الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 231
- بتاريخ: 06 - 12 - 1937
ثورة على الأخلاق
شقشقة هدرت ثم قرت
أخي عزام
قرأت مقالك البليغ في عدد الرسالة السابق، وكان محمود خصمك حاضراً فكفاني ما كلفتني من إبلاغه. وهو في هذه الساعة لين الحاشية، لأنه قام منذ هنيهة عن مائدة الإفطار الغنية الشهية، ممتلئ البطن من خير الله، رطيب اللسان بحمد الله، لا يذكر أن العالم ضيق رزق، ولا أن في الناس سوء خلق. ولذلك قال حين ذكَّرته برأيه وخبَّرته برأيك ما قال الإمام علي رضي الله عنه: تلك شقشقة هدرت ثم قرت! فكانت حاله التي حالت بين الأمس واليوم دليلاً جديداً لعلماء الاجتماع الذين يردون ثورات الشعوب المختلفة إلى العوامل الاقتصادية المحض من الحرمان والجوع. والواقع الذي لا يرفعه زخرف القول أن الناس يدورون بعواطفهم وأخلاقهم حول مادة العيش، فإن أعطوا منها رضوا، وأن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون.
على أن مجلسنا كان حافلاً بغير محمود من رجال العلم والدين والأدب وكلهم كانوا له وعليك، وليس ذهابهم إلى رأي خصيمك انصرافاً عما قررت من حميد الأثر لأخلاقنا المقدسة في ألفة الناس وسعادة النفس، فإن ذلك موضع اتفاق لا يشذ عنه إلا ميت الضمير أو مريض العقل. إنما كان موضع الجدل أن الأخلاق الفاضلة لا تصلح أن تكون عدة النجاح إن لم تكن عدة الفشل. والنجاح في جهاد العيش لا يدل على تمام معناه إذا قصدنا به الكفاف من ميسور الرزق، يصيبه الصالح والطالح، ويقنصه البازي والرخم. فإذا ضربت له مثلاً نجاح الصانع الصادق والتاجر الأمين والمزارع الوفي والعامل القانع، كانوا أحرياء أن يتهكموا بقداسة هذه الأخلاق إذا كان قصارى أمرها هذا النجاح الحقير وهي الدستور الأعلى لبلوغ السموات وامتلاك الأرض. فإن هؤلاء الطيبين الأخيار الذين وصفتهم بالقناعة وخصصتهم بالرضى لن يستطيعوا أن يكونوا يوماً من رجال المال والأعمال كصيدناوي والبدراوي وعبود. أما حين تقصد النجاح بمعناه الأتم فإنهم يرونك تنزع إلى مقالة محمود وتعلل بمنطقك السليم فشل التقي الأبي الحر بأنه (لا يرى إلى الجاه والمال إلا طريقاً واحدة هي الطريق التي يسنها الحق والشرف والأباء والمروءة، وأن أمام الفساق
والأذلاء والأدنياء طرقاً شتى من التلصلص والكذب والتزوير والخداع والملق والذلة والشره والظلم والقسوة والأثرة وهلم جرا، وأن من الأحرار من يخفق في عمله حين يلزم نفسه هذه الطريق الواحدة، ويقسرها على هذه المحجة الواضحة، وأن من العبيد عبيد المطامع والأهواء ومرضى النفوس والأخلاق من يظفرون في هذه السبل بما يريدون، ويبلغون الغاية التي يقصدون) وما دام جوهر الرأي واحداً فالسبيل القاصدة إذن أن نطبَّ لهذه الحال بما يوائم بين طموح الناس وكرامة الأخلاق وسلامة المجتمع. وليس هناك إلا وسيلة من وسيلتين: إما أن نصد الناس جميعاً عن هذه الطرق المتعددة، ونقصرهم على هذه الطريق الواحدة، بقوة الأديان والسلطان والتربية، وذلك ما عناه الرسول (ص) بقوله:(عليكم بالجادَّة ودعوا البُنَيَّات)؛ وإما أن نعيد النظر في قانون الأخلاق فلعل فيه ما لا يرافئ تقلب العصر وتطور المجتمع. فأما الوسيلة الأولى فقد سجل الماضي ودلل الحاضر على أنها خيال نبيل لا يقع في الإمكان، وحلم جميل لا تقوم عليه يقظة، وتعليل ذلك لا يعزب عنك فلا حاجة إلى تقريره. وأما الوسيلة الأخرى فهي على ما يرون مظنة التوفيق في الإصلاح الجديد.
ما معنى أن يظل التواضع والقناعة والزهد والمداراة والتوكل على إطلاقها فضائل وأنت ترى بعين الواقع أن المتواضع موضوع والقانع مهمل والزاهد محروم والمدارى مستذل والمتوكل عاجز؟ أليس صلف الإنجليزي أبلغ في العزة، وطمح الفرنسي أليق بالحياة، وطموح الإيطالي أخلق بالرجولة، وصراحة الألماني أدعى إلى الهيبة، واستقلال الأمريكي أضمن للفوز؟ ما معنى أن يظل الربا في عصر الاقتصاد رذيلة وقد أختلف اليوم في معناه ومرماه عن ربا (شيلوك) وأنت تعلم أن الغرب لم يستعبد الشرق إلا عن طريق بنوكه. فقد كانت تأخذ القناطير المقنطرة من أموال المسلمين بغير ربا لتقرضها إخوانهم المساكين بالربا الفاحش. ولو أنهم أخذوا رباها وأنفقوه في وجوه الإصلاح والبر لما بقى على أرضهم أجنبي، ولما ظل تحت سمائهم فقير. ولا أريد أن أعرض لغير الربا من الرذائل فلا نزال في حاجة إلى التقية والمصانعة. وإذا سلمنا أن مقياس الفضائل والرذائل هو النفع والضرر، فما كان مؤدياً إلى منفعة سمي فضيلة، وما كان مؤدياً إلى مضرة سمي رذيلة، سهل قياس الأخلاق على هذا الأساس، وأمكن بعد ذلك الاتفاق على نتيجة هذا القياس.
ذلك يا عزام قولهم بأفواههم يريدون أن يصل إليك عن طريق الرسالة. أما محمود فقد ظل صامتاً طول الحديث كأنه ليس منه في قالٍ ولا في قيل. ولا أدري إذا ما خلا جوفه من طعام رمضان الدسم المريء أيعود إلى جدالك، أم يكتفي بتعليق أصحابه على مقالك. وأما أنا فلا أزال أهيب بدهاقنة الدين وفلاسفة الأخلاق أن تتدخل جماعتهم في سوق الفضائل معدِّلة أو هادية، كما تتدخل الحكومة في سوق الأقطان مشترية أو حامية.
أحمد حسن الزيات
بين القاهرة واستنبول
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 2 -
من دمشق إلى القسطنطينية
يا صديقي الزيات:
لعل رسالتي التي حدثتك فيها بطرف من أحاديث دمشق قد بلغتك، وهذه رسالة أخرى أطرفك فيها ببعض ما وعت النفس من مشاهد الطريق بين دمشق والقسطنطينية. وأرجو أن أواصل الرسائل من بعد:
ترددت برهة كيف آخذ طريقي من دار الأمويين إلى دار البيزنطيين. أأركب إليها البحر من بيروت وأرجع من طريق البر، أم أخترق اليبس إلى غايتي؟ وكنت ركبت السفينة بين الإسكندرية والقسطنطينية مرتين قبلاً، فقلت لنفسي: ماذا تفيدين من رؤية ما رأيت، وحافظ الشيرازي يقول:
من جرّب المجرّب
…
حلت به الندامة
وماذا تُجدي عليك رؤية الدأماء صباح مساء؟ لجة واحدة وأمواج متشابهة، كأنها ساعات الزمان في بحر العمر!
صح العزم على سفر البر، فخرجت من دمشق بعد ظهر الثلاثاء 19 جمادى الأولى (27 تموز) في سيارة أعدتها شركة السكك الحديدية لإبلاغ المسافرين حمص ليركبوا منها سكة الحديد إلى حلب. وقد ابتليت برفقة ليس بيني وبينهم سبب فأرحت لساني وأذني، وسرّحت طرفي في الفضاء، وفكري في مسارح لا تحد بين الماضي والحاضر، والقريب والبعيد. وكان للسيارة سوّاق ذكرنا بقول القائل:(قد لفّها الليل بسوّاق حُطم) فانطلق بنا لا يألو إسراعاً حتى يكاد الماء في جوف السيارة يشتعل، فيقف ريثما يفثأ الماء، والطريق أكثرها صحراء جرداء تسايرها جبال وتلال، وتزينها بين الحين والحين قرى ومدن ومشاجر ومياه، ولا سيما قرب حمص. ولم نقف على الطريق إلا في النبك لبثنا فيه قليلاً.
هذه حمص بعد سبع سنين ولات حين تلبث. إن الوقت لا يمهلك حتى لزيارة خالد بن
الوليد فاصبر حتى تعود أدراجك من هذه الطريق فتقضي حق العين والفؤاد من هذه المشاهد.
بعد قليل جاءت من طرابلس عربة كعربة ديزل المعروفة في مصر، وتسمى في الشام باسمها الفرنسي (أوتومتريس) أخذت مكاني بها وانطلقت سريعة تطوي ما بين حمص وحلب، والطريق هنا أكثر ماء وشجراً وزرعاً. وفي الطريق لاحت حماة في زينات من شجرها ومائها، ونغمات نواعيرها منثورة في السهل تدور بالماء والماء بها يدور لا تفتر نهاراً ولا ليلاً وتذكرت قول القائل:
ناعورة مذعورة
…
للبين حيرى سائرة
الماء فوق كتفها
…
وهي عليه دائرة
وتذكرت أني حين قرأت هذين البيتين في المدرسة ظننت الناعورة هي الساقية بلسان أهل مصر، ثم عرفت فرق ما بينهما حين ذهبت إلى الشام أول مرة. ومن رأى نواعير الفيوم فقد رأى صورة صغيرة من نواعير الشام الماثلة في الفضاء على نهر العاصي عالية رائعة.
وبلغنا حلب بعد الساعة الثامنة من المساء فقصدت إلى فندق البارون. اضطرني إليه، على نفرتي من هذه الأسماء الإفرنجية في البلاد العربية، أني أُنزلت به مرة، ولم أعرف من فنادق حلب غيره. وقضيت به بقية الليل. وأصبحت مبكراً إلى القطار قطار الشرق السريع. لم أر في حلب شيئاً ولم ألاق بها صديقاً. وسأعود إلى حديث حلب وحمص في رجوعي إلى الشام إن شاء الله.
وجاء القطار الفخم قد كتب عليه بالفرنسية والتركية ذات الحروف اللاتينية: (قطار الشرق السريع) وما سألت أحد عمال القطار عن عربات النوم فقال لصاحب له بالتركية: (دلّه عليها) فقلت: هذا أول العُجمة وطلائع الغربة.
أخذت مكاني بالقطار موّطناً النفس على السفر ستاً وثلاثين ساعة، ورفيقي فكري وخيالي وديوان البحتري. سار القطار والساعة سبع من الصباح، وكان شريكي في المقصورة إنكليزياً ذاهباً من العراق إلى بلده في إجازة قصيرة، ولكني وجدت عن ملازمته ميلاً ومندوحة في مقصورة أخرى خالية خلوت فيها بصاحبي البحتري. وسأحدث القارئ حديثه
بعد؛ على أني لم أذمم من الإنكليزي الشيخ صحبة، وكنت ألقاه حيناً فحيناً فنتحدث ونتفكه، وكنت أجده جالساً وبجانبه عدة السفر من البيبة والسجائر والكتب. ولست أنسى رثائي له حينما أضل منظاره فاضطرب حيناً يبحث عنه، ثم جلس كئيباً يقول: أني لا أستطيع القراءة بدونه، وكيف أقطع الطريق إلى لندرة بغير قراءة؟ إنه منظار ثمين، إنه يلائم عينيّ؛ ثم يهيج فيتهم خادم القطار بالسرقة؛ وييأس، فأعيد الأمل في نفسه، فيعود يبحث عنها وأبحث معه. وجاء الخادم يقول: لعلها في حقيبتك. ففتح الحقيبة مغضباً وأخرج ما فيها من ورق وقال للخادم بالإنكليزية - وهو عالم أنه لا يعرف منها كلمة -: أنظر! أنجدها هنا؟ أأنت على يقين أنها ليست هنا؟ أمطمئن أنت إلى أنها ليست هنا؟ ثم رجعت إليه بعد حين فإذا هو متهلل الوجه مسرور، فلما رآني وثب يريني كيف أنزلق منظاره وراء الباب وكيف وجده، فشاركته السرور وأعدنا الحديث عنه ضاحكين بعد أن أطلنا الحديث عنه آسفين. . .
وبعد ساعتين من حلب دخلنا إقليماً جبلياً مشجراً تخلل القطار فيه أنفاقاً كثيرة متعاقبة على سفوح الجبال حتى بلغنا ميدان أقبس على الحدود بين سورية وتركية، والساعة تسع وخمسون دقيقة، فوقف القطار زهاء نصف ساعة. وجاء موظف تركي فسأل: من أين؟ قلت: من مصر. قال: إلى أين؟ قلت: استانبول. قال: أمعك أشياء للجمرك؟ قلت: لا. قال: كم معك من النقود التركية؟ قلت: قليل لا يتجاوز كذا. قال: مع السلامة.
وبلغنا، والساعة ثلاث ونصف، محطة أسمها مصيص. قلت لنفسي: هذه ولا ريب المصيصة التي كانت ثغراً بين البلاد الإسلامية وبلاد الروم زمناً طويلاً. هنا نهر جيحان، وهنا مغازي سيف الدولة؛ وفي هذا الإقليم وما يجاوره نظم المتنبي ما نظم من قصائده. أليس يقول أبو الطيب لسيف الدولة:
سريت إلى جيحان من أرض آمد
…
ثلاثاً لقد أدناك ركض وأبعدا
ومن قبل قال عديّ بن الرقاع العاملي:
فقلت لها كيف اهتديت ودوننا
…
دُلوك وأشراف الجبال القواهر
وجيحانُ جيحانُ الملوك وآلس
…
وحَزن خزارى والشعوب القواسر
أجل وهنا أطراف العواصم التي يفيض بذكرها التأريخ والشعر.
وسرنا بعد المصيصة ثلاثين كيلا شطر الغرب فاتسع السهل وانتشرت الخضراء ووافينا أطنة والساعة أربع. ندع حديث أطنة وما يليها إلى العودة، ونسير إلى الشمال زهاء ساعة فنوافي جبال طوروس، وما أعظمها منظراً جميلاً رائعاً هائلاً: سفوح مخضرة يصعّد فيها الطرف حتى يبلغ قمماً شاهقة تكاد العين تقصر دونها، قمم متنافسة متسامية إذا صعد البصر إلى إحداها انزلق على السفح ليرقى في سفح آخر إلى قمة أخرى، وإذا أسفَّ النظر إلى الحضيض فهناك الأودية العميقة السحيقة يهول الناظر عمقها ويروقه بين الحين والحين مياه تجري مسرعة مزبدة متعرجة كأنها الأراقم راعها القطار فانسابت إلى مجاحرها. وتتوالى مرائي طوروس في جمالها وجلالها واختلاف ألوانها وارتفاعها واستقالها وما يشغل العين والفكر من صورها، والقطار على السفح موف على هذه الأودية الهائلة يصعد متمهلاً وينبهر أحياناً فيقف زاحراً زافراً لا يقوى على المرتقى. فإذا أعد العدة من مائه وناره وبخاره عزم فصعد جاهداً مجهوداً. وبعد نصف ساعة على هذه السفوح تعاقبت أنفاق لبث القطار فيها نحو عشرين دقيقة كلما بشرّ الضوء بانتهاء أحدها أقبل الآخر في ظلامه يلتهم القطار.
ومن بدائع الجناس أو المقابلة في هذا الجمال البديع أذواد من الإبل في أودية طوروس، لم تذهب بجمالها وروائها مناظر الجبال العظيمة؛ وأما سرب المعزى الذي رأيته هناك فلا أدري من أي أنواع البديع مرآه هناك.
وتوالت ذِكَرُ الآل والأصحاب فإذا لساني يترنم بهذه الأبيات:
ذكرتك إذ طوروس في اللُّوح مُصعِد
…
يظلّ بأهداب السحاب يُعمَّم
يطير بيَ الإعجاب بين سفوحه
…
وقماته والقلب فيه مقسَّم
ويفزع من وديانه كل ناظر
…
ويحتار فيه الطرف كيف ييّمم
جمال ترود العين بين رياضه
…
عليه جلال بالمهابة مفعم
فأيقنت أنْ ذكراك أروع مشهداً
…
وأجمل من طوروس عندي وأعظم
وانتهى بنا الإصعاد إلى مكان أسمه أولوقشلة وهو أعلى موضع في طريق طوروس؛ وبعده بقليل تلتقي الطريقان: الطريق الآتية من أنقرة، والآتية من قونية.
وجن الليل وبات القطار يسري فأصبحنا عند أنقرة والساعة سبع من الصباح: وأستأذنك يا
صديقي أن أطوي المسافة بين أنقرة واستنبول والحديث عنها إلى العودة فكان فقد نصيبي من هذه الديار في عودتي أوفر، وأنسي بها أطول، ثم أخشى أن تمل الحديث الطويل والرسالة المسهبة. فسلام عليك إلى أن أكتب إليك.
استنبول 30 تموز
عبد الوهاب عزام
في التاريخ السياسي
مصر وإيطاليا
عبر الماضي دلائل الحاضر
بقلم باحث دبلوماسي كبير
لما كشفت إيطاليا الفاشستية في أوائل سنة 1935 عن نياتها الاستعمارية نحو الحبشة توجس أولئك الذين يشفقون على حرياتهم وحريات الشعوب الآمنة شراً، واستشعروا الخطر الاستعماري جاثماً وراء تأكيدات رومة بأنها لا تبغي من وراء اهباتها العسكرية سوى الدفاع عن أملاكها الأفريقية. ولم تمض أشهر قلائل حتى صدق الظن ووثبت إيطاليا بالحبشة وثبتها المعروفة، واستشهدت ضحية جديدة من ضحايا الاستعمار.
وكان لهذه المأساة الاستعمارية في مصر وقع خاص؛ ولم يكن ذلك فقط لأن مصر ترتبط مع الحبشة بروابط تاريخية قديمة، ولها في الحبشة نفوذ ديني خاص بواسطة كنيستها القبطية، ومنابع نيلها تقع في الحبشة، ولكن لأن مصر شعرت على الأخص بأن خطراً استعمارياً جديداً قد استقر على مقربة منها ومن سودانها ونيلها، وأن الفاشستية الطموحة المتوثبة قد أصبحت تطوق وادي النيل من ناحيتيه، وأن استشهاد الحبشة على هذه الصورة المروعة إنما هو عبرة يجب أن يكون لها بالغ الأثر.
وقد كانت المعاهدة المصرية الإنكليزية التي عقدت في 26 أغسطس سنة 1936 نتيجة محتومة لهذه المأساة؛ ولم يكن في وسع مصر وبريطانيا العظمى أن يتجاهلا أهمية ذلك التطور الخطير في أحوال وادي النيل؛ ولم يكن في وسعهما أن يمضيا بعد في نزاع طال أمده، وأن يغفلا بذلك عن الخطر الذي تواجهانه معاً؛ ومن ثم كان عقد المعاهدة المصرية الإنكليزية عملاً حكيماً من الجانبين، وكانت ضرورة أملتها الظروف والحوادث. والآن تبدو أهمية التحالف بين مصر وبريطانيا العظمى؛ فتطور الحوادث في البحر الأبيض المتوسط، وحالة التوتر التي تسود علائق الدول الفاشستية والدول الديمقراطية، والكدر الذي يشوب علائق إيطاليا وبريطانيا، وما تبديه الفاشستية الإيطالية من بوادر التحفز والطموح، وما تقوم به من الأهبات العسكرية في جزيرة بانتلاريا الواقعة بين تونس وصقلية، وفي جزيرة
رودس، وما تحشده من القوات الجرارة في طرابلس على مقربة من الحدود المصرية: كل أولئك يجب أن يلفت الأنظار، ويثير الريب، ويقضي على أولئك الذين تعنيهم هذه الحالة أكثر من سواهم بالتيقظ والحذر والاستعداد.
ولا ريب أن مصر في مقدمة الدول التي يجب أن تعنى بهذه التطورات؛ بل هنالك ما يدل على أنها ليست بعيدة عنها، وأنها لا تستطيع أن تطمئن إليها؛ وليس ذلك فقط لأن الحوادث قد جمعت بين مصر وبريطانيا العظمى، ووثقت بينهما في جبهة صداقة وتحالف دائمين، ولأن الفاشستية الإيطالية في خصومتها لبريطانيا العظمى لا بد أن تقصد إلى خصومة مصر في نفس الوقت باعتبارها حارسة لشريان من أهم شرايين الإمبراطورية البريطانية: نقول ليس ذلك فقط، بل كذلك لأن الفاشستية الإيطالية ليست بعيدة عن التفكير في مصر لذاتها.
إن الفاشستية الإيطالية تضطرم اليوم بأعظم الأحلام الإمبراطورية، وترتد ببصرها إلى الإمبراطورية الرومانية؛ وليست مصر في نظرها إلا كطرابلس ولاية رومانية سابقة. وما زلنا نذكر إشارة السنيور موسوليني في إحدى خطبه أيام الحرب الحبشية إلى مصر وقوله إنها كانت أهراء الغلال لرومة، والفاشستية ترنو في حلمها الإمبراطوري إلى مصر، ولا سيما بعد استيلائها على الحبشة. وقد دللت على ذلك في مواطن عديدة ومناسبات كثيرة وهي تحاول منذ أعوام أن تقوي نفوذها ودعايتها في مصر بمختلف الوسائل؛ وسواء أكانت الفاشستية ترنو إلى مصر من خلال خصومتها لإنكلترا، أو كانت تقصد إليها بالذات كحلم استعماري رائع يمكن تحقيقه، فان الذي لا ريب فيه هو أن مصر تواجه اليوم مرحلة من أدق مراحل تاريخها.
ولقد توالت من خلال هذا القلق الشامل تصريحات المقامات المسئولة في رومة بأن إيطاليا الفاشستية لا تضمر شراً لمصر ولا يمكن أن تفكر في الاعتداء عليها، وأنها بالعكس تشعر نحوها بأكرم عواطف الصداقة والود؛ وأما الجيوش الجرارة التي تحشد في برقة، وأما الأهبات العسكرية الهائلة التي تتخذ هنالك على مقربة من الحدود المصرية، فليست سوى إجراءات تحفظية تقرر اتخاذها منذ بعيد. هكذا نسمع من رومة بين حين وآخر، وهكذا أكد لنا السنيور موسوليني نفسه في حديث أفضى به منذ أسابيع قلائل، وهكذا يؤكد ممثل
إيطاليا في مصر للحكومة المصرية كلما أبدت دهشتها وتساؤلها من سير الأحوال في برقة.
بل هنالك ما هو أكثر من ذلك، وهو أن الحكومة الإيطالية عرضت أكثر من مرة، وما زالت تعرض بواسطة ممثلها في مصر على الحكومة المصرية أن تعقد معها ميثاق صداقة وعدم اعتداء. ويقال إنها تقدمت إلى الحكومة المصرية بمثل هذا العرض حتى قبل أن تعقد المعاهدة المصرية الإنكليزية.
ومصر تغتبط بلا ريب بمثل هذه التأكيدات الودية من جانب حكومة رومة، وتود لو أنها تستطيع أن تؤمن بها وتطمئن إليها.
ولكن مصر لا تستطيع أن تؤمن ولا أن تطمئن؛ ولها في ذلك أكبر العذر؛ فالتاريخ يعيد نفسه دائماً، وشواهد الماضي قرائن الحاضر؛ ولإيطاليا الحديثة في نقض المواثيق والعهود تاريخ متصل لم تنقطع حلقاته حتى اليوم؛ وهو يدل دلالة واضحة على أنه إذا كانت إيطاليا الحديثة الناشئة قد آثرت مدى نصف قرن أن تجري على سياسة انتهاز الفرص ونقض العهود، فإن إيطاليا الفاشستية التي تجيش بمختلف المطامع والأماني لا يمكن أن تكون أحفظ للعهد وأجدر بالثقة والاطمئنان.
وإليك منطق التأريخ الحاسم: لم تكد إيطاليا الفتية تستكمل وحدتها واستقلالها في أواخر القرن الماضي حتى أخذت تساورها نزعة الاستعمار والتوسع، وتلتمس لتحقيقها جميع الخطط والوسائل؛ وكانت تتردد يومئذ بين فرنسا وألمانيا لترى أي الناحيتين أكفل للغنم؛ وكان وزيرها الشهير كرسبي رجل المطامع والمغامرات، بل يمكن أن يقال إنه هو الذي وضع أسس سياسية التوسع التي تنزل إيطاليا إلى ميدانها اليوم. فلما احتلت فرنسا تونس في سنة 1880 اضطرمت إيطاليا سخطاً لأنها كانت تطمع في احتلالها؛ وتحول كرسبي إلى ألمانيا خصيمة فرنسا يخطب ودها، وانتهى الأمر بدخول إيطاليا في المحالفة الثنائية الألمانية النمسوية التي غدت المحالفة الثلاثية من ذلك الحين (سنة 1882) ثم تجددت في سنة 1887؛ ولبثت قائمة حتى نشوب الحرب الكبرى.
ولكن ما الذي حدث عند نشوب الحرب الكبرى؟ التمست لإيطاليا الوسيلة لنقض عهود تحالفها مع الدول الوسطى والتزام الحيدة أولاً، ولم يمض عام حتى انقلبت إلى الحلفاء. ثم انضمت إليهم وأعلنت الحرب على حليفتيها القديمتين لتشترك مع الحلفاء في تحطيم
الإمبراطورية النمسوية والاستيلاء على نصيبها من أسلابها.
وحصلت إيطاليا على نصيبها من أسلاب الدول المهزومة؛ وكانت أوفر الحلفاء حظَّاً في أوربا لأنها فضلاً على الفوز بتحطيم الإمبراطورية النمسوية جارتها القوية وخصيمتها القديمة، استولت على التيرول الجنوبي واستيريا ودلمانيا، وكفلت بذلك حدوداً منيعة في الشمال والشرق.
ثم قامت الفاشستية الإيطالية ولم يرضها ما حصلت عليه لإيطاليا من أسلاب الحرب، بل اعتبرته غبناً لها وانتقاصاً لحقوقها فشهرت سياستها المعروفة في سبيل التوسع الاستعماري، وعززتها بالتسلح والأهبات العسكرية العظيمة، وأخذت تترقب الفرص لتحقيق مشاريعها وأمانيها.
وكانت لإيطاليا قد عقدت منذ سنة 1906 معاهدة ثلاثية مع بريطانيا العظمى وفرنسا تقضي بالعمل المشترك بينها لحماية أراضيها ومصالحها في شرق أفريقية، وتنص على وحدة الحبشة واستقلالها مع التنويه بمصالح إيطاليا في الحبشة؛ وجددت هذه المعاهدة في سنة 1925. وفي سنة 1928 عقدت إيطاليا مع الحبشة معاهدة صداقة وتحكيم، وجددت عهودها للحبشة باحترام استقلالها ووحدتها، وكانت إيطاليا من أشد المؤيدين لدخول الحبشة عصبة الأمم.
ولكن الفاشستية الإيطالية كانت في الوقت الذي تقطع فيه على نفسها هذه العهود والمواثيق تتحين الفرص، وتدبر اعتداءها سراً على الحبشة، حتى إذا سنحت الفرصة نفذت مشروعها الاستعماري على مرآي ومسمع من العالم، ولم تبال بمواثيق أو عهود، وسخرت من كل اعتراض أو احتجاج، وتم لها ما أرادت من القضاء على حريات أمة آمنة مستقلة.
ولما اضطرمت الحرب الأهلية الأسبانية ظهرت إيطاليا الفاشستية من وراء الثوار تشد أزرهم وتذكي أوار الحرب بجنودها وسلاحها، وما زالت تمضي في سياستها حتى اليوم تنفيذاً لمآرب ومشاريع استعمارية تبغي اجتناءها. ولما نظمت اليابان اعتداءها الأخير على الصين بادرت إيطاليا بإظهار عطفها وتأييدها لليابان المعتدية لأنها تسير في نفس السياسة الاستعمارية التي تسير عليها.
هذا هو ماضي إيطاليا، وهذا هو حاضر الفاشستية الإيطالية في نقض العهود والمواثيق
وتمزيق المجتمعات، وفي ترقب الفرص غير المشروعة وتنظيم الاعتداءات الاستعمارية.
والواقع أن الفاشستية الإيطالية لا تنكر جنوحها إلى هذه الخطط، فهي تنادي علناً بأن الحق للقوة وحدها، وتسخر من كل عهد أو ميثاق أو حق لا تؤيده القوة، وهي تجري على سياسة مكيافيلية خالصة تبرر لتحقيق الغاية كل الوسائل.
فكيف تستطيع مصر بعد ذلك كله أن تثق بتأكيدات رومة الودية وتطمئن إليها؟ إن التاريخ يعيد نفسه دائماً، ومصر ترجو ألا تكون ميداناً للوثبة القادمة.
ومصر لا يمكن أن تطمئن إلا لنفسها ومقدرتها على الدفاع عن كيانها، وهي تشعر شعوراً صادقاً بالخطر الذي يلوح لها في الأفق؛ ولكن مصر تثق أيضاً في مستقبلها وطالعها، وتعتزم ألا تسمح لأحد بالاعتداء عليها. ومن حسن الطالع أنها تستطيع أن تعتمد في مثل هذا الظرف على معونة صديقتها وحليفتها العظيمة بريطانيا العظمى. ومن حسن الطالع أن مصلحة مصر ومصلحة بريطانيا تتفقان هنا وتمتزجان؛ فالاعتداء على مصر يكون في نفس الوقت اعتداء على ما تعتبره بريطانيا مركزاً حيوياً لمواصلاتها الإمبراطورية.
على أن مصر يجب أن تعمل منذ الآن للاعتماد على نفسها قبل كل شئ، فنحن في عصر القوة لا في عصر الحق، ويجب أن تتذرع الأمم للذود عن حرياتها وكيانها بكل ما تدخر من القوى المادية والمعنوية؛ وهذا ما ستفعله مصر بلا ريب.
ثم إننا نؤمن من جهة أخرى بأن هذه النظم الطاغية والخطط الاستعمارية الباغية التي تصول اليوم في ميدان القوة والعدوان سوف تنهار متى وقع الاصطدام الحقيقي؛ هذا إذا لم تسارع قبل ذلك إلى تمزيق نفسها بنفسها.
(* * *)
مسكين
بين إنجليزي ولبوته
أثر العادة والتدريب في الإنسان والحيوان
كنت قد أبصرت في بعض الصحف صورة شبل مع إنجليزي وطلَّتُه أو لَبْوتَه. . . وهما يشربان الشاي (أو الشاهي كما يقولون في الحجاز) والثلاثة: الرجل والرَّجلة وأبن الليث يتناظرون صامتين. وفي الصحيفة حديث أنس الوحش، فلم أتعجب إذ رأيت هذا المسكين (أعني الشبل) يقاعد إنجليزياً، ولم أنكر، ولم أقل: إن ذلك البريطاني قد تطبع بطبع الأسد الوحشي حتى ائتلفا واصطحبا لأن الإنجليزي إنسان من الاناسية والناس لا يحتاجون كما يعرف العارفون إلى تدرب على طبيعة من طبائع الضواري والكواسر أو الجوارح، فالقرابات كما حققت علوم كثيرة في هذا الزمان بين منتصبي القامات اليوم وبين الماشيات على أربع والطائرات والزحافات واشجات قريبات؛ ووراثة الأجداد البعيدة (بل القريبة) وهي التي يقال لها في اللسان الإفرنجي ' ما زايلتهم في حين، وما ضاع والحمد لله. . . منها شئ؛ وفي كل يوم ألوف ألوف من الأدلة المثبتة المسكتة، المخجلة المخزية. وابْل من شئت ممن تفخمهم تفخيماً وتبجلهم تبجيلاً وتحسبهم - وهم من البشر - ملائكة، فإنه (يكاد أفضلهم رأياً يردّه عن فضل رأيه الرضا والسخط، ويكاد أصلبهم عوداً تنكأه اللحظة، وتستحيله الكلمة الواحدة)
(والناس شجرةَ البغي)
(وجدت الناس إن قارضتهم قارضوك، وإن تركتهم لم يتركوك، وإن هربت منهم أدركوك)
(وجدت الناس أخبْر تَقْلِهْ):
يلقاك بالماء النمير الفتى
…
وفي ضمير النفس نار تَقِدْ
يعطيك لفظاً ليّناً مسُّه
…
ومثل حدّ السيف ما يعتقدْ
فالناس هم الناس، و (هم - كما قال عالم إفرنجي - لم يزالوا حتى اليوم في الأفق (الدور) القردي الشبنزي أو الشنبنزي) إنهم بعد لفي هذا الأفق وإن مشوا في الأرض متغطرسين متكابرين متبجحين على إخوانهم الأقربين (ذوات الأذيال. . .) بما سمّته لغاتهم تقدماً وارتقاء وإن أسمعك بعضهم - وأنت في القاهرة مقيماً - صوت الحبيبة في (نيويورك)
وأراك صورة من تهوي في بلاد (النمسة):
من في العراق يراك في طرسوسا
فالناس هم الناس:
فلا تلزمن الناس غير طباعهم
…
فتتعب من طول العتاب ويتعبوا
أعود إلى أول كلامي فأقول: لا، لا، لم أقل: إن ذلك الإنجليزي قد تخلق بنحيزة ضارٍ فألف كلُّ صاحبه؛ فالإنسان - كما أثبت علم العلماء وأثبت عمله هو - سبعي بالطبع، بل ازددت بعد تلاوة ذلك الحديث إيقاناً بأثر العادة والتعويد، وإيماناً بأن التدريب يقدر أن يذلل الضاري ويقتاده - كان الله في عونه - إلى ملابسة إنجليزي (أو غير إنجليزي) ولا شئ في الدنيا أصعب من مخالطة الناس.
وفي العربية أقوال كثيرة في العادة والمرون والتضرية والتدريب والتألف. وهذا خبر حسن بارع مجزئ عن كثير في هذا المعنى، وهو في الشرح الكبير (للنهج) لأبن أبي الحديد:
(إن لم تكن حليماً فتحلم، فأنه قل من تشبه بقوم إلا أوشك أن يكون منهم) صحيحٌ في مناهج الحكمة؛ لأن من تشبه بقوم وتكلف التخلق بأخلاقهم، والتأدب بآدابهم، واستمر على ذلك ومرن عليه الزمان الطويل، اكتسب رياضة قوية وملكة تامة وصار ذلك التكلف كالطبع له، وانتقل عن الخلق الأول. ألا ترى أن الأعرابي الجلف الجافي إذا دخل المدن والقرى وخالط أهلها، وطال مكثه فيهم انتقل عن خلق الأعراب الذي نشأ عليه وتلطف طبعه، وصار شبيهاً بساكني المدن، وكالأجنبي عن الوبر. وهذا قد وجدناه في حيوانات أخرى غير البشر كالبازي والصقر والفهد التي تراض حتى تذل وتأنس، وتترك طبعها القديم، بل قد شاهدناه في الأسد وهو أبعد الحيوان من الأنس. وذكر أبن الصابي (أبو اسحق) أن عضد الدولة بن بويه كانت له أسود يصطاد بها الصيد فتمسكه عليه حتى يدركه فيذكيه، وهذا من العجائب الطريفة).
(ق)
إلى أخي النازح إلى باريز!
للأستاذ علي الطنطاوي
(هذا الذي أقوله لأخي، يقال لكل طالب مسلم يدرس في
أوربة)
(ع)
يا أخي!
لمّا دخلت (مسابقة البعثة) أمّلت لك بالفوز لما عوّدك الله من التوفيق والمعونة، وخفت عليك الخيبة لأن (الوزارة) لا تريد إلا مبعوثاً واحداً في (العلوم الرياضية) من سورية كلها، وأنى لك أن تكون ذاك الواحد؟
ولما ظهرت النتيجة، وكنت أنت الناجح في (فرع الرياضة)، وكنت ناجح في (الطبيعة) أيضاً، حمدت الله على هذه المنة، وذهبت أستعجلك بالسفر.
ولما عزمت أعددت لك ما تريد وأنا فرح مستبشر مسرور
كنت مسروراً لأني أعلم أنك ذاهب تطلب العلم، وتخدم الوطن، وتقوم بالواجب.
ولكن لم يكد يتحقق الأمر، ويأزف الرحيل، الباخرة الفخمة (ماربيت باشا) رابضة حيال المرفأ (في بيروت) تسطع أنوارها وتتلألأ، وألقي نظري على هذا البحر الهائل الذي يمتد في الفضاء أسود مثل الليل، حتى يغيب في السماء، أو تغيب فيه السماء. . . لم أكد أرى ذلك حتى أدركت الحقيقةالواقعة، وعلمت أنك مودع نازح، فغلبت علىّ العاطفة، وفاضت نفسي رقة وحناناً.
لم أستطع أن أودّعك، ولم أقوَ على رؤيتك وأنت في الباخرة، ماخرة بك عباب أليمّ، تنأى بك عني، حتى تصير نقطة صغيرة على شاطئ الأفق، ثم تنحدر إليه، وتختفي وراءه، وتختفي أنت معها، وتصبح في نظري عدماً، لأني لا أحس لها وجوداً. .
والوداع - يا أخي - جماع آلام الحياة وأساسها ومصدرها، وأشد ألوان الوداع وآلمها وأمرّها وداعٌ في البحر، ذاك الذي لا يطيقه ذو قلب. .
ودعتك وداعاً عادياً، ولبثت في مدرستي ألقي درسي وأنا هادئ الجوارح ساكن الطائر،
ولكن في القلب مني زلزلة، وفي الأعصاب ناراً. . .
حتى إذا عاد أخوك ناجي الذي صحبك إلى الباخرة فخبرني أنك سرت (على أسم الله)، أحسست كأن قلبي قد هبط من هذا الزلزال كبناء هوى، وأن هذه النار قد تركت أعصابي رماداً منطفئاً فسقطت على كرسي. . . لا أدري فيم هذا الضعف، ولا أحبه في نفسي، ولكني أدري أني أتخيلك الآن وحيداً فريداً لا ترى حولك قريباً ولا صديقاً، تطل من شرفة الباخرة فلا ترى إلا السماء والماء، وقد أخذك دوار البحر فلم تجد معيناً ولا مسعفاً. وأتصورك في ذلك البلد الغريب الذي لا ترى فيه إلا وجوهاً تنكرها، وأنت الذي لم يفارق أهله قط، ولم يغب عن بيته ليلة، ولم يسافر وحده أبداً. . . فلذلك ما أحزن، وفي ذلك أفكر.
ولكنها - يا أخي - خطيئة تربيتنا الاتكالية. لو أن آباءنا عودونا، ولو أنا عوّدناك على الحياة الاستقلالية الصحيحة، وتركناك وأنت في الثانية عشر تذهب وحدك وتعود وحدك، وعودناك حمل التبعات وأيقظنا فيك شخصيتك ولم ندعها ضائعة في شخصياتنا، ودفعناك إلى استثمار مواهبك ولم نتركها معطلة، ولو فعلنا ذلك وأنت في الثانية عشرة لما خفت عليك السفر وحدك إلى باريز وأنت في طريق العشرين!
يا أخي.
إنك تمشي إلى بلد مسحور (والعوذ بالله)، الذاهب إليه لا يؤوب، إلا أن يؤوب مخلوقاً جديداً وإنساناً آخر غير الذي ذهب. . . يتبدل دماغه الذي في رأسه، وقلبه الذي في صدره، ولسانه الذي في فيه؛ وقد يتبدل أولاده الذين هم في ظهره إذا حملهم في بطن أنثى جاء بها من هناك!
إي والله يا أخي، هذه حال أكثر من رأينا وعرفنا (إلا من عصم ربك)، يذهبون أبناءنا وإخواننا وأحباءنا، ويعودون عداةً لنا، دعاةً لعدونا، جنداً لاستعمارنا. . . لا أعني استعمار البلاد، فهو هيّن لين، ثم إننا قد شفينا منه بحمد الله أو كدنا. . .
وإنما أعني استعمار الرؤوس بالعلم الزائف، والقلوب بالفنّ الداعر، والألسنة باللغة الأخرى، وما تبع ذلك من الارتستات والسينمات وتلك الطامات، من المخدرات والخمور، وهاتيك الشرور. . .
فانتبه لنفسك واستعن بالله، فإنك ستقدم على قوم لا يبالي أكثرهم العفاف، ولا يحفل
العرض. سترى النساء في الطرقات والسوح والمعابر يعرضن أنفسهم عرض السلعة، قد أذلتهن مدنية الغرب وأفسدتهن، وهبطت بهن إلى الحضيض، فلا يأكلن خبزهن إلا مغموساً بدم الشرف، وأنت لا تعرف من النساء إلا أهلك، مخدرات معصومات كالدّر المكنون، شأن نساء الشرق المسلم، حيث المرأة عزيزة مكرّمة، محجوبة مخدرة، ملكة في بيتها، ليست من تلك الحطة والمذلة في شئ. . . فإياك أن تفتنك امرأة منهن عن عفتك ودينك، أو يذهب بلبك جمال لها مزوّر، أو ظاهر خدّاع. هي والله الحيّة: ملمس ناعم، وجلد لامع، ونقش بارع، ولكنّ في أنيابها السمّ. . . إياك والسم!
إن الله قد وضع في الإنسان هذه الشهوة وهذا الميل، وجعل له من نفسه عدوّاً (لحكمة أرادها)، ولكنه أعطاه حصناً حصيناً يعتصم به، وسلاحاً متيناً يدرأ به عن نفسه، فتحصن بحصن الدين، وجرد سلاح العقل توَقّ الأذى كله. . . واعلم إن الله جعل مع الفضيلة مكافأتها: صحة الجسم، وطيب الذكر، وراحة البال؛ ووضع في الرذيلة عقابها: ضعف الجسد، وسوء السمعة، وتعب الفكر، ومن وراء ذلك الجنة أو الجهنم. . .
فان عرضت لك امرأة بزينتها وزخرفها فراقب الله، وحكم العقل، وأذكر الأسرة والجدود. . . لا تنظر إلى ظاهرها البراق بل أنظر إلى نفسها المظلمة القذرة وماضيها الخبيث المنتن، أتأكل من إناء ولغت فيه كل الكلاب؟؟
يا أخي!
إن في باريز كل شئ: فيها الفسوق كله، ولكن فيها العلم. فان أنت عكفت على زيارة المكتبات وسماع المحاضرات وجدت من لذة العقل ما ترى معه لذة الجسم صفراً على الشمال (كما يقول أصحابك الرياضيون)، ووجدت من نفعها ما يعلقك بها حتى ما تفكر في غيرها. فعليك بها، استق من هذا المورد الذي لا تجد مثله كل يوم. راجع وابحث وألّف وأنشر، وعش في هذه السماء العالية، ودعْ من شاء يرتعْ في الأرض، ويعش على الجيف المعطرة. . .
غير أنك واجد في ثنايا هذه الكتب التي كتبها القوم المستشرقون عن العربية والإسلام، وفي غضون هذه المحاضرات التي يلقونها، عدواناً كثيراً على الحق، وتبديلاً للواقع، فانتبه له واقرأ ما تقرأ وأصغ لما تسمع وعقلك في رأسك، وإيمانك في صدرك. لا تأخذ كل ما
يقولون قضية مسلمة وحقيقة مقررة، فالحق هو الذي لا يكون باطلاً، وليس الحق ما كان قائله أوربياً فانظر أبداً إلى ما قيل، ودع من قال!
ثم إنك سترى مدينة كبيرة، وشوارع وميادين، ومصانع وعمارات. . . فلا يهولنك ما ترى، ولا تحقر حياله نفسك وبلدك كما يفعل أكثر من عرفنا من روّاد باريس. وأعلم أنها إن تكن عظيمة، وإن يكن أهلها متمدنين، فما أنت من سودان أفريقية ولا بلدك من قرى التبّت. . . وإنما أنت أبن المجد والحضارة، أبن الأساتذة الذين علموا هؤلاء القوم وجعلوهم ناساً، أين الأمة التي لو حذف أسمها من التاريخ لآض تأريخ القرون الطويلة صحفاً بيضاً لا شئ فيها، إذ لم يكن في هذه القرون بشر يدوّن التاريخ تاريخه سواهم. . . فمن هؤلاء الذين ترى؟ إنما هم أطفال أبناء أربعة قرون، ولكنّ أمتك بنت الدهر لما ولد الدهر كانت شابة، وحين يموت الدهر تكون شابة. . .
لا. لا أفخر بالعظام البالية، ولا أعتز بالأيام الخالية، ولا أذكر لك الماضي لتقنع به وتنام، ولكن أذكره لك لأهز فيك نفسك العربية المسلمة، لأستصرخ في دمك قوى الأجداد التي قتلت وأحيت، وهدمت وبنت وعلمت، واستاقت الدهر من زمامه فانقاد لها طيعاً. . . إن هذه القوى كامنة في عروقك، قائمة في دمك، فليفُر هذا الدم وليثر ويضطرم تظهر ثانية وتعمل عملها.
لا تقل: ماذا يصنع طالب مثلي ضعيف في أمة قوية، فإن الأندلس المسلمة كانت بالنسبة لعصرها أقوى، وكانت روادها من طلاب الفرنجة أضعف، ولكنهم استطاعوا على ضعفهم أن يضعوا (هذه القوة) التي تعجب بها أنت، ويذوب فيها دين غيرك وخلقه. . . إن الدهر يا أخي دولاب، والأيام دول. وإن في الشرق أدمغة، وفي الشرق سواعد، وفي الشرق مال، ولكن ينقص الشرق العلم فاحمله إليه أنت وأصحابك، وعودوا إلى الشرق شرقيين معتزين بشرقيتهم الخيرة العادلة، كما يعتز الغربيون بغربيتهم الظالمة الطاغية. واعلموا أن مهمتكم ليست ورقة تنالونها، قد تنال بالغش والاستجداء والسرقة. . . ولكن مهمتكم أمة تحيونها.
يا أخي!
إذا وجدت واسعاً من الوقت فادرس أحوال القوم وأوضاعهم في معايشهم وتجارتهم وصناعتهم ومدارسهم، وابحث عن أخلاقهم ومعتقداتهم، على أن تنظر بعين الناقد العاقل
الذي يدّون الحسنة لنتعلمها، والسيئة لنتجنبها. ولا تكن كهؤلاء الذين كتبوا عن باريز من أبناء العرب، فلم يروا إلا المحاسن والمزايا، ولا كأولئك الذين كتبوا عن الشرق من أبناء الغرب، فلم يبصروا إلا المخازي والعيوب، ولكن كن عادلاً صادقاً أميناً.
وإياك وهذه الحماقة التي يرتكبها بعض الكتاب من الفرنجة حين يهرفون بما لا يعرفون، ويقولون ما لا يعلمون، كهذا الأخرق الصفيق الذي عمل أطروحة موضوعها (الحج) قدمها إلى جامعة كبرى وهو يجهل العربية، ولا يعرف أي كتاب من كتب المسلمين بحث في الحج، وإنما جمع الأخبار من الصحف ومن أفواه العامة؛ وكتب في نظام الريّ في الغوطة، وزعم أنه وفّى البحث وأتمّه، وهو لا يعرف منه إلا ما خبره به ثلاثة فلاحين لقيهم في قرية ذهب إليها، مع أن نظام الريّ في الغوطة لا يكاد يعرفه في دمشق إلا نفر قليل. . . وذاك الذي كان معلماً أولياً في بلده فصار عندنا مدير دار المعلمين العالية، فذهب مع طلابه إلى ظاهر دمشق، فمشى ينظر على جانبي طريق (الربوة) هناك وهناك. . . فوجد في الجبل أثراً للماء، فقال: من أين جاء هذا الماء؟ لا بدّ أن يكون جاء من بردى، إذ لا ماء في دمشق إلا من بردى. فماذا تكون نتيجة البحث (البحث العلمي) في هذه المسألة؟ هي أن بردى كان يصل إلى هنا. . . إذن فقد كان عرض بردى في الماضي أربعمائة متر. . . وانطلق يقرر دائماً هذه الحقيقة!
وبعد يا أخي، فأعلم أن أثمن نعمة أنعمها الله عليك هي نعمة الأيمان، فاعرف قدرها، واحمد الله عليها، وكن مع الله ترَ الله معك وراقب الله دائماً، وأذكر أنه مطلع عليك، يعصمْك من الناس ويُعذْك من الشيطان، ويوفقْك إلى الخير.
وفي اللحظة التي تشعر فيها أن دينك وأخلاقك في خطر، احزم أمتعتك وعد إلى بلدك، وخلّ (السوربون) تَنْعِ من بناها. . . وانفض يدك من العلم إن كان لا يجئ إلا بذهاب الدين والأخلاق. . .
أستودع الله نفسك ودينك وأخلاقك، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
علي الطنطاوي
أطراف من تاريخ الملابس عند المسلمين
للعلامة المستشرق دوزي
للأديب محمد طه الحاجري
كاد فن صناعة الملابس أن يكون مجهولاً في العهود الإسلامية الأولى، يوم كان العرب كلهم بدواً إلا قليلاً، وكانت المدن صغيرة ضئيلة الخطر، فكانت الأردية البسيطة المفردة كافية في الوقاية من البرد والحر. وما كانوا يحسبون أن من الممكن أن تصنع الملابس على أسلوب رشيق، بل كان ناسج الثوب هو وحده الذي يقوم بالأمر. ولكن العرب حين فتحوا وشيكاً قسماً كبيراً من آسيا وأفريقية وأوربا، اتصلوا بالشعوب التي غلبوها، وكانت قد وصلت إلى درجة عالية من الحضارة، فلم يلبثوا أن تركوا شيئاً فشيئاً حياة البادية، وأخذوا يستقرون في المدن. وكذلك أدركوا أن في مكنتهم أن يصنعوا لأنفسهم ثياباً أرشق مما كانوا يلبسون، فأخذوا كثيراً من زي الشعوب التي غلبوها. ولما كانت مظاهر الترف قد تقدمت عند الفرس تقدماً عظيماً، فقد أحس بلاط بغداد إحساساً مطرداً بنفوذ جيرانه ورعاياه، كما أن تقدم الحضارة والتجارة أنشأ مصانع من كل نوع. وما أسرع ما ضمت بغداد عدداً عظيماً منها، كان مقدار ما فيها من الثياب الحريرية الفاخرة، والأقمشة المصفوفة بالذهب والفضة وما إليهما، يتضاعف مضاعفة مستمرة.
أما في المغرب فكان الأمر على العكس من ذلك، إذ اختلط العرب بالمراكشيين والبرابرة، وهم شعوب جافية، دون فاتحيهم في الحضارة، فكانت مظاهر الترف مجهولة لديهم، فأخذ العرب منهم إلى حد ما زيهم البسيط الغليظ.
أما في الأندلس فقد استخلص العرب لأنفسهم جزءاً كبيراً من زي الفرسان المسيحيين، ولا سيما في العهد الأخير من عهود ملكهم. ويصرح أبن سعيد بأن أقبية عرب الأندلس كانت تشبه أقبية المسيحيين. ويقول أبن الخطيب المؤرخ، وهو يتحدث عن محمد بن سعد بن محمد بن أحمد بن مردنيش المتوفى في النصف الثاني من القرن السادس الهجري:(وآثر زي النصارى من السلاح والملابس واللجم والسروج).
أما في مصر والشام فقد عانى الزي تغيرات عظيمة بسبب غارة الأتراك.
وقد أحدث امتزاج العرب بالأجانب أن وجد دائماً اختلاف كبير بين أزياء الشعوب المختلفة
التي تكون الإمبراطورية العربية الشاسعة، حتى أنه ليستطاع لأول وهلة أن يميز عربي الشرق من عربي الغرب. ويقول أبن إياس، وهو يتحدث عن المؤرخ الشهير أبن خلدون:(واستقر لما تولى القضاء وهو بزي المغاربة فعد ذلك من النوادر) ويقول النويري وهو يروي وفاة الملك القاهر بهاء الدين أبي محمد عبد الملك بن الملك المعظم: (وكان يلبس ملابس العرب ويتزيا بزيهم ويركب كمركبهم ويتخلق بأخلاقهم في كثير من أفعاله) وحتى الذين يسكنون المدن القريب بعضها من بعض كانوا يختلفون في أزيائهم، فقد كتب أحد المغاربة - وسماه مارمول - يقول، حينما حرم فيليب الثاني على مغاربة الأندلس أن يلبسوا زيهم الوطني:(إن زي نسائنا ليس مغربياً بل هو زي مدني كما في قشتالة، وإن الشعوب الإسلامية في البلاد الأخرى لتختلف في أغطية الرأس وفي الثياب والأحذية. ومنذا الذي ينكر أن زي مراكشيات أفريقية والتركيات يختلف عما تلبسه نساؤنا في غرناطة؟ وكذلك تختلف أزياء الرجال، فليس زي فاس كزي تلمسان، وليس زي تونس كزي مراكش، وكذلك الأمر في تركيا والممالك الأخرى).
وهناك فوق ذلك اختلاف كبير في زي الطبقات المختلفة التي تتكون منها الجماعة الإسلامية حتى ليستطاع تمييز الرجل الخاصي من العامي والجندي من شكل العمامة على الأخص، وكذلك كانوا يعرفون بها المنصب الذي يشغله من يلقونه.
بيد أنه يجب ألا يؤخذ هذا القول بوجه عام إلا عند أهل المدن، أما البدو فقد احتفظوا تقريباً بالزي القديم، ولاحظوا تعاليم الدين أكثر من الحضريين.
ولقد حدث محمد (ص) أحاديث عديدة ليمنع مظاهر الترف في الثياب من أن تتغلغل في أمته، وقد استخلص فقهاء الإسلام من هذه الأحاديث نظاماً بالمبادئ والقوانين الخاصة بالزي، وسنعرضها هنا وفقاً لما جاءت به كتب الفقه الحنفي والمالكي.
إن وظيفة الملابس، على ما يقول كتاب ملتقى الأبحر، هي ستر العورة والوقاية من الحر والبرد؛ والأفضل أن تكون من القطن أو الكتان غير مغالى فيها ولا شديدة الرثاثة. وليس أخذ الزينة حراماً متى كان لإظهار نعم الله التي تفضل بها علينا. أما حين تصدر عن الكبرياء فانه ممنوع. وكثيراً ما أوصي عظماء العرب والفرس بالتواضع في هيئة اللباس، ويقول النويري، مثلاً، وهو يمدح صلاح الدين:
(وكان لا يلبس إلا ما يحل كالكتان والقطن والصوف) ويقول في موضع آخر بمناسبة موت الأمير جمال الدين ايدغدي العزيز: (وكان مقتصداً على ملبسه يلبس الثياب القطن من الهندي والبعلبكي وغيره مما يباح ولا يكره لبسه)(راجع: ، 56 ، 58).
والحرير مباح للنساء محرم على الرجال إلا أن يتخذوا منه حاشية لثيابهم لا يتجاوز عرضها أربعة أصابع فذلك جائز لهم؛ ويرى البعض ألا تتجاوز إصبعيين؛ أما المالكية فيرون ألا يبلغ عرضها عرض إصبع واحد. وقد نهى النبي (ص) نهياً مشدداً عن الملابس الحريرية فقال: (من لبس الحرير في الدنيا فلن يلبسه في الآخرة) وقال: (إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة) ويجيز الحنفية للرجال أن يلبسوا ثياباً سداها من الحرير ولحمتها من غيره، وأما عكس هذا، أي أن تكون اللحمة من الحرير والسدى من غيره فلا يحل إلا في الحرب. ولا يتفق المالكية فيما بينهم في جواز لبس القماش المسمى بالخز، وهو ما سداه حرير ولحمته صوف، ولكن الأكثرين على منعه.
والأكثر استحباباً من الألوان الأبيض والأسود؛ أما الأبيض فلقول الرسول (ص): (إن الله يحب الثياب البيض وإنه خلق الجنة بيضاء).
ويقول مؤرخ أفريقي وهو يمدح عبد الرحمن الأول أول ملوك الأندلس: (كان يلبس البياض ويعتم به)، وأما الأسود فلأن محمداً (ص) كان يلبس يوم فتح مكة جبة سوداء وعمامة سوداء كذلك. أما الشيعة فعلى العكس من ذلك يحرمون السواد، إذ نقرأ في رحلات شردان ما يأتي:
(ولا يلبس الأسود في الشرق ولا سيما في فارس لأنه لون مشئوم بغيض لا يمكن النظر إليه، ويسمونه لون الشيطان) أما اللونان الأحمر والأصفر فمكروهان من غير أن نعرف سبب كراهيتهما؛ غير أني أفرض أن الأصفر مكروه لأنه لون البغض، والأحمر لأنه لون الدم. ومع هذا فكثيراً ما يلبس المسلمون ثياباً حمراء وصفراء. ويقول أبن جني والواحدي: إن الفتيات يلبسن عادة ملابس حمراء. أما الملابس الخضراء فلا يلبسها إلا أشراف سلالة الرسول (ص).
ويظهر أنه ليس بين الحنفية والمالكية والشافعية كبير خلاف في فصل الملابس، ولكن يظهر أن مذهب أبن حنبل، وهو أكثر المذاهب تشدداً، قد أبعد في التشدد في هذه المسألة.
وهو ذا ما جاء في تأريخ مصر للنويري (في حوادث سنة 716).
(وفي هذه السنة فوض قضاء قضاة الحنابلة بدمشق إلى شمس الدين أبي عبد الله محمد، ووصل إليه بتقليد القضاء من الأبواب السلطانية في يوم السبت ثامن صفر. وقريء بجامع دمشق بحضور القضاة والأعيان، وخرج القاضي شمس الدين المذكور من الجامع ماشياً إلى دار السعادة، فسلم على نائب السلطنة، ثم نزع الخلعة السلطانية وتوجه إلى جبل الصالحية وجلس للحكم في سابع عشر صفر، وما غير هيئته ولا عادته في مشيه وحمل حاجته، ويجلس للحكم على مئزر غير مبسوط، بل يضعه في يده ويجلس عليه، ويكتب في محبرة زجاج، ويحمل نعله بيده فيضعه على مكان؛ وإذا قام من مجلس الحكم حمله أيضاً حتى يصل إلى آخر الإيوان فيلقيه ويلبسه. هكذا أخبرني من أثق بأخباره؛ واستمر على ذلك، وهذه عادة السلف).
ولست أدري إن كان كل الحنابلة على هذا التواضع الشديد أم هم القضاة وحدهم؟ ويؤسفني أن ليس لدي من فقه الحنابلة ما أراجعه في هذه المسألة، بل يظهر أن هذا الفقه نادر جداً في أوربا.
ولكي نكوّن لأنفسنا فكرة عن التطورات التي طرأت على زي العرب نقارن ثوب محمد صلى الله عليه وسلم بثوب رجل من الطبقة المتوسطة من أهل القاهرة في القرن السادس عشر بعد غارة الأتراك.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلبس قميصاً من القطن الأبيض تصل أكمامه إلى المعصم، وسروالاً من القماش؛ وما كان فوق القميص والسروال - فيما يظهر - إلا ثوب واحد هو الجبة؛ وهي ثوب طويل من الصوف، وحواشيه من الحرير، مفتوح من أمام، ضيق الأكمام؛ أو القباء، وهو ثوب طويل مهيأ بالأزرار من أمام. وكان يلبس في بعض الحالات - بدلاً من هذه الثياب - كساءً من القماش الغليظ، وهو عادة قطعة كبيرة من الصوف السميك رمادية اللون مخططة، ويلف بها الجسم، وهي (البردة). وكان محمد صلى الله عليه وسلم يلبس العمامة البيضاء أو السوداء ويرخي طرفاً منه على ظهره. وأما حذاؤه فكان نعالاً مصنوعة من جلد الإبل، مربوطة بسيرين يمر أحدهما بوسط القدم والآخر بين الإبهام وما يليه.
فنحن نرى أن زي الرسول صلى الله عليه وسلم كان في غاية البساطة، ولا يزال هو زي أهل الصحراء في أيامنا هذه.
فالبدو لا يلبسون - مثل الرسول - إلا قميصاً من القطن، وثوباً طويلاً، وقد يستعيضون عنه بكساء من الصوف.
أما زي الرجل القاهري في القرن السادس عشر، فيتألف من عدد عظيم من الملابس - فلا تزي بحال ما تلك البساطة التي كانت تميز زي الرسول، والتي لا تزال ترى في زي البدو - فكان يلبس فوق القميص والسراويل قفطاناً من الحرير في ألوان مختلفة قد خالط بعضها بعضاً، ولهذا الثوب أكمام فضفاضة؛ ثم يلبس فوق القفطان حزاماً من الحرير أو الوبر أو الصوف، ثم جبة طويلة مفتوحة من الأمام، ذات كمين قصيرين لا يصلان إلى المعصم حتى يظهر طرفا كمي القفطان وقد تجاوز الأصابع؛ وهذا الثوب أقصر قليلاً من الأمام عنه من الخلف، وهو مصنوع من القماش الأحمر أو الأزرق أو الرمادي؛ ثم يلبس فوق الجبة ثوب فضفاض يصنع عادة من الوبر، ويزين أحياناً بالفراء، وهو الفراجية. أما غطاء الرأس فيتكون من طاقية صغيرة من القطن وطربوش أحمر وقطعة طويلة من الشاش (الموسلين) تستدير حول الرأس. وأما الحذاء فمن الجلد المراكشي الأحمر.
وجمال الثياب وعددها يخلعُ على لابسها في الشرق العظمة ويبعث على احترامه ويقول المثل الفارسي (قربت بلباس) ويفسره تافرينيه بقوله: بمقدار ما تتجمل في ثيابك، تقابل بالإجلال، وتنال الحظوة في القصر والقربى لدى العظماء. أما في مصر فهناك ما جاء من ذلك في كتاب (وصف مصر)، ' كلما كدس الناس من الثياب على أجسامهم ضاعفوا الاحترام والتقدير الذي يبغونه لأنفسهم)؛ فليس يبدو غريباً إذن أن يعنى الشرقيون بأن تكون ثيابهم نظيفة طيبة الرائحة، وقد جاء في الأغاني عبارة:(ملائمة طيبة) كما نقرأ في تاريخ مصر للنويري أنه وجد في ذخائر أحد العظماء لعبة من العنبر على قدر جسده، برسم ثيابه، توضع ثيابه عليها لتكتسب رائحتها. وورد في (ألف ليلة وليلة) هذا البيت من الشعر:
وتميس بين مزعفر ومعصفر
…
ومعنبر وممسّك ومصندل
كما وردت فيه أيضاً هذه الفقرة: (لبست تلك البذلة الفاخرة وكانت مطيبة) وفي موضع آخر
منه: (فقعدت تبخره فطارت شرارة فأحرقت طرفه). ويقول بوركهارت عن وهابيي نجد أنهم يعنون بتطييب الكوفية بأنواع من الطيوب
وتخص الأرادن بالتطييب، ففي قصيدة للمتنبي يقول:
أتت زائراً ما خامر الطيب ثوبها
…
وكالمسك من أرادنها يتضوع
أما عادة منح الثياب للدلالة على التقدير فعادة شرقية قديمة؛ ومع ذلك يقول المقريزي: إن أول من استعملها هو هرون الرشيد حينما خلع على نديمه جعفر بن يحيى البرمكي. ويسمى ثوب الشرف هذا خلعة، ثم سمى بعد هذا تشريقا. ثم لما تغلغلت هذه العادة أصبحت من القوة بحيث كان الأمير يخلع الرداء الذي يرتديه، فيلبسه الشخص الذي هو موضع تكريمه أو أجازته. ولكن يظهر أن الأمراء لم يكونوا بعد ذلك يهبون من الثياب إلا مما هو مودع في خزائن ثيابهم، أو ما كان جديداً كل الجدة؛ ولكنه كان من دلائل الشرف دائماً أن يلبس الرجل ثياباً كان الأمير يلبسها من قبل؛ ولم يفت المؤرخين أن يشيروا إلى ذلك، فمما يحكي النويري هذه العبارة:(أنعم على الأمير سيف الدين بوشربوش كان قد لبسه).
أما حين يراد معرفة أنواع الثياب التي تتألف منها الخلعة أو التشريف، فقد أشرفنا على مسألة شديدة الصعوبة؛ وإن يكن يخيل إلى أن الأمر كان يرجع، في حكم بعض الأسر، إلى اختيار الأمير المطلق؛ ومع هذا، فإذا كان فييرس يحسب أن الخلعة كانت تتكون غالباً، أو مطلقاً، من القباء وحده، فإني أرى لزاماً على أن أدل هنا على أن هذا رأي خاطئ الأساس. وإذا كان صحيحاً أن ثوب الشرف كان يتكون، في حكم حسن باشا لليمن، من القباء، فأن الأمر لم يكن كذلك في بغداد ومصر مثلاً، فقد كانت الخلعة أو التشريف تتكون من ثياب مختلفة غير ذلك. فالنويري يذكر لنا أن الخلعة التي وهبها خليفة بغداد للملك الناصر داود كانت تتكون من قباء حريري وشربوش، كما يحكى في موضع آخر أن الخلعة التي أعطاها الخليفة العباسي المعتصم بالله كانت تتكون من عمامة سوداء وفراجية موشاة بالذهب. وتقرأ فيما بعد ذلك أن ثوب الشرف الذي منحه الخليفة كان يتألف من عمامة من الحرير الأسود المطرز بالذهب ودراعة. أما الخلعة كانت تعطى للوزير في مصر فكانت تألف من جبة وفراجية وطرحة. وكذلك كان التشريف يتكون من ثياب مختلفة. وأخيراً تدلنا عبارة أخرى للنويري على أن ثياب الشرف كانت تختلف في القماش الذي صنعت
منه، والقطع التي تتألف منها حسب مرتبة من تقدم إليه، أو حسب الخدمات التي أداها للأمير.
وكان الأمير في كثير من الأحوال، يقدم إلى جانب الخلعة خنجراً وحصاناً وأشياء أخرى. كما أنا كثيراً ما تقرأ عن خلعة كاملة وتشريف كامل.
وكانت ثياب الشرف التي يهبها الخلفاء العباسيون تكاد تكون دائماً سوداء.
ولم تكن الغاية من الثياب منحصرة لسوء الحظ، في الزينة بل كان شيطان البغض والانتقام يستعملها في انتزاع الحياة بطريقة دنيئة. ومن المعروف عند الغربيين أن الثياب كانت تستعمل في القرون الوسطى لهذه الغاية. ويكفي قليل من الأمثلة المأخوذة من التاريخ الإسلامي لإثبات أن هذا الأسلوب من الانتقام الدنيء لم يكن مجهولاً في الشرق. والنويري يقص علينا أن السلطان الأيوبي، الملك المعظم، أضمر سخطاً شديداً على قاضي القضاة لأنه أقنع أخت صلاح الدين والملك العادل ست الشام بنت أيوب أن توقف أموالها على بعض المؤسسات الدينية، فخيبت حماسة القاضي الدينية آماله. ولقد حاول الأمير عبثاً أن يجد حجة يستطيع أن ينتقم بها من القاضي، ثم لما وجد أخيراً هذه التعلّة أرسل إليه وهو في مجلس حكمه، وحوله جماعة كثيرة من العدول والمتحاكمين، فلما جاءه الرسول قال له: السلطان يسلم عليك ويقول لك: الخليفة، سلم الله عليه، إذا أراد أن يشرف أحداً من أصحابه خلع عليه من ملابسه، ونحن نسلك طريقه؛ وقد أرسل إليك من ملابسه، وأمر أن تلبسه في مجلسك هذا وأنت تحكم بين الناس؛ وكان الملك المعظم أكثر ما يلبس قباءاً أبيض وكلوتة صفراء. وفتح الرسول البقجة، فلما نظر القاضي إلى ما فيها وجم. قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة فأخبرني الرسول الذي أحضر هذه الخلعة والرسالة بذلك. قال وكان السلطان أمرني أن ألبسه إياها بيدي إن امتنع أو توقف، فأشرت عليه بلبسها وأعدت الرسالة عليه، فأخذ القباء ووضعه على كتفه، ووضع عمامته على الأرض ولبس الكلوتة الصفراء على رأسه، ثم قام ودخل بيته، ومرض إثر هذه الحادثة ورمى كيده ومات؛ ويقال أن ذلك كان في يوم الأربعاء السابع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة تسع عشرة وسبعمائة).
ويذكر بعض المؤرخين الأسبان أن ملك قشتالة الدون انريك مات مسموماً لأن ملك غرناطة محمداً أهدى إليه حذاءين غمرا في السم.
وكانت الثياب السوداء تلبس قديماً للدلالة على الحداد، سواء في لبسها لذلك الرجال والنساء. ومن المعلوم أن زي العباسيين الأسود إنما أنتحل حداداً لموت الأمام إبراهيم بن محمد وكذلك جاءت هذه العبارة في تأريخ مصر للنويري:(شق القاهرة وهو لابس السوداء، وأعلامه كذلك، حزناً على الظاهر).
ولكن الرجال في الأزمنة المتأخرة صاروا لا يلبسون ثياب الحداد، إذ كانت تيدو كأنها دليل على عدم الصبر على ما قدر الله أما النساء فلا يزالون يلبسونها في الشرق، ولكن عند موت الزوج أو القريب الأدنى، ولا يلبسونها في موت من تقدم به العمر؛ وقد جاء في معجم الأعلام الذي وضعه ابن الخطيب أن الشاعرة الشهيرة حفصة، عشيقة أبي جعفر أحمد بن سعيد، الشاعر الشهير ووزير صاحب غرناطة، لبست الحداد حين بلغها أن حبيبها قد قتل، ولكن هذا من غير شك شذوذ من العادة العامة.
ويكون الحداد بأن تصبغ المرأة بالنيلة قميصها وقناعها الذي تغطي به رأسها وتستر به وجهها ومنديلها صبغة زرقاء قاتمة أو قريبة من السواد. وتلبس النساء ثياب الحداد فترة الأيام السبعة أو الخمسة عشر أو الأربعين في بعض الأحيان.
أما في الأندلس، أثناء حكم الخلفاء الأمويين فكانت ثياب الحداد بيضاء. إذ نقرأ في تأريخ الأندلس للمقري هذه العبارة:(عليهم الظهائر البيض شعار الحزن).
ويلبس العرب ثياباً حمراء أو صفراء حينما يريدون الدلالة على الغضب. وقد جاء في كتاب ألف ليلة وليلة هذه العبارة: (لبس بدلة الغضب وهي بدلة حمراء) ولكن هذه العادة ربما كانت عادة تركية
أما في الغرب فكان اللون الأصفر هو الذي يدل على الغضب فقد لاحظ بيدودي سن أولون وويندوس أن ملوك مراكش كانوا إذا اعتزموا أن يسفكوا دماً لبسوا في الغالب ثياباً صفراء.
محمد طه الحاجري
أناشيد صوفية
جيتانجالي
للشاعر الفيلسوف طاغور
بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب
- 13 -
إن اللحن الذي جئت لأترنم به ظل مكفوفاً في نفسي للآن
وتصرمت الأيام وأنا أشد أوتار قيثاري وأرخيها.
لم يأن لي أبداً فالكلمات لم تواتني، غير أن الرغبة الملحة تتنزى في قلبي.
إن الكِمّ لم يتفتح، ولكن الريح تزف حواليه.
لم أر وجهه، ولم أسمع رنات صوته، غير أني استشعرت خطواته الرفيقة وهو يسير
الهوينى أمام داري.
ومر اليوم الطويل وأنا أهيئ له مكاناً، ولكني لم أستطع أن أدعوه إلى داري لأن سرجي
كان هامداً.
وهأنذا أعيش بالأمل في لقياه، ولكن اللقيا لم تحن.
- 14 -
إن رغباتي كثيرة، وفي صيحاتي الألم؛ أفتردني في رفض قاس والرحمة منبثة في
أضعاف حياتي هنا وهناك؟
وعلى مَرّ الأيام جعلتني أستأهل من آلائك العظيمة ما أنعمت به عليّ دون سؤال: هذه
السماء والنور، هذا الجسم والحياة والعقل ثم نجيتني من خطر الرغبة الجامحة.
في حين كنت أتباطأ في فتور؛ وفي حين آخر كنت أهب مسرعاً إلى الغاية؛ ولكنك كنت
تخفي نفسك عني في قسوة.
وعلى مر الأيام جعلتني أستأهل منك القبول المحض بعد طول رفضك إياي، وأنت
جنبتني خطر التخاذل والرغبة المضطربة.
- 15 -
أنا هنا لأردد لك الأناشيد، ولأجلس في زاوية من فنائك
لا عمل لي في دنياك، فحياتي الخاوية تتفجر عن ألحان لا غاية لها
وعند منتصف الليل، حين تدق الساعة في محربك المظلم، مؤذنة بصمت العبادة الرهيب؛
مرني، يا إلهي، أن أقف واطلب إلي لأرتل أغاني.
وبين نسمات الفجر، وقيثارك الذهبية تصدح، شرفي واطلب إلي أن أتقدم نحوك.
- 16 -
لقد لبيت الدعوة إلى مهرجان الحياة، فكانت حياتي سعيدة، أن عيني تبصران ومسمعي
تسمعان.
وكان عملي في هذا الحقل أن أعزف على قيثاري، فبذلت غاية جهدي.
والآن، أسأل: أفلم يأن لي أن أنطلق لأرى وجهك وأحييك في صمت وهدوء.
- 17 -
أنا أنتظر من أحب لألقي بنفسي بين ذراعيه. هذا هو عذري حين أبطأت، وهو ذنبي
حين أهملت.
لقد جاءوا جميعاً وبين أيديهم القانون ومواده ليوثقوا به قيدي فأفلت من قبضتهم لأنني
أنتظر من أحب لألقي بنفسي بين ذراعيه.
والناس يلومونني ويرموني بالغفلة، ولا ريب فهم على حق.
انفضت السوق، وأنجز كل ذي عمل عمله، وانصرف الذين جاءوا ينصحونني وفيهم
الغيظ والغضب؛ وأنا أنتظر من أحب لألقي بنفسي بين ذراعيه.
- 18 -
إن السحب تتكاثف في السماء والدنيا تظلم؛ آه، يا من أحب، لماذا تركتني وحيداً في هذا
العراء؟ عند الظهر في ساعات العمل، أندفع بين الزمر. والآن فهذا اليوم الظليل الهادئ هو لك يا من تعلق به أملي.
فإذا لم تطلع عليّ لأجتلي النور من وجهك، وتركتني وحيداً فكيف أقضي هذه الساعات
الطويلة الممطرة.
أنا أحدق في السماء المتجهمة، وقلبي المضطرب يئن مع الرياح العاصفة.
- 19 -
إذا لم تتحدث حديثك فأملأ قلبي من صمتك العميق واحمله راضياً؛ سأطمئن وأنتظر
كالليل لتسهر كواكبه ورأسه مطأطأ في صبر.
لا ريب فالصباح آت ليبدد الظلمات، وسيتدفق صوتك في مجاريه الذهبية يخترق أطباق
السماء، وسيرفرف كلمك في جناحي لحن كأنه طيري الغريد، وتتفتح أنغامك عن زهر في أنحاء حديقتي.
- 20 -
يا أسفاً! في اليوم أينعت زهرة اللوتس. كان عقلي مضطرباً فلم أحس بها، وكانت سلتي
فارغة ولكن الزهرة طلت مكانها
الآن شملني حزن عميق، فهببت من حلمي لأستروح نسمات عطرية تحملها رياح
الجنوب.
فبعثت هذه النسمات الحلوة في قلبي آلام الحنين، وتراءت لي كأنها زفرات الصيف
العاشق وهو يفتش عن نصفه الآخر.
ما كنت أعلم أن هذه الزهرة على خطوات مني، وأنها هي لي، وأن الحلاوة قد تفتحت
في أعماق قلبي.
- 21 -
لا بد أن أتناول غدائي على الشاطئ، ومرت الساعات متباطئة على الشاطئ. فيا أسفي!
لقد تفتح الربيع عن زهراته وأوراقه الخضراء، وأنا أضرب في الأرض منتظراً وعلى
كتفي حمل من زهراتي الذابلة الذاوية.
الأمواج تضطرب في صخب، وعلى الشاطئ شجرات من الخوخ يانعة تعصف الريح
بأوراقها الصفراء.
لماذا تحدق في الفضاء! أفلا تستشعر في الهواء هزات تحمل نغم لحن جاء في أضعافها
من الشاطئ الآخر.
- 22 -
تحت ظلال شهر يوليه المطير، تسير أنت في خطوات هادئة وفي صمت لا يشعر به
الرقيب.
واليوم أغمض الصباح جفنيه، لا يعبأ بصفير الرياح الشرقية وهي تلح في ندائها، وقد
أسدل نقاب كثيف على وجه السماء الأزرق المتألق.
وأمسكت الغابة عن ترديد لحنها، وغلقت الأبواب؛ وأنت. . . أنت يا عابر السبيل
تضرب في الطريق الصحراوي وحيداً. أوه، يا صديقي العزيز، يا من أحب، إن باب داري مفتوح على مصراعيه فلا تمر به كأنك حالم.
- 23 -
يا صديقي، أفِأنت في العراء تتم رحلة الهوى في هذه الليلة العاصفة؟ وإن السماء تئن
كأنها مصدور بنفس عن نفسه.
لقد أرقت الليلة، يا صديقي وباب داري مفتوح فأنظر إليه في هذا الظلام الدامس. أنا لا
أرى - في هذا الظلام - شيئاً مما أمامي، فلا أستطيع أن أجد الطريق إليك.
عند شاطئ أي نهر مظلم قاتم، لدى حافة أية غابة سوداء حالكة، وفي ثنايا أي عمق معتم
مضل، جلست يا صديقي، ترسم في نفسك الطريق إلي.
- 24 -
إذا انطوى النهار، وصمتت الطيور الغريدة، وهدأت الرياح الزفزافة؛ فانشر علي قناعاً
صفيقاً من الظلمة كما نشرت على الأرض أستار النوم، وكما لففت أوراق زهرة اللوتس الذابلة في غيابة الظلام.
نحِّ عن السائح الذي نفد زاده، وتمزقت ثيابه، وتشعث وأغبر، وخارت قوته، انطفأت
منته، قبل أن يبلغ غايته. . . نحِّ عنه الضنا والفقر، وانفث فيه من روح الحياة ليكون كزهرة تلفعت برداء الليل الرفيق.
- 25 -
في الأمسية التي أكدّني فيها الجهد، دعني أنم هادئاً وفي نفسي الأيمان بك.
ولا تطلب إليّ أن أرهق نفسي المتعبة بعبادتك.
فأنت الذي أن حسرت عن عيني النهار نقاب الظلام ليبدو فيها النشاط والمرح من جديد
بعد أن أضناها التعب والأسى.
كامل محمود حبيب
أبو إسحاق الصابي
للأستاذ عبد العظيم علي قناوي
بعثني إلى الكتابة عن أبي إسحاق الصابي رغبة حافزة في أن أربط بينه وبين أبي الفرج الببغاء أديبين عفى عليهما الدهر، ثم أراد لأدبهما بعثاً، كما ربطت بين روحيهما أواصر الأدب، فتعارفا متباعدين وتآلفا متقاربين، فقد قدمنا أن الصلة بينهما كانت في الحياة وثيقة العرا محكمة الحلق، لم تشبها شائبة حفيظة، ولقد جعلني الحديث عن أبي الفرج على ذكر متصل بأبي إسحاق لا يبرح أفق تفكيري ولا يحيد عنه، ولا يريم عن محيط ذهني ولا يقصو دونه. ولعل من أهم عوامل علوق أسمه بذاكرتي، ورسوخ شخصه في مخيلتي، أن حظه في دنياه كان كحظ صنوه، بل إنه كان أسوأ من أخيه جداً وأنكد دهراً، وأتعس رجاء وأملاً، فكلما تقدم به الأجل وأشرق له الأمل أدركته حرفة الأدب، فتضاعف عليه الألم، لا يغني عنه ما أوتى من ألمعية نادرة، ولا يصرف صروف الدهر دونه ما وهب الله له من مواهب فياضة زاخرة، فغير الدهر تنصب عليه انصباباً، ونوبة تتقاذفه تقاذفاً، وأحداث الزمان تتعاوره كهلاً أناخ به المشيب، وخطوبة تتناوبه شيخاً بما لا يقوى عليه الفتى الصليب. وهكذا دواليك: غمرات تترى، ونكبات تتوالى، ولا يجد على تعاقب الليالي إلا ضيماً، وتسومه الأيام بكرها خسفاً وظلماً؛ حتى أنشد وأنشد وتمنى، فكانت المنية هي أصدق المنى، فلله هو إذ يقول:
إذا لم يكن للمرء بدّ من الردى
…
فأسهله ما جاء والعيش أنكد
وأصبعه ما جاء والعيش راتع
…
تطيف به اللذات والعيش مسعد
فإن أك شر العيشتين أعيشها
…
فإني إلى خير المماتين أقصد
وسيان يوما شقوة وسعادة
…
إذا كان غِبا واحداً لهما الغد
وما زال هذا شأنه لا يحول حاله إلا إلى سوء، وذلك ديدنه لا يتغير أمره إلا إلى غير، وهو يندب جده آنا وآنا، ويشكو بؤسه حيناً وحينا، فلا يجد لشكواه سكينة أو أونا، ولا يعرف إلى الحين مهيعاً أو سبيلاً؛ حتى صار ملجأ أمراض وأسقام، ومحط أوصاب وآلام. وهاهو ذا يشكو زمانته، وآثار الهرم في كيانه وحاجته إلى محفة يتخذها بدل قدميه اللتين ناءتا بحمله، وشاركتا الدهر في استثقال ظله، وقد بعث بقصيدته تلك إلى الشريف الرضي، وقد
كان يشفق عليه ويرحمه، ويأسو كلومه ويرأمه، قال منها:
إذا ما تعدت بي وسارت محفة
…
لها أرجل يسعى بها رجلان
وما كنت من فرسانها غير أنها
…
وفت لي لما خانت القدمان
نزلتُ إليها عن سراةِ حصان
…
بحكم مشيبي أو فراشَ حصان
فقد حملت مني ابن تسعين سالكاً
…
سبيلاً عليها يسلك الثقلان
كما حمل المهدُ الصبيَّ وقبلها
…
ذعرت ليوث الغيل بالنزوان
فجاءت مواساة الشريف له سخية وفية، وعطفه براً سابغاً ضافياً، فقد لأم جروحه بقصيدة تفيض بالعطف أشطارها وتفعم بالود أبياتها منها!
لئن رام قبضاً من بنانك حادث
…
لقد عاضنا منك انبساط جنان
وإن بُزّ من ذاك الجناح مطاره
…
فرب مقال منك ذي طيران
وإن أقعدتك النائبات فطالما
…
سرى موقراً من مجدك الملوان
وإن هدمت منك الخطوب بمرها
…
فثم لسان للمناقب بان
مآثر تبقى ما رأى الشمس ناظر
…
وما سمعت من سامع أذنان
من هذه الأبيات ندرك تعاسته وبؤسه، ونتبين آلامه وأسقامه، وما زال يغالب الزمان ويجالد الحدثان حتى أراد الله له الدعة التي طالما تمناها، وآتاه الطلبة التي كثيراً ما طلبها فعزت عليه. وافاه أجله وقد جاوز التسعين سنة حلب فيها الدهر أشطره فذاق شره مترعاً وقلما طعم خيره، وشرب كئوس البؤس دهاقاً، ولما ما ألمّ بالنعيم، ولقد كان في فتوته أسعد حالاً منه في كهولته وعاش في شبيبته أنعم بالاً منه في شيخوخته، وإليك حديثه عن ذلك في خيال صاف وديباجة مطرزة:
عجباً لحظي إذا أراه مصالحي
…
عصر الشباب وفي المشيب مغاضبي
أمن الغواني كان؟ حتى ملني
…
شيخا، وكان على صباي مصاحبي
أمع التضعضع ملني متجنباً؟
…
ومع الترعرع كان غير مجانبي
يا ليت صبوته إليّ تأخرت
…
حتى تكون ذخيرة لعواقبي
وبعد تلك الإلمامة بحاله نتحدث عن نشأته وحياته: يروي ياقوت في معجمه أن أبا إسحاق إبراهيم بن هلال بن زهرون ولد بحران سنة ثلاث عشرة وثلثمائة هجرية، وأدركته منيته
لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر شوال لسنة أربع وثمانين وثلثمائة؛ فسنه على هذه الرواية إحدى وسبعون سنة، وهو يقول في تعزيز روايته تلك:(وذكر أبو منصور الثعالبي في كتابه (يعني كتاب يتيمة الدهر) أنه بلغ من العمر تسعين سنة والذي أوردته من تأريخ حفيده، وهو به أعلم) ويقصد بحفيده أبا الحسين هلالاً بن المحسن بن إبراهيم الصابي، ويعقب الأستاذ شارح معجم الأدباء على ياقوت فيقول:(إنما قال الثعالبي إنه خنق التسعين أي قاربها) والحق أن الثعالبي ذكر سن أبي إسحاق في موضعين فقال في صدر الحديث عنه، وهو بصدد التعريف به (وكان قد خنق التسعين في خدمة الخلفاء وخلافة الوزراء) ثم قال في نهاية الفصل الذي كتبه عنه تحت عنوان وفاته (توفي في يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة من شوال سنة أربع وثمانين وثلثمائة، وكانت سنوه إحدى وتسعين سنة قمرية).
وإني إلى تحقيق الثعالبي أميل لوجوه أعدد منها:
أولاً: يكاد أبو منصور الثعالبي يعتبر معاصراً لأبي إسحاق الصابي، فقد توفي أبو منصور عقبه بنحو خمس وأربعين سنة، وهو أمد قصير في أعمار التاريخ والمؤرخين.
ثانياً: السن التي ذكرها صاحب اليتيمة وردت في قصيدة لأبي إسحاق إذ يقول:
فقد حملت مني ابن تسعين سالكا
…
سبيلا عليها يسلك الثقلان
وقد كان إنشاء هذه القصيدة قبل وفاته بنحو أربعة أشهر
ثالثاً: قد يكون حفيد أبي إسحاق صادراً في حديثه عن غير تروٍّ وتدبر للحقيقة، لأنه حديث يسمع وينسى لا كما يصدر حديث عن مؤلف يتحرى الصدق ويلتزم جادة الدقة؛ لأنه خبر يخلد ويبقى.
رابعاً: سن السبعين لا توهي جلداً ولا توهن عظماً، وإن كان صاحبها متزاحمة عليه النائبات مولعة به النكبات إلا في القليل النادر.
وسواء أكان موته عن إحدى وتسعين أم عن إحدى وسبعين فقد خلف في الأدب أخلد الأثر، وضرب في النبل والوفاء أصدق المثل، فلقد ولد ومات على دين الصابئة، والصابئون كما يقول الأمام الكبير الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى:(إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر. . . الخ الآية): (قوم يعبدون الكواكب ثم لهم قولان: الأول إن خالق العالم هو الله سبحانه، إلا أنه سبحانه أمر بتعظيم هذه الكواكب
واتخاذها قبلة للصلاة والدعاء والتعظيم. والثاني: إن الله سبحانه خلق الأفلاك والكواكب، ثم إن الكواكب هي المدبرة لما في هذا العالم من الخير والشر والصحة والمرض، والخالقة لها، فيجب على البشر تعظيمها لأنها هي الآلهة المدبرة لهذا العالم، ثم إنها تعبد الله سبحانه).
على هذا الدين ولد أبو إسحاق وعليه مات في عصر الإسلام فيه مزدهر والكلمة العليا له، والمكانة المكينة في العالم لرجاله، ولا فضل لمن لم يوله قلبه، ويهب له نفسه، وإن بقاءه على صابئته - على الرغم مما يحوطه ليدل أعظم الدلالة على أن الإسلام دين سمح، أساسه العفو والأمر بالعرف، والإعراض عن المشركين دون أن يصيبهم أذى، أو ينالهم حيف، أو تحل بهم نقمة مخلوق؛ لأنه دين العقل والحجة والمنطق والموعظة الحسنة، ولولا تسامح ذلك الدين القويم ما وجد مثل الصابئ كنفاً يلجأ إليه أو وزراً يحميه، فكيف وقد عاشر الخلفاء والأمراء والملوك والوزراء؟ وكذلك عاش أمثاله في رغد ورفهية؛ عاشوا موفوري الكرامة مرفوعي الرءوس مجدودي الحياة؛ ولقد بصر أبو إسحاق بالدين الإسلامي ورغب في الإسلام وألف قلبه، وأجزل له من أجل ذلك، فلم يهد الله قلبه للإيمان؛ لأنا لا نهدي من نحب، ولكن الله يهدي من يشاء؛ لذلك لم يصخ بسمعه إلى دعوة اليقين والداعون إليها هم سادته ومواليه وأرباب نعمته ومالكو زمام أمره إن شاءوا رفعوه وأعزوه، وأن أرادوا وضعوه وأذلوه. ولقد حدث التاريخ أن عز الدولة بختيار عرض عليه الوزارة على أن يسلم، فأباها مفضلاً أن يبقى على دين آبائه الغابرين؛ وإن وفائه لملته، وإخلاصه لنحلته لمصدر عجب لمن أراد العجب؛ إذ لم يعرف عنه أنه أرتكب أمراً حرم عليه، ولا جاء وزراً نهى عنه شرعه. ويروي المؤرخون أنه حضر مائدة للوزير المهلبي بن أبي صفرة، وكان أبو إسحاق من خلانه الأدنين وخلصائه المصطفين، فامتنع عن لون من ألوان الطعام محرم لدى الصابئة، فقال له المهلبي: لا تبرد وكل معنا من هذه الباقلاء. فقال: أيها الوزير لا أريد أن أعصي الله في مأكول، فكان موفقاً في إجابته مسدوداً في مجانته. وروي أن عز الدولة بختيار بذل له ألف دينار على أن يأكل الفول وهو مما يحرم أكله أيضاً في دينه، فرفضها متعففاً وهو الفقير إليها فأين من أولئك الذين لا يتناهون عن منكرات يجترمونها، ولا يتعففون عن محرمات يجترحونها غير مبالين ما ينتظرهم من حساب شديد وعذاب
أليم؟ وآية نبله أنه مع تعصبه هذا وتشدده وتزمته في دينه كان جميل العشرة للمسلمين صادق الإخاء كريم الصنيع حسن المعونة، فكان يصوم رمضان لا تحنثاً بل تجملاً، ويحفظ القرآن الكريم إجلالاً له وعرفاناً بخطره؛ لأنه رأى فيه مهبط الحكمة ومصدر البلاغة، ومشرع اللسن والفصاحة، فظهر أثر ذلك على أسلة يراعه، وجرى على عذبة لسانه. وإليك ما يقوله أبو منصور الثعالبي في يتيمته عنه في تلك الناحية من خلقه وأدبه:(كان يعاشر المسلمين أحسن عشرة، ويخدم الأكابر أرفع خدمة، ويساعدهم على صيام شهر رمضان، ويحفظ القرآن حفظاً يدور على طرف لسانه وسن قلمه، وبرهان ذلك ما وردته في كتاب الاقتباس من فصوله التي أحسن فيها كل الإحسان وحلاها بآي من القرآن)
ومن آيات وفائه ونبله أنه كان صديقاً ودوداً للشريف الرضي حتى أتهم بأنه يدعو له بالخلافة، ويتمنى أن ينال مطمحه ويدرك مأربه، وهو لم ينف ذلك عن نفسه، بل إنه جهر به في قصيدة بعث بها إلى الشريف، وهو لا بد عالم بوقعها في نفوس أعدائه وحاسديه، ولكنه لم يعبأ بما قد يصيبه بسببها، لأنه أسير وجدانه، وينطق إذ ينطق عن شعوره وإحساسه، وما عليه إذ يرضيهما من بأس، وهذا بعض ما قاله فيها:
أبا حسن لي في الرجال فراسة
…
تعودتُ منها أن تقول فتصدقا
وقد خبَّرتني عنك أنك ماجد
…
سترقي من العلياء أبعد مرتقى
فوفَّيتك التعظيم قبل أوانه
…
وقلت أطال الله للسيد البقا
وأضمرت منه لفظة لم أبح بها
…
إلى أن أرى إطلاقها لي مطلقا
فإن عشت أو إن مت فاذكر بشارتي
…
وأوجبْ بها حقاً عليك محققاً
وكن لي في الأولاد والأهل حافظاً
…
إذا ما اطمأن الجنب في موضع البقا
ولقد كان مع هذا محببا إلى الخلفاء والوزراء، كلهم يطلب يده ويبتغي أن يقصر خدمته عليه دون غيره، فمنهم من كان يسلك إلى إربته طريق البذل والرفد، ومنهم من كان يطرق سبيل العقوبة والحقد، فعاش محسداً إن رضى عنه وزير غضب عليه آخر، وإن صفا له أمير جفاه خليفة. وممن اصطفاه ولم يجتوه وأحبه ولم يجفه الصاحب بن عباد، ولعل الأدب هو الذي قرب بين نفسيهما وألف بين روحيهما، فلم تقع بينهما نبوة، ولا لحق صدقتهما جفوة، فكثيراً ما بثه شكواه، واستمطر غيثه وكان موضع نجواه، ولقد كان أول أمره يأنف
أن يتصل بالصاحب مادحاً أو أن يطلب صلته مانحاً؛ حتى استوزر الصاحب فنزل عن أنفته وقنع من مطاولته بمصاحبته، وكان الصاحب يعجب به أشد الإعجاب، ويراه أحد أفذاذ الأدب، فقد حدَّث عنه أنه كان يقول:(كتاب الدنيا وبلغاء العصر أربعة: الأستاذ أبن العميد، وأبو القاسم عبد العزيز بن يوسف، وأبو إسحاق الصابي ولو شئت لذكرت الرابع) وكان يعني بالرابع نفسه. ويقول الثعالبي (وأما الترجيح بين هذين الصدرين أعني الصاحب والصابي في الكتابة فقد خاض فيه الخائضون، وأخب فيه المخبون، ومن أشف ما سمعته في ذلك أن الصاحب كان يكتب كما يريد وأبو إسحاق كان يكتب كما يؤمر، وبين الحالتين بون بعيد) وأحسب أنه يقصد تفضيل الصابي لأن الذي يستطيع أن يكتب ما يراد منه ويؤمر به لاشك مستطيع أن يكتب مات يرده هو، وعلى هذا فقد برع في الناحيتين وفاق صاحبه فيما قصر فيه، وإلى أمد قاصد نكمل عنه الحديث متناولين جزءاً آخر من تاريخه الأدبي.
عبد العظيم علي قناوي
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي 1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 16 -
(لا يصح الحب بين أثنين إلا إذا أمكن لأحدهما أن يقول للآخر: يا أنا. . . ومن هذه الناحية كان البغض بين الحبيبين - حين يقع - أعنف ما في الخصومة، إذ هو تقاتل روحين على تحليل أجزائهما الممتزجة. وأكبر خصيمين في عالم النفس (هما) متحابان تباغضاً. . .)
(الرافعي)
السحاب الأحمر
ترى ماذا كتبت إليه صاحبته بعد ما قرأت رسائل الأحزان فأثارت نفسه بعد هدأتها وردته من الغيظ والحنق إلى أن يقول: (يا هذه لا أدري ما تقولين؛ ولكن الحقيقة التي أعرفها: أن نفس المرأة إذا اتسخت كان كلامها في حاجة إلى أن يغسل بالماء والصابون وهيهات. .!) ويقول: (يجب على المدارس حين تعلم الفتاة كيف تتكلم أن تعلمها أيضاً كيف تسكت عن بعض كلامها)؟
من لي بأن أعرف ما كان وقع رسائل الأحزان في نفسها ما وردت به؟
إنه يتحدث في السحاب الأحمر عن التهمة والظنون، والكلام الذي لا يغسله الماء والصابون، والنجمة الهاوية، وخداع النظر في الحب، وفساد الرأي في الهوى، وطيش القلب في الاستسلام، ثم. . . ثم يحاول أن يعتذر. . .!
هنا الحلقة المفقودة في تأريخ هذا الحب، فلست أدعي المعرفة؛ ولقد كنت مع الرافعي مرة في مكتبه وبيننا السحاب الأحمر يقرأ لي بعض فصوله، فأشرت إليه عند فقرة من الكلام ليجيبني عن سؤال يكشف عن شئ من خبرها ومن خبره؛ فوضع الكتاب إلى جانبه وحدق في طويلاً ثم سكت، وسبحت خواطره إلى عالم بعيد، وراحت أصابعه تعبث بما على المكتب من أشيائه، ثم قال: (أرأيت القلم الذي تراءى لي السحاب الأحمر في نصابه بين
عيني والمصباح. . .؟) ثم دس يده في درج المكتب فأخرجه ودفعه إلي وهو يقول: (ضع النصاب بين عينيك والمصباح وأنظر. ألست ترى سحاباً يترقرق بالدم كأن قلباً جريحاً ينزف؟ في شعاعه هذا النور تراءت لي هذه الخواطر التي تقرؤها في السحاب الأحمر. . .) ثم عاد إلى الصمت ولم أعد إلى السؤال. . .
أحسب أن الرافعي حين أنشأ السحاب الأحمر كان في حالة عصبية قلقة لست أعرف مأتاها ومردها، ولكن فصول الكتاب تتحدث عن خبرها في شئ من الغموض والإبهام.
لقد أنشأ الرافعي رسائل الأحزان ليكون رسالة إليها يتحدث فيها عن حبه وآلامه؛ ولست أشك أن صاحبته حين تأدَّت إليها رسائله قد فهمت ما يعنيه وعرفت ذات صدره، وأحسبها - وهي الأديبة الشاعرة - قد سرها أن تكون هي فلك الوحي لما في رسائل الأحزان من كل معنى جميل. أفتراها قد بدا لها أن تهيجه بالدلال والإغراء وقسوة العتب وتصنع الغضب لتفتنه وتزيده وحياً وشعراً وحكمة. . .؟
إن كانت هذه رسالتها إليه فما أراها قد بلغت بها إلا أن هاجت كبرياءه وأثارت نفسه، فكتب كتابه ولكن لغير ما أرادت وما قصدت إليه. . .
يقوم السحاب الأحمر على سبب واحد، يدور حول فلسفة البغض، وطيش الحب، ولؤم المرأة. . .!
على أن كل ما فيه لا يشير إلا لمعنى واحد: وهو أن قلباً وقع في أسر الحب يحاول الفكاك فلا يستطيعه؛ فما يملك إلا أن يصيح بملء ما فيه: إني أبغضك أيتها. . . أيتها المحبوبة!
وكما يفزع الشخص إذا حزبه أمره إلى أصدقائه يستعينهم ويستلهمهم الرأي في بلواه، كذلك فزع الرافعي في السحاب الأحمر، ولكن إلى أصدقاء من غير عالمه يستعينهم على أمره؛ فهذا صديقه الشيخ علي صاحب المساكين، وهذا صفيه وصاحب نشأته الشيخ أحمد الرافعي؛ وذلك أستاذه ومثله العالي في دينه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده؛ وهذه أم ضل ولداها الحبيبان، وتلك زوج يفارقها زوجها الحبيب إلى السجن؛ وهذا، وهذه، وتلك، يحدثونه جميعاً حديثهم عن الحب في رأى العين، وفي رأى القلب، وفي رأى العقل، ويحدثهم حديثه. . . فما تلمح من أحاديث هؤلاء جميعاً إلا أن الرافعي في جهاد عنيف بين قلبه وعقله، يريد أن يثبت الغلبة لعقله على هواه ليخرج من أمر صاحبته برأيه وفكره
وكبريائه، ثم لا تكون الغلبة في النهاية إلا للحب على رأيه وفكره وكبريائه.
على أن كتاب السحاب الأحمر ليس كله خالصاً لصاحبته وأن يكن من وحيها؛ ذلك أن نسقه العجيب، ومحاولة الرافعي به أن ينصرف عنها، قد شرع له في الكتاب مسالك من القول لم تكن مما يقتضيه ما بينه وبين صاحبته.
في الفصل الأول من السحاب الأحمر، يتحدث الرافعي عن فتاة (عرفها قديماً في ربوة من لبنان، ينتهي الوصف إلى جمالها ثم يقف!) وهو يعني صاحبته التي أملت عليه (حديث القمر) وإنك لتقرأ حديثه عنها، ووصفه لها، وما كان من أثرها في نفسه؛ فتسأل نفسك: أي شئ رده إلى هذه الذكرى البعيدة فأيقظها في نفسه بعد اثنتي عشرة سنة محا الزمان بها في قلبه وأثبت؟ فلا تلبث أن تجد الجواب في الأسطر الأخيرة من هذا الفصل:
(إن من النساء ما يفهم ثم يعلو في معاليه الجميلة إلى أن يمتنع، ومن النساء ما يفهم ثم يسفل في معانيه الخسيسة أن يبتذل. . .
(إن من المرأة ما يحب إلى أن يلتحق بالإيمان، ومن المرأة ما يكره إلى أن يلتحق بالكفر. . .
(من المرأة حلو لذيذ يؤكل منه بلا شبع، ومن المرأة مر كريه يشبع منه بلا أكل. . .!)
أتراه بهذا يوازن بين واحدة وواحدة، ليقول لهذه: أن تلك كانت خيراً منك؟ وهل تحسبه كان يعتقد ذلك؟ أما أنا فاعرف من أخلاق الرافعي أن هذا معنى لم يكن يعنيه، ولكنها مساومة في الحب يريد بها أن يهيج غيرة صاحبته ليردها إليه، أو أنه أراد أن ينقذ كبريائه فيزعم لصاحبته أنه لم يكن يعنيها برسائل الأحزان، لأن هنالك أخرى. . .
وتقرأ (النجمة الهاوية) في الفصل الثاني، فتسمعه يقول:(تتم آمالنا حين لا نؤمل!) فما تشك أن هناك رسالة إليها، رسالة يمليها الحب المغيظ المحنق، يحاول فيها أن يوهمها أنها لم تعد شيئاً في نفسه، وأنه قد تمت آماله واستراحت نفسه فليس له فيها أمل ولا يتعلق بها رجاء؛ ثم يستطرد في معاني البغض والهجر والقطيعة بأسلوب قاسٍ عنيف، ولكن قلبه العاشق المفتون ينبض في كلماته؛ فما ينتهي الفصل حتى يستعلن حبه من وراء كلمات البغض وهو يقول:(أشأم النساء على نفسها من لا تحب ولا تبغض، وأشأمهن على الناس من إذا عدت مبغضيها لا تعد إلا الذين أحبوها. . .!) وأنني لأعرف الرافعي وأستمع إلى
همسات قلبه، فهل ترى ترجمة هذه العبارة إلا أنه يقول:(إنني أحبك يا أشأم النساء!)؟
اقرأ في آخر هذا الفصل الصاخب قوله:
يا من على الحب ينسانا ونذكره
…
لسوف تذكرنا يوماً وننساكا
إن الظلام الذي يجلوك يا قمرٌ
…
له صباح متى تدركه أخفاكا
ويتحدث في الفصل الثالث عن السجين تحمله عربة السجناء إلى قضائه، وزوجته التي تحبه تشيعه بنظراتها الجازعة؛ فتعرف من وصفه لساعة الفراق بين الزوجين الحبيبين، أي خاطرة في الحب ألهمته هذا الفصل البديع، وكأنك تسمع الرافعي يتحدث فيه عن نفسه مما فعل به الفراق: (ما الفراق إلا أن تشعر الأرواح المفارقة أحبتها بمس الفناء لأن أرواحاً أخرى فارقتها؛ ففي الموت يمس وجودنا ليتحطم، وفي الفراق يمس ليلتوي؛ وكأن الذي يقبض الروح في كفه حين موتها، هو الذي يلمسها عند الفراق بأطراف أصابعه!
(وإنما الحبيب وجود حبيبه لأن فيه عواطفه؛ فعند الفراق تنتزع قطعة من وجودنا فنرجع باكين ونجلس في كل مكان محزونين كأن في القلوب معنى من المناحة على معنى من الموت. . .
(. . . ترى العمر يتسلل يوماً فيوماً ولا نشعر به، ولكن متى فارقنا من نحبهم نبه القلب فينا بغتة معنى الزمن الراحل، فكان من الفراق على نفوسنا انفجار كتطاير عدة سنين من الحياة. . .)
ويتحدث في الفصلين الرابع والخامس عن تجارة الحب، وعن المنافق، فتلمح من وراء حديثه معنى لا يريد أن يفصح عنه، وإنه لبسبب مما كان بينه وبين صاحبته؛ أفتراه يشير به إلى شئ من أسباب القطيعة؟
وفي الفصل السادس يتحدث عن حب الأم في قصة والدة ضل ولداها الصغيران ثم اهتدت إليهما:
(الحب! ما الحب إلا لهفة تهدر هديرها في الدم، وما خلقت لهفة الحب أول ما خلقت إلا في قلب الأم على طفلها. . . حب الأم في التسمية كالشجرة: تغرس من عود ضعيف، ثم لا تزال بها الفصول وآثارها، ولا تزال تتمكن بجذورها وتمتد بفروعها حتى تكتمل شجرة بعد أن تفنى عداد أوراقها ليالي وأياماً. وحب العاشقين كالثمرة: ما أسرع ما تنبت، وما
أسرع ما تنضج، وما أسرع ما تقطف؛ ولكنها تنسى الشفاه التي تذوقها ذلك التاريخ الطويل من عمل الأرض والشمس والماء في الشجرة القائمة.
(لا لذة في الشجرة ولكنها مع ذلك هي الباقية وهي المنتجة، ولا بقاء للثمرة ولكنها على ذلك هي الحلوة وهي اللذيذة وهي المنفردة باسمها.
(وهكذا الرجل أغواه الشيطان في السماء بثمرة فنسى الله حيناً، ويغويه الحب في الأرض بثمرة أخرى فينسى معها الأم أحياناً!).
وتراه في فصول الثلاثة الباقية كأنما يحاول أن يروض نفسه على السلوان، ويقنعها بأن الحب ليس هو رجولة الرجل، وليس هو إنسانية الإنسان، وليس هو كل ما في الحياة من لذة ومتاع، في كلام يجريه على ألسنة شيوخه وأصدقائه: الشيخ علي، والشيخ أحمد، والشيخ محمد عبده؛ يحاورهم ويحاورونه، فنستمع في هذا الحوار إلى النجوى بينه وبين نفسه، والى الصراع بين عقله وهواه.
إن الرافعي بكبريائه وخلقه ودينه واعتداده بنفسه، لم يخلق للحب! ولكنه أحب؛ فمن ذلك كان حبه سلسلة من الآلام، وصراعاً دائماً بين طبيعته التي هو بها هو، وفطرته التي هو بها إنسان. وإنك لتلمح هذا الصراع الدائم في كل فصل من فصول السحاب الأحمر.
وفي كتاب السحاب الأحمر، تقرأ رأي الرافعي في القضاء والقدر؛ وإنه ليشعرك برأيه ذلك مقدار ما فعل به الحب وما فل من إرادته، فتراه يؤمن بأن الإنسان في دنياه ليس له كسب ولا اختيار فيما يعمل، ولكنه قضاء مقدور عليه منذ الأزل لا طاقة له على الفكاك منه؛ وإنه على ذلك لموقن بأن لله حكمه فيما قضى وقدر وإن دقت حكمته على الإفهام:
(ألا يا ماء البحر، ما أنت على أرض من الملح؛ فبماذا أصبحت زعاقاً لا تحلو ولا تساغ ولا تشرب؟ إنك لست على أرض من الملح ولكنك يا ماء البحر ذابت فيك الحكمة الملحة. . .!).
قلت في مقالي السابق: إن رسائل الأحزان عند أكثر قراء العربية هو شئ من البيان المصنوع تكلفه كاتبه ليحاول به أن يستحدث فناً في العربية لم يوفق إلى تجويده. . . لأنه بقية قصة لم تنشر معه - هي قصة غرام الرافعي - فجاء كما تأكل النار كتاباً من عيون الكتب فما تبقى منه إلا على الهامش والتعليق وصلب الكتاب رماد في بقايا النار.
أما السحاب الأحمر فهو كتاب كامل. احذف منه فصلاً أو فصلين في أوله، وشيئاً من فضول القول في سائره، تجد فناً في العربية لا يقدر عليه إلا الرافعي، فجرده من قصته أو أنسبه إليها فأنك واجد فيه أدباً يستحق الخلود، وبياناً يزهي على البيان، وشعراً وحكمة ما زال الأدباء يدورون عليها حتى وجدوها في أدب الرافعي.
في رسائل الأحزان أراد الرافعي أن تعرف صاحبته من حاله ومن خبره ما أراد، فأغراها بالترفع والدلال عليه. وفي السحاب الأحمر حاول أن يشعرها أنه قد فرغ من أمرها وفرغت من أمره فمالها عنده إلا البغض والإهمال، وماله عندها إلا اللهفة على ما كان من أيامه. أفتراه في السحاب الأحمر قد بلغ ما أراد؟
هيهات أن يخفى الهوى!
استمع إليه يحاول أن يهيج فيها الغيرة ويبعث اللهفة ويوقظ الحنين ويؤرث البغضاء ويثير الندم؛ فلا يكاد يبلغ آخر الرسالة حتى ينسى ما قصد إليه ليدع لقلبه أن يقول:
وبلى على متدلِّل
…
ما تنقضي عني فنونهْ
كيف السُّلُوُّ وفي فؤا
…
دي لا تفارقني عيونهْ؟!
يرحمك الله يا صديقي!
(شبرا)
محمد سعيد العريان
فلسفة التربية
كما يراها فلاسفة الغرب
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 2 -
(الفلسفة بوجه عام هي المحاولة المتكررة للوصول إلى معرفة
منتظمة مفهومة لصور وعلاقة ومعنى ومحمول الأشياء)
(بولزن
رأيت في المقال السابق ذلك (التقدير النزيه) الذي تقُوّم به الفلسفة عملية التربية، وتبينت إلى أي حد ترتفع التربية بذلك (التقدير) وتسمو على سائر التجارب الإنسانية. وأحب اليوم أن أتنقل بك إلى العلاقة بين الفلسفة والتربية، والى فحوى فلسفة التربية لدى الإنجليز والأمريكيين على الخصوص، تمهيداً للكلام على مسائل أخرى تختص بأغراض التربية ومنهجها، وتطبيقات العلم والديمقراطية عليها.
العلاقة بين الفلسفة والتربية قوية إلى أبعد حد. بل أن (جون ديوي) الفيلسوف الأمريكي الذي يحمل لواء التربية في هذا العصر يذهب إلى القول بأن الفلسفة اليونانية - وهي أول فلسفة دقيقة معروفة - لم تنشأ إلا من ضغط مسائل التربية على عقول المفكرين. وإذن فلم يكن (الطبيعيون الأولون) عنده إلا فصلاً في تأريخ العلم! أما الفسطائيون وسقراط، فأولئك هم الذين اضطرتهم شئون التربية في عهدهم إلى أن (يتفلسفوا)! فكان لنا منهم كلام في التربية تأدى بهم إلى كلام في الفلسفة!!
ومهما يكن من أمر هذه المبالغة الظاهرة في كلام (ديوي) فلا شك أن التربية لا تستطيع أن تستغني قط عن الفلسفة، لا في غاياتها ولا في تقدير وربط نتائج علومها الكثيرة بعضها ببعض. بل نحن إذا نظرنا في مسائل الفلسفة الكبرى وجدنا أن أغلبها يقوم محوراً لعملية التربية ذاتها.
ولقد كانت الفلسفة إلى ما قبل (العلم التجريبي) مجرد نظريات ومبادئ تخوض في متاهات ميتافيزيكية كثيرة. أما اليوم بعد أن نجح هذا العلم في إقناع العالم بنجاحه وجدارته، وبعد
أن اتجهت أمريكا على الخصوص اتجاهاً (عملياً) في فهم الكون وتقدير القيم المختلفة للموجودات - فقد أصبحت (الفلسفة) تسير في التربية على الضوء الذي يبعثه العلم ولا تكاد تميل عنه إلا قليلاً، وبالأحرى هي كذلك لدى (جون ديوي) ومدرسته. فهي كما يقولون لا تستطيع أن تفهم الوجود بأكثر مما يسمح به الواقع المحدود!! وهي (في التربية) تأخذ ذلك (الواقع المحدود) من علوم الحياة، ووظائف الأعضاء، والنفس، والاجتماع، وتاريخ الثقافة والسياسة والتربية والفن والدين، ثم تكون منه نظرة كلية فيها شرح وتفسير وتقويم وتشريع!
وإذن ففلسفة التربية في هذا المذهب لا تكاد تعدو أن تكون النظرية العامة التي تجد تطبيقاتها في عملية التربية بجميع نواحيها ذلك أنها تعالج التربية كوظيفة ضرورية غير منفصلة عن الحياة بحكم طبيعة الحياة نفسها، وتنقد وتشرح الطرق والمواد المستعملة في هذه العملية على أساس تلك الوظيفة الآنفة، وتمدنا بالأصول التي تجعل التربية فعالة، وتوضح المبادئ التي تنفث الحياة في مصالح الجماعة والتي تبرر النظام القائم أو لا تبرره، كما تعطي الجماعة ذاتها شعوراً شاملاً قوياً بمعنى الأساليب المختلفة التي تباشرها في تدريب أعضائها، وبأساس هذه الأساليب وقيمتها
ولئن قال قائل أن التفكير غالباً ما يولي هارباً تحت ضغط الحوادث تاركاً العمل للعاطفة، أو الانفعال، أو الضرورة الغالبة بحيث إنا لا نستطيع دائماً (التفلسف) في أساليب حياتنا: فالجواب هو أن التفكير لا يزال بالرغم من ذلك الأداة الوحيدة التي تخرجنا من الأزمات بما يقدمه من حلول ممكنة، ووسائل محتملة، ثم هو وإن كان لا يخلق قيماً جديدة فهو على كل حال يميز بين القيم المختلفة، ويقدم لنا تلك التي توصلنا أكثر من غيرها إلى غايتنا.
وإذن فالتربية القائمة على غير فلسفة تسندها تكون كالساري بالليل من غير دليل، والتربية القائمة على فلسفة خاطئة مصيرها الفشل المحتوم. . .
والأمر في الفرد والمجتمع على السواء. فلكل فرد فلسفته الخاصة في الحياة. ولكل جيل أو مجتمع نظريته العامة التي يطبقها في سلوكه؛ وعلى قدر دقة هذه النظرية وصحتها يكون النجاح أو الفشل، والسعادة أو الشقاء.
كلمة فلسفة التربية الحديثة في اتجاهات اليوم
وإذا كان العصر الحاضر يمتاز بثلاث اتجاهات أساسية هي: الديمقراطية، والصناعة والتجارة، والعلم التجريبي، فإن الأستاذ (جون ديوي) عندما يكتب عن (فلسفة التربية)(في دائرة معارف التعليم للأستاذ منرو) لا يكاد يخرج عن هذه الاتجاهات الثلاثة. فنراه من حيث الاتجاه الأول (الديمقراطية) ينادي بتعليم الجميع وبتساويهم في فرصة إظهار كفايتهم الخاصة حتى يمسك فخ التعليم بالذكاء والنبوغ على نحو تعبير (ويلز) القصصي الفيلسوف، كما نراه ينادي باحترام الفرد ولكن على أن يؤدي واجبه في المجتمع وهو راضي مطمئن.
وهو من حيث الاتجاه الثاني (الصناعة والتجارة) يدعو إلى ضرورة إشراك العمل مع النظر في التربية، والى بث روح التعاون بين الطبقات، والى العناية بعلوم الطبيعة وعدم الإفراط في التخصص الذي يجعل من الآلة إلهاً جباراً. هذا إلى جانب غرس الذوق السليم، ومحاربة التبذل والإسفاف والترف المقيت وإضاعة الفراغ في غير متعة بريئة، والى جانب التحذير الدائم من عواقب التعسفات الرأسمالية.
أما من حيث الاتجاه الثالث (اتجاه العلم التجريبي) فنراه يلح في نبذ تلك (السلبية) البغيضة التي قد أوقفنا وما زلنا نوقف فيها الطفل إزاء عملية المعرفة، ويدعو بقوة إلى جعل التعليم عملية (كشف) يدرب فيها الطفل حواسه وقواه العقلية ويمضي فيها كما سيمضي غداً في الحياة، فيفترض الفروض أمام المشكلات ويجرب ويحقق آناً بنفسه وآناً بإرشاد الأستاذ، ذلك إلى حصر الدراسة في المواد التي يحتاج إليها العصر الراهن من ناحية، والكمال الإنساني من ناحية أخرى.
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بشبرا الثانوية الأميرية
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
318 -
ما أشبه فروع الإحسان بأصوله
البحتري: قال إبراهيم بن الحسن بن السهل: كان المأمون يتعصب للأوائل من الشعراء، ويقول: انقضى الشعر مع ملك بني أمية. وكان عمي الفضل بن سهل يقول له: الأوائل حجة وأصول، وهؤلاء أحسن تفريعاً. إلى أن أنشده يوماً عبد الله بن أيوب التيمي شعراً مدحه فيه، فلما بلغ قوله:
ترى ظاهر المأمون أحسن ظاهر
…
وأحسن منه ما أسرّ وأضمرا
يناجي له نفساً تريع بهمة
…
إلى كل معروف وقلبا مطهرا
ويخشع إكباراً له كلُّ ناظر
…
ويأبى لخوف الله أن يتكبرا
فقال للفضل: ما بعد هذا المدح، وما أشبه فروع الإحسان بأصوله!
319 -
أشعر الشعراء
في (المثل السائر) لابن الأثير: يُروي عن بشار أنه وصف نفسه بجودة الشعر والتقدم على غيره، فقيل له: ولِمَ ذاك؟ فقال: لأني نظمت اثنتي عشر ألف قصيدة وما تخلو واحدة منهن من بيت واحد جيد، فيكون لي اثنا عشر ألف بيت. وقد تأملت هذا القول فوجدته على بشار لا له، لأن (باقلا) لو نظم قصيداً ما خلا من بيت واحد جيد. وقد وصل إلى ما بأيدي الناس من شعره فما وجدته بتلك الغاية التي ادعاها لكن وجدت جيده قليلاً بالنسبة إلى رديئه، وتندر له الأبيات اليسيرة. وبلغني عن الأصمعي وأبي عبيدة وغيرهما أنهم قالوا هو أشعر الشعراء المحدثين قاطبة، وهم عندي معذورون لأنهم ما وقفوا على معاني أبي تمام وأبي الطيب ولا على ديباجة البحتري. وهذا الموضع لا يستفتي فيه علماء العربية، وإنما يستفتي فيه كاتب بليغ أو شاعر مفلق، فإن أهل كل علم أعلم به. على أن علم البيان من الفصاحة والبلاغة محبوب إلى الناس قاطبة؛ وما من أحد إلا يحب أن يتكلم فيه حتى أني رأيت أجلاف العامة وأغتام الأجناس كلهم يخوضون في فن الكتابة والشعر، ويأتون بكل مضحكة. والمذهب عندي في تفضيل الشعراء أن الفرزدق وجريراً والأخطل أشعر
الشعراء أولاً وآخراً، ومن وقف على دواوينهم علم ما أشرت إليه. وأشعر من هؤلاء عندي الثلاثة المتأخرون وهم أبو تمام والبحتري والمتنبي فإن هؤلاء الثلاثة لا يدانيهم مدان في طبقة الشعراء؛ أما أبو تمام وأبو الطيب فربا المعاني، وأما أبو عبادة فرب الألفاظ في ديباجتها وسبكها.
320 -
الشعر المغسول
في (الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء) لأبي عبيدة الله المرزباني: قال البحتري: دعاني علي بن الجهم فمضيت إليه، وأفضنا في أشعار المحدثين إلى أن ذكرنا أشجع السُّلَمي. فقال لي: إنه (يُخلى) وأعادها مرات ولم أفهمها، وأنفت أن أسأله عن معناها، فلما انصرفت أفكرت في الكلمة، ونظرت في شعر أشجع فإذا هو ربما مرت له الأبيات مغسولة، وليس فيها بيت رائع، وإذا هو يريد هذا بعينه: إنه يعمل الأبيات ولا تصيب فيها بيتاً نادراً كما أن الرامي إذا لم يصب من رشقه كله الغرض بشيء قيل (أخلي) فجعل ذلك قياساً، وكان علي بن الجهم عالماً بالشعر.
321 -
وإنما لمعان تعشق المصور
أبو القاسم غانم بن أبي العلاء الأصبهاني:
قوم لو أنهمُ ارتاضوا لما قرَضوا
…
أو أنهم شعروا بالنقص ما شعروا
لا يحسن الشعر ما لمُ يسترقَّ له
…
حرّ الكلام، وتستخدمْ له الفكَر
أنظرْ تجدْ صور الأشعار واحدة
…
وإنما لِمعانٍ تعشق الصور
322 -
اختيار الوزن والقافية
قال الصاحب في رسالته (الكشف عن مساوئ شعر المتنبي): كنت أقرأ على (الأستاذ الرئيس ابن العميد) شعر ابن المعتز متخيراً الأنفس فالأنفس، فابتدأت قصيدة على المديد الأول، فرسم تجاوزها، وقدَّرته يحفظها ولا يرضاها. فسألته عنها، فقال: هذا الوزن لا يقع طلبه للمحدثين جيد الشعر. فتتبعت عدة قصائد على هذا الضرب فوجدتها في نهاية الضعف. وسمعته (أيده الله) يقول: إن أكثر الشعراء ليس يدرون كيف يجب أن يوضع الشعر، ويبتدأ النسج، لأن حق الشاعر أن يتأمل الغرض الذي قصده، والمعنى الذي
اعتمده، وينظر في أيّ الأوزان يكون أحسن استمراراً، ومع أي القوافي يحصل أجمل اطراداً، فيركب مركباً لا يخشى انقطاعه والتياثه عليه.
323 -
فلقى الله شبعان ربان دفيئاً
قال أعرابي وهو يدعو الله بباب الكعبة: اللهم ميتة كميتة أبي خارجة. فسألوه، فقال: أكل بَذَجاً وشرب وطبْاً من اللبن، وتروى من النبيذ، ونام في الشمس فمات؛ فلقي الله شبعان ريان دفيئاً.
324 -
طلعها كأنها رؤوس الشياطين
في (الكامل): التشبيه جار كثير في كلام العرب حتى لو قال قائل هو أكثر كلامهم لم يبعد. قال عز وجل وله المثل الأعلى: (الزجاجة كأنها كوكب دري) وقال: (طلعها كأنه رؤوس الشياطين). وقد اعترض معترض من الجهالة الملحدين في هذه الآية فقال: إنما يمثل الغائب بالحاضر، ورؤوس الشياطين لم نرها فكيف يقع التمثيل بها؟ وهؤلاء في هذا القول كما قال الله:(بل كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله). وهذه الآية قد جاء تفسيرها في ضربين: أحدهما أن شجراً يقال له: (الآستَن) منكر الصورة يقال لثمره: رؤوس الشياطين، وزعم الأصمعي أن هذا الشجر يسمى الصوم. والقول الآخر - وهو الذي يسبق إلى القلب -: إن الله شنع رؤوس الشياطين في قلوب العباد، وكان ذلك أبلغ من المعاينة، ثم مثل هذه الشجرة بما تنفر منه كل نفس.
325 -
إلا التنقل من حال إلى حال
في (تأريخ الطبري): قال أبو العتاهية: وجّه إليّ المأمون يوماً فصرت إليه، فألفيته مطرقاً مفكراً، فأحجمت عن الدنو منه في تلك الحال، فرفع رأسه فنظر إليّ، وأشار بيده أن ادنُ فدنوت، ثم أطرق ملياً، ورفع رأسه فقال: يا أبا اسحق، شأن النفس الملل وحُبُّ الاستطراف، تأنس بالوحدة كما تأنس بالألفة. فقلت: أجل يا أمير المؤمنين، ولي في هذا بيت. قال: وما هو؟ قلت:
لا يُصلح النفس إذ كانت مقسَّمَةً
…
إلا التنقّلُ من حال إلى حال
رسالة الشعر
نكبة السيول
للسيد أحمد عبيد
(أيها الأخوان هلا عطفة=تجبر الكسر وتحيي من غبر)
هجع السامر وانقضّ السمرْ
…
وتوارى البدرُ والنجم استسرّْ
وسجا الليل فما من نَبْسةٍ
…
بفم الليل إذِ الليل اعتكر
وخلا الأفق سوى من ومضةٍ
…
تتجلى فيه آناً وتمرّ
والكرى يبعث أضغاث الرُّؤى
…
زاخراتٍ بتهاويل الصوَر
غَفَل الناسُ بها من كونهم
…
والرزايا راصداتٌ والغِيَر
هجعوا والمُزنُ مرجوُّ الحَيا
…
والغوادي حافلاتٌ بالدِّرَر
فإذا السحبُ رُكامٌ مطبقٌ
…
عابسُ الطلعة مرهوبُ النظر
وإذا السيلُ أتيٌّ ماردٌ
…
عَرِم الطغيانِ مشهودُ الضرر
غادر السهلَ كبحرٍ مُزْبِدٍ
…
طَمَثَ الأمواج فيه فانفجر
قلّما مر على شئٍ ولم
…
يَمْحُ من أعلامه كلًّ أثر
فأتى البنيانَ من آساسه
…
وتعاطى كلَّ نفسٍ فعقر
لم يَئِلْ من شرّه نَبْتٌ ولم
…
يَنْجُ منه حيوانٌ أو بشر
والردى يدهق في دَأْمائه
…
كأسَ موتٍ وهلاكٍ ما أمرّْ
فترى الأَشلاء تطفو فوقه
…
زاهقاتِ الأنفس الطهرِ الغُرَر
رب طفلٍ أبصر السيلَ ولم
…
يقوَ أن ينجوَ منه أو يفرّْ
صاح يرجو نجدةً من أمه
…
وأبيه وهما فيمن غمر
فعلا الجِذْعَ يُرَجِّي عنده
…
نجوةً فانْبَتَّ فيه وانكسر
وفتاةٍ طَفلةٍ ناعمةٍ
…
ذاتٍ دلٍّ وعفافٍ وخَفَر
عصف السيلُ بها فانهتكت
…
وطواها في مطاويه القدر
وغِنّيٍ كان مرموقَ السَّنا
…
حاشداً نَدْباً كريمَ المُعتْصَر
تركته النكبة الكبرى لَقىً
…
يَنْشُد العيشَ ويبكي من قبر
أيها الإخوان هلاّ عطفةٌ
…
تجبر الكسرَ وتحيي من غَبَر
أنفقوا مما تحبون فمن
…
يفعلِ الخير يَجِدْه مُسْتَطَر
ليس يغني الدمعُ في تَسكابه
…
عن بلاءٍ جلَّ أو خطبٍ أبرّ
أتبعوا سيلَ الَحَياَ سيلَ النَّدى
…
ينتعشْ بعضُ الذي كان عثر
واشكروا لله إذ أنجاكم
…
بالجَدَا فاللهُ يجزي من شكر
لِيَجُدْ ذو الفضل بالعفو ومن
…
جاد من جُهدٍ فقد أسنى وبرّ
(دمشق)
أحمد عبيد
لوحة الشاعر
للشاعر السوداني المرحوم التيجاني يوسف بشير
الحسنُ - يهفو بجَفْنِهِ الوسنُ -
…
كلُّ خبيءٍ من سحره حسنُ
للحسن عندي وللهوى صورُ
وهي لعمري وعمرُها غُرَرُ
ذخيرةٌ للفؤاد أَوْ أَشرُ
من الجمال الحبيبِ يُعتَصَر
يرقد في حِجْرِها فتىً أثِرُ
…
يفتنُّ في خَلْقِها ويفتتن
سكرى لها في الحياة مُنْحَدَر
…
دوني. وفي لوحتي لها منن
مسحورةٌ في الدماء تضطربُ
…
تَسْمَعُ منها دويَّها الأذنُ
أطيافُ دنيا سماؤُها عجبُ
تنأى وتدنو آناً وتقترب
فيها غيومٌ وعندها سحب
تبرز آناً منها وتحتجب
أضيعُ شيءٍ في أرضها الذهب
…
يجري بعيداً عن كونها الزمن
وتلك دنيا للسحر مضطرب
…
فيها وللساحرين مُرتَهَنُ
تحسبها في النَّديِّ إن سمرت
…
أو هزَّها في مراحها الدَّدَنُ
جنّاً نَآدَى ما غازلت طفرتْ
إلى مراقي السماء وانحدرت
وما أصابت من قُبلةٍ سكرت
تطِنُّ كالنحل كلما ظفرت
بشاطئٍ للنعيم ما عبرت
…
إلاَّ على مدمع به السفن
وملعب للملاح كم خطرت
…
فيه دياركم مشت مُدُن
أية دنيا هاتيك ظلُّ شبح
…
من كل فَنٌ يحفها فنن
وكنزها العبقري شقُّ قدحْ
أخي هَزارِ إن حركته صدح
أو عابَثَتْه على الدِّنان سبح
ذات ظلال سحرية وملح
أُكرومة الفن من أَسىً ومرح
…
ترقد فيها القصور والدمن
لَوَّنها في الزمان قوس قزح
…
وذاب فيها السرور والحزن
عودتنا الثانية
للأستاذ خليل هنداوي
غداً عندما تتهادى اللحود
…
وتنفضنا من حنايا الترابْ
وقد لمستنا أكف الخلود
…
وردت علينا ثياب الشباب
غداً عندما تنهلين الحياة
…
شرباً ويا برد ذاك الشرابْ
وقد رف للحب كالأُقحوان
…
فم لا يزال عليه الترابْ
أَنخفق مثل الفراش الجميلْ؟
…
نُزوِّق ألواننا من هوانا
أَنطلع مثل زهور الحقول؟
…
ونملأ جو الهوى من شذانا
إلى أين نمشي وأنَّى نطير!
…
وقد ملأ العاشقون اللحودْ
وفي كل صوب تهب الحياة
…
ويحيا الهوى، ويفيق الوجودْ
تعالى إلى لحدنا المطمئن
…
نجدد سيرتنا أو نُعيدْ
لقد كان مثوى فناء عتيق
…
وأصبح مأوى غرام جديدْ!
خليل هنداوي
رسالة العلم
الزنككعنصر أساسي لنمو النبات
للأستاذ عبد الحليم منتصر
- 2 -
أعراض مرض الحرمان من الزنك
لقد اصبح من السهل تشخيص هذه الحالات المرضية، التي تعتري النبات، نتيجة لحرمانه من الزنك، وذلك بعد التجارب العديدة التي أجريت، والملاحظات القيمة التي أبديت، وبعد أن ظهر جلياً أن علاج هذه الأعراض لا يكون إلا بإعطائه حاجته من الزنك، على أن يكون ذلك بإحدى الطرائق التي سنوردها فيما بعد.
وأظهر هذه الأعراض ما يعتري الأشجار التي تتساقط أوراقها خريفاً، وذلك بأن تظهر الأوراق عند حلول الربيع، في قمم الأفرع الصغيرة، لا يتجاوز طول الورقة بوصة، ويكون عرضها نحو ربع البوصة، وهي إلى جانب ذلك محمرة اللون، جافة قليلاً، قصيرة العنق، مبقعة في الغالب. وقد تكون هذه الأفرع ذاتها محملة في غير قممها بأوراق سليمة لا أثر لهذه الأعراض عليها؛ بيد أن مقاومة هذه الأجزاء مؤقتة، أي أنها لا تستطيع متابعة النمو الطبيعي مدة طويلة، وفي الحالات الشديدة تظهر الأعراض نفسها عليها هي الأخرى، فترى أوراقها صغيرة مبقعة ذات أشكال غير طبيعية. وقد لوحظ أن مثل هذه الأشجار قد تذوى وتموت بعد عام أو عامين على الأكثر، وإن أظهر بعضها مقاومة مرض الحرمان من الزنك مدة أطول.
وفي الحق أن هذه الأعراض تختلف باختلاف الأشجار أو النبات، فهي في المشمش غيرها في الكريز أو التفاح والجوز واللوز والموالح وغيرها، وما ذلك إلا لأن درجة الاحتمال ليست واحدة، حتى إنه ليصعب على غير ذي الدربة تمييز هذا المرض من غيره إذ تشابه أعراضه أعراض سواه.
كما أن من المحقق أن ثمار مثل هذه الأشجار المصابة لا تكون طبيعية الشكل والحجم، فالخوخ والبرقوق تكون ثمارها صغيرة مفرطحة ومدببة أطرافها، كذلك المشمش والليمون.
وذلك علاوة على النقص البين في المحصول. وعلى الجملة فإن أشجار الفاكهة في الحدائق وغيرها من أشجار الزينة تبدي أعراض مرض الحرمان من الزنك، بيد أن درجات احتمالها ومقاومتها متفاوتة، فعلى حين تكون أشجار الخوخ والكريز مثلاً قد أذبلها وأذواها هذا المرض، أو لعله قد صيرها مشرفة على الهلاك، يكون غيرها من جوز ولوز وتفاح وكمثرى وبرقوق وعنب ومشمش وتين وموالح أكثر مقاومة، وإن كان حتماً أنها تصل إلى نفس المصير ما لم تسعف بالعلاج ولن ترضى بغير الزنك بديلاً.
وتختلف درجة مقاومة النبات للمرض تبعاً لطبيعة التربة التي ينمو بها، فهو أكثر مقاومة إذا ما كانت الأرض طينية، قادر على احتمال نقص الزنك من ألوان غذائه فيها. أما إذا كانت الأرض رملية أو كانت حصباء، فأن أعراض المرض لا تلبث أن تظهر إذا كانت كمية الزنك غير مناسبة لحاجة النبات منها.
ومن الملاحظات التي سجلت على الخوخ أنه بعد أن تابع نموه مدى أعوام خمسة كان يعطي فيها أوفر محصول. . ظهرت أعراض تأثره بنقص الزنك في أواخر صيف العام الخامس، وكانت النتيجة موت أغلب الأشجار خلال ثلاثة الأعوام التالية؛ وعندما زرعت مكانها أشجار أخرى ظهرت أعراض المرض في العام الأول مباشرة. وعندما عولجت بالزنك اطرد التحسن وزاد المحصول.
طرائق العلاج
وتتلخص طرق علاج مرض الحرمان من الزنك فيما يأتي من الوسائل التي جربت وثبتت صلاحيتها:
1 -
إضافة محلول كبريتات الزنك إلى التربة.
2 -
وضع قطع من الزنك في ثقوب تعمل لهذا الغرض في جذوع الأشجار وفروعها.
3 -
وضع كبريتات الزنك في ثقوب بالشجرة.
4 -
رش الأوراق بكبريتات الزنك والجير.
5 -
الرش بأكسيد الزنك.
6 -
الرش - بعد سقوط الأوراق - بكبريتات الزنك.
7 -
الرش بكلورور الزنك.
على أنه لوحظ أن العلاج عن طريق التربة هو من أنجع هذه الوسائل، وخاصة إذا وضع مركب الزنك غير بعيد من الجذع.
وقد وجد أن وضع نحو ثلاثمائة كيلو جرام للفدان الواحد مذراة فوق أرضه تبقى نافذة الأثر في العلاج مدى ثلاث سنوات تباعاً. كما أن وضع مائة كيلو جرام فقط، توضع بالملعقة قيد قدمين من جذع الشجرة يعطي نفس الفائدة ولذات المدة.
أما العلاج عن طريق حقن الجذع بكبريتات الزنك في ثقوب تكون متقاربة، يوضع في كل ثقب من جرامين إلى ثلاثة، ثم يقفل الثقب بالشمع؛ مثل هذه الطريقة لم يخب مفعولها مطلقاً في علاج أمراض الحرمان من الزنك، بل أن أثرها ليبقى مدة ثلاث سنوات على الأقل؛ إلا أنه وجد أن الخشب الرخو يتأثر بهذه الطريقة، كما أن الثقوب قد تكون سبباً في جلب أمراض أخرى، وذلك إذا أهمل إحكام غلقها.
كما أن إدخال قطع من الزنك أو الحديد المغطى بالزنك (وتفيد المسامير العادية في بعض الحالات) في الجذع والفروع، يعطي نفس الأثر من علاج حاسم سريع للمرض، إلى تقدم محسوس في نمو النبات ودرجة إزهاره وإثماره. ويستحسن في هذه الحالة أن يدق عدد من المسامير على أبعاد وأغوار مناسبة. وقد ثبت أن هذه الطريقة هي أنجع الطرائق المذكورة إطلاقاً، فهي أقواها مفعولاً وأدومها أثراً. ومما يستحق الملاحظة في هذه الطريقة أننا إذا ثبتنا مسماراً أو عدداً من المسامير في أحد الأفرع فأن أثر العلاج يتبدّى واضحاً جلياً على الجزء من الفرع الذي يبدأ بموضع المسمار أو المسامير وينتهي بالقمة، على حين يظل الجزء من الفرع الذي يبدأ من هذا الموضع نفسه وينتهي بالجذع الرئيسي أو الأرض، يظل هذا الجزء كما هو لا تبدو عليه أي علائم التحسن أو آثار العلاج.
وطريقة الرش هي أيضاً بارعة الأثر في كثير من الحالات، فقد وجد أن رش الأوراق بمزيج مكون من عشرة أرطال من كبريتات الزنك ومائة جالون من ماء الجير، مفيدة جداً كعلاج لأعراض مرض الحرمان من الزنك، وخاصة للموالح والمشمش والعنب، وإن كان من الحق أن نقول: إنها كانت غير وافية بالغرض في بعض حالات أخرى. وقد وجد أنه في حالة استعمال هذه الطريقة يحسن أن يعاد رش الأشجار المصابة مدى عامين متتاليين إذا كان مرض الحرمان قد أثر تأثيراً سيئاً على النبات.
كيف تؤثر طبيعة التربة وصفاتها الكيميائية في سير مرض الحرمان من الزنك؟ وكيف يستجيب النبات لهذه المؤثرات؟
وما هو الدور الذي يقوم به الزنك في النبات؟ سيكون ذلك موضوع حديثنا في عدد الرسالة المقبل إن شاء الله تعالى.
(يتبع)
عبد الحليم منتصر
ماجستير في العلوم
القصص
مشهد غرامي من أنتوني ترولوب
غرام راهب
للأستاذ دريني خشبة
لم يكن لَبقاً سيدنا الحَبْر الجليل - المستر سلوب - حين حاول هذه المرة أن يُنَقّل فؤاده حيث شاء من الهوى. . . فلقد عرف الناس أنه مشغوف بالسيدة (. . . بولد) وأنه يسعى جهده ليحظى بها زوجة مثرية غنية ذات مال وذات جمال، وذات ريع ثابت يَقُدْره العارفون بألف أحمر رنان تقبضها غير منقوصة كل سنة. . . عرف الناس هذا، وحرص سيدنا الحَبْر الجليل على ألا تفلته هذه الفرصة النادرة التي تضمن له غَرْفةً من كنوز قارون في كل مطلع عام جديد، فيضمن نوال الدنيا و. . . حسن ثواب الآخرة!!
ولم يكن أحد يعيب عليه قط مجازفته الغرامية هذه، لأنها كانت في سبيل الزواج. . . والزواج شيء عادي أقرته الأديان ونزلت به الشرائع. . . أما أنه راهب فلا بأس، فإنها رهبانية ما فرضها الله على أحد، فلم يفرضها سيدنا الحَبْر الجليل - المستر سلوب - على نفسه؟!
وسيدنا الحَبْر الجليل رجل يعرف حق الدنيا كما يعرف حق الآخرة ويعطي لقلبه من هذه الدنيا تسعة وتسعين من أنصبتها المائة المقسمة بينه وبين عقله. . . لذلك كان شعوره يطغى على تفكيره. . . وكان هواه المتقد وعاطفته المشبوبة لا يتفقان ومركزه الذي أساسه أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر والبغي.
فلقد عرف هذا الحَبْر السيدة (. . . بولد) الأرمل، بعد أن مات زوجها، وبعد أن ترك لها هذه الثروة الهائلة التي أسالت لعاب المستر سلوب، وشبت أطماعه. . . فلم ير بأساً أن يصل أسبابه بأسبابها، وأن يملقها ويدهن لها، وأن يزخرف لها حباً يوهمها به أن له ناراً تتأجج في قلبه، وتندلع بين أضالعه. . . وكان للأرمل الغنية شيء من الجمال غير قليل. . . وإن كان جمالها يذهب به كثرة اللحم والشحم، وقصر الرقبة واستكراش البطن، وترهل الثديين قليلاً. . . ولكن وجهها كان ذا رواء وسيماء، خصوصاً حين تعالجه بالأصباغ
والدمام، وسائر فنون التطرية. . . لقد كانت تجلب له حسناً مصنوعاً يغري المساكين من أمثال سيدنا الحَبْر الجليل المستر سلوب، فكيف وقد حازت هذا الثراء الضخم، والغنى الواسع، والدخل المضمون؟. . . إنها ما أغنى وما اقنى، فلم لا يغضي الحَبْر الجليل عن بعض العيوب التي جرها الشحم واللحم؟ ولم لا يذكر أنه هو الآخر ليس وسيماً قسيماً، ولا نحيل القد ممشوق القوام، ولا له لفتة الظبي ولا خيلاء الطاووس!؟ بلى، ينبغي أن يذكر لحيته الهائلة التي تحجب عين الشمس عما تحتها من وجه مكلثم، وصدر كأنه نصف جبل حملته ساقا عفريت. وهكذا ينبغي أن يخجل قلبه المنهوم بالجمال قليلاً، فنظرة خاطفة في المرآة تقنعه بمحاسن الأرمل السيدة بولد، ونظرة أخرى إلى ثروتها الكبيرة تجعلها أجمل حسان الدنيا.
ولكن قلب الحَبْر الجليل ليس من هذه القلوب الرطبة التي تقنع بصيد واحد، لا سيما إذا كان هذا الصيد وثناً من أوثان الدنيا التي تغري بالذهب، وتجذب بالثروة، وتتكلم بالدنانير. . لا. . ليس لمثل هذا الصيد يخفق قلب الراهب الذي يشغفه الجمال فهو ينبض له، وتجذبه مفاتن الحسن فهو يهيم بها. . . إن لمثل هذا القلب في هذه الدنيا حقوقاً يقتضيها من خدود الغيد وعيون الخرَّد الأماليد، وهو لا شأن له بالذهب الذي يضمن سعة الحياة ورغد العيش وإقبال الأيام. . . ومن أجل ذلك فليس لقلب المستر سلوب من هذه الأرمل الغنية نصيب، فهي صيد نفيس سمين لأطماعه، ومن أجل ذلك فلينطلق هذا القلب في دنيا الجمال ينشد صيده، فهو لا يعنيه أن يعكف على وثن من الذهب يتعبده ولا يهواه.
هذه هي السيدة. . . بولد. . . أما السينورة نيروني، فزوجة وفية للسينور نيروني من كبار رجال السياسة والطب، وقد تزوجها السينور لجمالها البارع، ولهذه الألغاز العميقة التي تمتلئ بها عيناها السحريتان؛ وتلك الظلال الحزينة الفاتنة التي تموه جبينها بمثل ظلال الغروب. . . وليس شك أن السينور يحبها ويحرص على مرضاتها، وأكبر ما يعطف قلبه عليها أنها مقعدة، أو كالمقعدة، لأنها أصيبت بلين في عظام ساقيها بعد أن بنى عليها. . . ولسنا ندري إذا كانت السينورة تحبه، أو تحب أحداً من العالمين. . . فلقد عبست للحياة وتنكرت لمباهجها وأول هذه المباهج الحب. . وكان السينور يفرط في منحها حرية الاجتماع بمن تشاء، والخلوة بمن تحب؛ وكانت هي كالعنكبوت الصناع التي لا تفتأ تنسج
شراكها للذباب، فلم يكن أحد يخلو إليها حتى تصمي قلبه بنظرة أو نظرتين من عينيها القتالتين فتزلزله ويصبح لها عبداً وبها هائماً وكأنما كانت تنتقم لنفسها من الناس فهي تعذبهم بالحب الذي لم تبُله، وتكوي قلوبهم بالغرام الذي لم تعرفه. وقد أولعت بذلك حتى صار طبعاً ثانياً لها، وهي لا تستحي أن تفخر بذلك وتباهي به، فتقول لأختها:(إنها لا تعجز عن إذلال قلوب الجبابرة وقسرهم على التمرغ تحت قدميها. . .) ولم يكن بدعاً إذن أن يكثر عشاقها حتى يربوا على العشرين. . . وكان أحرهم شغفاً بها هو هذا الحَبْر الجليل العلامة المستر سلوب، الذي لم يكد يراها حتى نسى نفسه ووسوس له شيطانه، فعقد أواصر بأواصر السينور نيروني، ثم بأواصر السينورة من بعد. . . وأي بأس في أن يحتفظ بالسيدة بولد لنفسه الأمارة الطماعة، وبالسينورة لقلبه المنهوم بكل هيفاء حسناء. . . لا بأس قط. . . فليضع في قوس كيوبيد وَترين عردّين، ولْير كيف يصيب بهذه القوس إن كان مثله يحسن أن يحمل مثلها. . . ثم ليكن جريئاً. . . فلا يبالي رجال الكهنوت وهذه المعاطف الفضفاضة السود، ومقالة السَّوء التي يثلبونه بها. . . وليزر السينور نيروني في الوقت الذي لا يكون السينور موجوداً فيه في منزله، ولا جرم أن السينورة ستلقاه حينئذ، وسيشرب في حضرتها قدحاً من القهوة. . . وربما أمرت له بكوب من نبيذ بردو يبعث الدم حاراً في عروقه فيزداد جرأة وإقداماً، وقد يجد الفرصة الجميلة فيكشف عن خبيئة قلبه لهذه السيدة اللعوب. . . ليس ضير أن يفشل مرات ومرات في البوح لها. . . على أن السينورة الحصيفة اللبيبة قد عرفت ما يجتاح قلبه من حبها لأول زَوْرَة من زياراته الصباحية المفتعلة التي حسب أنه شرفها بها. . . ولقد كانت السينورة واسعة الثقافة، بل كانت أكثر من ذلك، كانت فيلسوفة بفطرتها، تجيد الفلسفة التطبيقية في كل أحوالها. . . وكانت تجيد ذلك على الخصوص مع رجال الدين. . . فما بالك بحبر جليل من عظمائهم ينسى نفسه بين يديها، وينسى وظيفته في الحياة، وينسى دقات الناقوس التي توقظ الغافلين وينسى بيانه الذي يرهب به ويرغب. . . وينسى كل شيء. . . حتى صور القديسين والحواريين التي كانت تهاجمه كلما خلا إلى السينورة فلا يأبه بها، ولا يعنى بهتافها به كما يعنى بانتقاء العطور التي يضمخ بها نفسه، والبنيقات التي يحرص أن تكون نظيفة ناصعة، وبكل ما يظهره فتى في عين السينورة، من منديل جميل وقفاز جديد. . . و. . .
وذهب الراهب الوقور ليسأل كعادته عن السينور فلم يجده، وأدخل إلى السينورة فلم تعن به إلا كما يعني الصبية بغماز الشص ينبه عن فريسة السمك. . . ووجدها كدأبها دائماً مضطجعة فوق كنبة وثيرة عند مكتبها الفخم، وبيدها يراعها الأبنوس الثمين، وأمامها صحيفة تخط فيها كلاماً قالت عنه وهي تتخابث إنه خطاب أوشكت أن تكتبه للحبر الجليل. . . ثم مدت يدها الجميلة البضة لسيدنا الراهب فتناولها في يده المرتجفة، وانحنى برأسه الكبير ولحيته المنكرة فلثمها، وهو يخيل إليه أنه يسرق القبلة الذهبية من كنوز سليمان. . . يا له من منظر عجيب!! لقد كان شيء كبير هائل شائه كرأس ثور، ينحني فيبحث في زهرة يانعة جنى عليها المنجل فقذفها في طعامه. . . . . . بل كان أغرب من هذا. . . لقد كان كالتنين الهولة يغازل فينوس ربة الحسن!
- لقد أوشكت أكتب إليك، فأما وقد جئت، فلألق بما كتبت في سلة المهملات. . .
- لا. . . لن يكون مصير ما تتفضلين بكتابته إلى هذا المصير. . . لأحتفظ به إلى الأبد، فإذا كان لا بد من إبادته، فلأحرق له بخوراً ولألق به في ناره! أليس كانت ديدو تصنع مثل هذا؟
- أنا لا أحترم ديدو هذه أيها الأب. . . لقد كنت أوثر أن تكون ديدو مثل كليوبترة حين رأت ما حاق بحبيبها فآثرت أن تلحق به، حتى بين المطرقة والسندال. . . أيها الأب الكريم مستر سلوب، أرجو ألا تخلط بين جد الحياة وبين عبث الحب!)
وصبغت حمرة الخجل وجنات الحَبْر الجليل لأنه أيقن أن السينورة تعرض بما بينه وبين المسز بولد، وأنها تشتهي أن تذله كما أذلت عشرين عاشقاً لها من قبل. . . ثم لم تشأ أن تقسو عليه فقالت تعبث به متلطفة:
- ماذا؟ إني ما أزال أقولها لك في صراحة: لا تخلط بين عبث الحب وجد الحياة. . . إن أمامك ثروة واسعة، ومدينة من الذهب شاسعة، وإنك تشتهي أن تكون صاحبها، فأقدم بحزم، ولا تتلف أطماعك بهذا الحب الطارئ؛ فإن كنت في عرض الدنيا زاهداً، فأحب كما ينبغي أن يكون الحب. . . هب الحب كل قلبك فالحب يكره أن يشركه أحد في القلب. . . فإذا أبيت إلا أن تصيب الحسنيين فأعلم أنك من الآن فاشل. . . فأيهما تؤثر أيها الأب: المال، أم الحب والجمال؟!
وطافت برأسه طائفة من الأفكار، ولكنها طافت بسرعة البرق، فقال:(بل الحب، ولا شيء غير الحب. . . الحب الذي ينبغي أن يقهر كل رغبة وأن يسود جميع الأطماع. . .)
- بل آثر أن تستمع إلى نصيحتي، وتذكر ما بعد نشوة الأسبوعين أو الثلاثة الأسابيع من عمر الحب. . .! إنها الخيبة وانعكاس الأمل. . . إنه ما حدث في الأساطير لنميزيس التي لم يحب أحد كما أحبت ولا أكتوى عاشق بمثل ما اكتوت. . . أن التفاني في الحب يعني الفشل فيه. . . والحب الصحيح يعدل الفنوط من جني الثمرة المشتهاة. . . أو لم تحب جولييت؟ أو لم تحب ديدو؟ وهايدي كذلك! وترويلوس؟ ألم يحب حباً طمس رجولته؟
- بلى. . . لقد أحب ترويلوس ولكن تغفلته حبيبته، ويستطيع كل إنسان أن يحب ولا يكون ترويلوس، فليس كل النساء كرسيدز!
- هذا حق، ولكن عدم الإخلاص ليس كله من جانب المرأة، بل لكم النصيب الأوفى فيه. . . فلقد أخلصت إملوجين، فماذا كان جزاؤها؟ ألم يتهمها زوجها أنها صبت إلى أول ضيف انفردت وإياه لأول مرة في غيابه؟ وديدمونا؟ لم خنقها بعلها؟ ألم تكن مخلصة وفية؟ وأوفليا؟ ألم تجنّ بإخلاصها؟ إنه يبدو لي ألا سعادة في الحب إلا في خاتمة القصة الإنجليزية! أما هذه الدنيا السحرية ففي ذهبها وجمالها وفتنتها وخيراتها سعادة محسّة لا مراء فيها. . . سعادة يسع كل أحد أن يهنأ بها ويرشف ما شاء من معينها. . .
وارتبك الحَبْر الجليل قليلاً ثم قال: (أوه! كلا. . . إن كل هذه الدنيا بجميع ما حوت من حطام لا يمكن أن تؤدي إلى السعادة!)
- إذن ما الذي يستطيع أن يجعلك سعيداً أيها الأب؟ ما المعين الذي لا ينضب، الذي تنشد منه سعادتك؟ لن تقول ألا معين لك، فلكل من الناس معينه الخاص!
وغلب الحَبْر خباله الديني فأجاب: (قد يبحث الإنسان عن سعادته فيعييه البحث، ذلك لأننا نبحث عنها دائماً في هذه الأرض، وهي لا تكون إلا في السماء!!
- صه، ويلك! إنك تقول بلسانك ما ليس في قلبك. . . إنها تعاليمكم التي لم تستطع أن تشفي أطماعكم في هذه الدنيا. . .! إذا لم يكن شيء من السعادة حقاً في هذا العالم الفاني فلم جاهدت أن تكون قساً وجاهد أصحابك معك؟ لم طمعتم في حطام هذا الفناء وتشبثتم به؟
- ذلك لأني لم أطّهر من شوائب آدميتي، فإن لي كما لجميع الناس أطماعاً. . .
- صدقت، ولذلك قلت لك إنك تقول بلسانك ما ليس في قلبك، وإنك تسلم بما لا تؤمن، وإنك تبيع للناس عظات لا تعتقد بصحتها. . . لقد كان القديس بول مؤمناً حقاً، ولذلك لم تفسد الدنيا بكل ما فيها من زخارف تعاليمه؛ وكان مثله القس اللاهوتي المتزمت، الذي قضى نصف عمره قائماً فوق عمود في أرض الفراعنة. . . أنا أجل هؤلاء واضرابهم، لأنهم يؤمنون بالشيء فيبدو إيمانهم في كل ما يصدر عنهم. . . فإذا دعا رجل الدين إلى فضيلة ولم يكن متحلياً بها، فتعساً له، وتعساً للفضيلة تخرج من فمه فتكون رغاءً. . .
وانعقد لسان الحَبْر الجليل فلم يحر جواباً. . . وأنى له أن يستذكر تعاليم مولاه التي أعطى مركزه ليبشر بها بين الناس ما دام الشيطان يملك زمامه، ويؤجج نيران الجحيم بين يديه. . . ثم أنى له أن يجسر على هذه التعاليم فيذلها لشهواته، وهو يعلم ويؤمن، أن مولاه الإله محيط به، ما تكاد تكون له نجوى إلا هو عالم بها؟! وقد طربت السينورة لما بدا عليه من بدوات الحيرة والقلق والأرتباك، فقالت له:(يبدو لي أن ذكاءك وتوقد ذهنك يسلمان بهذه القضايا، بيد أنني ألحظ أن قلبك وعاطفتك عميَّان عنها، أليس كذلك؟)
- قلبي!! أنك أنت التي توجدين ثغرة هائلة بين ذهنك وبين قلبك، بين ذكائك وبين عاطفتك. . . إني أتهمك بما تتهميني به. . .)
ثم حمل كرسياً ودنا من السينورة بحيث لم يعد يحجز بينهما إلا زاوية المكتب الفخم الذي كانت تكتب عليه، وكانت يدها الجميلة الساحرة ممتدة عليه، فبلع سيدنا الحَبْر الجليل ريقه، ووضع يده الثقيلة الملتهبة عليها. . . فقالت له:
- هذا يعني أنك. . . تحب! وأنك تجعل مني جنَّةً مقمرة لأحلامك؟!
- ولم لا! إن حبك يصلح لأن يكون جنة واسعة مقمرة لأحلام ملك!
- لأحلام ملك؟ هه! بل قل لأحلام رئيس أساقفة يا عزيزي المستر سلوب!! ولمه؟ إنكم دائماً تعسلون لنا زخرف القول أيها الرجال! وأنتم خاصة أيها الأحبار أمهر الناس في توشية الكلام. . كن شجاعاً يا عزيزي المستر سلوب وانظر إلي بمجاميع عينيك.
وكانت قد سحبت يدها الجميلة الساحرة بعيداً من يده فنظر إليها بعينيه الجائعتين المنهومتين نظرة الوامق الملتاع، ومد يده ليقبض على يدها، لكنها رمقته بعينيها الجميلتين الصارمتين وقالت له: (لقد رجوتك أن تحول حماسة يديك الجبارتين إلى عينيك الحالمتين
يا مستر سلوب لكنك لم تفعل. . .)
وكان قلب الحَبْر الجليل قد انماث من لوعة الحب، وتعذيب الحبيبة، فصرخ شاكياً:
- أوه مدلين!!
فتبسمت عن ثنايا كاللؤلؤ وقالت له: (حسن، أن أسمي مادلين، هذا لا ريب فيه، ولكن أحداً من العالمين لا يجرؤ أن يناديني به إلا أن يكون من أسرتي، أفتريد أن أفهم من ذلك يا مستر سلوب أنك تحبني وتتعشقني؟!)
وارتبك الحَبْر الجليل، ولم يدر ماذا يصنع، لأنه إنما أتى إلى بيت السينور ليجلس جلسة غرامية من غير أن يصرح بلسانه أنه يحب، فلما بدهته هي بهذا السؤال لم يستطع إلا أن يجثو على ركبتيه أمام الأريكة، ويصرح أنه إنما يحب السينورة حقاً، ولكن لا كما يحب الناس!! فلما قالها. . . بدهته السينورة بسؤال آخر فقالت:
- (والآن، أتستطيع أن تخبرني متى تتزوج بالسيدة ألينور بولد؟!)
ولم يستطع المسكين إلا أن يقول: (ولأمر ما ترمينني بتهمة النفاق والتغرير بك يا عزيزتي؟
- نفاق! أنا لم أقل شيئاً من هذا أيها الأب! ولكنه يبدو لي أنك تحب أن تدافع عن نفسك فيما يتعلق بي؟ فلم هذا؟ لم لا تبقي دفاعك لتقدمه بين يدي السيدة ألينور؟ إنها هي التي ستتزوج منك، أما أنا فامرأة ذات جمال راقتك، وليس هذا شيئاً، ألا ما أبرعكم في التخريج يا رجال الدين؟
- لقد بحت لك يا عزيزتي السينورة أنني أحبك. . أهواك. أعبدك. . . فلم تعيّرينني؟
- أُعيرّك؟ يالله! هلم أيها الأب فخبرني! ألا تتزوج من السيدة ألينور بولد؟
- لا. . . لن يكون هذا!
- بل أؤكد لك أنك من عبَّادها!
- وأنا أنفي ذلك من كل قلبي!
- ولم لا أيها المستر سلوب؟ إنها أولى النساء بك. . . بل تزوجها تكن لأطفالك أما ولبيتك ربة. . . ثم لا تنس أنها أرمل جميلة ذات ثراء!
- ألا ما أقساك يا سينورة!
- أو تلك قسوة؟
- أجل. . . إذ كيف يصبو فؤادي الذي هو لك إلى امرأة سواك!؟
- إذا كانت هذه قسوة أيها الأب، فماذا إذا صرحت لك أني لا أملك أن أبادلك حباً بحب ولا عاطفة بعاطفة؟ فإذا كنت لا أملك هذا، فخبرني كيف أجزيك على حبك؟ أأجزيك عليه بأن تحضر كل يوم فتسبح بحبي وتذكر محاسني! أواه! ما أقساك أيها القدر!!
وكان الأب الجليل ما يزال راكعاً بين يدي مادلين، فلما أهوت على قلبه بهذا التصريح هب منتفضاً كالغراب (!) الذي بلله القطر، وجلس على كرسي قريب.
- وهل تسمحين أن أعطف عليك. . . مجرد عطف. . . على ما نابك؟
- تعطف عليّ؟ بل تريد أن ترثى لي لأني شبه مقعدة؟ إني إذن أحتقرك!
- أوه مادلين! أردت أن أقول (أحبك!)
ثم انقض على يدها الضعيفة الجميلة يمطرها آلاف القبل. . . فقالت له بعد إذ لم تستطع أن تذوده:
- هذا جميل! ولكن لنفرض أن السينور نيروني فاجأك الآن، فماذا عساك أن تفعل؟ وأفاق من سكرة حبه على الاسم المخيف فقال:(سينور نيروني؟!)
- أجل. . . سينور نيروني؟ أترسله إلى الأسقف وزوجه السيدة برودي؟)
- ولم تسألين؟
- لم أسأل؟ إني أحببت أن تعلم أن هناك رجلاً لا تذكره يدعى السينور نيروني؟!
- لا. . . بل أنت تنسين قلبك حين تذكرين السينور زوجك! إنك لا تحتفظين له بإثارة من الحب لأنه غير خليق بك
- القلب مرة أخرى؟! مالك كيف تتكلم أيها الأب؟ تريد أن تقول أن المرأة التي لا تضمر حباً لزوجها لها الحق في أن تخونه؟ أو على الأقل لها ألا تخلص له! والذي يقول هذا كبير أساقفة الكنيسة الإنجليزية
واشتعلت الجحيم في رأس كبير الأساقفة، وعجب كيف تذله امرأة مقعدة كالسينورة نيروني، وتمنى لو استطاع فجعلها تسجد بين قدميه تطلب حبه كما فعل هو، وتمنى كذلك لو انتزع حبها من قلبه فقذف به من حالق. . . ولكن شتان بين أن يتمنى المرء وبين أن
يقدر، فلقد سحقته السينورة لأنها عرفت من مآسي الحياة ما لم يعرف القس، وبلت من تجاريبها ما لم يبل. . . وذلك أنه ما كاد يرفع عقيرته بالاحتجاج حتى غلبه هواه، وسجد مرة أخرى تحت قدميها يستعطف كالتلميذ الذليل. . . لكنها وصلت سخريتها به فقالت له:
- ولم لا تضحي حبك أيها الأب ما دام زيفاً وبهتاناً!
- زيف وبهتان؟ أتريدين أن تقولي أن حبي لك زيف؟
- زيف وأي زيف!! وإلا، فافرض أنني حنثت في سبيلك بيميني أن أكون إلى الأبد مخلصة لزوجي وفية لاسمه الذي حملت، وأنني زللت لأرضي حبك وأشفي لوعتك، فهل ترضى إذا أخرجت من هذا البيت أن تذهب معي فنقف أمام المذبح لتعلن للملأ أنك رضيتني زوجة لك. . .؟ أنا. . .؟ هذه المقعدة التي لا يسندها في فؤادك إلا مسحة من الجمال تفتنك الآن، ولا تدري ماذا تكون في غد؟ - ولكن الحَبْر الجليل لم ينبس ببنت شفة، فقالت مادلين:(ماذا؟ تكلم! ماذا تضحي من أجلي إذن إذا ضحيت لك بكل ما عرفت!؟)
فقال الأب: (لو أنك حرة الآن لرضيتك زوجة لا أرضى بها ملء الأرض ذهباً!)
فقالت مادلين: (لو أنني حرة! أنا حرة! هاأنا ذي حرة! لننطلق إذن من هنا. . . هلم فاحملني إلى دارك! لم تقف جامداً هكذا؟)
لكن الأب لم يبد مع ذاك حراكاً. . .
- آه! لقد خشيت أن تضحي الدنيا الواسعة المترعة بالخيرات من أجل امرأة مقعدة مثلي! إذن فهلم نكون صديقين. . . صديقين فحسب. . . لا تنس هذا. . .)
وانحط على الكرسي القريب منها، ثم تناول يدها الجميلة الساحرة وطفق يقبلها أكثر وأحر مما فعل قبل. . . حتى لكأن الدرس القاسي الذي تلقاه لم يكن له أثر. . . وزاد الطين بلة فقال وهو يبكي:
- (مادلين. . . مادلين. . . قولي إني أحبك. . . قولي يا مادلين!)
وهنا سمع وقع أقدام في الخارج فنهرته السينورة وهي تقول: (صه أيها الأب! إن أمي قادمة وأخشى أن تشهد دموعك. . . هلم فأصلح من شأنك. . .)
ووثب الأب الجليل مروعاً. . . ولم يعن بإصلاح شأنه. . . بل أنطلق على وجهه من
الباب الخلفي، ولم يعد أحد يسمع به. . . لأنه لم يذهب إلى الكنيسة منذ ذلك اليوم. . .
(ملخصة)
دريني خشبة
البريد الأدبي
إلى صحف القطر الشقيق
نشرت في عدد (الرسالة) الماضي على أثر ما علمته من أن جريدة المكشوف البيروتية نشرت خطاباً ومقالاً زعمت أني أرسلتهما إليها - كلمة موجزة كذبت فيها هذه الواقعة بطريق حاسم وقلت أن ما فعلته المجلة المذكورة إنما هو تزوير شائن.
والآن بعد أن أطلعت على بعض الصحف البيروتية التي نقلت المقال المزعوم أو علقت عليه (وذلك لأني لم أستطع الحصول على عدد المكشوف الذي حدث فيه النشر المزور) عرفت أن الصحيفة المذكورة قد عمدت إلى مقال قديم كنت قد نشرته في (السياسة الأسبوعية) سنة 1931 واقتضبت منه عبارات مسختها وزعمت أنها مقال أرسلته إليها، ونشرت إلى جانبه الخطاب الذي زعمت أنها تلقته مني.
وقد أرادت الجريدة المذكورة أن تلقى بذلك من روع قرائها أنني أؤيد الحملة الدنيئة المستمرة التي تشهرها على التفكير المصري والكتاب المصريين، والتي لا تلقى هنا وهنالك سوى ما تستحق من الإعراض والزراية، وأرادت أن تدلل على ذلك ببعض فقرات اختلستها من مقالي المذكور.
فأقرر هنا أني كتبت هذا المقال منذ سبعة أعوام لمناسبة حالة أدبية معينة لاحظت أعراضها يومئذ، ورأيت في تلك الأعراض بعض وجوه ضعف يجب إصلاحها وتداركها. والحركة الأدبية المصرية ليست معصومة، ولم يقل أحد إنها بلغت ذروة الكمال، بل هي ككل حركة فكرية واجتماعية قابلة للنقد والإصلاح؛ ولكن لما كانت الحركة الأدبية المصرية تثب بخطى الجبابرة فان هذه الآراء لا يمكن أن تعبر إلا عن الوقت والظروف التي قيلت فيها.
أما أن تعمد جريدة المكشوف إلى اقتضاب بعض ما ورد في هذا المقال ثم تزعم أني أرسلته إليها، بل وتذهب في الافتراء إلى أبعد من ذلك فتقرن المقال المزعوم بخطاب تدعي أني أرسلته إليها فأقل ما يقال في ذلك إنه عمل إجرامي دنيء.
ما كان لمثلي أن ينزل إلى مثل ذلك فيمالئ وريقة عرفت بحقدها المضطرم على الثقافة المصرية، وعلى النيل من ثقافة بلاده التي يعتز بها، والتي يتشرف هو بأن يشترك في
حمل لوائها الخفاق.
ولقد رأيت في بعض صحف القطر الشقيق بعض مقالات وتعليقات على هذه الدسيسة الأدبية المثيرة، نشرت بلا ريب بحسن نية، ولما كان من المتعذر على أن أكتب إليها جميعاً فإني أكتفي بأن أوجه إليها هذه الكلمات على صفحات الرسالة لتقف منها على الحقيقة ولتذيعها نصرة للحق والأنصاف.
أما الصحيفة القاذفة المزورة فأمرها إلى القانون يحاسبها، وإلى الرأي العام يصدر حكمه عليها.
محمد عبد الله عنان
ذكرى وفاة أبي الفرج الأصبهاني
في انتهاء عامنا الهجري هذا يكون قد مضى ألف سنة على وفاة المؤلف العظيم أبي الفرج الأصبهاني علي بن الحسين الأموي المرواني الذي يعد من أعاظم المؤرخين والبحاثين، فقد بلغ عدد ما عرف من مؤلفاته خمسة وثمانين مؤلفاً من أثمن المؤلفات العربية في التاريخ والاجتماع والأدب، وأشهرها (الأغاني)؛ وقد أجمع المؤرخون على أنه لم يصنف مثله في هذا الباب، ولولاه لضاع شعر الجاهلية والإسلام؛ وقد ألفه في مدة خمسين سنة ولم يزل هذا الكتاب المطبوع في 21 مجلداً منذ ألف سنة حتى اليوم ينبوعاً صافي المورد، ومنهلاً عذب الارتشاف، يرده الأدباء والمتأدبون وهم ظماء، ويصدرون عنه وهم رواء. فكم من أديب نابغ قد تخرج عليه، وعلم من أعلام البيان العربي كان يرجع بيانه إليه، وشاعر فحل زكت شاعريته ونمت موهبته بالرواية عنه والأخذ منه. . .
وقد عن لي بهذه المناسبة - مناسبة مرور ألف عام على وفاته - أن أقترح على علماء العراق وأدبائه وأهل الفن فيه إقامة مهرجان ألفي في بغداد موطن المؤلف التي كتب فيها جميع مؤلفاته وتوفي فيها بعد أن خلد اسمها إلى أبد الدهر. ولا أظن أن من الأقطار العربية من يتأخر عن الاشتراك في هذا الاحتفال وتعديد مناقب رجل جمع بين علوم الدين والدنيا في الإسلام.
(كربلا)
عباس علوان الصالح
وفاة علامة هندي عظيم
نعت إلينا أنباء الهند الأخيرة العلامة الهندي الكبير السير جاجاديس شندرا بوزن أعظم علماء النبات المعاصرين، توفى في نحو الثمانين من عمره؛ وكان مولده بالهند في سنة 1858، ودرس في كلكوتا وكامبردج؛ وبدأ حياته أستاذاً في جامعة كلكوتا، وتخصص في علم النبات وأبدى فيه براعة خاصة. ثم انقطع بعد ذلك لدراسة حياة النبات، ووفق أثناء تجاربه إلى عدة اكتشافات باهرة لفتت إليه أنظار العالم، وكان أهمها ما أثبته بالتجارب العلمية وهو أن النبات كأي إنسان يشعر ويحيا، وله كالإنسان نبض يمكن جسه وإحصاؤه؛ ولإثبات نظريته الجديدة اخترع السير بوز آلة سماها (كرسكوجراف) تسجل حياة النبات ونبضه، وتكبرها بنسبة مائة ألف مرة؛ وبهذا الآلة يمكن مشاهدة نمو النبات وتأثره بالعوامل الجوية، وبالعناصر الغريبة التي يلقح بها كالأسمدة أو السموم أو غيرها. وقد عرض السير بوز تجاربه في أنحاء العالم فحازت إعجاب العلماء وتقديرهم جميعاً. ومما يذكر أنه قدم إلى القاهرة في شتاء سنة 1927، وعرض تجاربه أمام جمهور من العلماء والمشاهدين فأدهشهم جميعاً بما عرضه من حركات النبات ودلائل حسه ونبضه. وللسير بوز عدة آلات دقيقة أخرى اخترعها لتسجيل الحياة النباتية، وله عدة كتب تعتبر في هذا الباب مرجعاً وحجة، منها:
(جواب النبات)، (تهيج النبات)، (حركات الحياة في النبات)، (الجهاز العصبي للنبات) وغيرها؛ وهو يعتبر عميد العلوم النباتية في العصر الحديث.
مذكراتي في نصف قرن
منذ أيام قلائل صدر القسم الثالث والأخير من كتاب (مذكراتي في نصف قرن) بقلم الأستاذ الجليل أحمد شفيق باشا وقد استطاع قراء القسمين الأولين من هذه المذكرات النفيسة أن يقدروا اليد الجليلة التي أسداها الأستاذ شفيق باشا لتاريخ مصر الحديث بتدوين هذه المذكرات ثم بإخراجها؛ وكان تدوينها في الواقع عملاً دقيقاً شاقاً شغل حياة مدونها، بيد أنها كانت سلوى حياته لا يغفل عنها، ولا ينسى متابعتها قط مهما ادلهمت من حوله الخطوب
والحوادث؛ وكان فوق ذلك أجدر الناس بتدوينها، وأقدرهم على الاستفادة من عبر الحوادث وفهم أسرارها وتطوراتها؛ ذلك أنه كان مدى ثلث قرن شخصية بارزة في القصر الخديوي، بل كان مدى أعوام طويلة اعظم رجال البطانة الخديوية نفوذاً وأشدهم تأثيراً في توجيه الخديو؛ وكان بحكم منصبه ومراقبته لسير الأمور من أكثر الناس إطلاعاً على سير الحوادث، وعلى أسرار الوثائق، وأكثرهم فهماً للرجال العموميين فما يقدمه إلينا من مذكراته هو أصح وأدق ما يستطيع مؤرخ معاصر أن يقدمه عن حوادث عصره.
ويشمل القسم الثالث من هذه المذكرات النفيسة مرحلة الحرب الكبرى وما بعدها، من سنة 1915 إلى سنة 1923؛ ونحن نعرف أن الخديو عباس حلمي كان منذ صيف 1914 متغيباً في استانبول، وأن الخلاف وقع بينه وبين الإنكليز منذ نشوب الحرب الكبرى، فلم يعد بعد ذلك إلى مصر، وأنه لعب أثناء الحرب أدواراً خطيرة، واشترك في كثير من مشاريع السياسة الألمانية التركية نحو مصر. وقد كان المؤلف خلال هذه الأعوام المدلهمة إلى جانب مولاه في المنفى مع نفر من كرام المصريين، يتتبع عن كثب تطورات الحوادث ويقيدها. وهو يقص علينا في مذكراته ناحية من المأساة لم تكن مصر خلال الحرب تدري شيئاً عنها؛ ومن الصعب أن نتتبع محتويات الكتاب في هذا المقام الضيق، ولكنا نستطيع أن نقول باختصار إنها كل حياة الخديو السابق وكل حركاته وأعماله منذ سنة 1915 إلى سنة 1920 وهي صفحة غريبة مشجية من تأريخ مصر السري لا نعرف عنها سوى القليل؛ ومن حولها معلومات وتفاصيل كثيرة عن المصريين الذين اشتركوا فيها أو اتصلوا بها، ومنهم كثير من الزعماء اللاحقين؛ ويقرن المؤلف ذلك بتفصيل أعماله وحياته وصلاته مع الخديو وغيره حتى عوده إلى الوطن من المنفى في سنة 1923.
ونحن نهنئ الشيخ الوقور أحمد شفيق باشا بتوفيقه في إتمام ذلك العمل الجليل الذي استغرق أعواماً كثيرة من حياته واقتضى منه جهوداً عظيمة تستحق تقدير مواطنيه وتقدير التاريخ؛ أمد الله في حياته الحافلة النافعة.
الآداب الفرنسية وجائزة نوبل
تحدثت الصحف الفرنسية لمناسبة فوز الكاتب الفرنسي روجيه مارتان دوجار بجائزة نوبل للآداب عن الكتاب الفرنسيين الذين ظفروا قبله بهذا الشرف، فذكرت إنهم قلائل جداً
بالنسبة إلى من ظفروا بجوائز نوبل من الأمم الأخرى، وهم لا يتجاوزون خمسة: أولهم سولي برودوم، وقد حصل عليها في سنة 1901؛ والثاني الشاعر البروفنسي مسترال، وقد حصل عليها في سنة 1904 والثالث رومان رولان، وقد حصل عليها سنة 1916؛ والرابع أناتول فرانس، وقد حصل عليها سنة 1921، والخامس الفيلسوف هنري برجسون، وقد حصل عليها سنة 1928؛ ومنذ عشرة أعوام لم يظفر كاتب فرنسي بجائزة نوبل، في حين أن الآداب الإنكليزية أو الألمانية أو الإيطالية لا يكاد يمضي عام أو اثنان حتى تظفر إحداهما بهذا الشرف.
ولكن الصحف الفرنسية ترى من جهة أخرى أن الآداب الفرنسية كانت موفقة من الناحية المعنوية أعظم توفيق، لأن أولئك الذين حصلوا على جوائز نوبل منذ قيامها إلى الآن هم خيرة ممثليها في مراحلها المختلفة؛ وقد كان مارتان دروجار حقاً ممثلها من نوع يستحق التقدير العالمي.
والمعروف أن لجنة استوكهلم قد منحته جائزة نوبل من أجل قصته الشهيرة (تيبول) التي تقف حوادثها عند صيف سنة 1914، والتي استؤنفت بعد ذلك خلال الحرب الكبرى؛ وهي القصة التي ظفر من أجلها أيضاً بجائزة مدينة باريس الكبرى التي رتبها بلدية باريس لأحسن مؤلف قصصي أو تاريخي، ثم توجتها عقب ذلك جائزة نوبل. وقد أحدث حصوله على جائزة استوكهلم دهشة في بعض دوائر الأدب الفرنسي إذ كانت تتوقع أن يكون الفائز بها هو الشاعر الكبير بول فاليري، ولكنها اغتبطت على أية حال لأن الفائز بها فرنسي.
جائزة نوبل للسلام
وعلى ذكر جوائز نوبل أيضاً نقول أن الذي فاز بجائزة نوبل للسلام هو السياسي الإنكليزي الكبير اللورد روبرت سسل، وذلك من أجل جهوده في سبيل قضية السلم العالمي. وقد درس اللورد سسل في جامعتي إيفون واكسفورد، وخاض حياة سياسية باهرة، وانتخب عضواً في مجلس العموم منذ سنة 1904 وتقلب في المناصب الكبيرة حتى غدا في سنة 1918 وزيراً للخارجية.
ولقد لعب دوراً كبيراً في مؤتمر الصلح وإعداد دستور عصبة الأمم؛ ومثل إنكلترا في جلساتها مراراً ثم ناب عن إنكلترا في لجنة السلاح، وكان له في أعمالها مواقف نبيلة دلت
على تحمسه في مناصرة قضية السلم. واللورد سسل من أعظم أنصار عصبة الأمم ومبدأ السلامة الإجماعية. وقد استقال من جميع المناصب الحكومية ليتفرغ لخدمة قضية السلم، وله في ذلك مواقف وخطب رنانة؛ وله كتاب قيم عنوانه (سبيل السلام) ضمنه خطبه وأحاديثه السلمية، وكلها تدل على تمكنه من موضوعه. وهو في الوقت نفسه من أشد خصوم النظم الفاشستية، وله في شأنها حملات خطابية وكتابية شديدة، وهو اليوم في الثالثة والسبعين من عمره، ولكنه لا يزال يعمل لخدمة السلام بهمة الشباب.
مواطن الجواد قبل التاريخ
عثر المنقبون في سفالوف في جنوب السويد على عظام قديمة ظهر من فحصها أنها عظام الجواد الوحشي، وأنها ترجع إلى نحو عشرين ألف سنة. ويرى العلماء الرسميون الذين فحصوها أنها بلا ريب من بقايا الجواد القديم المنقرض، وقد كانت هذه المسألة مثار خلاف بين العلماء، فجاء هذا الاكتشاف مؤيداً لأقوال القائلين بأن الجواد كان ضمن الحيوانات التي تعيش في هذه المناطق منذ عصر ما قبل التاريخ.
بريطانيا العظمى وفلسطين
صدر في إنجلترا منذ أسابيع هذا الكتاب عن فلسطين الشقيقة للكاتب الإنجليزي هربرت سيد بوتهام. وقد تصفحناه فوجدناه كتاباً مغرضاً أغلب الظن أنه طبع بأموال يهودية ليبشر بالدعاوة لليهود في سائر أنحاء العالم على العموم وفي إنجلترا وبين أنصار حزب المحافظين على الخصوص. . . فلقد سرد تاريخاً مملاً مشوهاً لفلسطين منذ أن فتحها محمد علي الكبير إلى اليوم واعتبر هذا الفتح مبدأ لحركة الدعاوة لإنشاء الوطن القومي لليهود الذي لم يتحقق إلا في السنوات الأخيرة، وقد اعتبر اليهود سفراء المدنية الغربية إلى الشرق، وتبجح فنعى على العرب قلة عرفانهم بهذا الجميل الذي أسدته إليهم بريطانيا إذ سخرت لهم الذهب اليهودي والذكاء اليهودي لينهضا بهم، كأن العرب كانوا قد نسوا مدينتهم ومجدهم وافتقروا إلى السحت لإحياء ماضيهم الغابر. ومما يثير عجب القارئ ويبتعث ضحكه أن ينعى المؤلف على بريطانيا استخذاءها تلقاء العرب (الذين يعتبرون التأدب البريطاني جبناً والرحمة الإنجليزية ضعفاً فترد وفودهم إلى لندن ليملوا شروطهم كأنهم
انتصروا على بريطانيا في معارك حربية. . .) ولسنا نعرف أن بريطانيا قد استخذت يوماً في فلسطين فيما يتعلق بالجانب العربي، اللهم إلا أن يعتبر المؤلف ضرب السكان بالنار ونسف المدن بالديناميت استخذاءً. ولسنا نعرف أيضاً ماذا كان من نكران العرب لجميل بريطانيا؟ أفمن هذا النكران وقوف العرب صفاً بجانب الإنجليز في الحرب الكبرى ضد إخوانهم المسلمين؟ أم من هذا النكران تمسكهم ببلادهم وافتداؤهم لها بدمائهم؟ ما كان أجمل أن يذكر المؤلف كيف سند العرب بريطانيا في الشرق، ولو لم يفعلوا لتغير مجرى التاريخ، وتغير تبعاً لذلك وجه الأرض. . .
وبعد، فليقرأ الفلسطينيون هذا الكتاب ولينظروا في وقاحته، فقد عرض بالسوء لرجالاتهم، وجرح بالباطل زعماءهم وهم برد مزاعمه أولى.