المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 229 - بتاريخ: 22 - 11 - 1937 - مجلة الرسالة - جـ ٢٢٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 229

- بتاريخ: 22 - 11 - 1937

ص: -1

‌ثورة على الأخلاق!

هل الصلاح غير النجاح؟

- ما رأيتك يا محمود على هذه الحال منذ عرفتك! أين السماحة التي تفترُّ في ثغرك، والغبطة التي تشرق في صدرك، والرضا الذي كان يجعل من حياتك نموذجاً لعلماء الدين وجهابذة العلم وفلاسفة الخلق؟

- ماذا أصنع يا صديقي والناس أصبحوا يشككونني في مزايا الأخلاق وقِيَم الفضائل؟ كنت أضطرب في دائرة ضيقة من العيش فيها كل ما في الدنيا الواسعة من لذة الروح بالأهل، وسرور القلب بالإخوان، ومتاع العقل بالكتب، ونشاط الجسم بالعمل؛ وليس فيها البُحران الذي يحدث من حمَّى الهموم، ولا الجحيم الذي يشبُّ من تحاسد الخصوم، ولا اللجب الذي ينشأ من تنافس المجتمع؛ وكنت وأنا في هذا العالم الصغير المحدود أعتقد أن القواعد التي سنها الأخلاقيون لتهذيب الإنسان من الخلال المضادة لغريزته، قد استطاعت على مر القرون أن تخفت في دمه صوت الحيوان، وأن تلائم بين موهوب الطبع وبين مكسوب العادة من تناقض الرأي وتعارض الهوى، وأن تجعل من سلطانها الغالب دستوراً لحياة الناس، فيكون بها مقياس السؤدد، وفيها سبب الرقي، ومنها وسيلة النجاح. نعم يا صديقي كنت أعتقد ذلك وأستبعد أن يكون للمدنية معنى غير الثقافة، وللثقافة مدلول غير الكفاية، وللكفاية نتيجة غير الفوز، حتى ألجأتني طبيعة عملي العامِّ إلى توسيع هذه الدائرة، فوسعتها بمقدار ما استلزمه هذا العمل من ملابسة الشعب ومراجعة الحكومة، فإذا كل ما قرأته زور، وما تخيلته وهم، وما اعتقدته باطل. ماشيت العامة على منهج الدين فلقيت الكفر، وعاملت الخاصة على هوى الخلق فوجدت النفور، وعالجت الأمور على مقتضى القانون فأدركت الخيبة؛ فذهبت أفتش في الناس عن أسباب الفوز فلم أجد من بينها سبباً يمت إلى الفضيلة أو يتصل بالكفاية. هذا الباشا فلان يملك القرى بإنسانها وحيوانها وأطيانها، وله المقعد المرفوع في البرلمان، والصوت المسموع في الحكومة، والأمر النافذ في البنوك، وهو رجل لا يزال على الفطرة الأولى من الوحشية والعنجهية والجهالة. وهذا البك فلان تشغل عمائره الخلاء والهواء من المدينة، وله على أغلب الأسر دَين، وعلى أكثر البيوت اختصاص؛ ولو سألت جيرانه الأولين عن مصدر هذا الثراء الضخم لأجابوك بلهجة

ص: 1

المحنَق الموتور بأنه الربا الذي لا يحفل القانون، والغش الذي لا يبالي الفضيحة، والاختلاس الذي لا يخشى الله، والبخل الذي لا يذكر الموت. وهذا الموظف فلان يملك القصر المنيف في أجمل بقعة، والسيارة الفخمة من أعلى طراز، والمرتب الضخم من أول درجة، وله الوصل والقطع في أمور الناس، والمنح والمنع في أموال الدولة. فهل بلغ ما بلغ بعلمه؟ إنه لا يحمل غير الشهادة الثانوية. هل نال ما نال بكفايته؟ إنه لا يحسن غير الإمضاء في الموضع الذي يضع عليه الكاتب الصغير إصبعه من الورقة. إذن لم يدرك الرجل ما أدرك إلا بفضل المرونة التي تكون فيمن خلقوا من المطاط لا من الطين، فرأسه ذو وجهين، ولسانه ذو شقين، وضميره ذو بالين، وشرفه ذو رأيين؛ يداري ويجاري، وينافق ويمالق، ويهان فيغضي، ويستباح فيبيح؛ وهو متفرق الأحاسيس فلا تجتمع له عاطفة، متنافر المنازع فلا ينسجم له رأي، معوج المسالك فلا يستقيم له مذهب

وهذا الأستاذ فلان يأكل في صحاف الذهب والفضة كالنابغة، ويخطر في مطارف النعيم والجاه كابن العميد، ويملك للناس الضر والنفع كابن عبد الملك! فلعله أصاب ما أصاب من وراء علمه وخلقه. ليت ذلك كان فتشذ القاعدة ويخطئ القياس، ولكن الأستاذ نجح وا أسفاه لأنه باع العلم بالسياسة، واشترى الدنيا بالدين، واضطرب في مهب الأعاصير حتى رفعه أحدها على متْنه، ثم استقر على المنحدر الشاهق استقرار الريشة القلقة!

ثم رجعتْ أبحث عن أسباب الفشل فوجدتها لا تخرج عن حدود الفضائل التي تعشقها ابن آدم منذ أدرك! فالعلم والصدق والصراحة والشجاعة والقناعة والأمانة والنزاهة والأنفة والحلم والتواضع والجود، كل أولئك عوائق عن درْك الغنى ونيل الجاه وكسب الشهرة. وأقوى البراهين على إقناعك أن تستقريَ أحوال المصابين بهذه الخلال فهل تجدهم إلا أواخر الموظفين في الديوان، وأخسر المتعاملين في السوق، وأضعف المتنافسين في المجتمع؟

لقد تدبرت الأمر فوجدت الفضائل لا تنتصر إلا في الروايات والقصص؛ أما التاريخ الذي يسجل الواقع ويروي الحق فهو دامي الصفحات بأخبار الأنبياء والعلماء والفضلاء والمصلحين الذين أوذوا في سبيل الدين، وقتلوا في خدمة العلم، ونكبوا في مرضاة الحق، وشقوا في حب الفضيلة. فهل تقول بعد ذلك إن الأخلاق الفاضلة لا تزال عدة النجاح

ص: 2

وطريق السعادة؟

فقلت له: أما أنها طريق السعادة فنَعامِ ونَعَم. وأما أنها عدة النجاح فلا أجد في نفسي الآن قوة على تأييده؛ لأن لي في بعض المصالح مسألة لم يفسدها إلا رعايتي للخُلق، وفي بعض الوزارات مسألة أخرى لم يعقدها إلا محافظتي على القانون. فليس لك عليّ إلا أن أعرض رأيك على رجال الدين وحماة القانون ودعاة الأخلاق، ليردوا عليك ما كذب من قولك، أو يردوا إليك ما عزب من عقلك.

أحمد حسَن الزيات

ص: 3

‌بين القاهرة واستنبول

للدكتور عبد الوهاب عزام

1 -

دمشق

يا صديقي صاحب الرسالة

أحسبك رأيت من قبلُ دمشق فآنقك مرآها، ونفحتك ريّاها، وآنستك ذكراها، ودارت بك منازهها وطرقها بين الماضي المجيد، والحاضر المجهود، والمستقبل المنشود. ولعلك أشرفت من قاسيون على البلد الجميل تحيط به الحدائق الشجراء متصلة بين المُزة والغوطة فسرحت الطرف والقلب في مرأى جميل ومنظر بهيج. ولا ريب رأيت بَرَدَى يتبطن الوادي، ويتسنم الجبل، وينسرب في شرايين المدينة فيسري في دورها ومساجدها وحماماتها وشوارعها، وتسمع أحياناً خريره في جوف قناة أو جدار لا تتبين مأتاه ومذهبه. ومن قبلُ قال ياقوت:

(فقلّ أن تمرّ بحائط إلا والماء يخرج منه في أنبوب إلى حوض يشرب منه، ويستقي الوارد والصادر. وما رأيت بها مسجداً ولا مدرسة ولا خانقاها إلا والماء يجري في بركة في صحن هذا المكان، ويسحّ في ميضته)

وأحسبك يا أخي مررت بمعاهدها فأحسست وقدة بين الضلوع، أو طرحت كما يقول البحتري ثقلا من الدموع

أدخلت إلى الجامع الأموي من باب جيرون ورأيت في الطريق المفضية إلى الباب صفا من العمد العادية، وتمثلت القرون تنسخ القرون، والعصور تحطم العصور، وولجت الباب العظيم إلى الصحن الفسيح فالتفت إلى شمالك فرأيت صور الدور والأشجار والأنهار مصورة بالفسيفساء منذ عهد الوليد. ثم ملت إلى اليمين فدخلت الجامع تروعك العمد العالية الضخمة تمتد في صفوف مديدة، ورأيت أمام القبلة قبة النسر الشامخة تزهى بما أشرفت على التوحيد في محرابه، وأظلت الحق في جماله وجلاله

وما أحسبك رقيت في المنارة الشرقية، وشهدت في مرتقاك حجرة يقال إن الغزالي كان يعتكف فيها، ثم بلغت القمة بعد جهد فجمعت أمامك المدينة، وزويت الأرض كأنك تطالع منها صورة في رقعة فقلت:

ص: 4

صعدت في قمة التاريخ مأذنة

لها من الحق والتاريخ أحجار

فإذا تركت الجامع الكبير فهناك مشاهد أخرى عظيمة، وذكريات جليلة

- هل مررت بالرجل الصالح نور الدين محمود ثم البطل المجاهد صلاح الدين يوسف؟ هل وقفت على ابن أيوب فقلت:

فيا لك قبراً على قربه

تظل العقول به في سفر

ويالك قبراً كعين البصي

ر يحوي العوالم منها صِغر

وهناك المدرسة العادلية وبها المجمع العلمي اليوم، والمدرسة الظاهرية حيث ضريح الملك الظاهر بيبرس وبها دار الكتب، ودار الحديث الأشرفية وكان من نزّالها العالم التقي الذي لم تأخذه في الحق رغبة ولا رهبة محيي الدين النواوي. ولا تزال حجرته بها معروفة. ويقول بعض المحدثين ولعله ابن حجر:

وفي دار الحديث لطيف معنى

أطوفّ حول مغناه وآوي

لعلي أن أصيب بحُرّ وجهي

مكاناً مسّه قدم النواوي

وهل صعَّدت في الصالحية إلى ضريح محيي الدين بن عربي أم نفرت من هذا الشيخ الغريب واللغز العجيب؟ على أن بجانبه بطلاً من أبطال الجهاد وسيفاً من سيوف الجلاد: الأمير عبد القادر الجزائري. وإن أردت مزار الرجل العالم الصالح الصوفي الشاعر ذي المناقب الحميدة وصاحب التأليفات الكثيرة الشيخ عبد الغني النابلسي فليس بعيداً من ضريح محيي الدين تسلك إليه طريقاً مقفرة بها مدارس دارسة، منها المدرسة القمرية

فإذا صعدت في الصالحية فهناك من الآثار ما يشق تعداده: مدارس ومساجد ومستشفيات، وهناك جامع الحنابلة الذي قرأ به الذهبي وابن قدامة وغيرهما من كبار العلماء، والمدرسة الضيائية وكانت تحفظ بها خطوط كبار المحدثين وهي اليوم كتَّاب، حتى ينتهي الصعود إلى مقبرة الصالحية حيث قبر محمد بن مالك النحوي في قبور كثيرة للعلماء والكبراء

وفي أطراف المدينة مشاهد كثيرة للصحابة فمن بعدهم. ولا تنس وقفة على قبر بلال في مقبرة الباب الصغير لترى الأذان مضمراً في كتابه، وتسمع الصوت مكنوناً في نايه، بل تسمعه جهيراً مدوّياً يملأ الفضاء، ويبلغ عنان السماء (كالخط يملأ مسمعي من أبصرا) أو كإشارات الموسيقى خطوط في البصر، ونغمات في الأذن، ووجْد في القلب. وهل الأذان

ص: 5

في المشرق والمغرب إلا صوت بلال مردداً قد بقي في القبة الزرقاء صدى توالت رُواته واتصلت نغماته؟

وهل جُلْتَ في الغوطة تحنو عليك أشجارها، وتترقرق عليك ظلالها، وتطالعك من بين الغصون شمسها، وتتمادى بك مسالكها بين الزروع والأشجار:

سقى الله أرض الغوطتين وأهلها

فلي بجنوب الغوطتين شجون

وهناك ضريح سعد بن عبادة قد اعتزل الناس في مماته، كما اعتزلهم في آخر حياته:

وهل سرت إلى دوما ومررت بجَوبَر فذكرت قول القائل:

إذا افتخر القيسي فاذكر بلاءه

بزرّاعة الضحاك شرقي جوبرا

أو قول الأمير شكيب أرسلان في الصديق الأديب الشاعر خليل مردم بك:

(وإليه تجبى جوبر وكنيسها)

يا أخي وكيف تجيش الفِكَر وتنبع الذِكَر حين يقترب المسافر من المدينة الخالدة فيلقى نضارتها ويجد رَوحها عند الهامة. فإذا أجاز إلى دُمّر فهناك برَدى عن اليمين والشمال متدفقاً في ظلال الأشجار - أشجار الحور الباسقات - ولله مجلس على بردى تذوب في مائه النظرات، وتتساقط عليه من الحور نغمات. فإذا بلغت الشاذروان فَغَمَك عَرف دمشق، وشممت أخلاطاً من الروائح الطيبة أمدّت بها الأشجار والأعشاب، روائح يعجز عنها الوصف إلا أن يسميها (نفحات دمشق). وهل جلست بالربوة فسمعت المعجبين بها يقولون: إنها الربوة التي ذكرها القرآن الكريم في قوله: (وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين) هناك بَردَى سبعة أنهر تجري في الوادي وعلى الصدفَين وفوق الجبل. ويخر من نهر يزيد - وهو فوق الجبل لا يرى - شلال على الربوة لا يمل الشاهد مرآه ومسمعه

أما أنا يا أخي فلست أملّ التردّد بين دمشق ودّمر أجد هناك جمالاً لا يحد، وسحراً لا ينفد. وقد رُدت هذه المشاهد مرات، ورأيت لها في القمراء آيات؛ يتمعّج بنا الوادي بين الجبال والأشجار، ومياه بردى تسيل بها ربوة أو يوسوس بها ثعب، أو يتغنى بها بستان، فلا تفتأ تسمع منه حديثاً يؤلّف مع حفيف الريح موسيقى هذا الجمال الفتان، والوادي يدور بنا دوراته، والقمر يلاعبنا بطلعاته، عن اليمين والشمال وأمام وخلف. وللقلب بين ذلك مضطرَب، وللشعر مذهب أيّ مذهب. كان يخيل إليّ أن هذه المياه الثرثارة حُزَم من

ص: 6

الأشعة، وأن أشعة القمر رشاش من بردى، وأن هذا النسيم المعطر مزيج من الماء والضياء ينضح وجوه السابلة: شعر تفيض به الأرض والسماء، وسحر ينفثه الماء والهواء، وإلهام يفيض به الجنان، ويعجز عنه البيان

يا صديقي قد صدق البحتري إذ قال:

إذا أردت ملأت العين من بلد

مستحسن وزمان يشبه البلدا

يُمسي السحاب على أجبالها فرقاً

ويُصبح النبت في صحرائها بددا

فلست تبصر إلا واكفاً خضلا

أو يانعاً خِضراً أو طائراً غرِدا

دمشق 22 تموز 1937

عبد الوهاب عزام

ص: 7

‌على ذكر الموسوعة الإيطالية

قصة الموسوعة الجامعة

وكيف عرفتها الآداب العربية في العصور الوسطى

للأستاذ محمد عبد الله عنان

سجل العلم الحديث فتحاً جديداً خطير الشأن بصدور الموسوعة الإيطالية (دائرة المعارف) التي بدأ صدورها منذ أعوام ثلاثة فقط، وصدر المجلد الأخير منها (وهو المجلد السادس والثلاثون) منذ أسابيع قلائل. وإذا كنا ممن لا يؤمنون بمزايا النظام الفاشستي، فإنه لا يسعنا إلا أن نحيي ذلك المجهود العظيم الذي حققه العلم الإيطالي في تلك الفترة الوجيزة، والذي يعتبر بحق مفخرة للعهد الفاشستي، خصوصاً وأن الموسوعة الجديدة جاءت حسبما يقرر النقدة مجهوداً علمياً خالصاً بعيداً عن شوائب الدعاية والأهواء

ولهذه الموسوعات العظيمة التي تحشد فيها سائر العلوم والفنون والآداب تاريخ حافل يرجع إلى أقدم العصور؛ وإذا كانت تغدو اليوم مورداً سهلا لكل طالب وقارئ بما انتهت إليه من سهولة في الترتيب والتصنيف، فإنها لم تصل إلى نظامها الحالي إلا بعد أن تقلبت في أطوار عديدة، واشترك في تنظيمها كثير من الأذهان في مختلف العصور والأمم؛ وكان لتفكيرنا العربي، حسبما نرى، نصيب يذكر في هذا الميدان

وأصل الكلمة أي كلمة (انسيكلوبيديا) التي تطلق اليوم في جميع اللغات الحية على جميع الموسوعات العلمية والأدبية يوناني، وأصل الفكرة ذاتها يوناني أيضاً؛ وكانت تعني في اليونانية القديمة مجموعة المعارف التي يجب أن يتزود بها الفتى لاستقبال الحياة العملية؛ ثم استعملها الرومان وأضحت بمضي الزمن تطلق على جميع العلوم مجتمعة في سفر واحد. وأقدم مجموعة من هذا النوع انتهت إلينا هو مؤلف بلني الكبير في التاريخ الطبيعي الذي يرجع إلى القرن الأول من الميلاد، وهو مؤلف شامل يتناول كل ما كان معروفاً في ذلك العصر من الطب والجغرافيا والتاريخ الطبيعي وغيرها من الفنون

ووضعت خلال العصور الوسطى باللاتينية عدة مصنفات شاملة من هذا النوع، وكان واضعوها بالأخص جماعة من رجال الدين الذين توفروا في تلك العصور على جمع

ص: 8

أشتات العلوم والفنون، بيد أن هذه المصنفات القديمة كان ينقصها روح التناسق والترتيب العلمي، ولم تظهر فكرة الموسوعة (الانسيكلوبيديا) بمعناها الحديث إلا منذ القرن السادس عشر. ولم تظهر طلائع الموسوعات الحديثة بترتيبها الفني أو الأبجدي إلا في القرن السابع عشر كما سنرى

وهنا، وقبل أن نمضي في استعراض تاريخ الموسوعة الحديثة يجدر بنا أن نشير إلى الدور الذي أداه التفكير العربي في هذا الميدان؛ فقد عرفت الآداب العربية فكرة الموسوعة بمعناها الشامل، وحققت في هذا الباب جهوداً خليقة بالإعجاب والتقدير. ومنذ القرن الثالث الهجري يبدو أثر هذا الميل إلى التصنيف الشامل واضحاً في كثير من الآثار العربية، ونستطيع أن نلمس هذا الأثر واضحاً كثير من الآثار العربية، ونستطيع أن نلمس هذا الأثر في كتب مثل عيون الأخبار لابن قتيبة، والعقد الفريد لابن عبد ربه، والأغاني لأبي الفرج، وهي مصنفات يطبعها طابع الموسوعة فيما تتناول من مختلف الموضوعات والأخبار. كذلك نجد روح الموسوعة ظاهراً في كثير من المصنفات التاريخية العربية؛ فكتاب الكامل لابن الأثير مثلا يعتبر بحق موسوعة تاريخية شاملة تجمع بين مزايا التعميم والترتيب المدهش، وكتاب الوفيات لابن خلكان بلا ريب من أقيم موسوعات التراجم. ومما يلاحظ أن الموسوعة الأوربية الحديثة بدأت كما سنرى بهذا النوع من المصنفات والمعاجم التاريخية الشاملة

على أن الآداب العربية عرفت في مصر نوعاً أتم من الموسوعة الكبيرة الشاملة؛ ونستطيع أن نقول إن القرن الرابع عشر في مصر كان عصر الموسوعات؛ ففيه أخرج شهاب الدين النويري المتوفى سنة 733هـ (1333م) موسوعته الضخمة (نهاية الأرب في فنون الأدب)، وأخرج ابن فضل الله العمري المتوفى سنة 749هـ (1348م) موسوعته الجغرافية والتاريخية العظيمة (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار)؛ وفي أواخر هذا القرن وضع القلقشندي المتوفى سنة 821هـ (1418م) موسوعته السياسية والإدارية الضخمة (صبح الأعشى)، وفي هذه الآثار النفيسة الشاملة نرى طابع الموسوعة وروحها بارزين لا من حيث الضخامة وسعة الأفق فقط، بل ومن الناحية العلمية والفنية أيضاً؛ فكتاب نهاية الأرب الذي يشغل نحو أربعين مجلداً ضخما هو موسوعة تاريخية وجغرافية وأدبية

ص: 9

وعلمية وفنية، يأخذ في كل من هذه النواحي بنصيب وافر؛ وكتاب (مسالك الأبصار) الذي يبلغ نحو عشرين مجلداً، هو موسوعة جغرافية وتاريخية حقة، لا يقل من الناحية العلمية والفنية عن كثير من الموسوعات الأوربية المماثلة التي صدرت في القرن السابع عشر؛ وكتاب (صبح الأعشى) الذي أصدرته دار الكتب المصرية في أربعة عشر مجلداً ضخما، هو موسوعة فذة في نوعها وقيمتها فهو (دار محفوظات) بأسرها جمعت فيه معلومات ووثائق إنشائية وإدارية وسياسية عن الدول المصرية لم تجتمع في أي مؤلف آخر

هذه الآثار العربية التي نذكرها على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر، تدل دلالة واضحة على أن فكرة التصنيف الجامع أو بعبارة أخرى فكرة الموسوعة الشاملة، عرفت في الآداب العربية وبلغت فيها شأناً يذكر؛ بيد أن هذه المحاولة العلمية الجليلة وقفت مع الأسف في منتصف الطريق وحالت دون تقدمها عصور محزنة من الركود والانحلال توالت على التفكير العربي

ونعود الآن إلى الموسوعة الأوربية، فنقول إن طلائع الموسوعات الحديثة ظهرت منذ القرن السابع عشر، وكان ظهورها بالأخص في فرنسا، حيث صدر في سنة 1674 معجم موِريري التاريخي المسمى (القاموس التاريخي الكبير) مرتباً ترتيباً أبجدياً؛ وصدرت في سنة 1697 موسوعة بايل التاريخية المسماة (القاموس التاريخي النقدي) مرتباً على الحروف أيضاً؛ وظهرت أيضاً في أواخر هذا القرن موسوعة دربلو الشرقية المسماة (المكتبة الشرقية)؛ ثم تطور نظام الموسوعة بسرعة، فاتجهت إلى التوسع والترتيب الفني والأبجدي، وأخذت تغدو شيئاً فشيئاً مرجعاً شاملا لأشتات العلوم والفنون، وتشعبت مناحيها شيئاً فشيئاً حتى غدت مشروعاً علمياً جامعاً، بعد أن كانت مجهوداً فردياً فقط، وساهمت في إخراجها جميع الآداب الحية بأوفر نصيب

ففي إنكلترا بدأت الموسوعة الحديثة بقاموس وضعه القس جون هاريس في أوائل القرن الثامن عشر عن العلوم والفنون ثم تبعه تشامبرز بموسوعته ويعتبر تشامبرز أبا الموسوعة الإنكليزية. وفي سنة 1768، وضع ثلاثة من أهل ادنبورج، وهم وليم سميلي الطابع، واندروبل المصور الحفار، وكولن مكفر كوهار، وهو صاحب مطبعة، مشروعاً لإصدار موسوعة جامعة للعلوم والفنون والآداب، ظهرت في ثلاثة مجلدات في سنة

ص: 10

1771؛ وكانت هذه الموسوعة المتواضعة هي الطبعة الأولى من الموسوعة البريطانية التي هي اليوم أمثل وأنفس الموسوعات الحديثة. وظهرت الطبعة الثانية بين سنتي 1777 و 1784 في عشرة مجلدات؛ وتوالى صدور طبعاتها الجديدة حتى صدر منها إلى اليوم خمس عشرة طبعة متدرجة في الضخامة والإتقان؛ وصدرت طبعتها الأخيرة والخامسة عشرة في سنة 1934، في اثنين وثلاثين مجلداً ضخما غير الفهارس والأطالس؛ والرأي مجتمع على أن الموسوعة البريطانية هي خير موسوعة في العالم من حيث مادتها ونظامها وروحها العلمي الخالص

وفي فرنسا، بعد أن ظهرت المعاجم والموسوعات التاريخية التي أشرنا إليها، وضع المفكر الفيلسوف ديدرو وعدة من زملائه الأعلام مثل دالامبر وهولباك وجريم موسوعتهم الشهيرة التي ظهرت بين سنتي 1751 و 1772 في ثمانية وعشرين مجلداً على نمط موسوعة تشامبرز الإنكليزية؛ وكانت هذه الموسوعة التي امتازت بنزعتها الفلسفية المجددة، وبالثورة على القديم في كل شيء فتحاً عظيماً في التفكير الفرنسي، وكان لها أكبر الأثر في توجيه الذهن الفرنسي إلى الأفكار والمبادئ الجديدة التي سادت عصر الثورة الفرنسية فيما بعد. وظهرت في القرن التاسع عشر موسوعات لاروس الشهيرة، ومنها القاموس الكبير الذي يعتبر فوق مزاياه اللغوية دائرة معارف شاسعة، وظهرت منها إلى يومنا عدة طبعات مختلفة؛ وفي أواخر القرن الماضي صدرت الموسوعة الفرنسية الكبرى بين سنتي 1886، 1903 في إحدى وثلاثين مجلداً، بيد أنها بقيت على طبعتها الأولى حتى اليوم، وتخلفت بذلك عن مضمار التجديد والاستكمال

وظهرت في القرن التاسع عشر عدة موسوعات عظيمة أخرى فظهرت الموسوعة الإيطالية لأول مرة بين سنتي 1841 و 1851 في أربعة عشر مجلداً، ثم ظهرت في أواخر القرن الماضي في خمسة وعشرين مجلداً، وظهرت أخيراً بعناية الحكومة الفاشستية في ستة وثلاثين مجلداً، صدر الأخير منذ أسابيع قلائل حسبما قدمنا فجاءت بذلك أحدث الموسوعات الأوربية وأتمها من الوجهة الفنية. وصدرت الموسوعة الألمانية في مائة وسبعة وستين مجلداً تحت عنوان (الموسوعة العامة للعلوم والفنون)، وبدأها الأستاذان أرش وجروبر سنة 1813 واستمر صدورها طوال القرن التاسع عشر ولم تكمل إلا في

ص: 11

سنة 1905، ولم يعد طبعها إلى اليوم. وصدرت الموسوعة الروسية حتى سنة 1905 في واحد وأربعين مجلداً، وظهرت طبعتها الثانية في ظل الحكم السوفيتي

ويوجد غير هذه الموسوعات العامة الجامعة موسوعات أخرى في نواح معينة من العلوم أو الفنون، مثل الموسوعة اليهودية موسوعة الدين والأخلاق موسوعة العلوم المتافيزيقية، وغيرها؛ ولهذه الموسوعات قيمة علمية خاصة لأنها تجمع أشتات العلم أو الفن الواحد ومراجعه كلها مرتبة أبدع ترتيب

هذه خلاصة لتاريخ الموسوعة الجامعة (الانسيكلوبيديا) وتطوراتها، نسوقها لمناسبة صدور المجلد الأخير من الموسوعة الإيطالية الجديدة؛ بيد أننا ننتهز فرصة هذه المناسبة لنلفت الأنظار إلى أمنية قديمة كثيراً ما رددتها دوائر الأدب العربي في الأعوام الأخيرة، وهي أن تعمل دوائرنا العلمية والأدبية المسؤولة لإخراج موسوعة عربية جامعة على طراز الموسوعات الحديثة؛ وقد بذلت في العصر الأخير جهود فردية في سوريا وفي مصر لإخراج موسوعة عربية، ولكن هذه الجهود لم تكن ذات قيمة علمية أو أدبية تذكر، خصوصاً وأنها بذلت في وقت لم تكن الآداب العربية قد بلغت فيه من النضج والكفاية الفنية ما تبلغه اليوم. ولم تبق الموسوعة اليوم عملا فردياً كما كانت في الماضي، ولكنها اليوم تنتظم في سلك المشاريع العلمية الجليلة التي تشرف على تنفيذها الدولة أو الهيئات العلمية القوية. ولدينا اليوم في مصر، فضلاً عن وزارة المعارف العمومية، عدة من الهيئات العلمية القوية الرسمية وغير الرسمية؛ ففي وسعها جميعاً أن تتعاون في بحث مشروع الموسوعة العربية، وفي العمل على تنظيمه وإخراجه. ومن المحقق أن مثل هذا المشروع الجليل يلقى من التأييد والنجاح في مصر وفي جميع البلاد العربية، ما لقيه حتى اليوم في جميع الأمم المتمدنة والآداب الحية.

محمد عبد الله عنان

ص: 12

‌في الإسلام ضمان للعرش والديمقراطية

للدكتور محمد البهي قرقر

كان من النتائج المباشرة للحرب العالمية الكبرى بعد أن مارست الأمم الكفاح أربع سنوات أن شعرت الطبقات الشعبية بأنها هي التي قامت بالدفاع، وأنها هي التي كانت تساق إلى ميادين القتال سوقاً، وأن غرم الحرب من الأنفس كان منها ومن الأموال كان مما تدفعه للدولة. شعرت بهذا فشعرت بأن لها الحق في قيادة الأمة في حال السلم والسيطرة على شئونها لأنها وحدها هي التي تنال أذى الحرب وتتحمل خسائرها فمن العدل أن تقودها

قوي هذا الشعور فأصبح مبدأ، وازداد هذا المبدأ تغلغلا في النفوس حتى تحول إلى سياسة عملية، قوامها نصرة الطبقات الشعبية وتمكنها من قيادة دفة الأمور، ولكن في صورة غير مألوفة من قبل

هذه السياسة العملية صحبها انقلاب رئيسي في نظام الحكومات نشأ عنه نوعان من الحكم الشيوعي والفاشستي، يتفقان في ادعاء الديمقراطية وهي تمكين الشعب من حكم نفسه تمكيناً عملياً، ويختلفان في الأسلوب تبعاً لاختلاف العوامل الاجتماعية الأخرى والغاية التي يقصد إليها

الديمقراطية الشيوعية

فالنوع الشيوعي تغالي في المعنى الشعبي وزاد في تقديسه، أو هو أساء في الواقع فهم المنزلة الشعبية؛ وتبع تلك المغالاة العداء للطبقة الأرستقراطية وازدياد السخط على الفرد الممتاز أو السيد الحاكم بأمره. وكانت نتيجة سياسته العملية ذات شقين، أولا إبعاد ذلك الفرد الممتاز عن الحكم، واضطهاد الطبقة الأرستقراطية؛ وبعبارة أوسع الطبقة التي كانت تبيح لنفسها، إما اعتماداً على ما لها من شرف أو لما في يدها من مال، أن تتزعم الطبقات الأخرى الفقيرة والمتوسطة. وثانياً رفع الشعب إلى منصة الحكم

ولكن لم يكد الشعب صاحب هذا النظام يتولى تنفيذ التقويض من جهة والرفع من جهة أخرى حتى اصطدم بالحقيقة الواقعة، وشعر بأن زوال الرأسمالية التي ترى فيها النظرية الشيوعية السعادة المتوهمة لكل أفراد الشعب، وتولي الدولة للشئون الاقتصادية وتوزيع العمل والإنتاج على الطبقات المختلفة تحقيقاً لمساواة صورية، عمل يضاد العدالة المبتغاة،

ص: 13

إذ آخر أمره استبداد طائفة من الشعب بأفراد الأمة كلها على صورة قانونية

كما شعر الشعب نفسه، صاحب هذا النظام، بعدما ملك بيده زمام الأمر أن إقصاء صاحب الحق الشرعي في سيادة الدولة وهو القيصر، كان من الأسباب التي سولت لكثير من أفراد الشعب بأن له حقاً في الرياسة العامة إذ أنه يملك القسط المشترك وهو المعنى الشعبي الذي يخول له هذا. فالخصائص الأخرى في نظره عديمة الأهمية أو يجب ألا يكون لها اعتبار

ومن هذا الشعور النفسي تولدت هذه الثورات الداخلية في السوفييت الروسي، وسيستمر لهيبها ما بقي هذا الشعور، وسيظل باقياً مادام مبدأ الشيوعية يعتقد أو بمعنى آخر مادامت هذه الفئة الشعبية تملك قوة تسيطر بها على النفوس

وإذن فالمبدأ الشيوعي لا يتفق مع فطرة الجماعة الإنسانية التي لا تخضع بطبيعتها إلا إلى واحد منها تعتقد فيه مزايا لا تتوفر لكل فرد من أفرادها، وخصائصه تعلو به عن طبيعة الإنسان العادي؛ كما لا يتفق مع طبيعة الأفراد التي لا يمكن أن تكون من نوع واحد؛ فمساواة إنسان بآخر مساواة مطلقة في كل مرافق الحياة إجحاف بأحدهما لا محالة، وإنكار للقوة الكامنة في إنسان دون آخر وهي التي قد تخلق منه شخصية بارزة في أية ناحية يفضل بها غيره

إذن فهو نظام (أوتوماتيك) يحاول أن يخلق من جماعة البشر أعضاء لا إرادة لهم إلا ما يريده مباشر السلطة العليا ولا حياة لهم إلا في ظل الضغط. يريد أن ينشئ من الشعب آلات مسخرة للإنتاج العام، وأن يكون منه جبهة لمقاومة كل نظام آخر يقوم على المبدأ الوطني ويقر بشيء من حقوق التملك للفرد

فغايته إزالة الفوارق الاجتماعية والمالية والطبيعية أيضاً بين الأفراد، ثم قيام الدولة وبعبارة أخرى مباشرة الهيئة الحاكمة بأمرها - وإن زعمت أنها تحكم باسم الشعب - للإنتاج الاقتصادي. وفوق ذلك فهو يرى أن له رسالة عالمية تتمم غايته وهي حمل الشعوب الأخرى على قبول هذا المبدأ الفوضوي

ومحاولة الوصول إلى هذه الغاية إما مستحيلة من الوجهة العملية كإزالة الفوارق السابقة، وما النداء به إلا إغراء للطبقات الشعبية فقط، أو اعتداء بينٌ على الحقوق الطبيعية لأفراد الشعب فضلاً عن الإخلال بحقوق الجوار والتدخل فيما هو من اختصاص الدولة الأخرى.

ص: 14

فهو نظام ضد الطبيعة وضد المبدأ الخلقي السائد بين الشعوب وهو مبدأ رعاية الجوار

الديمقراطية الفاشستية

أما النظام الفاشستي فهو نظام ديمقراطي أيضاً، أي نظام مبني على سيادة الشعب لنفسه، ولكنه لا يبالغ في المعنى الشعبي ولا يسيء فهم المساواة بين أفراد الشعب فيجعلها مساواة مزعومة في الإنسانية

فهو يعترف بسيادة الفرد الممتاز: الملك أو الرئيس الجمهوري، وبوجوب المحافظة على سيادته، وبذلك منع الإغراء بالمعنى الشعبي كما أنه لم يجعله وحده سبب التفضيل. فهو إن حرم النظام الأرستقراطي، أي قصر وظائف الدولة الكبرى على طبقة مخصوصة بما لها من شرف مزعوم، إلا أنه أباح لأفراد الشعب أن يتولوا تلك الوظائف إذا وهبوا الكفاية في العمل. وإذن فأساس القيام بالخدمة العامة والانتفاع بسلطة الوظائف الكبرى ليس هو النسب الأصلي على الإطلاق، ولا هو الشعبية بدون قيد، وإنما هي الكفاية والجدارة أينما وجدت. فمعنى إقصاء الأرستقراطية عنده عن الحكم إبعاد تلك الطائفة التي استعبدت الطبقات الفقيرة لا لسبب إلا أنها تنتسب إلى أصل قد تعوّد الحكم مع أنها في نفسها قد تكون مصابة في مزاجها العقلي ومنحطة في مبدئها الخلقي. ومعنى تقريب الشعب من الحكومة إعطاؤه هذا الحق وإزالة مبدأ (الأصل والنسب) من طريقه، أما مباشرة أمر الحكومة نفسها فذلك مرهون بالكفاية الشخصية

ولما كان النظام الفاشستي يقرر مبدأ الكفاية فانه لا يقول بإزالة الفوارق الطبيعية بين إنسان وآخر، أي لا يعمل على إهمالها وعدم اعتبارها لأن ذلك يناقض اتخاذ الكفاية قاعدة للاختيار، بل بالعكس هو يؤيدها ويتعهد القوى الفطرية في الفرد التي تؤهله لأن يقوم بعمل عام فيما بعد برعاية الدولة

ولأن الكفاية الشخصية هي مبدأ التفضيل فقد أصبحت الفوارق الاجتماعية: فوارق الطبقات المختلفة، عديمة الأهمية والاعتبار، كما أصبحت الرأسمالية قليلة الأثر في اختيار من يقوم بالأمر ويتقلد مناصب الحكومة

أما تحويل الإنتاج الأهلي إلى حكومي ومنح حق التملك للحكومة وحدها، كما ترى نظرية النظام الشيوعي تحقيقاً لمعنى المساواة الموهومة المغرية، فلا يجد قبولاً لدى النظام

ص: 15

الفاشستي، لأنه من الوجهة العملية عسير التحقيق فوق ما فيه من إخماد للقوى الفردية وإنكار لمنزلتها الأدبية وإنتاجها العملي أيضاً. ولكنه في الوقت نفسه يبيح للدولة التدخل في اختصاص الرأسمالية لمصلحة الفرد العامل وموازنة إنتاج الأمة، فتدخله بمثابة كف لطغيان الرأسماليين في الهيئة العاملة، أو منع محاولة ضغطهم على الحكومة في توجيهها توجيهاً معيناً لمصلحتهم الشخصية أو لغرض سياسي دولي آخر

الديمقراطية البرلمانية

والواقع أن النظام الشيوعي والفاشستي جاءا وقد وجدا أمامهما مسائل كثيرة عجز النظام الديمقراطي البرلماني عن حلها، إما تمشياً مع وجهة نظره أو لكثرة إجراءاته وطول مدتها التي من شأنها العمل على تحويل بعض المسائل الاجتماعية الصغيرة في بدء أمرها إلى معضلات تظهره فيما بعد بمظهر العاجز. ومن أهم تلك المسائل تحكم أصحاب رءوس الأموال في الطبقات الفقيرة الذي تسبب عنه هذا الجفاء الكبير والعداوة الشديدة بين صاحب العمل والعامل

فالديمقراطية البرلمانية الشائعة التي تفهم من المساواة الإخاء الشعبي والعالمي، ومن الحرية تفكير الفرد في دائرة القانون العام وعادات الأمة، ومن العمل أن يتعدى حدود المصلحة العامة إلى غيرها، هذه الديمقراطية التي تسيء في الواقع فهم المساواة وفهم الحرية إن هي نجحت في مكافحة الأرستقراطية أو على الأصح في كبح طغيانها قد ساعدت على تحكم أصحاب رؤوس الأموال بحجة (الحق المشروع) والمحافظة على حرية الفرد في تصرفه فيما يملك ولو كان في ذلك ضرر الغير وضياع المصلحة العامة. وفي الواقع هي لا تحافظ على حرية الفرد وإنما تغريه بما يخرج عن معنى الحرية الفردية الصحيحة؛ تغريه أن يتحكم بما له في الطبقة التي دونه في الثروة أو على تبذيره والإسراف فيه ابتغاء شهواته النفسية؛ تغريه بالاستخفاف بعادات غيره ومعتقد السواد الأعظم من الشعب، كل ذلك باسم الحرية. فهي تؤمن بنظرية الفرد، أكثر من إيمانها بنظرية - تقدِّس الفرد وتضحي بمصلحة المجموع. فللفرد أن يعمل ما شاء وإن فنيت الدولة في عمله. وهذا في الواقع رد فعل لحكم الاستبداد الذي سبق الحكم الديمقراطي البرلماني. فالفردية في الحكم الأرستقراطي كانت مستمرة لا لمصلحة الجماعة بل لمصلحة الفرد الحاكم. فلما جاء النظام

ص: 16

الديمقراطي البرلماني حرر الفرد من تبعيته تبعية مطلقة للحاكم المستبد وغالى في ذلك، وكان من الطبيعي أن يفضل مصلحة الجماعة لأنها لم تكن الهدف للكفاح وإنما الذي كان مقصوداً يسعى لتحقيقه هو حرية الفرد ومصلحته

بقيت مصلحة الجماعة مغفلة وحرية الفرد معكوساً فهمها، فلما جاء النظام الشيوعي عمل من جديد على تقييد سلطة الفرد الشعبي وخصوصاً في الناحية المالية، وقصر حق التملك على الدولة التي حلت في الواقع محل الفرد في النظام الديمقراطي البرلماني.

ثم لم يكتف هذا النظام بما فعله نحو الطبقة الأرستقراطية من حد سلطتها بل بالغ في معاداتها، أو هو أساء فهم خصومتها كما أساء فهم نصفة الشعب فجاء نظاماً غير عادي ولا مألوف، نظاماً استبدادياً لا يتفق مع فطرة الفرد ولا مع طبيعة الجماعة

بينما اكتفى النظام الفاشستي بما وقف عنده النظام البرلماني في وضع حد الحكم الأرستقراطي وإن خالفه في فهم معنى الحرية والمساواة. ولذا أجاز لنفسه التدخل في وضع علاقة للرأسمالية مع الفرد العامل، وهو تدخل للمصلحة العامة ولمنع الجفاء بين طبقات الشعب المختلفة. وقد كان من أثر هذا التدخل أن توحدت الأمة، وقد صارت وحدتها في النهاية عن رضا وفهم متبادل بين الطبقات، بينما يتحول اتجاه عداوة الشعب وجفائه في الأمم الديمقراطية البرلمانية من الأرستقراطيين إما إلى الطبقة الحاكمة لأنها تخص نفسها بما له وتضن عليه بما يؤمنه على حياته الضرورية ثم تنظر إليه نظرة صغار لأنها (مهذبة) دونه، وإما إلى أصحاب رؤوس الأموال لعنتهم وتشددهم في حفظ مصالحهم الخاصة

غاية أنواع الحكم الديمقراطية المختلفة ومعايبها

وإذن فالنقص الذي أخذ أسلوب الحكم الحديث على نفسه العمل لتلافيه هو عدم التوازن إما في علاقة الطبقة الأرستقراطية بالشعب، أو في علاقة أصحاب رؤوس الأموال بالطبقات الفقيرة، أو في ارتباط مصلحة الفرد بالجماعة

ومن الطبيعي أن تكون الغاية الإيجابية لأسلوب الحكم في الوقت الحاضر، ولو على سبيل الادعاء، تحقيق الإخاء والمساواة، وبعبارة أخرى العمل على سيادة العدل الإنساني

فالنظام الديمقراطي البرلماني نظر إلى هذه الغاية نظرة إفراط أو نظرة من ناحية واحدة،

ص: 17

فبينما هو يشل سلطة الهيئة الأرستقراطية إذا به يبيح لأصحاب رؤوس الأموال بمقتضى إفراطه في منح الفرد حريته التحكم في الطبقة العاملة؛ وبذلك اختل توازن العلاقة من جديد ولكن بين طبقتين من الشعب

والنظام الشيوعي ينظر لتحقيق هذا الإخاء وتلك المساواة نظرة هوج وخيال، فبدل أن يتناول علاقة الطبقة الأرستقراطية بالشعب، ثم علاقة أصحاب رؤوس الأموال بالطبقات العاملة، بالتسوية تناولها بالهدم، فزالت الأرستقراطية وزالت الرأسمالية واختل توازن العلاقة مرة أخرى وأصبحت علاقة حاكم مستبد، مخادع مغرر، بأفراد شعب سلبوا الحقوق الفطرية والاجتماعية بدل المساواة المزعومة

والنظام الفاشستي نظر إليها نظرة قاصرة على الحدود الطبيعية للأمة، فعمل على التوازن أيضاً، ولكن جعل مقياسه مصلحة الجماعة من الشعب؛ فلا داعي لاضطهاد الأرستقراطيين إذا لم يسيئوا لمصلحة الجماعة، كما يجب التدخل في حرية الفرد إذا هددت تلك المصلحة بالخطر. ولأن هذا النظام قصر جهوده على الأمة كان نظاماً وطنياً بحتاً، بينما المعنى الدولي متحقق بكل معانيه في النظامين السابقين قبله. ولذا كانت اليهودية العالمية من ألد خصوم الفاشستية وأعز أنصار الديمقراطية البرلمانية والديمقراطية الشيوعية وإن أزالت هذه الأخيرة نظام رؤوس الأموال لأنها لا تنكر عليهم التوطن في أي جهة

فالرأسمالي اليهودي لا يبيح لنفسه في دولة ديمقراطية فاشستية باسم حرية الفرد أن يطغى على الطبقة الفقيرة كطغيانه في فلسطين التي تتبع في سياستها الرئيسية بلداً ديمقراطياً برلمانياً. فهناك في فلسطين يباح لليهودي المالي أن يجرد العربي الساذج من كل ما يملك، وفي الوقت نفسه يذل العرب في مجموعهم باسم حرية التملك. وإذا طلب من حكومة فلسطين أن تتدخل في الأمر لمصلحة الجماعة أجابت بأنها لا يمكنها ذلك لما فيه من اعتداء على حرية الفرد. أما المصلحة العامة فهي ضحية تلك الحرية التي لم تفهم على وجهها الصحيح. وأما مجموع الشعب فلا مانع من فنائه تدريجياً مادام الفرد يتمتع بحريته التامة

والواقع أن هذا عكس الطبيعة، ولا يقر أحد في أي بقعة من بقاع الأرض أن المجموع يفنى لمصلحة الفرد كما لا يقر تضحية الشعب محافظة على تنفيذ نصوص القانون

وقد يظن لأول الأمر أن النظام الفاشستي هو المعتدل من هذه النظم الثلاثة. وقد يكون في

ص: 18

ذلك وجه من الصحة. ولكن جمع السلطة وتركيزها في يد فرد من أفراد الشعب إن أتى بنتائج إيجابية في وقت وجيز يعجب الإنسان منها ومن عظمتهافقد لا يضمن الوفاء بأمثالها في المستقبل إذا ما انتقلت السلطة إلى فرد آخر ربما يستغل هذا التركيز لغير مصلحة الأمة. والمعروف اليوم أنه إذا كان رجال الحكم الفاشستي قد جمعوا كل سلطة في الدولة في أيديهم إلا أنهم لا يبرمون أمراً إلا بمشورة ذوي الخبرة في الأمة وبمعونتهم أيضاً وإن لم تكن لهم علاقة تبعية بالحزب السياسي. وأنا أذكر أن زعيم ألمانيا يحرص الآن على أن يتولى المناصب الاقتصادية الرجال الأخصائيون في المسائل المالية ولو كانوا من غير أتباع حزبه، كما أنه يأخذ برأي وزير الخارجية ووزير الدفاع في كل المسائل الخارجية وهما لم يتبعا في يوم من الأيام الحزب الوطني الاشتراكي

والديمقراطية معنى غير محدود. وكل نظام من نظم الحكم الثلاثة يدعي أنه هو الديمقراطي الصحيح كما ادعى كل فيلسوف من فلاسفة اليونان القدماء أنه هو وحده الذي وصل إلى الحقيقة في العالم. وفي الواقع لم تكن هناك حقيقة مطلقة ولكنها نسبية مقيدة وإذا كانت هناك حقيقة مطلقة فإنها على وفق المقدمات والدعاوى التي يفترضها الفيلسوف لنفسه

الديمقراطية الإسلامية

والآن بعدما تبين أن من معايب الحكم الديمقراطي البرلماني الجوهرية فناء المصلحة العامة أو التغاضي عنها محافظة على حرية الفرد المطلقة وعلى مصلحته الخاصة

ومن معايب النظام الشيوعي أن العلاج الذي يتخذه في توازن طبقات الشعب المختلفة هو الثورة والهدم وأن أسلوب حكمه على العموم هو الفوضى المطلقة

كما أن من نقائص الحكم الفاشستي عدم قابلية الفرد الشعبي الذي بيده سلطة الحكم للعزل مع احتمال طغيانه

بعدما تبين كل هذا نريد أن نعرف رأي الإسلام والحلول التي يقترحها ضماناً للتوازن، وبعبارة أخرى تجاه المسائل الاجتماعية التي يهتم بها نظام الحكم الحديث والتي هي في الحقيقة منذ بدء الجماعة الإنسانية تظهر من حين لآخر في شكل معضلات

نريد أن نعرف رأي الإسلام، وهل هو مع كونه ناجعاً يتجنب تلك الأخطار التي في أسلوب الحكم الخاص؟

ص: 19

الإسلام ليس نظاماً روحياً، نظام كهنة وكنيسة، وإنما هو مبادئ خلقية للفرد، وقوانين عامة تحفظ نظام الجماعة. وهو بهذه الصفة يتدخل في علاقة الفرد بالفرد وتنظيم علاقته بالمجموع، وفي علاقته بالمجموع يبغي أيضاً الإخاء والمساواة، يبغي الوحدة ويعمل على تماسكها، يريد التوازن وتأسيسه على قواعد ثابتة

ولكنه في إقراره الإخاء يريد تقرير مبدأ آخر للتفضيل بدل مبدأ الجنسية الذي ساد قبل الإسلام ويسود أيضاً الآن من وقت لآخر، يريد تقرير مبدأ الكفاية والعمل (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فالإخاء معناه عدم اعتبار الانتماء إلى قبيلة أو شعب مرجحاً ومميزاً لفرد عن آخر لمجرد هذا الانتماء كما يقصد اليوم من محاربة الأرستقراطية، وعدم جعلها القاعدة الأولى في الاختيار والتفضيل

وفي إقراره المساواة لا يرى زوال الرأسمالية، ولا منع الفرد من التملك وقصره على الدولة وحدها، وإنما يقصد المساواة أمام القانون، أمام المبادئ الخلقية، أمام التكليف بالواجبات، والقيام بالأعمال العامة. فليس لشريف أن يخلي نفسه من التكليف، ولا لحاكم أن يستبد بمصالح الأمة لنفسه اعتماداً على أنه مميز لمجاله من التهذيب (الرسمي) أو لانتمائه إلى جنس كذا أو قبيلة كذا

وفي إقراره المساواة على هذا النحو لم يمنع التفضيل لصفات أخرى، لم يحرم الفرد أن ينال جزاء مجهوده الشخصي في هذه الحياة الدنيا، ولكنه فرض عليه فيما اكتسبه من علم أو مال أن يخصص جزءاً منه لمن هو دونه: لمن هو أقل منه معرفة، أو أقل ثراءً؛ فرض أن تقرب الخاصة نفسها من عامة الشعب، حتى لا يكون هناك جفاء بين عالم وجاهل أو عداوة منشأها الحقد بين غني وفقير، حتى يكون (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)

(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. . .) هذا واجب العالم في علمه في أية ناحية تعلق علمه بها نحو أمته، نحو أكثريتها الجاهلة

أما الغني صاحب الثروة فواجبه في ماله الزكاة لمستحقيها، لفقراء الأمة المعوزين. وهو واجب يخف على النفس عمله، بل يسرها القيام به، لأنه تلبية لنداء الدين ورغبة ناشئة عن إحساس التدين؛ وما نشأ عن التدين والاعتقاد كان كالصادر عن التعود، كالعادة نفسها

ص: 20

في المواظبة على عملها وعدم الشعور بمضض في الإتيان بها

وليس من شك في أن التكليف الوضعي أي تشريع الدولة وتقنينها لا يساير التكليف الديني في نتائجه الإيجابية. فنسبة من يعتقد من أفراد الأمة بعدالة قانون وضعي أقل بكثير ممن يعتقد بعدالة قانون إلهي؛ لا لأن القانون الوضعي قد لا يطابق المصلحة العامة، بل لأنه يعتقد على العموم أن واضعه ممن يجوز بل ممن يغلب عليه الخطأ، ولكن من ينسب إليه القانون الديني هو ممن يستحيل عليه فوات الصواب في تشريعه

وهكذا أثر العقيدة الدينية التي تكوِّن من نفس الإنسان جزئها الأعظم. ولذلك كان من المهمة الأولى للدين أن يخلق من التكاليف والالتزامات مبادئ خلقية تُعتقد، جزاء فعلها أو تركها منوط بالخالق القادر، وفي عالم آخر لا اطلاع لإنسان عليه في هذه الحياة الدنيا. وإذن فالشوق إلى جزاء الفعل - كالخوف من جزاء الترك - لا يقاس في تصور النفس له بجزاء القوانين الوضعية، لأنه في عالم محدود معروف فيه أقصى درجة الثواب والعقاب

والمصلح السياسي أو زعيم الدولة الذي يفهم كنه الإصلاح ويهتم بتنفيذه واتباع الشعب له لا يألو جهداً في بناء قوانينه الإصلاحية على مبادئ الدين أو صبغها على الأقل بصبغة دينية حتى يكون لها نصيب من معتقدات الشعب، وبهذا يكون لها قوة الاستقرار والدوام. والاستقرار من أهم عوامل نجاح الإصلاح

فكثير من القوانين الإنكليزية وخصوصاً قوانين العائلة الإصلاحية أسست على مبادئ فلسفية خلقية قام بها بعض الفلاسفة الإنكليز الدينيين

حتى في بعض الحكومات الفاشستية التي يُظن أنها تحارب الدين، نجدها لا تتخلى عن ربط مبادئها السياسية بالمبادئ الدينية العامة؛ فهي في الواقع لا تحارب الدين، وإنما تحارب سلطة الكنيسة، أي سلطة طائفة أخرى تتمتع بنفوذ كبير في الشعب ربما تحد من سلطة الدولة. فخطباء الحزب الاشتراكي الوطني هنا في ألمانيا يعظون الشعب في كل يوم أحد بواسطة الراديو محاولين في وعظهم إرجاع أعمالهم الاجتماعية، كمساعدة الشتاء، وخدمة العمل العام، وتنظيم هدايا عيد الميلاد التي هي أقرب شبه بزكاة الفطر في الإسلام، إلى مبادئ الدين الصحيح حتى يضمنوا للحكومة طاعة الشعب، ومن وراء ذلك تنفيذ أعمالهم الإصلاحية

ص: 21

فقاعدة الحكم عندهم مبنية على قيادة الرئيس وعلى طاعة الشعب له. والدين هو خير ضامن وأقوى كفيل بتلك الطاعة عن رضا واختيار ولمدة طويلة

أما بناء السياسة العامة لتركيا الحديثة على إبعاد الدين فلا يصح أن يقوم حجة على أنها مع ذلك سياسة إصلاحية ثابتة أو أنها ستنجح في جيل مقبل. فالثقافة التركية التي كان عمادها الدين قد تزعزعت من أساسها؛ ثم ما يدخله مدعو الإصلاح في تركيا الحديثة من ثقافات البلاد الأجنبية لا يصح أن يعوض ثقافة الشعب الأصلية كما لا يؤمل أن يكوِّن ثقافة ثابتة في المستقبل للشعب التركي. وما تمتعت به الحكومة التركية للآن من طاعة الشعب لها فسببه عقيدة الشعب التي لم تفن بعد من وجوب الطاعة للقائم بالأمر، فهو في الواقع أثر من آثار العقيدة الدينية

فإذا كان الإسلام يتدخل في سلطة الرأسمالية بنظام الزكاة فهو تدخل مقبول لدى النفوس بحكم ما فيها من قوة التدين، وفي الوقت نفسه هو نظام غير مرتبط بقيام فرد بالحكومة دون آخر بل هو كأي نظام ديني أبدي غير مؤقت بوقت

فتقرير مبدأ الإخاء والمساواة على النحو السابق، والاعتراف بالجزاء على المجهود الشخصي من حق التملك، ثم حصر نفوذ الفرد في حدود المصلحة العامة، هو نوع من أسلوب الحكم الديمقراطي الذي لم يصل إليه تشريع وضعي للآن. فقد رأينا كل نوع من أنواع الحكم في العصر الحديث الذي تدعي فيه أوربا أنها وصلت آخر المرحلة التي يمكن للإنسان أن يصل إليها، ومع ذلك فكل نوع منها لا يسلم من أخطار عديدة لاستحالة تنفيذه أو لعجزه عن حل بعض المشاكل الاجتماعية الكبرى، أو لأنه قد لا يضمن الوفاء في المستقبل بمثل ما حققه الآن من نتائج

وبتقرير الإسلام هذه المبادئ كان نظام توازن واعتدال. لا يترك طائفة تتحكم في أخرى حتى تلجأ الطائفة المتحكم فيها إلى عمل ثوري أهوج مبني على العاطفة وحدها غايته الهدم والتخريب. وبتقريره هذه المبادئ كان أيضاً دين الفطرة والطبيعة، أي أنه يساير الطبيعة ويقضي على ما شذ منها

ولكونه دين الفطرة والطبيعة كان لنظام الملك منه سند قوي يعتمد عليه في حكمه، لأنه مغروس في طبيعة الجماعة أن تخضع لفرد واحد منها خضوعاً ناشئاً عن عقيدة؛ وكلما

ص: 22

علا شأن هذا الفرد كانت العقيدة بالخضوع له أشد وأعم. وليس بلازم أن تعرف الجماعة ميزة هذا الفرد - بل من المصلحة العامة ألا تتناوله بالتحليل - وإنما يكفي أن تعتقد أنه ممتاز

فإذا كان هذا الفرد الممتاز الذي يجب أن تكون له السيادة وتخضع له الجماعة ليس من عامة الشعب أمنت حكومته انقلاباً شعبياً، ولم تكن هناك أطماع في استبداله بآخر، لأن الشعب مازال يعتقد فيه ميزة ليست لكل فرد. وكلما استقر الحكم في يد من له الأمر كانت نتائجه أثبت وأضمن لمصلحة الشعب نفسه

ونظام الملكية هو أقرب النظم الفطرية للجماعة الإنسانية، بل هو أضمن لوحدة الجماعة، لأنه يحول بين أي فرد من أفراد الشعب وبين أن تسوِّل له نفسه أنه أجدر بالقيام بالأمر من هذا أو ذاك، مما يترتب عليه ثورة داخلية لا ينطفئ لهيبها كما هو حال النظام الشيوعي اليوم

فكما يميل الإسلام إلى نظام الملكية لأنه أقرب نظم الحكم إلى فطرة الجماعة، ويفرض طاعة الأمة لرئيسها الأعلى مادام قائماً بدستور الإسلام وهو كتاب الله وسنة رسوله، كذلك يؤيد روح الشورى ويهيئ الشعب للعمل على وفق مبادئ خلقية، كمبدأ الشعور بالواجب والشعور بالحرية المهذبة والشعور بالمساواة والاعتراف بالكفايات، تلك المبادئ التي منها تتكون الديمقراطية الصحيحة

ففي الوقت الذي يأمر فيه الإسلام الشعب بالطاعة لولي أمره حتى تسلس قيادته، يقيد هذه الطاعة بقيام العدل في الرعية

وفي الوقت الذي ينادي فيه بحرية الفرد حتى فيما يعتقد لا يتركه يتعدى مصلحة الجماعة

وفي الوقت الذي يشجع فيه على اكتساب الرزق ويبيح فيه للفرد حرية التملك، يكلفه بالتنازل عن جزء مما ربحه لمن أشقاه الفقر في حياته

وهكذا يقصد الإسلام دائماً إلى التوازن والاعتدال، فهو دين الفرد والجماعة، بينما الديمقراطية البرلمانية، كما رأينا، تتحيز للفرد وحده، والفاشستية تؤيد الجماعة فحسب، والشيوعية تهدم مصلحة كل من الاثنين

ففيه كدين فطري للجماعة الإنسانية ضمان للعرش، وفيه كمنادٍ بمبدأ الإخاء والمساواة

ص: 23

وعاملٍ أيضاً على تحقيق هذا المبدأ بوسائل ناجعة ومنفذ لمبدأ التفاضل على حسب الكفاية والعمل لا غير، اتباع لقواعد الديمقراطية الصحيحة وحاجز حصين ضد الشيوعية الفوضوية

محمد البهي قرقر

دكتور في الفلسفة وعلم النفس

وعضو بعثة الأستاذ محمد عبده

ص: 24

‌من الأدب التحليلي

الوحدة

(مهداة إلى الدكتور إبراهيم مدكور)

للأستاذ علي الطنطاوي

(. . . إن كل عناء في الحياة مصدره أننا نحيا منعزلين. وكل

ما نبذل من جهودنا لا نريد به إلا الفرار من هذه العزلة)

جي دوموباسان (الرسالة 210)

ما آلمني شيء في الحياة ما آلمتني الوحدة. كنت أشعر كلما انفردت بفراغ هائل في نفسي، وأحس بأنها غريبة عني، ثقيلة عليّ، لا أطيق الانفراد بها؛ فإذا انفردت بها أحسست أن بيني وبين الحياة صحارى قاحلة، وبيداً مالها من آخر، بل كنت أرى العالم في كثير من الأحيان، وحشاً فاغراً فاه لابتلاعي، فأحاول الفرار، ولكن أين المفرّ من نفسي التي بين جنبيّ، ودنياي التي أعيش فيها؟

إن نفسي عميقة واسعة، أو لعلي أراها عميقة واسعة لطول ما أحدق فيها، وأتأمل جوانبها، فتخيفني بسعتها وعمقها، ويرمضني أنه لا يملؤها شيء مهما كان كبيراً. . . وهذا العالم ضيق أو لعلي أراه ضيقاً لاشتغالي عنه بنفسي، وشعوري بسعتها، فأراه يخنقني بضيقه. . .

إني أجمع العالم كله في فكرة واحدة أرميها في زاوية من زوايا نفسي، في نقطة صغيرة من هذا الفضاء الرحيب، ثم أعيش في وحدة مرعبة أنظر ما يملأ هذا الفضاء. . .

إني كلما انفردت بنفسي، فتجرأت على درسها، والتغلغل في أعماقها، بدت لي أرحب وأعجب. فما هذا المخلوق الذي يحويه جسم صغير، لا يشغل من الكون إلا فراغاً ضيقاً كالذي يشغله صندوق أو كرسي. . . ويحوي هو (المكان) كله، ويشمل (الزمان)، وينتقل من الأزل إلى الأبد في أقل من لحظة، وينتظم (الوجود) كله بفكرة، وتكاد الحياة نفسها تضل في أغواره؟

ص: 25

من المستحيل أن نفهم هذا المخلوق الذي ندعوه (النفس)! لذلك نخاف الوحدة ونفر منها. إننا نخشى نفوسنا، ولا نستطيع أن ننفرد بها، فنحب أن نشتغل عنها بصحبة صاحب، أو حب حبيب، أو عمل من الأعمال. . . ونخشى الحياة، ونحب أن نقطعها بحديث تافه، أو كتاب سخيف، أو غير ذلك مما نملأ به أيامنا الفارغة. وإذا نحن اضطررنا مرة إلى مواجهة الحياة، ومقابلة الزمان خالياً من ألهية تلهو بها، كما يكون في ساعة الانتظار مللنا وتبرمنا بالحياة وأحسسنا بأن الفلك يدور على عواتقنا. أفليس هذا سراً عجيباً من أسرار الحياة: يكره المرء نفسه ويخشاها، وهي أحب شيء إليه؛ ويفر منها. . . ويضيق بحياته، وهي أعز شيء عليه، ويسعى لتبديدها وإضاعتها؟

عجزت عن احتمال هذه الوحدة، وثقل عليّ هذا الفراغ الذي أحسه في نفسي، فخالطت الناس، واستكثرت من الصحابة. فوجدت في ذلك أنساً لنفسي، واجتماعاً لشملي، فكنت أتحدث وأمرح وأمزح وأَضحك وأَضحك، حتى ليظنني الرائي أسعد خلق الله وأطربهم؛ بيد أني لم أكن أفارق أصحابي وأنفرد بنفسي، حتى يعود هذا الفراغ الرهيب، وترجع هذه الوحدة الموحشة

انغمست في الحياة لأملأ نفسي بمشاغل الحياة، وأغرق وحدتي في لجة المجتمع، واتصلت بالسياسة وخببت فيها ووضعت وكتبت وخطبت، فكنت أحس وأنا على المنبر بأني لست منفرداً وإنما أنا مندمج في هذا الحشد الذي يصفق لي ويهتف. . . ولكني لا أخرج من النديّ ويرفضّ الناس من حولي، وأنفرد في غرفتي حتى يعود هذا الفراغ أهول مما كان، وترجع الوحدة أثقل، فكأنها ما نقصت هناك إلا لتزداد هنا، كالماء تسد مخرجه فينقطع، ولكنك لا ترفع يدك حتى يتدفق ما كان قد اجتمع فيه. . . فماذا يفيدني أن أذكر في مائة مجلس أو يمر اسمي على ألف لسان، وأن يتناقش فيّ الناس ويختصموا، إذا كنت أنا في تلك الساعة منفرداً مستوحشاً متألما؟. .

وجدت الشهرة لا تفيد إلا اسمي، ولكن اسمي ليس مني، ولا هو (أنا) فأحببت أن أجد الأنس بالحب وأن أنجو به من وحدتي، فلم أجد الحب إلا اسماً لغير شيء، ليس له في الدنيا وجود، وإنما فيها تقارب أشباح:

أعانقها والنفس بعد مشوقة

إليها وهل بعد العناق تدان؟

ص: 26

وألثم فاها كي تزول صبابتي

فيشتد ما ألقى من الهيمان

كأن فؤادي ليس يشفي غليله

سوى أن يرى الروحين تلتقيان

ولكن أنى تلتقي الأرواح؟ وأين هذا الحب الجارف القوي الخالص الذي يأكل الحبيبين كما تأكل النار المعدن، ثم تخرجهما جوهراً واحداً مصفى نقياً ما فيه (أنا) ولا (أنت) ولكن فيه (نحن)؟. . .

فنفضت يدي من الحب، ويئست من أن أرى عند الناس الاجتماع المطلق، فعدت بطوعي أنشد الوحدة المطلقة

صرت أكره أن ألتقي بالناس، وأنفر من المجتمعات، لأني لم أجد في كل ذلك إلا اجتماعاً مزيفاً: يتعانق الحبيبان، ولو كشف لك عن نفسيهما لرأيت بينهما مثل ما بين الأزل والأبد؛ ويتناجى الصديقان، ويتبادلان عبارات الود والإخاء، ولو ظهر لك باطنهما لرأيت كلا منهما يلعن الآخر؛ وترى الجمعية الوطنية، أو الحزب الشعبي، فلا تسمع إلا خطباً في التضحية والإخلاص، ولا ترى إلا اجتماعاً واتفاقاً بين الأعضاء؛ ولو دخلت في قلوبهم لما وجدت إلا الإخلاص للذات، وحب النفس، وتضحية كل شيء في سبيل لذة شخصية أو منفعة!

وجدتني غريباً بين الناس فتركت الناس وانصرفت إلى نفسي أكشف عالمها، وأجوب فيافيها وأقطع بحارها، وأدرس نواميسها وجعلت من أفكاري وعواطفي أصدقاء وأعداء، وعشت بحب الأصدقاء وحرب الأعداء. . .

إن من حاول معرفة نفسه عرضت له عقبات كأداء، ومشقات جسام، فإن هو صبر عليها، بلغ الغاية، وما الغاية التي تطمئن معها النفس إلى الوحدة، وتأنس بالحياة، وتدرك اللذة الكبرى ما الغاية إلا معرفة الله

وسيظل الناس تحت أثقال العزلة المخيفة حتى يتصلوا بالله ويفكروا دائماً في أنه معهم، وأنه يراهم ويسمعهم، هنالك تصير الآلام في الله لذة، والجوع في الله شبعاً، والمرض صحة، والموت هو الحياة السرمدية الخالدة. هنالك لا يبالي الإنسان ألا يكون معه أحد، لأنه يكون مع الله

علي الطنطاوي

ص: 27

‌الكميت بن زيد

شاعر العصر المرواني

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

- 3 -

وقد كان لهذه القصائد في نصرة أهل البيت وتأليب الناس على بني مروان أثرها في النفوس، حتى لهج بها الخاصة والعامة، وصار الناس يتقربون إلى الله والرسول بحفظها وتلاوتها ويتناقلون في ذلك رؤى عن النبي صلى الله عليه وسلم، كان الكميت يرى بعضها، وكان غيره يرى بعضاً آخر منها، فارتفعت بهذا منزلة الكميت وعلت درجته بين قومه بني أسد حتى كانوا يعدونه من مفاخرهم، ويقولون: فينا فضيلة ليست في العالم، ليس منزل منا إلا وفيه بركة وراثة الكميت، لأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال له أنشدني:

طَرِبتُ وما شوقاً إلى البيض أطْرَبُ

فأنشده فقال له: بوركت وبورك قومك

ويروي من طريق آخر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في نومه وهو مختف بعد أن هرب من سجن بني مروان فيما سنذكره من سيرته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: مم خوفك؟ فقال: يا رسول الله من بني أمية، وأنشده:

ألم ترني من حُبِّ آل مُحمدٍ

أروح وأغْدُو خائفاً أترقّبُ

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اظهر فإن الله قد أمنك في الدنيا وفي الآخرة

وحدث إبراهيم بن سعد الأسدي قال: سمعت أبي يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال: من أي الناس أنت؟ قلت: من بني أسد، قال: من أسد بن خزيمة؟ قلت: نعم، قال: أهلالي أنت؟ قلت: نعم، قال: أتعرف الكميت بن زيد؟ قلت: يا رسول الله عمي ومن قبيلتي، قال: أتحفظ من شعره شيئاً؟ قلت: نعم، قال أنشدني:

طَرِبتُ وما شوقاً إلى البيض أطْرَبُ

قال: فأنشدته حتى وصلت إلى قوله:

ص: 28

فما لِيَ إلا آل أحمد شيعةً

وما لِيَ إلَا مشْعَب الحق مشعب

فقال لي: إذا أصبحت فاقرأ عليه السلام، وقل له قد غفر الله لك بهذه القصيدة

وحدث نصر بن مزاحم المنقري أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ورجل بين يديه ينشده:

مَنْ لقلبٍ مُتيَّمٍ مستهامِ

قال: فسألت عنه، فقيل لي: هذا الكميت بن زيد الأسدي، قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: جزاك الله خيراً وأثنى عليه

وإذا كان الكميت قد نصر بشعره أهل البيت هذا النصر الذي كان له هذا الشأن، فإنه وهو الشاعر العالم لم يكن يتجاوز تأييدهم باللسان إلى تأييدهم بالفعل، وكان شأنه في هذا شأن القعدة من الخوارج كعمران بن حطان الشاعر وغيره، ولا غرابة في أن يكون للشيعة قعدة كما كان للخوارج قعدة، بل إن قعدة الشيعة كانوا أكثر من قعدة الخوارج لأخذ الشيعة بالتقية. وقد روى أبو الفرج الأصبهاني أنه لما خرج زيد بن علي كتب إلى الكميت: أخرج معنا يا أعيمش، ألست القائل:

ما أُبالي إذ أحفظتُ أبا لقا

سم فيكم ملَامةَ الُّلوَّامِ

فكتب إليه الكميت:

تجودُ لكم نفسي بما دونَ وَثْبَةٍ

تظلُّ لها الغربانُ حوليَ تحجلُ

ولم يكن هذا منه يغضب أهل البيت عليه، بل كانوا هم أيضاً يضنون على نفسه ضنه عليها، ويحبون أن يبقى لهم بشعره الذي يفعل في هدم بني مروان ما لا يفعله بالسيف غيره

وكان على العراق في هذا العهد خالد بن عبد الله القسري، وعلى عرش بني مروان هشام بن عبد الملك، وقد اضطربت الروايات في وصول خبر الكميت وأشعاره إلى هشام اضطراباً كبيراً، فلنسق هذه الروايات المضطربة، ثم نأخذ بعد هذا في نقدها والترجيح بينها

قال أبو الفرج الأصبهاني: كان خالد بن عبد الله القسري فيما حدثني به عيسى بن الحسين الوراق قال: أخبرنا أحمد بن الحارث الفزاري عن ابن الأعرابي، وذكره محمد بن أنس

ص: 29

السلامي عن المستهل ابن الكميت، وذكره ابن كناسة عن جماعة من بني أسد أن الكميت أنشد قصيدته التي يهجو فيها اليمن وهي:

ألا حُيِّيتِ عنا يا مدينا

فأحفظته عليه، فروى جارية حسناء قصائده الهاشميات، وأعدها ليهديها إلى هشام، وكتب إليه بأخبار الكميت وهجائه بني أمية وأنفذ إليه قصيدته التي يقول فيها:

فيا ربِّ هل إلاَّ بك النصر يُرْتجَى

ويا ربِّ هل إلاَّ عليك المعوَّلُ

وهي طويلة يرثي فيها زيد بن علي وابنه الحسين بن زيد (كذا) ويمدح بني هاشم، فلما قرأها أكبرها وعظمت عليه واستنكرها، وكتب إلى خالد يقسم عليه أن يقطع لسان الكميت ويده، فلم يشعر الكميت إلا والخيل محدقة بداره، فأخذه وحبس في المحبس. وكان أبان بن الوليد عاملاً على واسط، وكان الكميت صديقه، فبعث إليه بغلام على بغل وقال له: أنت حر إن لحقته والبغل لك، وكتب إليه: قد بلغني ما صرت إليه وهو القتل إلا أن يدفع الله عز وجل، وأرى لك أن تبعث إلي حبي - يعني زوجة الكميت وهي بنت تكيف بن عبد الواحد وهي ممن يتشيع أيضاً - فإذا دخلت إليك تنقبت نقابها ولبست ثيابها وخرجت، فإني أرجو ألا يؤبه لك

فأرسل الكميت إلى أبى وضاح حبيب بن بديل وإلى فتيان من بني عمه من مالك بن سعيد، فدخل عليه حبيب فأخبره الخبر وشاوره فيه فسدد رأيه، ثم بعث إلى حبي امرأته فقص عليها القصة وقال لها: أي ابنة عم، إن الوالي لا يقدم عليك ولا يسلمك قومك، ولو خفته عليك لما عرضتك له، فألبسته ثيابها وإزارها وخمرته وقالت له: أقبل وأدبر، ففعل، فقالت: ما أنكر منك شيئاً إلا يبساً في كتفك، فاخرج على اسم الله، وأخرجت معه جارية لها، فخرج وعلى باب السجن أبو وضاح ومعه فتيان من أسد فلم يؤبه له، ومشى الفتيان بين يديه إلى سكة شبيب بناحية الكناس، فمر بمجلس من مجالس بني تميم، فقال بعضهم: رجل ورب الكعبة، وأمر غلامه فأتبعه، فصاح به أبو وضاح يا كذا وكذا لا أراك تتبع هذه المرأة منذ اليوم، وأومأ إليه بنعله فولى العبد مدبراً، وأدخله أبو وضاح منزله

ولما طال على السجان الأمر نادى الكميت فلم يجبه، فدخل ليعرف خبره، فصاحت به المرأة: وراءك لا أم لك. فشق ثوبه ومضى صارخاً إلى باب خالد فأخبره الخبر، فأحضر

ص: 30

حبي فقال لها: يا عدوة الله احتلت على أمير المؤمنين وأخرجت عدوه. لأمثلن بك ولأصنعن ولأفعلن، فاجتمعت بنو أسد إليه وقالوا: ما سبيلك على امرأة منا خدعت؟ فخافهم فخلى سبيلها

قال: وسقط غراب على الحائط فنعب فقال الكميت لأبي وضاح: إني لمأخوذ، وإن حائطك لساقط، فقال له: سبحان الله! هذا ما لا يكون إن شاء الله، فقال له: لابد من أن تحولني، فخرج به إلى بني علقمة وكانوا يتشيعون، فأقام فيهم ولم يصبح حتى سقط الحائط الذي سقط عليه الغراب

قال ابن الأعرابي قال المستهل: وأقام الكميت مدة متوارياً حتى إذا أيقن أن الطلب قد خف عنه خرج ليلاً في جماعة من بني أسد على خوف ووجل، وفيمن معه صاعد غلامه، فأخذ الطريق على القطقطانة وكان عالماً بالنجوم مهتدياً بها، فلما صار سحيراً صاح بنا: هوِّموا يا فتيان، فهوَّمنا وقام يصلي، قال المستهل: فرأيت شخصاً فتضعضعت له، فقال: ما لك؟ قلت: أرى شيئاً مقبلاً، فنظر إليه فقال: هذا ذئب قد جاء يستطعمكم، فجاء الذئب فربض ناحية فأطعمناه يد جزور فتعرقها، ثم أهوينا له بإناء فيه ماء فشرب منه وارتحلنا، فجعل الذئب يعوي، فقال الكميت: ما له ويله؟ ألم نطعمه ونسقه؟ وما أعرفني بما يريد! هو يعلمنا أنا لسنا على الطريق: تيامنوا يا فتيان، فتيامنا، فسكن عواؤه، فلم نزل نسير حتى جئنا الشام فتوارى في بني أسد وبني تميم. وأرسل إلى أشراف قريش وكان سيدهم يومئذ عنبسة بن سعيد بن العاص، فمشت رجالات قريش بعضها إلى بعض وأتوا عنبسة فقالوا: يا أبا خالد هذه مكرمة قد أتاك الله بها. هذا الكميت بن زيد لسان مضر، وكان أمير المؤمنين كتب في قتله فنجا حتى تخلص إليك وإلينا. قال فمروه أن يعوذ بقبر معاوية ابن هشام بدير حنيناء، فمضى الكميت فضرب فسطاطه عند قبره، ومضى عنبسة فأتى مسلمة بن هشام فقال له: له يا أبا شاكر مكرمة أتتك، بها تبلغ الثريا إن اعتقدتها، فإن علمت أنك تفي بها وإلا كتمتها، قال: وما هي؟ فأخبره الخبر، وقال: إنه قد مدحكم عامة وإياك خاصة بما لم يسمع بمثله، فقال: عليّ خلاصه فدخل على أبيه هشام وهو عند أمه في غير وقت دخول، فقال له هشام: أجئت لحاجة؟ قال: نعم، قال: هي مقضية إلا أن يكون الكميت فقال: ما أحب أن تستثني علي في حاجتي، وما أنا والكميت! فقالت أمه: والله لتقضين حاجته كائنة

ص: 31

ما كانت، قال: قد قضيتها ولو أحاطت بما بين قطريها، قال: هي الكميت يا أمير المؤمنين، وهو آمن بأمان الله عز وجل وأماني، وهو شاعر مضر، وقد قال فينا قولا لم يقل، قال: قد أمنته وأجزت أمانك له، فاجلس له مجلساً ينشدك فيه ما قال فينا. فعقد له وعنده الأبرش الكلبي، فتكلم بخطبة ارتجلها ما سمع بمثلها قط، ومدحه بقصيدته الرائية، ويقال إنه قالها ارتجالاً وهي قوله:

قِفْ بالديار وقوفَ زائِرْ

فمضى فيها حتى انتهى إلى قوله:

ماذا عليك مِنَ الوقو

ف بها وإنك غيرُ صاغِرْ

درجتْ عليها الغاديا

تُ الرائحاتُ من الأعاصر

وفيها يقول:

فالآنْ صرتُ إلى أُمَيَّ

ةَ والأمورُ إلى المصاير

وجعل هشام يغمز مسلمة بقضيب في يده فيقول: إسمع إسمع، ثم استأذنه في مرثية ابنه معاوية فأذن له فأنشد قوله:

سأبكيك للدنيا وللدين إنَّني

رأيت يد المعروف بعدك شُلَّتِ

أدامتْ عليك بالسلام تحيةً

ملائكةُ الله الكرامُ وصلَّتِ

فبكى هشام بكاء شديدا، فوثب الحاجب فسكته، ثم جاء الكميت إلى منزله آمناً فحشدت له المضربة بالهدايا، وأمر له مسلمة بعشرين ألف درهم، وأمر له هشام بأربعين ألف درهم، وكتب إلى خالد بأمانه وأمان أهل بيته، وأنه لا سلطان له عليهم. وجمعت له بنو أمية فيما بينها مالا كثيراً، وودع هشاماً وأنشده قوله فيه:

ذكر القلبُ إلْفَهُ المذكورَا

وهذه هي الرواية الأولى فيما كان بين الكميت وخالد بن عبد الله وهشام بن عبد الملك بسبب تلك القصائد السابقة

عبد المتعال الصعيدي

ص: 32

‌كتاب حضارة العرب

للكاتب الاجتماعي الكبير غوستاف لوبون

للأستاذ خليل هنداوي

تمهيد

لم يسبق أن تردد لفظ المملكة العربية والأمجاد العربية في يوم مثل هذا اليوم. ففي كل صوب من كل قطر عربي يهب هذا الحلم من نومه ويزحف هذا الراقد الفاني إلى حقيقة تمد ذراعيها وتدعو إلى تحقيق وجودها. وكل شيء من هذه الأحداث عامل يسرع في بيان ضرورة هذه الوحدة التي لا يقوم للعرب كيان بدونها. وما قيمة جسد فيه عضو يتحرك وأعضاء جامدة لا تتمشى فيها حركة؟ وكأن السياسة الاستعمارية أدركت أن هذا التقسيم الذي رمت به الجزيرة العربية إنما هو تخدير موقوت فكيف تعمل على جعله تخديراً دائماً؟ فخلقت النعرات القومية التي جرفها التاريخ فيما جرف، والتي بادت من الحاضر حتى أصبحت لا وجود لها. . . ولقد فتن بهذه السياسة قوم وعادوا يتجردون من القومية العربية ويحملون على الثقافة العربية، لأنها في رأيهم ثقافة لم تحمل شيئاً للإنسانية. وإنها لدعوى ملفقة لم يخلقها إلا الوهم الذي خلقته السياسة الاستعمارية، وجاراها عليه فئة ماتت فيها الفكرة الاستقلالية. وتجاه خطر هذه الفئة المتذبذبة التي لا تعرف لها ديناً ولا لوناً من ألوان القومية وجب أن تقوم حملات صادقة لتحطيمها ودوس كرامتها إن كانت لها بقية من كرامة. وهذا واجب تبعث عليه البواعث الوطنية التي تؤمن بحق العرب وثقافة العرب وعظمة العرب!

لقد تناول تاريخ العرب رجال من الغرب، منهم من كانت تسيره الأهواء، ومنهم من كان يستلهم العقل والحقيقة وما أقل هؤلاء! وقد كان بودنا أن نكتب تاريخنا بأيدينا بالهوى والعاطفة كما يقولون، لأننا نكتبه إذ ذاك بحروف الذهب، ونرسمه بخطوط اللهب، لأنه تاريخ قوميتنا وثقافتنا وغابرنا الذي بيده أمر حاضرنا

ألا يكتب كل قوم تاريخهم كما يشاءون؟ ألا يسجل كل شعب ماضيه كما يرغب؟ فيا كارهي مجد العرب أي عار وجدتموه إلا عار الأنفة والكبرياء؟ وأي وصمة أتوا بها إلا وصمة

ص: 33

الفتوح والسيادة؟ ونحن نرى المجد في الخضوع للمستعمر، وفي الذل وخفض الجناح، ونحن نرى الفخر في فتح أبوابنا له يلجها من يشاء متى شاء. وكيف يلتقي فخرنا وذلك الفخر؟ وكيف يصافح مجدنا ذلك المجد؟

لن نعرض لهؤلاء النافرين من مجد العرب شيئاً تسطره أقلامنا وأهواؤنا، ولكنا عارضون لهم صفحات جليلة، كتبها رجل لا يتعصب لنا ولا يريد باطلاً ولا جزاء ولا شكورا. وإنما ينشد حقيقة ما عرف التاريخ شهيداً كمثلها بين الحقائق التي نقلها. فأراد هذا الرجل إنصاف هذه الحقيقة، وأراد إنصاف العرب بما كتب

قلت: كنت أريد أن يكتب تاريخنا بعاطفة وحرارة لأني أعتقد أن التاريخ في الأمم المتيقظة هو قلب قبل أن يكون عقلاً، لأن هذه الأمم - وهي في بدء يقظتها - لأحوج إلى قيادة العاطفة منها إلى قيادة العقل. وإذا عدت إلى استقراء تاريخ كل أمة ألفيت أن العاطفة هي القائدة الهادية، حتى إذا ما مشت هذه الأمة إلى هدفها واستقام سيرها، أخذت العاطفة تقر رويداً رويداً ويتسيطر على جموحها العقل. وهاهي ذي الأمم الغربية التي نقتفي أثرها ونمجد خيرها على رغم ما بلغت من نضج العقل ورسوخ القدم لا نقرأ تاريخها إلا موسوماً بميسم وطنيتها وعاطفتها لأن التاريخ المجرد يأتي هيكلاً مجرداً من الروح، وإذا لم ترد الأمة أن تطبعه بطابع حياتها وحاجتها، فما معنى حاجتها إلى هذا التاريخ إذن؟ على أننا لا نريد أن يأتي تاريخنا مشوهاً متحولاً مخالفاً للحقيقة، ولا نريد أن نسجله تسجيلاً كاذباً مختلقاً. ولو قدرنا على ذلك لما فعلنا، كما فعل ذلك العالم البلجيكي الذي أخذ يلوم أحد قادة الألمان على ما يرتكبون من فظائع في (بلجيكا) خلال الحرب العظمى وهدده بالتاريخ الذي سيحصي عليهم كل صغيرة وكبيرة، فما أجابه ذلك القائد إلا بضحكة استهزاء متمتماً:(هل تهددنا بالتاريخ، وما عسى يضع التاريخ؟ ونحن الأُلى نسجله غداً) يريد أن الظافر هو الذي يتولى كتابة التاريخ وتشويه الحقائق. إننا لا نسجل الآن شيئاً، وإنما رجال غربيون يسجلون. منهم صاحب حضارة العرب يسجل تاريخ حضارتنا كما تفهمه وتلمسه. وما أجدر هذه الفئة المنكرة الجاحدة لتاريخها وقوميتها بقراءة هذه الصفحات والنظر إلى ما راحوا يتنكرون منه ويوارون وجوههم خجلاً! وما كان أحق هذه الفئة بالتقديس لو أن لها من القوة والعبقرية والثقافة جزءاً مما لأجدادهم! ولكنهم قوم عميت منهم الأبصار والبصائر

ص: 34

وشغفوا برداء يلبسه جارهم لا حظ لهم منه إلا النظر إذا سمح الجار بذلك

هذا ما بعثني على تعريب هذا الكتاب الذي خرج إلى العالم منذ خمسين عاماً، ولا تزال الخزانة العربية تجهله، أو تعرفه وتتخلف عن تبنيه كأنه لا يمسها في شيء أو لا يعنيها من أمره شيء. على أنه كان خير كتاب سطره يراع غربي في التاريخ العربي. ولعل في إرجاء تعريبه سراً لأنه يخرج الآن في وهلة أصبح تعريبه حاجة ماسة لجيل عربي تيقظ على أمجاد غابرة، وعاد إليه حنينه الأول وحلمه الأسمى! ومن حق هذه الأمجاد أن نعمل على بعثها حتى تغدو أصواتاً تتردد في كل فج، وتصبح أصواتها أصداء تتجاوب في كل رجاء

قد يقول بعضهم: إن بين مصادر المؤلف مصادر واهية يظهر ضعفها، والكتاب ذاته ليس بذي قيمة كبيرة. ولقد يكون هنالك ضعف في المصادر وضعف في بعض المستنتج، وضعف في إحصاء أشياء، ولكن هذا لا يخلع عن الكتاب قيمته العلمية لأنه كتب في عهد بعيد قبل أن تكثر المواد التي جلت تاريخ العرب. وقد أبقينا على هذه الأخطاء لأن القارئ النبيه يستطيع تمييزها بسهولة، لأننا أحببنا أن ننقل الكتاب صورة صادقة أمينة يطلع القارئ خلالها على آراء الغربيين فينا إبان ذلك العصر. ولكن هذه التهمة لم يكن الباعث عليها ضعف المصادر فحسب، وإنما تعود أسبابها إلى أن المؤلف الذي يكتب عن العرب ينبغي له أن يعنى بإظهار سيئاتهم وطرح حسناتهم، وأن يعمل على تصويرهم شعباً مهدماً للمدنية لا بانياً، فجاء غوستاف لوبون العالم الجريء المنصف خارقاً عادات القوم متخطياً بدعتهم السيئة فكتب عن العرب ما لا يكتبه العرب عن أنفسهم، وفتح العيون العمي على ما لهم من حضارة وفضل على الإنسانية بوجه عام، وعلى الحضارة الغربية بوجه خاص، ولذلك لم يلق كتابه الرواج المنتظر في أمته. وناهيك بأن سياسة الغرب في ذلك العصر كانت تعد العدد وتختلق الحيل لاستعمار الشرق فكيف يروقها أن يظهر من يعدد لها فضائل هذه الأقطار التي تريد استعمارها بتهمة الوحشية ودعوة التمدين. فكان عدم رواجه نتيجة منطقية معقولة لهذه الفكرة المسمومة؛ وكانت حملات عليه كاذبة حاولت أن تطعن في العرب وفيمن ينتصر لهم. ومن دواعي الأسف أن هذه الفكرة لا تزال تصاحب هذا الكتاب، وسوف لا تزل مرافقة له حتى ينفض الغرب يده من هذه الأقطار وييأس من

ص: 35

استعمارها!

وقد قص عليّ أستاذ صديق أنه خلال وجوده في باريس طلب إلى إحدى مكتبات المطالعة أن يطلع على هذا الكتاب فتأفف صاحب المكتبة، فقال له الأستاذ: أراك مشمئزاً، لعل الموضوع لا يرضيك! فأجابه: ليست المسألة مسألة موضوع، وإنما مسألة انتشاله من تحت أنقاض الكتب المتراكمة فوقه. فمد يده إلى خزانة ربما يطلق صاحبها عليها خزانة الكتب المهجورة والمغفلة، ولبث يقلب حتى علقت يد صاحبنا بالكتاب في قاع الخزانة!

وهذا يدل على أن الفكرة التي شوهته لا تزال ترافقه وأن الغربي قد ألقى في خلده أن كل ما يكتب عن الشرق والعرب بلهجة الإعجاب هو شيء كاذب مدسوس، وإنما الحق كل الحق فيما يتناولهما بالذم والسخرية والتحقير. وكأني بأفراد قلائل قد استطاعوا أن يطلقوا عقولهم من هذه الأوهام وينظفوا دم تفكيرهم من هذه السموم، ولكن عدد هؤلاء محدود، وما أقلهم لو استطاعوا أن يطهروا أنفسهم!

وأسباب ذلك كما قدمت تعود إلى أضاليل الغاية الاستعمارية التي استلهمت أيضاً العصبية الدينية، وتكاتفتا معاً على إخفاء محاسن العرب، وعلى اظهارهم شيئاً هو دون الشعوب. ويقيني لو أن موازناً منهم قارن بين شعب من الزنوج والعرب لشالت كفة العرب ولرجحت كفة الشعب الزنجي لأن هذا الشعب تم لهم استعماره وتحضيره وذلك لم يتم ولما يتم لهم منه شيء

أما أجري الذي أنشده من هذا التعريب فهو أمنيتي التي أرجو أني وصلت إليها في وضع لبنة واحدة في صرح المملكة العربية الحديثة وفي استجلاب كثيرين ممن ضلوا مجد أمتهم الغابر ليحثهم على بناء المجد الحاضر، وما هنا إلا صفحة من صفحات هذا الفاتح الذي ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم منه. . . فاقرءوا أيها العرب وأنفذوا منها إلى بقايا صفحات تاريخكم المجيد

(تتلوه المقدمة)

خليل هنداوي

ص: 36

‌مقالات إسماعيلية

لأستاذ جليل

- 2 -

في معرفة العقل

ومنها حدثني الحسن الموصلي عن علي بن محمد نازل سَوْرة والعباس بن محمد بن الحسين جميعاً عن محمد بن سنان الزاهدي قال: سألت لمولانا (علينا سلامه) عن أول صفات الأزل، فقال لي: العقل، فقلت: وما العقل يا مولاي؟ فقال: أنا. وما علمت أن بي يعقل العاقل، وبي ينظر الناظر، وبي يسمع السامع، وبي يبطش الباطش، وبي يتحرك الساكن، وبي يذاق الطيب، وبي يشم الروائح الطبية، وبي يحس الحواس، وبي أفاضوا الناس؟ فقال له محمد بن سنان فكيف منزلتك من الباري الأزلي؟ فقال له كمنزلة العلم من العالم لم ينفصل منه ولا هو سواه. واعلم يا محمد، أن الأزل أطلع من ذاته نوراً لم يفصله منه، ولا غاب عنه، ثم سماه عقلا، وخاطبه به، فقال له: من أنا؟ أجابه أنت وأنا منك، فقال له أدبر يعني اظهر كالمنفصل مني، فظهر ثم قال له: أقبل يعني غب فيّ واتصل بي، فاتصل فقال له به وخاطبه منه: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً قبلك إلا أنا إذ أنا معدنك، ولا خلق أبداً أحب إليّ منك، لأنك مني بديت، وأنا بك ظهرت. منك نطقت، وبك أدعو، وأنت إشارتي ونودي في سمواتي وارضي، بك آخذ حقي من خلقي، وبك أجازي من عرفني وأقرّ بي، فأنت الواحد إذ لا مثل لك، وأنا الأحد لأني متحد بك. لست حين اطلع بك حركاتي وغيبتك سكوني وأنا العلي الحميد والسلام

- 3 -

فصل في معرفة الإنسان

قال الله (تعالى): (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً) اعلم أن الإنسان هو النفس خلقت قبل الجسم زماناً طويلا، فلما ظهرت النفس بصورة الجسم ذكرت وعرفت حتى تعقل منه المعقولات أي تعرف إمام العصر والزمان؛ فإذا عرفت ارتقت إلى عالمها النوراني كما قال الله عز وجل (ثم ننجّي الذين اتقوا ونذرُ الظالمين فيها جِثِياً)

ص: 37

والجثو هو المعاد فيها. وإذا لم تعرف إمام العصر والزمان تتردد في عالم الكون والفساد على الأجساد ومحل الآلام حتى تعرف إمام زمانها وتدخل تحت طاعته؛ فإذا عرفت خلصت ونجت وارتقت، وإذا لم تعرف لا تزال تتردد حتى تعرف بعد المدد والدهور الطوال. قال بعض العارفين لولده: احرص يا بنيّ أن تخلِّصها في هيكل واحد ولا في هيكل ثان والسلام

- 4 -

(فصل) اعلم (يا أخي) إن النفوس المنكرة لا تزال تتردد في عالم الكون والفساد والنشوء والبلى حتى تعقل منه المعقولات أعني معرفة إمام العصر والزمان. والسلام على من اتبع الهدى، وخشي عواقب الهوى، وأطاع الملك الأعلى، وأمر بالتقوى، وكان من الفائزين، والسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين

- 5 -

(فصل) اعلم أن الجن ثلاث طبقات: الجن الغواصة، والجن الطيارة، والجن المرَدَة. أما بعد فإن الجن الغواصة هم الحكماء الغواصون في العلوم الحقيقية، والجن الطيارة هم الحجج والدعاة الذين يطيرون في علومهم من مكان إلى مكان، والجن المردة فهم أهل الظاهر المرقبون السمع العاندون للحق في كل عصر وزمان، فاعلم ذلك. قال عليّ (علينا سلامه): من عاند الحق هان، ومن تهاون في الدين انهان. وقال أيضاً: من استغنى بعقله ضلّ، ومن عجب بعلمه زل، ومن استعان بغير الله ذل، والسلام

- 6 -

(فصل) اعلم أن دعائم الإسلام سبع، وعند أهل الظاهر خمس، وهي الصوم والصلاة والحج والزكاة والجهاد في سبيل الله (تعالى) والولاية والإمامة، أنكر أهل الظاهر الولاية والإمامة

قال النبي عليه الصلاة والسلام في حق عليّ يوم الغدير: (من كنت مولاه فعليّ مولاه. اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من نكره، وأدرْ الحق معه حيث دار) هذا في الولاية؛ وقال النبي في الإمامة: (من مات ولم يعرف إمام زمانه معرفة جلية

ص: 38

فقد مات ميتة جاهلية، والجاهل كافر والكافر في النار) والسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين

- 7 -

(فصل) النبي (صلعم): (تسلمت من خمس وسلمت إلى خمس، وبيني وبين ربي خمس). (الجواب): فالخمس الذي تسلم النبي منهم، فهم بحيرا الراهب وميسرة وزيد بن عمرو وعمرو بن نفيل وخديجة بنت خويلد؛ والخمس الذي سلم إليهم، فهم الأساس، والداعي، والحجة، والإمام، والوصي؛ والخمس الذين بينه وبين الله عز وجل فهم العقل، والنفس، والجد، والفتح، والخيال، وقوله: أنا وأهل بيتي خمس، فهم محمد، وعليّ والحسن، والحسين وفاطمة، عليهم السلام أجمعين، والحمد لله رب العالمين

- 8 -

(فصل) اعلم يا أخي أن العقل نور إلهي مشرق على ظهر العالم فيقبل كل شيء من الأشياء التي تحته تحيي قواه، فلما الإنسان أقرب بنسبه إلى العقل قبل من الفيض أكثر من جميع الموجودات، والنور هو العلم، والعلم هو العقل الإنساني والسلام

- 9 -

(فصل) اعلم يا أخي أن جهنم هي البعد من الله، وهي مركز الأرض ومحل الأجسام عالم الكون والفساد؛ والجنة هي القرب من الله وهي عالم القدس ومحل النفوس والأنوار، وعرضها كعرض السموات والأرض كما قال الله تعالى:(وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين) والحمد لله رب العالمين

ص: 39

‌حقيقة الإسلام

للأستاذ خليل جمعة الطوال

(. . . أنا لست مسلماً ولكن ذلك لا يمنعني من أن أقول في

الإسلام الحق. ولقد دفعني إلى هذا ما شاع بيننا نحن

المسيحيين - عن طريق المبشرين وانكشارية الدين المأجورين

- من أن الإسلام دين كاذب قام على السيف

وأصارحك أني كنت على هذا الرأي حتى تنبهت إلى فضائل الإسلام عن طريق الرسالة الغراء، ثم عن طريق القرآن الشريف. لذلك آليت على نفسي أن أعوض عن عدم إسلامي بنشر فضائل الإسلام بقلمي ولساني)

خليل جمعة الطوال

(الإسلام دين بربري قام بقوة السيف. . .)

(فولتير والخصوم)

بهذه الحجة الواهية ينثال على الإسلام خصومه ليشوهوا جماله، وينالوا من روحه الكبرى، وينتقصوا من تعاليمه السامية. وبهذه الحجة أيضاً يتذرع أهل الجهالة والزيغ، إذ يصمون صاحب الرسالة العربية بالكذب والشعر والكهانة، ويدعون أنه مؤسس ديانة بربرية كاذبة، تنافي مبادئها روح الحضارة، وتقف تعاليمها حائلاً دون تقدم المدنية. ولو أنهم خلوا إلى أنفسهم، ونفضوا عنها غبار التعصب، ودرسوا تعاليم الإسلام، وتدبروا آياته في هدأة من أغراضهم الذاتية، لانجابت عن بصائرهم سدف الأرجاف، ولانجلى عن قلوبهم خبث الصدور وصدأ الباطل

يزعمون أن الإسلام قام بقوة السيف. . . ويتمسكون بهذا الزعم على أنه حقيقة واقعة لا غبار عليها. ولكن فاتهم أن القوة التي أعزت الإسلام في بدر، والقادسية، واليرموك، والتي غزا بها المسلمون - على قلة عدهم وضعف عدتهم - وعتادهم العالم، وأمعنوا في جهاته

ص: 40

الأربع بالفتح والاستعمار، حتى وسعت إمبراطوريتهم ثلثي الكرة الأرضية - لم تكن إلا قوة إيمانهم بعقيدتهم الجديدة، عقيدة التوحيد بالله وعدم الشرك به، تلك العقيدة السامية التي استمرءوا في سبيلها النكبات، وتجشموا الأخطار والمصائب، فما لانت قناتهم، ولا خضُدتْ شوكتهم، ولا هانت قوتهم. ولئن قام الإسلام ببضعة أسياف ونفر من الرجال، لقد قاومه أعداؤه المشركون بآلاف الصوارم، وكتائب الأبطال. وما انتصاره عليهم إلا انتصار الحق على الباطل، وما هزيمتهم أمامه إلا هزيمة القوة المادية أمام قوة الإيمان الروحية

تبارك الله!! رجل يقوم ضد أمة، فكأنه بقوة إيمانه - وهي كل ذخيرته - أمة بأسرها. فيغلبها حيناً وتغالبه أحياناً، ثم ينصر الله عبده، ويعز كلمته، فإذا القوم يسارعون فرادى وجماعات ليستظلوا تحت راية حقه، وليسترشدوا بنوره، ويهتدوا بهدايته، وإذا محمد رسول الله، ورجل الحق، وعدو الكفر يقف فيهم خطيباً عند باب البيت ليعلن فيهم مبدأ الإخاء والحرية والمساواة، فيقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدميَّ هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج. يا معشر قريش! إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس من آدم، وآدم خلق من تراب. يا أيها الناس أنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم

تلك هي مبادئ الإسلام السامية التي اهتزت لها أصنام الوثنية وهياكلها، بل تلك هي عدة المسلمين التي فتحوا بها العالم والتي لم تغن عنها (يوم ثور) جيوشُهم اللجبة الجرارة وأسلحتهم الوفيرة المدمرة

بمثل هذه المبادئ قام الإسلام يرشد الناس بنور الهداية، وحسن الموعظة، ولم يلجأ إلى السيف إلا دفاعاً عن حوزته، وإشفاقاً على رسالته، من أن تصبح مضغة استخفاف يلوكها أهل الكفر والإلحاد مدى العمر. وأي شريعة سماوية جديدة قامت ولم يؤيدها السيف في انتشارها؟ أهي اليهودية وقد كانت تأمر برجم كل خارج على الناموس؟. . . أم هي المسيحية ومازالت محاكم التفتيش بأقبائها المروعة المظلمة يتردد صداها في الآذان، وترتعد من فظائعها الأبدان؟ ولمَ نذهب بعيداً في الاستدلال والتاريخ مفعم بذكر الكثيرين من ضحايا المسيحية - أو قل على الأصح إنكشارية المسيحية - ومجازرها؟ وحسبك منها

ص: 41

مجزرة القديس (سان برثلمو) التي قتل فيها (25000) نفس، ومجزرة شارلمان بقبائل السكسون التي سالت فيها الدماء البريئة أنهارا؛ وما ارتكبته جيوش فيليب الثاني ملك أسبانيا وحامي ذمار الكاثوليكية في هولندا من الفظائع وضروب التمثيل التي تهتز لهولها الرواسي، وتشيب لمنظرها النواصي. وما فعله الإمبراطور فرديناند الثاني وهو من أسرة هبسبرج حين حاول أن يستأصل شأفة البروتسينتية في ألمانيا، فأرسل إليها جيوشه اللجبة، التي أخذت تعمل السيف في الرقاب والعباد، والنهب في البلاد؛ واختل الأمن، فأبيحت الأعراض، وأزهقت النفوس البريئة، وخرب خمسة أسداس المدن والقرى الألمانية، وتناقص عدد السكان فيها، حتى صار أربعة ملايين بعد أن كان ثمانية عشر مليوناً

ولِمَ نذهب بعيداً وفي الأمس تراجع البابا تلك الذكريات المؤلمة، فيبكي وينتحب لها، ولأن أهل رومية قد أقاموا (لبرونو الإيطالي) الذي أحرقته محاكم التفتيش بالقار والقطران، في حفل رائع من رجال الإكليروس، تمثالاً عظيما في المكان الذي أحرق فيه ضحية لتزمت العصر، وكفارة عن حرية الفكر

ولم تكن البروتسنتية على حداثة عهدها لتختلف عن الكاثوليكية بشيء من حيث تفتيش الضمائر ومخبآت الصدور، واضطهاد أبطال الحرية الفكرية بالسجن حيناً وبالحرق أحياناً، فتلك النيران المخيفة التي التهمت جثة (سرفيتوس الإسباني) ما يزال مشهدها ماثلاً أمام عيني كلفن وهو في جدثه، وما تزال تلك الذكرى تنتاش جثته الهامدة ورمته البالية

لقد اضطهدت المسيحية على اختلاف مذاهبها خلقاً كثيراً من ذوي الحرية الفكرية على حين كان الإسلام على درجة بعيدة من التسامح؛ ولنا من أبي العلاء المعري أكبر دليل على ذلك، فقد شك هذا الفيلسوف العظيم في جميع الأديان، واتهم بالكفر والإلحاد، ومع كل ذلك فقد عاش آمناً مطمئناً على حياته، ولم ينله من الحكومات الإسلامية أدنى أذى مع أنه قد تمادى في كفره وشكه لدرجة تكفي للحكم عليه بالقتل والحرق

ومن الحق هنا أن نسجل أن جميع الديانات حتى الوثنية منها تأمر بالخير والإحسان وأن المسيحية لم تبح سفك الدماء واضطهاد الأبرياء، ولكن ما العمل وقد اضطهدت هذه النفوس البريئة باسمها! وذلك إرضاء للنفوس الدنيئة، والأطماع السافلة!!

لقد قام الإسلام يدعو إلى التوحيد، فأعطى أهل الكتاب الحرية التامة في إقامة شعائرهم

ص: 42

الدينية ومعتقداتهم، ولم يعمد إلى السيف في إخضاع المشركين وردهم إلى حظيرة الإيمان بالله إلا إذا أبوا أن يلبوا دعوة الله بالحجة البينة، والموعظة الحسنة، واختاروا الحرب

أفبعد هذا يزعمون أن الإسلام دين كاذب؟! ليت شعري، أية كذبة تماشي العصر، وتساير الزمن، وتعيش مع الدهر - بين الخصوم - أربعة عشر قرناً، وتنطلي تمويهاتها على أربعمائة مليون من الناس، وتظل عندهم طيلة هذه الأحقاب موضع الإجلال والإكبار، تهز قلوبهم للرحمة وأكفهم للخير؟

ألا إن الإسلام بريء مما نسب إليه، فهو دين عربي صادق يدعو إلى توحيد الله دون أن يلجأ إلى التواء المنطق وغث التأويل. (ولئن فاتني حظي من النسب، لن يفوتني حظي من المعرفة)

هذا هو الإسلام الذي قال فيه شاعر الألمان وأعظم عظمائهم (جايتي): إذا كان ذلك هو الإسلام فكلنا إذاً مسلمون. نعم كل من كان فاضلاً شريف الخلق فهو مسلم

(شرق الأردن)

خليل جمعة الطوال

ص: 43

‌للأدب والتاريخ

مصطفى صادق الرافعي

1880 -

1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 14 -

(. . . أتذكر إذ التقينا وليس بيننا شابكة، فجلسنا مع الجالسين لم تقل شيئاً في أساليب الحديث، غير أننا قلنا ما شئنا بالأسلوب الخاص باثنين فيما بين قلبيهما؟

(. . . وشعرنا أول اللقاء بما لا يكون مثله إلا في التلاقي بعد فراق طويل، كأن في كلينا قلباً ينتظر قلباً من زمن بعيد؟

(ولم تكد العين تكتحل بالعين حتى أخذت كلتاهما أسلحتها. . . وأثبت اللقاء بشذوذه أنه لقاء الحب؟

(وقلت لي بعينيك: أنا. . . وقلت لك بعيني: وأنا. . . وتكاشفنا بأن تكاتمنا؟

(وتعارفنا بأحزاننا كأن كلينا شكوى تهم أن تفيض ببثها؟

(وجذبتني سحنتك الفكرية النبيلة التي تضع الحزن في نفس من يراها فإذا هو إعجاب؛ فإذا هو إكبار؛ فإذا هو حب؟

(وعودت عيني من تلك الساعة كيف تنظران إليك؟

(وجعلت أراك تشعر بما حولك شعوراً مضاعفاً كأن فيه زيادة لم تزد؟

(وكان الجو جو قلبينا. . .

(وتكاشفنا مرة ثانية بأن تكاتمنا مرة ثانية. . .؟)

(هي)

(. . . بماذا أصف مكاناً للحب كأنما مر به سر الخلود فإذا الوقت فيه لا يشبه نقصاناً من العمر بل زيادة عليه؛ وكانت يا حبيبتي كل دقيقة وثانيتها في مجلسك الساحر كأنها بعض الفكرة والحس لا بعض الزمان والمكان. . .

(. . . وكنت وما أشعر من سحرك إلا أني بازاء سر وضعني في ساعة من غير الدنيا

ص: 44

وحصرني فيك وحدك. . .

(وهاجمتني من يقظتي واقتحمت عليّ من حذري. . .

(وخليتني وعينيك، وخليتني وما كتب عليّ. . .

(واتسعت روحي لتشملك، فما كنت تتكلمين ولا تضحكين ولا تخطرين في غرفتك ولكن في داخل نفسي. .

(. . . وكنا نتكلم ولكن ألفاظنا تتعانق أمامنا ويلثم بعضها بعضاً من حيث لا تراها إلا عيناي وعيناك

(وتراءت النفسان فملأتا المكان بأفراح الفكر، واستفاض السرور على جمالك بمعنى كلون الزهرة النضرة هو عطرها للنظر

(وقلت لي بجملتك: أنا. . وقلت لك بجملتي: وأنا. .)

(هو)

هي وهو؟

إني لأعرفه عرفاني بنفسي، فما بي شك فيما أكتب عن حبه؛ ولقد خلطني بنفسه زمنا فإني لأسمع نجواه وأقرأ سره، وأعرف ذات صوره، فما أصف من حبه إلا مستيقناً كأنما أنقل عن لوح مسطور في فؤادي، أو أثبت من حادثة في تاريخ أيامي ماثلة في نفسي بصورها وألوانها وحوادثها فما يغيب عني منها شيء. ولولا تقاليد الناس وآداب الجماعة لمزقت النقاب عن وجه الحديث وجلوته على القراء في بيان سافر كإشراق الضحى، ولكن. . . ولكنها هي. . .

أما هي فما في يدي شيء من خبرها إلا ما حدثني به الرافعي أو حدثتني رسائله، فما أتحدث عن حبها إلا راوية يكتب ما يسمع لا ما يشهد، أو محققاً يضع كلمة إلى كلمة، ويزاوج بين رسالة ورسالة، ليخرج منهما معنى ليس في يده من حقيقته شيء إلا ما يهديه الفكر وصواب الرأي وملابسات الحادثة

وإنها لأديبة شاعرة يعرفها كثير من قراء العربية وأعرفها عرفانهم أو يزيد، وحسبي هذا مقدمات إلى النتيجة، وما يعسر على من يمسك طرف الخيط أن يصل إلى آخره. . .

ص: 45

لقد التقيا وما بينهما شابكة ولا يربطهما سبب؛ فما كانت إلا نظرة وجوابها حتى ارتبطا قلباً إلى قلب؛ وكان الأدب رباط بينهما أول ما كان، ثم استجرهما الحديث إلى فنون من الكلام فكشفت له عن آلامها وكشف لها عن آلامه فكان عطف وإشفاق؛ ثم تحدثت عن أحلامها وتحدث عن أحلامه، فكان الحب؛ ثم. . . ثم كانت القطيعة حين بلغ الحب غايته ونال مناله من نفسها ومن نفسه، فافترقا حين كان يجب أن يبدأ اللقاء ليتذوقا سعادة الحب ويقطفا من ثمراته. . . وضرب الدهر من ضرباته فإذا هو تحت الرغام، وإذا هي في المستشفي تتمرض من داء هيهات أن تجد له الدواء!

لم تكن (هي) تقصد الحب ولا تعمدته ولا كان هو، ولكنها أديبة تعرف موازين الكلام، لقيت الأديب الذي تعجب به ويفتنها بيانه، فأحبته (عقلاً جميلا) كما تسميه في بعض رسائلها. . .

وكان سعيه إليها يلتمس الشعر والحكمة، والشعر والحكمة هما رابطتها إليه وفاتنتها به؛ فتصنعت له لتفنه وتزيده شعراً وحكمة، ثم تصنعت لتزيده، ثم تصنعت لتزيده، ثم تصنعت لتزيد هي به؛ لأنها وجدت به نفسها، ووجدت به الشعر والحكمة والبيان؛ فأحبته (أستاذها ومرشدها) لأنه أوحى إليها ما عجز دونه الآخرون، لأنه فجر لها ينبوع الشعر وعلمها البيان هكذا تقول في بعض رسائلها. . .

وهي فتاة لم يسالمها الدهر ولم تزل منذ كانت - غرضاً لسهام الأيام، تنوشها الآلام من كل جانب، ولها نفس شاعرة تضاعف أحزانها فتجعل لها من كل همٍّ همين، وإن حواليها لكثيراً من الأصدقاء يزدلفون إليها ويخطبون ودها، ولكن. . . ولكنها تريد الصديق الذي يستمع إلى شكواها من الأيام فتستريح إليه، أكثر مما تريد الصديق الذي لا تسمع منه إلا كلمات الزلفى والتحبّب واصطناع الهوى والغرام. . . وتحدث إليها الرافعي وتحدثت إليه، وقصت عليه من أحزانها فاخضلّتْ عيناه وأطرق فوضعت يدها على يده وهي تقول:

(سأدعوك أبي وأمي متهيبة فيك سطوة الكبير وتأثير الآمر، وسأدعوك قومي وعشيرتي، أنا التي أعلم أن هؤلاء ليسوا دواماً بالمحبين؛ وسأدعوك أخي وصديقي، أنا التي لا أخ لي ولا صديق؛ وسأطلعك على ضعفي واحتياجي إلى المعونة، أنا التي تتخيَّل فيّ قوة الأبطال ومناعة الصناديد!

ص: 46

(وسأبين لك افتقاري إلى العطف والحنان، ثم أبكي أمامك وأنت لا تدري. . .!)

وأحبته (صديقاً) تفزع إليه إذا ضاقت بآلامها وحزبتها الهموم. . .

وهي الفتاة التي لم تعرف في حياتها إلا التجهم والعبوس، ولم تعرف من دنياها إلا الجد الصارم؛ وما كان لها من عمل غير الاستغراق في الفكر، أو الاستغراق في الفن؛ وإنها لأنثى وإن كانت فيلسوفة شاعرة. . .

والرافعي رجل - كان - لا يحمل من هم، فما يدع النكتة ولا يترك المزاح والدعابة وإن الدنيا تصطرع حواليه، وإن كان القضاء منه بمرصد يراه ويتوقعه؛ وإنه ليهزل في أجدِّ الجد وأحرج الساعات هزله في أصفى حالاته وأسعد أيامه؛ فما يجالسه ذو هم إلا سُرِّى عنه كأنما يمسح قلبه فيمحو أحزانه. . .

وتحدث إليها وتحدثت إليه، فأحبته (الرفيق الأنيس) الذي تسيطر عليها روحه فينتزعها من دنياها العابسة إلى دنياه. .

واستمعت إلى صوته يتحدث، فكان له في نفسها رنين؛ ونظرت إلى سحنته الفكرية النبيلة فرأت فيها مرآة نفس صافية لا تعرف الخداع والتزوير؛ ولمحته يبتسم، فجذبتها إليه ابتسامه لم تجد مثلها إلا زيفا على شفاه الرجال؛ ونظر إليها ونظرت إليه، وقال وقالت، وتحدث قلب إلى قلب، وتناجيا في صمت؛ وتركها وهي في نفسه، ومضى وهو في مجلسها؛ وأحست في نفسها إحساساً ليس لها به عهد؛ فتناولت قلمها لتكتب إليه:

(. . . سأستعيد ذكرك متكلما في خلوتي لأسمع منك حكاية غمومك وأطماعك وآمالك، حكاية البشر المتجمعة في فرد واحد؛ وسأتسمع إلى جميع الأصوات علِّي أعثر فيها على لهجة صوتك، وأُشرِّح جميع الأفكار وأمتدح الصائب من الآراء ليتعاظم تقديري لآرائك وأفكارك. . . وسأبتسم في المرآة ابتسامتك

(في حضورك سأتحول عنك إلى نفسي لأفكر فيك، وفي غيابك سأتحول عن الآخرين إليك لأفكر فيك. . .

(سأتخيل ألف ألف مرة كيف أنت تطرب، وكيف تشتاق، وكيف تحزن، وكيف تتغلب على عاديِّ الانفعال برزانة وشهامة لتستسلم ببسالة وحرارة إلى الانفعال النبيل. . .

(وفي أعماق نفسي يتصاعد الشكر لك بخوراً، لأنك أوحيت إلي ما عجز دونه الآخرون.

ص: 47

أتعلم ذلك، أنت الذي لا تعلم؟ أتعلم ذلك، أنت الذي لا أريد أن تعلم. . .!)

وكان حبها إعجاباً بالعقل الجميل، ثم تقديراً لأستاذها الذي فجر لها ينبوع الشعر والبيان، ثم إجلالا للصديق الذي وجدت مفزعها إليه، ثم انعطافاً إلى الرفيق الأنيس الذي كشف لها عن أفراح الحياة، ثم. . . ثم حباً يستأثر بنفسها ويسيطر عليها في غيبه ومشهده فما لها عمل إلا أن تفكر فيه. . .

وأضلها الهوى وأضله؛ وخيل إليها أنها تستطيع أن تكون أرفعَ محلاًّ لو أنها منعته بعض ما تمنحه، وخيل إليه أنه يستطيع وقالت له:(أنا لا أشفق على آلامك؛ وهل تراني أكره لك النبوغ والعبقرية؟) وقالت له كبرياؤه وغيرته وظنونه غير ما قالت صاحبته؛ ومضى كل منهما إلى طريق والقلب يتلفت؛ وما عرفت إلا من بعد أنه يحبها حباً لا يطيق أن يتسع أكثر مما تتسع له نفس إنسان؛ وما عرف إلا من بعد أنها كانت تجافيه لتطلب إليه أن يكون في الحب أجرأ مما كان. . .

وعرف وعرفت، ولكن العقدة لم تجد من يحلها وبينهما فلسفة الفيلسوف وكبرياء المتكبر؛ وظلّ وظلت وبينهما البعد البعيد على هوى وحنين. . . حتى جاء الموت فحل العقدة التي استعصت على الأحياء. . .!

إن كثيراً ممن يعرفونها ويعرفونه ليدهشون إذ يقرءون قصة هذا الحب، وسيتناولونها بالريبة والشك؛ وسيقول قائل، وسيدعي مدع، وسيحاول محاول أن يفلسف ويعلِّل؛ ولا عليّ من كل أولئك مادمت أقص القصة التي أعرفها وأستيقنها، والتي كان لها في حياة الرافعي الأدبية تأثير يُردّ إليه أكثر أدبه من بعد، وحسبه أنه كان الوحي الذي استمد منه الرافعي فلسفة الحب والجمال في كتبه الثلاثة: رسائل الأحزان، والسحاب الأحمر، وأوراق الورد، وحسبي أنني قدمت الوسيلة لمن يريد أن يدرس هذه الكتب الثلاثة على أسلوب من العلم جديد

(شبرا)

محمد سعيد العريان

ص: 48

‌أبو الفرج الببغاء

للأستاذ عبد العظيم علي قناوي

- 4 -

أهلَّ أبو الفرج الببغاء في أعقاب عصر، وفي طلائع عصر آخر؛ أما العصر الأول فكانت الكتابة فيه جزلة مرسلة، تسير ذللاً لا أمت فيها ولا عوج، وترسل طبيعية لا تعمل فيها ولا تكلف، لا يلتفت الكاتب إلى غير المعنى الواضح الناصع في اللفظ المحكم والنسج المبرم؛ فقد كانت الأمة حينئذ - أواخر دولة بني أمية وأوائل دولة بني العباس - لا يزال بها رسيس من بداوة، وكتابها لا يفتأون ناهجين في أساليبهم نهج العروبة الخالصة، لم تشبها كدرة العجمة. ومن كان منهم أعجمي التفكير فإنه عربي قح في التعبير، ومن أريدت له من أبناء العجم - وما أكثرهم - المنزلة الرفيعة والحظوة المكينة لدى رجالات عصره وسراة دولته، فأداته الأولى حذق العربية والتبحر فيها، وممارسة الأدب والبراعة فيه، والاحتفال له، واتخاذ صناعة الكتابة وسيلة زلفاه، وسبب علياه، والمشرع الذي يشرعه لا يحلّئُه عنه أحد، ولا يذوده دون وروده ذائد؛ هو شدو اللغة بين بدوها، ينهل من قطرها ونبعها. ولقد كان أرباب السلطان يهيبون بمن يتخيلون فيهم مخايل الفطنة والموهبة والذكاء والنبوغ أو يتوسمون منهم فوقاً وحذقاً وبراعة ونبلاً؛ يهيبون بهم أن يهبطوا أول أمرهم في البادية تشرق فيها قرائحهم عن أفكار صافية، وتجري ألسنتهم على الألفاظ السليمة الخالصة، ثم يعوجوا إلى رهط الحضر يعبُّون من أخيلته السامية، ويعلُّون من معارفه الزاخرة، ولم تكن الفارسية قد زحمت العربية إلا بقَدر، والعجمة لا تزال محدودة البيئة والوطن؛ لأن كلتا الدولتين الغاربة والشارقة، أو الأموية والعباسية إبان ذلك تبغي مأرباً واحداً؛ فالأولى تريد لعرشها نهوضاً ولملكها رسوخاً، على ظبات الرماح وعلى أسلات اليراع؛ والأخرى تطلب لنجمها الصاعد سطوعاً وتبني ملكاً ثابت الأساس، فرجالهما في حاجة إلى من يملك أسماع جمهور العامة بفصاحته الضَّافية، ويخلب ألباب قارئيه من الخاصة ببلاغته الصافية؛ وما حديث عبد الحميد الكاتب إلا شاهد ما نقول من أن دولة الكتابة كانت - ولا تزال - عماداً قوياً لدولة السياسة

قام أبو مسلم الخراساني بالدعوة العلوية أو العباسية وظهر في كثير من الأقاليم، وذاع أمره

ص: 49

واستشرى خطبه، فأراد عبد الحميد أن يحاربه بكتبه لا بكتائبه، وأن يأسره بلسانه لا بسنانه، فكتب إليه على لسان مولاه مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية كتاباً يستصفيه وده ويستخلصه إليه، وقال لمولاه: قد كتبت كتاباً متى قرأه بطل تدبيره؛ فإن يك ذلك وإلا فالهلاك. ولكن أبا مسلم داهية الفرس ودهقانها وقائد خراسان ومحنكها لم يكن بالغر يلعب بعقله الأدب، وتشغله عن واجبه الكتب، فلم يعبأ بالكتاب ولا بالاه، بل أمر بإحراقه وتركه تذروه الرياح، وكتب على قطعة منه إلى مروان:

محا السيف أسطار البلاغة وانتحى

عليك ليوث الغاب من كل جانب

في أعقاب عصر عبد الحميد وابن المقفع وأضرابهما وفي طلائع العصر الثاني الذي تحوّل فيه حال الكتابة وتبدل أمرها؛ إذ طغى العجم على العرب واستهتر الكتاب بالمجون والخلاعة، وصّيروا الكتابة أداة من أدوات اللهو، وسبباً من أسباب الدعة، وجعلوا لها من الأغراض ما للشعر وزيادة، أهلَّ أبو الفرج، وعلى لوائها أبو الفضل بن العميد، وقد فُتن ومن لاحقه باللفظ المبهرج والأسلوب المزخرف، فالعبارات موشحة مرصعة، والفقرات مجنسة مطبقة، وأنواع البديع في الكتابة كزهر الربيع إلا أنها لا تجيء عفو الخاطر أو ربيبة القريحة كما كانت قبلا، بل تأتي بكد ذهن وعصر مخ وإعمال فكر؛ أما المعنى فكانت له لدى كتاب هذا العصر المنزلة الدنيا، فالأفكار ضيقة، والأخيلة محصورة محدودة؛ لذلك سرى في الكتابة روح غير روحها الأول، وسار الكتاب وئيداً إلى غير النهج الأمثل. على أن ابن العميد ولداته ومنهم أبو الفرج لم يغلوا غلواً ممقوتاً، ولا تطرفواِ تطرفاً ممجوجاً، فعل من أتى بعدهم ممن سار على دربهم، فلم يصلوا إلى ما وصل إليه أسلافهم، فقد كانت أخيلة ابن العميد فارسية في حلة عربية، وألفاظه زائنات معانيه، ومعانيه درر كشفت عنها ألفاظه. ولقد ضرب به المثل فقيل:(بدئت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد) وكأني بصاحب هذا المثل يريد أن يكسف شموساً أشرقت من بعده وفي عهده، وأن يخسف بدوراً سطعت على كثبه لا فضل له عليهم إلا أن الدنيا لم تسر في ركابهم، والملك لم يقف على بابهم. وهذا أبو الفرج سرى على ضوئه وارتشف من نبعه حتى روي؛ وسار في عدوائه وضرب، حتى بلغ غاية المتأمل، ووصل إلى مرتبة المتفضل. وسأعرض قطعة من غرر نثر ابن العميد ترسل إلينا قبساً من سناه، وتكشف لنا عن سمو نثره وعلاه،

ص: 50

ثم أقدم بين يدي القارئ الكريم أخريات لأبي الفرج، وأترك الحكم للحاذق الفهم. ولا أظن أن الببغاء قصر كثيراً عن رئيس الكتاب سوى أن الدنيا أقبلت على الرئيس ابن العميد فمنحته محاسن غيره، وسلبت غيره محاسنه وأولته مثالب ومساوئ

كتب ابن العميد إلى أبي العلاء السرويّ وهو من أصفى خلصائه فالكتابة إليه في نهاية الجودة كما يقول الثعالبي (لصدوره عن صدر مائل إليه محب له مناسب بالأدب إياه) كتب إليه يشكو شهر رمضان وهو من الأغراض التي لم يحاك فيها سابقاً قال:

(كتابي - جعلني الله فداك - وأنا في كد وتعب منذ فارقت شعبان، وفي جهد ونصب من شهر رمضان، وفي العذاب الأدنى - دون العذاب الأكبر - من ألم الجوع ووقع الصوم، ومرتهن بتضاعف حرور لو أن اللحم يصلى ببعضها غريضاً أتى أصحابه وهو منضج، وممتحن بهواجر يكاد أوراها يذيب دماغ الضب، ويصرف وجه الحرباء عن التحنق، ويزويه عن التبصر يقبض يده عن إمساك ساق، وإرسال ساق:

ويترك الجاب في شغل عن الحقب

ويقدح النار بين الجلد والعصب

ويغادر الوحش وقد مالت هواديها

سجوداً لدى الأرطى كأن رءوسها

علاها صداع أو فواق يصورها

ومنها:

(وممنو بأيام تحاكي ظل الرمح طولاً، وليال كإبهام القطاة قصراً، ونوم كلا ولا قلة، وكحسو الطائر من دماء الثماد دقة، وكتصفيقة الطائر المستحر خفة. .

كما أبرقت قوماً عطاشا غمامة

فلما رجوها اقشعت وتجلت

(و)

كنقر العصافير وهي خائفة

من النواطير يانعَ الرطب)

وهي طويلة وفيما قدمنا منها غنية عما تركنا. وقد جلت لنا طريقته في الكتابة التي سلكها من عاصره ومن تابعه. ونعرض صوراً متنوعة من كتابة أبي الفرج علنا نؤدي واجبه كاملا دون تحيف أو تزيد

هنأ ممدوحه سيف الدولة بظفره في إحدى وقائعه فقال من كتاب طويل:

والشجاعة أقل أدواته، والبلاغة أصغر صفاته، تطرق الدنيا إذا نطق، وينطق المجد إذا

ص: 51

افتخر، فالآمال موقوفة عليه، والثناء أجمع مصروف إليه، نهض بما قعدت همم الملوك عن ثقله، وضعف الدهر عن معاناة مثله، بهمم سيفية، وعزائم علوية، فرد شمل الدين جديداً، وذميم الأيام حميداً، بحق أوضحه، وخلل أصلحه، وهدى أعاده، وضلال أباده

فلا انتزع الله الهدى عز بأسه

ولا انتزع الله الوغى عز نصره

وأحسن عن حفظ النبي وآله

ورعى سوام الدين توفير شكره

فما تدرك المداح أدنى حقوقه

بإغراق منظوم الكلام ونثره

لأن أدنى نعمة تستغرق جميع الشكر، وأيسر منة تفوت المبالغة في جميل الذكر، فأما هذا الفتح الشريف خطره، الحميد أثره، المشهور بلاؤه، الواجب ثناؤه، الباسق فرعه، العام نفعه، فأشرف من أن يحد بالصفات، أو يعد بأفصح العبارات)

وله من أخرى فيه أيضاً:

(شهاب ذكاء، وطود وفاء، وكعبة فضل، وغمامة بذل، وحسام حق: ولسان صدق، فالليالي بأفعاله مشرقة، والأقدار لخوفه مطرقة، تحمده أولياؤه، وتشهد له بالفضل أعداؤه

يقابلنا البدر من برده

ويشملنا السعد من سعده

ولو فخر المجد لم تلقه

فخوراً بشيء سوى مجده)

ولما مات سيف الدولة ولي نعمته كتب إلى عُدَّة الدولة يذكر له رغبته في خدمته وأن يطوي باقي أيام حياته تحت رحمته قال:

(ومن أبرز لسيدنا صفحة رجائه، ووفق للانقطاع إلى سعة نعمائه، فقد استظهر لما بقي من عمره، وحكم لنفسه بالفوز على دهره

فما يقدح الفقر في حاله

ولا يطمع الدهر في قصده

وكيف وقد صار ضيف الغما

م وهو قريب على بعده

ومن علقت بأبي تغلب

يداه احتذى البدر من سعده

همام قضى الله من عرشه

له بالإمارة في مهده

فطود السيادة في دسته

وشمس الرياسة في برده)

وقد أجاب الأمير مسألته، وأناله مألكته، فكتب إليه من رسالة طويلة:

(أفصح دلائل الإقبال، وأصدق براهين السعادة - أطال الله بقاء سيدنا - ما شهدت العقول

ص: 52

بصحته، ونطقت البصائر بحقيقته، ونعمة الله تعالى على الدين والدنيا بما أولاهما من اختيار سيدنا لحراستهما بناظر فضله، وسترهما بظل عدله، مفصحة بتكامل الإقبال، مبشرة بتصديق الآمال)

وفيها:

(للصدق كلامه، وللعدل أحكامه، وللوفاء ذمامه، وللحسام عناؤه، وللقدر مضاؤه، وللسحاب عطاؤه:

دعوته فأجابتني مكارمه

ولو دعوت سوى نعماه لم تجب

وجدته الغيث مشغوفاً بعادته

والروض بجنى بما في عادة السحب

لو فاته النسب الوضاح كان له

من فضله نسب يغني عن النسب

إذا دعته ملوك الأرض سيدها

طراً دعته المعالي سيد العرب)

هذه فقر مشرقة الديباجة مزهرة الرقعة، انتظمت الحسن كله، وضمنت الجمال جميعه، فهي على - حد تعبيرنا الحديث - الشعر المنثور، أو النثر المنظوم، والدر المنضود، أو السحر المرسوم أوحى به عقل أبي الفرج، وجرى به خاطره، فسجله الزمان في كتبه؛ وما استعرضناه من نثره يبيح لنا أن نقول:

إنه كان مغرماً بالسجع القصير الفقر الموشي الحبر، فالجناس يزينه، والطباق يجمله، هذا إلى الاستشهاد بالأمثال السائرة والأبيات الشاردة

وإني أرجو أن أكون قد وفيت ما إليه قصدت من تفصيل حياة رجل غمر غمره التاريخ وطواه. فإن أكن قد بلغت فللرسالة أكبر الفضل، وإلا فعلى رمضان بعض العتب، وما توفيقي إلا بالله قصرت أو أوفيت

عبد العظيم على قناوي

ص: 53

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

301 -

الصوم في الليل

في (المِراح في المُزاح) شكى عيينة بن حصن إلى نعيمان صعوبة الصيام، فقال له: صم الليل. فروى أن عيينة دخل على عثمان وهو يفطر في شهر رمضان، فقال: العَشاء

فقال: أنا صائم

فقال عثمان: الصوم في الليل؟!

فقال: هو أخفّ عليّ

فيقال: إن عثمان قال: إحدى هنات نعيمان. . .

302 -

ولا مناع أكل طعام

ابن قتيبة: قدم إعرابي على ابن عم له بالحضر فأدركه شهر رمضان، فقيل له: أبا عمرو، لقد أتاك شهر رمضان. قال: وما شهر رمضان؟ قالوا: الإمساك عن الطعام. قال: أبالليل أم بالنهار؟ قالوا: لا، بل بالنهار. قال: فإن لم أصم فعلوا ماذا؟ قالوا: تضرب وتحبس. فصام أياماً فلم يصبر، فارتحل عنهم وجعل يقول:

يقول بنو عمي وقد زرت مصرهم:

تهيّأ (أبا عمرو) لشهر صيام

فقلتُ لهم: هاتوا جرابي ومزودي

سلام عليكم، فاذهبوا بسلام

وبادرت أرضاً ليس فيها مسيطر

عليّ ولا منّاع أكل طعام

303 -

أعمد لصومك واتركني وإفطاري

قال بعضهم: مررت بأعرابي يأكل في شهر رمضان، فقلت له: ألا تصوم يا أعرابي؟ فقال:

وصائم هبّ يلحاني فقلت له:

اعمِدْ لصومك واتركني وإفطاري

واظمأْ فإني سأروى ثم سوف ترى

من ذا يصير إذا متنا إلى النار؟

304 -

أنا مثلك. . .

وجد يهودي مسلماً يأكل شواء في نهار من شهر رمضان فطلب أن يطعمه، فقال له المسلم: يا هذا إن ذبيحتنا لا تحل لليهود. فقال: أنا في اليهود مثلك في المسلمين. . .

ص: 54

305 -

فتوى

قال الربيع بن سليمان: كنت عند الشافعي فجاءه رجل برقعة فقرأها ووقع فيها، فمضى الرجل وتبعته إلى باب المسجد فقلت: والله لا تفوتني فتيا الشافعي، فأخذت الرقعة من يده فإذا فيها:

سل المفتي المكي هل في تزاور

وضمّة مشتاق الفؤاد جناح

فوجدت الشافعي قد وقع:

فقلت: معاذ الله أن يذهب التقى

تلاصق أكباد بهن جراح

قال الربيع: فأنكرت على الشافعي أن يفتي لحدث بمثل هذا. فقلت: يا أبا عبد الله، تفتي بمثل هذا لمثل هذا الشاب؟ فقال لي: يا أبا محمد، هذا رجل هاشمي قد بنى على أهله في هذا الشهر - يعني شهر رمضان - وهو حدث السن، فسأل هل عليه جناح أن يقبّل أو يضم - وهو صائم - فأفتيته بهذا

قال الربيع: فتتبعت الشاب فسألته عن حاله، فذكر لي مثل ما قال الشافعي، فما رأيت فراسة أحسن منها

306 -

شتان بين قرى وبين رجال

في (المحاسن والمساوئ) للبيهقي: نظر المأمون يوماً إلى ابنه العباس وأخيه المعتصم فابنه العباس يتخذ المصانع ويبني الضياع والمعتصم يتخذ الرجال فقال:

يبني الرجال، وغيرهُ يبني القرى

شتّانَ بين قُرى وبين رجالِ

307 -

أنظر كيف شئت

قال ابن سعيد المغربي: كان بنو حمود من ولد إدريس العلوي الذين توثبوا على الخلافة في أثناء الدولة المروانية بالأندلس يتعاظمون ويأخذون أنفسهم بما يأخذها خلفاء بني العباس؛ وكانوا إذا حضرهم منشد لمدح أو من يحتاج إلى الكلام بين أيديهم يتكلم من وراء حجاب. والحاجب واقف عند الستر يجاوب بما يقول له الخليفة. ولما حضر عبد الرحمن بن مقانا الغنداقي الأشبوني وأنشد إدريس بن يحيى الملقب بالعالي قصيدته النونية:

أَلبرْقٍ لائح من أندرين

ذرفت عيناك بالماء المعين

ص: 55

لعبت أسيافه عارية

كمخاريق بأيدي اللاعبين

ولصوت الرعد زجر وحنين

ولقلبي زفرات وأنين

وأناجي في الدجى عاذلتي

ويْك لا أسمع قول العاذلين

عيّرتْني بسقام وضنى

إن هذين لدين العاشقين

قد بدا لي وضح الصبح المبين

فاسقنيها قبل تكبير الأذين

أسقنيها مُزّة مشمولة

لبثت في دنها بضع سنين

مع فتيان كرام نجب

يتهادَون رياحين المجون

شربوا الراح على خدِّ رشاً

نوّر الورد به والياسمين

فلما بلغ إلى هذا البيت:

أنظرونا نقتبس من نوركم

إنه من نور رب العالمين!

رفع الخليفة الستر بنفسه وقال: أنظر كيف شئت. وانبسط مع الشاعر، وأمر له بإحسان. فكان هذا من أنبل ما يحكى عنه

308 -

الحمرة التي تعلو وجهها من الحياء

في (الظرائف واللطائف) للمقدسي: قيل لبنت أرسطا طاليس: ما أحسنُ ما في المرأة؟

قالت: الحمرة التي تعلو وجهها من الحياء

309 -

المقابلة

في (خزانة ابن حجة): المقابلة من أنواع البديع وهي التنظير بين شيئين فأكثر، وبين ما يخالف وما يوافق. ومن معجزات هذا الباب قوله تعالى:(ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه، ولتبتغوا من فضله) ولأبي الطيب في مقابلة خمسة بخمسة:

أزورهم وسواد الليل يشفع لي

وأنثني وبياض الصبح يغري بي

وأخبرني مولانا قاضي القضاة الشافعي نور الدين الحاكم بحماسة المحروسة المشهور بخطيب الدهشة أنه كان بحماة يهودي يطوف بالحناء والصابون على رأسه ويقول: معي حناء أخضر جديد، وصابون يابس عتيق

310 -

مضطر

ص: 56

قال أبو سعيد السيرافي: رأيت متكلماً ببغداد بلغ به نقصه في العربية أنه قال في مجلس مشهور: إن العبد مضطَر بفتح الطاءَ، والله مضطِر بكسرها. وزعم أن من قال: مضطَر عبده إلى كذا بالفتح - كافر. فانظر أين بلغ به جهله، وإلى أي رذيلة أداه نقصه

ص: 57

‌رسَالة الشِّعر

البلبل

للأستاذ إيليا أبي ماضي

يا أيها الشادي المغرد في الضحى

أهواك إن تنشد وإن لم تنشد

الفنْ فيك سجية لا صنعة

والحب عندك كالطبيعة سرمدي

فإِذا سكت فأنت لحن طائر

وإذا نطقت فأنت غير مقلد

لله درك شاعراً لا ينتهي

من جيد إلا صبا للأجود

مَرَح الأزاهر في غنائك والشذا

وطلاقة الغدران والفجر الندِي

وكأن زورك فيه ألف كمنجة

وكأن صدرك فيه ألف مردد

كم زهرة في السفح خادرة المنى

سكنت على يأسٍ سكون الجلمد

غنيتها فاستيقظت، وترنحت

وتألقت كالكوكب المتوقد

وجرى الهوى فيها وشاع بشاشة

من لم يحب فإِنه لم يولد

وكأنني بك حين تهتف قائلاً

للزهر: إن الحسن غير مخلد

فاستنفدي في الحب أيام الصبا

واسترشديه فهو أصدق مرشد

واِستشهدي فيه، فمن سخر القضا

ألا تذوقيه. . . وأن تستشهدي!

يا فيلسوفاً قد تلاقى عنده

طرب الخلي وحرقة المتوجد

رفع الربيع لك الأرائك في الربى

وكسا حواشيها بُرُود زبرجد

أنت المليك له الضياء مقاصر

وتعيش عيش الناسك المتزهد

مستوفزاً فوق الثرى، متنقلا

في الدوح من غصن لغصن أملد

متزوداً من كل حسن لمحة

شأن المحب الثائر المتمرد

وإذا ظفرت بنغمة وبقطرة

فلقد ظفرت بروضة وبمورد

تشدو وتبهت حائراً، متردداً

حتى كأنك حين تعطي، تجتدي

وتمد صوتك في الفضا متلهفاً

في ذلة المسترحم المستنجد

فكأنما لك موطن ضيعته

خلف الكواكب في الزمان الأبعد

طوردت عنه إلى الحضيض فلم تزل

متلفتاً كالخائف المتشرد

ص: 58

يبدو لعينك في العقيق خياله

وتراه في ورق الغصون المُيَّد

صوراً معددة لغير حقيقة

كالآل لاح لمعطَش في فدفد

فتهم أن تدنو إليه وتنثني

حتى كأنك خائف أن تهتدي!

وكأنه حلم يصح مع الكرى

فإِن انتهيت من الكرى يتبدد

كم ذا تفتش في السفوح وفي الذرى

عنقاء أقرب منه للمتصيد

يا أيها الشادي المغرد في الضحى

أهواك إن تنشد، وإن لم تنشد

طوباك إنك لا تفكر في غد

بدء الكآبة أن تفكر في غد

إن كنت قد ضيعت إلفك إنني

أبكي على إلفي الذي لم يوجد!

إيليا أبو ماضي

ص: 59

‌وحي جديد

للأستاذ سيد قطب

في خِفّةِ الطيْرِ

في نضرة الزهرِ

لاقيتُها عَرَضا

بسّامةَ الثغر

فتّانةً تُغرِي

بالسحر والطهر

تهفو فتحسبُها

لحناً هفا يسري

في لَفْتةِ الجيدِ

في خَفقةِ الصدر

(تقسيم) موسيقي

منغومةِ النّبْرِ

يا بسمةَ الفجرِ

يا نفحةَ العِطْرِ

أسْكرتِ وجداني

من لونك الخمرِي

ألهبتِ إحساسي

بالشوق كالجمرِ

وهمستِ في قلبي

وهتفتِ في صدري

وبعثتنِي أشدو

للحُبِّ بالشعر

وكأنني روح

تَقْفُو خُطا سحر

مفتونة ترنو

للكونِ في سُكْر

والكونُ يشملها

بالأنس والبشر

عَجَبي لما أَلْقى

من لغزِك السِّحرِي!

وحيٌ يوسوس لي

في السر والجهر

حوَّلتِ عمريَ من

شطر إلى شطر

حبَّبْتِني، عجبا!

في عيشةِ الوكر

قد كنتُ أرهبها

كالنَّاب والظُّفْر!

وأخالها شركا

في البر والبحر!

إذ كنت أدْمَغُها

بالشك والغدر

فملأتِني ثقةً

بجمالها المُغْري

ورسمتِ لي صورا

لفراخِها الخضر

ص: 60

تَزْقُو فنطعمها

بحناننا النضر

ونَرِيشُ أجنحة

من ريشها النّزر

فتطير هازجةً

في جوِّنا الشعرِي

وتؤوب وادعة

للعش كالطير!

يا فتنتي، هذا

طيف من السحر

إن تأذني أضحى

شطراً من العمر

فهبي لي روحا

من رُقيةِ الثغر

هي قبلة تُمضي

ما شئتِ من أمر

وكأنها قَدَرٌ

بسعادتي يجري

سيد قطب

ص: 61

‌رجاء نفس

للأستاذ خليل هنداوي

لا تيأسي يا نفس واعتزمي

صبراً، فليس اليأس من خلقي

هذا مطاف المجد فانطلقي

قُدُماً، وهذا العز فاستبقي

جارت على عصفور روضتنا

هوجاء تخبط خبطة القدر

والآن جدد عشه فرِحاً

واختال يبسم بسمة الظفر

النور في الآفاق ملتمع

فتجلببي يا نفس بالنور

والأفق قد ضحكت مشارقه

والسحب ترقص رقصة الحور

هذا الوجود صفت مشاربه

فترنحي كالشارب الثمل

لنجدد الآمال ثانية

ما أَوسع الأَيام بالأَمل!

عودي إلى دنياك ناشطةً

نبني على الأنقاض والرمم

لم يوخ من أودي بمظهره

للحي معنى اليأس والسأَم

أنا من إذا هدمَتْ بنى وإذا

عبس القضاء بوجهه ابتسما

أنا من إذا سأَمٌ تعاورَنِي

صيرتُ لهواً ذلك السأَما. . .

خليل هنداوي

ص: 62

‌القَصصُ

من أساطير الإغريق

4 -

خرافة جاسون

للأستاذ دريني خشبة

تتمة

أقلعت الآرجو وطفقت تطوي عباباً من بعده عباب، ولجة من ورائها لجة؛ وبدا الطريق كأنه يطول، والأفق كأنه يحلو لك، والسحب كأنما تتجمع من كل صوب لتنعقد فوق الآبقين بكنوز إيتيس وابنته وولي عهده. . .

ونمى الخبر المفزع إلى الملك فجن جنونه، وهب من فوره يعد أساطيله ليقتفي آثار جاسون، عسى أن يقبض عليه، ويعود بابنيه وأعز كنزه. . . وانطلق هو الآخر يطوي العباب، ويتواثب بأسطول فوق أعراف الموج، ووقف بين الملاحين يحضهم ويحرضهم، ويستحثهم ويشجعهم، حتى لاحت الآرجو لهم كالنكتة السوداء في حمرة الشفق، أو المطوّقة الورقاء في صحيفة الأفق، فضاعفوا الجهود وشدوا الأذرع، واستبقوا إليها من كل فج؛ وكانت سفينة الملك في المقدمة كالطائر الدليل يتبعه سائر السرب؛ ونظر الأرجونوت فأبصروا السفينة تنقذف فوق نواصي الموج نحوهم، فراحوا بدورهم يعملون المجاديف ويُهدْهِدُون الشراع للريح؛ وكلما اقتربت السفينة منهم خفقت قلوبهم وشاع فيها الذعر فجمد عليه ببرده. وكانت ميديا تنظر إلى مركب أبيها وترتعد فرائصها من الغَرَق. . . وفكرت في ألف حيلة وألف سحر، ولكن أفكارها ذهبت كلها أباديد، وبطل سحرها كله فهو لا ينفع ولا يفيد. . . واقتربت سفينة أبيها حتى صارت على رمية سهم. . . وأخذ أبوها المسكين يهتف بها وينادي، ويتوسل أن تعيد إليه ابنه. . . ابنه الأوحد. . . أبستروس. . . (ميديا! ابنتي! أنا أبوك! أتوسل إليك! ردي عليّ ولدي واذهبي أنى تشائين! إنه أملي في الحياة! إنه ولي عهدي وحافظ ذريتي! ميديا! أرسليه في زورق واذهبي أنت. . .!) ولكن الفتاة غَلّقتْ فؤادها وسدّت بالجحود سمعها! وا أسفاه! يا للقاسية! يا لبرودة القلب الذي لا يحس، والنفس التي لا ترحم؟ لقد أمرت ميديا بالفتى فأحضر إليها، ثم شحذت سِكّيناً وأغمدته في

ص: 63

صدره، وتدفق الدم الحار. . . دم الشباب الفينان. . . يلطخ اليد الأثيمة المجرمة. . . اليد الشقية، يد ميديا التي طَوّعت لها نفسها المغلقة قتل أخيها، ثم تقطيعه إربْا. . .؟

ماذا خطر برأس الساحرة؟ أواه! لقد أخذت تمزق أخاها مِزَقاً مِزَقَا، وكلما اقتطعت منه شلْواً قذفت به في الماء، وأبوها المسكين المجنون يرى، فيضطر أن يتلبث عند الشلو لينتشله، ثم يتلبث عند الشلو الذي يليه. . . وهكذا دواليك، حتى انتشل آخر الأمر الرأس العزيز. . . الرأس الصغير الذي كان يبسم لأينع الآمال.، ويحلم بأجمل الأماني. . . رأس أبستروس. . . ولي العهد، والأمل المدّخر لأمة بأسرها. . .

لقد انتشر الظلام في عيني الملك. . . وغمر قلبه قنوط مر. . . وأمر الملاحين فطووا الشراع، وأخذوا يعودون أدراجهم إلى الوطن في بحر هادئ كله هم، وكله حزَن؛ وجلس إيتيس وبين يديه أشلاء ولده يغسلها بدموعه، ويخضبها بالدم الذي تذرفه عيناه

- (آه يا بني! أية فروة وأي كنز؟ ليتك خلصت لي بكل مُلكي! ميديا! غضبت عليك آلهة السماء يا عاقة! تبت يداك يا أغدر البنات! ألا ليت أمك لم تلدك. . .! أبستروس! رد عليّ أيها الحبيب. . .!) وهكذا ظل الملك المحزون يجتر أشجانه حتى عاد إلى الوطن!

ولكن جاسون ما خطبه؟! مسكين! لقد كان ينظر إلى ميديا وهو مأخوذ بما تصنع! ولقد حاول أن يمنعها من ارتكاب هذا الإثم. . . لكنها حدجته بنظرة آمرة كان يرقص فيها ألف جني، فسكت! وهل كان في وسعه أن يفعل شيئاً؟! أليس يذكر الحجر الواحد الصغير الأسود الذي أهلك جيشاً بأكمله؟ ورد عنه كيد ألف ألف مقاتل من المردة الجبابرة؟! بيد أنه عرف الآن ماذا كان يحجز بين قلبه وبين فم هذه المرأة الهائلة حين كانت تغمر خديه وجبينه بالقبل! لقد كان السر الرهيب المطوي في صحائف الغيب هو الذي يصون جاسون من مبادلتها حباً بحب وغراماً بغرام، وقبلاً حارة ملتهبة بمثلها!

وقد فكر جاسون في ملكه الضائع المغتصب، وفي أبيه الضعيف الطريد، وفي عمه الجبار العَتي، وفكر في قوة ميديا الخارقة، فآثر أن يبقي عليها عسى أن تنفعه. . . لهذا أظهر لها التودد، وتعمل في حضرتها البشاشة. . . حتى وصلت الآرجو إلى إيولكوس، حاضرة تساليا. . .

وحمل جاسون الفروة الثمينة، وقصد إلى عمه. . .

ص: 64

وذهل بلياس. . . وجعل يحملق في الكنز العظيم الذي أتاه به ابن أخيه. . . وجعل يلمسه بيديه كأنه لا يصدق. . . ولكن كيف لا يصدق وهذا بريق الذهب يكاد يذهب سناه ببصر عينيه جميعا؟!

- (ترى ماذا صنع هذا الفتى حتى وسعه أن يقهر ملك كولخيس على هذا الكنز العظيم؟ إن الملك كان أحرص عليه من نفسه التي بين جنبيه؟ ألا كم هلك أناس طمعوا في فروة فركسوس؟ عجلا فلكان! وأرض مارس! وجيل بأكمله ينبت من أنياب التنين. . .؟ والأفعوان الهولة الذي يحرس الفروة؟ أَظفر جاسون - هذا الفتى - بكل أولئك؟ جاسون ابن أخي؟ عجيب وحق الآلهة. . .؟ بل أسأله، فلابد من سر في هذا الأمر. . .) وسأله، وتبسم جاسون، وراح يلفق قصة طويلة قذف بها الرعب في جوانح عمه، وظل يتغنى بشجاعته، ويصف ما كان من ظفره بعجلي فلكان، وحرثه الأرض الجبوب، وغرسه أنياب التنين، ثم هذه الحرب الزبون التي شبها عليه المردة وما كان من إفنائه لجموعهم، وتلك الملحمة التي قتل فيها التنين الرهيب الذي وكلت إليه حراسة الفروة العظيمة. . . ثم إنه لم يشر بكلمة إلى ميديا

وأكرم عمه مثواه. . . وكلما طلب إليه جاسون أن يتنزل له عن العرش، مطله وراوغه، وزخرف له الأماني. . . حتى أيقن جاسون أن عمه يعبث به، بل يدبر له غيلة يخلص له العرش من بعدها، ولا يعكر عليه صفو الحياة أيٌّ من تلاميذ شيرون!!

ولقي جاسون أباه، فراعه أن يرى كومة من العظام نخرها الكبر، وجللها المشيب، وأوهاها الحزن، وأوهنها الألم المتصل، وناءت تحت كوارث الزمان. . . وبكى جاسون! ولكن أباه انتهره وقال له:(أي بني ليس لرجل مثلك شب على فضائل شيرون أن يبكي! إنما يبكي النساء والمستضعفون من الرجال. على أنه ماذا يبكيك؟ ألا إن كان يبكيك اقتلاع أبيك من العرش فلهذا عهدت بك إلى أستاذك العظيم، وأحسبه قد ذكر لك ما كان من وصاتي له حينما عهدت بك إليه يهذبك ويؤدبك. . . ولقد أصبحت رجلاً شيخاً هالكا، أما أنت فمن صباك في إبان، ومن عنفوانك في ريعان، وأنت بالعرش أحق مني وأولى، وهو بك مني ومن عمك أليق، ولن أغفر لك قعودك عنه، وليس في تساليا إلا شعب يحبك، ورعية تلهج بالثناء عليك، فشمر عن ساعدك، واطلب حقك بالقنا يا جاسون)

ص: 65

وذهب الفتى وقد اضطرم بين جنبيه جحيم من النقمة على عمه، فلقي أول من لقي ميديا

- ماذا، فيم أنت مقطب هكذا يا حبيبي؟

- لا شيء. . . لا شيء مطلقاً!

- لا شيء؟ وكيف؟ ألا تفهم ميديا ما في نفسك؟ حدثني ولا تخْفِ عليّ!

- لا شيء وحقك يا ميديا

- أوَ مُصرٌّ أنت على كتمان دخيلتك عني؟ إذن لقد كان أبوك يعظك!

- أجل! وبهذه المناسبة أريد أن أقول لك كلمة. . .

- قل يا حبيبي! تكلم يا جاسون!

- إن لك إلماماً تاماً بغرائب السحر، وعلم التعاويذ والرُّقَي ولقد نفعني علمك في أحرج مواقفي. . . ولن أنسى مساعدتك يوم لقيت عِجْلَيْ فلكان، وحاربت المردة، وقتلت التنين. . . إنما فعلت كل أولئك بمعونتك، ولي رجاء إليك. . .

- رجاء؟ أي رجاء يا حبيبي؟ إنما أنت تأمر. . .

- شكراً! ألا تستطيعين يا ميديا أن تردي الشباب إلى أبي؟ إنه رجل شيخ محطم، وإن الأيام لتنحدر به إلى القبر، كما تنحدر صفوانة من شاهق. . . فهل عزيز على علمك أن ترديه إلى ما ولى من الصبى؟. . . خذي من عمري فَصِلي عمره إن استطعت! أتوسل إليك يا ميديا أن تفعلي!. . .)

- اطمئن يا حبيبي فليس أيسر مما طلبت، وسأرده إلى ميعة شبابه بقليل من العناء. . . وسأزيد في عمره ما أحببت. . . على ألا تنقص سنوك شيئاً بل تزيد إن شئت؟!

لقد كان البدر تماً، والليل الفضي الجميل أروع ما ينثر لجينه على الطبيعة النشوانة، وكل ما في البرِّية نائما ساكناً، والعشب الحلو كان نائماً كذلك. . . وكانت ميديا تخطر كالشبح الأبيض بين الآكام وملء الأدغال حتى أتت إلى ربوة تشرف على كل ما حولها فصعدت فوقها. . . وتلبثت قليلا تفحص الطبيعة الرائعة في الأرض والسماء بعينيها الجبارتين ثم بدأت تتلو تعاويذها وتقرأ رُقاها. . . وترسل للنجوم صلاة سحرية كان يحملها الليل الصامت إلى أرجاء السماء وإلى القمر الحالم الساهم. . . ثم سبحت سبحاً طويلاً باسم هيكاتيه ربة السفل والسحر، وباسم تللوس ربة هذه الأرض العجيبة النائمة التي تنبت البقل

ص: 66

والعشب لِما تعمل ميديا. . . وصَلَّت كذلك لآلهة الغاب والأنهار والبحار والغدران، ولآلهة الرياح والضباب والسحاب، وصلت لجميع الآلهة، ولم تفتر تطلق التعاويذ وترسل الرقي. . .

ثم سكتت. . . وصمت حولها كل شيء. . . حتى الرياح كتمت أنفاسها. . . ثم تشققت السماء فكانت وردة كالدهان. . . ثم انفتح فيها باب كبير من ذهب، وبرزت منه عربة عجيبة يجرها أفعوانان هائلان، فلم يزالا يطويان الرحب حتى كانا عند قدمي ميديا. . . وتقدمت الساحرة وهي تبتسم فركبت في العربة، وانطلق الأفعوانان يجرانها في الهواء، ويرفان بها فوق الوديان والغيران، وفوق قلل الجبال وهضاب الأرض، وفوق الغاب الساكن المستسر، وفوق الأنهار والبحار. . . وفوق كل شيء. . . حتى انتهت إلى آخر أقطار الأرض حيث تنبت الأعشاب العجيبة التي تنفعها في سحرها. . . وهناك. . . مكثت الساحرة تسع ليال بعيدة عن العالم تجمع العشب وتنتقي البقل ذا الأسرار؛ ثم ركبت عربتها وانسابت في الهواء حتى أتت بيت جاسون، فنزلت بحملها العجيب وعرج الأفعوانان في السماء. . .

وفي الصباح، فوجئ جاسون بوجودها فذعر ذعراً يشوبه شيء من التفاؤل بعودة الشباب إلى أبيه كما وعدت. . . وأمرت أن يخلي بينها وبين إيسون حتى لا ترى عين إلى ما تصنع، ولا تنكشف أسرار سحرها لأحد ما من العالمين. . . ثم إنها أقامت مذبحين عظيمين أحدهما باسم هيكاتية ربة السفل والسحر، والآخر باسم هيب ربة الشباب، وذبحت لكل شاةً سوداء فاحمة السواد، ثم صبت على دمائهما صلاةً للربتين من خمر ولبن. . . وتوسلت بعد ذلك إلى بلوتو رب هيدز، وإلى زوجه بروز ربين، ألا يعجلا بقبض روح إيسون. . . ثم بدحت نحو الرجل فتمتمت بِرُقْية أسلمته إلى نوم عميق، وأضجعته على فراش مهدته له من الأعشاب العجيبة التي حملتها من أقصى الأرض، وطفقت بعد هذا تخطر وتدور حول الجثة، وشعرها المتهدل يداعبه النسيم، وصدرها المنكشف ناهد نحو السماء. . . حتى إذا أتمت دورات ثلاثاً وقفت، وشحذت سكيناً ماضياً، وجعلت تشعل أعواداً من عشبها وتنظمها حول المذبحين. . . ثم تناولت إدَاوَتَها التي حفظت بها أعشابها ذوات الأسرار، وحفظت بها أزهاراً فيها من الرحيق السحري ما هو آية، وجعلت فيها من

ص: 67

حجارة الشرق ورمال البحر المحيط، ومن البَرَد الذي جمعته أثناء رحلتها في ضوء القمر، وجعلت فيها رأس بومة وجناحيها، وحَوَايا ذئب، وبقايا من صدفة سلحفاة، ومزقاً من كبد غزال، ورأس غراب ومِنْسَره، وما إلى أولئك من آثار الحيوانات المعمرة؛ ثم صبت على ذلك كله ماء وتمتمت بكلمات، وأشعلت ناراً فجعلت عليها الإداوة بما فيها، وتركتها تغلي وتفور، وهي فيما بين هذا وذاك تعوّذ وتهمهم، وتتمتم وتغمغم، ثم تُقلب ما في الإداوة بغصن زيتون أملود. . . فما كاد السائل يفور حتى نمت في الغصن أفنان من الورق الأخضر، وحبات من الزيتون يكاد زيتها يقطر منها، وكلما نثرت منه على الأرض شيئاً نما مكانه عشب حلو أخضر كأحسن ما ينمو العشب في إبان الربيع!

ثم شحذت سكينها مرة ثانية، ثم أهوت على حلقوم الشيخ فقطعته، وتركت دمه ينبجس من الجرح الكبير حتى سال أجمعه؛ ثم إنها صبت من الإداوة في الجرح وفي الفم، كأنما تجعل منه مكان ما سال من الدم. . . وما هي إلا لحظة حتى دبت الحياة الفتية في جوارح الرجل المهدم المحطم. . . فهذا شعره يَسْوَدُّ ويصير فاحماً غربيباً. . . وهذا وجهه الجعد ذو الأسارير يمتلئ باللحم والدم، وهذا ظهره المحني يستقيم ويمتلئ قوة وعنفواناً، وهذا دم الشباب يجري في عروقه كقبل أن يكتهل، وهاهو ذا يثب كالغلام الأمرد السمهري، ويشب على إخمصيه كأرشق ما يفعل الصبيان!! وهاهو ذا الوجه يكتسي جمال العصر الخالي. . . ثم هاهو ذا جاسون يقبل من بعيد فينظر إلى أبيه وكأنه في حلم. . . ويعانقه ويهنئه. . . ويشكر ميديا. . . ويبكي!!

- أرأيت يا حبيبي؟ أليست لك حاجة بعد؟

- وكيف يا ميديا؟ إني مفتقر أبداً إلى واسع علمك، ومبين سحرك!

- أمهمة أخرى؟

- أجل يا ميديا! ألا ترين إلى والدي مطروداً من عرشه، وإليَّ يقتلني الحزن من أجل ذلك؟ ألا تصنعين شيئاً ينفعنا في ذلك؟

- ولم لا نقتل عمك؟ ألا يستحق القتل بعد كل هذه الجرائم؟

- أنا ضعيف يا ميديا. . . وهو رجل جبار وله جند. . .

- إذن أنا أكفيك مؤونة ذلك. . .

ص: 68

وأخذ إيسون يجوب شوارع المدينة فيراه الناس، ويعجبون لهذا الشاب الذي تدفق في بردتيه، فيسجدون له وإن منعهم الجند وطاردوهم. . . وعلم بنات الملك بما رَدّت ميديا على عمهم من رونق الصبى، وما ألبسته من رواء الشباب. . . وكان أبوهم قد بلغ من الكبر، ورزح تحت أعباء الملك المغتصب، فوددن لو أتين له بميديا لتصنع معه ما صنعت مع إيسون. . . واتصلن بالساحرة، وأغرينها بالمال، فرحبت وقبلت مختارة أن ترد إلى أبيهن الصبى، حتى لا يغلبه على الملك إيسون ولا ولده جاسون. . . وأحضرت الإدواة بما وعت من عشب، ثم جيء لها بالشاة السوداء، ولكنها حين تمتمت بكلماتها السحرية، وكانت الإداوة تغلي بما فيها من سائل عجيب، قفزت الشاة فكانت في الإداوة، ثم قفزت منها فكانت حَمَلاً وديعاً جرى إلى السهول يرعى العشب. . . وطرب البنات حين شهدن آية السحر وإعجازه. . . ثم جيء بالملك وحراسه ليشهدوا. . . وأعطت ميديا كلا منهن سيفاً مسلولاً وتمتمت بكلمات فدارت الأرض برأس بلياس وصحبه وحراسه، فسقطوا وغطوا في سبات عميق. . . وأشارت ميديا إلى البنات أن يضربن بسيوفهن عنق أبيهن وصدره لتبدأ هي عملها. . . فتلكأن أول الأمر. . . ثم أطعن، وحركن أيديهن بالسيوف في ضعف وفرق فأحدثن به جروحاً أيقظته. . . فلما شهد بناته تأوه وتوجع وصرخ بهن:(ويلاه! بناتي يقتلنني!؟) وخافت ميديا أن يبطل سحرها فبدت في صورة إحدى بناته، واستلت سيفاً مرهف السنان وأغمدته في صدر الملك اللص. . . فمات إلى الأبد. . . وأغمض عينيه ليفتحهما في هيدز. . . وفي هيدز فقط. . .

وكانت ميديا قد هتفت بالآلهة فأرسلت إليها العربة التي يجرها الأفعوانان، وكانت قد فعلت فعلتها حين بدأ الفجر ينبلج، فركبتها ولاذت بالفرار قبل أن يكشف صنعها أحد!

سبحان مقلب القلوب!! إن كل هذا السحر لم ينفع ميديا! لقد كان قلب جاسون مغلقاً دونها برغم أنه بر بوعده فتزوج منها وأولدها أطفالاً أبرياء أطهاراً نقيين كالثلج!! لقد أحب جاسون الأميرة كروزا ملكة كورنث، وأحب هذه المرة حباً صريحاً لا يشوبه ذعر. . . ولا تعكره التعاويذ. . . ولا تتلفه رُقي السحر. . . وأعلنت الخطبة، فجن جنون ميديا. . . واسودت الدنيا في قلبها وعينيها. . . وهالها نكران جاسون لجميلها الذي ناله مثنى وثلاث ورباع. . . ولِمَ لا؟ أليست هي التي مهدت له سبيله إلى العرش؟ أليست هي قاتلة بلياس.

ص: 69

إذن فالويل له!!

ودست إلى أميرة كورنثا ثوباً لو اجتمعت الجن والإنس لم تقدر على مثله؛. . . فلما كانت ليلة الزفاف، لبسته كروزا، ولكنها ماتت لساعتها! أواه! لقد كان الثوب مسموما. . . وكان ما به من سم يكفي لقتل شعب بأسره. . .

ولم تكتف الساحرة بذلك، بل شحذت سكينها، وأعادت مأساة أبستروس، فقتلت جميع أبنائها من جاسون. . . وأشعلت النيران في القصر الملكي. . . وفرت إلى أثينا على العربة السحرية لتتزوج من ملكها إيجيوس، ولتلقى ثمت مصرعها

دريني خشبة

ص: 70

‌البَريدُ الأدبيّ

جائزة فاروق الأول لإحياء العلوم والفنون والآداب

أرسل حضرة صاحب السعادة الدكتور حافظ عفيفي باشا وزير مصر المفوض في لندن إلى وزارة المعارف مذكرة يقترح فيها إنشاء جائزة مالية سنوية باسم (فاروق الأول) تمنح للمصريين المتفوقين في العلوم والآداب والفنون

وقد أحالت الوزارة هذا الاقتراح إلى لجنة لبحثه فأبدت طائفة من الآراء نشير إليها فيما يلي:

وافقت اللجنة سعادة المقترح على فكرة المباريات لما لها من الأثر الحسن في نهضة التأليف وإبراز ما يجول بخواطر العلماء والمفكرين من النزعات العلمية والفكرية، بعد أن انصرف الكثيرون منهم عن البحوث والدراسات لأسباب مختلفة؛ ولكنها تشترط في الكتب التي تقدم لهذه المباريات: أن تكون مثلاً صالحاً للابتكار، وأن تكون جديرة بإحداث الأثر المرجو؛ على ألا تكون هذه الكتب مترجمة ولا منقولة إلا ما يؤخذ من ذلك على وجه الاستشهاد أو الاقتباس

وتقترح اللجنة أن تكون الموضوعات التي تعرض في هذا السبيل سبعة: تاريخ الأدب المصري، والنقد الأدبي، وتاريخ مصر، والاجتماع والتشريع والاقتصاد فيما له علاقة بمصر. ومسائل التربية والتعليم وتطبيقها في مصر. والزراعة في مصر. والعلوم في مصر

وترى اللجنة أن تكون الكتب مطبوعة، وأن تنتظم لجان التحكيم فيها كبار العلماء والأدباء، على أن يتم اجتماع هذه اللجان مرة في كل عامين

ثم أقرت الرأي القائل: بأن تتوج الجوائز (باسم فاروق الأول) فيقال: جائزة (فاروق الأول لتاريخ الأدب المصري) أو جائزة (فاروق الأول للعلوم) وهكذا

وقد تقرر أن تعقد لجنة يرأسها وكيل وزارة المعارف وتضم الوكيل المساعد ومراقبي التعليم لدراسة هذه الآراء والمقترحات وإعداد تقرير عنها توطئة لإصدار تشريع خاص بذلك، لأنها ستكون جائزة رسمية للدولة

رامسي مكدونالد الكاتب والمفكر

ص: 71

لما نعى المرحوم المستر رامسي مكدونالد السياسي البريطاني الكبير ورئيس الوزارة البريطانية الأسبق أفاضت صحفنا في استعراض حياته السياسية؛ ولكنها نسيت في حياته ناحية خطيرة هي ناحية التفكير والكتابة؛ ذلك أن مكدونالد كان كاتباً اجتماعياً واقتصادياً كبيراً، وله في هذه الناحية آثار عديدة قيمة نذكر منها:(العمل والإمبراطورية)(سنة 1907)؛ (الاشتراكية والحكومة)(1909)؛ (يقظة الهند)(1910)؛ (الحركة النقابية)(1912)؛ (البرلمان والثورة)(1919)؛ (الاشتراكية الناقدة والمنشئة)(1921)، وغيرها

وقد كان مكدونالد كاتب الاشتراكية الإنكليزية ولسانها، وكتابه عن الاشتراكية الذي صدر لأول مرة في سنة 1921 ثم أصدره بعد ذلك في سنة 1924، وقت أن كان رئيساً لوزارة العمال الأولى، يعتبر من أقوم الكتب الإنكليزية التي صدرت في هذا الموضوع لا من الناحية العلمية والفنية، ولكن من ناحية أنه يعبر أحسن تعبير عن ميول الاشتراكية الإنكليزية ومثُلها. وقد كان مكدونالد مدى أعوام طويلة زعيماً لحزب العمال الإنكليزي وزعيم الحركة العملية الإنكليزية، والمعبر عن أمانيها ومثلها؛ وفي كتاب (الاشتراكية) يدلل مكدونالد بشروحه على أن الاشتراكية الإنكليزية لم تتقدم كثيراً في مثلها الاقتصادية والاجتماعية عن الاشتراكية الفابية أو الاشتراكية الإصلاحية، وإنها أبعد ما تكون عن روح الثورة الاجتماعية والاقتصادية التي ترمى إليها اشتراكية القارة الأوربية وتعمل لها. ولما تولى حزب العمال الحكم برآسة مكدونالد ظهرت هذه الحقيقة بصورة عملية في سياسة الحزب الداخلية والخارجية، وظهرت الاشتراكية الإنكليزية في صبغتها القومية العميقة. والخلاصة أن كتاب مكدونالد في (الاشتراكية) هو رسالة الاشتراكية الإنكليزية وحدها، وهو يعتبر من جانب أنصار الاشتراكية المتطرفة رجعياً في نظرياته وشروحه

جوائز نوبل

حملت إلينا الأنباء الأخيرة أسماء الفائزين ببعض جوائز نوبل لهذا العام؛ فقد منحت لجنة جامعة استوكهلم جائزة نوبل للكيمياء للعالم النرويجي كارلر والأستاذ هاويت الإنكليزي؛ ومنحت جائزة نوبل للعلوم الطبيعية للأستاذ وارسون الأمريكي والأستاذ تومسون الإنكليزي

ص: 72

وفاز بجائزة نوبل للآداب، وهي في الواقع أشهر جوائز نوبل، الكاتب الفرنسي روجيه مارتان دوجار ومسيو دورجار من جيل الكتاب الشبان الذين ظهروا في عالم الصحافة بادئ ذي بدء، ثم نبهت أقلامهم في عالم الأدب؛ واشتهر بالأخص بفصوله الأخبارية الشائقة. وتنقل مسيو دوجار في دوائر الأدب، وتزعم جماعة من الكتاب الشبان الذين انضووا تحت لواء مجلة الأخبار الأدبية ولبث مدى أعوام مديراً لهذه الصحيفة الأدبية الهامة، ولم يتركها إلا منذ حين، إذ حل مكانه في إدارتها الكاتب ليفبر؛ وظهرت في مجلة الأخبار الأدبية بقلم مسيو دوجار فصول ومقالات شائقة كثيرة معظمها عن مشاهدات وسياحات، وكان منها عدة فصول نشرت عن مصر، ونالت استحساناً عظيما. وله غير مقالاته الصحفية العديدة كتب وقصص تمتاز بقوة العرض وطلاوة الأسلوب

ويلوح لنا أن دوائر ستوكهلم المشرفة على جوائز نوبل أضحت تميل إلى تقدير النوابغ من الكتاب الذين لم تهيئ لهم الظروف من الشهرة والمكانة ما يتفق مع عبقريتهم، ولم تعد تتقيد كما كانت في الماضي باختيار أولئك الأعلام الذين تربعوا في ذروة الشهرة والنفوذ، ومن ثم كان اختيارها لكتاب مثل إيفان بونين، ودوجار، لم يبلغوا - قبل فوزهم بجوائز نوبل - مكانة عظيمة من الشهرة في عالم الأدب فرفعتهم باختيارها إلى المكانة اللائقة بفنهم وعبقريتهم

كيف يشجعون الآداب والفنون

يظهر أن السويد قد وطدت العزم على أن تغدو أولى الأمم في حماية الآداب والفنون، فهي فضلاً عن جوائز نوبل الشهيرة التي تمنحها كل عام لعدة من أكابر العلماء والكتاب في مختلف الأمم، والتي تغدق بمقتضاها على الفائزين عشرات الألوف من الجنيهات كل عام، تضرب كل يوم مثلا جديداً في هذا الميدان.

وآخر ما انتهى إلينا من ذلك أن هبة جديدة قدرها مليون كرون (نحو 55 ألف جنيه) قد رصدتها دار النشر السويدية الشهيرة (ألبرت بونير) لتشجيع المؤلفين والفنانين، وذلك لمناسبة الاحتفال بعيدها المئوي. وقد أطلق على هذه الهبة (التذكار المئوي لألبرت بونير) وذلك تنويهاً بانقضاء مائة عام على صدور أول كتاب أصدرته هذه الدار؛ وخصص دخل هذا الاعتماد للمؤلفين والصحافيين الذين يكتبون باللغة السويدية والفنانين الذين يتولون

ص: 73

التصوير للكتب؛ وندب لإدارته مجلس يتألف من ممثلي الواهبين، والصحافة، ودوائر الأدب والفن السويدية؛ ويجري توزيع الجوائز السنوية تحت إشراف الجامعة السويدية

وهكذا تضرب الأمة السويدية الأمثلة الرائعة على رفيع تقديرها لعبقرية الفكر وعبقرية الفن. وقد كان نوبل صاحب الجوائز العلمية والأدبية العظيمة من رجال المال والصناعة؛ وصاحب الهبة الجديدة، وهو الدكتور بونير من رجال المال والصناعة؛ ومع ذلك فإن أولئك الممولين استطاعوا أن يقدروا ما للآداب والفنون من الأثر العظيم في نهضة الأمم وفي ازدهار الحضارة

أما في مصر فإن الآداب لم تنل حتى اليوم تقديراً ولا تشجيعاً، لا من الجهات الرسمية، ولا من رجال المال؛ وما زالت فكرة الجوائز الرسمية لتشجيع التأليف تتردد منذ أعوام بين اللجان والجهات المختلفة دون أن تحظى بالتنفيذ العملي

محاضرات ألمانية عن الفن المصري

قرأنا في البريد الألماني الأخير خلاصة لبعض محاضرات يلقيها العلامة الأثري الألماني الدكتور جورج ريدر في همبورج عن أثر الفن المصري في تطور الفن اليوناني والفن الروماني. ومن رأي العلامة ريدر أن الفن المصري القديم بدأ من فجر التاريخ مستقلاً بنفسه منعزلاً عن غيره إلى نحو ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، ثم اتصل الفن اليوناني عندئذ بالفن المصري؛ ودلل المحاضر على نظريته بعرض صور مختارة من تراث مصر الفرعوني غير الآثار الفرعونية المعروفة. ومن قبل المسيح بنحو ثلاثة آلاف عام لبث الفن المصري كما هو ثابتاً في أساليبه وألوانه؛ فلما وقعت الصلة بين الفنين اليوناني والمصري تأثر الفن اليوناني بالفن المصري تأثراً كبيراً، ولبث هذا التأثير ظاهراً إلى ما قبل المسيح بنحو ثلاثة قرون، ثم تطور بعدئذ إلى أصوله وأساليبه الخاصة؛ ثم كان بعد ذلك تأثر الفن الروماني بالفن اليوناني

كتاب جديد عن مأساة التامبل

هذا كتاب جديد عن لويس السابع عشر وضعه المؤرخ الإنكليزي مورتون بعنوان ولي العهد وولي العهد هو الطفل لويس شارل ولد لويس السادس عشر وماري انتوانيت، وقد

ص: 74

ترك وحيداً في سجن التامبل بعد قتل والده ثم والدته على نطع الجلاد؛ ولبث في سجنه الرطب القذر يلقى من حراسه أغلظ معاملة حتى مرض وأصابه انحلال مادي ومعنوي شديد. وهنا يسدل على مصير هذا الأمير الطفل حجاب كثيف، هل توفي في التامبل حسبما تؤكد الروايات المعاصرة والتقارير الرسمية؟ أم هل استطاع الملكيون أن يستبدلوا به طفلا آخر، وأن يمهدوا له سبيل الفرار إلى حيث شب وترعرع وقضى حياة مجهولة؟ هنا يضطرم الجدل وتكثر الروايات المدهشة؛ وهنا تبدو قصة الطفل الشهيد فصلا من أغرب فصول القصة. وفي أوائل القرن التاسع عشر انتحل كثيرون في مختلف الأنحاء شخصية الأمير، وزعم كل منهم أنه هو الطفل لويس شارل وأنه هو ولي العهد الفار، نجا من سجنه بأعجوبة، وكان أشدهم إلحاحاً في ذلك شخص ظهر في ألمانيا واسمه كارل ناوندورف، كان لمزاعمه صدى عميق ووصلت إلى القضاء الفرنسي. وفي عصرنا ظهرت روايات عديدة أخرى عن مصير ولي العهد قدمها إلينا مؤرخون مثل لينونز، خلاصتها أن الأمير الطفل فر من سجنه وسافر إلى بعض جزر الهند الغربية وتوفى هنالك في بعض المشاغبات المحلية. وفي الكتاب الجديد يسرد مستر نورتون كل هذه الروايات والقصص بأسلوب شجي مؤثر يطبعه طابع علمي رزين

السينما للأمهات

قامت شركة الفحم وغاز الاستصباح البريطانية بعمل جليل لا يمت إلى أعمالها بصلة، وهو وإن يكن من قبيل الإعلان عن نفسها إلا أن له قيمته الكبيرة وأثره في أوساط التربية ودور العلم. . . ذلك أنها عملت شريطاً سينمائياً لحياة الصغار في مدارس رياض الأطفال والمدارس الابتدائية، وأنفقت عليه مبالغ طائلة من مالها الخاص فجاء آية للأشرطة التربوية، ومثالاً يحتذى. . . وقد عنيت الشركة بإظهار وسائل الحياة في مدارس الأطفال وتلك العلائق المحببة التي تقوم بينهم وبين المدرسات على المودة والمحبة والألفة والحرية التي لا حد لها. . . ويبدأ الشريط بعرض حياة الأطفال من وقت قيامهم من الفراش إلى أن يعودوا إليه، فلا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا يحصيها. . . ولما كانت الحياة في رياض الأطفال مثالاً عالياً لما ينبغي أن تكون عليه تنشئة الصغار فقد اقترحت صحيفة (عالم المعلمين) على الشركة عرضه في منتديات السيدات ودور السينما والمجتمعات العامة،

ص: 75

على أن يشهده فيها جميع الأمهات بالمجان، ليترك فيهن أثره المرجو، ولتضمن بريطانيا جيلاً جديداً ينشأ على وسائل علمية نيرة كان يجهلها الجيل القديم. ثم لتكون كل البيوت الإنجليزية بهذا العرض رياضاً للأطفال. . . ونحن بدورنا نقترح على وزارة المعارف عمل هذا الشريط التربوي الجميل ليعرض في طول البلاد وعرضها على الأمهات، ليقبسْنَ منه ويَقِسنَ عليه في تنشيء فلذات أكبادهن

الاحتفال بالذكرى الألفية لوفاة المعري

قررت وزارة المعارف السورية بمناسبة مرور ألف عام على وفاة أبي العلاء المعري إقامة مهرجان ألفي لإحياء ذكراه تدعى إليه مصر وجميع الأقطار العربية

وقد انتهت الحكومة السورية من وضع تصميم لبناء ضريح الشاعر الفيلسوف في مسقط رأسه (المعرة) من ولاية حلب

المرحوم العلامة كمبفماير

نعت أبناء برلين الأخيرة المرحوم العلامة الدكتور جورج كمبفماير المستشرق الألماني الكبير، ورئيس جمعية الدراسات الإسلامية الألمانية وأستاذ اللغة العربية سابقاً بمعهد اللغات الشرقية ببرلين. توفي في نحو الثمانين من عمره بعد حياة علمية حافلة أسدى فيها للمباحث الإسلامية والآداب العربية خدمات جليلة؛ وكان من طبقة المستشرقين الأكابر التي تنقرض اليوم أمثال نيلدكه وزاخاو وبيكر وغيرهم من زملائه وأصدقائه. وتخصص الدكتور كمبفماير في دراسة الآداب العربية، وتبع بالأخص تطورات التفكير الشرقي الحديث والثقافة العربية المعاصرة؛ وله في ذلك بحوث نقدية عديدة نشر معظمها في مجلة معهد اللغات الشرقية ولبث مدى أعوام طويلة ركناً من أركان معهد اللغات الشرقية، ولم ينقطع عن التدريس فيه إلا في الأعوام الأخيرة إذ تفرغ لدراساته وكتاباته في مجلة العالم الإسلامي التي كان يصدرها باسم جمعية الدراسات الإسلامية والتي قطعت إلى اليوم زهاء عشرين عاماً من عمرها

وفي سنة 1928 قام الدكتور كمبفماير برحلة دراسية في مصر وبلدان الشرق الأدنى، واشترك بعدئذ في وضع كتابين انتفع فيهما بهذه الدراسة: أولهما كتاب زعماء الأدب

ص: 76

العربي المعاصر الذي وضعه بالإنكليزية مع تلميذه وصديقه الدكتور طاهر خميري الذي يقوم الآن بتدريس اللغة العربية في معهد همبورج الشرقي، والثاني كتاب (أين يتجه الإسلام) الذي وضعه بالإنكليزية عدة من أكابر المستشرقين، وتولى الدكتور كمبفماير كتابة القسم الخاص بمصر فيه؛ وكان للعلامة الراحل أصدقاء عديدون في مصر وجميع البلاد العربية، وكان بارعاً في كتابة العربية والتحدث بها. وسنوافي القراء في فرصة أخرى بدراسة مفصلة لحياة العلامة الراحل وآثاره

معرض لذكرى لورد بيرون

وضع أخيراً في إنكلترا مشروع لتخليد ذكرى الشاعر الإنكليزي الكبير لورد بيرون بصورة دائمة، وذلك بأن يقام في المنزل الذي كانت تملكه أسرة الشاعر في قرية (نيوستيد أبي) معرض دائم لتراث الشاعر ومخلفاته وكل ما يتعلق بحياته وشعره. وقد كان هذا المنزل الريفي الذي نشأ فيه الشاعر وأحبه أعز ما لديه، ولكنه اضطر إلى بيعه في سنة 1817 حينما سافر إلى اليونان ليدافع عن قضيتها الوطنية. وأخيراً قررت بلدية توتنهام شراءه من أصحابه الحاليين ووقفه لتخليد ذكرى الشاعر. وسيكون بين محتويات هذا المعرض الذي سمي (بمعرض بيرون) مجموعة كاملة من مؤلفات بيرون في طبعاتها المختلفة، ومخطوطات الشاعر، وأوراقه ورسائله، وأوراق أسرة بيرون كلها. وبين الخطابات التي تتألف منها هذه المجموعة خطاب مؤثر من خادم اللورد بيرون، وليم فلتشر، ينعى فيه سيده إلى أسرة الشاعر، ويصف وفاته في ميسو لونجي في إبريل سنة 1824

وقد صدر بهذه المناسبة فهرس قيم لآثار الشاعر وأوراقه وفيه وصف شامل لها: وبه أيضاً خلاصة وافية لحياة الشاعر ومذكرات مختلفة عن جوانب من حياته، وصور له ولزوجه وأمه وأخته وابنته

وهكذا يحظى الشاعر الكبير أخيراً بأثر حي يخلد ذكراه بصورة دائمة، وكانت هذه أمنية قديمة (لأصدقاء) بيرون والمعجبين بشعره وعبقريته وحياته الروائية المؤثرة

أثر تذكاري للشاعر الإنجليزي كيبلنج

ص: 77

أقيمت في لندن وليمة شائقة احتفالاً بافتتاح العمل لإنشاء أثر تذكاري للشاعر الإنكليزي كيبلنج ترأسه الارل اثلون وكانت برفقته زوجته البرنسس أليس ابنة الدوق البني وحفيدة الملكة فكتوريا. وقد تليت أثناء الوليمة رسالة من الملك جورج السادس يظهر بها ارتياحه إلى اجتماع ممثلين من جميع أنحاء الإمبراطورية توطئة لإقامة تذكار مناسب لشاعر يعد نبوغه تراثاً لجميع المتكلمين باللسان الإنكليزي. وقد اشترك في هذه الوليمة ألف رجل وامرأة من المعجبين بأشعار كيبلنج في كل العالم. وقد تليت رسائل من رؤساء حكومات الهنود والدومنيون تمنوا بها النجاح لهذا المشروع الذي بلغت الاكتتابات المالية له حتى الآن 35 ألف جنيه

ص: 78