المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 230 - بتاريخ: 29 - 11 - 1937 - مجلة الرسالة - جـ ٢٣٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 230

- بتاريخ: 29 - 11 - 1937

ص: -1

‌ثورة على الأخلاق

للدكتور عبد الوهاب عزام

يا أخي صاحب الرسالة!

أبلغ أخي محمودا الذي لا أعرفه هذه الكلمة عني:

(قرأت في الرسالة ما نقله الأستاذ الزيات من رأيك في مزايا الأخلاق والفضائل فهالني ما قرأت، وعزمت على أن أبادر بالكتابة إليك على ضيق الوقت وفتور الصيام. وكيف لا يرتاع من يسمع أن رجلاً من ذوي الأخلاق خاب ظنه فيها فثار عليها ويئس منها؟ فاقرأ يا أخي كلمتي ثم أبِن لي رأيك من بعد:

دخل أعرابي مسجد المدينة ورسول الله وأصحابه هناك فصلى ثم دعا فقال: (اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحدا) فضحك صلوات الله عليه وقال: (لقد حجّرت واسعاً يا أعرابيّ).

وكذلك أنت يا أخي قد حجّرت واسعاً حين خيّل إليك أن دائرة عملك التي (وسَّعتها بمقدار ما استلزمه هذا العمل من ملابسة الشعب ومراجعة الحكومة) هي الأمة كلها، وأن الأمة هي العالم كله، وأن العالم الحاضر هو الزمان كله. وإن شئت أن تقول إني لم أحجّر واسعاً ولكني وسّعت محجّرا فلك رأيك، والنتيجة في الحالين واحدة

أود قبل أن أناقشك في رأيك أن أعدّك موافقي، كما وافق صديقنا الزيات، على أن الخلق الفاضل سبيل إلى سعادة صاحبه وطمأنينته ما في هذا ريب، وأن الرجل الحرّ الأبيّ الفاضل يعيش في سعة من نفسه، وعزة من خلقه، ونعيم من وجدانه، لا يدركها أصحاب الجاه العظيم والثراء العريض ممن وجدوا كل شيء وفقدوا أنفسهم، وأن الحرّ الكريم يرى نفسه في عزتها وحريتها ورضاها فوق هذا العالم الذي تباع فيه النفوس رخيصة وتبذل فيه القلوب ذليلة، ويعدّ نفسه أسداً قوياً مهيباً قد ربض حجرة من معترك الذئاب ومُهتَرش الكلاب

إنما خلافنا في النجاح في المعايش ونيل الجاه والثروة؛ أسبيله الخلق القويم أم العمل الذميم؟ وإني أعجّل لك الجواب في قضية نتفق عليها لنفرغ لما بعدها فأقول: حق أن الرجل التقي الحرّ الأبيّ لا يرى إلى الجاه والمال إلا طريقاً واحدة هي الطريق التي يسنّها

ص: 1

الحق والشرف والأباء والمروءة، وأن أمام الفساق والأذلاء والأدنياء طرقاً شتى من التلصص والكذب والتزوير والخداع والنفاق والملق والذلة والشره والظلم والقسوة والأثرة وهلمّ جرّا. وحق كذلك أن من الأحرار من يخفق في عمله حين يُلزم نفسه هذه الطريق الواحدة، ويقسرها على هذه المحجة الواضحة، وأن من العبيد عبيدِ المطامع والأهواء، ومرضى النفوس والأخلاق، من يظفرون في هذه السبل بما يريدون، ويبلغون الغاية التي يقصدون. ولست أجحد كذلك أن الجماعة قد تعتلّ فيكثر فيها المبطلون الظافرون، والمحقّون المحرومون. كل هذا يا أخي حق، ولكن استمع:

كثيراً ما يحرم الحر الصالح لعزوفه عن معترك المطامع وصدوفه عن الاتجار في أسواق الحياة، وتنكّبه السبل التي جعلتها سُنن الجماعة وسائل إلى الجاه والثروة. فليس إخفاق هؤلاء بأخلاقهم، ولكن بكبريائهم وتقصيرهم في اخذ الأهبة وإعداد العدة، على حين يتأهب الأشرار، ويجدّ الفجّار. فلا جرم يخفق أولئك ويُنجح هؤلاء، فإن للحياة قوانين وللمعايش سُنناً. والقرآن الكريم يقول:(من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يُبخسون.) ويقول: (كلاًّ نمد: هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك، وما كان عطاء ربك محظوراً.) ولكن إذا أخذ الرجل أهبته للعراك في الحياة وتسلّح بالخلق الطيب فلن يكون هذا الخلق سبباً إلى إخفاقه وسبيلاً إلى خيبته أبدا. ربما تعتلّ الجماعة فينتصر المبطل ويخذّل المحقّ، ويفتتن بهذا كثير من الناس، ولكن هذا لا يكن ديدنا. ثم علة الجماعة لا تدوم؛ وليست الجماعات كلها عليلة. وما تزال الجماعات منذ ألّفها الله وعلّمها وبعث فيها الهداة المرشدين، ووضع لها السنن أيْداً لأنصار الحق وعوناً لأهل الفضيلة، وخذلاناً لجند الباطل والرذيلة. مازال الصانع الذي يتقن صنعته، ويحسن معاملته ويصدق وعده، أنجح عملاً وأكثر مالاً من الصانع الكذاب سيئ المعاملة. ومازال التاجر الصادق في قوله، الأمين في فعله، الذي يقلّب تجارته على شرائع من الصدق والأمانة والقناعة والإخلاص، ولا يلبس على الناس الجيد بالرديء، والغالي بالرخيص - مازال هذا التاجر أربح متجراً واملأ يداً وأحظى برضا الناس وإقبالهم من التاجر الكاذب الغاشّ الشره المخادع. أترى في هذا ريباً؟ إن كنت في ريب فابحث كما تشاء واسأل من تشاء. ولا يزال المزارع الذي يزرع الأرض فلا يتزيد فيما أنفق عليها، ولا يسرق من زرعها، بل يصدُق مالك الأرض

ص: 2

فيما أنفق وما جنى؛ ومستأجر الأرض أو الدار الذي يشق على نفسه ليؤدي الأجرة في حينها؛ لا يزال هذا وذاك أحب إلى المالكين وأظفر بما يريد

ولا يزال الرجل الصادق الأمين في كل جماعة وفي كل طائفة موضع المودة والثقة. ينال بسيرته ما تقصر عنه ثروته؛ إن استقرض أُقْرض، وإن استعار أعير. له من ثقة الناس رأس مال لا ينال منه الخسار، وتجارة لا يدركها البوار. ربما يتَّجر في ألف وليس عنده إلا مائة، ويزرع عشرة فدادين وليس بيده إلا أجرة فدان واحد؛ ويستخدم في المتاجر والمصانع دون كفيل أو ضمين. سل يا أخي الناس في كل قبيلة، وطالع التاريخ في كل جيل

على أن الأمم في هذا مختلفات، والتاريخ درجات: أمة تسدّ الطريق على كل فاجر مخادع كذاب، وتؤثر بمالها وكرامتها كل برْ أمين صادق؛ وأمة يجد المخادعون فيها طريقاً ولكنها وعرة، ومذهباً ولكنه ضيق، ورواجاً ولكنه قليل؛ وأخرى تتسع فيها مجال الأشرار، وتروج فيها سوق الفجّار. ولكن لا تبلغ أمة من الفساد أن تسن في الرذائل سُنَناً، وتشرع في المخازي شِرَعاً تجعل الأشرار المخادعين فائزين حيثما ساروا، وتردّ الأبرار الصادقين خائبين أين توجهوا. مهما تشتد العلة فالخيبة أكثرها للأولين، والنجح أكثره للآخرين. فإذا أرادت تجعل الفساد سّنة فموتها دون الغاية، وزوالها قبل نهاية الطريق

أحسب يا أخي أن الذي لبس عليك الأمر لبساً، وملأ عليك العالم حزناً، وملأك على العالم سخطاً، أنك نظرت أول ما نظرت إلى دواوين الحكومة فرأيت جماعة من خفاف الأحلام صغار النفوس شالت كفتهم فارتفعوا، وآخرين من راجحي العقول كبار النفوس ثقلت موازينهم فنزلوا؛ فلما امتلأت نفسك أسفاً وأملك في الناس خيبة، نظرت إلى أنحاء الأمة ساخطاً متشائماً، فنفضت عليها هذا السواد، ونفثت عليها هذه الغضبة، واتهمتها بهذه التهمة

إن دواوين الحكومة أقرب المواضع إلى ما زعمت، وأكثرها تعرضاً لما وصفت. ذلك بأن الرزق فيها لا يُنال بالسعي والكد، والجهد والدأَب، والاحتكام إلى سنن الاجتماع وقوانين الطبيعة؛ ولكن الرزق فيها يُقسم بأيد قليلة، ويصرّف بآراء معدودة، فإذا فالت هذه الآراء، وطاشت هذه الأيدي، وقع الفساد، ثم شاع وعمّ حتى يبلغ أمده. وكثيراً ما تفيل الآراء وتطيش الأيدي بأهواء السياسة ومنازع التحزب؛ على أن هذا مهما كثر لا يبلغ أن يكون

ص: 3

قاعدة العمل وسّنة الجزاء

ولا تنس يا أخي أن هذه الدواوين حديثة عهد بأيدي الأجانب ومن تربّى في عبوديتهم؛ وكانت سنة الأجنبي أن يرفع من استسلم إليه وتوكل عليه، ولا يكون هذا الاستسلام وذاك التوكل إلا احتقاراً للكرامة وازدراء بالخلق الفاضل؛ ونحن لا نزال في أول عهدنا بالاستقلال لم تهذبنا التجارب ولم تتمكن أيدينا من وضع القواعد الصالحة، وسن السنن القديمة، وإقامة الوزن بالقسط بين الناس أجمعين

فإن رأيت جوراً في الدواوين وظلماً بين الموظفين فهي علة زائلة. فلا تنشرها على الأمة كلها، ولا تمدها على الزمان جميعه. واعلم أن الظفر للحق والخيبة للباطل، وأن النصر للفضيلة والهزيمة للرذيلة، وأنها الغمرات ثم ينجلين، والعاقبة للمتقين. والسلام عليكم ورحمة الله

عبد الوهاب عزام

ص: 4

‌النماذج والأفراد في الأدب

للأستاذ عباس محمود العقاد

أشرت في مقالي السابق إلى رأي (لونارد وولف) في كتابه (بعد الطوفان) وخلاصته أن الشعراء والقاصين كانوا يرسمون للناس قبل القرن السابع عشر نماذج من طوائف وجماعات، أما بعد القرن السابع عشر وانتشار الديمقراطية فقد أصبح أبطال القصص (أفراداً) مستقلة قلما تتكرر في غمار السواد. وعلاقة الديمقراطية بهذا التغير الواضح أن المساواة قد خولت الفرد حرية الظهور فبرزت الخصائص واستحقت من الشعراء والكتاب عناية لم تكن تستحقها حين كان الجمهور أرقاماً متكررة على نموذج واحد، أو حين كان النبلاء طرازاً مرسوم المراسم لا يختلف فيه إنسان عن إنسان

أشرت إلى هذا الرأي وقلت إنني سأعود إليه ببعض الشرح والتعليق في مقال آخر؛ وأظن أن تاريخ الآداب لا يفهم حق فهمه إلا بتجلية هذا الرأي وأمثاله والوقوف على مبلغ ما فيها من الحقيقة والتمييز بين الأدب القديم والأدب الحديث، لأن تاريخ الآداب إن هو إلا المعالم التي نميز بها عصراً من عصر وطريقة من طريقة وموضوعاً من موضوع، سواء أكان هذا الموضوع بطلاً موصوفاً في رواية أو قصيدة، أم كان عاطفة إنسانية يصورها الراوي والشاعر حسبما يراه

لقد كان اليونان يصورون الإنسان لأنه يستحق النظر إليه ويقولون: إذا كنت لا تجد من ينظر إليك فكيف تجد من يصورك؟ وعلى هذا كان تصويرهم مقصوراً على الجميل والنبيل والرائع والمشهور، وهي الصورة التي تسترعي الأنظار وتشغل الخواطر وتفعم النفوس بالفتنة والإعجاب

كان ذلك شعارهم في عالم التصوير الفني، فهل تغير اليوم هذا الشعار؟

لا. لم يتغير، ولم يزل من دأب القاصين والشعراء والرسامين والمثالين والكتاب المسرحيين أن يصوروا ما يستحق النظر، وأن يقولوا كما كان اليونان الأقدمون يقولون: إذا كنت لا تجد من ينظر إليك فيكف تجد من يصورك؟!

لم يتغير شعار الفن القديم، وإنما تغير الذين يستحقون النظر فأصبح الدميم والسقيم والوضيع والخامل مستحقين أن ينظر إليهم الناظر، وأن يبحث فيهم الباحث، وأن يتناولهم

ص: 5

التشريح، وأن يتعلق بعرفانهم عرفان أخلاق الإنسان وأطوار الجماعات وأدواء الأجسام وآفات الضمائر، وأصبح الهمل المنبوذون أهلاً للدرس والفحص والمراقبة مذ أصبحت جثة الميت أهلا للعناية بها ومراقبة الأدواء والأدوية فيها. فإذا قال القائل الحديث: كيف تجد من يصورك وأنت لا تجد من ينظر إليك؟ فهو معبر عن رأي الأقدمين والمحدثين على حد سواء؛ ولكنه إذا سأل: من الذي يستحق النظر أو من الذي يستحق التصوير؟ فهنا يظهر الخلاف ويتبين الفارق بين شعار الفن القديم وشعار الفن الحديث

وقد أصاب (لونارد وولف) حين قرن بين هذا التغيير وبين الديمقراطية، وأصاب أكثر من ذلك حين قال: إن الأديان فتحت باب هذا التغيير حين عرفّت الإنسان أن له روحاً مستقلاً بحسابه، منفرداً بثوابه وعقابه، معدوداً أمام الله خلقاً لا يفنى في غمار الخليقة، ولا يزال له ميزانه وكتاب حسناته وسيئاته لا يختلط بميزان غيره ولا بكتابه

وتلك في الحقيقة هي أول خطوة خطاها الإنسان في إظهار (الفرد) وتمييزه من غمار الجنس كله أو الطائفة برمتها

فمنذ أصبح الإنسان (فرداً) معزولاً في حكم الدين، لا اختلاط بين حسناته وسيئاته وبين حسنات الآخرين وسيئاتهم، ولا التباس بين ثوابه وثوابهم وعقابه وعقابهم؛ هنالك أصبحت كل نفس بما كسبت رهينة، وأصبحت كل نفس حقيقة بالمحاسبة والإحصاء والمراقبة، ورسخت جذور الديمقراطية في التاريخ فلم يبق إلا أن تظهر لها على وجه الأرض فروع وأوراق وثمار

وغاية الفرق بين الفردية الدينية والفردية الديمقراطية أن حساب الدين إنما يكون في الآخرة فلا ضرورة لفرز الأفراد في هذا العالم الأرضي ولا لتمييزهم بالخصائص الدنيوية وما يتصل بها من الخلائق الاجتماعية والملامح الفكرية والأطوار السياسية

أما الديمقراطية فلا مناص فيها من التمييز بهذه المزايا ولا من فرز الناس على حسب ما يتراءى بينهم من فوارق الدنيا وعلامات الحياة وشياتها. ومن ثم بدأ التحليل النفسي بعد ظهور الديمقراطية ولم يبدأ تواً بعد ظهور الأديان؛ وكان من دواعي ظهوره مع الديمقراطية عدا ما تقدم أنها جاءت على أثر النهضة العلمية وعلى أثر انتشار العلوم والمباحث في أطوار الناس مجتمعين ومنفردين، فتيسر التحليل النفسي الذي لم يكن

ص: 6

ميسوراً قبل ذلك في صدر المسيحية أو في صدر الإسلام، وأمكن التفريق بين الأفراد في الطائفة الواحدة والجنس الواحد، لأنهم من جهة قد ملكوا الحرية التي يبرزون بها خصائصهم ونزواتهم، وينطلقون بها مع أهوائهم ورغباتهم؛ ومن جهة أخرى قد وجدوا من يدرسهم ويطبق عليهم قواعد العلوم ويصوب إليهم مجاهر النقد والملاحظة. ولم تكن أسباب ذلك كله مهيأة عند ما جاءت الأديان بدعوة الفردية الدينية وجعلت كل إنسان (روحاً) له حسابه وكتابه وليس بالقطرة المنسية في الغمار

على أن العبقريات الرفيعة قد سبقت نهضة الديمقراطية إلى تمييز (الخصائص الفردية) على اختلافها ولو كانت في أوضع النفوس وأهونها وأبشع مياسمها. فكان المصور العظيم (ليوناردو دافنشي) يتعقب المشوهين والمسخاء في الطرقات ويغريهم بالخمر والمال، حتى يتكشفوا عن سرائر نفوسهم، ويخرجوا من حجاز الكلفة والمهابة، فيرقص منهم من يرقص، ويهذي منهم من يهذي، ويقهقه منهم من يقهقه؛ وتزداد بذلك بشاعة وجوههم وفسولة طبائعهم، وهو ناظر إليهم يترقب لمحة عارضة فيسجلها بقلمه دون أن يقطع عليهم مجانتهم وخلاعتهم. وكان شكسبير يصور عشرات النساء وكل واحدة منهن امرأة غير سائر بنات حواء في حبها وبغضها وحيلتها وكيدها وكلامها وسلوكها، حتى لا مشابهة بين صاحبة هملت وصاحبة عطيل وصاحبة مكبث وبنات الملك لير إلا في صفة الأنوثة التي تشمل جميع النساء

أما من عدا هذه الطبقة من العبقريين فأبطالهم كما قال (لونارد وولف) نماذج يشترك في صفاتها المئات والألوف، فحسن التاجر البصري مثلاُ هو تاجر كسائر التجار، وهو عنوان طائفة وليس بفرد من الأفراد، وكذلك عجيب وغريب وغيرهما من أبطال ألف ليلة وليلة، هم نماذج للفرسان والأمراء، وللأخيار والأشرار وللشيوخ والشبان، لا تحس فرقاً بين أحدهم وبين غيره من أبناء قبيله وعامة أقرانه وزملائه، ولا مشابهة بينهم وبين أبطال القصص الحديثة - ولاسيما التحليلية منها - حيث ترى البطل فرداً ليس بالمتكرر وليس بالشائع بين أبناء صنعته وإخوان طرازه، وإن شابههم في صفة من الصفات فبمقدار ما يستدعيه اتفاق الصناعة واتفاق البيئة دون أن يفنى معهم في الغمار أو يغيب وراء العنوان

يلوح لي أن هذا الرأي الذي أجملته وتصرفت في تفسيره بما أخلى المؤلف من تبعاته -

ص: 7

هو على الجملة رأي صواب لا غنى عنه في نقد الفنون والآداب

ولكني أفضل أن أقول إن التحليل النفسي لم يكن نتيجة الديمقراطية وإنما كانت الديمقراطية والتحليل النفسي معاً نتيجة شيء آخر: هو انتهاء الكشوف الظاهرة وابتداء الكشوف الباطنة، أو هو انتهاء السياحات الجغرافية وابتداء السياحات النفسية الإنسانية

ففي الوقت الذي ظهرت فيه القصة التحليلية كان الإنسان قد فرغ من كشف الأرض ووصل إلى أقصى مجاهل العالم المعمور

ولم تكن هناك قصة تحليلية قبل كشف الهند وكشف أمريكا وكشف المجاهل الآسيوية والأفريقية

فلما كشف كل هذه الأصقاع ووقف حب الاستطلاع والتماس الغرائب، من هذه الناحية، بدأ الالتفات إلى دخائل النفس وأخذت غرائب الأخلاق في الظهور، وأخذت العناية بها والتوفر على درسها في التقدم والشيوع

لقد كان معظم الرواية القديمة رواية رحلات ورحالين وكان الإنسان مشغولا بكشف (المكان) الذي يحيط به ويغريه بسحره ووعوده ومجازفاته، فكان شغفه بالاستطلاع والإحاطة بالدنيا مستغرقاً كله أو جله في هذه الناحية، وكان أمامه من العالم شيء يستوفيه ويستكمله ولا يزال له متعقباً متأثراً حتى ينتهي به إلى مداه

ولم يكن مجرد اتفاق ولا مصادفة أن تمت الكشوف الجغرافية وبدأت الكشوف النفسية في عصر واحد، فقد فرغ الإنسان من كشف الظاهر فانقلب إلى كشف الباطن، وعرف العجائب من البقاع المجهولة، فانثنى إلى العجائب من الخلائق الخفية، وكان هذا هو الترتيب الطبيعي المعقول في تاريخ الكشف والاستطلاع، فإن الاهتداء إلى المكان أسهل وأوجب من الاهتداء إلى سرائر الأخلاق، والعلم الذي يحتاج إليه المرء في سياحة جغرافية أقل من العلم الذي يحتاج إليه في سياحات الضمير، إذ هو في الواقع ملتقى جميع العلوم ومشتجر الفلسفات والديانات والمذاهب أجمعين

لقد بدأت الديمقراطية وبدأ التحليل النفسي معاً بعد كشف الأمريكتين وكشف الهند وكشف المجاهل الآسيوية والأفريقية، ولولا انكشاف الأرض للإنسان لبقي مشغولاً بالمجهول منها عن سرائره وخصائصه وما يتميز به الأفراد من حقوق وواجبات

ص: 8

عباس محمود العقاد

ص: 9

‌الكتابة وحالات النفس

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

كتب إليّ بعضهم يسألني: هل صحيح ما روته إحدى المجلات من أني لا لأكتب حديثاً للإذاعة اللاسلكية إلا قبيل موعده بوقت قصير، وأني إذا كتبته قبل ذلك بزمن طويل فالأغلب والأرجح أن أمزقه وأكتبه مرة أخرى؟ وما سبب ذلك أو داعيه؟

فأما أني أمزق شيئاً مما أكتبه - حديثاً كان أو مقالاً أو قصة - فغير صحيح، ولست أعرف أني راجعت كلاماً أكتبه أو عنيت به بعد أن أفرغ منه. فقد غدوت كالثور المشدود إلى الساقية وعيناه معصوبتان، حتى لا يدور رأسه من كثرة الدوران واللف، وكلما وقف يستريح صاح به صاحبه:(عا) ولمسه بالعصا أو السوط، فيتحرك الثور ويستأنف الدوران، لأنه أخف مؤونة وأسلم عاقبة من الوقوف. وكذلك أراني، في حياتي، وإذا كان الثور يدري لماذا يجشم عناء هذا اللف كله، فإني أدري لماذا تكلفني الحياة هذا الجهد. وليست على عيني عصابة وإني لأنظر بهما وأرى، ولكني لا أدرك ما وراء ذلك، وليس ثم سوط يلهب ظهري، ولا عصا هناك تقع عليه، ولكن الحياة تدفعني من حيث أشعر ولا أشعر، وللحياة وخز وحفز وإغراء محسوس وغير محسوس؛ ولعل الذي لا نفطن إليه أفعل وأقوى من الذي ندركه من وسائلها. وكثيراً ما أشعر أني مدفوع إلى الكتابة وأني لا أملك التحول عنها أو إرجاءها، وأني سأشقى وأسقم إذا لم أذعن لهذا الدافع الغامض، فأجلس إلى المكتب وليس في رأسي شيء سوى الإحساس العام الثقيل بالحركة وبأنها يوشك أن تتمخض عن خاطر معين أو خالجة بينة، ويكون القلم في يدي في تلك اللحظة فأخطط به على الورقة وأنا حائر، ذاهل، لا أحس ما حولي، بل لا قدرة لي على الإحساس بشيء مما يحيط بي إلا إذا حملت نفسي على ذلك حملا، وخرجت بها من ضباب الحيرة والذهول والسهو بجهد واضح، ثم تخطر لي عبارة فأخطها، وأنا لا أدري إلى أين تفضي بي، ويغلب أن يطول ترددي في البداية ثم يمضي القلم بعد ذلك بلا توقف ويستغرقني الموضوع وتستولي روحه عليّ، فلا يبقي لي بال إلى شيء، حتى إذا انتهى الأمر ونضب المعين ألقيت القلم والورقات ورحت أتثاءب وأتمطى كأنما كنت نائماً، ويكون هذا آخر عهدي بما كتبت في يومي

ص: 10

وقد استعملت لفظ (التمخض) وأنا أعنيه، فليس ثم أدنى فرق فيما أعلم وأحس بين التمخض بالجنين، وبين حركة التوليد في النفس؛ وكما تفتر المرأة بعد أن تضع طفلها، ولا ينازعها في ذلك الوقت شوق إليه أو تحس فرحاً به، وإنما يكون إحساسها بالفرج بعد الضيق الذي كانت فيه والكرب الذي كانت تعانيه، والراحة بعد الجهد والمشقة والعذاب، والتفتير الذي يورثها إياه ما تجشمت، كذلك يكون الأديب بعد أن يستريح من أزمة النفس أو الفكر

ويخطر لي أحياناً أني كالمسافر الذي لا يذهب إلى المحطة إلا والقطار يوشك أن يتحرك، فما أراني أكتب إلا في اللحظة الأخيرة؛ وقد ألفت أن أرجئ الكتابة مادام في الوقت فسحة، وأحسب أنه لو وسعني أن أكف عن الكتابة لفعلت، فأني أوثر الراحة على هذا العناء الباطل، وبي مثل بلادة التلميذ الذي لا يذهب إلى المدرسة إلا محمولاً على ذراع الخادم، فليت من يدري أهذه عادة اعتدتها أم هي طباع وفطرة واستعداد؟ على أني أعرفني من المرجئين في كل شيء: الدَّين أفر من أدائه ما وسعني الفرار، والنوم أكره أن أستيقظ منه، والفراش يشق عليّ أن أترك نعيمه، واليقظة أستثقل أن أنزل عنها - كل حالة أكون فيها أشتهي أن تطول وتدوم، إلا التنغيص والألم كما لا أحتاج أن أقول

وقد جربت أن أكتب ولا انشر، فكتبت رواية (طويلة) ودسستها في درج المكتب، ومضت شهور، وسافرت إلى لبنان فحملتها معي لأراجعها هناك قبل طبعها، فلما أجلت فيها عيني وجدت أن الحالة النفسية التي كتبتها بها قد ذهبت، وأن حالة أخرى قد استولت عليَّ، فحاولت أن أستعيد تلك الحالة الأولى فأعياني ذلك، فأجريت القلم في الرواية بالتبديل والتغيير، والتقديم والتأخير، والحذف والاضافة، وإذا بالرواية قد صارت شيئاً جديداً فقلت لا بأس، وطويتها، وفي عزمي نشرها بعد الأوبة إلى مصر. فلما صرت في بيتي خطر لي يوماً أن أخرجها وأتصفحها، فإذا بي في حالة نفسية جديدة لا تسمح لي بالرضى عن الرواية في صورتها الثانية. . . فأعملت فيها القلم ومسختها مرة ثانية، ومازلت بعد ذلك أرجع إليها بالمسخ كل بضعة شهور حتى يئست فانتزعت منها فصولاً تصلح أن تكون قصصاً قصيرة ومزقت الباقي. وحمدت الله على الراحة بعد طول العناء. وأيقنت أنه خير لي ألاَّ أكتب إلا إذا وثقت من النشر بعد أن أضع القلم

ص: 11

وأذكر أن بعضهم سألني مرة (أي كتبك أحب إليك؟) فلما قلت: (ولا واحد) استغرب جوابي وأنكره، وذكرني بأني قلت مرة إن هذه المفاضلة عسيرة لأن الكتب كالأبناء، والوالد لا تخفى عليه مزايا أبنائه وعيوبهم، ولا يجهل أن هذا ذكي وذاك غبي مثلاً، ولكنه مع ذلك يحبهم جميعاً على السواء وإن كان يعرف فضل بعضهم على بعض. وهذا صحيح، على الجملة، وفي الأغلب والأعم، ولكني رجل دأبي أن أراجع نفسي، ولا تنفك حالاتي النفسية تتغير، فنظرتي إلى الشيء وإحساسي به يختلفان من يوم إلى يوم. وثم أمر آخر هو ما يتمثل لي من صور الكمال وما يبدو لي في عملي من وجوه النقص والقصور، وليس لي حيلة إلا أن أقيس ما أخرجت إلى ما كنت أحب أن يكون، وإلا أن أحدث نفسي أنه كان في مقدوري أن أصنع خيراً مما صنعت، ولو كنت أعتقد أن هذا هو غاية ما يبلغه الجهد ويصل إليه الإمكان لرضيت وقنعت واغتررت، ولكني أحس أني أقدر على خير مما أفعل؛ وقد يكون هذا إحساساً كاذباً، كالجوع الكاذب، وقد يكون خدعة من خدع الغرور، فإن يكن كذلك فإنه ولاشك بلاء، ولكنه الواقع على كل حال. وما أكثر ما أسمع من يثنى على كتاب لي، فأتركه يثني فإن الثناء حبيب إلى النفوس، وأتعجب له فيما بيني وبين نفسي وأسألها: ماذا أعجبه يا ترى؟ أما لو أن رجلاً نقد نفسه. . .؟ وأزداد غرورا، وأشعر أني فوق هذا المادح. . . ولكني أتواضع وأقول له وأنا مطرق - ووجهي فيما أعتقد وأرجو مضطرم من فرط الحياء - (أستغفر الله! أستغفر الله! يا شيخ قل كلاماً غير هذا!) الخ الخ

فإذا كنت لا أكتب إلا قبيل أوان النشر بأوجز فترة فذاك لأني بليد ولأن نفسي تتعاقب عليها حالات مختلفة فأسخط على ما كنت أرضى عنه وأذم ما حمدت، واستضئل ما أكبرت، ولا حيلة لي في ذلك. وماذا أصنع إذا كنت أحس أني مسوق إلى جسّ نفسي وقياس قدرتها إلى ما ينبغي مما ترتسم صوره في نفسي وتتمثل لي في خواطري؟

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 12

‌في سبيل الإصلاح

الحلقة المفقودة

للأستاذ علي الطنطاوي

نحن اليوم (في الشرق الإسلامي) في دور انتقال ليس له وضع ثابت، ولا صفة معروفة، فلا نحن نعيش حياة إسلامية شرقية كما كان يعيش أجدادنا، ولا نحن نعيش حياة غربية خالصة كالتي يحياها الأوربيون، ولكنا نعيش حياة مختلطة مضطربة متناقضة فيها ما هو شرقي إسلامي، وفيها ما هو غربي أجنبي، وفيها ما ليس بالشرقي ولا بالغربي، ولكنه منقول نقلاً محرفاً مشوهاً عن هذا أو ذاك. بل أنت إذا دققت وأنعمت النظر في حياتنا وجدت لها جانبين مختلفين، ولونين متباينين: الجانب الذي يميل إلى المحافظة، والجانب الذي يجنح إلى التجديد. وهذان الجانبان تلقاهما في كل عهد من عهود الانتقال في التاريخ؛ ففي مطلع العصر العباسي كنت تجد في بغداد المحدثين والزهاد والفقهاء كسفيان والفضيل وأبي حنيفة، وإلى جانبهم الفساق والمجان كبشار وأبي نواس، والمتعصبين للعربية والشعوبيين، ومن كل صفة زوجان، ولكل أمر ناحيتان، وكذلك كان شأن الرومان أول اختلاطهم باليونان

قف ساعة في أي شارع كبير في أي مدينة من مدن الشرق الإسلامي واعرض الأزياء، تر الإزار والعقال إلى جانب العمة، إلى الطربوش، إلى القبعة، إلى اللاطية. حتى أن أجنبياً وقف مرة هذا الموقف فظن أن القوم في عيد المساخر (الكارنفال). وادخل عشرة بيوت تجد البيت الشرقي ذا الصحن الواسع والإيوان المشمخر والبركة ذات النوافير، إلى جانب البيت الأوربي المسقوف المتداخل الذي لا ترى فيه السماء إلا من الشرف. ولج البيت الواحد تجد الغرفة ذات الفرش العربي: الأسرّة والمتكات والوسائد والبسط والنمارق، إلى جانب الغرفة الأوربية ذات المقاعد والمناضد. . . واعرض أهل الدار تجد بين الأب وابنه قرناً كاملاً في اللباس والتفكير والعادات. وفتش عن الأب المساء تَلْقَهُ في المسجد أو قهوة الحي، ثم انظر الابن تجده في أحدث مرقص أو أكبر ناد للقمار أو للتمثيل أو المحاضرات. وانظر إلى الأم المحتجبة المصلية الصائمة، وابنتها السافرة التي لا تعرف من أين القبلة، ولا تدري ما هو الصيام. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، ولكنه تعداه إلى الثقافة والعلم

ص: 13

وسائر الأمور التي تتصل بحياة الأمة اتصالا ماساً، فجعل فيها هذا الازدواج وهذا التناقض. اجتمع باثنين من المثقفين بالثقافة الإسلامية والثقافة الغربية، تر الثاني ينكر المكتبة العربية جملة، ويجحدها مرة واحدة، وينبزها بالكتب الصفراء والثقافة الرجعية الجامدة، لا يدري أن المكتبة العربية أجل تراث علمي عرفه البشر وأعظمه، وأنها رغم ما أصابها من نكبات: منها نكبة هولاكو حين ألقى الكتب في دجلة حتى اسود ماؤه - فيما نقلوا - من خبرها، ونكبة الأسبان حين أحرقوا الكتب وفيها حصاد أدمغة البشر قروناً طويلة، ولبثوا ليالي يستضيئون بنورها إلى الصباح؛ ورغم ما أضاعه الجهل والإهمال لا تزال مخطوطاتها تغذي المطبعات في الشرق والغرب من خمسين سنة إلى الآن دأباً بلا انقطاع، ولا يزال فيها ما يغذيها خمسين سنة أخرى في ناحية من نواحي التفكير وفي كل فرع من فروع العلم

وتجد الأول ينكر العلم الحديث كله ويجحده بجملته ويعيش اليوم بعقل جدّه الذي كان قبل ثلاثمائة سنة، فلا علم عنده إلا علم العربية والدين والمنطق، ولا أدب إلا الأدب العربي، ولا كتب إلا هذه الحواشي والشروح التي لم تصلح أبداً حتى تصلح اليوم، والتي لا يتصور العقل طريقة في التأليف أشد عقماً منها، إذ تذهب ثلاثة أرباع جهود المدرس والتلميذ في فهم عبارتها وحل رموزها والربع الباقي في فهم مادة العلم التي لا يخرج منها التلميذ على الغالب بطائل

فرجالنا المثقفون وعلماؤنا بين رجلين: رجل درس الثقافة الإسلامية، ولكنه لم يفهم شيئاً من روح العصر، ولا سمع بالعلم الحديث، ورجل فهم روح العصر ودرس العلم الحديث، ولكنه لم يدر أن في الدنيا شيئاً اسمه ثقافة إسلامية. . . فمن أي هذين الرجلين ننظر النفع؟ لا من هذا ولا من ذاك، ولكننا ننظر النفع من الرجل الذي عرف الإسلام وعلومه، وفهم روح العصر وألم بالعلم الحديث، هذه الطبقة المنتظرة من العلماء، هذه الحلقة المفقودة هي التي يرجى منها أن تقوم بكل شيء، وهي التي سينشئها الأزهر المعمور ودار العلوم العليا، والمدارس التي شيدت لتجمع بين الثقافتين كالكلية الشرعية في بيروت، ودار العلوم في بغداد، وبنشئها من يتخرج في المدارس العليا والجامعات ويكون ذا ميل إلى الدين، ويكون له إلمام بعلومه

ص: 14

من هذه الطبقة ينتظر النفع والفلاح، وعلى هذه الطبقة واجبات كثيرة يجمعها أصل واحد، هو دراسة الإسلام على أساس العلم الحديث واستخراج رأيه في مشاكل العصر، وحكمه في الأحداث التي لم يعرفها الفقهاء ولم تحدث في أيامهم. وأهم من هذا كله الآن استخراج القوانين الأساسية والحقوقية والجزائية من الفقه الإسلامي، بدلاً من أخذ القوانين الأجنبية برمتها وتطبيقها في البلاد الإسلامية التي انبثق منها أعظم تشريع عرف إلى الآن وأرقاه. وهذا العمل يبدأ بالدراسات العلمية الفردية ثم يصل إلى الغاية المتوخاة، وهي أن تتم إحدى الحكومات الإسلامية العمل الذي بدأته لجنة المجلة (مجلة الأحكام العدلية) لكن بمقياس أوسع ونسبة أكبر، فلا تتقيد هذه اللجنة بمذهب واحد من المذاهب الأربعة، بل لا بأس أن تأخذ بعض الأقوال من مذهب آخر، ولا تقيد بالمذاهب الأربعة بل لا بأس أن تأخذ بقول لبعض الأئمة الذين اندثرت مذاهبهم، كالثوري والأوزاعي والليث والبطري والظاهري، إن صح مستند هذا القول، ولا تتقيد أيضاً بهذه الأقوال بل تجتهد كما اجتهد الأئمة، وتأخذ الأحكام من الكتاب والسنة رأساً، وأن تبحث عن المصلحة التي يقتضيها النص، فإن الشريعة ما أنزلت عبثاً، والأحكام لم تشرع لغواً، ولكن لكل حكم مصلحة. ومن دقق في اجتهادات الخلفاء الراشدين وجد أنهم يدورون مع المصلحة أينما دارت. هذا عمر رضي الله عنه علم أن المصلحة المرادة من إعطاء المؤلفة قلوبهم سهماً من الزكاة إنما هي تقوية الإسلام وإعزازه، فلما حصلت المصلحة وعز الإسلام أسقط سهم المؤلفة وهو منصوص عليه في القرآن الكريم. وهذه مسألة طلاق الثلاث بكلمة واحدة كان يقع واحدة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعلى عهد أبي بكر وصدراً من خلافة عمر، فرأى عمر أن المصلحة (في أيامه) في إيقاعه ثلاثاً فأوقعه مع أن الآية صريحة في أن الطلاق مرتان (وقد عادت المصلحة اليوم في إيقاعه طلاقاً واحداً والرجوع إلى الأصل المعروف من الكتاب والسنة). وعطل عمر حد السارق في عام المجاعة. وهذا عثمان جمع الناس على حرف واحد من حروف القرآن، مع أن القرآن أنزل على سبعة أحرف لأن المصلحة تقتضي هذا الجمع. وهذا عليّ حرّق وهو يعلم حكم الله في القتل لأنه رأى المصلحة في هذا العقاب البليغ. والحكومة الإسلامية التي يؤمل منها تحقيق هذا المشروع العظيم هي مصر وحدها، لأنها الحكومة الإسلامية الكبرى، ولأنها وحدها التي ينص دستورها على أن

ص: 15

دينها الرسمي الإسلام، ولأن فيها الملك المسلم التقي فاروق أعز الله به الإسلام، ولأن فيها الأزهر المعمور وفيها العلماء، ولأن فيها اتجاهاً إسلامياً قوياً ظهر في السنين الأخيرة، ودعوة قوية إلى استبدال القوانين الإسلامية بالقوانين الأجنبية

ولو أني وجهت هذه الدعوة قبل عشر سنين مثلا لعرضت لها المعارضة من ناحيتين: ناحية المشايخ الجامدين، وناحية الشباب الجاحدين. أما الأول فلأنهم كانوا يعتقدون أن الاجتهاد سد بابه إلى يوم القيامة، وأن الفقهاء لم يدعوا شيئاً إلا بينوا حكمه مع أن المسألتين مردودتان، لأن سدّ باب الاجتهاد معناه الحظر على الله أن يخلق مثل أبي حنيفة، وهذا محال. ومادامت الأرحام تمتلئ، والنساء تلد، فليس مستحيلاً أن ينشأ مجتهدون وأئمة ونابغون يفوقون الأولين - ولأن الفقهاء وإن بذلوا الجهد، وفرضوا في كثير من المسائل أبعد الفرضيات، وبينوا حكمها، فإن من البديهي أنهم لم يتكلموا في المسائل التي ظهرت الآن ولم يعرفوها. وإذا كان الإمام الشافعي قد غير رأيه في أكثر مسائل المذهب، حين انتقل إلى مصر، ورأى أفقاً جديداً، حتى صار له مذهبان قديم وجديد، فلم لا يتغير الرأي في كثير من المسائل، وقد تغير العالم كله، وتبدلت الدنيا، والإسلام صالح لكل زمان ومكان، والأحكام تتغير بتغير الأزمان؟

أما الشباب الجاحدون فقد كانوا يعارضون هذه الدعوة لأنهم كانوا ينفرون من كل ما يتصل بالإسلام، أو يمتّ إلى الدين بسبب، ويموتون عشقاً لأوربة، ولكل ما له علاقة بأوربة

أما الآن فقد اعتدلت الطائفتان، فلم يبق على وجه الأرض عالم مسلم يقول بسد باب الاجتهاد، ويدعي أن الفقهاء لم يتركوا شيئاً كان أو يكون إلا بينوا حكم الله فيه؛ ولم يبق في الشباب المتعلمين (والمثقفين حقاً) من ينفر من الدين، ويفزع من اسمه، بل إن العقلية العربية (ولاسيما في مصر) قد اتجهت نحو الإسلام اتجاهاً قوياً ملموساً؛ فعلماء مصر، وطلاب مصر، ورجالات مصر، مؤيدون للإسلام متجهون إليه، وهذا مما يسر، ويبعث الأمل في نشوء هذه الحلقة المفقودة، وإنجاز هذه الواجبات كلها

والمسائل التي تحتاج إلى نظر وبحث واجتهاد كثيرة لا أستطيع الآن - ولا أريد - أن أستقريها كلها، ولكني أمثل لها بأمثلة قليلة قريبة

هذا رمضان قد جاء. أفلا يجب إعادة النظر (مثلاً) في مسألة ثبوت الهلال؟ أليست هذه

ص: 16

الطريقة المتبعة اليوم في أكثر البلدان الإسلامية مؤدية إلى الفوضى الظاهرة والنتائج الغريبة المضحكة؟ ألم تمر سنوات ثبت فيها رمضان في بعض البلدان الإسلامية السبت، وفي غيرها الأحد، وفي أخرى الاثنين. . . إلى الأربعاء فاختلف ابتداء رمضان، من السبت إلى الأربعاء، وهو يبدأ في الواقع في يوم واحد؟ ألا يبدو هذا مخالفاً لجوهر الدين؟

أنا لا أدعو إلى بدعة جديدة، فقد تكلم الفقهاء في هذه المسألة، فمن فقهاء الحنفية من قال بأن رؤية الهلال في قطر توجب الصيام على الجميع، فلماذا لا نتخذ مرصداً منتظماً في إحدى البلدان الإسلامية، ثم تذاع نتائج رصده على البلدان الإسلامية كافة فيعمل بها؟ أنكون بذلك مخالفين أو مبتدعين، والفقهاء قد قالوا بهذا؟

ومن فقهاء الشافعية كالقفال والرملي وابن سريج من قال بالأخذ بالحساب، والاعتماد على العلم الثابت، فلماذا لا نأخذ بهذه الأقوال، ونحن في عصر ترقى فيه العلم، وصار يعرف موعد الخسوف مثلاً، بالدقيقة والثانية، ويثبت خبره عياناً، أفلا يعرف موعد ولادة القمر وظهوره؟

إن الاعتماد على الشهادة في رؤية الهلال ينتج أموراً عجيبة، من ذلك أن جماعة من قرية دوما شهدوا عند القاضي بدمشق أنهم رأوا الهلال، وأثبت القاضي رمضان اعتماداً على شهادتهم، فقال عمي الشيخ عبد القادر الطنطاوي (وهو شيخ انتهى إليه الآن علم الفلك الإسلامي في الشام) قال للقاضي: إن هذه الشهادة كاذبة وإن الهلال لا يمكن أن يرى الليلة الثانية، فضلاً عن الأولى. وذهب مع القاضي وجماعة من وجه الشام إلى دوما، وأحضر الشهود، ووقف معهم في المكان الذي زعموا أنهم رأوا منه الهلال في الجهة عينها، والساعة ذاتها، وسألهم: أين الهلال؟ فلم يروا شيئا. ثم قال واحد: هاهو، فقال الجميع: هاهو، فأخرج عمي نظارة مكبرة وأراهم، فإذا الذي رأوا غمامة طولها متران، انقشعت بعد ثوان!

وقد حدث مثل هذا كثيراً. سمعت من مشايخي، ولم أر ذلك في كتاب، أن أنس بن مالك رضي الله عنه شهد عند شريح القاضي أنه رأى الهلال، فقال له: هلم أرنيه يا عم. وذهب معه، فقال: هاهو. فنظر شريح وهو الشاب الحديد البصر، فلم ير شيئاً وأنس يقول: هاهو. . . فنظر شريح فإذا شعرة من حاجب أنس بيضاء متدلية يراها فيحسبها هلالا. . .

ص: 17

فأزاحها فلم يعد يرى شيئا

ومنها مسألة الطلاق، لقد بلغت مسألة الطلاق حداً لا يجوز السكوت عنه، ولابدّ من إعادة النظر فيها. وشرع قانون لها يؤمن المصلحة العامة، ويحقق غرض الشارع

يكون الرجل في السوق يبيع أو يشتري، فيحلف بالطلاق على أمر، فتطلق امرأته وهي في دارها، ويتشرد أولادها، وتنهدم دار على رؤوس أهلها؛ أو يغضب من أمر فيحلف بالطلاق، مع أن الذي أفهمه أنا أن الزواج عقد يعقد قصداً يراد به ضم حياة الرجل إلى حياة المرأة، وأن الطلاق عقد مثله يراد به حلّ العقد الأول، ولا بأس أن يكون حلّ العقد بيد الرجل وحده ولكن لابدّ من ثبوت القصد، وأعني بالقصد أن يطلق الرجل وهو يفكر في معنى الطلاق ونتائجه، ويقصد فك الرابطة الزوجية فيجب أن يكون القصد شرطاً في وقوع الطلاق، ويجب أن نجد طريقة مادية لإثبات القصد، كأن يشترط تبليغ الزوجة الطلاق بواسطة موظف مخصوص ينصبه القاضي فإن طلق رجل وهو قاصد من غير واسطة هذا الموظف، يقع الطلاق ديناً، ولا تسمع به الدعوى

هذا وأنا لا أجتهد في هذه المسألة ولكن أدعو إلى الاجتهاد فيها ودرسها

وهناك مسائل كثيرة، لا أعمد الآن إلى استقصائها

متى وجدت هذه الحلقة المفقودة درست هذه المسائل كلها، فحققت حاجات العصر وأجابت مطالبه، ولم تخرج على أصول الإسلام، ولم تخالف قواعده، ودرست الإسلام من كافة النواحي العلمية والفنية والاجتماعية، فإن درسنا الحقوق الأساسية العامة، درسنا الحقوق الأساسية في الإسلام، وإن بحثنا في الاشتراكية بحثنا عن رأي الإسلام في الاشتراكية، وإن انقطعنا إلى التاريخ درسنا التاريخ الإسلامي درساً حديثاً، وإن اشتغلنا بالفلسفة درسنا تاريخها في الإسلام، وحكم الإسلام في نظرياتها ومسائلها. . .

عند ذلك يمحى هذا الازدواج، وهذا التناقض من حياتنا، ونحيا حياة كاملة قد اصطبغت كل ناحية فيها بالصبغة الإسلامية وهذا هو مثلنا الأعلى الذي يجب أن نطمح إليه. . .

(دمشق)

علي الطنطاوي

ص: 18

‌مقدمة حضارة العرب

لغوستاف لوبون

للأستاذ خليل هنداوي

قد علم قراء كتبنا الأولى هذا الكتاب الحديث، وعلموا أننا بعد انتهائنا من درس الإنسان والمجتمعات ينبغي أن ننصرف إلى درس تاريخ الحضارات!

كان كتابنا الأخير (الإنسان والمجتمعات) مختصاً بوصف الأشكال المتتالية للأشكال الطبيعية والعقلية عند الإنسان، والمواد المختلفة التي تتألف منها المجتمعات. ولقد أوضحنا في ذهابنا إلى أقصى العصور الغابرة كيف تألفت الجماعات الإنسانية، وكيف تولدت الأسرة والمجتمعات، وجميع أصناف الفنون والمعتقدات، وكيف استحالت هذه المظاهر خلل العصور، وكيف كان مبدعو هذه الاستحالات!

وبعد أن درسنا الإنسان المنعزل وحركة المجتمعات، يجب علينا لكي يتم غرضنا الذي قصدنا إليه أن ندرس الحضارات الكبرى بحسب هذه المناهج التي عرضناها

أجل! إن المشروع واسع، ومشاكله كبيرة. لا نتكهن إلى أي مدى نستطيع أن نصل به. ونحن نريد أن يأتي كل كتاب من هذه الكتب كاملاً مستقلاً حتى إذا استطعنا أن ننجز الثمانية أو العشرة - بما يتم هدفنا به جاء عمل تصنيفها ودرس الحضارات المختلفة عليها أمراً يسيراً!

وقد بدأنا بحضارة العرب لأن حضارتهم جلتها لنا رحلاتنا وعرفتنا بهم تعريفاً حسناً؛ وحضارة العرب هي من الحضارات التي كمل سيرها، وظهر فيها تأثير المؤثرين ممن جربنا أن نحدد عملهم ونعين تأثيرهم، وهي تعد من الحضارات التي يشوق تاريخها ومع ذلك لبثت مهملة

إن حضارة العرب تسيطر - منذ أثنى عشر قرناً - على القطر الواسع الذي يمتد من شواطئ الاطلانطيك إلى البحر الهندي، ومن شواطئ البحر الأبيض حتى رمال أفريقية الداخلية، والشعوب والقبائل التي تسكنه تدين بدين واحد وتنطق بلسان واحد، وتتلقن تعاليم واحدة، وفنوناً واحدة، وهم يؤلفون جزءاً من المملكة

إن النظر نظراً شاملاً إلى مظاهر هذه الحضارة عند الشعوب التي سيطرت عليها، وأتت

ص: 20

بالمعجزات التي غادرتها في الأندلس وأفريقيا، وفي مصر وسوريا، وفي فارس والهند: هو نظام لم يجرب بعد! والفنون ذاتها التي يرتكز عليها صميم الحضارة العربية لم تخضع بعد لهذا الدرس الشامل! وأولئك المؤلفون القليلون الذين دنوا من وصفها كانوا يقررون أنها ناقصة، ولكن خطأ أدلتهم وأسانيدهم حال بينهم وبين تجريبها. ومن الحق الذي لا ريب فيه أن مشابهة العقائد قد رمت إلى توطيد قربى قوية الوشائج في مظاهر فنون هذه الأقطار المختلفة الخاضعة للإسلام، ولا يقل عن هذا وضوحاً أن اختلاف الذريات والبيئات يجب أن يولد تبايناً واختلافاً كبيرين. فما كانت هذه المجانسات؟ وما كانت هذه الاختلافات؟ والقارئ الذي يطلع على هذه الصفحات المختصة من كتابنا بدرس فن العمارة والفنون، سيجد أن العلم الحاضر لم يعط جواباً على هذه الأسئلة!

وكلما توغلت في درس هذه الحضارة رأيت النتائج قد اتسعت والأفق قد فسح مداه، وعلمت أن القرون الوسطى لم تعرف تاريخ الأجيال القديمة إلا بواسطة العرب، وأن الجامعات في الغرب لبثت طوال خمسة قرون تتهافت على كتبهم في الرياضيات والمباحث العقلية والأخلاق. هؤلاء هم الذين مدنوا أوربا وعمروها بأنوار الحضارة؛ وعندما يدرس دارس آثارهم العلمية ويقف على اكتشافاتهم يجد أنه لا شعب أنتج ما أنتجوه في عهد قصير الأمد، وعندما نمتحن فنونهم نعلم حق العلم أنهم كانوا يملكون مقدرة على الإبداع لا تعلو عليها مقدرة

إن أثر العرب - على عظمته في المغرب - كان أعظم تأثيراً في الشرق ولم يعرف التاريخ عن شعب تأثيراً مثله بلغ قوته وروعته فالشعوب التي سيطرت على العالم من آشوريين وفرس ومصريين ويونان ورومان قد توارت بين أطواء الأجيال وثنايا العصور، ولم تغادر وراءها إلا ركاماً! أما دياناتهم ولغاتهم وفنونهم فقد بادت ولم يبق منها إلا ذكريات. والعرب قد تواروا بدورهم كما توارى أولئك، ولكن عناصر حضاراتهم، تلك العناصر القوية من دين ولغة وفن لا تزال حية. وهناك عدد يربو على مائة مليون (يبدو للقارئ أن إحصاء المسلمين بهذا العدد إحصاء مغلوط) يتوزعون بين المغرب والهند لا يزالون قائمين على تعاليم الرسول

فاتحون كثيرون اقتحموا الغرب وما سمعنا بفاتح واحد أراد أن يستبدل حضارة بالحضارة

ص: 21

التي أنشأها العرب، وكل هؤلاء الفاتحين قد اعتنقوا ديانتهم، وقبسوا منهم فنونهم، وأخذ جلهم لغتهم، وإن شريعة هذا الرسول - وإن تزعزعت في بعض مواطن - لشريعة يشبه أنها قامت لتكون ثابتة إلى الأبد. ففي الهند قد جرفت في طريقها ديانات بلغت من الكبر عتياً، وحولت مصر القديمة الفرعونية بأسرها إلى مصر العربية، وهي البلد الذي لم يؤثر فيه الفرس واليونان والرومان إلا قليلاً! والشعوب الهندية والفارسية والمصرية والأفريقية كان لها معلمون وهداة غير خلفاء محمد، ولكنهم منذ اعتنقوا شريعة هؤلاء الخلفاء ثبتوا عليها ولم يستبدلوا بها ديناً

حقاً إنها لمعجزة في التاريخ، معجزة هذا المأخوذ الرائع الذي أخضع صوته هذا الشعب الجموح الذي أعجز الفاتحين نضاله لاسم تزلزلت منه أقوى المماليك، وهو اليوم تحت أطواء لحده يخضع ملايين الناس لشريعته

إن العلم الحديث ينعت هؤلاء العظماء، ومؤسسي الديانات بالمأخوذين وللعلم الحق في هذه النظرة إذا توخينا محض الحقيقة ولكن يجب احترام هؤلاء. لأن روح جيل ما، وعبقرية شعب ما مرتبطان بهم، وسلالات كثيرة ضائعة في ظلام العصور إنما تتكلم بألسنتهم. إن هؤلاء المبدعين للمثل العليا لا ينشئون في الحقيقة إلا أخيلة، ولكن هذه الأخيلة المشكوك فيها هي التي أبدعتنا على هذا التقويم. وبدون هذه الأخيلة لم تستطع أية حضارة أن تحيا! وليس التاريخ إلا قصة الحوادث المتممة يقوم بها الإنسان ليخلق مثلا أعلى يعبده أو يجربه!

والحضارة العربية أنشأها شعب فيه ما فيه من ريح البربرية، خرج من ظلمات الصحراء العربية واقتحم معاقل الفرس واليونان وحصون الرومان وألف مملكة واسعة تمتد حدودها من الهند حتى الأندلس وأبدع هذه الآثار الرائعة التي تثير في روع كل ناظر عوامل العجب

فأي خالقين عملوا على إنشاء هذه الحضارة وهذه المملكة في بدء نشأتها؟ وما كانت علة هذه الرفعة وعلة هذا الانحطاط؟ إن العلل التي تمرس بها المؤرخون جاءت في الحقيقة ضعيفة واهية، وإن مذهباً من مذاهب التعليل لا يمكن امتحانه امتحاناً حسناً إلا إذا جرى تطبيقه على شعب كهذا الشعب

ص: 22

قد ولد الغرب من الشرق، وفي الشرق يجب أن نطلع على مفتاح الحوادث الماضية، إذ على سطح هذه الأرض العجيبة تهيأت الفنون واللغات وأكثر ديانات البشر. ورجالها اليوم ليسوا كرجال الأمس، لقد تبدلت الأفكار غير الأفكار والعواطف غير العواطف، والأطوار تمشي فاترة بطيئة بحيث إذا أقبل عليها الدارس استطاع أن يقف على سلسلة تلك الأعمار المطوية! فالفنانون والعلماء والشعراء يتكررون دائماً. . . كم مرة جلست إلى ظل نخلة أو فيء جدار أحد الهياكل مستسلماً إلى أخيلة طويلة تنتابني مفعمة بأخيلة ذلك الماضي المتواري، أتنهد تنهداً خفيفاً، وفي الأعماق الشاعة تتعالى مدن غريبة تتوهج قصورها وأعمدتها ومناراتها تحت سماء ذهبية. وتجوز قوافل البدو والجماعات الآسيوية ذات الألوان البراقة، وطوائف العبيد ذات الجلود البرونزية والنساء المحجبات! لقد اندثرت اليوم أكثر هذه المدن القديمة. (نينوى ودمشق والقدس وأثينا وغرناطة وممفيس وطيبة ذات المئة باب) قصور آسيا وهياكل مصر عفاها القدم وآلهة بابل وسوريا والكلدان وشواطئ النيل لم يبق منهم إلا ذكريات، ولكن كم من أشياء مستورة في هذه الخرائب! وكم من أسرار مبثوثة يجدر سؤال هذه الذراري عنها! من أعمدة (هركول) إلى سهول آسيا الخصبة القديمة، ومن شواطئ بحر (ايجه) الأخضر إلى رمال الحبشة المحرقة

يُحمل كثير من التعاليم والعقائد من هذه الأقطار الشاسعة ويضيع فيها أيضاً كثير من المعتقدات، ودرسها يرينا كم عمق هذه الهوى التي تفصل بين الناس، وإلى أي مدى يذهب وهم أفكارنا في الحضارة الإنسانية، والإخاء الإنساني، ويبدي لنا الحقائق والمذاهب التي يخال أنها مجردة مطلقة كيف تتبدل في الحقيقة من بلد إلى بلد

هنالك أسئلة كثيرة تعرض للمتأمل في تاريخ العرب، وأكثر من درس نحفظه، فإن هذا الشعب هو خير شعب حرر ذراري الشرق على اختلافها من ذراري الغرب. إن أوروبا لا تعرف عن هذا الشعب إلا قليلا، وإنما يجب عليها أن تعمل على معرفته لأن الساعة دانية حيث ترتبط مقدراتها وحظوظها بمقدراتهم وحظوظهم!

إن الخلاف بين الشرق والغرب اليوم عظيم حتى لا يرجى أن يقبل أحدهما تفكير الآخر، ومجتمعاتنا القديمة تتحمل تطورات عميقة، فمراحل العلم السريعة والصناعة قلبت قواعدنا الطبيعية والأخلاقية، والنزاع الحاد في جسم المجتمع، والألم الشامل الذي يدفعنا دائماً إلى

ص: 23

تبديل تعاليمنا لكي نعالج الأدواء الاجتماعية التي تنشأ عن التطور ذاته، منها خطأ التوفيق بين العواطف القديمة والعقائد الجديدة، وإبادة الأفكار التي نشأ عليها الأقدمون. هذا ما يحف بالغرب الآن، فنظام الأسرة والمنزل والدين والأخلاق والإيمان كله يتغير أو سائر في طريق التغير، والأصول التي عشنا عليها حتى الآن قد وضعتها المذاهب العصرية تحت المناقشة! وما سوف يخرج من العلم الحديث لا يستطيع أحد أن يفوه به! الجماعات تهيم اليوم وراء تعاليم بسيطة تؤلفها من نظرات سلبية غريزية، ولكن نتائج هذه السلبية لم تستشفها بعد نظراتها. هنالك الوهيات جديدة حلت محل ألوهيات قديمة، والعلم الراهن يجرب أن يذود عنها، فمن ذا يستطيع القول بأنه سوف يذود عنها في المستقبل؟

أما في الشرق فالحالة مباينة لما هي عليه في الغرب. فبدلاً من أقسامنا وأسباطنا وبدلاً من حياتنا المتوقدة نرى الشرق يعيش في وسط تسعده السكينة والراحة العميقة. وهذه الشعوب التي تؤلف بعددها أعظم نوع في البشرية قد بلغت منذ زمن طويل هذا الاستقرار الهادئ الذي يقال أقل ما فيه انه صورة السعادة. وهذه المجتمعات القديمة قد صانت من صلابتها ومتانتها ما فقدته مجتمعاتنا، والإيمان الذي فقدناه مازال الشرقيون يعتصمون به، والأسرة التي بدأت تتحول وتتشقق - عندنا - لا تزال ثابتة صلبة عندهم، والمذاهب التي أضاعت كل تأثير عندنا لا تزال مسيطرة عليهم، والدين والأسرة والتعاليم وسلطة التقاليد والعادات وكل القواعد التي جاءت بها المجتمعات القديمة والتي تقوضت دعائمها في الغرب نراها حافظت على ملامحها في الشرق، والأمر الأعجب فيها أن الشرقيين لم يفكروا في تبديل هذه القواعد أو انتقاء سواها

خليل هنداوي

ص: 24

‌صورة

المولد الأحمدي

للأستاذ إبراهيم بك جلال

خرج أهل القرى جماعات وقوافل من أسفل الأرض ومن صعيدها فكانوا أسراباً يتعاقب بعضهم على آثار بعضه، يزحمون السبل المعبدة وأشباه السبل، قد شمر الرجل عن ساقيه، وبسط على الساعد قضيباً تناط به صرة جافة، وإلى يمينه آخر ينوء كاهلاه (بغرارة) من تلك الأقراص، وثالث به رمق من سعة يوهم جاريه أن تحته مطية ويظل يحرك ساقيه كلما تحركت المطية

أما المرأة فتضن بخفيها على البلى فتجمعهما على أم رأسها فإذا أوفت على المدينة آوت إلى الخفين تمشي فيهما حجلا

وغالب هذا الحجيج مشاة حفاة سرابيلهم من أسمال ومظاهرهم فاقة ومسكنة، نفروا خفافاً متوسمين فضلة الموائد ونهلة من طعام الحضر وحلواه

وفيهم صنوف وألوان من أهل الطريق تنم عليهم تلك القلانس وما يتدلى من عذباتها، وبأيديهم أعلام مصبغة، وحولهم صنوج تدق وطبول تدوي كأنصار المهدي يوم فتح السودان. فإذا غربلهم ناقد خرج ببضعة نفر من أهل العلم والتقى قدموا حسبة وقربى لله يذكرونه في تقى وخشية، ويتعففون عن قرابين هذا العيد، طعامهم أقراص وتمر، ومضاربهم مقفرة من زهو الدنيا، مهادهم بواري بسطت على أديم الأرض يؤثرون بها الزائر فيحل بين أدب واتضاع وعلم

أولئك هم مصابيح الدجى، وأعلام الهدى لمن كانت هجرته لله ورسوله

وفي المدينة دعة وجاه، ونسق جميل ومصابيح وبنود تخفق فوق الدروب وبأيدي الناس، وترى السوق المفضية إلى كعبة هذا الحجيج قد ترامت فيها السلع أكداساً على المناكب وفي الحوانيت، وفيها القمص والجوارب والنعال والأكسية والقلانس والجباب، ويليها عرائس الدمى المزوقة، والدفوف الموشاة، والأساور والأقراط والخلاخل والعقود والمرايا، وكل طلي تحبه بنات القرية وبنوها، ويلي ذلك باعة الحلوى والحمص جاثمين على الموائد يلوحون بالجواليق

ص: 25

ويجوس الخلال باعة الشراب يدقون الكؤوس، وبين هؤلاء وأولئك يندس جماعة السراق يفترصون الغرات ويفرون بأسلابهم

وللمتسولة جنود أهل بأس يرودون الأسواق والمضارب والمشارب كالذباب حول الموائد ولهم أديم من معدن الصفاقة وجلد على هوان النفس في المسألة

وإن تلك الجموع الزاخرة من أهل القرى لتحوم حول كل متجر ويمنعها الإملاق من أن تمد له يداً حتى لكأنها الحرب الضروس بين العرض الملح وبين تنحي الناس وإعراضهم وكأنما أقيمت مناحة للكساد موتاها سلع البلاد

وتبلدت ألوف الدهماء في مواقفها فنثرتها سياط الشرط بدداً ثم جمعتها يمنة ويسرة، وكلت المناكب بباب المسجد، وعز الولوج لغير السواعد وأهل البأس، وإنك لتحس بين الضجيج أنات لأضالع وأعناق تدق ثم تنجلي عن شيوخ وغلمان ونسوة يزخرون بين الصحن والرواق وحول المحاريب ولهم دوي كألسنة الرعود لا يرعون جانب الله وما ينبغي لحرمة بيته من سكينة وخشوع فيحملون على الأكف كل أبرص ومجذوم ومعتوه. ويلوذون بأشباه الرجال ذوي الأزياء المنكرة من التمائم والمسابح ويرفعون عقائرهم بالرجس والإثم عدواناً على هذا الدين الحنيف، وإيلاماً لذلك التقيِّ المغيب في آزال الله وكرامته

وعند باب الضريح طائفة من السدنة من أهل الخطر والعزة في الرقيق الموشى من الديباج وعلى تيجانهم سمات الحسب العالي يرمقون صفوف العواد والزائرين حين يلجون الباب وحين يعرجون، ولهم آذان مرهفة لترتيل آيات الذهب والفضة في خزائن النذور

لقد كان النبي صلوات الله عليه جد هذا السيد البدوي يدعو لشد الرحال إلى ثلاثة: إلى بيت الله الحرام، وإلى الحرم المدني، وإلى بيت المقدس بغير مزيد

فما أشد وجيعة ذلك السبط الهاشمي، وأهل مصر يتخذون قبره مثابة للناس. وما أبعد الوجيعة في قلوبنا معشر آل بيت النبي

إبراهيم جلال

ص: 26

‌ليلى المريضة بالعراق

للدكتور زكي مبارك

- 1 -

أخي الأستاذ الزيات

تحيتي إليك وإلى السامرين في نادي الرسالة من كرام الأصدقاء. وتحيتي إلى القاهرة التي لا تقع فيها العين إلا على نجم أزهر أو كوكب لماح. وسلامي على مصر الجديدة وعلى سنتريس. ولو شئت لسلمت على مكتب تفتيش اللغة العربية بوزارة المعارف حيث يحلو الجدل ويطيب الضجيج!

وبعد فإنك تعرف كيف رحلت إلى بغداد. أنت تذكر ولا ريب أن حكومة العراق طلبت أستاذا للأدب العربي بدرجة دكتور؛ وتذكر أن وزارة المعارف المصرية فهمت أن الغرض من ذلك مداواة ليلى المريضة بالعراق. وقد صرح بهذا حضرة صاحب العزة الأستاذ عوض إبراهيم بك؛ وكان من المفهوم أنه لا يصلح لهذه المهمة غير مؤلف مدامع العشاق!

تلك هي الأسباب التي قضت برحيلي إلى العراق، ولولا ذلك لبقيت في القاهرة أحارب من أحارب وأسالم من أسالم، وفقاً للنزق والطيش، وطاعة لصديقنا الشيطان!

ولا أستطيع أن أصف كيف كانت الأيام التي سبقت رحيلي إلى العراق. فقد قضيتها في درس الطب النفساني والروحاني، وزودت عقلي بأهم ما يعرف أقطاب العلم الحديث، من أمثال الدكتور محجوب ثابت، والدكتور محمد عبد الحي، والدكتور منصور فهمي، والدكتور طه حسين

ولم يفتني أن أستفتي بعض المولعين بدرس المشكلات الغرامية كالأستاذ محمد الهراوي، والأستاذ محمد مسعود، والموسيقار محمد عبد الوهاب

وكان في النية أن أستفتي بعض الأقطاب من علماء الأزهر الشريف، ولكن ضاق الوقت عن ذلك

وجاء يوم الرحيل، والتفت فإذا محطة القاهرة تموج بعدد كبير من كرام الأصدقاء، وكنت أظنهم جاءوا مودعين، ثم دهشت حين رأيتهم لم يجيئوا إلا ليحمّلوني التحية إلى ليلى المريضة بالعراق!

ص: 27

وعند ذلك عاهدت نفسي وعاهدت الواجب أن أكون عندما يرجو المصريون والعراقيون من الظن الجميل. ولم يكد القطار يبرح محطة باب الحديد حتى أسلمت خيالي إلى مغريات الأحلام. ولما وصلت إلى بيروت رجاني بعض الأدباء أن أقيم أسبوعاً في ضيافة لبنان فأبيت وقلت كيف أتلبث في الطريق والواجب يدعوني إلى عيادة ليلى المريضة في العراق؟ وكذلك كان حالي حين وصلت إلى دمشق، فقد رجاني الأستاذ كرد علي والأستاذ عبد القادر المغربي أن أقيم مدة بالشام في ضيافة الأكرمين من أهل تلك البلاد، فأبيت وقلت كيف أتمهل في الطريق والهوى يدعوني إلى موافاة ليلى المريضة بالعراق!

ثم قضيت أربعاً وعشرين ساعة في الطريق من دمشق إلى بغداد. ولا تسلني كيف قضيت تلك الساعات الطوال، فقد كانت الساعة كألف سنة مما تعدون بسبب القلق على ليلى المريضة بالعراق

ولما وصلت ألقيت أثقالي في الفندق، ومضيت بسرعة البرق إلى وزير المعارف أتلقى تعليماته فيما يختص بذلك الروح العليل

ستمضي الشهور والسنون ولا أنسى كيف لقيت وزير المعارف في العراق، فقد بدا رجلاً شاعراً لا يهمه غير الاطمئنان على ليلى المريضة بالعراق

وجلست فتحدثت معه في كثير من الشؤون، ولكنه لم يفتح الحديث عن ليلى، فأخذ مني العجب كل مأخذ، وخشيت أن تكون (قصة) ليلى قصة مخترعة، وأنني كنت مخطئاً حين صدقتها من كبار الأطفال!

وذهبت إلى دار المعلمين العالية فأعطاني المدير جدولاً يقصم الظهر، وهو دروس في الأدب وفقه اللغة وتفسير القرآن، وليس فيه أية إشارة إلى مداواة ليلى المريضة بالعراق. فتأكدت مرة ثانية أن قصة ليلى من اختراع الخصوم الألداء الذين أرادوا أن يستريحوا مني فزينوا لي الرحيل إلى العراق

ثم خطر بالبال خاطر طريف؛ فقد حدثتني النفس بأن مرض ليلى لا يهم أهل العراق، وإنما يهم المصريين؛ وإذن فلابد أن تكون المفوضية المصرية على بينة من هذه القضية. فأخذت عربة ومضيت إلى هناك فوجدت رجال المفوضية لا يعرفون شيئاً عن ليلى المريضة بالعراق، وأن هذه القصة من أوهام الشعراء

ص: 28

وكذلك عرفت مرة ثالثة أن تلك الحكاية لم تكن إلا خداعاً في خداع

قضيت الأسبوع الأول وأنا في همٍّ مُقْعِد مقيم. وهل كان يعوزني أن أدرس الأدب وفقه اللغة والتفسير؟ هل ضاقت معاهد القاهرة عن رجل مثلي حتى يرحل إلى العراق ليكون أستاذاً للأدب في مدرسة عالية؟ إنما كنت أرجو أن أؤدي رسالة عجز عنها الزيات والسنهوري وعزام، ثم قضى الحظ العاثر أن أكون رجلاً (عبيطاً) لا يدرك وجه المِحال، في أحاديث الرجال

وفي الأسبوع الثاني تلقيت رسالة من القاهرة: رسالة من الآنسة جيمي التي ملكت نهاي حيناً من الزمان، وهي تسأل وتلح في السؤال عن ليلى المريضة بالعراق. وللآنسة جيمي حقوق، فقد كانت أوهمتني في السنين الخالية أن الهوى إله معبود؛ وبالرغم من تجنِّيها في الأيام الأخيرة فقد أحسست أن إشارتها أمر يجب أن يطاع. ومنَّيت نفسي برضاها في الليالي المقبلات، حين يسمح الدهر بمسامرة الأنجم الزهر على ضفاف النيل. فهل تراني أعيش إلى ذلك العهد يا صديقي الزيات؟ وهل أعاقر الهوى من ذلك الرضاب بعد أن تدول دولة الفراق؟

ولكن ماذا أصنع؟ هل أخترع قصة جديدة عن ليلى المريضة بالعراق أصل بها إلى قلب الآنسة جيمي؟ وكيف وأنا رجل لا يجيد اختراع الأقاصيص؟ ومعشوقتي تميز بين الصحيح والمزيف من أحاديث الوجدان! رعاك الله يا جيمي وأراني وجهك الجميل؟

ما أعجب ما تصنع المقادير! هذا رجل يسأل عني بالتليفون تسع مرات في كل يوم؛ وهاهو ذا ينقلني بسيارته إلى منزله الفخم بالكاظمية، ويسألني كيف وجدت ليلى، فأتضاحك وأنا محزون، وأقرر أن ليلى اسم اخترعه العابثون من الشعراء؛ وعندئذ ينفجر الرجل بالبكاء ويقول: إن ليلى لا تزال مريضة بالعراق، ولكن العراقيين يتجاهلون ذلك، لأنهم في هذه الأيام مرضى بالجد والنشاط ولا يحبون أن يعرف أحد أنهم أهل وجدان. ولا تعجب إن كتم عنك رجال المفوضية المصرية أخبار ليلى، فهم قوم دبلوماسيون لا يرون الخروج على الوقار الذي تصطنعه حكومة العراق

وما أكاد أسمع هذا حتى أجذب الرجل من ذراعه وأمضي به كالمجنون لأعرف كيف حال ليلى، وما هي إلا لحظات حتى تقف السيارة على بيت متواضع في شارع العباس بن

ص: 29

الأحنف، أحد شوارع بغداد، وأطرق الباب برفق كأنني على ميعاد، وتخرج وصيفة فتقول:(من الطارق؟) فأقول: (أنا الدكتور زكي مبارك) فتقول: (أدخل بسلام، فإن ليلى تنتظرك منذ سنين)

(للحديث بقية)

زكي مبارك

ص: 30

‌ألحان صوفية

جيتانجالي

للشاعر الفيلسوف طاغور

بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب

جيتنجالي كلمة هندية بنغالية معناها (القرابين الغنائية) وهي

أناشيد صوفية تبلغ 103 نشيد، نظمها طاغور في البنغالية ثم

نقلها بنفسه إلى الإنجليزية، وشهرتها في الأدب العالمي

كشهرة رباعيات الخيام، وهي تمثل الروح العالية على فلسفة

طاغور من جهة، والطبيعة الصوفية المميزة للبوذية من جهة

أخرى. وسننشرها كلها مترجمة بقلم الأستاذ كامل محمود

حبيب

- 1 -

أنت خلقتني أبدياً، تلك مشيئتك. وهذا الحطام الفاني - جسمي - أنت تفرغه مرة ومرة ثم تملأه بالحياة الغضة

هذا الناي الصغير أنت علوت به وهبطت، ثم وقَّعت عليه أنغاماً سحرية خالدة، وحين لمست يداك قلبي الضعيف لمسة إلهية شاع فيه السرور وانبعث منه لحن أخّاذ، وبين يديّ الضعيفتين استقبلت آلاءك العظمى، والأعوام تتصرم وأنت ما تزال تحبوني وفي قلبي شوق وطمع

- 2 -

وحين أمرتني أن أرتل نشيدي خُيِّل إلي أن قلبي يهتز من أثر الفرح والكبرياء معاً؛ ثم

ص: 31

رحت أتوضح وجهك فاغرورقت عيناي بالدموع

كل ما في حياتي من شدة وضيق يذيبه لحن جميل، وصلواتي تنشر عليّ جناحين رفيقين كما يفعل الطير الطروب وهو يدف بجناحيه فوق أمواج البحر

أنا أوقن أن أغانيَّ تطربك، وأني حين أغني أكون في حضرتك

وبرغم أن أغانيّ وهي تعلو مصعدة تكاد تبلغ قدميك؛ فأنا لا أستطيع أن أصل إليها

لقد غُمّ عليّ حين سيطرت عليّ نشوة التغريد، فناديتك: يا صديقي؛ وأنت إلهي

- 3 -

لست أدري كيف ترسل ألحانك، يا إلهي! وأنا - دائماً أتسمع في لهفة

إن نور موسيقاك يضيء العالم، وأنفاسها تنقل من سماء إلى سماء، وسَكْبها المقدس يحطم العوائق الصلبة لينفذ

لقد تعشق قلبي أن يسمع ألحانك، ولكن عبثاً حاول أن يظفر بصوت. سأتحدث حديثاً لا يحور إلى أغنية. بل إلى صيحة اليأس. آه إن ألحانك الأبدية قد جذبت إليها قلبي، يا إلهي

- 4 -

يا روح حياتي سأحفظ - دائماً - جسمي طاهراً لأنني أعرف أن لمساتك الرفيقة تحوطني

سأحول - دائماً - بين أفكاري وبين الأكاذيب، لأنك وأنت الحق، بعثت في قلبي شعاع الحق

سأنزع - دائماً - عن قلبي الرذائل ليظل حبي لك طاهراً فأنت تتربع في قلبي

ثم أجعل همي أن أكشف أمامك عن كل ما أعمل، لأنك أنت الذي تسبغ عليّ القدرة على العمل

- 5 -

أنا أسألك لحظة فيها الرضا أجلس فيها إلى جانبك، وأؤجل ما بين يدي من عمل إلى ما بعد

إن قلبي لا يستقر ولا يهدأ إن حرمت النظر إلى طلعتك لأغتمر في لجة من العمل المضني. . . لجة لا شاطئ لها

اليوم نفح الصيف أول زفراته لدى نافذتي، والنحل بين الزهور يرتل أنغامه

ص: 32

هذا وقت أجلس فيه بازائك هادئاً؛ وفي هذا الصمت والفراغ والهدوء، أترنم بأناشيد الحياة المقدسة

- 6 -

اقطفْ هذه الزهرة الصغيرة - يا سيدي - وخذها. لا تستأن! فأنا أخشى عليها الذبول والسقوط؛ لعلها لا تجد مكاناً في بستانك، ولكن شرِّفها بلمسة بنانك، فأنا أخاف أن تنطوي الأيام قبل أن أستطيع تقديمها لك هدية

إن لوها ليس أخاذا، وريحها ليس نفاذا؛ ولكن اقطفها فقد يكون فيها النفع. . . اقطفها حين تسنح الفرصة

- 7 -

لقد نزعت عني لحني الزخرف، فما فيه برقشة ولا تنميق؛ لأن زخرف القول يفسد ما بيننا، ويحول بيني وبينك، ورناته تخفي عني همساتك

إن عبارات الصلف في شعري تتلاشى أمام ناظريك يا إله الشعر. أنا جاثم عند قدميك أريد أن تنفث في حياتي البساطة والنقاوة كنغم ساحر انبعث من نايك

- 8 -

إن الطفل الذي تثقله مطارف الإمارة، وتزينه القلائد الذهبية، لا يجد اللذة في ألعوبته لأنه يرسف في قيود من ثيابه

وهو ينزوي عن العالم خشية أن تتلوث أو تتعفر، فهو يخاف كل شيء حتى الحركة

أيتها الأم! لا تثقلي ابنك بالزينة فهي تحجبه عن تراب الأرض الصحي، وتسلبه من النهج القويم الذي يقوده إلى البهجة العظمى في حياة الإنسان العامة

- 9 -

يا لحمق الغبي الذي يحاول أن يحمل نفسه على كتفيه إن كدّه السير! يا لغفلة الشحاذ الذي يقف أمام باب داره يستكف

ألق ما أثقلك بين يدي من لا يثقله أن يحمل كل شيء، ثم لا تلتفت إلى وراء في حسرة

إن أمانيك تطفئ بأنفاسها نور السراج. حرام أن تأخذ ما ليس لك بيدين آثمتين، ولكن خذ

ص: 33

ما أعطيت في قناعة ورضا

- 10 -

هنا آثار سيرك؛ وهناك تطمئن قدماك. . . هناك حيث يعيش الفقير والوضيع والضائع

وإذا سجدت لك فجبهتي لا تبلغ الأعماق حيث تطمئن قدماك بين الفقير والوضيع والضائع

إن الكبرياء لن تبلغ موطئ قدميك وأنت تتهادى في ثوب من التواضع بين الفقير والوضيع والضائع

إن قلبي لا يجد السبيل إلى حيث تصحب من لا رفيق له بين الفقير والوضيع والضائع

- 11 -

دع عنك التراتيل والأغاريد والتسابيح! من الذي تتحنث له في هذا الخلاء المظلم من متعبَّدِك وبابك مغلق؟ افتح عينيك فلن تجد إلهك أمامك!

إنه هناك عند الفلاح وهو يعزق الأرض الصلبة، هو عند العامل وهو يحطم الصخور القاسية؛ إنه بازائهما تحت حرور الشمس ووابل المطر، ولباسه معفر بالتراب. اخلع طيلسانك المقدس واهبط مثله إلى تراب الأرض

التواكل؟ أين هو التواكل؟ إن إلهنا نفسه قد أخذ نفسه - في لذة - بأن يتكفل عباده؛ وهو بيننا إلى الأبد

انزع عنك تأملاتك، ودع أزهارك وبخورك! ماذا يضيرك إن مزقت ثيابك ولوّثت؟ أخر إليه، وقف بازائه كادحاً والعرق يرفضُّ من جبينك

- 12 -

إن سفري بعيد وطريقه طويل

لقد انطلقت عند أول شعاع من النور، واندفعت أضطرب في أنحاء العالم الموحش أرى هدْى أمري بين النجوم والكواكب

إنها مسافة أطول مما يخيّل إليك، وهي تجربة قاسية تنتهي إلى السهولة. . . إلى لحن

إن المسافر يضطر إلى أن يقرع كل باب ليتعرف بابه هو، وهو يضرب في أرجاء الأرض ليصل - في النهاية - إلى المحراب العظيم

ص: 34

لقد انطلق بصري يطوق العالم قبل أن أحشدهم وأغلق عليهم الباب ثم أقول: (هاأنتم هنا؟)

ودوت الصيحة: (أوه! أين؟) ثم ذابت الصيحة إلى عبرات تتدفق؛ ثم غمر الأرض سيل من الإيمان ينادي (أنا!)

كامل محمود حبيب

ص: 35

‌الإسلام والسيف!

للأستاذ محمد كامل حته

(مهداة إلى الأستاذ خليل جمعة الطوال)

إن من الجناية على الحق والافتراء على التاريخ أن يقول قائل إن الإسلام قد انتشر بالسيف! أي سيف كان يحمله محمد، وهو الأعزل الذي لا حول له ولا قوة، الوحيد الذي لا ناصر له ولا معين، يناله السفهاء بالأذى فلا يستطيع أن يدفع عن نفسه، ويأتمر به قومه ليقتلوه فيفر بحياته إلى يثرب؟. . .

لقد ظل محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاماً يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ولم يكن له من سلاح غير ثقته بالله وإيمانه بأنه على حق، ولقد لاقى هو وأصحابه في سبيل هذه الدعوة من ضروب الفتنة والاضطهاد ما لا يثبت عليه إلا الذين عمرت قلوبهم بالإيمان، واستيقنت أنفسهم من نصر الله!

كان الرسول يوماً يصلي في الكعبة، وبينما هو ساجد إذا بعقبة بن أبي معيط، يطأ عنقه الشريف حتى كادت عيناه تبرزان. . .

وخنقه بردائه خنقاً شديداً، والناس من حوله شامتون، حتى أقبل أبو بكر مشتداً وخلص الرسول منه وهو يقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟

ولما خرج إلى الطائف يدعو أهلها للإسلام، أغروا به سفهاءهم فترصدوا له بالطريق وأخذوا يحصبونه بالحجارة حتى تخضبت قدماه بالدماء!

ولما أبى عمه أبو طالب أن يسلمه إليهم ليقتلوه تعاهدوا على مقاطعة أوليائه من بني هاشم، ودامت هذه المقاطعة ثلاثة سنين لقي فيها هذا البيت الكريم من العنت والإرهاق أعظم البلاء. . .

وعذب عمار بن ياسر وأهله عذاباً شديداً، فكان الرسول يمر بهم وهم في العذاب ويقول: صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة!

ومن ذلك أن أبا جهل طعن سمية أم عمار بحربة فقضى عليها فشكا عمار ذلك إلى الرسول قائلاً: يا رسول الله، بلغ منا العذاب كل مبلغ! فقال صلى الله عليه وسلم:(اصبر أبا اليقظان، اللهم لا تعذب من آل ياسر أحداً بالنار!)

ص: 36

وقد استشهد أفراد هذه الأسرة الكريمة في سبيل الله، ولم يبق منهم إلا عمار الذي كان يعذب حتى لا يعي ما يقول

وممن عذب في سبيل العقيدة بلال بن رباح كان مملوكاً لأمية ابن خلف، فلما اعتنق الإسلام حنق عليه سيده وأمره بالرجوع إلى عبادة الأصنام، فلم ينصع لأمره لأنه ذاق حلاوة الإيمان، فأنزل به ألواناً من العذاب: كان يطرحه على الرمضاء، ويصهر على صدره دروع الحديد، ويضع عليه الأحجار الثقيلة حتى قُدّ ظهره! وهو يهتف دائماً: أحد، أحد، إلى أن أنقذه أبو بكر فاشتراه من سيده، وأعتقه لوجه الله. . .

وكثير غير هؤلاء ممن آمنوا بمحمد في مبدأ بعثته، كانوا يلاقون العذاب الهون والبلاء العظيم، حتى أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لمن ليس له أنصار يحمونه من هذا العدوان أن يفر بدينه إلى الحبشة، فهاجر إليها جم غفير. واستأذن أبو بكر في الهجرة إليها فأذن الرسول صلى الله عليه وسلم له، فلما كان على مسيرة يومين، لقيه ابن الدغنة سيد قومه فسأله: أين تريد يا أبا بكر؟ قال: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، قال: إن مثلك لا ينبغي أن يَخرج أو يُخرج من أرضه؛ ثم رجع به إلى قريش وأدخله في جواره، على شرط أن يعبد الله

فابتنى أبو بكر مسجداً بفناء منزله، وصار يصلي فيه ويتلو كتاب الله، فكان نساء قريش وشبانهم يجتمعون حول داره، يستمعون لتلاوته، ويؤخذون ببلاغة القرءان وروعته! ففزع القوم وشكوا أبا بكر إلى حليفه، فأغلظ الحليف لأبي بكر في القول وقال له: إما ألا تستعلن بعبادتك، وإما أن تعيد إليّ ذمتي. فقال أبو بكر: إني أرد لك جوارك وأرضي بجوار الله عز وجل

فكيف اجتمع هؤلاء الناس على محمد؟ أبالسيف وهو أعزل لا يستطيع أن يعصم نفسه؟ ومتى كان السيف وسيلة لتكوين العقائد في النفوس؟

ولماذا باعوه أرواحهم يبذلونها رخيصة في سبيل دعوته؟ أطمعاً في مال وهو فقير لا يكاد يملك من حطام الدنيا شيئاً؟ ومتى كان للمال هذا السلطان القاهر على العقول والأفهام؟

كلا؛ لا بهذا ولا بذاك، وإنما بهذا الدين الحنيف الذي استحوذ على العقول وأخذ بمجامع القلوب، وبهذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي حين سمعه

ص: 37

وفد الحبشة من القسس والرهبان، خشعت قلوبهم وفاضت أعينهم وأسلموا لله رب العالمين، فنزل فيهم قوله تعالى:(. . . ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى، ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون، وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين)

ولقد ظل المسلمون على هذه الفتنة الطاغية فترة من الزمن، حتى إذا استفحل الخطب وعظم البلاء، شرع الله لهم القتال دفاعاً عن النفس وذباً عن الدين، فقال تعالى:(أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله)، (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير)

كان موقف الإسلام إذن موقفاً سلبياً في حروبه الأولى، لا يقصد به غير الدفاع عن أهله، ورد عدوان المعتدين. فلما استقرت قواعده، وانتهت إليه الخلافة في الأرض، كان عليه أن يقف موقفاً إيجابياً لحماية المؤمنين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور)

وهذا يدل على أن الحرب في الإسلام وسيلة لدرء المفاسد وإقرار السلام، لا إرضاء لشهوة الفتح والاستعباد. وإذا كان الإسلام قد حث على الاستعداد الحربي بقوله:(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) فإنما يرمي بذلك لإطفاء جذوة الحرب في نفوس الأعداء، وهو ما يعرف في هذا العصر بالتسلح السلمي!

وهذه مبادئه الحربية شواهد ناطقة بعدله ورحمته وإحسانه، انظر إليه يأمر بالسلم إذا جنح إليها العدو، ولو كان جنوحه خداعاً ومخاتلة:(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله، إنه هو السميع العليم؛ وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله، هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين)

وما تم في معاهدة الحديبية، يدل على مبلغ حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على

ص: 38

السلم وكراهية الحرب، فقد رضى أن توضع الحرب بين المسلمين والمشركين عشر سنين، في الوقت الذي كان المسلمون يتحرقون على القتال، وينتظرون منه كلمة واحدة، يندفعون بعدها كالسيل الجارف صوب مكة، حيث ينتصفون لأنفسهم وللإسلام من أولئك الذين أخرجوهم من ديارهم بغير حق، فكان الرسول حائلاً بينهم وبين ما يشتهون، حتى كادت تحدث بينهم فتنة عمياء لولا أن الله سلم. . .

وكان الرسول يوصي أتباعه دائماً في الحروب بقوله: (اغزوا باسم الله في سبيل الله من كفر بالله؛ لا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا كبيراً فانياً، ولا منعزلاً بصومعته، ولا تحرقوا نخلاً ولا تقطعوا شجراً ولا تهدموا بناء!)

هذه مبادئ الإسلام في الحرب، وهي أرحم بالإنسانية وأشرف غاية من المبادئ السلمية - ولا أقول الحربية - التي تطبقها الدول القوية على الأمم الضعيفة باسم المدنية في هذا العصر

وإليك هذا الموقف الرائع النبيل، حين فتح الرسول مكة، ومكنه الله من رقاب قريش، وقد وقف على باب الكعبة والناس من حوله ينتظرون كلمة الفصل: فإما موت وإما حياة! فقال لهم: ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء! فكان ذلك سبباً في إسلام قريش بأجمعها، وحقن دمائهم ودماء المسلمين

فالقول إذن بأن الإسلام انتشر بالسيف فرية باطلة، وإنما انتشر الإسلام بالحجة والبرهان، وبسماحة مبادئه ومتانة أصوله. ولا عجب فهو الذي يقول:(لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي، فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، والله سميع عليم)

(حلوان الحمامات)

محمد كامل حته

ص: 39

‌للأدب والتاريخ

مصطفى صادق الرافعي

1880 -

1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 15 -

(هي رسائل الأحزان، لا لأنها من الحزن جاءت، ولكن لأنها إلى الحزن انتهت؛ ثم لأنها من لسان كان سلما يترجم عن قلب كان حربا؛ ثم لأن هذا التاريخ الغزلي كان ينبع كالحياة وكان الحياة ماضيا إلى قبر. . .!)

(الرافعي)

رسائل الأحزان

خرج الرافعي عن مجلس صاحبته مغضباً، في نفسه ثورة تَؤجّ وفي أعراقه دم يفور، وفي رأسه مرجل يتلهب؛ وكتب إليها كتاب القطيعة وأرسل به ساعي البريد، ثم عاد إلى نفسه فما وجد فيما كتب شفاء لنفسه، ولا هدوءاً لفكره، ولا راحة في أعصابه؛ وأحس لأول مرة منذ كان الحب بينه وبين صاحبته أنه في حاجة إلى من يتحدث إليه؛ وافتقد أصحابه فما وجد منهم أحدا يبثه أحزانه ويفضي إليه بذات صدره ويطرح بين يديه أحماله. لقد شغله الحب عن أصحابه عاماً بحاله لا يلقاهم ولا يلقونه ولا يتحدث إليهم ولا يتحدثون؛ فلما عاد إليهم كان بينه وبينهم من البعد ما بين مشرق عامٍ ومغربه بلياليه وأصباحه وتاريخه وحوادثه. وثقلت عليه الوحدة وضاقت بها نفسه، ففزع إلى قلمه يشكو إليه ويستمع إلى شكاته، فكتب الرسالة الأولى من (رسائل الأحزان) إلى صديقه الذي خصه بسره. . . إلى نفسه. . .

كان ذلك في مساء 21 من يناير سنة 1924

وترادفت رسائله من بعد مسهبة ضافية يصف فيها من حاله ومن خبره وما كان بينه وبين صاحبته، في أسلوب فيه كبرياء المتكبر، ولوعة العاشق، ومرارة الثائر الموتور، و. . .

ص: 40

وذِلة المحب المفتون يستجدي فاتنته بعض العطف والرحمة والحنان

وانتهى من كتابة (رسائل الأحزان) في مساء 17 من فبراير سنة 1924

يخاطب الرافعي نفسه في (رسائل الأحزان) على أسلوب (التجريد)، فهو يزعم أنها رسائل صديق بعث بها إليه، فتراه يوجِّه الخطاب فيها إلى ذلك الصديق المجهول يستعينه على السلوان بالبث والشكوى؛ ثم يصطنع على لسان ذلك الصديق نتفاً من الرسائل يدير عليها أسلوباً من الحديث في رسائله هو، وما هناك صديق ولا رسائل، إلا الرافعي ورسائله، يتحدث بها إلى نفسه عن حكاية حبه وآماله وما صار إليه

أو قل: إن الرافعي في هذه الرسائل جعل شيئاً مكان شيء، فأنشأ هذه الرسائل إلى صاحبته ثم نشرها كتاباً تقرؤه لتعلم من حاله ما لم تكن تعلمه، أو ما يظن أنها لم تكن تعلمه؛ فهي رسائله إليه على أسلوب من كبرياء الحب، تشفي ذات نفسه ولا تنال من كبريائه

وفي بعض حالات الحب حين تقف كبرياء العاشق بينه وبين ما يريد إعلانه، وتقف النفس وقفتها الأليمة بين نداء القلب وكبرياء الخُلق، يتمنى العاشق لو كان له ملءُ الفضاء ليهبه إلى من يحمل عنه رسالة إلى حبيبته من غير أن يعترف بأنه رسول. . .! وتكون أبلغ الرسائل عنده أن يكتب إلى حبيبته:(إنه يحبك) يعني: (أنا أحبك!) ويتحدث إليها عن نفسه بضمير الغائب وهو من مجلسها على مرأى ومسمع، ومن لفتات قلبها وقلبه على مشهد قريب. . .!

وبهذا الأسلوب تحدث الرافعي عن نفسه بضمير الغائب في رسائل الأحزان

(أنا. . .) هذا الضمير الذي لا يتحدث به متحدث إلا سمعتَ في نْبره معنى شموخ الأنف، وصَعَر الخد، وكبرياء الخُلق؛ لا يؤدي في لغة الحب إلا معنى من التذلل والشكوى والضراعة، فما تسمعه من العاشق المفتون إلا في معنى اليد الممدودة للاستجداء، وما تقرأ ترجمته في أبلغ عبارة وأرفع بيان وأكبر كبرياء إلا في معنى:(أنا محروم. . .!)

يا عجباً للحب! كل شيء فيه يحول عن حقيقته حتى ألفاظ اللغة وأساليب الكلام. . .!

وكذلك كان الرافعي يقول في رسائل الأحزان: (هو) ويعني: (أنا. . .) لأنه لا يريد أن يبتذل كبرياءه في لغة الحب. . .

إنني أحسب الرافعي لم يكتب رسائل الأحزان لتكون كتاباً يقرؤه الناس، ولكن لتقرأه هي،

ص: 41

وهي كل حسْبه من القراء؛ فمن ذلك لم يجر فيها على نظام المؤلفين فيما يكتبون للقراء من قصة فيها اليوم والشهر والسنة، وفيها الزمان والمكان والحادثة؛ بل أرسلها خواطر مطلقة، لا يعنيه أن يقرأها قارئها فيجد فيها اللذة والمتاع أو يجد فيها الملل وحيرة الفكر وشرود الخاطر

ولم يكتبها - كما يزعم - رسائل أدبية عامة تتم بها العربية تمامها في فنٍّ من فنون الرسائل لم يُؤثْر مثلُه فيما نقل إلينا من تراث الكتاب العرب، ليحتذيه المتأدبون وينسجوا على منواله؛ بل هي رسائل خاصة تترجم عن شيء كان بين نفسين في قصة لم يذكرها في كتابه ولم ينشر من خبرها

وبذلك ظلت (رسائل الأحزان) عند أكثر قراء العربية شيئاً من البيان المصنوع تكلَّفَه كاتبُه ليحاول به أن يستحدث فنا في العربية لم يوفق إلى تجويده. على أنه كتاب فريد في العربية في أسلوبه ومعانيه وبيانه الرائع، ولكنه بقيةٌ قصةٍ لم تنشر معه، فجاء كما تأكل النار كتاباً من عيون الكتب فما تُبقى منه إلا على الهامش والتعليق وصُلْبُ الكتاب رماد في بقايا النار. . .

فمن شاء أن يقرأ رسائل الأحزان فليقرأ قصة غرام الرافعي قبل أن يقرأه، فسيجد فيه عندئذ شيئاً كان يفتقده فلا يجده، ولسوف يوقن يومئذ أن الرافعي أنشأ في العربية أدباً يستحق الخلود

قلت: إن الرافعي أنشأ رسائل الأحزان ليكون رسالة إليها هي، فهذا كان أول أمره فيما بينهما من الرسائل التي قلت عنها فيما سبق إنهما كان يتبادلانها على أعين القراء من غير أن يذيع السر أو ينكشف الضمير، ومن غير أن يسعى بينهما حامل البريد؛ ولقد ردّت صاحبته ردَّها على رسالته هذه برسالة مثلها بعثتْ بها إليه مع بائع الصحف والمجلات. . . ثم تتابعت رسائلهما من بعد على هذا الأسلوب العجيب

وسيأتي يوم يُدرس فيه أدب (فلانة) صاحبة الرافعي، وسيجد الباحثون يومئذ لوناً لذيذاً من البحث إذ يعثرون على رسائلها إليه في بعض كتبها ومقالاتها، وليس بعيداً أن يقرأ الأدباء يومئذ كتاباً جديداً بعنوان (رسائلها ورسائله) بتاريخها وزمانها وأسبابها، مقتبسةً مما نَشر ونشرتْ في الصحف والمجلات من مقالات وأقاصيص بين سنة 1924 وسنة 1936

ص: 42

أيها الباحث الذي سيأتي أوانه، ابحث عن حَشْو القول وفضول الكلام في مقالاتها ومقالاته، واقِرنْ تاريخاً إلى تاريخ وسبباً بسبب، لتنشر لنا رسائلها ورسائله في كتاب. . .!

أراني لم أتحدث عن (رسائل الأحزان) كما يتحدث كاتب من الكتاب عن كتاب من الكتب، فليس هذا إليّ، وإنما قدمت وسائل القول لمن يريد أن يقول؛ وأحسب أن كلاماً سيقال عن رسائل الأحزان من بعدُ غيرَ ما كان يُقال، وأعتقد أن الدكتور طه حسين بك لن يكرر مقالته التي قالها فيه من قبل، يوم أشهدَ الله على أنه لم يفهم منه حرفاً؛ وأعتقد أن الدكتور منصور فهمي بك لن يقتصر على قوله فيه من قبل:(إن معانيه من آخر طراز يأتي من أوربا. . .) لأنه سيجد مجالاً للقول في غير معانيه وبيانه

ولكن في رسائل الأحزان شيئاً غير ما قدمت من أشيائه، ذلك لأن الرافعي رحمه الله كان ولوعاً بأن يضيف إلى كل شيء شيئاً من عنده؛ وتلك كانت طبيعته في الاستطراد عند أكثر ما يكتب

سيجد الباحث في رسائل الأحزان عند بعض الرسائل وفي هامش بعض الصفحات من الكتاب، كلاماً وشعراً لا يتساوق مع القصة التي رَويت. ألا إن الرافعي كانت تغلبه طبيعته الفنية في الكتابة أحياناً فيستطرد إلى ما لا يريد أن يقول؛ ليثبت معنى يخشى أن يفوته، أو ليذكر حادثة يراها بالحادثة التي يرويها أشبه، أو لأن تعبيراً جميلاً وجد موضعه الفني من الكلام وإن لم يجد موضعه من الحادثة؛ فإن رأى الباحث شيئاً من ذلك فلا يداخلْه الريب فيما أثبتّ من الحقيقة التي أرويها كما أعرفها

وسيجد في بعض الرسائل حديثاً وشعراً عن لبنان وأيام لبنان؛ وما عرف الرافعي صاحبته إلا في مصر وإن كان مولدها هناك. فليعلم من يريد أن يعلم، أن صاحبة الرافعي هذه لم تكن هي أولى حبائبه، وقد كان له قبل أن يعرفها في الغرام جولان؛ وكان بعض من أحب قبلها فتاة أديبة عرفها في لبنان، وهي سَمية صاحبتنا هذه؛ وكان بينهما رسائل أثبت الرافعي بعضها في (أوراق الورد)، ومن أجلها أنشأ الرافعي كتابه (حديث القمر)، على أن عمر الحب لم يَطُل بينهما، إذ تزوجت وهاجرت مع زوجها إلى أمريكا لتشتغل بالصحافة العربية هناك - وما تزال - فما جاء في رسائل الأحزان من حديث لبنان وذِكر أيامٍ هناك، فهو بقية من ذكرى صاحبة (حديث القمر) أقحمه في رسائله حرصاً عليه وبخلا به على

ص: 43

الضياع

لقد كان حب الرافعي الأخير حادثة في أيامه فعاد حديثاً في فكره، ورسائل الأحزان هي أول ما أنشأ من وحي هذا الحب؛ على إن قارئه يقرؤه فما يعرف أهو رسالة عاشق ألحّ عليه الحب أم زفرة مبغض يتلذّع بالبغض قلبه؛ والحق أن الرافعي أنشأه وهو من الحب في غمرة بلغت به من الغيظ والحنق أن يتخيل أنه قادر على أن يبغض من كان يحب، بغضاً يرد عليه كبرياءه وينتقم له؛ فما فعل إلا أن أعلن حبه في أسلوب صارخ عنيف كما تحنو الأم على وليدها في عنفوان الحب فتعضه وإنها لتريد أن تقبله، أو كما تقسو ذراع الحبيب على الحبيب تضمه في عنف وما بها إلا الترفق والحنان. . .!

وطبع الرافعي كتابه وأنفذه إلى صاحبته، فكتبت إليه. . . وثارت ثورة الرافعي مرة ثانية فأصدر (السحاب الأحمر)

(شبرا)

محمد سعيد العريان

ص: 44

‌مقالات إسماعيلية

لأستاذ جليل

- 9 -

(فصل) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عرف نفسه عرف ربه) وقال عليه الصلاة والسلام: (عرفت ربي بربي) أشار إلى أنك لست أنت إنما هو أنت بالهو أنت لا هو داخل فيك، ولا أنت داخل فيه، ولا (هو) خارج منك، ولا أنت خارج منه. وما عنى بذلك أنك موجود وصفتك هكذا بل عنى به أنك ما كنت ولا تكون إلا بنفسك لا هويتك المضنونة هي العدم، فأنت لا فان ولا موجود. أنت هو وهو أنت بلا علة من هذه العلل، فإن عرفت وجودك هكذا فقد عرفت الله تعالى وأكثر العارفين (أضافوا) معرفة الله تعالى إلى فناء الوجود وإلى فناء فنائه (فهذا) إثبات الشرك؛ فإن معرفة الله تعالى (لا) تحتاج إلى فناء الوجود، ولا إلى فناء فنائه، ولا شيء لا وجود شيء، وما لا وجود (له) لا فناء له، فإن الفناء لا يكون إلا بعد إثبات الموجود، والوجود الإضافي عدم، والعدم لا شيء، فإن عرفت نفسك بلا وجود ولا فناء فقد عرفت الله تعالى. قال السيد راشد الدين (علينا منه السلام):(لولانا بشهوتنا للأشياء لما كان إلا الله ولا شيء سواه. وفي إضافة معرفة الله تعالى (إلى) فناء الوجود وإلى فناء فنائه إثبات الشرك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من عرف نفسه عرف ربه) ولم يقل من أفنى نفسه عرف (ربه) فإن إثبات الغير تناقض فنائه، وما لا يجوز ثبوته لا يجوز فناؤه، ووجودك ووجوده لا شيء لا يضاف إلى شيء. أشار عليه الصلاة والسلام إلا أنك معدوم كما كنت قبل متكوناً التقدر فلا أن الأزل والأبد والله تعالى (موجودون) هو وجود الأزل والأبد، وذات جميع الموجودات والوجود ولو لم يكن كذلك ما كان إلا الله وحده بنفسه لا يوجد الله تعالى فيكون رباً ثابتاً وهو محال، فليس لله تعالى شريك في ملكه ولا ند ولا كفؤ. ومن (جعل) لا شيء مع الله وهو محتاج إلى الله فقد جعل ذلك الشيء شريكا له لأنه محتاج إليه. ومن توهم موجوداً سواه قائماً به ثم يصير فائناً فناءه ويصير فائناً في فنائه فتسلسل الفناء بالفناء شركا بعد شرك. ومن كان هذه معرفته فهو مشرك لا عارف، والعارف بالله وبنفسه هو الذي يعلم أن الله كان ولم يكن معه شيء وهو الآن كان، فإن قيل: إن النفس ليست هي الله ولا الله تعالى هو النفس، قلنا: إن

ص: 45

النفس هي وجودك وحقيقتك إلا النفس اللوامة والأمارة والمطمئنة. وأشار النبي صلعم إلى الأشياء الموجودة فقال عمّ (ربي أرني الأشياء كما هي) وعني بالأشياء كما توُهِّمَ أنها غير الله (تعالى) أي عرفني ما سواك من سائر الأشياء لا أعلم هل هي أنت أم غيرك؟ وهل هي قديمة أم باقية أم فانية؟ فأراه الله ما سواه، فإذا هي نفسه بلا وجود ما سواه، فرأى الأشياء كما هي، أعني رأى الأشياء ذات الله بلا كيف ولا أين لأنه هو تعالى هوية الكل بالحقيقة، واسم الأشياء يقع على النفس من الأشياء، فإن وجود النفس ووجود الأشياء شيئان في المشيئة التي عرفت الأشياء وعرفت النفس، ومتى عرفت النفس عرفت الرب، لأنه الذي تظن أنه غير الله ليس هو سوى الله، ولكنك ما تعرفه وأنت (لا) تراه، ولا تعلم أنك هو فإذا عدّمت إياك في ذاته بذاته لذاته علمت أنه كنه مقصودك وغاية مطلوبك وعلمت أن (كل شيء هالك إلا وجهه) أعين لا موجود إلا هو وجود لغيره مع وجوده فيحتاج (كل شيء) إلى الهلاك، ويبقى وجهه أعني لا شيء إلا وجهه، أعني لا نفس إلا نفسه، ولا وجود إلا وجوده، كذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تتبقَّ الدهر بَانَ الله) أشار بذلك لا وجود للدهر، وجود الله تعالى ووجود جميع الكائنات وجوده؛ ليس للأشياء من ذاتها إلا العدم جداً ووجودك ووجوده لا إله إلا الله وأنا لا أنا هو كما وجب وجوده وجب عدم ما سواه، فإن الذي تظن أنه غيره ليس هو غيره إذ لا وجود مع وجوده أنى وجوده ظاهراً وباطناً، ومن مات موتاً معنوياً عدمت ذاته وصفاته، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (موتوا قبل أن تموتوا) أي: اعرفوا نفوسكم واعرفوا ذاتكم العديمة لتعاينوا عين الهوية الحقيقة، وكانت كل حالة لله تعالى لأنه كان هو، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا يزال العبد يتقرب بي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها) لأن حركاته وأفعاله كلها لله تعالى لا له فالذي عرف نفسه يرى وجود ذاته بل كان جاهلاً بمعرفة وجوده؛ فمتى عرفت نفسك ارتفعت في عينيك وعرفت أنك لم تكن غير الله تعالى. وحقيقة معرفة النفس أن تعلم (أن) وجودك ليس بموجود ولا معدوم، فإنك لم تكن كائناً ولا كنت ولا تكون تعرف معنى قوله:(لا إله إلا الله)، ولا وجود لغيره ولا غيره سواه، لا إله إياه، وليس هذا بل بتعطيل الربوبية لأنه لم يزل رباً ولا مربوباً، ولم يزل خالقاً ولا مخلوقاً، خلاقيته وربوبيته

ص: 46

لا تحتاجان إلى مخلوق، ولا إلى مربوب، ووجود الأشياء كان الله، ولا شيء سواه، وهو الآن ولا شيء سواه، فوجود الموجودات وعدمها شيئان فلا هو إلا هو، وما سواه عدم والسلام

(* * *)

ص: 47

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد إسعَاف النشاشيبي

إلى سيدي العلامة الأستاذ الكبير حسن حسني عبد الوهاب الصمادحي - أدام الله مجده، ونفع المشرقين بعلمه وفضله

(نقل الأديب) للنشاشيبي ما هو إلا من ذلك الميراث القديم العظيم، وقد ورث الأستاذ كما ورثت، وعرف من قدْر ما ترك الأكرمون الأولون مثل الذي عرفت، بل أكثر مما عرفت. وما أنا بالمستأثر بكنوز القوم وما أنا بالمستبد، وما أنا بالوارث الأوحد

وإن هذا المال الموروث لدَثْر كثير، ولكل في التدبير والتثمير والإنفاق منه طريق. وعند الأستاذ التالدُ، وعنده - والحمد لله - الطريف؛ فهو السريّ المثري، وكم في سوق الأدب من صُعلوك وكم من صَعْفوق

وليست تسميتُه ولدَه - وكتابُ المرء ولدهُ المخلد - باسم ولدي (وقد زيد الحبيب) إلا تواضعاً؛ والعلماء الكبار يتواضعون. وعزوهُ الفضلَ إليّ بإظهاره تلك الطرائف التونسية هو أدبُ نفس، سليلُ ملك المَريّة به مشهور. فمرحباً مرحباً بـ (نقل الحبيب إلى الأديب) وحَيَّهَلْ، حيّ هلا بمتضاعف الحسن في العلم والفضل والاسم، ومد الله في عمره

محمد إسعاف النشاشيبي

311 -

فإن شهرك في الواوات قد وقعا

محمد بن علي بن منصور بن بسام:

قد قرّب الله منا كل ما شسعا

كأنني بهلال الفطر قد طلعا

فخذ للهوك في شوال أهبته

فإن شهرك في الواوات قد وقعا

312 -

الجمة السكينية

في (أغاني أبي الفرج): كانت سُكَينة أحسن الناس شعراً وكانت تصفف جُمّتها تصفيفاً لم ير أحسن منه حتى عرف ذلك وكانت تلك الجمة تسمى (السكينية)، وكان عمر بن عبد العزيز إذا وجد رجلا يصفف جمته السكينية جلده وحلقه

313 -

بردى ساق وخادم. . .

ص: 48

ذكر أبو بكر بن العربي في رحلته أنه دخل بدمشق بيوت بعض الأكابر فرأى فيه النهر جارياً إلى موضع جلوسهم ثم يعود من ناحية أخرى. قال أبو بكر: فلم أفهم معنى ذلك حتى جاءت موائد الطعام في النهر المقبل إلينا، فأخذها الخدم ووضعوها بين أيدينا، فلما فرغنا ألقى الخدم الأواني وما معها في النهر الراجع فذهب بها الماء إلى ناحية الحريم من غير أن يقرب الخدم تلك الناحية. فعلمت السر، وإن هذا لعجيب

314 -

أشهى إليّ من الدنيا وزخرفها

علي بن الجهم:

لجلسةٌ مع أديبٍ في مذاكرة

أنفي به الهم أو أستجلب الطربا

أشهى إليَّ من الدنيا وزخرفها

وملئها فضة أو ملئها ذهبا

315 -

اللغة والدولة

في (الإحكام في أصول الأحكام) لابن حزم: إن اللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها، ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم، أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم، فإنما يقيد لغة الأمة وعلومها وأخبارها قوة دولتها ونشاط أهلها وفراغهم. وأما من تلفت دولتهم، وغلب عليهم عدوهم، واشتغلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم فمضمونٌ منهم موت الخواطر؛ وربما كان ذلك سبباً لذهاب لغتهم ونسيان أنسابهم وأخبارهم وبيود علومهم. هذا موجود بالمشاهدة ومعلوم بالعقل ضرورة

316 -

السلطان، الملك

في (طبقات الشافعية الكبرى للسبكي): مصطلح الدول أن السلطان من ملك إقليمين فصاعدا. فإن كان لا يملك إلا إقليماً واحداً سمي بالملك، وإن اقتصر على مدينة واحدة لا يسمى بالملك ولا بالسلطان بل بأمير البلد وصاحبها. ومن هذا يعرف خطأ كتاب زماننا حيث يسمون صاحب حماة سلطاناً، ولا ينبغي أن يسمى سلطاناً ولا ملكا لأن حكمه لا يعدوها، فكأنهم خرجوا عن المصطلح. ومن شرط السلطان ألا يكون فوق يده يد، ولا كذلك صاحب البلدة الواحدة، فإن السلطان يحكم عليه، وأما حكم السلطان على الملك وعدم حكمه فيختلف باختلاف القوة والضعف

ص: 49

317 -

بطل أندلسي

في (الإحاطة في أخبار غرناطة) لمحمد لسان الدين بن الخطيب: خرج إبراهيم بن محمد بن مفرج (همشك) متصيداً وفي صحبته قارعو أوتار الغناء في مائة من الفرسان، فما راعهم إلا خيل العدو هاجمة على غرة في مائتين من الفوارس. فقال: إذا كنتم أنتم لمائة وأنا لمائة فنحن قدرهم؛ ثم استدعى قدحاً من شرابه وصرف وجهه إلى المغني وقال: غن لي:

يتلقى الندى بوجه حياء

وصدور القنا بوجه وقاح

هكذا هكذا تكون المعالي

طرقُ الجدّ غير طرق المزاح

فغناه، واستقبل العدو وحمل عليه بنفسه وبأصحابه حملة رجل واحد، فاستولت على العدو الهزيمة، وأتى على معظمهم القتل، ورجع غانماً إلى بلده. ثم عاد للصيد في موضعه ذلك، وأطلق بازه على حجلة فأخذها، ورأى نصلا من نصال المعترك من بقايا الهزيمة فأخذه من التراب، وذبح الطائر، واستدعى الشراب، وأمر المغني فغناه بيت أبي الطيب:

تذكرتُ ما بين العذَيب وبارق

مجرَّ عوالينا ومَجرى السوابق

وصحبة قوم يذبحون قنيصهم

بفضلة ما قد كسّروا في المفارق

ص: 50

‌نكبة السيل في سورية

الفاجعة!

للأستاذ أمجد الطرابلسي

عجبٌ فعالُكَ يا غَمامْ!

أَفتكتَ في الشهرِ الحرامْ؟

يا ليت شعريَ! هل نَهِم

تَ فقمتَ تلتهم الصِّيام؟

أَعملتَ رأيكَ في الظلا

مِ، وبئس غدَّارُ الظلام!

ومكرتَ، والحُلُمُ الهَني

ءُ يُهدهدُ المُقَلَ النّيام

والغادةُ الفرحى تُقبِّ

لُ ثغرَها صُوَرُ الهيام

والطّفلُ عانقَ أمَّه

وغفا ودُنياهُ ابتسام

حتى الشَّبابُ الأهوجُ ال

مِصْخابُ أَسكره المنامْ

فغفا ومازالتْ تَرِ

نُّ برأسه ذِكَرُ الغرام

والشيخُ في محرابهِ

يبكي ويخشعُ في القِيام

يدعو لصبيتهِ الصّغا

رِ وهم على شُرَفِ الفِطام

يدعو لهمْ منْ لا يُخَيَّ

بُ مُرتجيهِ ولَا يُضام

يرجو ابتساماتِ الحيا

ةِ لهمْ وإدراكَ المَرام

ويذوبُ في صَلَواتِهِ

نَشوانَ من أسمى مُدام

وبَنوهُ قد رقدوا ورفَّ م

على مُهوِدِهُم السَّلام

فصَبَبْتَ وَبلَكَ ساخطاً

من دونِ ذنبٍ واجترام

ماذا نقِمتَ عليهمُ

فأذقتهم شرَّ انتقام؟

أرسلتَ صَوْبَكَ أيَّ بح

رٍ زاخرِ الأمواجِ طام

في الّليلِ يقتحِمُ الخدو

رَ وأهلَها أَيَّ اقتحام

ويُباغتُ الشَّملَ الجمي

عَ مُصَدِّعاً كلَّ التئام

هَبّوا يرومون النَّجا

ةَ، ولا نجاةَ ولا اعتصام

يَعلو نَحيبُهم فيُط

فِئه الدَّوِيّ والانهدام

يا لهفَ نفسيَ! ما الفِرا

رُ من القيامةِ إذْ تُقامْ؟

ص: 51

سيلٌ تَعوم بهِ العذا

ري والولائدُ والسَّوام

والأَيكُ والوُكُناتُ وال

هضْبُ المنيعةُ والرِّجام

لَقِفَ الحظائرَ والخِيا

مَ وأهلَ هاتيكَ الخيام

وسطا على الأكواخِ ينسِ

فُها ويجترفُ الحُطام

. . . وبدا الصّباحُ كما تخضَّ

بَ بالدّمِ القاني الحُسامْ

فإذا الدّيارُ مقابرٌ

يختالُ فيهنَّ الحِمامْ!!

يا ابن الحسينِ أَلا نفض

تَ صفيحَ قبرك والرَّغام

فرأيتَ كيفَ طغى العُبا

بُ وغالَ دُنيا في منام!

سِرْ والصِّحابَ تَرَ المنَا

زِلَ لا مُناخَ ولا مُقامْ

وَتَرَ الملاعبَ والحدَا

ئقَ لا اتّساقَ ولا انتظام

لا عَنْ ميامِنكم (ضُمَيْ

رُ) ولا وَراَء ولا أَمام

مُحِيَتْ من الدنيا كما

تمحوا السّطورَ يدُ الغُلام

وطوتْ معالمَها السُّيو

لُ فلا رسومَ ولا رِمام

قَلَمونُ! يا فرحَ الشَّام!

وفرحةُ الدّنيا الشّام

يا مرتعَ الآرامِ والأ

حلامِ والحَدَقِ السِّقام

يا مهبطَ الشّعرِ الحَلا

لِ ومَمْرَحَ الحُسْنِ الحَرام

هل سامعٌ فيكِ السَّلا

مَ، إذا أَطَلتُ لكِ السَّلام؟!

كلُّ الجراحاتِ التي

نَزَفتك في قلبي دَوَام

يا جَنَّةَ الأطيارِ والأ

لحانِ! ما فعلَ الحمَامْ؟

أتُراه قد هَجَرَ الخما

ئِلَ والجداولَ أم أَقام

لما مضى بِوُكورِهِ

وبزُغْبِهِ الموتُ الزُّؤام

يا مسطعَ الأنوارِ هل

أذوَى مباسِمَكَ السِّقام؟

هل شفَّ (يَبْرودَ) الشَّحو

بُ ولفَّ (جَيْرودَ) القَتام؟

كيفَ الحدائقُ والكرو

مُ سُلِكْنَ في أَبهى نظام؟

كيف العشيَّاتُ العِذا

بُ وكيف في الرَّوضِ الزِّحامْ

ص: 52

من كلِّ هيفاءِ القَوا

مِ وكلّ عَشَّاقِ القَوام

لهفي عليكَ وللسُّيو

لِ على جوانبكَ النظامْ

كالفلكِ في لُجَجِ البحا

رِ السُّودِ أعياها الخصام

لا الموجُ يَرْحَمُها ولا الإِ

عْصارُ يُسْلِمُها الزِّمام

فتقطَّعَتْ عُقَدُ الشِّرا

عِ وشَقَّ جُؤجُؤَها الصِّدام

وتناثرت أشلاؤُها

حيناً. . . وغَيَّبَها الظَّلامْ!

(دمشق)

أمجد الطرابلسي

ص: 53

‌في مستهل الشتاء

زهرة تتغنى

للأديب أحمد فتحي مرسي

الرَّوْضُ مَعْقُودُ اللَّهَا هَاجِدٌ

قَدْ صَوَّحَ النَّاضِرُ مِنْ زَهْرِهْ

والرِّيحُ فِي الآفَاقِ عَصَّافَةٌ

وَالطَّيْرُ قَدْ عاَدَ إلى وَكْرِهْ

يَا وَيْلتَا! ماذا أَصَابَ الضُّحَى

حَتَى غَدَا كالَّليْلِ فِي قُرِّهْ

لَا الرَّوْضُ مَمْطُورُ الثَّرَى زَاهِرٌ

كَلاَّ. . وَلَا الأَمْوَاهُ فِي نَهْرِهْ

وَالغُصْنُ ذَاوٍ فِي الرُّبَى ذَابِلٌ

قَدْ صَلُبَ الريَّانُ مِنْ خَصْرِهْ

يَلُوحُ كالْمَذْعُورِ فِي رَجْفِهِ

مُنْتَفِضَ الأَطْرَافِ مِنْ ذُعْرِهْ

يَنْفُضُ فِي الرَّوْضِ وُرَيْقَاتِهِ

والذَّاوِيَ اليَابِسَ مِنْ نَوْرِهْ

كَطَائِرٍ يَنْفُضُ عَنْ رِيشِهِ

مَا خَلَّفَ الوَابِلُ مِنْ قَطْرِهْ

أُنَقِّلُ الطَّرْفَ فَمَا إنْ أَرَى

إِلاَّ هَشِيمَ الرَّوْضِ فِي قَفْرِهْ

هذِي الرِّيَاحُ النُّكْبُ مِنْ عَصْفِهَا

قَدْ بِتُّ كالثَّامِلِ فِي سُكْرِهْ

وَذَا نَسِيمُ الَّليْلِ فِي هَبِّهُ

يَهْصِرُ بِي مَا شَاَء مِنْ هَصْرِهْ

قَدْ خَدَّشَ الخَدَّ بأَنْفَاسِهِ

وَأطْفَأَ المُؤتجَّ مِنْ جَمْرِهْ

فَي بَسْمَةِ الصُّبْح وَفِي صَمْتِهِ

وَفِي البَهِيِّ النَّضْرِ مِنْ فَجْرِهْ

وُلِدْتُ فِي الأَفْنَانِ مُخْضَلَّةً

فَضَمَّنِي الغُصْنُ إلى صَدْرِهْ

رَخِيَّةُ الصَفْحَةِ لَوْ مَسَّها

ثَغْرُ امْرِئٍ ذَابَتْ عَلَى ثَغْرِهْ

أَجْرَى عَلَى خَدِّي النَّدَى قَطْرَهُ

وَأَسْبَلَ المُنْهَلَّ مِنْ خَمْرِهْ

مَنْزِلَتِي فِي الرَّوْضِ مِنْ زَهْرِهِ

مَنْزِلَةُ الْوُسْطَى عَلَى نَحْرِهْ

تُخَايِلُ الأَفْنَانُ بِي فِي الرُّبَى

وَيَنْثَنِي غُضْنِيَ مِنْ فَخْرِهْ

حَتَّى إذا أَرْخَى الدُّجَى سُجْفَهُ

وَلَفَّ هَذا الكَوْنَ فِي سِتْرِهْ

فَجِسْمِيَ الذَّاوِي عَلَى غُصْنِهِ

لَا تَأْتَلِي الأَنْسَامُ فِي نَثْرِهْ

وَشِيكةُ المَوْتِ وَلَمْ أَنْتَهِلً

مِنْ رَوْعَةِ الكَوْنِ وَمِنْ سِحْرِهْ

ماذا عَلَى الأَقْدَارِ لَوْ صَابَرَتْ

قَدْ يَجْتنِي الصَّابِرُ مِنْ صَبْرِهْ

ص: 54

كأَنَّنِي حُلْمٌ لَطِيفُ الرُّؤَى

قَدْ طَافَ بِالوَسْنَانِ فِي فِكْرِهْ

حَتَّى إذا وَلَّتْ سِنَاتُ الكَرَى

لَمْ يَبْقَ فِي القَلْبِ سِوَى ذِكْرِهْ

أَيْنَ الرَّبِيعٌ الطَّلْقُ فِي حُسْنِهِ

أَيْنَ الشَّذَا الْفَوَّاحُ مِنْ عِطْرِهْ

أَيْنَ السَّنَا اللَّمَاحُ مِنْ نُورِهِ

أَيْنَ الفَمُ الوَضَّاحُ مِنْ بِشْرِهْ

كَمْ عِنْدَهُ مِنْ رَائِعٍ خَالِدٍ

يَعْيَا اللِّسَانُ الطَّلْقُ فِي حَصْرِهْ

قَدْ مَرَّ بالرَّوْضِ قَرِيبَ المَدَى

كَخُطْوَةِ العَجْلَانِ فِي مَرِّهْ

وَشَيَّعَ المُبْتَلَّ مِنْ غُصْنِهِ

وَوَدَّعَ المُخْضَلَّ مِنْ زَهْرِهْ

وّآذَنَ الدَّهْرَ بِهِجْرَانِهِ

فَرَوَّعَ الأَفْنَانَ مِنْ هَجْرِهْ

وَالدَّهْرُ أَطْوَارٌ تَقَضَّى بِنَا

مَا مَرَّ لا يَرْجِعُ مِنْ طَوْرِهْ

وَذَلِكَ العَيْشُ بِهِ مِعْبَرٌ

تَفَاوَتُ الأَعْمَارُ فِي عَبْرِهْ

الصَّفْوُ وَالكَدْرُ سَوَاءٌ بِهِ

وَعُسْرُهُ أَهْوَنُ مِنْ يُسْرِهْ

وَشَرُّهُ ماضٍ إلى خَيْرِهِ

وَخَيْرُهُ غَادٍ عَلَى شَرِّهْ

كَمْ فِي حَياَتِي عِظَةً لِلوَرَى

لَوْ نُبِّهَ الغِرُّ إلى أَمْرِهْ

كُفِّنْتُ فِي مَهْدِي ولمَّا أَزَلْ

ذَكِيَّةَ الأذْيَالِ مِنْ طُهْرِهْ

فَلَحْظَةٌ عُمْرِي. وَكَمْ يَشْتَكِي الْ

إنسان قُرْبَ المَوْتِ في عُمْرِهْ

شَكِيَّةُ الإنسان مَا تَنْتَهِي

وَإنْ يَعِشْ دَهْراً عَلَى دَهْرِهْ

مَا أَغْدَرَ المَوْتَ بأَعْمَارِنَا

وَأَغْفَلَ الإنسان عَنْ غَدْرِهْ

وَأَلعَبَ الجَدَّ بآمَالِنَا. . .

وَأَقْرَبَ المَولُودَ مِنْ قَبْرِهْ

(القاهرة)

(فتحي)

ص: 55

‌رسَالة العلم

الزنك كعنصر أساسي لنمو النبات

للأستاذ عبد الحليم منتصر

كان المعتقد إلى عهد قريب أن العناصر الأساسية لنمو النبات، أي التي لا يستطيع أن يتابع نموه بحالة طبيعية بدونها هي الكربون والأيدروجين والأكسجين والأزوت والكبريت والفسفور ثم الحديد والبوتاس والمغنسيوم والكلسيوم، ولم يجد العلماء كبير عناء في إثبات أهمية أي عنصر من هذه العناصر، ولم يصادفوا أية مشقة في دراسة الدور الذي يقوم به كل منها في بناء النبات، بل لقد عرفوا تفصيل كل ذلك بصورة قاطعة لم يعد الشك يتطرق إليها. فالثلاثة الأول تكون الكربوايدراتات التي توجد بالنبات، ومنها مع الثلاثة التالية، يتكون البروتبلازم ومركباته. أما العناصر الأربعة الأخرى فهي ضرورية جداً للنبات على رغم عدم دخولها في تركيب مادته. فالحديد والمغنيسيوم ضروريان جداً لتكوين مادة الخضير التي بدونها لا يستطيع النبات الأخضر تحضير مواد غذائه، كما أنه لا يستطيع تكوين النشاء إذا انعدم البوتاس من عناصر تغذيته، كذلك يدخل الكلسيوم في تكوين هيكل النبات الداخلي، أي في جُدُر خلاياه، كما أنه لازم ليكون انقسام الخلايا في الأجزاء النشطة عادياً

وليس ثمة شك في أساسية هذه العناصر التي يأخذها النبات - ماعدا الكربون والأكسجين للتنفس - من التربة. والقول بأن هذه العناصر أساسية لا يقصد منه أن غيرها لا لزوم له، بل على النقيض من ذلك قد يوجد بالنبات عشرات من العناصر الأخرى لها بعض الأثر في نمو النبات وأزهاره وأثماره، ولكنه لا يكون لانعدامها هذا الأثر الذي نلاحظه عند حذف أي عنصر من هذه العناصر سالفة الذكر. ويمكن القول بأن هذه العناصر هي الأساسية إجمالاً أو إطلاقاً، أما غيرها فقد يكون لازماً لبعض النباتات دون البعض الآخر، ولكن فقدها بالكلية ليس قوي الأثر على حياة النبات أي ليس مهلكا له

على أن هذا الثبت من العناصر قد أخذ يتزايد على مر الأيام نتيجة لنشاط العلماء وتجاريبهم الدقيقة، فقد قال بعضهم بضرورة عنصر البورن، وأثره البالغ في تحسين المحصول وحالة البذور جودة ومناعة. . . كذلك قيل عن أهمية المنجنيز لتنشيط الخمائر،

ص: 56

والنحاس ودوره في التفاعلات الكيميائية بالنبات، والكلور وأثره في زيادة خضرار النبات وقلة نتحه، كذلك الفلور واليود وأثرهما في زيادة نمو النبات. وعن السليكون وأهميته في تمثيل حامض الفسفوريك في النبات، والصوديوم وفائدته في حالة قلة البوتاسيوم. وغير هذه العناصر كثير مما تحدث عنه العلماء نتيجة لتجاربهم وملاحظاتهم مما جعل بعضهم يضيفها إلى قائمة العناصر الأساسية، وإن كانوا لا يعنون في أغلب الأحوال أن تكون أساسية إطلاقاً، أي أنها لازمة لكل أنواع النبات، أو أن فقدها يسبب هلاك النبات. وسترى فيما نعرض في هذا الحديث مكان الزنك بين هذه العناصر المختلفة التي يحتاجها النبات، والآثار التي تترتب على فقده، والأخطار التي يتعرض لها النبات عند حرمانه منه، وذلك ما جعل موضوع أساسيته محل البحث والدرس عند العلماء في الوقت الحاضر

ولقد كان (رولن) أول من لاحظ ضرورة وجود الزنك لنمو بعض الفطريات، وأثبت أنه في حالة عدم وجوده يضعف نمو الفطرة ويقل ازدهارها، وقال إنه حتى في حالة عدم إضافته يكون موجوداً مع مركبات العناصر الأخرى نظراً لعدم نقائها، ولعل ذلك هو السر في تجاهل شأن الزنك. وقد عضده في ذلك (جافييه) بتجارب أجراها على الفطرة (اسبرجلس) ثم أعاد (شتينبرج) تجارب (جافييه) محاولاً تنقية مركبات العناصر التي كان يغذى بها الفطرة من أي أثر للزنك، فوجد أن نموها قد تأثر كثيراً. على أن أحداً من هؤلاء لم يقطع بأن الزنك عنصر أساسي لنمو النبات. بل لقد افترضوا آنئذ أن الزنك ما هو إلا حافز في حالة الفطرة. ولكن (رولن) أبدى رأيه في أساسية الزنك للنباتات الراقية، بيد أنه كان متحفظاً، فلم يقطع بذلك بل تركه للزمن يحققه ويمحصه

وقد أثبت كثير من العلماء تأثر النبات بكمية الزنك التي تضاف إليه، ومن أخص هؤلاء (ميز) و (سومر) و (ليبمان) الذين كانت تجاربهم مضرب المثل في الدقة والعناية والبعد عن مظان الضعف أو مواطن التشكيك، كاختبار الزجاج الذي تجري به التجارب للتأكد من خلوه من الزنك، كذلك خلو الماء الذي تروى به النباتات أو الغبار الذي يعلو المزرعة، أو المركبات الكيميائية التي تستعمل في المحاليل الغذائية، مثل هذه التجارب كان من أهم نتائجها إثبات ضرورة الزنك لنمو النباتات

وقد أثبت (هامس) في سنة 1932 فائدة الزنك لأشجار الليمون كما أوضح (هجلاند) في

ص: 57

سنة 1936 أعراض المرض الذي ينتاب كثيراً من النباتات عند حرمانها قطعياً من الزنك. كما أثبت في كثير من الحالات تحسن المحصول وزيادة النمو في الحقل بعيداً عن تجارب المعمل، وذلك بإضافة الزنك للتربة فيكون له هذا الأثر البارع من اطراد في النمو وازدياد في الإيناع إلى شفاء من أعراض المرض، فإضافة بضعة كيلو جرامات من كبريتات الزنك للفدان قمينة بزيادة محاصيل كثير من الأنواع النباتية كالقمح والشوفان والذرة والترمس والبسلة وكثير من أنواع الفاكهة. وقد أثبت (موري) و (كامب) وغيرهما أن إضافة مركبات الزنك للتربة تفيد كثيراً في حالات تبقع الأوراق وتجعدها وجفاف الأفرع، وغير ذلك من الأعراض التي تصيب النبات نتيجة حرمانه من الزنك. كان من نتائج تقدم هذه البحوث أن استطاع علماء النبات توفير ملايين من الجنيهات كانت تضيع هباء في أمريكا نتيجة لما يصيب الموالح والتفاح والجوز والعنب من التبقع والاصفرار والانكماش مما يؤثر تأثيراً بليغاً في المحصول. وقد ظهر أن السبب هو نقص الزنك، وأن العلاج هو الزنك دون سواه، ولهذا سمي المرض نقص الزنك أو الحرمان من الزنك

ما هي أعراض هذا المرض، وكيف نشخصه بدقة، وما هي طرائق علاجه بمركبات الزنك؟ سيكون ذلك موضوع حديثنا في عدد الرسالة المقبل.

عبد الحليم منتصر

ص: 58

‌القَصصُ

أقصوصة من اثيل مانن

حب في روما

للأستاذ دريني خشبة

يخطئ من يحسب أن الحب وقف على جماعة الأرستقراطيين من الناس، وخاصة الحب الرفيع السامي، الذي هو ينبوع آدميتنا والذي تبتعثه السماء في قلوبنا ليصهرها بآلامه الحلوة، وأشجانه الجميلة؛ وليفجر منها دموع الرحمة والمودة والحنان. . . وقد ينمو الحب في كوخ من قش، كما ينمو في قصر، وقد يكون في الكوخ أصدق منه في البيت ذي العماد، وقد يكون في ركن منسي، أصفى منه في جنة فيحاء. . . وهكذا كان حب هذا الفتى ميشيل، الخادم الفقير في أحد فنادق روما

لله ما أقسى المقادير! لقد كان ميشيل، الفتى الإيطالي المرح، أحق بأن يكون شاعراً يودع روحه في قصائد رنانة، ينشدها ويتغنى بها، لا خادماً ينضد الوسائد، ويُعنى بالسُّرر، ويَنْفض السجاجيد. . . و. . . ينظف أحذية النازلين!! وكانت له أم لولاها ما اضطر لأن يعمل كي يكفلها، إذ مات عنها زوجها في السنوات الأولى من البناء بها. . . وكان يؤوب إليها آخر كل نهار بحبه لها، وحرصه على إسعادها، ثم بليرات قليلة تشفي السغب، وتضمن السَّتْر، وتقيم أَوَدَ الحياة. . .

وكان ميشيل يحب الموسيقى، ويغرم بالقصص الإيطالية، ويشغف بمآسي الحب، وكان يتمنى له وفق إلى أن يكون واحداً من أولئك الأبطال الذين يملأون الروايات بالدموع والآهات، وإن لم يعيشوا مع ذاك إلا في أدمغة مبتدعيهم من الكتاب والمؤلفين

وكانت تعمل معه في الفندق فتاة لم تكن في رأيه أول الأمر شيئاً مذكوراً، وإن يكن شعرها الذهبي يلفت نظره أحياناً، وساقاها الجميلتان اللتان لهما ظلال خفيفة من بنفسج الأبنين تثيران في قلبه (استلطافاً) لم يفكر مرة في أنه ينتج حباً أو يتأصل فيكون غراماً. . . لا. . . لم يفكر ميشيل مطلقاً في أن هذه الفتاة البائسة مثله، ستكون حلمه وأمنيته، وأنه من أجلها سيقضي أطول لياليه مسهداً كما يقضي الشعراء لياليهم في عوالم شاسعة من المنى والأحلام

ص: 59

وكان ميشيل ينقطع عن العمل نصف يوم عطلة في كل أسبوع وكانت الفتاة ماريا، من أجل ذلك ترهق بالعمل، وكان يرهقها أكثر، وجودها مع نادل آخر شرس الطباع، لئيم الخلق، يدعى فراري. . . كان يتعمد أن يترك لها كل عمل مجهد، على أن يستخف هو باليسير الأقل. . . وكان فراري ينقطع عن العمل أمسية واحدة كل أسبوع كما ينقطع ميشيل، وطالما كان يختار أمسيته في نفس اليوم الذي كان ينقطع فيه زميله، فكانت ماريا المسكينة توزع نفسها على جميع أنحاء الفندق، وكان بهو الطعام يتعبها أكثر من كل شيء، لاختلاف أمزجة الآكلين وكثرة طلباتهم، وضرورة مراعاة ترتيب النداءات، وإلا فالويل لماريا من هؤلاء (السياح) الإنجليز المتغطرسين الذين يغشون هذا الفندق دائما

وقد لحظ ذلك ميشيل، فكان يتعمد أن يبقى في أمسيته، دون أن يذهب لإجازته، ناسياً أن أمه العجوز الرؤوم المريضة المشفية على الموت، تنتظره ليسمر إليها، ويخفف عنها آلامها. . كان ميشيل ينسى هذا الواجب المقدس، ولكنه كان لا يلتفت إلى أن في عمله هذا تقصيراً، بل بالعكس من ذلك، كان يرى فيه إنسانية سامية، وعطفاً تحتمه عليه رجولته، على هذه الفتاة ذات الشعر الذهبي والساقين اللتين لهما ظلال جميلة من بنفسج الأبنين. . . ولم يفكر ميشيل مرة أنه فجر الحب ينبلج في قلبه، وأنها أنفاس الغرام العطرية تجذبه كالفراش إلى هذه الزهرة الحلوة الغضة. . . كلا. . . بل لم يفكر قط في أن أمه الرؤوم المريضة كانت أحوج إليه وإلى لحظات ينفقها عليها، من هذه الفتاة اللعوب الطروب ذات الفم الدقيق، ماريا التي تعمد ألا يغادر الفندق ليساعدها وليخفف عنها هذا العبء الهائل، من رفع الأطباق وجمع الأكواب، وتنضيد البهو، وتلميع الموائد. . . حتى لا يهان هذا الشعر الذهبي المغدودن الذي يرف كأنفاس الحور على صدرها الناهد وظهرها العاجي، وحتى لا ترهق الساقان الملفوفتان اللتان لهما هذا السحر الجميل المنعكس من بنفسج الأبنين!!

ولم تشكره ماريا قط، ولم تتعب تفكيرها في السبب الذي كان يصرف زميلها عن التمتع بإجازته القصيرة، وكانت كلما همت بعمل شاق من أعمال البهو، وأقبل هو مهرولا ليؤديه نيابة عنها أنغضت برأسها الذي يتخابث صغيراً في شفق الشعر الذهبي، ومضت لطيتها، تاركة لميشيل أن يقوم بكل عسير شاق من أعمال الصالة. . . ووقفت تعبث بدمية أو بباقة من الزهر، أو تصلح صورة أو تسقي أصيصاً. . . وكان الفتى مع ذاك يخالسها نظرات

ص: 60

كالودق يخرج من بين السحاب، وكان مع ذاك أيضاً لا يشعر بتعب ولا يناله إعياء. . . وكان يسعد سعادة لم يكن يعرفها كلما سمع صوت ماريا يرن في فضاء البهو الكبير، فيرن جرسه الفضي في جوانحه، ويوقظ فيها أمانيه لتي كان يتصورها لياليه الخاليات ولا يظفر بتحقيقها

وأخيراً عرف أنه الحب. . .

وكانت مفاجأة حلوة لروحه الصادية أن تروى أول ما تروى من هذه الكأس المترعة بمفاتن ماريا ذات الشعر الذهبي، والساقين الملفوفتين في بنفسج الأبنين. . . وكانت مفاجأة حلوة كذلك أن تتبرج الدنيا القبيحة هكذا فتصبح جميلة سافرة بسامة، بعد أن كانت عبوساً قمطريراً معتمة حين كان قلبه لا يعرف الحب. . . ويصبح كل ما حوله ضاحكاً يتأرج ويتبرج ويهتز كما تهتز الأعطاف بالبشر

ولكن ميشيل كان حيياً. . . وكان كلما هم بمحادثة ماريا عما يجيش من حبها في قلبه ارتبك وانعقد لسانه، والتوت الكلمات فكأنها من حديد لا يلين، وخفق قلبه وأزلزل، وهرب الدم من خديه، فينصرف حزيناً محسوراً. . . ولكن نظرة واحدة إلى شعر ماريا وساقيها كانت تعيد ابتهاجه، وترد صوابه، فيرضى بالصمت الذي لا يد له في غيره. . .

وظل حبه دفيناً في قلبه يشفه ويضنيه؛ وظل هو قانعاً راضياً بأن يكون في جوار ماريا دائماً. . . وفي ظلها الوارف أمسية من كل أسبوع؛ يحمل عنها أوزارها، ويقوم بكل ما يشفق عليها أن تؤديه من مشاق

وكأنما لحظ الخبيث فراري، الكهرباء التي تزلزل أركان ميشيل فأقسم ليكيدن له؛ وكان فراري فَتىً لَعَّاباً يجيد إلى درجة الخطورة إعمال عينيه وقسمات وجهه، ويتقن زخرفة الكلمات التي تقع عليها قلوب العذارى كما يقع الفراش في النيران. . . وكان هو الآخر يرى في ماريا غادة لم تخلق لهذا العناء، وكان يزن جمالها بعقله لا بقلبه. . . أي أنه كان يراها تصلح كزوجة نافعة تجلب اليسر والرخاء للرجل الذي يحظى بها، لأنها لو عملت في فندق آخر لحصلت على أضعاف ما تحصل عليه هنا. . . ولم لا؟ أليس لها هذا الشعر الذهبي الذي هو في نفسه كنز؟ أليس لها هذا الجسم الممشوق والقد المعتدل، والخطى الراقصة التي تلفت الأنظار وتكهرب القلوب؟! إذن لينافس فراري زميله ميشيل. . .

ص: 61

وليطلب من مديرة الفندق استبدال أمسيته التي يستريح فيها ليعمل مع ماريا حين يكون ميشيل في إجازته، وليظفر فراري بكل ما تصبو إليه نفسه، وليتهم ميشيل، وليلفق له التهم، ولتصدق المديرة الحمقاء ما يُتهم به الفتى البائس الذي قضى عليه سوء طالعه أن يعاشر هؤلاء اللئام وأن يأكل من أيديهم كفافه، في حين كان ينبغي أن يكون شاعراً أو أديباً يسمو بأدبه على الأدباء. . . لا على خدم الفنادق. . . مسكين ميشيل! لقد كدر عليه هذا الإبليس المقتدر الملفق صفو حبه المضمر الذي يلذه بقدر ما يشقى به. . . وأثاره ومزق قلبه ما رأى من العلائق بين ماري وبينه، ما لم يستطع هو أن يظفر بشيء منه برغم كده وتضحيته وحرصه على التقرب من الفتاة والتودد إليها

وأخذت الدنيا تسمج مرة ثانية في عين الفتى، وتكتسي سربالاً أسود اللون قاتماً. . . وعادت نفسه الأديبة الشاعرة تختلج بما تختلج به نفوس الشعراء البائسين. . . وعاد يوماً إلى داره فوجد أمه تعالج سكرات الموت. . . فلما رأته أشارت إلى صليبها وهي لا تقوى على حمله، فأدناه من فمها فقبلته، ونظرت إليه بعينين مغرورقتين، ثم تمتمت بكلمات هي من غير شك دعاء له؛ ثم لفظت آخر أنفاسها. . . فذعر ميشيل وانخلع قلبه وطفق يبكي ويُعول، وينظم ألحانه فيسرها في نفسه

ولما عاد إلى الفندق بعد ثلاثة أيام، كان يحدث نفسه - إذ هو منطلق في الطريق - أن ماريا لابد عاطفة عليه، معزيته أحسن العزاء وألطفه، جالسة إليه تواسيه وتذهب عنه الحزن. . . وكان يتصورها معه في بهو المطعم تلاطفه وتظهر له الألم من أجل وفاة أمه. . . وأنه مستطيع لابد أن يظهرها على حبه، وأن يتعرف لها بمكنون قلبه. . . وصمم على أن يكون جريئاً مقداماً هذه المرة وأن ينتهز الفرصة ليقهر هذا العذول: فراري، وأن ينحيه عن فتاته مهما كلفه ذلك، فإن لم تصخ له وتنصره عليه، فلينصرف عن هذه الدنيا المخادعة، ولْيَلُذ بأطراف الأرض يتبوأ منها حيث يشاء، فلن يعدم لقيمات تسد مسغبته، وقطرات من ماء تبل أواره. . . وهكذا تداعت هواجسه، وتسلسلت أفكاره؛ وكان كلما تمنى ألقى الشيطان في أمنيته، فذهب به مذاهب شتى. . . حتى إذا وصل إلى الفندق، وتسلم عمله، راح يتنسم ماريا ويتشمم عبيرها، ولكنه، وا أسفاه، لم يجد عندها شيئاً!! إنها سراب بقيعة!! لقد ذهبت ماريا. . . وذهب فراري. . . وذهبا معاً في يوم واحد، وفي لحظة

ص: 62

واحدة، ولسبب لم تستطع مديرة الفندق أن تذكره لميشيل، لأنها لم تستطع أن تعرفه!!

وضاقت عليه الأرض بما رحبت؛ وكيف لا تضيق وقد فقد أمه وفقد هواه في أسبوع واحد؟ لقد فقد القلب الذي كان يعفو والقلب الذي كان لا يعرف. . . فقد في الأول المحبة والظل الوارف، والتسامح والرضى؛ وفقد في الثاني هذا الأمل الذي حبب إليه الحياة، وجعلها حلوة مشرقة بسامة، لأنها تضم ماريا. . . ماريا ذات الشعر الذهبي الهفهاف، والوجه المتألق المشرق، والساقين ذاتي الظلال من بنفسج الأبنين؟ أين ذهبت ماريا يا ترى؟ أين ذهب بها الشيطان فراري إن كانت قد ولت معه؟ ولماذا ذهبا معاً؟ لقد كانت تضيق به، وتشكو منه، ولا تكاد تستنشق هواء يشركها فيه؟ فأين ذهبا معاً؟ ولم ذهبا هكذا من دون أن يعلم أحد؟

وانطلق ميشيل يطوي الطريق السادرة النائمة في ظلال البلوط والصنوبر، المؤدية إلى ضاحية تيفولي، وهو ينظر بعينين موجعتين محزونتين إلى هذه الشمس الرومانية الغاربة، التي تتوهج كالجمرة الكبيرة في هشيم الطبيعة، وينظم في أعماقه ألحانه، ويستمع إلى خرير الجداول مختلطاً برنين الناقوس الكبير الذي يحيي بدقاته السماء، ويسألها للناس الرحمة. . . ولقد بدا له أن يعرج إلى هذا البيت المنيف من بيوت الله فيصلي له، ويسجد ويخبت، لعل روح ماريا تكون معه فتسجد هي الأخرى، وترق له، وتكفر عما أعرضت عنه. . . بيد أنه مضى في طريقه لا يلوي على شيء، لأن هذه فكرة واحدة من آلاف الفِكَر التي كانت لا تفتأ تطيف برأسه وهو لا يعي

واشتد خبَله، وظمئت روحه إلى ماريا ظمأ شديداً، وصار يلتمس لها المعاذير من هذا النكران الذي ما تعمدته ولا قصدت إليه لأنها لم تكن تدري ما يضمره لها من هيام في سويدائه، وظل يهتف باسمها في نومه كما يتغناه في يقظته، لكنه كان يتغنى به كما يتغنى الصوفي المجذوب أسراره. . . وهو لا يدري ما يقول!! وجلس مرة يقلب صحائف مجلة إنجليزية فوقع بصره على صورة ماريا. . . ماريا بعينها!؟ يا عجبا! ومن أين لماريا هذا الصيت البعيد والذكر المنتشر؟ إنها كانت مثله لا تعرف كلمة إنجليزية واحدة، وهذه مجلة للآداب والمسرح، وليس معقولاً أيضاً أن تكون ماريا قد التحقت بالمسرح الإنجليزي نجمة عظيمة من أنجمه، وليس معقولاً أيضاً أن تكون قد أصبحت في أيام معدودات أديبة واسعة

ص: 63

الإلمام بأدب هذه اللغة الإنجليزية التي كان يحسبها ميشيل - لصعوبتها في نظره - من لغات الشياطين! فما ماريا وهذه المجلة الإنجليزية يا ترى؟ وما لها هي وما للأدب الإنجليزي والمسرح الإنجليزي؟! ونظر أسف الصورة ليقرأ اسم صاحبتها. . . ولشد ما كانت دهشته عظيمة هائلة إذ وجد اسم صاحبة الصورة (إيزابل هايس)!! المؤلفة الكبيرة والقصصية البارعة، التي طالما قرأ لها روائع وآيات مترجمة إلى لغته الإيطالية؟!

لا بأس. . . إنه لم يحصل مرة على صورة ماريا، وهاهي ذي صورة إيزابل لا تفترق عنها في شيء. . . فليحتفظ إذن بها، وليجعلها بين شموع وضاءة تلتهب بالقبس المقدس الذي يتأجج ملء قلبه. . . وليصلَّ لها كل مساء وحين يصبح. . . وليذكر في فمها الرقيق الصغير تلك الأقحوانة التي كانت تنفرج عنها شفتا حبيبته. . . ولتباركه الصورة المستعارة بكلمات صامتة لا تبين، فقد كانت ماريا لا تبين كذلك. . . وليرَ هو في وجهها الوضاء جمالاً جديداً كل يوم جديد، وليعش على الأماني يبهرجها لنفسه، ولا بأس من أن يضع الصورة كلما نام تحرسه عند رأسه. . . وبالاختصار، لتكن حياته أحلاماً في أحلام. . .

غير أن الفندق صار شيئاَ كريهاً لا يطاق، لأن ماريا لم تعد ترسل في أجوائه أنفاسها. . . بيد أنه مع ذاك جميل محبب لأن في كل ركن من أركانه ذكرى لماريا تغذي أحلام ميشيل، وترسل دموعه كلما جفت؛ وهو مع ذاك أيضاً هيكل حبه الأول الذي استيقظ فيه قلبه من سبات العدم فخفق بنعمة الهوى. . . لهذه المتناقضات سيقيم ميشيل فيه. . . وليكن رئيس الخدم بعد شهر أو شهرين، وليتضاعف راتبه، وليشتر بجانب كبير منه كثيراً من قصص إيزابل هايس التي لم يقرأها، لأنه أصبح يرى في آثار هذه الكاتبة الإنجليزية روح ماريا. . . . وليحاول أن يتعلم الإنجليزية ليقرأ المؤلفة في لغتها، وليفشل في هذه المحاولة، فقد أوري إحساساً شريفاً نحو صورة لسيدة تشبه ماريا، وكفى بذلك برهاناً على وفائه لذكرى فتاة لم تعرف قط أنه يهواها. . .

وأقبل فوج من (السياح) عظيم من أغنياء الإنجليز فنزلوا في هذا الفندق، وأعجبوا بحديقته إعجاباً شديداً، فقد كانت ظلال الأبنين البنفسجية تعكس على نضرتها وخضرتها ألواناً شعرية تصول فيها الأرواح وتجول

وحان موعد الغداء فانتشر النازلون في بهو المطعم الوردي، وجلسوا إلى موائدهم

ص: 64

مسرورين فرحين، وراح النُّدل بينهم وجاءوا، هذا يحمل الأطباق الحافلة، وذاك يحمل الماء المثلوج، وثالث الكامخ الإيطالي اللذيذ. . . وأشرف ميشيل على الجميع بملابسه الناصعة، ووجهه الحزين الباسم، فطفق يأمر هذا ويشير إلى ذاك، ويدعو هذه ويحث تلك، والسياح مقبلون على آكالهم وأشرباتهم آخذون في سمر هامس، وكلام رقيق. . . شأن السادة الإنجليز في كل فج. . .

ثم وقف ميشيل أمام حسناء إنجليزية فجأة ولم يرم!

ما له وقف هكذا كالتمثال ويداه مقبوضتان! إنه لا ينبس ولا يتحرك! بل سمر عينيه في السيدة المشغولة عنه بطعامها وشرابها، ولما يأبه للنداءات والأجراس التي تهتف به من كل صوب!. . . ودهش النازلون فجعلوا يحدجونه وإن لم يشتغلوا به عن طعامهم ثم استبطأته المديرة فانطلقت إليه كي ترى. . . فلما وجدته يقف عن كثب قريباً من السيدة الإنجليزية لكزته لكزة هينة لينة، لكنه لم ينتبه. . . فنظرت المديرة إلى السيدة السائحة نظرات سريعة فعرفت كل شيء

- أستميحك عذراً يا سيدتي فهذا النادل ميشيل أديب مشغوف بك، يقرأك ويكب على قراءتك، وليست لك قصة أو درامة منقولة إلى الإيطالية إلى وقد اقتناها. . . والأعجب من كل ذلك أنه اقتنى صورتك من إحدى المجلات التي تكتبين فيها، ووضعها في إطار ثمين، وأولاها من عنايته ما لم يول حياته الخاصة! أندريا! أندريا!

وأقبل الخادم أندريا فقالت له المديرة:

- انطلق إلى غرفة ميشيل فأحضر صورة السيدة إيزابل هايس!

ونظرت السيدة الأديبة إلى صورتها فدهشت لاحتفاظ النادل الإيطالي بها، وشاع فيها برغم طبعها الإنجليزي المعروف إحساس بالكبرياء والزهو. . . حتى إذا فرغت من طعامها هتفت بميشيل وسمحت له بالجلوس إليها يكلمها وتكلمه. . وكانت تجيد الإيطالية فكان الحديث بينهما جميلاً جذاباً ذا شجون. . .

ومما سحر ميشيل أنه سمع من فم الأديبة الإنجليزية صوت ماريا، ورأى فوق رأسها سلوكا هفهافة من الذهب تشبه شعر حبيبته، ووجد الجسم السمهري الممشوق هو هو جسم صاحبته وقوامها. . ولم يكن باقياً إلا أن تكون الأديبة إيطالية. . ونادلة. . لتكون ماريا. .

ص: 65

وسكنت إيزابل في الطابق العلوي في الغرفة الأخيرة من البهو الكبير. . . واستدعت المديرة فأوصتها ألا يرتفع للخدم ضجيج ولا لغط لأنها اختارت هذه الغرفة لتخلو إلى نفسها فتكتب ما هو مطلوب منها من القصص. . . وطمأنتها المديرة. . . وذهبت

وأقبل فوج آخر من السياح، فنهضت المديرة تدبر له الغرف اللازمة. . . وكانت قريباً من غرفة إيزابل غرفة تقوم للبهو مقام مخزن. . . فاستدعت ميشيل وخادمة أخرى لتساعده في نقل الصناديق والأمتعة المحفوظة بها. . . ثم أمرتهما أن يلزما السكينة والصمت، وألا يقطعا على النازلة في الغرفة رقم 17 هدوءها. . . (لأنها تكتب لك قصة رائعة يا ميشيل!)

وامتثل الخادمان، وأخذا يحملان ما بالغرفة. . . ولم يبق إلا هذا الصندوق الثقيل الذي لا يعرفان ماذا كان بداخله. . . فلما أخرجاه من الغرفة، وشرعا يحملانه في البهو. انفلت من يد الخامة فهوى إلى الأرض، وانتثر ما بداخله من أطباق وزجاج، فصار هشيماً، وأحدث في البهو صوتاً مزعجاً كأنما هوى الفندق كله وصار أنقاضاً على أنقاض. . . وأقبلت المديرة ترغي وتزبد وتصخب، وتلعن وتسب. . . وبرزت إيزابل كالمجنونة لأن كل أفكارها طارت كالحمام من برج رأسها. . . - كما عبرت هي - واجتمع السياح والخدم يشهدون ويتسلون بدافع الفضول. . . ثم التفتت المديرة إلى ميشيل، وهي تنظر في الوقت نفسه إلى إيزابل وقالت له:(أما أنت أيها المشئوم فمفصول من عملك، ولا حاجة للفندق بك!)

وغضب الفتى وإن لم يتكلم. . . وقبل أن يذهب لشأنه هتفت به الأديبة الإنجليزية وواسته بكلمة، ثم صافحته، ودست في يده ورقة مالية كبيرة. . . واعتذرت مع ذاك إليه، لأنها كانت سبب ما لحق به من أذى. . .

ولم يذهب ميشيل البائس ليأخذ متاعه ويمضي. . . بل انطلق كالمجنون يذرع طرقات روما العتيدة، حتى كان عند تخومها. . . وهو ما يزال قابضاً على الورقة المالية، ولا يدري ما هي؟! ثم نظر في البطاح القريبة فرأى ضاحية تيفولي ببلوطها الرائع وحورها الجميل، وشجر السرو المعجب البارز في جنباتها. . . فانطلق في طريقه إليها. . . حتى إذا بلغها، كان قد نال منه الجهد، وأحس بتعب شديد. . . ولم يكن ثمة مكان يستريح به إلى

ص: 66

هذه الفنادق الهائلة التي تشتهر بها هذه الضاحية. . . فلم يبال. . . ودخل أول واحد منها، ثم انحط على كرسي كبير عند مائدة، وأسند رأسه وراح يحلم بماريا. . . وبأيام ماريا. . . ويسكب دموعاً حارة. . .

له الله! كم ألف فكرة طافت برأسه الثائر وقلبه المشبوب!!

ثم أقبلت نادلة فهمست به وهو في سكراته: ماذا يطلب. . . بيد أنه كان غارقاً في هواجسه وأحلامه، فلم ينظر إلى الفتاة. . . ومدت هي يدها الصغيرة اللينة توقظه. . . أو تنبهه. . . فرفع رأسه قليلاً. . . لكنه أحسن كأنما الدنيا تدور به، وكأنما الأرض تسوخ تحت قدميه. . . وصرخ يقول:

- ماريا. . . أنت هنا. . .؟

وانهمرت دموع الفتى المسكين تغسل خديه الأشحبين. . . وقالت ماريا تجيبه، وكأنما حُلّت عقدة السحر. . . (أجل يا ميشيل أنا. . . هنا! فمن جاء بك؟)

- لقد طردوني يا ماريا. . . فذهب قلبي يبحث عنك حتى اهتدى إليك. . .

- شكراً للمقادير يا عزيزي. . . ولكن. . . أما تزال تحبني؟

- وكيف عرفت يا ماريا؟

- لقد كنت أحسبك تعبث بي. . . وهذا ما جعلني أفر مع فراري غليظ الكبد، وأتزوجه في نابلي. . . نابلي! آه لهذه البلدة المتوحشة!!

- أنتِ؟ تزوجت من فراري. . .؟

- أجل. . . ولكنه كان زواجاً منحوساً. . . لقد عشت معه ثلاثة أشهر، كانت نكداً كلها. . . والحمد لله. . . لقد قتل في شجار نشب بينه وبين عصبة من رعاع نابلي، فأراحني الله منه. . .

- إذن أنت خالصة الآن لي؟!

-. . .؟. . .

- إذن هلمي يا ماريا. . . هلمي. . .

- أهذه ورقتك؟ ماذا؟ ورقة مالية كبيرة. . . بخمسين ليرة؟!

- لا. . . إنها ليست لي، ولكنها لسيدة إنجليزية تصدقت بها علي. . .

ص: 67

واستقالت ماريا من فورها. . . وانطلقت مع ميشيل إلى روما. . . وقوبلا في الفندق مقابلة ثائرةً صخابة. . . ولقيتها المديرة بالترحاب، وبالغت في الاعتذار لميشيل، لأنها علمت أنه لم يتسبب في تهشيم الصندوق. . . ولكن الفتى ازور عنها، وسأل الكاتب ظرفاً كبيراً من الورق وضع فيها الورقة المالية. . . وصعد إلى الطابق العلوي فاستأذن على إيزابل هايس الأديبة الإنجليزية فأذنت له. . . ولم يجلس، بل قدم إليها الظرف بما فيه. . . وانطلق شاكراً

وحمل متاعه. . . وصحبته ماريا إلى بيته القديم الذي لم يدخله مذ ماتت أمه. . . وهناك، طفق الحبيبان ينفضان غبار الموت والفقر والذكريات المشجية عن الأثاث القديم. . . وكشف في صندوق أمه عن فضل قليل من المال كان حسْبه للعقد على ماريا، ولحياة ثلاثة أشهر كانت كلها عسلاً. . . وكتب خلالها قصته. . . وباعها بمبلغ كبير من المال. . .

وعاش في ظل ماريا. . . من أنبغ الأدباء الإيطاليين

(ملخصة)

دريني خشبة

ص: 68

‌البَريدُ الأدَبيّ

الأستاذ زيجفريد وأثر العلوم السياسية في تكوين الأمم

ألقى الأستاذ اندريه زيجفريد الأستاذ بالكوليج دي فرانس ونزيل مصر الآن في كلية الآداب بالجامعة المصرية محاضرة شائقة عن العلوم السياسية وأثرها في تكوين الأمم والحكومات؛ ومن رأي الأستاذ زيجفريد أن العلوم السياسية من العناصر الضرورية لتكوين الحكومات والرأي العام في الأمم الديموقراطية، وأن الأداة الحكومية يجب أن ترتكز على عناصر مثقفة من الناحية السياسية لتستطيع القيام بمهمتها؛ أما رجال السياسة فيرى الأستاذ زيجفريد أنه ليس من الضروري أن يلموا بكثير من التفاصيل الإدارية والفنية ليتولوا مهام القيادة والحكم، وليس من السهل أن يتعلموها، وللسياسي العظيم شخصية ومواهب خاصة تغنيه عن معرفتها. ففي السياسة يجب أن يكون الإنسان شخصاً ما. أما في الإدارة فيجب أن يكون الإنسان شيئاً ما

كان اللورد كيرزون نائب الملك في الهند يقول: إن الحاكم يحكم بشخصيته. بيد أن هنالك فريقاً من الساسة يجمع بين الصفتين أعني المزايا السياسية والمزايا الإدارية، ومن هؤلاء نابوليون وثيير وبسمارك وكافور وموسوليني؛ وهنالك أيضاً بعض الساسة الذين تعوزهم الصفات الإدارية والفنية حكموا بأعظم قسط من النجاح، ومن هؤلاء لويد جورج، وارستيد بريان

على أنه إذا كان الرجل العبقري يستطيع الاستغناء عن هذه التفاصيل فإن الحكومات لا تستطيع الاستغناء عنها؛ وتتفاوت كفاية الحكومات في الحكم بقدر ما تملكه من المزايا الإدارية والفنية؛ والحكومات القوية العظيمة هي التي تتمتع بأعظم قدر من هذه المزايا؛ ودراسة العلوم السياسية هي أول عنصر يمهد للتمتع بها

وبهذه المناسبة نذكر أن الأستاذ زيجفريد، فضلاً عن كونه أستاذاً بالكوليج دي فرانس، عضو بالمجمع العلمي الفرنسي؛ وله عدة كتب هامة في الاقتصاد السياسي والاقتصاد الاجتماعي؛ ومن أشهر كتبه:(الولايات المتحدة اليوم): ' ' (وأمريكا اللاتينية) ' (والأزمة البريطانية في القرن العشرين) وغيرها وهو يعد الآن مؤلفاً من هذا النوع عن مركز فرنسا في البحر الأبيض المتوسط ويعنى أثناء دراسته بمصر بملاحظة أثر

ص: 69

مدنية البحر الأبيض في وادي النيل

دراسة علمية لتاريخ العراق الحديث

صدر أخيراً كتاب بالإنكليزية عن العراق يعتبر من خير المراجع التي صدرت عن العراق الحديث؛ وعنوان هذا المؤلف الجديد هو: (العراق: دراسة لتطوره السياسي) ومؤلفه مؤرخ ومستشرق أمريكي هو الأستاذ ب. و. إيرلاند والكتاب عبارة عن دراسة سياسية اجتماعية دقيقة لتاريخ العراق وتطوراته الحديثة حتى عصر الاستقلال. ويبدأ المؤلف دراسته منذ ظهور النفوذ البريطاني في العراق لأول مرة، حيث ظهرت جمعية الهند الشرقية البريطانية في القرن الثامن عشر ورأت في العراق مركزاً هاماً للتجارة الهندية، واضطرت للمحافظة على مصالحها التجارية أن تقوم من آن لآخر بحملات بحرية تأديبية ضد عرب السواحل

ويستعرض المؤلف تدخل إنكلترا الحديث في شئون العراق بعد زوال الحكم التركي، ويقول إن الاستعمار الإنكليزي كثيراً ما ينحدر إلى مغامرات وتجارب خاطئة؛ ولكنه كان بعيد النظر حينما استقدم الملك فيصلاً ليتبوأ عرش العراق. وقد كان الملك فيصل في رأي المؤلف من طبقة (المستبدين الأخيار) وكانت جهوده تتجه على العموم إلى خير البلد الذي وضعته الأقدار على عرشه. ثم يقول المؤلف إن مستقبل العراق تحفه بضع الريب المظلمة، ويتوقف بالأخص على ما يبديه الشعب العراقي من جهود حازمة تشبه تلك الجهود الموفقة التي أبداها حتى وصل إلى الاستقلال؛ ويعاني العراق كثيراً من المتاعب الجنسية والطائفية، ومشاكل البدو، وهذه جميعاً تعوق تقدمه؛ ومن ثم فإن الوطنية العراقية يجب أن تتجه إلى ما وراء الاستقلال، وأن تروض نفسها على حمل أعباء الدولة والإدارة السياسية. ويمتاز الكتاب بطابعه العلمي الدقيق وكثرة مراجعه ووثائقه

العلامة كارير الفائز بجائزة نوبل

أشرنا في العدد الماضي إلى الفائزين بجوائز نوبل هذا العام وقلنا نقلاً عن الأنباء البرقية إن الذي فاز بجائزة نوبل للكيمياء هو العلامة النرويجي كارلر؛ ولكنا بمراجعة البريد الألماني الأخير علمنا أن الذي فاز بهذه الجائزة هو العلامة السويسري الدكتور باوو كارير

ص: 70

بالاشتراك مع الأستاذ هواث الإنكليزي

وقد منح العلامة كارير هذه الجائزة لمباحثه القيمة عن أنواع الفيتامين، وأثر ألوان النبات فيها. وملخص ترجمته أنه درس الكيمياء دراسة عميقة، ومنذ سنة 1913 وهو يشغل كرسي الكيمياء في جامعة تسيرنج، وفي سنة 1919 عين مديراً للمعهد الكيميائي؛ وفي سنة 1932 حصل الدكتور كارير على جائزة مارسيل بنوا من أجل مباحثه ورسائله عن (هيدرات الفحم) ثم ظهر بعد ذلك بمباحثه عن الفيتامين، ولفتت إليه أنظار الدوائر العلمية الدولية؛ ومن أجلها منحته جامعة برزلاو إجازة الشرف في الطب سنة 1933؛ وله عدة رسائل ومؤلفات في الفيتامين وألوان النبات تعتبر حجة عالمية في بابها

تمثال للثقافة العربية

تألفت لجنة من بعض المستشرقين الإيطاليين والشرقيين المقيمين في إيطاليا للعمل على إقامة تمثال للثقافة العربية، في مكتبة الأمير وزيانة، أسوة بالتماثيل المقامة لعباقرة الأمم الأخرى

وقد بعثت إلينا اللجنة بكتاب تضمن السؤالين التاليين، واللجنة ترجو من المعنيين بالثقافة العربية أن يجيبوا عن هذين السؤالين، وهما

1 -

من هو الشخص العربي المبرز في النظم، أو النثر، أو الفلسفة، وتفوق على السلف والخلف، حتى تمثلت فيه الثقافة العربية؟

2 -

متى أجمع الرأي على واحد بين الأقدمين، مثلاً، ولم يكن له صورة فهل من المستطاع رفع تمثال له؟ وإذا ما أمكن ذلك، فأي شعار أو رمز يصح أن يمثل الثقافة العربية بكل معانيها؟

والمرجو إرسال الرد على هذين السؤالين إلى سكرتير اللجنة بعنوانه الآتي:

، 6 -

معرض مدرسي لدور العلم الحديثة

أقام المجمع الملكي للمعماريين البريطانيين معرضاً عظيماً في لندن في أكتوبر الماضي (12 - 19) لدور العلم الحديثة جمع فيه صوراً شمسية ونماذج مجسمة لأحدث ما استجد

ص: 71

من وسائل التعليم في الممالك الراقية (الولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا وألمانيا وشمال غرب أوربا) وقد عني أكبر العناية بإبراز مستحدثات مدارس التعليم في الهواء الطلق. وكان مما استلفت الأنظار معروضات القسم الفرنسي، ومنها كرة هائلة جداً تمثل الأرض بجميع قاراتها ومحيطاتها وبحارها وجبالها وممالكها وأشهر أنهارها ومدنها. وقد أحيطت هذه الكرة الكبيرة بسلم عظيم دائري يبدأ من القطب الشمالي ويلف حولها حتى ينتهي إلى القطب الجنوبي، بحيث يبدأ التلاميذ زياراتهم ومشاهداتهم من أول الدرج فيرون كل دقائق العالم في جميع أرجائه حتى ينتهوا إلى القطب الشمالي. . . والعجيب أن هذا السلم يتسع لزيارة مدرسة يربي عددها على الأربعمائة من التلاميذ. . . وبعد أن ظل المعرض فاتحاً أبوابه للجماهير أسبوعاً بأكمله اقترحت الحكومة أن ينتقل في سائر أنحاء الجزر البريطانية على أن يلبث أسبوعاً في كل مدينة كبيرة ليستطيع الناس ورجال التعليم أن يلموا بما فيه، وأن يطبقوا ما يرونه ثمة في مدارسهم؛ وسيقضي المعرض في رحلته هذه عامين كاملين حتى ينتهي منها في أكتوبر سنة 1939

تزوير وبراءة

علمت أن مجلة (المكشوف) البيروتية نشرت في أحد أعدادها الأخيرة خطاباً زعمت أني أرسلته إليها ومقالاً عن الأدب المصري نسبته إليّ؛ فأثار ذلك مني دهشة واستنكاراً لأني لم أكتب مطلقاً إلى هذه الصحيفة أي خطاب ولم أرسل إليها أي مقال؛ وما كنت أتصور أن هذه الصحيفة التي عرفت بإمعانها في الطعن في مصر والكتاب المصريين والنيل منهم تذهب في جرأتها إلى حد التزوير عليهم

فإلى أن أتخذ الإجراءات القانونية ضد الصحيفة المذكورة لأدحض هذا التزوير الشائن أعلن على صفحات الرسالة بكل قواي أني لم أرسل إليها في حياتي أية رسالة ولم أنشر فيها حرفاً واحداً

وفي هذا التكذيب الحاسم ما يكفي الآن

محمد عبد الله عنان

كذا. . .!

ص: 72

رأى قراء الرسالة الغراء في العدد الماضي هذه الكلمة (كذا) حاشية على كلمتين في بيتين من قصيدتي (وحي جديد)

أما الأولى فعلى كلمة (منغومة) في البيت السادس:

تقسيم موسيقى

منغومة النبر

وهي هنا (كذا) حقيقة، كما أردتها وكتبتها، لأن (منغومة) نعت لكلمة (موسيقى) وهي مؤنثة، وتكون المعنى هكذا:

في لفتة الجيد

في خفقة الصدر

تقسيم موسيقى

منغومة النبر

أما الثانية فعلى كلمة (لي) في البيت الثلاثين:

فهبي لي روحاً

من رقية الثغر

وهي هنا ليست (كذا) ولكنها غلطة في الكتابة والنقل، وصحتها (له) بدلاً من (لي)

(حلوان)

سيد قطب

(الرسالة): لا تزال (كذا) موضوعة على (منغومة) لأن

الأستاذ الشاعر أعربها ولكنه لم يذكر في أي استعمال عربي

أو في أي قاموس لغوي وجدها

لازلو مصور الملوك

نعت أنباء لندن الأخيرة فيليب دي لازلو المصور المجري الشهير الملقب بمصور الملوك لأنه قام بتصوير جميع ملوك العالم المعاصرين؛ ويعتبر لازلو من أعظم مصوري العصر الحديث، وقد ظهر نبوغه منذ أوائل هذا القرن بصورة بارزة؛ ومنذ سنة 1914 انتقل لازلو إلى لندن وعاش فيها وتجنس بالجنسية الإنكليزية؛ ومما يذكر أنه قدم إلى مصر منذ أعوام؛ وعمل صورة رسمية للمرحوم الملك فؤاد الأول، وصورتين لصاحب السمو الملكي

ص: 73

الأمير فاروق ولي العهد يومئذ، فحازت هذه الصور أعظم إعجاب وتقدير

ويعتبر لازلو أستاذاً لمدرسة التصوير المجرية الحديثة، وله عدة مجموعات بديعة تزين متاحف التصوير الحديث في معظم العواصم الأوربية، هذا عدا ما يزين منها قصور أوربا الملوكية

لمناسبة العيد المئوي لبوشكين

نذكر أن روسيا احتفلت منذ بضعة أشهر بالعيد المئوي لوفاة شاعرها الأكبر بوشكين؛ وقد نشرت بعض الصحف الأدبية أخيراً أرقاماً مدهشة عما بيع في روسيا بهذه المناسبة من كتب بوشكين وآثاره. ويقال إن ما بيع من آثار بوشكين والكتب المتعلقة بحياته وشعره بلغ ثمانية ملايين نسخة، وذلك كله مما قامت بطبعه مكتبة الدولة؛ وبيعت مقادير وافرة من مجموعات آثار بوشكين، وترجمت إلى جميع اللغات الذائعة في روسيا مثل الأوكرانية والأرمينية والتترية؛ وقد أخرج شريط مصور (فلم) عن شباب بوشكين، وتخرج الآن أشرطة أخرى عن حياته وعن موته المؤسي

سيرانو دي برجراك للسينما

أحب المخرج الإنجليزي المعروف (مستر كوردا) أن يخرج شريطاً لرواية الشاعر المشهورة، ولكنه لم ترقه التراجم الإنجليزية لهذه الرواية، فاقترح ترجمة جديدة اشترط أن تكون حرفية تنعدم فيها شخصية المترجم؛ فقدمها إليه الكاتب الكبير همبرت ولف بعد ثلاثة أسابيع من إعلان الاقتراح. . . ولسنا ندري ماذا صنع المترجم في هذه الأيام القليلة، ولا كيف جاءت ترجمته، ولا ماذا صنع بالمقطوعات الشعرية المنتثرة في رواية إدمون روستان. . .؟! ترى هل استعان بالشياطين في نقلها إلى النظم الإنجليزي؟ سنرى حين تصل الترجمة إلى مصر

ص: 74

‌الكُتبُ

سيرة السيد عمر مكرم

صفحة مجيدة من جهاد الشعب المصري في الدفاع عن أرضه

وحرياته وحقوقه

للدكتور رياض شمس

في حلكة ذلك الجزء المظلم من تاريخ مصر الذي يبدأ قبيل الحملة الفرنسية، وينتهي في أوائل حكم محمد علي باشا، تألق نجم رجل امتاز بخلقه المتين، ووطنيته الصادقة، واستحق التفاف الشعب حوله؛ فكان لا يأتمر إلا بإشارته، ولا يخضع لغير رأيه، ولا يفزع في الملمات إلا إلى شخصه العظيم. وقد استطاع هذا الرجل أن يحرز لمواطنيه بقدوته السامية، وبفضل إيمانه بقوة الشعب، انتصارات باهرة على أعداء البلاد من فرنسيين وأتراك ومماليك، وكانت نتيجة انتصارات الشعب على يديه تغيير اتجاه تاريخ مصر الحديث

وهأنذا أحاول أن ألقي نظرة خاطفة على بعض مواقف ذلك الزعيم الشعبي، لأن سيرته في الواقع هي سجل ممتاز لفترة هامة من تاريخ مصر السياسي الحديث، ولأني أجد هذه الفترة وثيقة الاتصال بتاريخنا الحاضر، وأجد فيها من العظات السياسية والاجتماعية ما ينبغي أن يظل ماثلا أمام عيني الشعب المصري، مستقراً في صميم قلوب الشباب في فاتحة عهدنا الجديد

وقد كنت أجهل قدر هذا الرجل لأني مع الأسف الشديد كغيري من غير المتخصصين، تكاد تنحصر معلوماتنا عن تاريخ العصور المصرية الماضية، ولاسيما العصر الذي عاش فيه ذلك الزعيم فيما درسناه موجزاً في المدارس الثانوية، ونسيناه عاجلاً بعد تخرجنا فيها

ولكن مؤرخاً معاصراً تربطه بذلك الزعيم صفات مشتركة من متانة الخلق، وصدق الوطنية، والإيمان الراسخ بقوة الشعب، استطاع بعد سنين طويلة من البحث والتحقيق أن يستخلص لنا من ظلمات الماضي القريب ضياء وضاحاً حجبه عن أبصارنا كر الغداة ومر العشي مدي قرن من الزمان

ص: 75

اقتحم الغزاة الفرنسيون بلادنا فرأى مواطننا العظيم أن أمراء المماليك لا يعنون بغير إخفاء أموالهم ثم الذهاب إلى الحرب ليبادروا بالهروب لدى الصدمة الأولى، فأهاب بالشعب أن يشمر للذود عن حياضه. وهنا أترك الكلمة للمؤرخ الجليل الأستاذ محمد فريد أبو حديد مؤلف (سيرة عمر مكرم). قال في الصفحة الحادية والخمسين:

(وكان جواب الشعب باهراً نبيلاً، إذ لبى جميعه نداء الواجب فخرج كل من في القاهرة وضواحيها من الرجال والشبان حتى لم يبق أحد إلا الضعفاء والنساء، وجاد كل منهم بما عنده من مال قليل دراهم اقتطعها الفقراء من أقواتهم وأقوات عيالهم وجادوا بها ليشتروا سلاحاً وخياماً وذخيرة. . .)

فلما هزمت المماليك في موقعة امبابة، وقرر شيوخ القاهرة أن يعلنوا التسليم للقائد الفرنسي، أنف السيد عمر مكرم أن يعود إلى القاهرة إلا إذا كانت عودته على جهاد، رغم أنه يعلم أن اسمه في طليعة الأسماء التي اختار القائد أصحابها ليحكموا البلاد بجانب الفرنسيين. وأنت تقرأ تعليق المؤلف على هذا الموقف الكريم على الصفحة 56 وما بعدها:

(ولو كان نظره إلى نفسه ومصلحتها لآثر العودة كما عاد السادات والشرقاوي، على أن يكون أحد زعماء العهد الجديد، فلا يتحمل التشريد والنفي والحرمان والفقر ومعاناة الأهوال والشدائد؛ ولكنه لم يكن ينظر إلى نفسه وما تتجشمه من الأخطار وما تتكبده من المشقة، بل كان ينظر إلى بلاد شهد أول تحركها نحو التحرر، وذكر حقها في الحياة الحرة المستقلة فلم يجد له وسيلة إلا أن يضحي بنفسه راضياً في سبيل الجهاد، مهما يكلفه ذلك من عناء. . .

(مع أن مراداً وإبراهيم ومن معهما من الأمراء لو استطاعوا أن يعودوا إلى الحكم بالاتفاق مع الفرنسيين لما ترددوا في ذلك لحظة، فلم تكن بأحدهم رغبة في الجهاد لنجاة البلاد من حكم الأجنبي، أو للمحافظة على حياتها وحريتها، بل كان كل ما يرمون إليه أن يسترجعوا السيادة، ويعودوا إلى سيرة طغيانهم وعسفهم؛ ولو وجدوا من الفرنسيين ميلاً إلى الاتفاق على أن يعودوا إلى الحكم تحت علمهم وحمايتهم لما ترددوا في ذلك. .)

ولاشك أن تأنق المؤلف في عرض موقف المماليك وبراعته في المقارنة بين الوطنية الحقيقية والمنفعة الشخصية، قد أعاد إلى ذاكرة القارئ عشرات المواقف في تاريخنا السياسي الحديث، منذ سنة 1919 إلى الآن، حيث كان قادة الأمة الأمناء يضربون عن

ص: 76

الاشتراك في الحكم بكل صور الإضراب، ويتحملون ألوان المصادرة والنفي والسجن والتشريد، بينما يتهالك غيرهم على التقاط الفتات المتساقط من مائدة الغاصب على حساب الوطن وحرية البلاد

ثم اسمع المؤلف يروي لك في الصفحة 72 قصة ثورة مارس سنة 1800 قال:

(سارع (السيد عمر مكرم) إلى الخروج من عزلته إذ رأى الواجب يناديه إلى العمل. . واجتمع في قلوب الشعب عامة عوامل تدفعه وتذكي حماسته من غضب الكريم لكرامته، وخوف الشريف على شرفه، واشتعلت العاطفة الوطنية في الصدور، تثيرها ذكريات المجد التالد من ماضي القرون، فلم يكن إلا أن صاح السيد عمر صيحته. . . حتى هبت الثورة المصرية الكبرى التي دامت تضطرب في القاهرة سبعة وثلاثين يوماً، ودخلت في أثنائها قلوب المصريين عامة في بوتقة الانصهار ليكون منها شعب جديد يتقارب فيه الأمير من العامي، ويمتزج فيه الكبير بالصغير، وتنبغ من غمرات ذلك أمة حديثة، يحس فيها الفرد بأنه للمجموع، ويحس فيها المجموع بأنه من الأفراد)

. . . ص81 (كان السيد عمر قد عاد إلى مصر مضطراً، ثم حاول أن يقاوم الأجنبي عندما لاحت له الفرصة فلم تواته الظروف وعجز، ولكنه كان لا يزال يأمل أن يبقى على جهاده حتى تحين فرصة أخرى، فلم يرض أن يقيم على أرض مصر مادامت أقدام الأجنبي تطؤها، فآثر العودة إلى الهجرة والبعد عن وطنه، وأن يتكبد المشقة والفقر ولوعة الفرقة من أحبائه وأشياعه على أن يقيم في بلاده لا يستطيع أن يتنفس فيها حراً)

ص87 (. . . وأصبح السيد عمر بعد رجوعه من الجيش المنتصر رجل مصر وزعيمها. اجتمعت فيه الزعامة والجهاد والتضحية، وقد علاه عند ذلك تاج الانتصار والانخراط في سلك رجال الدولة الجديدة. ودخل القاهرة فكان دخوله يوماً من الأيام المشهودة، إذ خرج الناس للقائه والترحيب به)

أنشأت أطالع الصفحة الأولى من (سيرة السيد عمر مكرم) فلم أكد أبدأ الكتاب حتى وجدتني عاجزاً عن تركه لحظة؛ ومازلت به حتى وصلت إلى الصفحة 219

ولما فرغت من دراسته ضممته إلى أحب مراجعي إلي، وألفيتني على ظمأ إلى نهلة أخرى من مورد تاريخنا الحديث. ذلك المورد العذب الذي طالما حالت ظروف مصر السياسية

ص: 77

دون تصويره للطلبة المصريين تصويراً صحيحاً يغذي الروح القومية ويذكي في الشباب المتعلم نعرة الاعتزاز بالماضي المشرف، ويبعث في نفسه حمية التطلع إلى أن يكون لبنة قوية في بناء صرح بلاده، ويزيده حرصاً على الاضطلاع بمسئولياته كمواطن شريف في بلد لم يقصر مواطنوه في الماضي قريبه والبعيد عن أداء واجبهم الوطني بكل ما لديهم من وسائل

إن الأسلوب الذي ابتدعه الأستاذ الكبير فريد أبو حديد في كتابة (سيرة عمر مكرم) ليعد بحق فتحاً جديداً، بل فتحاً مجيداً، في تاريخ المؤلفات التاريخية المصرية

فقد استطاع هذا الكاتب الموهوب أن يلقي ضياء وضاء على تاريخ القومية المصرية، وأن يستخرج من الحقائق التاريخية المدعمة بالأسانيد، ذخيرة صالحة وغذاء شهياً للشباب المصري الذي كان إلى عهد قريب لا يجسر على تقليب صفحات الماضي خشية ألا يجد فيها ما يشرف

وقد كان لنا بعض العذر، فقد عودنا المؤلفون الأجانب والمترجمون المصريون أن نقرأ صفحات الماضي في ظلال التحامل على القومية المصرية، والانتقاص من قدر أمتنا النبيلة المجاهدة

وإن كان ما نتمناه أن يتاح لطلبة مدارس مصر الثانوية أن يطالعوا سيرة عمر مكرم، وأن يحرص كل مصري يحترم نفسه ويعتبر بماضيه على دراسة هذا السفر النفيس

أما المؤلف فأنا لا نستطيع أن نشكره لأنه قد دعانا إلى مائدته فقدم لنا لوناً من طعام فاخر لا عهد لنا به، فلما استوعبناه تفتحت شهيتنا إلى المزيد. وهانحن أولاء نغشى موائد الثقافة فلا نجد هذا الطراز من المؤلفات التاريخية التي نحن أشد ما نكون حاجة إلى تذوقها بعد ما تذوقنا من لذة سيرة السيد عمر مكرم

لذلك نطالب مؤرخنا النابغة أن يخرج لنا سلسلة من الكتب تكشف عن أمجاد ماضينا القريب تكون حافلة بالعظات البالغة، العظات السياسية والخلقية والاجتماعية على نحو ما ألفناه في كتاب عمر مكرم

فإذا اضطلع بهذا الواجب، وهو على مثله من النابغين فرض حتم، كان لنا أن نسميه بحق:(منصف تاريخ القومية المصرية في الأزمنة الحديثة)

ص: 78

رياض شمس

تصويب

ورد في فاتحة مقال (قصة الموسوعة الجامعة) الذي نشر في عدد الرسالة الماضي (ص1885) ما يأتي: (سجل العلم الحديث فتحاً جديداً خطير الشأن بصدور الموسوعة الإيطالية التي بدأ صدورها منذ أعوام ثلاثة فقط) والصواب (منذ أعوام قلائل فقط)

ص: 79