً قيمة جديرة بالإعجاب، وأن الحكمة التي أعلن سقراط أنها تدفعه إلى هذا التحديد هي نفسها التي وردت في نصوص (كونفيشيوس) وهي الوصول إلى ضبط الأخلاق وتحديد الفضيلة والقبض على الحقيقة عن طريق التطابق المحكم بين الألفاظ والمعاني أو بين الأسماء ومسمياتها، إذ نحن نعلم أن (السوفسطائيين) لم ينجحوا في إفساد الأخلاق العامة في عهد سقراط إلا بوساطة التلاعب بالألفاظ، فلما أراد سقراط أن ينقذ الفضيلة حارب أعداءها بسلاح الدقة والتحديد فتم له ما أراد. وهكذا كان منهج (كونفيشيوس) إذ أيقن أنه لا سبيل إلى تنفيذ الواجب بدقة إلا بوضع جميع الأشياء في نصابها، وأن هذا الوضع لا يتحقق إلا بالتطابق التام بين القوالب ومحتوياتها، أو الألفاظ والمعاني، أو الأسماء والمسميات، وهو في هذا يقول ردّاً على سؤال وجهه إليه أحد تلاميذه قائلا: ماذا كنت تفعل لو أنك عُيِّنْتَ حاكماً على دولة؟ (كنت أبدأ أعمالي بأن أرد إلى كل مسمى اسمه الحقيقي). ولما لم يفهم التلميذ هذا الجواب سأله قائلا: وما معنى هذا؟ فأجاب الفيلسوف بقوله: (إن الحكيم يجب أن يحتاط في تبصر من كل ما لا علم له به، فإذا لم تتفق الأسماء مع مسمياتها بالضبط وقع الخلط في اللغة، وإذا وقع الخلط في اللغة لا ينفذ شيء من أوامر النظام العام، وإذا لم ينفذ شيء من

ص: 37

أوامر النظام العام، أهملت الحشمة واللياقة والانسجام، وإذا أهملت الحشمة واللياقة والانسجام فُقِد توافق العقاب مع الخطأ، وإذا فقد هذا التوافق، أصبح الشعب مضطرباً لا يفرق بين موضع قدميه وموضع يديه. ولهذا يجب على الحكيم أن يضع لكل مسمى اسمه الذي هو له، وأن يعالج كل موجود حسب التعريف الذي وضع له)

ألست ترى معي أيها القارئ أن في هذه النصوص (الكونفيشيوسية) برهاناً ساطعاً على أن حكيم اليونان الأول لم يكن مبدع التعريفات العامة، الجامعة المانعة، ولا أول من قال بالدقة والتحديد؛ ثم ألست توافقني على أن هذه نقطة هامة تضيف إلى ما كشف من مجد الشرق صفحة فخار جديدة، وأنها لهذا جديرة بالعناية والتسجيل كما أن فيها رداً آخر يضاف إلى ردودنا السالفة على أولئك الأذناب المتفيهقين الذين أنكروا على الشرق ميزة التفلسف النظري؟)

مما قدما يتبين أيضاً خطأ بعض الباحثين الأوروبيين الذين سلكوا في مؤلفاتهم سبيل نزع تاج الفلسفة من فوق رأس (كونفيشيوس) وَوَضْعِهِ على رؤوس: (لاهو - تسيه) و (تشوانج - تسيه) و (ميي - تي) وجزموا بأن (كونفيشيوس) لم يكن فيلسوفاً، وإنما كان أخلاقياً، ولم يكن أخلاقياً من النوع العالي، وإنما كان عملياً، بل نفعياً. فأما دعواهم أنه ليس فيلسوفاً فيبطلها ما أسلفناه؛ وأما زعمهم أنه عملي أو نفعي فسندحضه حينما نعرض لدراسة الأخلاق عنده

اعتمد أولئك الباحثون في رميهم (كونفيشيوس) بالخلو من التفلسف النظري على تصريح أثر عنه قال فيه: (إني لم أبتدع شيئاً جديداً، وإنما نقلت تراث الحكماء الأقدمين إلى العصر الذي أعيش فيه). أو (إني لست مساوياً الحكماء، وإنما أنا أحاول التشبه بهم) إلى آخر ما صرح به مما يشبه هذه العبارات ولست أدري كيف يتخذ أولئك الباحثون هذه التصريحات برهاناً على عدم فلسفية (كونفيشيوس) ولا يتخذون أمثالها من كلام سقراط برهاناً على عدم فلسفيته حين نبأته كاهنة (دلفي) بأنه أحكم حكماء الإغريق عامة، فاستكثر ذلك على نفسه وقال:(أنا لست حكيما، ولكني محب للحكمة). فلم عدوا هذا التصريح من جانب سقراط تواضعاً ومن جانب (كونفيشيوس) برهان الخلو من الفلسفة؟؟

نعم إن (كونفيشيوس) أسس مذهبه على نظريات صينية عتيقة ترجع إلى عصر ما قبل

ص: 38

التاريخ، ولكن هل (بارمينيد) و (أمبيدوكل) و (زينون الأكبر) و (فيثاغورس) و (سقراط) و (أفلاطون) و (أرسطو) فعلوا غير هذا؟ بل هل (ديكارت) نفسه - على تبرئه من الماضي - استطاع أن يتخلص من أسس التراث العقلي القديم؟ كلا، ولكن سُحقاً للهوى والسطحية، فإن جميع الأخطار الإنسانية ناشئة منهما أو من أحدهما. أما الذي لاشك فيه بعد كل هذا، فإن (كونفيشيوس) فيلسوف نظري عظيم، وأن جميع الباحثين الأدقاء يضعونه في الصف الأول من صفوف الحكماء، لأنهم يعتمدون في ذلك على مجموعة ماله من أراء فلسفية مبتدعة كما يتطلب النقد الحديث، وإنه أخلاقي من طراز (كاْنت) و (اسبنوزا) وأمثالهما من أجلاء فلاسفة العصور الحديثة

(يتبع)

محمد غلاب

ص: 39

‌للأدب والتاريخ

مصطفى صادق الرافعي

1880 -

1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 13 -

1 -

(إن في الرجل شيئاً ينقذ المرأة منه وإن هلك بحبها، وإن هدمت عيناها من حافاته وجوانبه: فيه الرجولة إذا كان شهماً، وفيه الضمير إذا كان شريفاً، وفيه الدم إذا كان كريماً، فوالذي نفسي بيده لا تعوذ المرأة بشيء من ذلك ساعة تجن عواطفه، وينفر طائر حلمه من صدره، إلا عاذت - والله - بمعاذ يحميها ويعصمها ويمد على طهارتها جناح ملك من الملائكة)

2 -

(. . . ويسرف عليّ بعضها أحياناً فأتلهب عليها في زفرات كمعمة الحريق حين ينطبق مثل الفك من جهنم على مدينة قائمة فيمضغ جدرانها مضغ الخبز اليابس؛ ثم يسرف على حبها أحياناً فينحط قلبي في مثل غمرات الموت وسكراته بتطوح من غمرة إلى غمرة؛ فأنا بين نقمة تفجأ، وبين عافية تتحول، وكأنه لا عمل لي إلا أن أصعد مئة درجة لأهبط مئة درجة. . .!)

3 -

(لقيتها وما أريد الهوى ولا تعمده قلبي، ولا أحسب أن فيها أموراً ستئول مآلها؛ وكنت أظن أن المستحيل قسمان: ما يستحيل وقوعه فلا تفضي إليه، وما يمكن وقوعه فتهمله فلا يفضي إليك، ولكن حين توجد المعجزة تبطل الحيلة؛ ومتى استطردك القدر الذي لا مفر منه، أقبل بك على ما كنت منه تفر)

4 -

(. . . إنها لأبلغ ذات لسان، وأبرع ذات فكر، وأروع ذات نفس؛ ولو كنا سليلي أبوة ما شهدت لها بأكثر من هذا حرفاً، ولو كان دمي من أعدائها ما نقصتها من هذا حرفاً، وعلم الله ما أبغض فيها إلا هذه التي اشهد لها. . .!)

5 -

(. . . دعني أقول لك: إني أبغض من أحبها. . وإن هذا البغض وجه آخر من الحب، كالجرح: ظاهره له ألم وباطنه له ألم!)

ص: 40

6 -

(. . . وكما ينشأ الكفر أحياناً من عمل العقل الإنساني إذا هو تحكم في الدين، يأتي البغض من هذا العقل بعينه إذا هو تحكم في الحب!)

(الرافعي)

شعر وفلسفة، وحب وكبرياء

أترى صوتي يبلغ إليها وهي في مستشفاها بالشام ذاهلة اللب شاردة الخيال ضائعة الأمل مستطارة القلب؟

أم ترى صوتي يبلغ إليه تحت أطباق الثرى وبيننا ستة أشهر من عمر الزمان كأنها من البعد وانفساح المدى سنوات وسنوات؟

إنه ليخيَّل إليّ أن هذا الحديث الذي أكتبه عنها وعنه هو رسالة من الغيب إلى هذه الحبيبة الواجدة المحزونة، من الحبيب الذي أحبها أعنف الحب وأرَّقه وما تراءى لها مع ذلك في عمره الطويل إلا الرجلَ القاسي الذي حطم قلبها بقسوته وكبريائه، ومات وما تلقت رسالته الأخيرة فنفذت روحُه من أقطار السموات لتمليها عليّ وفيها المعذرة والاستغفار. . .

آه لو تدرين كم كان يحبك أيتها الحبيبة!. . فهل كنت. .؟ ولكن. . . ولكن لا سبيل إلى ما فات. . .!

لقد أحبها جهد الحب ومداه، حبا أضل نفسه وشرّد فكره وسلبه القرار؛ ولكنه حب عجيب، ليس فيه حنين الدم إلى الدم، ولكن حنين الحكمة إلى الحكمة، وهفوة الشعر إلى الشعر، وخلوة الروح إلى الروح في مناجاة طويلة كأنها تسبيح وعبادة؛ وأسرف عليه هذا الحب حتى عاد في غمراته خلقاً بلا إرادة، فليس له من دنياه إلا هي، وليس له من نفسه إلا ما تهب له من نفسه!

والرافعي رجل - كان - له ذات وكبرياء؛ فأين يجد من هذا الحب ذاته وكبرياءه؟ هكذا سألته نفسه!

وأحبها أديبة فيلسوفة شاعرة تستطيع أن ترتفع إلى سمائه وتحلق في واديه وله مثل قدرتها على الطيران والتحليق في آفاق الشعر والحكمة والخيال؛ فما التقيا مرة حتى كان حديثهما فنوناً من الشعر وشذرات من الفلسفة وقليلا من لغة العشاق في همس من لغة العيون. . .

ص: 41

وقال لها مرة: (إن الحب يا عزيزتي. . .) قالت: (إن فلسفة الحب. . .) قال: (بل أعني حقيقة الحب ومعناه. . .) قالت: (دع عنك يا حبيبي. . . إن أحلام الحب هي شيء غير الحب، أفأنت تريد. . .؟) فاختلجت شفتاه وأطرق، وراح يسأل نفسه:(ما الحب وما فلسفة الحب؟ يا ضيعة المنى إن كان الحب شيئاً غير الذي في نفسي!) وتحدث ضميره في ضميرها فابتسمت وهي تقول: (. . . أنا ما أحببتك رجلا بل فكراً وروحاً ونفساً شاعرة، وأنت بكل ذلك ملء نفسي وملء قلبي؛ فلا تلتمس فيّ طباع أنثى وإلا ضل ضلالك أيها الحبيب. .!) قال: (فهل رأيتني يا حبيبتي إلا فكرة تطيف أبداً بك، وروحاً ترفرف حواليك، ونفساً نغترف الشعر والحكمة من وحي عينيك. . .؟) قالت: (دع عنك ذكر عينيّ يا حبيبي. إن الحب ليس هناك، إن الحب. . .) قال: (لا تحدثيني عن الحب. يخيل إلي أني أعرفه لأني أجد مسَّه على قلبي كلذغ الجمر، ولكن آه، ولكنك أنتٍ. . .)

وقالت له نفسه: (إنك يا صاحبي تضرب في بيداء؛ إن الشعر والحكمة والفلسفة لا تلد الحب، فهل أحببتها أنت إلا للشعر والحكمة والفلسفة؟ ولكنك بذلك لن تجد منها الحب، إن الحب من لغة القلب، أما هذه. . .)

وكان يحبها أديبة فيلسوفة شاعرة، فعاد يباعد بينه وبينها أنها فيلسوفة شاعرة. . .!

وامرأة هي كانت - إلى أدبها وفلسفتها - (فتنة) خلقت امرأة، فإذا نظرت إليك نظرتها الفاترة فإنما تقول لقلبك: إذا لم تأت إليَّ فأنا آتية إليك. . . وهي أبداً تشعر أن في دمها شيئاً لا يوصف ولا يسمى ولكنه يجذب ويفتن، فلا تراها إلا على حالة من هذين، حتى ليظن كل من حادثها أنها تحبه وما به إلا أنها تفتنه. . .

(رشيقة جذابة تأخذك أخ السحر، لأن عطر قلبها ينفذ إلى قلبك من الهواء؛ فإذا تنفست أمامها فقد عشقتها. . .

(أما أنوثتها فأسلوب في الجمال على حدة؛ فإذا لقيتها لا تلبث أن ترى عينيك تبحثان في عينيها عن سر هذا الأسلوب البديع فلا تعثر فيهما بالسر ولكن بالحب. . . . . . وتنظر نظرة الغزال المذعور أُلهِم أنه جميل ظريف فلا يزال مستوفزاً يتوجس في كل حركة صائداً يطلبه. . . . . .)

والرافعي رجل كان - على دينه وخلقه ومروءته - ضعيف السلطان على نفسه إذا كان

ص: 42

بازاء امرأة؛ فما هو إلا أن يرى واحدة لها ميزة في النساء حتى يتحرك دمه وتنفعل أعصابه؛ وما كان رحمه الله يرى في شدة الإحساس بالرجولة وفي سرعة الاستجابة العصبية إلى المرأة إلا أنها أحد طَرَفي النبوغ، أو أحد طرفي النبوَّة كما كان يقول؛ فما كان يرى له وقاية من سحر المرأة حين يحس أثرها في نفسه إلا أن يسرع في الفرار. وكثيراً ما كان يقول:(الفرار الفرار؛ إنه الوسيلة الواحدة إلى النجاة من وسوسة الشيطان وغلبة الهوى. . .!)

وقالت له نفسه: (ما أنت وهذا الحب الذي سلبك الإرادة وغلبك على الكبرياء ويوشك أن يهوى بك من وسوسة النفس وفتنة الهوى إلى أرذال البشرية. . .؟)

فكان لصوت النفس في أعماقه صدى بعيد. . .

وكان يحبها ليجد في حبها ينبوع الشعر، فما وجد الحب وحده، بل وجد الحب والألم وثورة النفس وقلق الحياة؛ ووجد في كل أولئك ينابيع من الشعر والحكمة تفيض بها نفسه، وينفعل بها جنانه، ويضيء بها فكره؛ وكان آخر حبه الألم، وكانت آلامه أول قدْحة من شرار الشعر والحكمة. . .

وقالت له نفسه: (هاقد بلغتَ من الحب ما كنت ترجو، فلم تبق إلا الغاية الثانية وإنك عنها لَعَفٌّ كريم. . .!)

هي فتاة ذات جمال وفتنة، ولها لسان وبيان، وما يمنعها دينها ولا شيءٌ من تقاليد أهلها أن يكون لها مجلس من الرجال في ساعة في يوم من كل أسبوع، يضم من شعراء العربية ورجالاتها أشتاتاً لا يؤلفها إلا هذا المجلس المعطر بعطر الشعر وعطر المرأة الجميلة؛ أفتراهم يجتمعون في دارها كل أسبوع لتتوارى منهم خلف حجاب فلا سمر ولا حديث؟

والرافعي غيور شموس كثير الأَثرة لا يرضيه إلا أن يكون على رأس الجماعة، أو هو نفسه رأس الجماعة. . .

وقال له نفسه: (أأنت هنا وحدك أم ترى لكل واحد من هؤلاء هنا هوى وحبيبا. . .؟)

وكانت القطيعة بين الرافعي وبينها من أجل ذلك كله: من أجل أن له ذاتا وكبرياء، وما يريد أن تفنى ذاته وكبرياؤه في امرأة؛ ومن أجل أنها فيلسوفة وشاعرة، وما تجتمع الفلسفة والحب في قلب حواء؛ ومن أجل أنها أنثى وأنه رجل له دين ومروءة وزوجة ودار؛ ومن

ص: 43

أجل أنه بلغ مبلغه منها حين وجد الألم في حبها فوجد ينبوع الشعر الذي كان يفتقد؛ ومن أجل أن الرافعي الغيور الظنين الكثير الأثرة والاعتداد بالنفس. . .!

وخُيِّل إليه حين كتب إليها رسالة القطيعة في يناير سنة 1924 أنه يبغضها، وأن هذا الحب الذي قطعه عن دنيا الناس عاماً بحاله قد انتهى من تاريخه وطواه القدر في مَدْرَجة الفناء، وأن نفساً كانت في الأسر قد خرجت إلى فضاء الله. . .

وأحس في نفسه حديثاً طويلاً يريد أن يفضي به، وشعر كأن في قلبه ناراً تَلظَّى، واصطرعت في نفسه ذكريات وذكريات، وخيِّل إليه أنه يكاد يختنق؛ فصاح من كل أولئك مغيظاً محنقاً يقول:(أيتها المحبوبة، إنني أبغضك. . . إنني أبغضك أيتها المحبوبة!)

ليت شعري، أكان الرافعي يعني ما يقول؟ أكان على يقين حين يزعم أنه يبغضها؟ أم أنه استعار للحب لفظاً متكبِّراً من كبريائه العاتية فسماه البغضَ وما هو به ولكنها ثورة الحب حين يبلغ عنفوانه فتختلط به مذاهب الفكر ومذاهب النظر فلا يبقى فيه شيء على حقيقته؟

كلا، ما أبغض الرافعي صاحبته يوماً منذ كانت ولا استطاع أن يفك نفسه من وثاقها، وما هذه الثورة التي ألهمته كتابيه (رسائل الأحزان، والسحاب الأحمر) إلا لون من ذلك الحب وفصل من فصوله وكان الخطأ في العنوان؛ فلما ثابت إليه نفسه نزع به الحنين إلى الماضي ولكن كبرياءه وقفت في سبيله، فظل حيث هو ولكن قلبه ظل يتنزى بالشوق والحنين. . .!

وجاءت صاحبته إلى طنطا بعد ذلك بقليل، مدعوَّة إلى حفلةٍ خيرية لتخطب، وكان الرافعي مدعواً لمثل ما دعيت له. وعلى غفلة التقت العيون، فدار رأس الرافعي وذُهب به، وعاد الزمان القهقري لينشر ماضيه على عينيه، وزلزلت نفسه زلزالا شديداً حتى أوشك أن تغشاه غاشية، وحاول أن يتحدث فوقفت الكبرياء بين قلبه ولسانه؛ وخشي أن يفتضح فنهض عن كرسيه منطلقاً إلى الباب؛ ولحقه صديقه الأديب جورج إبراهيم، فأفضى إليه بذات صدره وودع صاحبته بعين تختلج، ومضى. . .

وانتهى الاحتفال، ووقفت (هي) تدير عينيها في المكان فما استقرتا على شيء؛ ووجدت في نفسها الجرأة على أن تقول:(أين الرافعي؟) فما وجدت جواباً. . . وكان الرافعي وقتئذ جالساً إلى مكتبه ينشئ قصيدة لمجلة المقتطف عن بعث الحب. . .! وكان آخر لقاء. . .!

ص: 44

ولقيت الرافعي في خريف سنة 1932، فتسرحنا في الحديث عن الحب، فكشف لي عن صدره في عبارات محمومة، وكلمات ترتعش، ثم قال:(. . . وإن صوتاً ليهتف بي من الغيب أن الماضي سيعود، وأنني سألقاها، وسيكون ذلك في تمام عشر سنين من رسالة القطيعة: في يناير سنة 1934. . .) وأخذ يقبض أصابعه ويبسطها ثم قال:

(نعم، بعد أربعة عشر شهراً سيكون هذا اللقاء. . . إن قلبي يحس، بل إنني لموقن. . . بعد أربعة عشر شهراً، في تمام السنة العاشرة منذ فارقتها مغضباً، سنلتقي ثانية ويعود ذلك الماضي الجميل، إنها تنتظر، وإنني أنتظر. . .!)، وظل على هذا اليقين أشهراً وهو يحصي الأيام والأسابيع كأنه منها على ميعاد. . .!

ومضت السنوات العشر، ومضى أربعون شهراً بعدها وما تحقق أمله في اللقاء، حتى لقي الله. . .!

هذا هو الرافعي العاشق، جلوت صورته كما عرفته؛ أما هي، أما صاحبته التي كان من تاريخه معها ما كان، فهل كانت تحبه؟ وما كان هذا الحب، وماذا كانت غايته؟

هذا حديث موعده العدد القادم، فإلى اللقاء

(شبرا)

محمد سعيد العريان

ص: 45

‌قطف الثمار

للشاعر الفيلسوف طاغور

بقلم الأديب عبد الخالق العطار

كانت حياتي أيام الصبا كزهرة. . . تفقد واحدة أو اثنتين من وريقاتها الكثيرة. . . ثم ينسيها الربيع ما فقدت. . . إذا ما وقف ببابها يطلب إحساناً

وودعت الشباب. . . فصارت حياتي كثمرة. . . ليس لها ما تستطيع فقده. . . ولكنها تنتظر من تهب له نفسها كاملة بكل ما تحمل من حلاوة

هل للأوراق الصفراء والزهور الذابلة أن تشارك الورود الناضرة في بهجتها بعيد الصيف؟ وهل لا يرسل غناء البحر أنغامه للأمواج الهابطة. . . كما يشجي بها الأمواج العالية؟

هاهي ذي اللآلئ والدرر. . . قد انتظمت في بساط يقف عليه إلهي. . . ولكن هناك كثيرون. . . ينتظرون صابرين. . . يرجون لمسة من قدمه. . .

ما أقل العقلاء. .!. . وما أعظم من يجلسون إلى جوار سيدهم!

ولكنه هو. . لقد احتوى الساذجين بين ذراعيه. . وجعلني خادمه إلى الأبد. . .

وجدت خطابه مع الصباح. . . عندما استيقظت. . .

ولم أعلم ماذا يقول فيه. . . فإني لا أعرف القراءة. . .

مالي وذاك الرجل العاقل. . . الذي يجلس وحيداً بين كتبه؟ لن أضنيه. . . وهو الذي يستطيع أن يقرأ لي خطابي. . .

دعني. . . دعني أضع الخطاب على جبيني. . . وأضمه إلى صدري

وعندما ينمو سكون الليل. . . وتتناثر النجوم في ظلمته واحدة إثر واحدة. . . سأبسط الخطاب في يدي. . . وأظلَّ صامتاً!

سيقرؤه لي حفيف الأوراق بصوت عال!

ستفنيه لي المياه وهي تندفع في مجراها!

سترتله لي سبعة نجوم هادئة. . . وسأسمع ترتيلها من السماء!

لقد ضل سبيلي. . . وأنا أبحث عما أريد!

لقد استغلق عليّ فهم ما لابد من معرفته!

ص: 46

ولكن هذا الخطاب الذي لم يقرأ. . . قد خفف عني العبء

فصارت أفكاري كلها كالأناشيد

لقد ظللت سبيلي حيث تعددت السبل. . .

فلا في المياه الواسعة. . . ولا في السماء الزرقاء. . . أستطيع أن أجد لي طريقاً

لقد اختفى الطريق تحت أجنحة الطير. . . ووراء النجوم الملتهبة. . . وخلف أزهار الفصول المتعاقبة. . .

فتساءلت. . . أي قلبي! ألا تحمل مع ذلك حقيقة الطريق الذي لا أراه؟

عندما كنت اختال ببطء بين كنوزي الثقيلة الموروثة. . . كنت أشعر كأني الدودة التي تعيش في الظلام. . . تتغذى على الثمرة التي ولدت عليها. . .

إني أترك هذا السجن. . . سجن الفساد

إني لا أعبأ إذ أحطم تمثال السكون. . . لأني ذاهب في طريقي باحثاً عن الشباب الدائم. . .

سأتخلى عن كل ما لم يتحد مع حياتي. . .

سأتخلى عن كل شيء. . . إلا ما كان خفيفاً كضحكي

وسأجري خلال الزمان. . .

و. . . آه يا قلبي. . . في عربتك الصغيرة يرقص الشاعر ويغني بينما خياله يسبح

لقد أخذتني من يدي. . . وأدنيتني إلى جانبك. . . وأجلستني أمام الناس جميعاً. . . وفي مقام عال. . . حتى صرت ضعيفاً لا أقوى على النظر ولا السير في طريقي. . . يملؤني الشك. . . ويحيطني الوجل. . . خشية أن أعثر فيصيبني احتقار الناس. . .

ولكني تحررت أخيرا. . .

فقد دوت الصرخة. . . وقرعت الطبول إنذاراً. . . وهبط مقعدي في التراب. . .

وتفتحت السبل أمامي!

إن أجنحتي لتطير بها الرغبة إلى السماء. . .

إني أذهب لأحتل مكاني بين النجوم التي تنطلق في منتصف الليل. . . لتغرق في الظل اللانهائي، إني كسحابة الصيف التي تتقاذفها العاصفة. . . بعد أن ألقت عنها تاجها الذهبي

ص: 47

الذي ألبسته إياها الشمس قبل أن تغيب. . . فتعلقت كسيف مسلول على سلسلة من الضوء. . . وإذا الرعد يدوي كلما اهتز السيف

وفي فرح اليائس اجري في الطريق الذي غطاه التراب. . . طريق المنبوذين. وأجيء إلى جانبك لأحييك التحية الأخيرة. . .

والطفل لا يرى أمه حتى يخرج منها. . .

فعندما صرت بعيداً عنك. . . وألقيت بمنأى من جوارك. . . صرت حراً. . . صرت حراً. . . فاستطعت أن أرى وجهك

على بعد وفي هذا المنخفض ينساب نهر الجومنا. . . هادئاً رائعاً. . . والشاطئ بارز فوقه. . . والتلال المظلمة والغابات المتناثرة قد تجمعت حوله. . .

وجلس جوفندا. . . معلم الشيخ الأعظم. . . على صخرة يقرأ الأساطير. . . عندما جاءه تلميذه راجونات. . . فخوراً بثروته فانحنى احتراماً وقال:

(لقد جئتك بهدية صغيرة. . . لا تستحق منك القبول)

قالها ووضع أمام أستاذه سوارين من الذهب المرصع بالأحجار الثمينة. . .

أمسك السيد أحدها. . . وأداره في إصبعه فبرقت الجواهر وأرسلت من الضوء. . . وفجأة. . . أفلت من يده. . . وتدحرج على الشاطئ. . . إلى أن بلغ الماء. . . واستقر في القاع

هتف راجونات. . . (يا إلهي). . . ووثب وراء السوار في الماء. . .

أعاد المعلم بصره إلى كتابه. . . وأمسكت المياه وأخفت ما سرقته. . . وسارت في طريقها. . .

واضمحل ضوء النهار. . . عندما عاد راجونات إلى أستاذه متعباً يتصبب عرقاً وقال: (قد أستطيع استرجاعه لو أنك أشرت إليّ أين سقط)

أمسك المعلم السوار الآخر. . . وقال وهو يلقيه في الماء. . . . . . (إنه هناك)

يا إله السموات. . . إن حديثك سهل بسيط. . . ولكن حديث هؤلاء الذين يتحدثون عنك ليس كذلك. . .

فما أقرب صوت نجومك إلى فهمي. . . وما أبلغ صمت أشجارك.

ص: 48

إن قلبي قد تفتح كالزهرة التي ملأتها حياتي في خميلة مختفية. . .

وأناشيدك. . . كالطيور الآتية من بلاد الثلج النائية. . . وتريد أن تبني لها عشاً في قلبي. . . بما فيه من حرارة كحرارة أبريل. . .

ولكم أنا قانع بانتظاري هذا الفصل البهيج

عبد الخالق العطار

ص: 49

‌الأديان والمذاهب في الحبشة

رحل الأستاذ محمد تيسير ظبيان الكيلاني صاحب جريدة

الجزيرة بدمشق إلى بلاد الحبشة فدرس أحوالها دراسة

مستفيضة ثم وضع في ذلك كتاباً يوشك أن يصدر. وقد خص

الرسالة بهذا الفصل من فصوله ننشره لحضرته شاكرين

لما لم يكن لبلاد الحبشة حتى هذه الأيام إحصاء رسمي صحيح يمكن

الاعتماد عليه في تقدير عدد المسلمين وغيرهم من أتباع الديانات

الأخرى فأننا نكتفي فيما يلي بنشرة زبدة ما حصلنا عليه من

المعلومات المختلفة والروايات المتنوعة في هذا الموضوع

إن الأديان الرئيسية الموجودة في الحبشة هي:

الوثنية، واليهودية، والمسيحية، والإسلام، وقد تضاربت الأقوال في تقدير عدد مسلمي الحبشة فمن قائل إنهم لا يزيدون عن ثلاثة ملايين، ومنهم من يقدرهم بخمسة ملايين، ومنهم من يرفعهم إلى أكثر من ذلك؛ وكل هذا من قبيل الرجم بالغيب

أما من جهتي فمنذ ألقيت عصا تسياري في تلك البلاد أخذت أوجه كل اهتمامي إلى تلك الناحية فرحت أتغلغل في مختلف الأوساط الحكومية والشعبية حتى وفقت والحمد لله للحصول على النتيجة الآتية وهي لعمري نتيجة بحث واف وتمحيص دقيق

الإسلام

إن الإسلام هو أكثر الأديان انتشاراً في بلاد الحبشة ولاسيما بعد أن ضُم إليها مقاطعتا (الصومال الإيطالي والإرترية.) والمسلمون (كما أكد لي موظف مصري مسؤول) كانوا يؤلفون في المئة خمسة وخمسين من مجموع السكان؛ أما الآن بعد أن زالت الأسباب التي كانت تمنعهم من الظهور وبعد أن ضمت منطقة الصومال الإيطالي وجميع أهلها مسلمون، والإرترية وكثرة سكانها من المسلمين أيضاً، فاعتقد أنهم يؤلفون ستين في المئة (على

ص: 50

الأقل) من مجموع السكان. نعم لا أنكر أن بعض المناطق ولا سيما منطقة امهرة أكثر سكانها من المسيحيين، ولكن المناطق الأخرى يتفوق فيها العنصر الإسلامي على غيره كما سيأتي

والغريب المدهش أن الديانة الإسلامية تنتشر من تلقاء نفسها بسرعة خارقة في الأوساط الحبشية (وخصوصاً في المناطق الوثنية) رغم سياسة القهر والعسف التي كانت متبعة ضد المسلمين ورغم قلة الوسائل الموجودة لدى هؤلاء لنشر ديانتهم والتبشير بها بالنسبة للديانة المسيحية التي كانت البلاد الحبشية تموج برسلها ودعاتها وبعثاتها التبشيرية المنظمة ومن ورائها الحكومات الكبرى تؤيدها والأموال الوفيرة تغدق عليها والحكومة المحلية نفسها تشد أزرها وتسهل مهمتها

حقاً إنه لسر غريب انتشار الدين الحنيف بسرعة البرق في تلك الأصقاع، وإقبال الأحباش على اعتناقه رغم جميع الصعوبات التي كانت تعترض سبيله وتقف في طريقه، ولا غرو فمظهر المسلم (وإن كان إسلامه ضعيفاً وناقصاً) جذاب يسحر القلوب ويستهوي النفوس؛ فهناك التقوى والصلاح ومكارم الأخلاق والنظافة والشهامة والتواضع والوفاء. . . الخ

ولست أرى من وراء ذلك الحط من قدر الديانات الأخرى اليهودية والمسيحية. كلا، فإنها ديانات سماوية أيضاً، ولكن الأحباش كانوا يتمسكون بقشورها ويتركون لبابها؛ فهم كانوا بذلك أقرب إلى الوثنية

قال لي الأمير عبد الله أبا جفار سلطان جما في أثناء حديثه معي: إن هذه الديار ديارنا ونسبة الأحباش إلى المسلمين نسبة واحدة للعشرين، ولاسيما في بلاد هرر والعروسي والفوارغي وجمار غوما ولمو وجيده؛ فهذه البلاد ليس فيها أثر للمسيحية؛ وأغلب أهالي برنا وواللو ودارا وحفات والدناكل مسلمون. وإذا قدرنا سكان الحبشة حسب الإحصاءات الصادرة عن القناصل والدوائر المسؤولة بعشرة ملايين (بما فيها الصومال والإريترية) فلا يقل عدد المسلمين فيها عن ستة ملايين إن لم يكونوا أكثر من ذلك

وأكثر المذاهب الإسلامية انتشاراً المذهب الشافعي. وليست للمسلمين مع الأسف مدارس عامرة وجمعيات خيرية وأدبية كما هي الحال في مختلف الأقطار الإسلامية إذا استثنينا جمعية الإشفاق الإسلامي التي تألفت في أديس أبابا في عهد الحكومة السابقة، وكان في

ص: 51

مقدمة أعمالها تأسيس المدرسة الإسلامية التي سيأتي ذكرها

وليس بين المسلمين علماء واقفون تماماً على أسرار الشريعة الغراء إلا في مقاطعتي جما وواللو؛ ويظهر أنه يوجد في جما نهضة إسلامية لا بأس بها سيأتي ذكرها بمناسبة مقابلتي لسلطانها الأمير عبد الله

الدين المسيحي

ويأتي في الدرجة الثانية من حيث الانتشار الدين المسيحي، وكان دين الحكومة الرسمي وأكثر المذاهب المسيحية انتشاراً:

(المنوفيزية) وقد بثها البطريرك ثيودوسيوس الإسكندري في القرن السادس واتخذ ملوك الحبشة هذا المذهب مذهباً رسمياً

وكنيسة الأحباش قائمة تحت إدارة نائب بطريرك الأقباط المعروف هناك باسم (أبونا) وكان له نفوذ كبير وسلطة واسعة تخوله خلع الملك (النجاشي)

ومن المذاهب المسيحية المنتشرة أيضاً المذهب الكاثوليكي وله مبشرون كثيرون ومرسلون عازاريون وكبوشيون

أما المذهب البروتستانتي فقليل الانتشار

الدين اليهودي

يعرف اليهود في الحبشة باسم (فلاشة) وهم يقيمون في الأقاليم الشرقية، ويقال إنهم متحدرون من القبائل اليهودية الأولى التي توغلت في تلك الجهات. ولا يزيد عددهم عن الخمسين ألفاً، ويوجد منهم في أديس أبابا نحو مائة شخص، وهم يعيشون عيشة مستقلة لا يختلطون بأحد من الأحباش، ولا يتزوجون من غير أبناء دينهم، ويشتغلون بالزراعة وصناعات النسج

العقائد الوثنية

إن العقائد الوثنية على اختلاف أنواعها منتشرة في بلاد الحبشة، ولاسيما في الجهات الغربية، والإرساليات الأجنبية تتصل بالوثنيين وتحاول التأثير عليهم. ويعبد أكثرهم الأشجار (وأخصها شجرة الجميز) والأنهار والأحجار والشمس والبهائم والنار. وقد أخبرني

ص: 52

شاب حبشي اسمه جرجس إبراهيم أن طائفة منهم تقطن (الفامبيلا) على حدود السودان، وهم يعيشون في العراء دون أن يستروا أجسامهم، ولهم طريقة خاصة في العبادة، وذلك أنهم يجتمعون في كل عام أمام النيل الأزرق ويرقصون ثم يقدمون له ذبيحه كقربان

ولم أستطع أخذ فكرة صحيحة عن عدد الوثنيين في الحبشة ولكنهم لا يقلون على كل حال عن مليون ولا يزيدون عن مليون ونصف

عادات وثنية غريبة

قيل لي انه توجد قبائل في جهات - ووللأغا - لا تدين بدين أبداً ولها عادات غريبة جداً، منها أن الرجال لا يقتربون من نسائهم إذا كن حبالى، ويضطر الزوج في هذه الظروف أن يبيت خارج الغرفة أو المنزل الذي تبيت فيه زوجته. ولا يحق له أن يأكل معها وهو مجبر أن يحضر لها كل يوم حيواناً يصطاده وإذا أخفق فلا يحق له دخول القرية

وتمتاز هذه القبائل بصلابة الأجسام وصحة الأبدان وسلامتها من الأمراض

الدروز الأحباش

توجد طائفة في بعض مقاطعات الحبشة تسمى (بالدروز) وهي منتشرة بنوع خاص في جهات - غلامو وسيدامو - وعقيدتهم على ما قيل لي خليط من الإسلام والمسيحية واليهودية ولهم أخلاق وعادات شاذة وهم يشتغلون بالنسيج والحياكة

محمد تيسير ظبيان

ص: 53

‌فلسفة التربية

كما يراها فلاسفة الغرب

للأستاذ محمد حسن ظاظا

(نريد أن ننتهي إلى تقدير واف لمعنى التربية التي تضعنا في مركز نفهم فيه الكون ونكشف الدور الذي علينا فيه أن نلعبه، كيما نتبين كيف أنه يجب علينا، وكيف يمكننا أن نقوم بهذا الدور بكل ما نستطيع)

هكذا يقول الأستاذ في كتابه محاولاً أن يلتمس في الفلسفة تفسيراً أو تقويماً لعملية التربية. ذلك أنا سنسأل ما قيمة التربية في الحياة؟ وما قدر عمر المرء بالقياس إلى الأعمار الجيولوجية السحيقة الهائلة؟ وأي ربح يربحه الإنسان من عمله تحت الشمس؟ جيل يعيش وجيل يموت، والأرض باقية فما جدوى ذلك كله؟ لم يجب أن نعيش؟؟ لم نُلزم بالبقاء في عالم لم نسأل عنه قبل مجيئنا إليه ولا نملك فيه حتى حق الموت؟؟! وما هي الصلة بين مركزنا في الحياة وواجبات هذا المركز؟؟

أولئك جميعاً مسائل عسيرة عتيدة يضج منها الجمهور لأنه لا يستطيع الخوض فيها بحكم عقله الذي لا ينحو نحواً كلياً يفسر به الظروف الجزئية ويسمو عليها. لذلك تراه يقول حسبنا أننا نعيش ما دام الواقع أننا نعيش!! وحسبنا أننا نتعلم ونتربى مادام الواقع أننا كذلك؟!! ولكن الفلسفة لا ترضى منه بهذه القناعة ولا تفتأ تقول له: إياك أن تغفل سؤال (لِمَ تعيش)؟ لا لشيء إلا لأنك تعيش!! ذلك أنك تتقدم من غير شك إذا ما سلطت النقد على حياتك ونظرت قبل القفز ثم بعده!! يقول الأستاذ برادلي في أصول المنطق جـ2 ص721 (إن ديانة العمل من أجل العمل فحسب، أو إن كل شيء من أجل العمل، تنتهي حتماً إلى نتيجة مهدومة في العمل نفسه)

وهكذا تقول الفلسفة للجمهور (قصدك الأساسي هو العمل، أما أنا فقصدي النظر؛ ولكن النظر مع ذلك يسير إلى جانب العمل. أنا أغوص، والعمل يستفيد من غوصي، لأنه بي - وبي وحدي - يستطيع أن يفهم لِمَ يعمل ما يعمل). ذلك أن الفلسفة لا تضرب في الهواء ولكنها تحاول أن تحدد الأشياء بحدودها المنطقية معطية إياها نهاياتها الميثافيزيقية؛ وأن العمل نفسه يصير فلسفة إذا ما نقد نفسه. لذلك لا غرو أن قالوا إن العمل الصحيح هو ذلك

ص: 54

الذي يشعر بنفسه!!

سيقول العمل - وهو لابد قائل - (ولكن ذلك يضايق!!) وستقول الفلسفة (إنه حقاً يضايق ولكنه بعد ضروري لأن التقدم لم يضر نفسه إلا عن طريق الغرور! لذلك لابد من هاتيك الأسئلة السقراطية الحصيفة العميقة كيما نأمن مغبة الغرور!!)

وهنا سيعجب (العمل) من قول الفلسفة، وسيبسم فتضحك (الفلسفة) وتقول له:(حسناً لقد اقتربنا! إنك قد بدأت تعجب والتعجب أول خطواتي!! وإذن فكْن معي كما يقول المثل الصيني (كل رغيفاً واشتر بالآخر زهرة!!) وتذكر دائماً أنك تكون إياي حينما تنعكس على نفسك فتختبر حقائقها وترتبها وتبوبها وتجعلها منطقية معقولة!!)

وإذن فليست فلسفة التربية أداة لفهمها فحسب؛ وإنما هي أيضاً أداة لنقدها وإصلاحها. وللفلسفة عدة صور أهمها الميثافيزيقا التي تعطينا فكرة جامعة عن الكون. ونحن في التربية إزاء كائنات راقية هي أفراد الإنسان. وعلم النفس لا يكفي قط لفهم هذه الكائنات بجميع علائقها، وإذاً فلابد من ذلك (التقدير الوافي) الذي تقدمه الفلسفة!! فترى ماذا عسى أن يكون ذلك التقدير؟؟

تبحث الفلسفة كما قدمنا في (الكليات)، وترى (الكل) ممثلاً في الجزء كما نرى الحيوان المنقرض في هيكله العظمي، والإنسان جزء من الكون. وكل أجزاء الكون ترتبط وتندمج في وحدته الكلية. والتربية من أهم تجارب الإنسان إن لم تكن أهمها جميعاً. وسؤال الفلسفة هنا هو ماذا تقوم عليه التربية من أصول، وما قيمة هذه الأصول؟؟ ذلك أن التربية أسلوب زمني يعمل لإعداد الفرد كيما يحقق نوعه بإخراج ملكاته من القوة إلى الفعل، والارتفاع به من الواقع إلى المثل الأعلى؛ ولما كانت أغلب تجارب الإنسان تقع في حيز الزمن؛ ولما كان الزمن يقص علينا قصة المجهول على لسان التطور الذي ما فتئ يعمل في الكون منذ السديم الأول إلى اليوم؛ ولما كانت التربية هي تطور في الفرد مع شعور بهذا التطور؛ ولما كانت سلسلة التطور تمتد في مجرى الزمن وتمتد حتى المطلق - أقول لما كان كل ذلك - فيما يلوح - حقاً، فإنه يرجح لدى الأستاذ هرن صاحب كتاب (فلسفة التربية) أن قصة الإنسان تتطور نحو الكمال، وأن التربية هي وسيلة ذلك التطور. وإذا صح ما يقوله (هيجل) من أن تجارب الإنسان الزمنية ليست إلا مظهراً (للدائم الخالد)، صح أن التربية

ص: 55

من أهم هذه التجارب. .!!

وتعترف الفلسفة بالعقل البشري كآخر منحة للجسم العضوي في تطوره؛ وكوسيلة للخروج من اللاشعور إلى الشعور؛ ولذلك نراها تضع يدها عليه لترقيه وتنميه معتبرة إياه أعظم أنواع الحقيقة الزمنية. ويقول هاملتون (ليس في الدنيا أعظم من الإنسان، وليس في الإنسان أعظم من العقل). ولكن من أين أتى هذا العقل؟ أمن العدم؟ أم من شيء غير عقلي؟ لابد من القول هنا (بعقل تام) قائم خلف عقلنا المحدود، وهذا العقل التام هو السبب الأول لمركز التربية في الإنسان - وهو العقل - بل وهو الضامن كما يقول ديكارت (الموضوعية) الحقائق العقلية ذاتها!

وتكون التربية على ذلك تحقيق للإنسانية بجهد خاص قوامه الشعور بالنفس؛ ولكن ما طبيعة هذا الجهد وما صلته بالكون؟

سبق أن الإنسان جزء من كل؛ ويتبع ذلك أنه محدود في شعوره بنفسه لأنه جزء فحسب؛ هذا بينا الكل الذي يحوي الإنسان ويحوي غيره يجب أن يكون مطلق الشعور بنفسه وذو نشاط ذاتي دائب. . . وهذا الكل هو الله

ولما كان الإنسان عقلا بالقوة يتحقق بالفعل بالجهد أو بالنشاط الذاتي، ولما كانت التربية هي ذلك الجهد نفسه أو ذلك النشاط الذاتي؛ كانت عمليتها تقرب حتما ما بين الإنسان وخالقه

وإذا أخذنا بمذهب الحلول قلنا إن الله تعالى مصدر ما في الكون من قوة وحركة ونشاط. وإذن تكون المادة نشاط في نظر العالم الطبيعي، ويكون هذا النشاط درجة من الشعور في نظر الفيلسوف. ويكون الله على ذلك هو وحدة الكون الشاعرة التي تحيا الطبيعة فيها والإنسان. يقول القديس بطرس:(إننا نعيش ونتحرك ونأخذ كياننا فيه)؛ ويكون زمن التربية على ذلك هو فترة تحقيق الناشئ لأحد مظاهر الله. وذلك التحقيق يسر الله من غير ما شك. يقول فيختة (التربية تكميل خالد وطريق لجعل الجزء كلاَّ، إذ الحقيقة الكلية هي الكون أو الله. والحقيقة الزمنية هي الصيرورة. ومن أساليب الصيرورة ذلك الأسلوب الذي يصير به الإنسان ما هو عليه في الأبد. والحياة الأبدية هي أن يكون الإنسان على نحو الله)

ص: 56

وخلاصة القول أن التربية تقوم على أن أصل الإنسان هو الله، وأن الإنسان حر الطبيعة خالد المصير؛ وأن أساس التنشئة في الناحية البيولوجية هو ملاءمة الإنسان بين نفسه وبين البيئات المتطورة المتجددة؛ وأساسها في الناحية الفسيولوجية هو العناية بالجسد وتجميله لأنه هيكل الروح المقدس؛ وفي الناحية النفسية هو أنه لا حد لنمو العقل فلنسم به إلى المطلق؛ وفي الناحية الاجتماعية هو أن الله يظهر نفسه في الزمان خلال مثل الإنسان العليا من خير وحق وجمال، وإذا فليكن لهذا الثالوث قداسته واتزانه في حياتنا. . .

ويكون التعريف الجامع المانع للتربية في نظر الأستاذ هورن هو (أنها الطريق الأبدي للملاءمة العليا بين الإنسان الكامل جسما وعاطفة وعقلا، وبين الله ممثلا في البيئة الزمنية للإنسان)

هذا هو تفسير الفلسفة لعملية التربية. أفلا ترى أنه يرفعها ويقدسها ويجعلها جديرة منا بكل إجلال، ومن الدولة بكل عناية وتقدير؟؟

محمد حسن ظاظا

مدرس الفلسفة بشبرا الثانوية الأميرية

ص: 57

‌رسَالة الشِّعر

غب سماء

للأستاذ فخري أبو السعود

رَوِيَ الطَّرفُ والجوانحُ ريّاً

في أصيلٍ مُشعشعِ الأضواءِ

من جمال الأشياء لمَّا تراءت

شائقات الجمال غب سماء

بعد يوم داجي السحاب عَبوسٍ

دائب السَّحِّ هاطل الأنواء

غائب الأفْق لم يَبِنْ فيه حتَّى

دَلَفَتْ للمغيب وجهُ ذُكاء

أشرقتْ في غروبها وتَبَدَّتْ

من ثنايا السحاب باللألاء

فأحالت جهامةَ الجوِّ بِشْراً

وأَنارتْ جوانبَ الغبراء

وأذابتْ شعاعها الصافيَ الأصْ

فَرَ في الماء والثرى والفضاء

وكَسَتْ من ضيائها أخضَرَ الأَعْ

شابِ حُسناً وياَبِسَ الأَكْلَاء

فهما يَزْهُوَانِ في رِيقَةِ القَطْ

رِ زِهَاَءً وفي شُفوفِ الضياء

واستطار النسيم بعد ركود

وتَمَشَّى على سطوح الماء

وتراءتْ دون السطوح ظِلالٌ

ذاهباتٌ في رعشةٍ وانثناء

إنَّ في هذه المجالي لَرَوْحاً

وغذاءً للنفس أَيَّ غذاء

تُفعِم النفسَ غبطةً وهياماً

بخلودٍ بها لغير انتهاء

وهْيَ وَحيُ الأشعار لا ذمُّك الده

رَ وشكوى الهوى وطولُ البكاء

هِيَ شِعْرُ الوجود أَحْرِ بهِ أَنْ

يُلْهِمَ الشِّعْرَ أَنْفُسَ الشُّعَرَاء

خيرُ ذخرٍ للنفس ديوان شِعرٍ

قد حوى حُسْنَ هذه الأشياء

يبسم الزهرُ فيه من كل سطر

ويهب النسيمُ حُلْوَ الزكاء

فكأَنّي أَسيرُ إِذْ أَجتليهِ

في رياض مُنَضَّراتِ النماء

قد تَهَاَدَتْ بها الأَماليدُ والأَزْ

هارُ شتَّى الأَلوان والأسماء

يصفُ المبهم الدقيقَ ويُحْصي

كلَّ شيء بالنظرة الجَلْوَاء

حاكياً مَوْقِعَ الجَمَال ومَهْوي

فتنةِ الكون في فؤاد الرَّائي

يصف الفجرَ إِذْ يهب على الأَرْ

وَاحِ رَطْبَ الأَنفاس والأَنداء

ص: 58

وضياَء الشروق ينتظم الكو

نَ بفيْضٍ من روعة وبهاء

وضُحىً مُنْضِراً وُجوهَ الروابي

وثغور الحدائق الغَنَّاء

وأَصيلاً هِيْنَ النسائم قد شا

عتْ بأضوائه ظلالُ المساء

فخري أبو السعود

ص: 59

‌ليلة قمراء!

للأستاذ خليل هنداوي

أُحجبي عن مقلتي بدر السما

أنتِ في عيني وقلبي القمر!

هل لمحت الكون لمَّاع السنا

كل شيء فيه عين تنظر

كل ما فيه سكون حولنا

وضياء ضل فيه البصر

ولنا في الغاب ظل وارف

وغصون للهوى تنهصر

كل دنيانا هنا، ما نبتغي؟

لو أَردنا لتدلَّى القمر

قد رآنا الليل من أشيائه

فتولانا، ونام القدر

وكسانا النور ثوباً راجفاً

نتراءى فيه أو نستتر

نجعل النور جناحاً وعلى

غارب النور يطيب السفر

يبتغي البدر بأَن يغريني

ليتما للبدر عيناً تبصر

فيرى البدر الذي أَلهمني

سكرة تصحو، وصحواً يسكر!

خليل هنداوي

ص: 60

‌بين ابن زيدون وولادة

شاعر الحب. . .

للأستاذ محمد بهجة الأثري

مهداة إلى الصديق (الزيات) مصور الحقيقة والجمال والخير

(الأثري)

حيِّهِ من شاعرٍ في الغابرينْ

عاشَ حيّاً في قُلُوب العاشقينْ

شاعرُ الحبِّ، وما أعظَمَهُ

لَقَباً يَحْيَا به في الخالدين!

شاعرُ الحبِّ، وما الدنيا سوى

نَغَمِ الحبِّ وشعرِ المُغْرَمين

وبقاياها فضول مُنِيَتْ

بتعاطيها نفوسُ الأكرمين

هل يروق العيشُ في غيرِ هوى

أو يروق العيش في غير حنين؟

لا ودلِّ الغِيدِ في فتنتِهِ

وجلالِ الحسنِ في الخُلْق الحصين

جلَّ ما رقرقه في شعره

من دموعٍ وزفير وأنينْ

قِطَعٌ من كبِدٍ مقروحة

صَلِيَتْ في الحب نيرانَ الشجونْ

وفؤادٍ من تباريح الضَّنى

ذابَ إلاّ رَمَقاً لا يَسْتبين

قطّرتها شَجَناً أنفاسُهُ

كحنَان الإِلْف ناءاه القرين

وجَلَتْها فتناً أشعارُهُ

كرُواءِ السحر، تسبي الناظرين

ضحِكٌ في دمعةٍ رقراقةٍ

وتعالٍ في خضوعٍ مستكين

لَمحَاتٌ تنبري مسرعةً

كوميض البرق أو نبض الوتين

من ضلالِ النفس في حَيْرتها

وخداعِ القلب بالوصل الضنين

يرهبُ الفُرقةَ أنْ تُفْزِعَهُ

ويخاف الدهرَ أَلاَّ يستكين

بين يأسٍ من يقينٍ عنده

ورجاءٍ يبتغيه في الظنون

ما درى الأمنَ فؤادٌ عاشقٌ

ساعةً دون ارتياعٍ من كمين

أيُّ قلبَيْنِ إذا ما اجتمعا

وعيونٍ تتلاقى بعيون!

قفْ تأمَّلْ خفقاتٍ نطقتْ

بالهوى وارْنُ إلى السحر المبين

ص: 61

وتصوَّرْ مبسِمَيْن الْتَقَيَا

وعناقيْنِ: خَدِيناً لخدين

في أحاديثَ كأنفاس الصَّبا

وشذا الوردِ ورَقْراق المعين

يقطعانِ الدهرَ في ظلّ الصِّبا

بين لَثْم وعناق وأنين

كلَّما جَدَّ الهوى زادا به

لَعِباً يُغْري ولهواً وحنينْ

هل ترى من غِبطةٍ رفَّتْ على

مشهد أبدعَ يحلو ويَزِيْن؟

وقف الدهرُ عليه ثَمِلاً

يغبِط الإِلفَيْن كالصبِّ الغَبينْ

لا أخافَ اللهُ قلباً هائماً

ببنات الحسن من حُور وعِين

يا دعاءً ما استجابَتْه السما

لعشيقيْن على كرّ السنين

ليتها في عاشقيْ قُرْطُبة

لبّتِ القولَ لذُلِّ الضارعين

إن ما ذاقاه في ظل الهوى

من أفاويق حَلَتْ، عادَ وَزِينْ

ضَرَبت أيدي النوى بينهما

والنوى أقتلُ داءِ العاشقين

النوى؟ سل بالنوى مَنْ ذاقها

يُزِلِ الشكَّ ويُخْبِرْك اليقينْ

ظمأٌ بَرْحٌ، وشوقٌ دائم

وجوىً يُذوِي، وسقم وجنون

ما لها طِبٌّ يداوِيها خلا

عودةَ الوصل قريناً لِقرين

يا لساناً وقَّع الشجوَ الذي

سَحَرَ الدنيا وهزَّ المُغْرمين

ولدتْ (ولاّدةٌ) أنغامَه

فتناغى بأفانين اللحون

قد أصاب الحبُّ من قَلْبَيْهما

عاشقاً طهراً ومعشوقاً رزين

ما مشى الرَّيْبُ إلى قُدْسِهما

وهوى الناسِ ارتيابٌ ومُجُونْ

يُعْصَمُ النُّبْلُ ويُحْمى حوضُهُ

بقُوى النفس وبالخُلق المتينْ

يعرِفُ الصدقَ أخو الصدقِ فَدَعْ

كذِبَ الشكِّ وغَمْزَ الجاهلين

ربَّ حبٍّ كنمير الماء في

صفوه: طُهْرٌ وعذب ومصونْ

(بغداد)

محمد بهجة الأثري

ص: 62

‌رسَالة الفَنّ

الفن الهندي

النحت والتصوير

للدكتور أحمد موسى

- 3 -

وبلغت الثروة الفنية في النحت الهندي مبلغاً عظيماً من الكثرة والاتقان، وذلك بالنظر إلى ما بقي منها من المعابد والمباني الأثرية الكثيرة التي كان الدافع إلى تشييدها الرغبة الأكيدة في خدمة العقيدة الدينية

وقد انقسمت منحوتات الهنود إلى قسمين أولهما النحت نصف البارز الذي بلغ حيناً درجة التجسم الكامل لولا التصاقه بالأرضية الموجودة تحته، وثانيهما النحت الكامل المعروف بالتماثيل

ولما كانت المنحوتات والتماثيل قد أنشئت للمعابد وما إليها بقصد تنسيقها وتجميلها، فإن معرفة تطور النحت الهندي معرفة صحيحة تكاد تكون غير ممكنة بالنظر إلى السبب السابق التنويه به في المقال الأول

وقد شملت المنحوتات والتماثيل المناظر الخيالية والدينية، ولكنها كانت في جوهرها بعيدة عن الاقتباس من الطبيعة. ثم حاول الفنان الهندي أن يصور الحقيقة في منحوتاته فسار متجها إلى المناظر الحربية، وإلى مناظر حياة بوذا في منحوتات نصف بارزة وجدت في توبا سانتشي

أما بقية المنحوتات البوذية بوجه عام فكانت دينية وقصصية نحتت على الحوائط الداخلية والخارجية للمعابد، وكان من بينها ما تم عمله بحالة فائقة من الدقة التي تدعو للإعجاب. وقد بلغ ارتفاع بعض التماثيل حوالي ثلاثين متراً وهذا ارتفاع هائل شابهوا فيه المصريين بعض الشبه

وسار النحت البراهمي نحو القصة والدين، إلا أنه كان أكثر تعمقاً وأبعد خيالاً؛ فأظهر لنا في وضوح حياة الآلهة والأبطال فضلا عن بعض مناظر لحيوانات خرافية ولراقصات

ص: 63

ومغنيات خصصن لخدمة المعابد برقصهن وغنائهن

ولعل الطابع المميز لهذه المنحوتات أنها كانت لا تمثل الحقيقة الخالصة في مجموعها، وهذا يخالف بالطبع ما سبقت مشاهدته من منحوتات الإغريق (راجع الرسالة: أكروبوليس أثينا - النحت) ولم تكن هذه الظاهرة لتمنع من تمتعها بقسط كبير من الحياة وجمال التكوين. فالآلهة التي نحتت بحيث كان لها ستة أيد كانت وجوهها وملامحها دقيقة الإخراج، بدت عليها مظاهر العظمة الدينية. هذا فضلاً عن الدقة والعناية في سير خطوطها التحديدية ولاسيما في الأشكال التي مثلت المرأة عندما عُني الفنان بإظهارها رشيقة

وتناول النحت الهندي ناحية أخرى جديرة بالتسجيل، وهي ناحية المناظر الدراماتيكية، منها قطعة مشهورة اسمها (تطاحن الآلهة)، وأخرى اسمها (أحلام الوصول) وهما وإن كانتا من المناظر الدينية، إلا أنهما أقرب إلى تمثيل النفس الفنية، وما يمكن أن تسبح فيه من خيال، وقد تمكن الفنان من إخراجهما بقوة تمثلت في إظهار فهمه للطبيعة وما يدور فيها من مظاهر الحياة

وتكاد تكون مجموعة معبد إيللورا (راجع المقال السابق) وكدشوارو من خير ما تركه الفن الهندي في النحت

أما التصوير فكانت غالبية مرسومة على حوائط المعابد، إلا أنه مع الأسف لم يبق منه شيء كثير من القطع الكبيرة

ويغلب على الظن أن أروع مصورات هندية هي تلك التي على حوائط معبد أدشونتا (القرن الخامس بعد الميلاد)، وتمثل بوذا والاحتفالات الدينية، وبعض مناظر الحروب والصيد، وكانت خالية من قواعد وأصول الرسم المنظور، ولكن هذا لا يمنع من اعتبار خطوط التحديد جيدة لدرجة أكسبت الأجسام شيئاً كثيراً من الروعة والحياة

أما الألوان فكانت قوية اختارها الهنود جذابة للنظر لما غلب عليها من دقة الاختيار وحسنه. ويتلخص التطور الذي طرأ على فن التصوير الهندي في أن المساحات المشغولة به كانت كبيرة، ثم أخذت في الصغر حتى أصبحت تقرب من تلك التي تعلق على الحوائط في أيامنا هذه، بل إن الكثير منها رسم في مساحة الكتب العادية

ص: 64

هذه إلى أنها كانت شاملة في أول أمرها لعدة أشخاص ثم خصصت للتعبير عن الجمال أو مواقف الغرام بين رجل ومعشوقته

ولعلنا بالنظر إلى الصورة المنقولة عن حائط معبد أدشونتا نلاحظ حرص الفنان على صدق المحاكاة بالرغم من بساطة الخطوط، فالتسعة الرؤوس تكاد تكون متشابهة من حيث الملامح والتكوين. أنظر إلى الشعر وإلى العيون والحواجب والشفاه تر أنها كلها لجنس واحد من الناس

وقد أجتهد الفنان في تصوير الأيدي مختلفة الأوضاع؛ فتراه جعلها قابضة مرة على عقد وأخرى مشيرة، وثالثة منبسطة على كتف

وهذه الصورة وإن كانت بسيطة بالنسبة إلى غيرها؛ إلى أنها تعطي فكرة صادقة عن روح التصوير الهندي

أحمد موسى

ص: 65

‌البَريدُ الأدَبيّ

جلالة الملك يحضر دروس الدين في رمضان

يحرص جلالة الفاروق أيد الله ملكه على أن يحيي سنن الراشدين من خلفاء الرسول، والصالحين من ملوك الإسلام، فشاءت جلالته أن يحضر دروس التفسير والحديث التي يلقيها في المسجد الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر في مساء كل خميس من شهر رمضان. وقد كان يوم الخميس الماضي افتتاح هذه الدروس بمسجد الأبوصيري في الإسكندرية. ففي الدقيقة الخامسة والعشرين من الساعة التاسعة أقبل موكب المليك الأعظم فاستقبله على باب المسجد العلماء والنبلاء والوجهاء والشيوخ والنواب وجمهور حاشد من طبقات الشعب، ثم أخذ مجلسه المتواضع في بيت الله بين عباد الله وشرع الأستاذ المراغي يلقي درسه الجامع بعد أن مهد له بهذه الكلمة البليغة قال:

(قبل أن أشرع في المحاضرة أرى لزاماً عليّ وأداء للواجب أن أفي لمولاي حضرة صاحب الجلالة (الملك فاروق) الأول أعزه الله ببعض حقه على الإسلام والمسلمين من الثناء والشكران، فقد أعاد سنة من سنن الإسلام بتحيته وبندائه الذي أذاعه أول يوم من رمضان هي سنة الأمر بالمعروف والاعتصام بهدى الله وأوامره تصدر من ولي الأمر، وهو أعزه الله باستماعه لمحاضرات دينية قد أرشد الناس إلى الرجوع إلى الحق وسماع آي الكتاب الكريم والسنة المطهرة

تلك نعم من الله تستوجب الشكر والدعاء بدوامها. ومما يزيدنا غبطة أن هذه الرعاية من المليك المعظم للدين جاءت في وقت نبتت فيه عند الشبان من أبناء الجيل فكرة الرجوع إلى الدين والاعتزاز به

ومما لا ريب فيه أن تعهد هذا الشعور سينميه ويقويه ويصل به إلى أبعد الغايات وأحب الثمرات. حقق الله الآمال وأدام (الفاروق) ذخراً للإسلام والمسلمين ولأهل الوطن أجمعين)

وقد انتهى هذا الدرس الديني في الساعة التاسعة والدقيقة العاشرة فما كاد جلالته ينصرف من المسجد ويبدأ الموكب الملكي في العودة إلى قصر المنتزه حتى هبت عاصفة التصفيق والهتاف بحياة الملك الصالح، وظلت تلاحق الموكب حتى عاد إلى القصر الملكي باليمين والإِقبال

ص: 66

الموسوعة الإيطالية (انسيكلوبيديا اتاليانا)

منذ أسابيع قلائل ظهر المجلد الأخير من الموسوعة العلمية الإيطالية (الانسيكلوبيديا أو دائرة المعارف)؛ وهو المجلد السادس والثلاثون. وإصدار هذه الموسوعة الضخمة من أعظم وأجل الأعمال العلمية التي تمت في العهد الفاشستي؛ وقد وضع مشروعها لأول مرة في سنة 1925، وكان روح المشروع هو السنيور موسوليني نفسه؛ وتبرع لمعاونة المشروع عدة من رجال المال الإيطاليين في مقدمتهم السناتور جوفاني تريكاني، وهو من أقطاب الصناعة ومن هواة العلوم والفنون؛ وانتخب العلامة السناتور جنتيلي لإدارة المشروع والإشراف على إخراج الموسوعة؛ وصدر المجلد الأول منها في ربيع سنة 1929، ووعد القائمون بأمرها يومئذ بأن المجلد الأخير منها سيصدر في سنة 1937؛ وكانوا عند وعدهم. ودعا السناتور جنتيلي، وهو من العلماء والكتاب الأجلاء، كتاب العالم وعلماءه في كل فن وفرع ليشتركوا في تحرير الموسوعة الجديدة، وأغدقت عليهم الهبات الوفيرة، ولم تعترض معاونتهم أية اعتبارات حزبية أو قومية، إذ حرص القائمون بالأمر على أن يسود المشروع كله جو علمي بعيد عن جميع الاعتبارات. وقد صرح السناتور تريكاني حين تقديمه المجلد الختامي من الموسوعة إلى السنيور موسوليني بأن الموسوعة الإيطالية اتخذت نموذجها من الموسوعة البريطانية وصدرت على طرازها باعتبارها مثلا أعلى لهذا النوع من العلم المحشود؛ وإنهم مع ذلك حاولوا بإصدارها التفوق على الموسوعة البريطانية. ومن محاسن الموسوعة الجديدة أنها لم تكن مشروعاً تجارياً بل كانت مشروعاً علمياً فقط، وإنها حسبما يصفها المشرفون عليها، قصدت إلى غاية علمية جليلة هي أن تلخص العلم الإيطالي المعاصر والثقافة الإيطالية المعاصرة؛ ولكن هنالك ملاحظة جديرة بالتقدير، وهي أن كل ما تخرجه إيطاليا الفاشستية من صنوف التفكير والثقافة يصطبغ بصبغة الدعاية العميقة للفاشستية ونظمها ومزاياها المزعومة؛ فماذا كان أثر هذه النزعة في إصدار الموسوعة الإيطالية؟ يقول النقدة الذين درسوا الموسوعة إنها جاءت لحسن الطالع مجهوداً علمياً لم تطغ عليه شوائب الدعاية القومية المنظمة؛ وإذا كانت في الواقع تعتبر أعظم وأغزر مصدر لكل ما يتعلق بالفاشستية، فإن ذلك طبيعي لا غبار عليه لأنها تصدر عن بلد النظم الفاشستية. وقد تولى السنيور موسوليني نفسه كتابة المقال المتعلق بشرح

ص: 67

النظرية الفاشستية، وكتب السنيور فولبي وزير الطيران تاريخ الفاشستية. وإذا كانت الموسوعة الجديدة تنم عن نزعة ثورية في النظر إلى مناحي العلوم والفنون، فهي أيضاً نزعة طبيعية في بلد يعيش في عهد تطور وثورة؛ بيد أنه يمكن أن يقال بوجه الاجمال، إن الموسوعة الإيطالية مجهود علمي جليل قبل كل شيء، وإنها مفخرة علمية خالدة لإيطاليا الفاشستية، وإنها قد استطاعت أن تحقق إلى غاية بعيدة كل ما قصده المشرفون عليها من تلخيص الثقافة الإيطالية المعاصرة، وإنها قد استطاعت أن تتحرر من كل نزعة قومية أو حزبية أو جنسية أو دينية خاصة، وإنها أخيراً فتح علمي عظيم يستحق كل إعجاب وتقدير

صور بغدادية

أصدرت مس ستارك (مذكراتها) عن بغداد في كتاب بالإنجليزية سمته وقد كتبته في الفترة التي عاشتها في هذه المدينة الخالدة مكبة على تعلم اللغة العربية وأختها الفارسية. والكتاب على طرافته خليط من الحق والباطل والماضي والحاضر؛ وفيه - برغم مزاياه - ظلم كثير للعرب، ونسيان للجميل العظيم الذي ينبغي أن يذكره الإنجليز إلى الأبد لهذا القطر الشقيق. . . وقد كانت المؤلفة تعيش في صميم بغداد، ومن هنا كانت هذه النظرة السوداء لطرق معيشة البغداديين، والنعي على قذارة الحي الذي كانت تعيش فيه. . . ولو أن الآنسة فرايا ستارك عاشت في بعض أحياء لندن القذرة لما سولت لها نفسها إيراد ما أوردته في كتابها عن الحي البغدادي الذي لم يرغمها أحد على أن يكون مستقرها في الفترة التي قضتها في عروس مدن التاريخ. . . هذا وقد تكلمت الآنسة عن العلاقة بين العرب في العراق وبين الإنجليز فصرحت أنها تقوم على النفاق، وأن العراقيين في طول البلاد وعرضها يضمرون للأجانب عامة البغضاء والكراهية، واستنتجت ذلك من مرورها مرة وهي تزور النجف بصانع أحذية طاعن في السن ما كاد ينظرها حتى انصرف عن عمله وراح يحدجها بنظرات عدائية ارتجفت لها أعصابها. . . وهذا بطبعه استنتاج سقيم كان من المآخذ الكثيرة التي استدركتها على الكتاب صحيفة التيمس الأدبية

دور الضيافة الأدبية

منذ عامين أنشأت نقابة الصحافة الفرنسية في باريس بمعاونة الحكومة نادياً للضيافة سمته

ص: 68

دار الضيافة الفرنسية وأعدته لنزول الصحفيين الأجانب الذين يزورون باريس زيارة قصيرة؛ فهنالك يحتفى بهم وتقدم إليهم جميع المعاونات والمعلومات اللازمة لتسهيل مهامهم وأغراضهم العلمية والسياحية. وفي هذا العام استطاع نادي القلم الفرنسي أن يحمل الحكومة الفرنسية على أن تخصص داراً عظيمة فخمة لنزول الكتاب الأجانب الوافدين على باريس؛ وتقع هذه الدار في حي الشانزيليزيه أفخم أحياء باريس في شارع بيير شارون، ويمكن لجميع كتاب العالم الذين ينتمون إلى نوادي القلم أن ينزلوا فيها ضيوفاً على الحكومة الفرنسية؛ وقد حددت مدة الضيافة بخمسة أيام فقط نظراً لكثرة الكتاب الوافدين على الدار وفي خلالها يقدم طعام الإفطار إلى الضيوف، وتوضع تحت تصرفهم جميع المعاونات والتسهيلات الممكنة لزيارة المعالم الأثرية والفنية. ومنذ أوائل الصيف الماضي تقوم هذه الدار الفخمة بمهمتها في استقبال الكتاب من مختلف الأنحاء

ونحن في مصر في حاجة إلى دار للضيافة من هذا الطراز؛ ولا نقول إنها يجب أن تعد لاستقبال جميع الكتاب الوافدين إلى مصر، بل يكفي أن تعد لنزول الكتاب والأدباء الذين يفدون علينا من الأقطار العربية والإسلامية؛ ونحن نستقبل الكثيرين من هؤلاء الأخوة في كل عام وكل فصل، ولا نستطيع في معظم الأحيان أن نقدَم إليهم ما يجب من حسن الضيافة والمعاونة. فعلى هيآتنا الصحفية والأدبية أن تبذل السعي اللازم لدى الحكومة حتى تظفر بتحقيق هذه الأمنية التي يعاون تحقيقها في توثيق الروابط الأدبية والاجتماعية بين مصر وشقيقاتها

اكتشاف جديد لسر التحنيط

هل اكتشف العلم الحديث أخيراً سر التحنيط عند الفراعنة؟ هذه مسألة تعنى بها الأوساط العلمية في أوربا وأمريكا منذ حين عناية خاصة، وتبذل الجهود من آن لآخر للوقوف على سر ذلك المحلول العجيب الذي كانت تنقع فيه الجثث المحنطة فيكفي لحفظها من العطب والتحلل آماداً طويلة، بل آلافا مؤلفة من السنين كما تشهد به موميات الفراعنة التي تحتفظ بها مصر وكثير من المتاحف العالمية. ولقد كان التحنيط على هذا النحو فناً من فنون المصريين القدماء برعوا فيه إلى الغاية؛ ولكن تسربت منه على ما يظهر في العصر القديم معلومات إلى بعض الأمم المعاصرة كالآشوريين والفرس؛ بيد أنه لم يبلغ في حضارة من

ص: 69

الحضارات القديمة مثل ما بلغه عند المصريين القدماء

وقد بذل العلم الحديث محاولاته لاكتشاف هذا السر مهتدياً بما كتبه المؤرخ اليوناني الكبير هيرودوت عن التحنيط عند الفراعنة حسبما شاهده ودرسه بنفسه لدى المحنطين المصريين وهم الرهبان في ذلك العصر؛ ولكن رواية هيرودوت لم تلق قط على حقيقة المواد التي كانت تستعمل ضوءاً كافياً، وكل ما هنالك أنه يتحدث عن محلول (النترول). وفي أواخر القرن الماضي استطاع بعض العلماء الألمان أخيراً أن يهتدي إلى مركب تحفظ به الجثث المحنطة ولكن إلى أعوام قلائل

والآن تحمل إلينا الأخبار من إيطاليا أن المباحث التي كانت تجرى منذ حين في جامعة تورينو قد انتهت بالوقوف على سر المحلول الفرعوني للتحنيط، وأن الكيميائي الإيطالي السنيور سالفاتوري بيروتا قد استطاع أن يهتدي إلى محلول تحفظ به جثث الحيوانات المحنطة أعواماً طويلة دون أن يصيبها البلى، بل تبقى كأنها حية تماماً. ويقول أساتذة المعهد الكيميائي بجامعة تورينو إن بيروتا قد استطاع حقاً أن يقف على سر التحنيط بهذا الاكتشاف؛ على أنه يبقى أن تثبت التجارب العلمية ما إذا كان هذا المحلول الذي اكتشفه العالم الإيطالي يكفي لحفظ الجثث آماداً طويلة، وهذه هي عقدة المسألة كلها. وقد كان بيروتا طالباً في معهد تورينو وتخرج فيه، ولكنه اضطر لفقره أن يلتحق بوظيفة صغيرة؛ إلا أنه شغف بالتجارب الكيميائية وأنشأ له معملاً صغيراً في منزله وأجرى فيه تجاربه؛ ولما وقفت الجامعة على جهوده سارعت لمعاونته ووضعت معملها الكبير تحت تصرفه حتى اهتدى بتجاربه العديدة إلى اكتشافه المذكور

انعقاد المؤتمر الطبي السنوي في بغداد

قررت الجمعية الطبية المصرية عقد مؤتمرها السنوي العاشر بمدينة بغداد في المدة بين 9 و 13 فبراير القادم

وسيتناول المؤتمر بحث الموضوعات الآتية:

جراحة الكبد والحويصلة الصفراوية - الملاريا - الكوليرا - موضوعات متنوعة جراحية وباطنية (من بينها الحمى المتموجة وحبة بغداد) - توحيد المصطلحات الطبية في اللغة العربية

ص: 70

وترجو الجمعية من حضرات الأطباء الراغبين في إلقاء بحوث عن هذه الموضوعات إحاطتها علماً بالموضوع الذي يختاره كل منهم مع ملخص بسيط عنه

أما قيمة الاشتراك في المؤتمر، فهي جنيه مصري يرسل باسم سكرتير الجمعية العام (بريد قصر العيني). وستعلن الجمعية قريباً عن البرنامج التفصيلي الشامل لحضور المؤتمر

أسبوع الكتاب الألماني

جرت عادة الجالية الألمانية في مصر أن تقيم في كل سنة معرضاً تطلق عليه (أسبوع الكتاب الألماني). وقد أقامته هذه السنة في القاعة الكبرى بالبيت الألماني في شارع الترعة البولاقية رقم 7 تحت رعاية وزير ألمانيا المفوض

ومن أهم ما عرض في هذه السنة ما كتبه الألمان عن مصر في مختلف الأزمان، إذ قدم المعهد الأثري الألماني للمعرض نخبة من المؤلفات القيمة في هذا الباب

وظل المعرض مفتوحاً يومي السبت والأحد وأقيمت في منتصف الساعة الثانية عشرة من صباح الأحد أمس حفلة موسيقية اختتم بها أسبوع الكتاب الألماني

ص: 71

‌القَصصُ

من أساطير الإغريق

3 -

خرافة جاسون

للأستاذ دريني خشبة

- (ولمه؟ ألست بن ملك مثلها؟ ألست صاحب عرش عظيم؟ أليس لي ملك تساليا بعد أن أعود من رحلتي هذه؟

- بلى يا بني! ولكنها تخشى أباها أشد الخشية. أليس يرى فيك عدوه الأكبر لما تريد من استلابه الفروة الذهبية التي هي أكبر كنوزه؟

- دعي هذا الآن يا أماه، ولكن طمئنيني كان الله لك، هل تحبني ميديا حقاً؟

- ومن أنبأك هذا؟

- نبأَتْنِيه ربة من السماء لا تضل ولا تنسى!

- ربة؟ تقدس اسمها؟! من عساها تكون يا ترى؟

- هي جونو يا أعز الأمهات! لا أكذبك، إنها جونو!

- أتعرف ما تقول؟

- وهل يكذب بشر على آلهته؟

- إن كان ما تقول حقاً. فلا أذيع سراً أذاعته سيدة الأولمب، ومليكة جوف الكبير المتعال؛ أن ميديا يا بني مولعة بك ولوعاً شرد المنام من عينيها، وجعلها في أيام معدودات طيفاً لا يردد لسانه غير اسمك، ولا تذرف عيناه إلا من أجلك. . و. .

- ميديا تبكي؟ ومن أجلي؟ ولم تبكي؟

- تبكي لأنك كلفت بأمور لا تحملها الجبال! وأين أنت من عِجَلْي فلكان والأرض الجَبُوب التي لمارس؟ ومن أنت والجيش العرمرم من المردة من نبات أنياب التنين؟ ثم من أنت وما هذا كله في التنين الهائل الذي يحرس الفروة؟ حقاً لقد جازفت بنفسك حين وافقت الملك على خوض تلك المخاطرة. .

- وما الرأي إذن ولابد مما ليس منه بد؟

ص: 72

- الرأي أن تلقى ميديا فهي حبيبتك، وإن عندها، فضلا عن ذلك، أم كتاب السحر، ولن تبخل عليك بعلمها مهما كلفها ذلك من حَنَق أبيها، وإغضاب أربابها

لقد كان الليل يضرب على العالم بجرانه، وكانت النجوم تلتهب في فحمته كقلوب المحبين، والفرقدان يتقدان من هول الزيارة المضروبة بين العاشقة المُدَلّهة، والفتى المقاحم ذي الآمال

وأقبل جاسون فوجد العجوز تنتظره عند الباب الخلفي. . . وهمست إليه فسار في إثرها حتى كانا عند منعرج مُسَوّج بنبات ذي عساليج، يؤدي إلى رحبة واسعة ينتشر في أرجائها أرج الورود والرياحين، حتى ليوقظ القلوب النائمة، ويعطرها بفغمة الحب، ويسكرها برحيقه المختوم الذي كله لغو وتأثيم!

وهناك، كانت تنتظره ميديا بنفس غرثى، وقلب ظامئ خَفِق، فلما رأته غمرها إحساس ثائر، واستولت عليها عاطفة صارخة، لم تستطع معها إلا أن تلقي بنفسها على صدره القوي الرحب، تبلله بدموعها. . .

ووقف جاسون ساكناً هادئاً، كأنما كان يوجس خيفة من هذا الحب الذي أقبل فجأة يهاجمه ويَدّارأ عليه، ويدفع بعضه بعضاً من حوله. . . لقد كان قلبه بارداً كالثلج، وذراعاه جامدتين كالرخام. . . وكانت ميديا تبكي وتنثر اللؤلؤ من عينيها المرتجفتين، ولكنه لم يستطع أن يرد تحية واحدة من تحايا هذه الدموع. . . وكأنما كان يحس، حينما كانت الفتاة تلف ذراعيها حوله، أن حية رقطاء تتحوّى عليه، وتنفث سمها فيه. . . لماذا؟ لم تكن إلا الآلهة وحدها تدري!!

- جاسون. . . أحبك. . . أحبك من أعمق أغوار قلبي! لم أكن أعرفك قبل أن رأيتك من الشرفة تكلم أبي، فلما رأيتك فنيت فيك. . .

- أشكرك يا عزيزتي. . . أشكرك شكراً لا أدري كيف أعبر عنه!

- جاسون! ألا تكون لي إلى الأبد؟

- أنا خادمك. . . بل عبدك إذا شئت!

- لم رَضيت لنفسك ما عرضه عليك أبي يا جاسون؟

- وماذا يخيفني يا ميديا؟ نحن الإغريق لا نرهب الردى، ولا نخاف الموت!

ص: 73

- هذا جميل. . . ولكن الموت أكره الأشياء وأقبحها لمثل هذا الشباب!

- قد أنتصر، والنصر، لاسيما في المخاطرات، أجمل تاج يتألق على جبين الشباب!

- هذا محال إذا لم أساعدك!

- تساعدينني؟

- أجل!

- وكيف؟

- عِدْني أولاً!

- وبماذا أعدك يا أعز الناس!

- أن تكون لي. . . أن نتزوج!

- أعدك!

- بل أعطني موثقك!

- أقسم لك!

- بل احلف بجونو؛ فهي حارستك! وأحلف بهياكاتيه!

- أ. . . أ. . . أحلف! أحلف بجونو! وبهياكاتيه!

- تحلف بجونو ماذا؟

- أحلف بجونو أن نتزوج!

- وأن يعيش كل منا للآخر إلى الأبد!

- إ. . . إ. . . إلى الأبد؟!

- إذن. . . لا ضير عليك. . . ستنجو من كل شيء يا جاسون. . . خُذْ!

- ماذا يا ميديا؟

- أسلحتك التي تقيك!

- أسلحتي!؟ هاتان عُلْبَتَان. . . وهذا حجر أسود صغير! أكل هذه أسلحتي؟ ماذا أصنع بها؟

- علبة من فضة إذا فتحتها اصّاعدت منها ريح تفل من حدة عِجْلَيْ فلكان، وتقي وجهك حر النار التي ينفثانها من منخريهما، فتستطيع أن تلجمهما، وتضع على عنقيهما النيّر حتى

ص: 74

يكون المِقْوَم بيدك. . . أما الحجر الأسود الصغير فتقذفه وسط المحاربين الذين تنبتهم أرض مارس الجَبُوب، وإنه لحجر مُسَوَّم من سجيل، يجعلهم كعصف مأكول! وأما العلبة الصغيرة الذهبية فتنثر مما بها من طيب في وجه التنين فيسكر وتتخدر أعصابه وينام لساعته، ولك عندها أن تقضي عليه. . .

وسكتت ميديا. . .

ومدت فمها إلى جاسون، فطبع عليه قبلة فاترة خائفة ترتجف وترتعد، مما سمعت من سحر الحجر الأسود، وريح العلبة الفضية، وطيب العلبة الذهبية!!

وكان الجو العبوس القمطرير يزيد في منظر الحفل الحاشد روعةً ورهبة؛ وكان الملك الجبار يملأ بجسمه الضخم عرشه الممرد فوق الأكمة المشرفة على الأرض الجبوب المقدسة باسم مارس، وكان الناس الذين أقبلوا من كل فج مُشَاةً وعلى كل ضامر يجلسون على الشعاف وأَحْيَاد الجبال المطلة على الميدان متزاحمين متدافعين كأنهم في يوم حشر. . . وكان إخوان جاسون يجلسون عصبة بينهم وفي قلوبهم حسرات على صاحبهم، وألسنتهم ما تفتر عن الدعاء له، والتوسل إلى الآلهة من أجله. . . وكانت ميديا العتيدة تجلس في ركن من مقصورة الملك تشعوذ وتُعَوّذ وتطلق الرُّقى. . .

ثم دق الناقوس الكبير فصمت الناس وشملهم سكون عجيب. . وانفتح باب الزّرب فبرز عجلا فلكان ثم جعلا يعصفان ويتلبطان وينفثان من منخريهما شرراً ودخاناً يختلط بهما لهب أزرق ما مسَّ شيئاً في الميدان إلا حرقه. . . حتى العشب الرطب المندّى بَلْه الهشيم اليابس. . .،. . . وبرز جاسون من مكمنه، فانحبست أنفاس الناس، وسكنت الريح، وأشرفت الآلهة من نوافذ السماء تنظر إلى هذا اللقاء العظيم. . . وأهطع أصحاب البطل وطارت ألوان وجوههم، وتحسس كل منهم فؤاده. . . ولكن جاسون الهائل خطر شطر العجلين غير هياب؛ وعليه دروعه، وفي يده سيفه؛ فلما كان قاب قوس منهما جعل يتلطف بهما، ثم فتح العلبة الفضية فصعدت منها ريح هدّأت ثورتهما وأسلست قيادهما فأسرع إلى النير فوضعه على عنقيهما وشد وثاقه، ثم ربط إليه المحراث وبدأ عمله الشاق. . . وكانت الريح السحرية قد بطل عملها أو كاد فعاد العجلان إلى سابق دأبهما من التوحش والقماص والشبوب وعاد منخراهما يقذفان دخاناً أبيض وشواظاً. . . بيد أن جاسون سيطر عليهما

ص: 75

حتى أتم حرث الأرض كلها، ثم قادهما إلى زَرْبها وأطلقهما، وغلق عليهما، وقصد ناحية الملك يسأله أنياب التنين ليزرعها. . . فدفعها الحراس إليه وطفق يغرسها في الأرض الرحبة حتى إذا فرغ من عمله، نظر فإذا رؤوس مقنعة في خوذات من حديد تنبت من الأرض، ثم تنمو فتبرز الرقاب، ثم تظهر الصدور وعليها الدروع السابغات، ثم تشقق الأرض وتكون الجذوع كلها من فوقها، وتخلص الأذرع وفي أكفها السيوف المرهفة تلاعب الهواء. . ثم ترتفع الأفخاذ وعليها كل لأْمة دلاص، ثم يقف أمام جاسون جيش عرمرم من هذه الشياطين المسلحة ترغى وتزبد وتزأر، ثم ينقض عليه الجيش بأكمله وقد شرع كل جندي حسامه، فيتلقاهم البطل بأحسن ما علمه شيرون أستاذه العظيم في قوة في كر، وحزم في فر، وحذق في تحرُّفٍ لقتال، ورسم لخطط للنضال. . . وكان الملك ينظر إلى كل ذلك ويتعجب، وكان الشعب يفغر أفواهه من دهش وذهول. . . وكانت ميديا - برغم ما سلحت به جاسون من سحر - تمسك قلبها الخفاق بيدين مرتجفتين. . . أما رفاق جاسون، فوا رحمتاه لهم!! لقد كانوا يرون الأبالسة يحدقون به من كل صوب، ويزلزلون الأرض تحت قدميه، فتزيغ أبصارهم وتقلب قلوبهم، وتتثلج مشاعرهم، وينظر بعضهم إلى بعض، لا يملكون لهذه الحال ردّاً ولا دفعاً

وظل جاسون يناضل ويناضل، وكلما قتل عشرة وقفت مائة مكانها، وكلما جندل مائة بُدلت بألف؛ فانقذف شيء من الرعب في قلبه، وسرى إلى نفسه دبيب من اليأس كاد يقتله، لولا أن أقبلت جونو تكلمه في نسمة روحت عن قلبه، وتذكره بالحجر الصغير الأسود. . . ولكن الحجر الصغير الأسود كان في جيب صداره، فأَنى له به ولو غفل لحظة عن الدفاع عن نفسه لباء بقتلة شنيعة يقطر سمها من ألف ألف سيف!!

وجعل المسكين يحاول مرة بعد مرة أن يخرج الحجر الصغير الأسود. . . ولكن محاولاته كلها ذهبت سدى. . . وكان قد بلغ منه الجهد، وتولاه الإعياء والضنى. . . فلهج لسانه فجأة باسم جونو. . . فأسرعت سيدة الأولمب لنجدته، وأخرجت الحجر الأسود من جيبه، ووضعته في يده، فقذفه جاسون وسط جيش الأعداء المحدقين، فما هي إلا طرفة عين حتى تفرقوا من حوله، ثم تصرّعوا غير مأجورين. . . وماتوا جميعاً

وأهرع أصحاب جاسون إليه، وطفقوا يحيونه ويهنئونه، ويذرفون حوله دموع الفرح لما

ص: 76

كشف عنه من غُمة هذا البلاء ثم حملوه وهم يهتفون باسمه أحر الهتاف، وأهرعت الجموع الزاخرة في آثارهم نحو البحر، وهي تفتأ تردد صيحات الإغريق، حتى خاف الملك على عرشه أن يثله شعبه، وأن يجلس عليه جاسون. . لذلك اربد وجهه، وانتشرت عليه سحابة من الكآبة والهم تملأ أساريره

وبلغ الإغريق سفينتهم فشكروا للكولخيين جميل ما حيوا به بطلهم. . . ثم خَلَوْا بعد ذلك إلى جاسون فنضوا عنه ثيابه، وضمخوه بالطيوب والعطور، ثم هيأوا له طعاماً وشراباً، من أفخر ما يقتنون. . وفي الليل أسر إليهم بسره، وانطلق ليلقي ميديا

ولقيته ابنة الملك بابتسامة لم يجزها عليها بمثلها. . . ثم تركها وقتاً غير قليل تغمره بُقُبَلها وتنضح يديه وخديه وجبينه بدموعها وتعبر له عما كان يقيمها ويقعدها حينما انبرى لِعجليْ فلكان، وحين أحدق به أبالسة التنين يقاتلونه ويتكاثرون عليه، وهو صابر لهم، صامد لجموعهم، حتى قذف الحجر فانقذفت في قلوبهم المنايا

- أرأيت إذن يا حبيبي ما صنع الحجر الأسود من السحر أيقدر على مثل ذلك غير من أوتي من العلم ما أوتيت؟

- كلا!

- ما لك لا تتكلم يا جاسون؟

- الفروة الذهبية! أريد أن أفرغ من هذا الهم الطويل؟!

- الفروة الذهبية لك من غير ما ريب، فلا تبتئس! قبّلْني!

وطبع على ثغرها قبلة مَيّتَةً كانت ترتجف من شياطين السحر التي ترقص دائماً في فم ميديا. . . وانطلقا إلى الجانب القصي من الغابة المجاورة، حيث كان التنين الهائل يحرس الفروة المعلقة على شجرة السنديان، وهناك، فتح جاسون العلبة الذهبية ثم اقترب من التنين في غفلة منه، وقذف في وجهه بما كان فيها من قطرات السحر. . . فترنح الوحش المخيف الرائع؛ واستل جاسون جُرَازه، وأغمده في صدر الأفعوان الكريه، فخر يتلبط في دم غزير. . . وانقض الفتى على الفروة الثمينة التي ترجح ألف كنز فانتزعها من الشجرة. . . وعادا عجليْن إلى القصر الملكي الرهيب، حيث كانت وصيفاتها في انتظارها، وقد جمعن كل ما استطعن حمله من أذخار القصر، كما رسمت لهن ميديا من قبل وحين أوشك الجميع أن

ص: 77

يغذوا السير إلى الآرجو. . . إذا بالفتى أبْسِرْتوس، أخو ميديا غير الشقيق، وولي عهد الملك، يقبل لبعض شأنه، فتغريه أخته بالسفر معها في رحلة جميلة إلى أبدع بلدان العالم. . . تساليا. . . ويرضى ولي العهد. . . وينطلق الجميع إلى المرفأ حيث رست الآرجو، فيركبون فيها، وتقلع بهم في موج كالجبال

في العدد المقبل (خاتمة ميديا)

دريني خشبة

ص: 78