المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 232 - بتاريخ: 13 - 12 - 1937 - مجلة الرسالة - جـ ٢٣٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 232

- بتاريخ: 13 - 12 - 1937

ص: -1

‌ثورة على الأخلاق

معدة قرقرت ثم استقرت

للدكتور عبد الوهاب عزام

فأما صاحبك فقد ساءتني حربه وسلمه، وهو في سلمه اشد إساءة وأعظم جناية؛ صورته لي غاضباً للأخلاق، راثياً للفضيلة، ثائراً على الناس، يقذفهم بالتهم، ويرميهم بالحمم؛ يشتط في غضبته ويغلو في ثورته، فقلت: حر غضب فأخطأ، وكريم ثار فجار، وأبيٌّ برٌّ أسخطته المذلة، وهاجه الفجور، فانطلق لا يقف عند حد. ثم صورته قنوعاً مستسلماً فقلت: وا سوأتا! أهذا المبطان جادلت، وهذا الجبان نازلت؟ لقد كان جهاداً في غير عدو. لم تكن شقشقة هدرت ثم قرت، بل معدة قرقرت ثم استقرت. وما الشقاشق إلا لفحول الجمال، وأشباههم من فحول الرجال.

وأما أنت يا أخي الزيات فما أحسبك إلا شريك محمود في رأيه، أو أصاحب وحيه؛ قدمته للكلام ونطقت على لسانه، وعرضته للنضال ونزعت في قوسه، ولا أقول أقمته مقام الوثن من سادنه، والصنم من كاهنه. فلما تبين انه في الخصام غير مبين، وفي المآزق غير دفاع، وفي المعارك لا يثبت للمصاع؛ وإنه لجوع يثيره، وشبع يرضيه، أبدلت به جماعة حسبتهم أقوم بحجتك، واشد هيبة في صدور خصومك فقلت:(على أن مجلسنا كان حافلاً بغير محمود من رجال العلم والدين والأدب، وكلهم كانوا له وعليك) واكبر ظني أن هؤلاء (رجال العلم والدين والأدب) شركوا محموداً في المائدة. وإلا فكيف جمعهم بمحمود المجلس وقد (قام منذ هنيهة عن مائدة الإفطار الغنية الشهية)؟ والعجيب أن تذهب المائدة بثورة محمود وتثير سخط هؤلاء. ولعله كان أثبتهم على المائدة حملة، وأطيشهم في الصحاف يداً. ولعلهم آثروا القناعة، واصطنعوا الحياء، وتمسكوا بالأخلاق فحرموا، فكانت ثورتهم على الأخلاق.

وبعد فموضع الخلاف بيننا هذه القضية: هل الخلق الفاضل سبيل النجاح؟ قال محمود إبان ثورته: لا، وقلت: نعم نعم. وضربت مثلاً الصانع المجيد، الحسن المعاملة، الصادق الوعد، والتاجر الأمين المخلص، والمزارع الأمين. ثم قلت: (ولا يزال الرجل الصادق الأمين في كل جماعة وفي كل طائفة موضع المودة والثقة؛ ينال بسيرته ما تقصر عنه ثروته، إن

ص: 1

أستقرض اقرض، وإن استعار أعير، الخ) فبأي هذا يرتاب أصحابك؟ يقولون: ما أهون الأخلاق إن كان قصاراها هذا النجاح الحقير ويقولون إن الذين ضربتهم مثلاً من الأخيار لن يستطيعوا أن يكونوا يوماً من رجال المال والأعمال كفلان وفلان - وأنا يا صديقي ما خصصت بقولي ضرباً من النجاح دون ضرب. ولم يكن ذكري التاجر والصانع والمزارع إلا مثلاً و (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما، بعوضة فما فوقها) ولا أتم الآية إشفاقاً على أصحابك أني أقولها كلمة عامة شاملة: الخلق الفاضل، في اغلب الأحوال، سبيل إلى النجاح في كل طرائق الحياة؛ إن اخفق حينا نجح أحياناً، وإن أكدى مرة أورى مرارا. فالحاكم الخير، والرئيس البر، والقائد الصالح، والمؤلف الصادق، والأديب النزيه، والصانع والتاجر والزارع، بل الموظف، كل أولئك اقرب إلى النجح واظفر بالطلبة في اكثر الأحوال من أمثالهم من الأشرار، بعد أن يتخذوا للمقاصد سبلها، ويعدوا لكل أمر عدته. فان قصروا في الأهبة وتوانوا في اتخاذ العدة فماذا يجديهم الخلق وحده؟ إن بعض الأخيار تجنبوا المعارك، وأشفقوا من المهالك، وضيعوا الحزم، فلما أوفت بهم الأعمال على نتائجها التبس الأمر على كثير من الناس فحسبوا إخفاقهم بما استمسكوا بالحق والخلق الطيب، وخالوا نجاح أضدادهم بما ركبوا إلى غاياتهم مراكب الباطل والرذيلة. فقل لهؤلاء: أعيدوا النظر واحسنوا التفكير، ولا تقصروا النجاح على المال فيجور بكم المنطق؛ فهناك الكرامة والجاه والرياسة والزعامة، وهناك الطاعة والمودة. وانظروا إلى الزعماء الذين يسوسون الأمم أهم من أصحاب المال؟

وقلت في مقالي السابق: إن للأخيار إلى مقاصدهم سبيلاً واحدة، وللأشرار سبلاً شتى، ولكن هذه السبيل الواحدة أحرى بان تؤدي إلى الغاية، وتوفي على المطلوب. فقلت إن أصحابك يرون في قالتي هذه نزوعاً إلى رأي محمود. ثم قلت:(ومادام جوهر الرأي واحداً فالسبيل القاصدة أن نطب لهذه الحال بما يوائم بين طموح الناس وكرامة الأخلاق وسلامة المجتمع) ثم قلت انه لا معدى عن إحدى وسيلتين: أن تحمل الناس بالدين والسلطان على سبيل الحق الواحدة وذلك (خيال نبيل لا يقع في الإمكان)، وأما أن نعيد النظر في قانون الأخلاق، وهذا (على ما يرون مظنة التوفيق في الإصلاح الجديد)

وجوابي انه ليس في كلامي نزوع إلى رأى محمود إلا أن تقطع المقدمات بعضها عن

ص: 2

بعض، ويفصل بين أول الحجة وآخرها. وإما الدعوة إلى إعادة النظر في الأخلاق فأنا لم اعد في مقالي جملة الأمر إلى تفصيله. لم أجادل عن خلق بعينه، ولم اقل أن خلقا ما صالح لهذا الزمن أو غير صالح، ولكني قلت إن الأخلاق الفاضلة التي تتفق عليها أمة أو أمم لا تكون سبلا إلى الخيبة والحرمان. وإن أردت أن نعيد النظر في الأخلاق فما أنا بمنكر أن الأخلاق تقبل بعض التغير، ولكني لا أخال إعادة النظر ستغير تغيراً ذا بال فيما سارت عليه الأمم منذ هداها الوجدان والعقل إلى سبل الخير؛ ولن تحلل هذه الإعادة رذائل كالكذب والسرقة والتزوير والظلم، أو تحرم فضائل كالصدق والأمانة والعدل. ومهما تكن النتيجة فالأخلاق القديمة أو الجديدة لا تكون قرينة الخيبة والشقاء.

وقد ذكرت أيها الأخ الكريم أخلاقاً تجعلها مثلا لما تريد تغيره. ذكرت التواضع والقناعة والزهد والمداراة والتوكل، وهذه أمور يختلف فيها النظر وليست من قواعد الأخلاق. فقل فيها ما يهديك إليه النظر الصائب. ورأيي أن التواضع محمود ما لم يكن ذلة، والقناعة حميدة بقدر ما تحول بين الإنسان وبين الشره والاستكلاب. فان كانت ضعفاً في الهمة وعجزاً عن الإدراك فهي رذيلة. وكذلك الزهد. وأما التوكل فان يكن استكانة للحادثات، وخنوعاً لكل ما هو آت، فلا يرضاه إنسان؛ وان كان ثقة بالنفس وانطلاقا في سبل الحياة لا ترده دون غايته المشاق والأهوال فما أحوج الناس إليه.

يا أخي: قد أساء العجز والذل تأويل هذه الأمور. أنت تعرف أن المثل الأعلى للرجل المسلم أن يكون طماحاً إلى ابعد غايته، واثقاً بنفسه إلى غير نهاية، حراً لا يقر بعبودية، أبياً لا يقيم على دنية؛ يرى نفسه قائماً في هذا العالم بالقسط قد وكل الله إليه تصريف الأمور وتقسيم الأرزاق، والهيمنة على الأخلاق. وأين هذه مما فهمه الناس من التواضع والتوكل. الخ

وأما الربا فلا يتسع المقام للكلام فيه. وحسبك هذه الثورات الثائرة حوله، والمعارك الهائجة فيه بين البلشفية والرأسمالية. وأما قياس الأخلاق بالنفع والضر فقد ذهب إليه بعض علماء الأخلاق، ولكن مذهباً ينتهي إلى منفعة الجماعة وضررها لا منفعة الفرد وضرره. ولن تقوم لأمة قائمة أن جعلت مقياس أخلاقها نزوات كل إنسان ونزغات كل فرد.

وبعد فيا صديقي ارني حدت عن الموضوع الأول استطراداً معك، فارجع إلى محمود احمده

ص: 3

على ثورته مخطئاً، وأذمه على هدوئه مصيباً. فقد تمثل لي في الأولى حرا ثائراً يريد أن يقلب نظم الأخلاق في الأمة، وتمثل لي في الثانية تُكلةً نكساً مبطاناً لم يدع على المائدة فتاتاً، ولم تدع فيه المائدة فيه بقية لهمة أو عزيمة أو ثورة. فرحمه الله جوعان ثائراً، وأخزاه الله شبعان خائراً

عبد الوهاب عزام

ص: 4

‌هل الحرب ضرورة؟

للأستاذ عباس محمود العقاد

جرئ من يقول أن الحرب ليست من ضرورات الطبيعة الإنسانية في هذا الزمن الذي قلما نسمع فيه إلا حديث حرب وخوفاً من حرب واستعداداً لحرب وبحثاً في محالفات ومؤتمرات ليس الغرض منها إلا اتقاء العداوات والحروب.

والواقع أن محاربة الحرب في العصر الحاضر تحتاج إلى كل ما في الإنسان من شجاعة، وكل ما عنده من رأى، وكل ما ينطوي عليه من سجية، لأنه يحارب أقوى القوى متضافرات متشابكات: يحارب قوة المال وقوة السلاح وقوة الجهل وهي أقوى عناصر هذا الثالوث.

وربما كان خير الميادين للغلبة على الحرب ميدان الثقافة وما يلحق به من ميدان التربية والتعليم. فإن التربية تصلح ما أفسدته التربية، ثم تزيد فتصلح ما لم تفسده قبل ذلك، وهي على كل حال سلاح لا غنى عنه في هذا الميدان، لأن وسائل السلم كلها لن تفيد في تعويد الناس غير ما تعودوه ما بقيت تربيتهم وتثقيفهم عقولهم على الحال التي هي عليه

في طليعة الكتاب المعنيين بفلسفة الحرب (الدوس هكسلي) حفيد العالم الإنجليزي هكسلي الكبير.

وهو وأقرانه في هي هذا الجهاد الإنساني الشريف لا يبحثون عن الحرب بحث الصحف والأخبار والمؤتمرات والوزارات، فإنهم يعتقدون وهم على حق فيما يعتقدون أن سياسة الأمم اعمق وأخفى واعرق من هذه الجوانب التي يتناولها السواس وتلغط بها صحف الأخبار، ولكنهم يبحثون الطبيعة الإنسانية وينقبون في تواريخ الأمم ليعرفوا منها ما هو طبيعي أصيل، وما هو عرضي قابل للتهذيب والتبديل. ومعظم النابهين بين كتاب هذه الطائفة ينتهون إلى أن الحرب بدعة طارئة وليست ضرورة من ضرورات الطبيعة الإنسانية ولا قانوناً من قوانين الاجتماع، وهذا هو الرأي الذي يلوح غربياً ممعناً في الغرابة للذين سمعوا وطال سماعهم لقوانين تنازع البقاء وإرادة القوة وإرادة الحياة، وحسبوا أن هذه القوانين ودوام الحرب معنيان مترادفان

كتاب (الغايات والوسائل) هو آخر كتب هكسلي في هذا العام، وإن كان قد ردد فيه بعض

ص: 5

الآراء التي شرحها في كتبه السابقة منذ سنوات.

وفصل الحرب في هذا الكتاب من أبرع الفصول التي كتبها هذا الأديب اللوذعي المطلع القدير، وهو الفصل الذي نلخصه في هذا المقال، ونعتقد إننا - نحن المصريين والشرقيين - خلقاء أن نبحث الحرب من هذه الناحية بعد أن طال حديثنا عنها من نواحيها العرضية التي تجيء وتذهب مع الأخبار، بل لعلنا أحوج ما نكون إلى تدعيم بحوثنا كلها على هذا الأسس وعلى هذه الأصول

يقول هكسلي ما خلاصته أن الحرب ظاهرة إنسانية لا وجود لها في عالم الحيوان، لأن الحيوان يتقاتل في إبان الثورة الجنسية أو طلباً للطعام أو لهوا ولعباً في قليل جداً من الأحايين، وليس من الحرب بالبداهة أن يقتل الذئب الشاة أو تلعب الهرة بالفأر، فإنما هذا شبيه بعمل الجزار حين يقتل ما يطعمه الناس، أو شبيه بعمل الصياد حين يتعقب الثعلب والأرنب. نعلم أن بعض علماء الحياة وعلى رأسهم السير أرثركيت يزعمون أن الحرب كالمنجل في يد الطبيعة تقطع الفاسد وتبقي من أفراد الحضارة وشعوبها كل صالح للبقاء

ولكن هذا كما هذا ظاهر لغو فارغ، لأن الحرب تقضي على الشبان والرجال الأشداء وتترك الضعفاء والشيوخ الذين لا يذهبون إلى الميدان. وقد دلت التجربة على أن اعنف الشعوب وأصلحهم للحرب لم يكونوا قط افضل الشعوب وارفعها في مراتب الأخلاق والثقافة، إذ ليس انفس بني الإنسان وأغلاهم قيمة في معيار الحضارة أوفاهم (نزعة حربية) وضراوة في حومة القتال.

وأوجز ما يقال في هذا الصدد أن الحرب تختار الأفراد على طريقة عكسية فتفني الأقوياء وتترك الضعفاء، وإنها تختار الشعوب على سنة المصادفة والمناسبات الموقوتة، فكثيراً ما تفنى الشعوب المقاتلة وتترك الشعوب الموادعة، وكثيراً ما كان انطباع الأمة على الحرب طريقاً لها إلى الوبال والاستئصال.

والذي يدل اكبر دلالة على أن الحرب أليست طبيعة في الإنسان ولا في الاجتماع إنها لم تظهر في التاريخ إلا بعد ظهور درجة من الحضارة ونوع من الحكومة، فهي مجهولة بين قبائل (الإسكيمو) التي تسكن الأصقاع الشمالية حتى اليوم. وقد كانت مجهولة في أطوار الإنسانية الأولى فلم يعرف عن الإنسان في تلك الأطوار انه اتخذ السلاح للقتال وحب

ص: 6

الغلب والسيادة، إنما كان يتخذ السلاح لدفع الضواري أو لصيد بعض الحيوان

وصحيح أن (تنازع البقاء) قانون قائم في عالم الإنسان كما هو قائم في عالم الحيوان، ولكن من أين لنا أن تنازع البقاء مستلزم داوم الحرب كما ألفناها ونألفها في الحضارات الغابرة والحاضرة؟ ومتى شوهد الحيوان وهو يتجمع مئات وألوفاً ليقاتل بعضه بعضاً من فصيلة واحدة؟ فليس في عالم الطبيعة كلها ظاهرة تشبه اجتماع جيش لمحاربة جيش آخر، ولم يعلم قط أن قطيعاً من الذئاب احتشد الهجوم على قطيع مثله، أو أن سرباً من الطير فعل مثل ذلك على سنة الآدميين في الحروب.

فالقول بان الحرب قانون طبيعي قول لا يستند إلى اصل من الطبيعة الحيوانية في حالي التفرد والاجتماع، إنما هو تفسير خاطئ لقانون صحيح.

إن الآداب الأوربية قد شوهت الأخلاق حتى وهم الناس أن التضحية بالحياة أنبل ما يستطيعه الإنسان، وان الشهيد أي الميت الحسن على زعمهم افصل من الرجل العامل أي الحي الحسن. وعلى خلاف ذلك كانت آداب الشرقيين في الهند والصين، فعند اتباع كنفشيوس أن المغامرة بالحياة لا تليق، وان الحكمة افضل من الشجاعة البدنية، وان العاملين في السلم افضل من العاملين في القتال وان الفضيلة العليا أن يحجم المرء عن الكبرياء والعدوان ويروض نفسه على الوداعة ومجازاة الإساءة بالإحسان

ولما جاء المسيح بدين الوداعة والمسالمة دخلت المسيحية بين شعوب أوربا المقاتلة فجعلوا (الاستشهاد) غاية الغايات في النبل والفضيلة، لأنهم هكذا ينظرون إليه في لآداب العسكرية حتى التبست دعوة السلام بدعوة القتال.

أما في الهند فالحضارة البوذية تأبى العدوان على أحد من الأحياء وتوصي بمحاربة الشر بالكف عن مقابلته بمثله، وهو ما يسمونه عندهم (اهمسا) أي اجتناب الأذى مع الأحياء كافة حتى ما يؤذيه الآخرون طلباً للطعام.

وفي شرع البوذيين أن (الغضب) رذيلة دائماً وان الإكراه محظور في جميع الأحوال، فشاعت البوذية وعمت بين مخالفيها دون أن تلجأ إلى اضطهاد أو جاسوسية أو محكمة تفتيش

وعلى هذا، وعلى ما تقدم من نفي ضرورة الحرب، يسوغ لنا أن نعتقد أن الدعوة إلى إلغاء

ص: 7

الحروب ليست بالدعوة التي تقاوم مجرى الطبيعة أو تعارض تيار السفن التاريخية، وانه من الجائز أن يشيع السلام في وقت من الاوقات، وبخاصة في العصور المقبلة القريبة بعدما استفحل خطر الحرب وتعذرت النجاة منه على المسالمين في البيوت والمقاتلين في خطوط النار.

واستطرد الكاتب إلى إجمال أسباب الحرب فقال ما خلاصته أنها أسباب نفسية قبل أن تكون اقتصادية أو سياسية كما يزعم الاشتراكيون ورجال السياسة، وان كان هذا لا يمنع أن لها أسباباً اقتصادية تعالج بترياق غير ترياق الدماء.

فمن أسباب الحرب الخوف، فهو يدفع إلى الاستعداد، والاستعداد يضطر الأمم إلى الحرب، لأنه يهيئ الأذهان لها بكثرة التوقع والشك في إمكان اجتنابها، وأحرى أن يكون ذلك في العصور الحديثة والبلاد المتحضرة، حيث اصبح السلاح عرضة للتغير والبلى بعد قليل من سنوات، فمن العسير أن تنفق الدول الملايين ثم تلقى بها في التراب.

ومن أسبابها شيوع الملل في الحضارة إذ يشيع الكفر بالأمثلة العليا فتعود الحياة عبثاً ثقيلاً لا غرض له ولا وجهة ولا متعة فيها أمتع من الإهاجة واستفزاز الشعور، والحرب تهيج النفوس فتدفع الملل والسآمة وتقل حوادث الانتحار كما ثبت من إحصاءات علماء النفس وفي طليعتهم دركيم وهلباش.

ومن أسباب الحرب الحرب نفسها حين تهجم أمة على أمة أخرى لانتزاع موقع لازم للتحصين ودرء المخاوف واتقاء الهجوم

ومن أسبابها المجد الكاذب وطغيان الأقوياء وتحويل أنظار الشعوب في الأزمات إلى ما يشغلها عن الثورة والانتقاض

ومن أسبابها التربية القائمة على الإفراط في اتباع النظام فان الإفراط في النظام ينشئ (العقلية العسكرية) ويجني على استقلال الأفراد، فتسهل قيادتهم إلى ما يريده القابضون على أعنة الأمور. ولو تربى الأطفال مستقلين لما استطاع القادة سوقهم إلى المجازر كما تساق الأنعام.

أما الأسباب الاقتصادية والسياسية فهي دون ما تقدم في القوة وصعوبة العلاج، وسنعود إليها والى مناقشة آراء الكاتب في غير هذا المقال

ص: 8

على أن الرأي الذي نود أن نختم به مقالنا هذا هو إصرار هكسلي على السخر بكل ما يقال عن الحروب التي تختم الحروب

فعنده أن التاريخ الإنساني ليس (كرة أرضية) يخرج فيها الإنسان إلى اليابان فيلقى نفسه في أقصى المغرب من طريق الشرق البعيد

إنما التاريخ الإنساني خط مستقيم، فإذا أردت أن تتقدم فيه إلى إلغاء الحرب فلن تصل إلى وجهتك بالرجوع إلى الوراء

عباس محمود العقاد

ص: 9

‌القلب الغريب

في ليلة عيد

للدكتور زكي مبارك

أخي الأستاذ الزيات

هل تذكر ما حدثتني به منذ سنين؟ هل تذكر انك تشهيت مرة أن توجه إليّ خطاباً على صفحات البلاغ عنوانه (من غريب إلى غريب) وكنت الغريب في بغداد وكنت الغريب في باريس؟

ولم تحدثني عما أوحي إليك أن تفكر في إنشاء ذلك الخطاب، فهل أستطيع أن ارجح أن ذلك كان بعد أن نشرت أنا رسالة (من غربة إلى غربة بين القاهرة وباريس) تلك الرسالة التي فضحت بها مكتوم صدري ومكنون هواي؟

على أنني لن اكتب مثل تلك الرسالة مرة ثانية فقد انتهى عهد الغربة بالقاهرة، وقضى الحب أن اشهد كيف تنهمر دموع الملاح يوم رحيلي إلى العراق

انتهى عهد الغربة بالقاهرة، وحل عهد الاغتراب عن القاهرة، فمن يردني إليها ليلة أو ليلتين لأقضي حق التحية، تحية المغاني الآهلة التي كانت تتشوق إلى العيد، لتراني مع العيد!

ليتك يا صديقي تعرف نعمة الله عليك في بلد لك فيه أهل وأحباب، ولا أراك الله حسرتي وعذابي وأنا أتجرع كأس الغربة في ليلة عيد!

ولكن هل من السياسة أن أعلن غربتي في بغداد، وقد لقيت فيها أهلاً بأهل وجيراناً بجيران؟

إن قيل ذلك فأنا أعلن إني لا أعاني غربة العقل وإنما أعاني غربة القلب

وكيف أعاني غربة العقل ومحاضراتي يشهدها المئات من عشاق العلم والبيان، ولا أخطو خطوة إلا وأنا محوط بالعطف والإعجاب، ولا ادخل نادياً إلا تلقاني أهله وسامروه بالترحيب والتبجيل؟

ولكن هل يكتفي مثلي بحياة العقل؟ يا ضيعة العمر إن كتب علينا ألا نظفر بغير الثناء من عقلاء الرجال! وما أضيق العيش إن كانت لا تلمع بروقه إلا من صرير القلم وسواد

ص: 10

المداد!

إن الحياة العلمية ليست إلا خدعة يتلهى بها أرباب القلوب. وهل يخفي عليك ما يعانيه رجل مثلي حين يعود وحيداً إلى منزله بلا أنيس ولا رفيق؟ هل يعزيه حينذاك أن يتذكر انه كان منذ لحظات يعاقر الفكر والرأي وهو يلقي محاضرته على جمهور من العلماء والأدباء؟

ليتك تراني وأنا ادخل إلى غرفتي شارد اللب فأزيح الستائر عن النوافذ ثم أطفئ المصباح لأقف وجهاً إلى وجه مع ظلام بغداد. ويا رحمة الله من ظلام بغداد في لياليها الطوال!

ولكن ما الذي يدعوني إلى معانقة الظلام في بغداد؟ لا اعرف ولكن يخيل أليّ أن الظلام يؤنسني بعض الإيناس، لأنه يوهمني أني في فترة من الزمن تأنس فيها القلوب بالقلوب، وتسكن الأرواح إلى الأرواح. وربما كان الظلام في غرفتي فرصة طيبة أتبين فيها بصيص النور في منزل قريب أو بعيد فأتمثل أخيلة النجوى والعتاب، وأتوهم ضجيج المرح في ليالي الوصال

أما بعد فهذا غروب اليوم التاسع والعشرين من شهر رمضان وهذا مكاني على المائدة في المطعم الذي تخيرته بشارع الرشيد، وهذه أطياف ترد على القلب، من أحباب القلب، أطياف من مصر الجديدة والزمالك، تلك البقاع التي لم تر فيها النجوم قلباً مثل قلبي، ولم تسدل ستائرها على هوى اعنف من هواي. . . وليقل من شاء ما شاء!

واسأل جاري على المائدة: هل ثبتت الرؤيا؟

فيجيب: سنعرف ذلك بعد ساعة أو ساعتين

وأخرج فأتصفح الوجوه في شارع الرشيد بلا نفع ولا عناء، ثم أميل على الشرطي أسأله:

هل ثبتت الرؤيا؟

فيجيب: لم تثبت، ولكن المحكمة تنتظر برقية من النجف

فأدمدم: برقية من النجف؟ وهل يسر من في النجف أن يفطر من في بغداد؟ إن كان الأمر لعلماء النجف فسيضيفون إلى الصوم يومين، ولولا أن يفضحهم الهلال لزادوا الصوم أسبوعين

واذهب إلى نادي المعارف لأسمر لحظات مع الزملاء من المدرسين فيفرحون بلقائي

ص: 11

ويسألون: كيف غبت امس؟ فأجيب: غبت أمس لأحضر اليوم. ولكن حدثوني هل عندكم أخبار عن الهلال؟ فيجيبون: سنعرف ذلك بعد الساعة العاشرة. فأقول: والشمس تغرب في الخامسة فهل يمكن أن يكون بين الخامسة والعاشرة مجال لرؤية الهلال؟

وبعد لحظة تحول إبرة المذياع إلى مصر فاسمع فتاة تباغم المستمعين فتقول: سادتي وسيداتي، وهذا آخر العهد برمضان! فأقول: يا إخواني، يا حضرات الأساتذة يا مسلمين يا أولاد الحلال، هذه في مصر ليلة العيد.

فيجيب أحدهم وهو يبتسم: علمت شيئاً وغابت عنك أشياء. ألم تعلم أننا صمنا يوم الجمعة، وصام المصريون يوم الخمس، فهم حتماً يسبقوننا إلى العيد؟

فأقول: من هنا تعلمون أن مصر تقدمت في كل شئ، فلها السبق في الصوم ولها السبق في العيد وانصرف محزون الفؤاد هذه غرفتي موحشة لا يؤنسني فيها غير أرواح الموتى من المؤلفين وسيكون الغد يوم عمل، لأن يوم الوقفة لا عطلة فيه في بغداد، وإذن فسأعطي غداً درساً في التفسير، وهو درس متعب لأنه في الكشاف، وفي آية يختلف فيها أهل السنة مع أئمة الاعتزال

وكيف اعد هذا الدرس، يا رباه وأنا اعرف أنها ليلة عيد في مصر الجديدة وفي الزمالك، ويا ويلتاه من لوعة القلب حين أتمثل مصر الجديدة والزمالك؛ وغضبة الله على من تمر بباله خاطرة ملام وأنا اردد أسماء تلك المغاني، حرسها الله وأدام لأهلها نضرة النعيم

بسم الله الرحمن الرحيم

(يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وانتم لا تشعرون)

قال جار الله الزمخشري. . .

هذه طلقة مدفع!

وقال ابن حجر في الرد عليه. . .

وهذه طلقة ثانية!

وكيف نوفق بين القولين؟

وهذه طلقة ثالثة!

ص: 12

ولكن ما الساعة الآن؟

الساعة العاشرة! إذن ليست هذه مدافع السحور ولا مدافع الرفع، وإنما هي مدافع العيد

وأطفأت المصباح وتلفت إلى النافذة لأرى ظلام بغداد وقلت هذه ليلة عيد بالإجماع، فلأرح نفسي من الكشاف، ولجاجة صاحب الكشاف ولأقبل على قلبي أتبين ما فيه من فطور وندوب.

تذكرت أنني كنت اكتب رسالة وجدانية في كل ليلة عيد ثم انقطعت رسائلي بعد إذ مات أبي يرحمه الله، لأنني أنفت أن ابكي بعده على غرض مضيع أو هوى مفقود

ثم بدا لي في هذه الليلة أن أبي لا يسرة في قبره أن تعيش مهجتي بلا لوعة، ومقلتي بلا دمعة وكان يرحمه الله جذوةً من الوجدان

وعدت إلى الظلام استلهمه واستوحيه فلم أجد من أحاوره غير الرجل الحزين الذي اسمه احمد، احمد حسن الزيات

صديقي!

هل تذكر فكاهتك الطريفة إذ تحدث إخوانك انك عرفتني أول مرة عن طريق البوليس؟ هل تذكر أن البوليس دعاك مرة إلى زيارة المحافظ فتوجست خيفةً ثم رأيت أن الخطب هين لأنك دعيت لتتسلم رسالة من الشيخ زكي مبارك الذي اعتقلته السلطة العسكرية أيام الثورة المصرية؟

ألا فلتعلم أن الحظ قضى عليك إلا تتلقى مني رسالة إلا في ظروف تحيط بها شبهات، فان كانت الرسالة الأولى في عهد ثورة فهذه أيضاً في عهد ثورة، وربما كانت هذه اعنف وافظع لأنها تحدثك عن صديق حزين يناضل الأرق والسهاد في ليلة عيد

صديقي!

لا تعجب من رجل يضنيه الحزن والإبتئاس مع أنه ينهض بأثقل الأعباء، فدنيا القلب غير دنيا العقل والشواغل الجسام لا تلهي الرجل عما يساوره من لواذع الإحساس، وأنا رجل يؤمن بان القلب أدق ميزاناً من العقل وكيف لا يكون كذلك وهو يأخذ هدايته من الفطرة، على حين لا يهتدي العقل إلا بالبراهين، وهي في الأغلب تقوم على مقدمات لا تخلو من تضليل

ص: 13

صديقي

هذه الساعة الأولى بعد منتصف الليل، وستقرأ هذه الرسالة فتذكر انك أرقت في ليلة العيد بلا سبب معروف فلتفهم حين تقرا هذه الرسالة أن ذلك الأرق إنما كان هدية أرسلها إليك الغريب في بغداد، الغريب الذي يوحي الحزن إلى أشقياء الغرباء

والآن أطفئ المصباح لأعانق الظلام في المدينة السحرية التي شقي بليالها ملايين الرجال فلا أرى غير بصيص ضئيل لمصباح أقامته الحكومة على شاطئ دجلة، فافهم أنني أخاطب الأموات لان مصابيح الحكومة لا تدل على شيء ولا يهتدي بها غير لصوص الجيوب

الآن تهدا بغداد بعد أن تسدل أستارها على الغافين من السعداء والبائسين، ويبقى المسهد الغريب الذي لا يعرف ربيع القلب، ولا نعيم الجفون

في هذه الليلة تهدأ جُنوب، وتقلق جنوب، وجنبي هو الجنب الحائر تحت سماء بغداد.

في هذه الليلة تتلفت عيون فلا تراني، عيون كنت لها أمتع من إغفاءة الفجر، وانضر من بياض الصباح في هذه الليلة تشتاقني أكبادٌ رقاقٌ علمتها كيف تطيب ليالي الأعياد

ولكن لا باس، فسنعيش حتى نرد ديون الهوى، وسيعلم من أبكاهم الفراق أن الدمع لا ينفع، وسنرجو إلا يسمحوا لنا بعد هذه المرة بالتعرف إلى محطة باب الحديد.

أخي الأستاذ الزيات

لا انتظر منك دمعة عند قراءة هذا الخطاب، ولكن لي إليك رجاء، فاحفظ عهد أخيك ولا تمش في شوارع القاهرة إلا مشية الخاشعين، فليس في تلك المدينة بقعة إلا ولي فيها صبوات، وليس فيها شارع ولا مشرب ولا ناد إلا ولي فيه أحباب وخلان

ولو شئت لكلفتك تبليغ التحية إلى أصفياء القلب في مصر الجديدة، وفي الزمالك، ولكن مثلك وا أسفاه لا يؤتمن على نقل التحية إلى أسراب الملاح، فلتكن (الرسالة) رسولي إلى من أذالوا غاليات الدموع يوم رحيلي إلى العراق والسلام عليهم وعليك من الغريب الحزين

زكي مبارك

ص: 14

‌حرق الميت

العرب أول من أعلن (بقاء المادة)

لأستاذ جليل

وصى (مكدونالد) الإنجليزي الاسكتلندي من رؤساء الوزراء السابقين في بلاد البريطانيين قومه أن يحرقوه إذا هلك فاحرقوه في هذا اليوم. وحرق الميت طريقة هندية برهمية، وقد زينها (المعري) في (اللزوميات) للناس فقال الخبيث - جزاء الله جزاءه -:

فاعجب لتحريق أهل الهند ميتهم

وذاك أروح من طول التباريح

إن حرقوه فما يخشون من ضبع

تسري إليه ولا خفيٍ وتطريح

والنار أطيب من كافور ميتنا

غبا وأَذهب للنكراء والريح

ومن اجل هذا وغيره اتهم الرجل بالتبرهم، ففي (لسان الميزان) لابن حجر:(من عجيب رأى أبي العلاء تركه كل مأكول ل لا تنبته الأرض شفقة على الحيوانات حتى نسب إلى التبرهم)

والبرهمي يتقرب بالحريق إلى الله. وقد يحرق بعضهم نفسه (جسمه) بنفسه وهو حي متفنناً في إحراقه، فقد قال (البديع) في إحدى رسائله:

(وربما عمد أحدهم - يعنى الهنود - فاتخذ لرأسه من الطين إكليلا، ثم قور قحفه فحشاه فتيلاً، ثم أضرم في الفتيل ناراً ولم يتأوه، والنار تحطمه عضواً فعضواً)

وغير البرهمي إنما يفر بالحرق من الله - وهل من الله (ياغر) مفر - ففي (الفائق) للزمخشري: (أن رجلاً رغسه الله مالاً وولداً حتى ذهب عصر وجاء عصر، فلما حضرته الوفاة قال: أي بني، أيَّ أب كنت لكم؟

قالوا: خير أب

قال: فهل انتم مطيعي؟

قالوا: نعم

قال: إذا مت فحرقوني حتى تدعوني فحما، ثم اهرسوني بالمهراس، ثم أذروني في البحر

ص: 15

في يوم ريح، لعلي أضل الله

وهيهات أن يضل الله، أن يفوت الله هارب من عذابه (أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون)

وهيهات أن يضمحل في الوجود شئ؛ إن (الكتاب) يقول: (أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً، إن الله على كل شيء قدير)(يا بني إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير) والعلم العربي قد أعلن (بقاء المادة) ونادى أن لا تلاشي للأشياء. قال عبد الحميد بن هبة الله في كتاب شرحه لنهج البلاغة: (إنا نرى الحيوانات الميتة إذا دفنت في الأرض تتقص أجسامها وكذلك الأشجار المدفونة في الأرض؛ على أن التحقيق أن المحترق بالنار والبالي بالتراب لم تعدم اجزاؤه، وإنما استحالت إلى صور أخرى)

ذلك قول الله، وقوله الحق. وهذا قول العلم العربي المثبت بالعلم الغربي فلن يضل الله محروق أو غريق أو مفرفر في الغيل مأكول، ولن يضيع في العالم ضائع ولن يعدم في الوجود كائن. إن الطبيعة خزانة الله حافظة أمينة (وكان الله بكل شيء محيطا)

(فويل للذين ظلموا من عذاب يوم اليم)

الإسكندرية

(* * *)

ص: 16

‌فلسفة التربية كما يراها فلاسفة الغرب

للأستاذ محمد حسن ظاظا

- 3 -

(خلق الله تعالى الإنسان وأودعه بذرة كماله المنشود، ثم

المنشود ثم تركه للمعلم ينمي فيه هذه البذرة حتى إذا ما اشتد

ساعده واصل تربية نفسه بنفسه محققاً إرادة السماء)

،

بينت في المقال السابق ما بين الفلسفة والتربية من علاقة، وذكرت فحوى فلسفة التربية الحديثة لدى جون ديوي ومدرسته وسأتناول في هذا المقال معنى التربية وضرورتها وقدرتها:

أما معناها فكان وما زال موضع خلاف في التصور والتعبير، فمثلاً دائرة معارف تقول:(إن كل شيء يعلم الإنسان وان التربية على الخصوص هي صب الأطفال في قالب خاص)(أنظر فصل كيف نتصور التربية)(التربية تطور متناسق للملكات يتفق وطبيعة العقل)؛ هذا بينما يقول بستالوتزي: (كل عمل المعلم هو أن يمنع ما يعرقل طبيعة الناشئ حتى تستطيع أن تنمو نمواً طبيعياً على مثال صورة الله تعالى)، وبينما يقول ديوي:(التربية هي الأسلوب الذي يصير المرء في امتلاك متواصل متزايد لنفسه ولقواه، بواسطة الاشتراك المتواصل المتزايد في أعمال الجنس)

هذا ويعلل لنا الأستاذ أمين مرسي قنديل عدم الاتفاق على تعريف جامع مانع للتربية بقوله: (التربية من حيث هي علم لم يستقر، بعد فهي لا تزال في دور التحول والتكوين)(انظر أصول التربية والتعليم ج 2ص35)

ومهما يكن من شيء فالأستاذ هورن التربية على نحوين: نحو عام هو تلك (العملية) الطويلة الهائلة التي يتعلم فيها الجنس البشري تحت رعاية ذلك (الروح الأبدي) المتجلي في الطبيعة والإنسان؛ ونحو خاص هو (عملية) المدرسة منذ روضة الأطفال إلى نهاية المدرسة العليا. ولذلك كانت دراسة التربية من حيث معناها العام دراسة للمدنية بأجمعها

ص: 17

ودراستها من حيث معناها الخاص دراسة لتاريخها ومثلها الأعلى وفنها العملي وفلسفتها (انظر هذا عن معناها. وأما ضرورتها فها هو (هربارت) يقول: (إنها (أي التربية) مهمة دينية ورسالة مقدسة!) وهاهو (كانت) يزعم (أن الإنسان لا يصير إنساناً إلا بها)!! ولا شك إنا نستطيع أن نلمس ضرورتها في نواح عديدة أهمها الثلاث الآتية:

1 -

الناحية النفسية

ذلك إنا إذا أخذنا طفل (الرجل المتمدن) وألقيناه في إحدى الغابات، وفرضنا أن الطبيعة سترعاه حتى يستطيع أن يطعم نفسه ويدافع عنها، لوجدنا أن نشأته بين الأشجار ستكون بدائية بحتة ترجع بالإنسانية آلاف السنين إلى الوراء

وكذلك قد لوحظ أن الطفل الاسكتلندي الأصل إذا ما انتقل إلى الوسط الفرنسي تغير كثيراً وأضحى غير زملائه في وسطه الأول

ومعنى هذا أن الوراثة الاجتماعية تعدل في الوراثة البيولوجية تعديلا خطيراً. ومادام الأمر كذلك فمجال (الإمكان) في التربية إذن فسيح، ومجال سلطانها على مستقبل الناشئ، بل والعالم كله، من حيث السعادة والشقاء، والتقدم والتأخر، إذن عظيم وخطير! يؤيد ذلك قول تورندايك في (إن التربية اعظم مساعد للناس جميعاً على تحقيق خيرهم المطلق) وقول الأستاذ آدم سمث في (إن الفرق في كثير من الأحيان بين الفيلسوف ورجل الشارع ناشئ في العادة من التربية اكثر مما هو ناشئ من الطبيعة)، وقول هيوم (هما المران والممارسة ينشئان العامل الماهر)

بل إن البعض ليذهب إلى اكثر من ذلك فهم يدعون أن علم الوراثة سيستطيع أن يقدم للتربية في الغد ما يمكنها من (خلق) العقل والجسم المنشودين!!

2 -

الناحية الاجتماعية

والإنسان فضلا عما تقدم كائن اجتماعي. ولما كانت الحياة في ذاتها نمو وتطور وتجدد كانت التربية هي الأداة الفعالة التي يستطيع المجتمع أن يحفظ بها كيانه ويجدد نفسه. وكلما تعقدت أساليب الحياة في المجتمع احتيج إلى تربية نظامية دقيقة، والأفراد يموتون ولكن الجماعة تبقى!، والصغير محتاج - كما يواصل حياة الجماعة فيما بعد - إلى أن يأخذ من

ص: 18

الكبير الذي سيموت تاركاً له التراث الأكبر!، فيجب إذن (ترقيع) الجماعة دائما! وإلا فلا يجد الصغير درعاً يساعده على البقاء! ومعنى هذا أن التربية في الجماعات المتمدنة قد أصبحت تقوم مقام الصلاحية للبقاء في الحيوانات والجماعات المتوحشة!

زد على هذا أن الجماعة لكيما تكون وحدة ناجحة سليمة يجب أن تتحد في المطامح والعقائد والفهم العام. وليس كالتربية وسيلة لتحقيق مثل تلك الوحدة الناجحة. ذلك أنها ترتب الميول المراد تنميتها وتساعد عملية النمو؛ كما أنها تطهر وترفع مستوى العادات الاجتماعية القائمة؛ وتوجد بيئة متوازنة، هي المدرسة، تعد الطفل لمواجهة البيئة الكبرى. . .

3 -

ناحية النمو

ويقول السير جون آدمز إن اغلب تعاريف التربية تحوي معنى النمو. فكومنيوس وبستالوتزي مثلاً يتفقان في أن العقل كالبذرة ينمو من الداخل. والحق أن الحياة في الفرد وفي المجتمع وفي تاريخ الكائنات جميعاً ليست إلا عملية نمو هائلة متسلسلة ينطق بها لسان التطور؛ ويحتاج النمو الصالح إلى مرونة تجدها التربية في الطفولة والشباب. وبهذه المرونة نتعلم من التجربة ونكتسب العادات الآلية التي تضمن لنا السيطرة على الطبيعة، وحسن التكيف في الموقف الجديد، والاختراع والابتكار والخلق والإبداع

وما دام الأمر أمر نمو فان المدرسة الحديثة تعارض فكرة الأعداد (للغد فحسب) كل المعارضة حتى لا تصرف المتعلم عن فرصة الحياة الحاضرة بما فيها من ميزات

يقول (ديوي) في (المدرسة والاجتماع ترجمة الأستاذ قندلفت): (لا يتاح لأمة أن تفي حق الأمانة لنفسها إلا بان تكون أمينة على إنماء أفرادها التي تتألف منها. ولا عامل كالمدرسة ينيلها ما تريد)

بقي بعد ذلك أن نتكلم عن قدرة التربية كما أشرنا إلى ذلك من قبل. والحق أننا نستطيع أن نتحدث هنا دون أي حرج. وها هو ذا إرازمس ، يقول انه لو سيطر على التربية بضع سنوات لغير الدنيا. وبسمارك يردد:(إن من يدير المدرسة يوجه مستقبل الأمة. . .) وقديماً حاول أفلاطون أن يخلق المدينة السعيدة الفاضلة بالتربية. وحديثاً يسود الإنجليز ويستمدون عظمتهم من تربيتهم لا من جيوشهم وأساطيلهم.

وأخيراً إذا كان العالم يسير اليوم متشائماً نحو الحرب والدمار فلأنه قد نشأ نفسه وا أسفاه

ص: 19

على أساس من تربية فلسفتها البقاء للأصلح، وقوامها الوطنية الكليلة والقومية الحمقاء!!!؟

لذلك كله يرجو دعاة السلام والإصلاح من التربية خيراً جزيلاً؛ ويحاولون جهدهم أن يستغلوا (إمكانات) علم النفس في تعديل الغرائز وتهذيبها والتسامي بها أيما استغلال، ولكنهم يشعرون - واشعر معهم - انهم لا يزالون بعد في حاجة قصوى إلى إقناع الساسة والشعوب بفلسفتهم الجديدة القائمة على أن العالم هو الوطن الأكبر، وعلى أن الإنسانية في التعاون والتعاضد والبناء والتشييد، لا في التنابذ والتحاسد والتخريب والتدمير. .!!

فهل يستطيعون لهذا الإقناع سبيلا وأبواق الحرب تهرف في كل مكان بدعاية مجنونة، ورجال السلاح ينفثون سمومهم وأحقادهم ومطامعهم في نفوس بريئة لا تملك النقد ولا تعرفه؟؟

وكيف السبيل لذلك الإقناع ورجال الحرب يسيطرون على الحكومات ويوجهون برامج التعليم إلى حيث تتحقق فلسفتهم الجوفاء؟؟

ومصر في عصرها الديمقراطي المستقل الراهن أترى للتربية فيها فلسفة ناضجة؟؟ وإذا كان لها فلسفة ما: أفلا تتطلب هذه الفلسفة تعديلا يلتئم وحاجات العصر الجديد من ناحية، ويتمشى وحقائق علوم التربية الحديثة من ناحية أخرى؟؟

ذلك ما أدعوك للتفكير فيه أيها القارئ العزيز على ضوء الحقائق التي ذكرتها وساذكرها؛ وما اعدك بتناوله بعد الفراغ من هذا الموضوع

محمد حسن ظاظا

مدرس الفلسفة بالمدارس الثانوية

ص: 20

‌مجادلة طريفة واقعة حول

معجزات الإسلام

للأستاذ خليل جمعة الطوال

هل تطلبون من المختار معجزة

يكفيه شعب من الأحداث أحياه

وكيف ساس رعاة الإبل مملكة

ما ساسها قيصر من قبل أو شاه

(غنيم)

استويت إلى مكتبي المتواضع، وفي النية أن اكتب فصلا (للرسالة الغراء) عن نخاسة الأعراض وتجارة الزواج في شرق الأردن؛ وفيما أنا أفكر في عناصر الموضوع وطريقة الدخول إليه واستجمع له الخواطر الشاردة، والأفكار الطافية فوق هموم العيش والإفلاس، إذ بطارق يقرع على الباب ثلاث قرعات متوالية، ثم يقتحم الغرفة بدون استئذان ويجلس بالقرب مني على مقعد خشبي قديم أشبه ما يكون بمقاعد مقهى العتالين في باب العامود. وكانت بادرة الفكر أن أحوله عن هذا المقعد الوضيع الذي لا يتفق ومكانة الزوار، ولكنه تشدد عليّ وأبى إلا أن يلازم مكانه الذي ظل جالساً فيه وكأنما يستجمع قواه ليقفز

كان طوالاً أجناً، ياسر الوجه، أترم الثنية اليسرى، متغطرفاً وعواعاً، قد تفشغ الشيب في لمته وذقنه الحليق، توضحته فتبينت في أسارير وجهه قصة طويلة، إلا أنها خفية المعنى، عديمة الإبانة، غامضة الإشارة فألقيت عليه تحية المساء ثم سكت عله يبدأ الحديث ولكنه ظل مبرطما، ينكث السجادة بعصاه دون أن ينبس ببنت شفة فتنهمت كعادتي؛ فحدجني بنظرة شزرة حسبت فيها سخط الإنس والجن ثم اخذ يتثاءب ويتمطى فكأنما كان يحمل حملاً ثقيلاً أزيح عنه بالتثاؤب، إذ انبسطت أسارير وجهه، وزال برطامه، ولكنه ظل مع ذلك مطرقاً لا يتكلم فاستثقلت جلسته - كما قد يستثقل القارئ هذا الحديث - وقلت لنفسي لا بد من أن استدرجه إلى الحديث وإلا فهذا المجلس المكروه إن طال سيضيق عطني ويستفز كامن عصبيتي، فاهتبلت فرصة تثاؤبه وابتدرته بالحديث قائلاً:

- الحمد لله على سلامة الشيخ

- وهل يعرف المتعلم رباً فيحمده؟. . . أنت ملحد. . . كافر. . . درزي لا دين لك

ص: 21

- (فتذكرت الحكمة القائلة: داروا سفهاءكم) درزي. . .! أليس للدرزي دين. . .! يا شيخ كيف تتهمني بالكفر؟

- كيف أكفرك. . .! ألست مسيحياً أباً عن جد؟

- بلا! وليت ذلك لم يكن؛ إذن لكنت حراً في نوع صوفيتي مع الله؟ وفي تكوين عقيدتي بالله. . .!

- أفلا تعتقد بقول المسيح: من ليس معي فهو علي؛ وبقوله يخاطب الكهنة: من سمع منكم فقد سمع مني، ومن احتقركم فقد احتقرني؟ ثم الست الزاعم بان الإكليروس هم انكشارية الدين المأجورون؟ وذلك نصرة لبدعة فاسدة ادعاها رجل كاذب يدعى محمد. قل لي هل يستوي النور والظلام؟

- لا. لا يستويان

- فكيف إذن تجمع بين المسيح - الذي هو طريق الحق والحياة - ومحمد؟ وكيف تدافع عن محمد وأنت من جند المسيح؟

- يا سيدي!. . . قل لي أمن الإيمان أن نمتهن بقية العقائد؟. . . ثم ما رأيك في الشريعة الموسوية؟. . أليست - في حكمك - شريعة كاذبة لأنها ليست من تشريع المسيح؟. . وهل كان الرسل لينسخ اللاحق منهم شريعة السابق أم ليكملها؟ وهل فاتك قول المسيح ما جئت لأنقض بل لأتمم؟. . فموسى ومحمد إذن حكمهما من حيث الصدق والكذب واحد

- حاشا! حاشا أن اعتقد ذلك فشتان بين موسى كليم الله الذي أنقذ أمته وجعل العصا في يد فرعون حية، وأخرج من الصخر الأصم مياهاً نقية، وبين محمد - نبيك - الذي لم تؤثر عنه مكرمة، ولا سمعت له معجزة

- وأية مكرمة افضل من إخراج محمد قومه من حظيرة الشرك إلى حظيرة التوحيد؟

- ليته لم يفعل ذلك. إذن لسهل على المسيحية أن ترد هذه الخراف الضالة إلى قطيعها

- ولم تردها الآن مادامت ضالة عن القطيع!. . .

- هيهات ذلك، هيهات أن يفلت الحمل من مخلب الذئب

- بل هيهات أن يسلم الذئب من رصاصة الراعي وعصاه، وان يصل الباطل إلى قمة الحق وذراها. والآن دعنا نحسم هذا الجدل العنيف، وقل لي ما الذي تشترطه على محمد

ص: 22

لتتم له النبوة؟

- الأمر واضح فلا نبوة بغير معجزة

- وأنا معك في ذلك، وإلا لادعى النبوة كل مشعوذ، ولصار الناس جميعهم أنبياء. والآن أعرني سمعك لأبين لك معجزة الإسلام

لقد كان العرب في جاهليتهم يعبدون إما الأصنام التي كانوا يقيمونها من بعض الحجارة والمعادن، وإما بعض مظاهر الطبيعة المتعددة كالشمس والهواء والبحر والسماء، ولكن العربي المتبدي لم يكن يقدم لآلهته هذه التي راح يلتجئ إليها كلما حز به أمر أو داهمه خطر الذبائح والقرابين، ولا كان يقيم لها الشعائر الدينية والمراسيم، كما كان يفعل الآشوريون والفينيقيون ومن إليهم، بل لم يكن يتحرج عن إهانتها وتحطيمها ولا سيما إذا استقسم عندها بأقداحه فخرج منها ما يكره - كما فعل امرؤ القيس بن حجر الكندي - ذلك لان العربي في الجاهلية كان قلما يهتم بما وراء الطبيعة

ولقد تسربت إليهودية والمسيحية إلى جزيرة العرب فارتدتا عنها بالإخفاق والفشل ذلك لان أحلام الأولى وأمالها، وأسرار الثانية ومعمياتها؛ فمن إله متأنس، إلى رب مصلوب إلى أقانيم ثلاثة بجوهر واحد إلى استحالة الخبز والخمر إلى جسد ودم؛ كانت جميعها مما ينفر منها الطبع البدوي الساذج، أما الإسلام وإن اصطدم بالعنجهية العربية، وتصارع مع وثنية البادية حيناً من الدهر، فإنه تمكن أخيراً من أن يظهر عليهما بالنصر، ذلك لأنه دين يتساوق مع العقل والقلب، يسوي بين الدين والدنيا، ويجعل الفقير بذمة الثري، فهو في حقيقته مجموعة قواعد خلقية سامية، ومبادئ اجتماعية مثلى، وهل الدين في حقيقته إلا إصلاح النفس ولأخلاق في الفرد، وإقامة الفضيلة واجتثاث السوءات في المجتمع؟

ولئن كان معجزة موسى أن حول العصا أمام فرعون حية، لقد كانت معجزة الإسلام ابلغ منها، ذلك لأنه حول مادية النفسية البدوية الضارية التي طبعت على حب الغزو والنهب، وعلى استباحة المنكرات إلى شعلة روحية تشع في أرجاء الكون بنور المبادئ العالية، والفضائل السامية.

ولم نذهب بعيداً في الاستدلال؟ وهذا البدوي الجلف الذي كان بالأمس ينفر من ظل الدين، ويستحل جميع أنواع المنكرات، ولا يتحرج من سفك الدماء البريئة باسم مجد القبيلة

ص: 23

وجاهها، تثخنه اليوم باسم الدين والتوحيد أسنة المشركين في أُحد جراحاً ما زالت تثعب دماً، وتمزق إهابه نبال الفرس في القادسية وقسي الروم في اليرموك، فيستقبلها بصدر عامر بالإيمان، ويستمرئ آلامها غير جزع ولا هياب، ذلك لان معجزة الإسلام أخرجت نفسه من حدود هذا العالم المادي الضيق الذي يتعين بجهات الأرض الأربع، إلى عالم روحي فسيح يتعين بعقيدة التوحيد، وبحدودها الأربعة: التي هي: التقوى في الدين، والحرية، والإخاء، والمساواة في الدنيا.

ولئن كان فتى الجزيرة قبل الإسلام راعي ابل وغنم، تختلف عنقه بين نيري الفرس والروم وتصعر خده أيدي الغزاة الطامعين من بقية الشعوب، فأنه اليوم بفضل المعجزة الكبرى التي تزحزح لإشراقها أس الإيوان، وانصهر من حرارتها التاج والصولجان، قد فتح ثلثي الكرة الأرضية في اقل من ثلثي قرن. فهذا خالد بن الوليد الذي لم ينهزم قط في حياته يفتح دمشق وهذا عمرو بن العاص يوغل في الديار المصرية، وهذا طارق بن زياد يعبر المضيق الذي لا يزال يحمل اسمه حتى اليوم، يريد أن ينفذ من الشطوط الإسبانية إلى سفوح جبال البرينية ثم إلى غسقونيا وبوردو. وهذا موسى بن نصير يسرح بخيول مضر وعدنان في شرق الأندلس وغربها؛ في قرطبة وطليطلة، وأشبيلة، وقادس، وغرناطة، وغيرها

ثم انظر إلى هذا الفتى الذي لم يتجاوز السابعة عشرة من العمر بعد، كيف اخترق السند وظل ممعنا بفتوحاته، حتى ادخل الهند ضمن الإمبراطورية الإسلامية. أليس بفضل معجزات الإسلام يربط هذا الفتى (تورس) غرب باريس ببحر الهند على ما بينها من الشقة الواسعة والمسافة النائية؟

أفلا يعد معجزة في الإسلام أن يضاهي عصر المأمون في بغداد عصر بركليس في اثينة، وعصر الناصر في الأندلس عصر أغسطس في رومية؟ ونحن الذين كنا بالأمس نرعى الإبل والشاء ونأكل الضباب والعظاة.

انظر إلى ما يقوله فينا (غوستاف لوبون) في كتابه (زعم المؤرخون أن التأثيرات العلمية والأخلاقية العجيبة التي أثرها المسلمون في العالم كان بفضل مادياتهم، ولكن لا يصح اليوم أن نجهل أن هذه المؤثرات قد دامت في مجراها حتى بعد أن أضاع المسلمون

ص: 24

مادياتهم ونفوذهم السياسي، فإن المسلمين في الصين يزيدون على عشرين مليوناً، وفي الهند على خمسين، ولا يزال هذا العدد في نمو وإن المسلمين بعد الرومان هم الأمة الممدنة الوحيدة التي نجحت في نقل تهذيبها الاجتماعي ودينها وأوضاعها وعلومها إلى العناصر المختلفة التي افتتحها وتسربت بينها. هذا التأثيرات لا تضمحل بل على العكس نراها آخذة في النمو، تتعدى الحدود التي بلغتها في أيام القوة المادية. إن القرآن وما اشتق منه هو إلى الفطرة بحيث يلتئم مع حاجات الناس الأولية، حتى أن قبوله آخذ حكمه على مر الدهور لا يعوقه عائق؛ وحيث ينزل المسلمون ولو كانوا تجاراً سذجاً تتدخل أوضاعهم ومعتقداتهم وكلما توغل الرواد من أهل المدينة الحديثة في صميم أفريقية شاهدوا قبائل تنتحل الإسلام. والمسلمون الآن يمدنون قبائل أفريقية على نحو ما يستطيعون ويجاهدون في تلك القارة الغربية على حين يطوف الأوربيون في الشرق فاتحين كانوا أو متجرين ولا يتركون وراءهم أثراً لنفوذ أدبي أفبعد هذه الشهادة تطلب من الإسلام معجزة وله في سجل التاريخ مثل هذه الصفحة الرائعة المجيدة؟

(شرق الأردن)

خليل جمعة الطوال

ص: 25

‌أثر حروب محمد علي في الأدبي الألماني والفرنسي

للأديب السوداني المبارك إبراهيم

لم يكد يتولى محمد علي الكبير حكم القطر المصري باسم الدولة العلية، في أوائل القرن التاسع عشر، حتى بات يتحين الفرص لبسط ظله على الأقطار المجاورة. ففي عام 1818 م انتصر على الوهابيين في الأراضي الحجازية. وفي عام 1821 م وحد بين شطري وادي النيل بضم السودان لمصر، وفي عام 1832 م كانت بلاد الشام تدين بالطاعة والولاء لمحمد علي

وعندما توترت العلاقات بينه وبين حكومة الباب العالي سير جيوشه ليغزو تركيا ويخضعها لسلطانه، بدلا من أن يظل هو خاضعا لسلطانها! ففي ديسمبر 1832 هزمت الجيوش المصرية الجيوش التركية هزيمة منكرة، وباتت على مسير بضعة أيام من استامبول عاصمة سلاطين آل عثمان!

لقد كان طموح محمد علي إلى السيطرة والحكم لا يقف عند حد، إذ كان يتوق إلى إنشاء إمبراطورية مصرية مترامية الأطراف لا تغيب عنها الشمس! على أن هذا التوسع الاستعماري من جانب محمد علي لم يرق الأسد البريطاني، فوقف في طريق محمد علي يزمجر غاضباً ويكشر عن أنيابه ويلوح بذيله! وتحت ضغط الظروف القاهرة اضطرت جيوش محمد أن تنسحب من الأراضي التركية قبل أن يهاجمها هذا الليث الإنجليزي الهصور، وغيره من دول أوروبا التي لا يرضيها تقدم الحكام الشرقيين في الميادين السياسية والحربية، وبهذا التدخل من قبل الدول الأوربية بات الرجل المريض (تركيا) في مأمن من مداهمة محمد علي له والإجهاز عليه لان هذه الدول الأوربية كانت تطمح في الاستيلاء على تركة الرجل المريض (الأراضي التركية) واقتسامها فيما بينها. وقد وضعت هذا الدول أيديها فعلا على معظم هذه الأملاك التركية

وفي عام 1840 م ابرم الأسد البريطاني والدب الروسي، والنسر البروسي، اتفاقية سياسية تدعى اتفاقية لندن، فكان فيها القضاء المبرم على الإمبراطورية المصرية التي كان يحلم بإنشائها ذلك الحاكم الشرقي العصامي العظيم محمد علي. إذ قسرته هذا الاتفاقية التي تآمرت فيها هذه الدول عليه أن يتخلى عن الولايات التركية التي استولى عليها بحد السيف

ص: 26

في بلاد الشام وشبه جزيرة العرب

هذا، ولما كانت فرنسا صديقة لمحمد علي، تقف إلى جانبه وتشد أزره، فقد سلبتها هذه الاتفاقية هي أيضا حقها في الشاطئ الأيسر من نهر الرين، ومنحته لألمانيا فعسكرت فيه بعض كتائبها

ومن جراء هذه الاتفاقية التي أضاعت جزءا من أملاك فرنسا تحمس الرأي السياسي العام في باريس، حتى أن الملك لويس فيليب نفسه صرح بأنه مضطر إلى لبس القبعة الحمراء، وأن ينزع عن النمر كمامته. وهو يعني بذلك المناداة بالثورة الحربية في وجه ألمانيا

وبعد هذا التمهيد نقول: إن هذه الأزمة السياسية الدولية التي سببتها حروب محمد علي قد دعت إلى صراع أدبي عنيف بين أدباء ألمانيا وفرنسا ترك أثراً حياً في الشعر الألماني والفرنسي

قالوا إن الشاعر الألماني بيكر كان جالساً ذات يوم مع أصدقاء له في إحدى الحانات، يشرب الجعة ويطالع الصحف السياسية الواردة من فرنسا. وبعد أن رجع الشاعر إلى داره نظم وهو تحت تأثير نشوة الخمر وحماسة السياسة، قصيدته (أنشودة الرين) فما كادت تنشر حتى لحنت وراح يترنم بها الألمان في غدواتهم وروحاتهم

والقصيدة هي:

لم ينالوا الرين ذلك النهر الألماني الحر

وإن كانوا يطلبونه بنعيبهم كالغربان الجشعة!

لن ينالوه ما دام يترقرق ساكنا في ثوبه الأخضر!

وما دام هناك مجداف يضرب في مياهه!

وما دامت الصخور قائمة وسط مجراه!

وما دامت الكاتدرائيات الشاهقة تعكس خيالها في مرآته!

لن ينالوا الرين ذلك النهر الألماني الحر

لن ينالوه ما دام الفتيان الحديدو القلوب يغازلون الفتيات الممشوقات القوام!

وما دامت هناك سمكة تسبح في أعماقه!

وما دام على شفاء المنشدين أنشودة تردد!

ص: 27

لن ينالوا الرين ذلك النهر الألماني الحر

لن ينالوه حتى تدفن عظام آخر رجل في طيات أمواجه!

ولما ذاق الشاعر الألماني بيكر حلاوت الشهرة عقب ذيوع هذه الأنشودة بعث بنسخة منها إلى شاعر فرنسا الكبير: لامارتين، وكان ذلك منه على سبيل الأدب والتحدي معاً!

غير أن لامارتين كان داعية سلم ووئام ولم يكن في يوم من الأيام بوقاً للحرب والخصام؛ وكان يقول: أنا ابن الإنسانية قبل أن أكون ابن فرنسا؛ ولتهلك أمتي إذا كان في هلاكها حياة الإنسانية

ولهذا جاءت قصيدته في الرد على الشاعر الألماني تفيض بروح المحبة والسلام وقد دعاها فعلاً: (مارسيليز السلام) ومنها:

يا نهر الرين يا نيل الغرب!

يا كأس تستقي منها الأمم!

سر حراً متكبراً في مجراك بين عرض شاطئيك!

واحمل في طياتك مطامع الشعوب الساكنة المرتوية من مائك الشيم!

لن يدنس بعد اليوم بلور مياهك دم الفرنسي الأحمر، ولا دم الجرماني الأزرق كما أن

البارود لن يقوض بعد اليوم الجسور الممتدة فوقك بين الشعبين كاليد الممتدة لمصافحة!

سر في مجراك يا نهر ولا تبال إذا كان الذين تحملهم أو ترويهم هم قاطني شاطئك

الشرقي أو الغربي. وطن كل إنسان هو الإقليم الذي يمتد إليه عقله، فأنا مواطن لكل إنسان يفكر، فالحقيقة هي بلادي!

النسر والثور يشربان من مياهك فليقترب إذن الإنسان وليشربا من مياهك!

وعندما نشر رد لامارتين هذا على أنشودة الشاعر الألماني قابله الشعب الفرنسي بشيء من الفتور عظيم وذلك لخلوه التام من الروح الحربي والحاسة الوطنية، حتى أن فريقاً من النقاد اتهم لامارتين ظلماً بعدم الإخلاص للوطن في حين أن الشاعر معروف بوطنيته الصادقة، ولكنه كان يمقت الدعاية للحرب وإراقة الدماء البريئة، وترميل النساء، وتيتيم الأطفال وتخريب المدن الجميلة العامرة

ولقد كانت الصالونات الأدبية في باريس في ذلك الأوان لا حديث لها إلا (أنشودة الرين)

ص: 28

لبيكر، و (مارسيليز السلام) للامارتين

وكان صالون مدام جيرارون غاصاً ذات يوم برهط من أدباء فرنسا وعلى رأسهم الشاعر الشهير: الفرد دي موسيه، وكان الحديث يدور رد لامارتين، فأنبرت ربت الصالون تقول:

لا مشاحة في أن قصيدة لامارتين آية في البلاغة ولكنني كنت أوثر رداً اكثر إيلاماً منها، فأنا متطرفة في الوطنية، ولا تزال عقيدة الوطن راسخة في ذهني وكم كنت أود لو تصدى واحد من شعرائنا لذلك الشاعر الألماني المتحمس، فكال له الصاع صاعين! فقال لها الفرد دي موسيه: وأنا على رأيك يا سيدتي. وهنا صاح به الحاضرون: عليك بالرد إذن. . . عليك بالرد، وقد أحاطوا به ملحين. ثم اقتادوه إلى حديقة لدار، وأوصدوا باب الصالون دونه، بعد أن زوده بالورق والقلم، ولفافتين من التبغ! ولم يمص إلا وقت وجيز حتى أتوا إليه فوجدوه قد احرق اللفافتين ونظم القصيدة التالية في الرد على نشيد الرين وهي: -

قد نلنا الرين نهركم الألماني!

وقد وسعه جام من جاماتنا!

فهل لأنشودة يسير بها القوم هازجين أن تمحو الأثر العظيم الذي تركته حوافر جيادنا

المصبوغة بنجيع دمائكم؟!

قد نلنا الرين نهركم الألماني!

فان في أحشائه جرح يسيل دامياً من عهد ما مزق (كونديه) القائد الفرنسي الظافر ثوبه

الأخضر!

ولا شك في أن الأبناء لمارون حيث مر الآباء!

قد نلنا الرين نهركم الألماني!

أين كانت فضائلكم الجرمانية يوم كان بابليون القدير يبسط ظل سلطانه على سهولكم؟!

وأين وقع آخر عظم من عظام رجالكم؟!

قد نلنا الرين نهركم الألماني!

فان كنتم نسيتم تاريخكم، فإن بناتكم اكثر احتفاظا بذكرانا منكم، فقد صببنا في كؤوسنا

نبيذكم الأبيض!

قد نلنا الرين نهركم الألماني!

ص: 29

وإذا كان الرين لكم فاغسلوا فيه ثيابكم

وإذا ما تكلمتم عنه فاخفضوا الصوت، فكم كنتم من غربان في اليوم العصيب حول النسر

المحتضر: بابليون

فليتدفق نهركم الألماني بسلام

ولتنعكس خور كاتدرائياتكم الغوطية في مياهه!

ولكن أحذروا، فإن أناشيدكم الخمرية قد توقظ الأموات من رقادها الدموي!

فما كاد موسيه ينتهي من إنشاد قصيدته النارية على السامعين حتى دوى المكان بالتصفيق وتعالى هتاف الاستحسان والتقريظ

وعندما تلقت القصيدة الصحف الفرنسية نشرتها في أمكنه بارزة، مشفوعة بالتهليل والتكبير

وقد ازداد بسببها هياج الرأي العام في فرنسا وألمانيا

وكان من الضباط الألمان من أرسلوا إلى الشاعر الفرنسي دي موسيه رسائل يدعونه فيها للمبارزة!

ولكن دي موسيه أجاب: إذا لم يكن من المبارزة بد، فهو لا يبارز إلا رصيفه الشاعر الألماني بيكر. ولكن بيكر لم يلبي الدعوة

ويقال أن هذا الصراع الأدبي بين شعراء فرنسا وألمانيا في عام 1840 م كان من ضمن الشرر الذي أشعل نار الحرب بين الشعبين بعد مضي ثلاثين سنة، عام 1870م، وهي الحرب المعروفة في تاريخ أوربا بحرب السبعين.

أم درمان السودان

المبارك إبراهيم

ص: 30

‌في وجه الثورة على الأخلاق

للأستاذ أمين الخولي

الأستاذ بكلية الآداب

يا صاحب الرسالة

أبلغت قراءك ثورة محمود على الأخلاق فتحدث إليه الأستاذ عزام، وسكت محمود حين امتلأ بطنه؛ لكن كان المجلس حافلا بغير محمود من رجال العلم والدين والأدب، فكانوا كلهم لمحمود وعلي عزام. . . وإما كان موضع الجدل أن الأخلاق الفاضلة لا تصلح أن تكون عدة النجاح أن لم تكن عدة الفشل. . . وإن هؤلاء الطيبين الأخيار الذين وصفهم الأستاذ عزام بالقناعة، وخصهم بالرضا، لن يستطيعوا أن يكونوا يوماً ما من رجال المال والأعمال كصيدناوي والبدراوي وعبود

فل نسأل الثائرين عن هذا ثم ننتقل إلى غيره: لم لا تصلح الأخلاق الفاضلة أن تكون عدة النجاح؟ هل يتحدث الواقع الصحيح بهذا؟ لا اظن؛ بل اعتقد دائماً أن فشل الفاشلين لعجزهم أو ضعفهم أو نقصهم يعلل بالفضيلة والأخلاق وإلا فهل خرج إلى ميدان واحد من الحياة رجلان تساوى فهمهما لهذه الحياة، وتساوى تسلحهما لما يبغيان من غاية، وكان أحدهما نبيلا، والآخر فسيلا فنجح الثاني وسقط الأول، أو نجح الثاني اكثر من نجاح الأول بغير فارق إلا فضيلة الأول ورذيلة الثاني؟ لا أظن، فلو كانا في عمل حر ولهما هذا التساوي التام لأكد الواقع أن أي مجتمع مهما اشتد فساده سيجد في فضيلة الأول نوعاً من الدقة والثبات، وسبباً للطمأنينة إليه، ويدفعه كل أولئك إلى الإعجاب به وإيثار معاملته؛ بل لا شك في أن الثاني السافل لن ينجح إلا إذا اصطنع هذه الفضيلة وحقق آثارها بل ادعاها في غير مناسبة كما هو شان أعداء الفضيلة دائماً. ولو تخلفت هذه النتيجة فنجح النذل أو زاد نجاحه لغير فارق آخر بين الرجلين فما أظن هذا يكون إلا عن نسبة من الندرة تؤكد القاعدة ولا تهدمها؛ وأنا كفيل بان تجد دائماً في مثل هذه الحالة فارقاً في الكفاية والاستعداد واليقظة وما إلى ذلك

وإن ذهب وهم القارئ - كما ذهب وهم أصحاب هذه الثورة - إلى أن النذل سيصطنع بعد

ص: 31

الكفاية والاستعداد أساليب منحطة لا يلوى عليها النبيل، فقد فاته أن يقظة النبيل تقضي عليه باحتياط نبيل لهذه الأساليب، وعمل على كشفها وفضحها، وإلا كان ناقص الاستعداد محدود الفهم لواقع الحياة ونذالة الأنذال، وعاد النقص على استعداده ولم يكن الذنب لفضيلته.

هذا حين يتحد الميدانان؛ لكن الثائرين سيقولون إن الميادين متعددة وسبيلها إلى الوصول مختلفة، وسيتخير النذل أقصرها وأسرعها فيصل في غير مشقة، على حين يكد الفاضل فيصل متأخراً ولا يصل إلا لبعض الشيء. فهب أحدهما اتجر في الغلال أو الأقطان لأنه فاضل، واتجر الثاني في المخدرات أو الرقيق الأبيض لأنه لا يبالي؛ حسن، سيربح الأول ربحاً يسيراً ثابتاً غير مهدد بالتضحية من اجل حمايته أو الوصول إليه لأنه اكشف الوجه واضح الطريق، ربحاً غير مهدد بالمطاردة، غير مهدد بالمخاطرة، غير مهدد بالمرض، وقصف العمر سريعاً؛ وسيربح الثاني ربحاً وافراً سريعاً يبذل غير القليل منه لحمايته أو الوصول إليه، ربحاً مهدداً بالخطر، مهدداً بقصر العمر اثر الجهد والاحتيال والمجازفة بل مهدداً بالموت السريع، والفضيحة العاجلة. . . إلى آخر مالا أزعج القارئ به من آفات تكفي ايسر نظرة متأنية لتبينها وتشهد بان لذة زوجة شريفة من زوجية غير سعيدة اكثر في مجموعها وأقوى في جملتها من لذة مومس هائلة، لا تزيد حياتها في ذلك على بضع سنوات حين تطول حياة الزوجة عقوداً بعد تلك السنين والعملية الحسابية المادية تحدث نتيجتها دائماً لو احسن حساب اللذائذ والآلام، والخسائر والمكاسب بان الفضيلة قد اختيرت لعائدتها فوق ما فيها من النبل، وان ليس الفشل لسبب خلقي بل لغيره دائماً

وهنالك الوظائف والدواوين لجريان الأمر فيها على الهوى واضطراب السياسة قد تظهر ميداناً غير خاضع لهذه القاعدة، ميداناً قد ترتفع فيه نسبة الشذوذ والتخلف لكن حتى هذا الميدان تنتهي فيه النظرة المتأنية إلى تلك النتيجة نفسها، فلو دخله موظفان قد تساويا في كل شيء، واختلفا في الخلقية لم يهن أن ينجح النذل لنذالته لا غير إلا حين يسلك طرائق يأباها الشريف فيتقدم هذا كلما اضطرب الميزان وضعف الرئيس، لكنه تقدم غير مطرد؛ انه تقدم مهدد بمثل ما يهدد تاجر المخدرات أو قريباً منه طفرة سريعة ونكسة غير بطيئة؛ ولا اقل مم ألم الخوف والفزع بعدم ثبات الحالة، وتغير السيد والرأس والناكسة والعجز عن

ص: 32

دعوى الفضيلة والكرامة التي يحرص مثل هؤلاء على ادعائها. آلام تنتهي بها العملية الحسابية إلى قريب من نتيجتها المطردة؛ وفي الجانب الثاني لذائذ لا يرضى الشريف أن يدع مكانه مستبدلا بها آلام خصمه، ولو ساومته على ذلك لرفض. هذا إذا كان كل الفرق بينهما الأخلاق؛ أما إن وجدت شيئاً وراء ذلك كما هو الكثير الغالب، بل الذي يقع دائماً، من لباقة وحسن بيان، ومعرفة بالرغبات، ومرونة في العمل، وطلاقة وجه، وما إلى ذلك، فقد عادت اللائمة على وخامة الثاني ونقصه لا على أخلاقه، ولم تكن الأخلاق سبيلا إلى الفشل ولا عائقاً عن النجاح

أما دعوى الثورة أن الطيبين القانعين المخصوصين بالرضا لن يستطيعوا أن يكونوا يوماً ما من رجال المال والأعمال كفلان وفلان فدعوى يقول الأستاذ الزيات على لسان أصحابها: ما معنى أن يظل التواضع والقناعة والزهد والمداراة والتوكل على إطلاقها فضائل؛ كما يقول: أليس صلف الإنجليزي ابلغ في العزة، وطمع الفرنسي أليق بالحياة، وطموح الإيطالي اخلق بالرجولة، وصراحة الألماني ادعى إلى الهيبة واستقلال الأمريكي اضمن للفوز؟

تلك هي الدعوى؛ لكن هذا المعنى للفضائل التي عدت معنى لا تعرفه خلقية دينية، ولا تقره خلقية فلسفية؛ فإنما التواضع أن تكون رفيع القدر فلا تتغطرس، وليس التواضع إتضاعاً. وإنما القناعة أن تملك فلا تشره، وليست القناعة ترك مادة الحياة وإفساح الطريق لعاد أو غاصب. إنما الزهد أن تستطيع فلا تنهم، وليس الزهد العجز عما في الدنيا والحسرة على ما في أيدي الناس. وإنما التوكل أن تقدم واثقاً لا أن تحجم عاجزاً. وأما المداراة فما عرفناها بين الفضائل. والخلق والدين يقرران أن صلف الإنجليزي قبيح افضل منه عزة المؤمن الذي يرى العزة لله ولرسوله وللمؤمنين فحسب. وطمع الفرنسي قبيح أليق منه قيام المتدين وذي الخلق بحق الحياة وواجبها. وطموح الإيطالي مفتعل اصل منه تلك العزة الروحية وهذا الإباء الساعي لإعلاء كلمة الحق، المتقدم إلى الدنيا بمهمة اجتماعية، وعمل إنساني يرغم من اجله ويجهد في سبيله. واستقلال الأمريكي بعض مغامرة الذي يقدم واثقاً بإحدى الحسنيين. وصراحة الألماني بعض شجاعة الذي لا يخشى في الحق لومة لائم. وما هذا الذي يعيب الثائرون من صور التواضع المتضع، والزهد العاجز، والقناعة المحرومة،

ص: 33

والتوكل الخامل، إلا صور لا تعرفها الأخلاق ولا يفشل أصحابها لأخلاقهم بل يفشلون لفشل أخلاقهم.

وأما هذا الربا الذي جاء في عداد تلك الأخلاق فمسالة اقتصادية عملية، لا خلقية أدبية؛ وهي فكرة اقتصادية، يقرن فيها النظام الإسلامي الكامل الذي قررها بالنظم الاقتصادية الأخرى ليحكم لهذا أو ذاك، وليست تلك المسالة من أسباب الثورة على الأخلاق في شيء

ويعرض الأستاذ الزيات على لسان تلك الثورة أن يكون مقياس الفضائل والرذائل هو النفع والضرر، فما كان مؤديا إلى منفعة سمي فضيلة، وما كان مؤدياً إلى مضرة سمي رذيلة. وهذا مقياس لا يأباه الدين ولا الخلق، فالمذهب المنفعي قديماً وحديثاً معروف بين مذاهب الخير؛ ولكن ليس بهذا اليسر والسهولة التي تفهمها الثورة على الأخلاق وتأخذ فيه باللمحة الطائرة. فما المنفعة المحكمة؟ وما المضرة المتقاة؟ أمنفعة الفرد أم منفعة الأسرة أو الأمة أو العالم؟ المنفعة المادية الحاسية أم المنفعة المعنوية العقلية أم هما أم فرع منهما وما هو؟ المنفعة العاجلة أم المنفعة الآجلة أم هذه وتلك؟ ومتى تكون هذه ومتى تكون تلك؟ وإذا تعارضت منفعة ومضرة فكيف يوازن بينهما وبأي شيء؟ وإذا وجدت منفعتان في عملين فكيف يفاضل بينهما وبأي شيء؟ وإذا وإذا. . . من مضايق شائكة يسلكها الباحث ليخرج منها بمقياس للأخلاق منفعي. وقد انتهى كل أولئك الباحثين على اختلاف ما بينهم إلى أن هناك فضيلة ورذيلة، واحبوا هذه، وثاروا على تلك؛ فلن يكون تحكيم المنفعة منهياً للثورة على الأخلاق. وهأنذا قد حكمت المنفعة فيما مضى من موازنة بين نجاح تاجر الغلال وتاجر المخدرات فلم تخرج النتيجة شاهدة بفشل الأخلاق

وأخيراً يا صاحب الرسالة: اسمح لي أن أحملك رسالة إلى الثائرين. قل لهم: استعدوا للحياة بعد فهمها فهماً صحيحاً قبل أن تلقوا تبعة فشلكم على الأخلاق. ولا تحكموا على الفضائل بعمل الناس فتحكموا بفشل الأخلاق، لأن للفضائل حقائق ثبتت على الاختبار، وأيدتها التجربة بعد بحث لا تزال الإنسانية تمنحه قوتها وجهدها. وانظروا إلى النتائج البعيدة والقريبة للأعمال، ودققوا في الموازنة بين فاشل وناجح فبل أن تحكموا بان هذا فشل لأخلاقه دون غيرها، وهذا نجح برذائله دون غيرها. ولا تظنوا طيبة القلب وسلامة الضمير والبعد عن إيذاء الناس وسائل وأسلحة تكفي وحدها للنجاح كما ظن ظانون أن

ص: 34

الإيمان وحده كاف لهزيمة الأعداء؛ لأن الله قد سير هذا الكون على نواميس لا تتخلف، وجعل الميزات المعنوية والنفسية مرجحات بين من تساويا مادياً وفهما النواميس فهماً واحداً؛ وبدل أن تهيب بدهاقنة الدين وفلاسفة الأخلاق أن يتدخلوا في سوق الفضائل معدلين، أهب بزعماء الثورة أن يتدخلوا في تقدير الحياة مدققين؛ فان ثاروا بعد ما كملت لهم هذا الدقة فعلى الدهاقنة أن يعيدوا النظر فيعدلوا ويحوروا

أمين الخولي

ص: 35

‌أناشيد صوفية

جيتانجالي

للشاعر الفيلسوف طاغور

بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب

- 26 -

لقد دلف إليّ وجلس إلى جانبي ولكني لم استيقظ. يا لتعس هذه النومة، ويا لشقاوتي!

جاء والليل ساج وفي يده قيثاره، فرن نغم لحنه العذب خلال أحلامي

يا اسفاه، اهكذا تضيع ليالي؟ آه، لماذا أُحرم - دائماً - النظر إليه وأنفاسه تداعبني في

نومي؟

- 27 -

النور؛ أوه، أين هو النور؟ أشعله بنار الرغبة المتأججة

ها هو المصباح ولكنه لا يضيء أبداً؛ انه مظلم كحظك يا قلبي! آه، إن الموت خير لك

إن البؤس يقرع بابك ليوحي إليك بان سيدك يقظان يناديك إلى ميعاد الهوى في غسق

الليل

السماء مثقلة بالغيوم والمطر ما يبرح يهطل مدراراً، وأنا لا اعرف ماذا يضطرب في

جوانحي، ولا اعي له معنى

إن وجهي يكفهر لومضات البرق، وقلبي يتلمس طريقه إلى حيث موسيقا الليل تناديه

النور؛ أوه، أين هو النور؟ أشعله بنار الرغبة المتأججة! السماء ترعد، والرياح تهب

هوجاء تملأ الفضاء، والليل قاتم كالصخرة السوداء؛ فلا تدع الظلام يخيم علينا وأشعل مصباح الهوى بنور حياتك

- 28 -

إن صلابة الرأي عقال يتألم قلبي حين أحاول أن أتخلص منه

إن الحرية هي كل ما ابتغي، وأنا استشعر الخجل حين أتمناها

ص: 36

أنا أومن بان بين يديك الثراء العريض، وانك أنت صديقي الحميم، ولكني لا أجد في

نفسي الجرأة على أن أزيل كل ما يملأ حجرتي من بهرج

إن هذا السجف التي يسترني هو كفن من التراب والموت أنا ابغضه غير أني أضنى به

إن ديوني كثيرة وخطاياي أعظم، وعيوبي التي أخفيها في نفسي تثقلني؛ وحين انطلق

لأطلب إليك الإحسان تسيطر عليّ رعدة شديدة خشية إلا تتقبل صلاتي

- 29 -

إن في هذا البناء - جسمي - شبحاً يذرف الدمع في خلوته وأنا دائماً في شغل شاغل

أشيد حوله سوراً عالياً، وعلى مر الأيام أرتفع سمكه فعميت عن حقيقة وجودي وأنا في ظلامه القاتم

لقد أخذتني العزة بهذا السور الشامخ فاندفعت اطليه بالطين والرمل خشية أن تكون به

فرجة، ولكن ما بذلت من جهد أعماني عن حقيقة وجودي

- 30 -

ها أنا أتيت وحيداً لأفي بوعدي؛ ولكن من هذا الذي يتبعني في دجى الليل وسكونه؟

وعبثاً تحولت عن طريقي لأضلله

إنه يثير الغبار وهو يمشي الخيلاء وهو يردد قولي في صوت أجش

إنه روحي الضئيل - يا الهي - وهو لا يستشعر الخزي، وانا استحي ألج بابك برفقته

- 31 -

قلت: (يا أيها السجين؛ خبرني، من ذا الذي قيدك هنا؟)

قال: (هو سيدي، لقد ظننت إني أبذ كل إنسان على الأرض بما لدي من ثراء وقوة، وبين

يدي بيت المال وهو ينضم على كل ما يملك مليكي. وحين يغلبني النعاس انطرح على فراش كان في - يوم ما - سرير سيدي؛ وحين استيقظ أجد نفسي سجيناً في بيت المال)

قلت: (يا أيها السجين؛ خبرني، من ذا الذي صنع هذه السلسلة الصلبة؟)

قال: (بيدي الصناع ابتدعتها وخيل إلي أن قوتي الكامنة ستقبض على العالم كله وأظل أنا

طليقا في أمان، فقضيت عمراً من عمري أهين هذه السلسلة استعين بالنار والمقامع

ص: 37

الحديدية الشديدة؛ فلما فرغت من عملي وتمت حلقاتها وجدت نفسي مقيداً بها)

- 32 -

لقد حاول أحبائي على الأرض جهدهم أن أعيش بين أيديهم في أمان؛ ولكن حبك أنت

يفوق حبهم. أنت يا من تكفل حريتي أنهم يلازمونني دائماً خيفة أن أنساهم، وها هي الأيام تمر سراعاً وأنت ما تزال تتستر خلف الحجب

وإذا لم أتوسل إليك في صلواتي، وإذا لم أحفظك في قلبي، فحبك لي ما يزال ينتظر حبي

لك

- 33 -

وحين يسفر وجه الصبح يفدون إلى داري رمزاً ويقولون (سننزل في هذه الغرفة الضيقة)

ثم يقولون (سنشد أزرك في عبادة ربك لننال فضل إحسانه) ثم قبعوا في ركن في هدوء

وتواضع

وفي هدأة الليل تدافعوا إلى هيكلي المقدس في صخب، يستلبون القرابين من محراب

الرب في شره

- 34 -

هب لي بعض نفسي فأذكرك كلك

هب لي بعض عزمي فاشعر بك في كل مكان، وانزع إليك في كل عملي وأحبوك بحبي

في كل آن

هب لي بعض نفسي فلا استخفي منك

هب لي بعض هذه الأغلال فأنا مقيد بمشيئتك، وما تريده فهو آت. . . هذه القيود هي

قيود حبك

- 35 -

حين يطمئن الفؤاد فلا يستولي عليه الذعر فيرتفع الرأس عالياً

حين تكون حرية الرأي،

حين لا يتصدع العالم شيعاً وتفرق بينه الحدود الضيقة،

ص: 38

حين تنبعث الكلمات من أعماق الحقيقة، حين يمد التناحر الدائم ذراعيه صوب الكمال،

حين يهتدي الرأي الناضج إلى طريقة السوي فلا يضل في متاهات التقاليد البالية،

حين تجذب العقل إليك. . . إلى الفكرة والعمل الأبديين إلى سماء الحرية؛ انزع - يا

الهي - عن وطني سباته العميق

- 36 -

ها هي صلواتي إليك - يا الهي -: حبذ أصول العوز من قلبي؛

امنحني القدرة على أن احمل أفراحي وأتراحي معاً

امنحني القدرة على أن اخلق من حبي عملاً صالحاً

امنحني القدرة على إلا انهر فقيراً وألا أخرّ على ركبتي أمام غطرسة الجبار

امنحني القدرة على أن أسمو بعقلي فوق السخافات الأرضية

ثم امنحني القدرة على أن انزل في رضا عن كبريائي أمام مشيئتك

- 37 -

يتراءى لي كأن رحلتي قد انتهت عند الغابة، عند آخر نزوة من نزوات قوتي

ها هو

الطريق قعد اغلق أمامي، ونفد زادي وآن لي أن استريح في سكون الظلام

ولكن يخيل إلي أن إرادتك لا تجد في النهاية، فحين تموت الكلمات الرثة على شفتي

يتفجر القلب بنغم عذب، وحين تنسد أمامي المسالك القديمة يتفتح أمامي عالم جديد فيه العجائب

- 38 -

إنني أهفو إليك، إليك وحدك - دع قلبي يرددها مرات ومرات في غير نهاية. إن

الوساوس التي تلح عليّ صباح مساء، لتصرفني عنك، إن هي إلا جوفاء خداعة

حين يتوارى الليل خلف سجوفه ينتظر بسمة الفجر، ترن في أعماق قلبي صيحة: إنني

أهفو إليك، إليك وحدك

حين تعدو العاصفة الهوجاء في طريقها تبتغي الهدوء فتبدد هي السكون في صولة ويأس.

. . في هذا الحين تعصف ثورتي الجامحة بحبك وهي ما تزال ترسل صيحاتها: إنني أهفو

ص: 39

إليك، إليك وحدك

كامل محمود حبيب

ص: 40

‌الكميت بن زيد

شاعر العصر المرواني

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

- 4 -

وأما الرواية الثانية في سبب المنافرة بين الكميت وخالد بن عبد الله فقد نقلها أبو الفرج الأصبهاني من كتاب محمد بن يحي الخراز، قال حدثني احمد بن إبراهيم الحاسب، قال حدثني عبد الرحمن بن داود بن أبي أمية البلخي، قال كان حكيم بن عباس الأعور الكلبي ولعاً بهجاء مضر، فكانت شعراء مضر تجيبه ويجيبهم وكان الكميت يقول هو والله اشعر منكم. قالوا فاجب الرجل قال أن خالد بن عبد الله القسري محسن إلي فلا اقدر أن أرد عليه. قالوا فاسمع بإذنك ما يقول في بنات عمك وبنات خالك من الهجاء؛ وانشدوه ذلك، فحمى الكميت لعشيرته فقال المذهبة:

(ألا حُيِّيتِ عنَّا يا مَدِينا)

فاحسن فيها، وبلغ خالداً خبرها، فقال لا أبالي ما لم يجر لعشيرتي ذكر فانشدوه قوله:

ومن عجبٍ علي لَعَمْرُ أمٍّ

غَذتْكَ وغير هتيَّا يمينا

تجاوزتَ المياهَ بلا دليلٍ

ولا علم تَعَسُّفَ مخطئينا

فانك والتحوُّلَ من مَعَدٍّ

كهيلةَ قبلنا والحالبينا

تخطتْ خيرهم حَلْباً ونَسْئاً

إلى الوالي المغادر هاربينا

كعنزِ السُّوءِ تنطح عالفيها

وترميها عِصىُّ الذابحينا

فبلغ ذلك خالداً فقال: فعلها والله لأقتلنه. ثم اشتري ثلاثين جارية بأغلى ثمن، وتخيرهن نهاية في حسن الوجوه والكمال والأدب، فرواهن الهاشميات، ودسهن من نخاس إلى هشام بن عبد الملك فاشتراهن جيمعاً. فلما انس بهن استنطقهن فرأى فصاحة وأدباً، فاستقرأهن القران فقرأن، واستنشدهن الشعر فأنشدنه قصائد الكميت الهاشميات، فقال: ويلكن من قائل هذا الشعر؟ قلن: الكميت زيد الأسدي، قال: وفي أي بدل هو؟ قلن: في العراق ثم بالكوفة، فكتب إلى خالد: أبعث إلي برأس الكميت بن زيد. فبعث خالد إلى الكميت في الليل فأخذه

ص: 41

وأودعه السجن. ولما كان من الغد أقرأ من حضره من مضر كتاب هشام واعتذر إليهم من قُتله، وآذنهم في إنفاذ الأمر فيه في غد. فقال لأبان بن الوليد البجلي وكان صديقا للكميت: أنظر ما ورد في صديقك، فقال عز عليّ والله ما به. ثم قام أبان فبعث إلى الكميت فأنذره فوجه إلى امرأته، ثم ذكر الخبر في خروجه ومقامها مكانه كما ذكر من تقدمه، وقال فيه: فأتى مسلمة بن عبد الملك فاستجار به، فقال: إني أخشى ألا ينفعك جوراي عنده، ولكن استجر بابنه مسلمة بن هشام، فقال: كن أنت السفير بيني وبينه في ذلك، ففعل مسلمة وقال لابن أخيه: قد أتيتك بشرف الدهر، واعتقاد الصنيعة في مضر، وأخبره الخبر

فأجاره مسلمة بن هشام، وبلغ ذلك هشاماً فدعا به ثم قال: أتجير على أمير المؤمنين بغير أمره؟ فقال: كلا ولكني انتظرت سكون غضبه. قال: أحضرنيه الساعة، فانه لا جوار لك. فقال مسلمة للكميت: إن أمير المؤمنين أمرني بإحضارك. قال: أتسلمني يا أبا شاكر؟ قال: كلا ولكني احتال لك. ثم قال له: إن معاوية بن هشام مات قريباً، وقد جزع عليه جزعاً شديداً، فإذا كان من الليل فاضرب رواقك على قبره، وأنا ابعث إليك بنيه يكونون معك في الرواق فإذا دعا بك تقدمت إليهم أن يربطوا ثيابهم بثيابك، ويقولوا هذا استجار بقبر أبينا ونحن أحق من أجاره

فاصبح هشام على عادته متطلعاً من قصره إلى القبر. فقال: من هذا؟ فقالوا: لعله مستجير بالقبر. فقال: يجار من كان إلا الكميت، فإنه لا جوار له، فقيل: فإنه الكميت قال: يحضر أعنف إحضار، فلما دعي به ربط الصبيان ثيابهم بثيابه فلما نظر هشام إليهم اغرورقت عيناه واستعبر وهم يقولون: يا أمير المؤمنين، استجار بقبر أبينا وقد مات، ومات حظه من الدنيا فاجعله هبة له ولنا، ولا تفضحنا فيمن استجار به. فبكى هشام حتى انتحب، ثم اقبل على الكميت فقال له: يا كميت أنت القائل:

وإنْ لا تقولوا غيرها تتعرَّفوا

نواصيها تردى بنا وهي شُزبُ

فقال: لا والله ولا أتان من أتن الحجاز وحشية، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه، ثم قال: أما بعد - فإني كنت أتدهدى في غمرة، وأعوم في بحر غواية، أخنى على خطلها، واستفزني وهلها، فتحيرت في الضلالة، وتسكعت في الجهالة، مهرعاً عن الحق، جائراً عن القصد، أقول الباطل ضلالاً، وأفوه بالبهتان وبالاً، هذا مقام العائذ مبصر الهدى، ورافض

ص: 42

العماية، فأغسل عني يا أمير المؤمنين الحوبة بالتوبة، واصفح عن الزلة، واعف عن الجرمة، ثم قال:

كم قال قائلكم لعاً

لك عند عثرته لعاثِرْ

وغفرتُمُ لذوي الذنو

ب من الأكابر والأصاغر

أبني أُميَّةَ إنكم

أهلُ الوسائل والأوامر

ثِقتي لكل مُلِمَّةٍ

وعشيرتي دون العشائر

أنتم معادنُ للخلا

فة كابراً من بعد كابر

بالتسعة المتَتَابعي

نَ خلائفاً وبخير عاشر

والى القيامة لا تَزَا

لُ لشافعٍ منكم وواتر

ثم قطع الإنشاد عاد إلى خطبته فقال: إغضاء أمير المؤمنين وسماحته وصباحته مناط المنتجعين بحبله، من لا تحل حبوته لإساءة المذنبين، فضلاً عن استشاطة غضبه بجهل الجاهلين.

فقال له: ويلك يا كميت، من زين لك الغواية، ودلاك في العماية؟

قال: الذي أخرج أبانا من الجنة، وأنساه العهد فلم يجد له عزما

فقال: إيه أنت القائل:

فيا موقداً ناراً لغيرك ضوءُها

ويا حاطباً في غير حبلك تحطبُ

فقال: بل أنا القائل:

إلى آل بيت أبي مالكٍ

مُناخٌ هو الأرحب الأسهلُ

نَمُتُّ بأرحامنا الدَّاخلا

ت من حيث لا يُنكرُ المدخل

بِمُرَّةَ والنَّضْر والمالك

ين رهطٌ هم الأنبل الأنيل

وبارَي خزيمةَ بدرَ السما

ءِ والشمسَ مفتاحُ ما نأمل

وجدنا قريشاً قريش البطا

حِ على ما بنى الأوَّلُ الأوَّل

بهم صلح الناسُ بعد الفسا

دِ وحيص من الفتق ما رَعبُلوا

قال له: وأنت القائل:

لا كعبد المليك أو كوليدٍ

أو سليمانَ بعدُ أو كهشامِ

ص: 43

منْ يمتْ فقيداً ومن يح

يى فلا ذُو إلِّ ولا ذو ذمام

ويلك يا كميت، جعلتنا ممن لا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة، فقال: بل أنا القائل يا أمير المؤمنين:

فالآن صرتُ إلى أُميَّ

ةَ والأمور إلى المصايرْ

والآن صرت بها المصي

ب كمهتدٍ بالأمس حائر

يا ابن العقائل للعقا

ئل والجحاجحة الأخاير

من عبد شمس والأكا

بر من أُميةَ فالأكابر

إن الخلافة والإلا

ف برغم ذي حسد وواغر

دَلفا من الشرف التلي

د إليك بالرِّفدِ الموافر

فحللتَ مُعتلجَ البطا

ح وحلَّ غيرك بالظواهر

قال له: فأنت القائل:

فقل لبني أُمية حيث حلوا

وإن خفَت المهندَ والقطيعا

أجاع الله من أشبعتموهُ

وأشبع من بجوركم أُجيعا

بِمرْضِىِّ السياسة هاشميٍّ

يكون حياً لأمته ربيعا

فقال: لا تثريب يا أمير المؤمنين إن أردت أن تمحو عني قولي الكاذب، قال بماذا؟ قال بقولي الصادق:

أورثتهُ الحَصانُ أمَّ هشام

حسباً ثاقباً ووجهاً نضيرا

وتعاطى به ابن عائشة البد

ر فأمسى له رقيباً نظيرا

وكساه أبو الخلائف مروا

نُ سَنيَّ المكارم المأثورا

لم تجهم له البطاح ولكن

وجدتها له معاناً ودورا

وكان هشام متكئاً فاستوى جالساً وقال: هكذا فليكن الشعر يقولها لسالم بن عبد الله بن عمر وكان إلى جانبه، ثم قال: قد رضيت عنك يا كميت. فقبل يده وقال: يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تزيد في تشريفي، ولا تجعل لخالد عليّ إمارة، قال: قد فعلت وكتب له بذلك وأمر له بأربعين ألف درهم وثلاثين ثوباً هشامية وكتب إلى خالد أن يخلي سبيل امرأته، ويعطيها عشرين ألفاً وثلاثين ثوباً، ففعل ذلك

ص: 44

وأما الرواية الثالثة فقد قال فيها أبو الفرج الأصبهاني: اخبرني احمد بن عبد الله بن عمار، قال حدثنا النوفلي علي بن محمد بن سليمان أبو الحسن، قال حدثني أبي قال: كان هشام بن عبد الملك قد اتهم خالد بن عبد الله، وكان يقال له إنه يريد خلعك فوجد بباب هشام يوماً رقعة فيها شعر، فدخل بها على هشام فقرأت عليه، وهي:

تألَّق برقٌ عندنا وتقابلت

أثافٍ لِقِدْر الحرب أخشى اقتبالَهَا

فدونكَ قِدْرَ الحربِ وَهْيَ مُقرَّةٌ

لكفَّيك واجعل دون قِدْرٍ جِعَالَهَا

ولن تنتهي أو يبلغَ الأمرُ حدَّهُ

فَنَلْهَا برْسل قبل ألاّ تنالها

فَتَجْشمَ منها ما جَشمَتْ من التي

بُسَورَاَء هَرَّتْ نحو حالكَ حالها

تَلَافَ أمورَ الناس قبل تفاقُم

بعُقْدَةِ حزمٍ لا تخاف انحلالها

فما ابرم الأقوامُ يوماً لحيلة

من الأمر إلا قلَّدُوكَ احتيالها

وقد تخْبرُ الحربُ العوانُ بسرِّها

وإن لم تَبُحْ من لا يريد سؤالها

فأمر هشام أن يجمع له من بحضرته من الرواة فجمعوا، فأمر بالأبيات فقرأت عليهم فقال شعر من تشبه هذه الأبيات؟ فأجمعوا جميعاً من ساعتهم أنه كلام الكميت بن زيد الأسدي، فقال هشام: نعم هذا الكميت ينذرني بخالد بن عبد الله، ثم كتب إلى خالد بخبره وكتب إليه بالأبيات، وخالد يومئذ بواسط فكتب خالد إلى واليه بالكوفة يأمره بأخذ الكميت وحبسه، وقال لأصحابه: أنه بلغني أن هذا يمدح بني هاشم ويهجو بني أمية فأتوني من شعره هذا بشيء فأتوه بقصيدته اللامية التي أولها:

ألا هل عَمٍ في رأيه متأمل

وهل مدبر بعد الإساءة مقبل

فكتبها وأدرجها في كتاب إلى هشام يقول فيه: هذا شعر الكميت، فإن كان قد صدق في هذا، فقد صدق في ذاك

فلما قرئت على هشام اغتاظ، فلما قال:

فيا ساسة هاتوا لنا من جوابكم

ففيكم لعمري ذو أَفانين مقول

اشتد غيظه، فكتب إلى خالد يأمره أن يقطع يدي الكميت ورجليه ويضرب عنقه، ويهدم داره ويصلبه على ترابها. فلما قرأ خالد الكتاب كره أن يستفسد عشيرته، وأعلن الأمر رجاء أن يتخلص الكميت، فقال: لقد كتب إلي أمير المؤمنين، وإني لأكره أن أستفسد

ص: 45

عشيرته وسماه فعرف عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد ما أراد، فأخرج غلاماً له مولداً ظريفاً، فأعطاه بغلة له شقراء فارهة من بغال الخليفة، وقال: إن أنت وردت الكوفة فأنذرت الكميت لعله أن يتخلص من الحبس فأنت حر لوجه الله والبغلة لك، ولك على بعد ذلك إكرامك والإحسان إليك فركب البغلة وسار بقية يومه وليلته من واسط إلى الكوفة فصبحها، فدخل الحبس متنكراً، فخبر الكميت بالقصة، فأرسل إلى امرأته وهي ابنة عمه يأمرها أن تجيئه ومعها ثياب من لباسها وخفان ففعلت، فقال: ألبسيني لبسة النساء ففعلت، فخرج فمر بالسجان فظن انه المرأة فلم يعرض له، فنجا وانشأ يقول:

خرجتُ خروجَ القِدْحِ قدْحِ ابنُ مُقبِلٍ

على الرًّغم من تلك النوابح والْمُشْلِ

علىَّ ثيابُ الغانياتِ وتحتها

عزيمةُ أمرٍ أشبهتْ سَلَّةَ النّصْل

وورد كتاب خالد على والي الكوفة يأمره فيه بما كتب به إليه هشام، فأرسل إلى الكميت ليؤتى به من الحبس فينفذ فيه أمر خالد، فدنا من باب البيت فكلمتهم المرأة وخبرتهم أنها في البيت وأن الكميت قد خرج، فكتب بذلك إلى خالد فأجابه: حرة كريمة فدت ابن عمها بنفسها، وأمر بتخليتها، فبلغ الخبر الأعور الكلبي بالشام، فقال قصيدته التي يرمي فيها امرأة الكميت بأهل الحبس ويقول:

(إسْودِينَا وحْمِرِينَا)

فهاج الكميت ذلك حتى قال:

(ألا حُيِّيتِ عنَّا يا مدينَا)

وهي ثلاثمائة بيت لم يترك فيها حياً من أحياء اليمن إلا هجاهم وتوارى وطلب فمضى إلى الشام فقال شعره الذي يقول فيه:

(قِفْ بالديار وقوفَ زائِرْ)

ويقول:

يا مَسْلَمُ ابن أبي الولي

د لَميِّتٍ إن شئتَ ناشر

اليوم صرتُ إلى أُمَيَّة والأمور إلى المصاير

فأذن له ليلاً، فسأله أن يجيره على هشام، فقال: إني قد أجرت على أمير المؤمنين فأخفر جواري، وقبيح برجل مثلي أن يخفر في كل يوم، ولكني أدلك فاستجر بمسلمة بن هشام

ص: 46

وبأمه أم الحكم بنت يحيى بن الحكم، فإن أمير المؤمنين قد رشحه لولاية العهد، فقال الكميت بئس الرأي، أضيع دمي بين صبي وامرأة، فهل غير هذا؟ قال: نعم، مات معاوية بن أمير المؤمنين وكان يحبه، وقد جعل أمير المؤمنين على نفسه أن يزور قبره في كل أسبوع يوماً - وسمى يوماً بعينه - وهو يزوره في ذلك اليوم، فامض فاضرب بناءك عند قبره واستجر به، فإني سأحضر معه وأكلمه بأكثر من الجوار

فعمل ذلك الكميت في اليوم الذي يأتيه فيه أبوه، فجاء هشام ومعه مسلمة فنظر إلى البناء فقال لبعض أعوانه: انظر ما هذا؟ فرجع فقال: الكميت بن زيد مستجير بقبر معاوية بن أمير المؤمنين فأمر بقتله، فكلمه مسلمة وقال: يا أمير المؤمنين إن إخفار الأموات عار على الأحياء فلم يزل يعظم عليه الأمر حتى أجاره

عبد المتعال الصعيدي

ص: 47

‌للأدب والتاريخ

مصطفى صادق الرافعي

1880 -

1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 17 -

(. . . إنه ليس معي إلا ظلالها، ولكنها ظلال حية تروح وتجيء في ذاكرتي. وكل ما كان ومضي هو في هذه الظلال الحية كائن لا يفنى، وكما يرى الشاعر الملهم كلام الطبيعة بأسره مترجماً إلى لغة عينيه، أصبحت أراها في هجرها طبيعة حسن فاتن مترجمة بجملتها إلى لغة فكري

(كان لها في نفسي مظهر الجمال ومعه حماقة الرجاء وجنونه ثم خضوعي لها خضوعاً لا ينفعني. . . فبدلني الهجر منها مظهر الجلال ومعه وقار اليأس وعقله، ثم خضوعها لخيالي خضوعاً لا يضرها. . .

(وما أريد من الحب إلا الفن، فإن جاء من الهجر فن فهو الحب. . .

(كلما ابتعدت في صدها خطوتين رجع إلي صوابي خطوة)

(لقد أصبحت أرى ألين العطف في أقسى الهجر، ولن أرضى بالأمر الذي ليس بالرضا، ولن يحسن عندي مالا يحسن ولن أطلب الحب إلا في عصيان الحب. أريدها غضبى، فهذا جمال يلائم طبيعتي الشديدة، وحب يناسب كبريائي. ودع جرحي يترشش دماً، فهذه لعمري قوة الجسم الذي ينبت ثمر العضل وشوك المخلب، وما هي بقوة فيك إن لم تقو أول شيء على الألم. . .

(أريدها لا تعرفني ولا أعرفها، لا من شيء إلا لأنها تعرفني وأعرفها. . . تتكلم ساكتة وأرد عليها بسكوتي. صمت ضائع كالعبث ولكن له في القلبين عمل كلام طويل. . .)

الرافعي

أوراق الورد

ص: 48

هدأت ثائرة الرافعي هوناً ما، وفاءت إليه نفسه، واعتدلت مقادير الأشياء في عينيه، وعاد إلى حالة بين الرضى والغضب، وبين الحب والسلوان؛ فاستراح إلى اليأس. . . لولا إثارة من الحنين تنتزع به إلى الماضي، وبقية من الشوق واللهفة على ما كان وفرغت أيامه من الحادثة لتمتلئ من بعد بالشعر والحكمة والبيان

ومضت سبع سنين والحياة تذهب به مذاهبها، والذكرى تغشاه في خلوته وتداعبه في أحلامه، والأمانيّ التي بعثرتها الكبرياء بدداً في أودية النسيان تتخايل له في شكول وألوان، وخواطره من وراء ذلك تعمل، ونفسه الشاعرة تحس وتشعر وتنفعل بما يتعاقب عليها من الرُّؤى والأحلام. وأتم نظم قصيدته البارعة في (أوراق الورد) في سنة 1931

أوراق الورد هو طائفة من الخواطر المنثورة في فلسفة الحب والجمال، أنشأه الرافعي ليصف حالة من حالاته، ويثبت تاريخاً من تاريخه، في فترة من العمر لم يكن يرى لنفسه من قبلها تاريخاً ولا من بعد

ويقول الرافعي إنه جمع في أوراق الورد رسائلها ورسائله. أما رسائله فنعم ولكن على باب من المجاز، وأما رسائلها فما أدري أين موضعها من الكتاب، إلا رسالة واحدة وجزازات من كتب ونتفاً من حديثها وحديثه

بلى، إن في أوراق الورد طائفة من رسائله إليها، ولكنها رسائل لم تذهب إليها مع البريد، بل هي من الرسائل التي كان يناجيها بها في خلوته، ويتحدث بها إلى نفسه؛ أو يبعث بها إلى خيالها في غفوة المنى، ويترسل بها إلى طيفها في جلوة الأحلام إلا رسالتين أو ثلاثاً مما في أوراق الورد. . . فلما أتم تأليفها وعقد عقدتها، بعث بها إليها في كتاب مطبوع بعد سبع سنين من تاريخ الفراق!

ولكن أوراق الورد ليس كله من وحي (فلانة)، وليست كل رسائله في الكتاب إليها؛ فهنالك الأخرى، هنالك صاحبة (حديث القمر)، تلك التي عرفها في ربوة من لبنان منذ تسع عشرة سنة، وهنا فلانة. . .

هما اثنتان لا واحدة: تلك يستمد من لينها وسماحتها وذكرياتها السعيدة، معاني الحب التي تملأ النفس بأفراح الحياة وهذه يستوحيها معاني الكبرياء والصد والقطيعة وذكريات الحب الذي أشرق في خواطره بالشعر وأفعم قلبه بالألم!

ص: 49

لقد مضت سبع سنين منذ فارق صاحبته (فلانة) كان قلبه في أثنائها خالصا لها، ولكن فكره كان يدور على معاني الشعر يلتمسه من هنا ومن هناك؛ فلما اجتمع له ما أراد ضم أوراق الورد إلى أشواكه، وأخرجها كتاباً للفن أولا ثم لها من بعد

هو كتاب ليس كله من نبضات قلبه الذي يعشقها وما زال متيماً في هواها، ولكن فيه إلى جانب ذلك فكر المفكِّر وعقل الأديب وحيلة الفنان

بلى، إنه كان يحبها حباً لا يتسع القلب لأن يشرك فيه غيرها فكان (قلبه) لها من دون النساء جميعاً، ولكن الذكريات كانت تتوزع (فكره) فتوحي إليه من هنا ومن هنالك ومما يستجد على خواطره من بعد في معاني الحب والبغض والود والقطيعة

هو كتاب يصور نفسه وخواطره في الحب؛ ثم يصور فنه وبيانه في لغة الحب؛ ثم. . . ثم لا يصور شيئاً من بعد ما كان بينه وبين صاحبته على وجهه وحقيقته، إلا أن يتدبر قارئة ويستأني ليستخلص معنى من معنى على صبر ومعاناة في البحث والاستقراء

فما رأيت من رسالة فيها اللهفة والحنين، وفيها التذلل والاستعطاف، وفيها تصنع الغضب ودعوى الكبرياء، وفيها المنى الحالمة تواثب بين السطور في خفة الفراشة الطائرة؛ وما رأيت من معنى تحاول أن تمسكه فيفلت؛ فهو فصل يؤدي أداءه في قصة هذا الحب العجيب

وما قرأت من رسالة تصف ما كان في خلوة نفس إلى نفس، وتقص عليك في لغة الماضي حديث قلب إلى قلب، وتكشف لك عن سر الابتسامة ومعنى النظرة، وتتحدث إليك عن جمال الطبيعة وفلسفة الكون؛ فهو ذكرى من الماضي البعيد، كان حباً في القلب فصار حديثاً في الفكر، ثم استتبع شيء شيئاً

وما قرأت من قول مزوق، وبيان منمق، ومعنى يلد معنى، وفكرة تستجر فكرة، وعبارة تتوكأ على عبارة؛ فهو من أداء الفن وولادة الفكر.

ولقد تجد رسالة كلها حنين ولهفة، أو حادثة وذكرى، أو فن من الفن؛ ولقد تجد كذلك رسالة غيرها تجمع هذه الثلاثة في قرن؛ ففيها قلب ينبض، وذكر تعود، وبيان مصنوع

فإذا أنت عرفت هذه الثلاثة، عرفت الكتاب، وعرفت صاحبه، وخرجت منه بشيء

يبدأ أوراق الورد بمقدمة بليغة في الأدب يتحدث فيها عن تاريخ رسائل الحب في العربية

ص: 50

بأسلوب هو أسلوب الرافعي، وإحاطة هي إحاطته، وسعة اطلاع لا تعرفها لغيره؛ وهذه المقدمة وحدها هي باب في الأدب العربي لم ينسج على منواله ولم يكتب مثله، تذكر قارئها ذلك النهج البارع الذي نهجه الرافعي العالم المؤرخ في كتابه (تاريخ آداب العرب) فكان به أول من كتب في تاريخ الأدب وآخر من كتب. . .

وتأتي بعد هذا الفصل مقدمة الرسائل، وفيها سبب تسمية الكتاب، وهو شيء مما كان بينه وبين صاحبته؛ يقول إنه كان في مجلسها يوماً ومعها وردة؛ فأخذت تحدثه عن الحب وعمر الحب، وعن الورد وعمر الورد، وكأنها تقول له: إحذر أن تجعل حظك من الوردة اكثر من أن تستنشيها على بعد من دون لمسة البنان، وأحذر في الحب. . . قال:(ثم دنت الشاعرة الجميلة فناطت وردتها إلى عروة صاحبها، فقال لها: وضعتها رقيقة نادية في صدري، ولكن على معان في القلب كأشواكها. . . فاستضحكت وقالت: فإذا كتبت يوماً معاني الأشواك فسمها أوراق الورد. . . وكذلك سماها)

ويمضي في هذه المقدمة يتحدث عن حبه، وآلامه في الحب ورأيه في الحب، وشيء مما كان بينه وبينها؛ ثم يتحدث عن نهجه في هذه الرسائل، وما أراد بها وما أوحاها إليه؛ في أسلوب كله حنين وكله شوق وألم

ثم تأتي بعد ذلك فصول الكتاب متتابعة على ما أوضحت طريقها من قبل: فيها حنين العاشق المهجور، وفيها منية المتمني وفيها ذكريات السالي، وفيها فن الأديب وشعر الشاعر؛ وفيها من رسائلها ومن حدثيها. . .

من أراد أوراق الورد على أنه قصة حب في رسائل لم يجد شيئاً؛ ومن أراده رسائل وجوابها في معنى خاص لم يجد شيئاً؛ ومن أراده تسلية وإزجاء للفراغ لم يجد شيئاً؛ ومن أراده نموذجاً من الرسائل يحتذيه في رسائله إلى من يحب لم يجد شيئاً؛ ومن أراده قصة قلب ينبض بمعانيه على حاليه في الرضى والغضب، ويتحدث بأمانيه على حاليه في الحب والسلوان - وجد كل شيء

وهو في الفن فن وحده، لا تجد في بيانه ومعانية ضريباً له مما أنشأ الكتاب وأنشد الشعراء في معاني الحب؛ على أنه بأسلوبه العنيف وبيانه العالي وفكرته السامية في الحب، لا يعرف قراءه في العربية. وكم قارئ استهواه عنوان الكتاب وموضوعه فتناوله بشوق

ص: 51

ولهفة، فما هو إلا أن يمضي فيه إلى صفحات قليلة حتى تسلمه يمناه إلى يسراه إلى الزاوية المهملة في مكتبته، ثم لا يعود إليه. . . وكم قارئ كان لا يعرف الرافعي الشاعر الثائر العنيف في حبه وبغضه وكبريائه، فلما قرأ أوراق الورد عرفه فأحبه فاستخلصه لنفسه فما يعرفه من الأدباء إلا أنه مؤلف أوراق الورد

وكم وكم. . . ولكن أوراق الورد ما يزال مجهولاً عند اكثر قراء العربية وإن كان في مكتباتهم، لأن القارئ الذي يلذه أوراق الورد ما زال يتعلم في المدرسة كيف يقرأ ليستفيد ويضم فكراً إلى فكره، لا ليتسلى ويهرب من فكره! لأن العربية ليس لها قراء. . .!

ليت شعري أفي العربية كلها شاعر يستطيع أن ينظم ورقة واحدة من أوراق الورد أو يجمع معانيها في قصيدة؟ ابحثوا عن جمهور هذا الشاعر وقرائه يوم تسمعون قصيده. . .

أرأيت إلى المنجم الذي يمتد في الأرض ويتغلغل بعروق الذهب؟ إنه كنز، ولكن منذا يصبر على المعاناة في استخراجه والبلوغ إليه إلا أن يكون صاحبه أيد وقوة؟ إنه كنز يطلبه الجميع ولكنك لن تجد في الجميع من يقدر على استخلاصه من بين الصخور المتراكبة عليه وحواليه من طبقات الأرض إلا الرجل الواحد المحظوظ الذي يكون معه الصبر

إن أوراق الورد منجم من المعاني الذهبية، لو عرفه المتأدبون من شبابنا لوضعوا يدهم على أثمن كنز في العربية في معاني الحب والجمال يكون لهم غذاءً ومادة في الشعر والبيان

وكان الرافعي رحمه الله يعتز بأوراق الورد إعزازه بأنفس ما أنتج في أدب الإنشاء ويباهي ويفتخر؛ وما احسبه تعزى عن صاحبته بقليل إذ تعزى بما لقي من النجاح والتوفيق في إنشاء أوراق الورد؛ وكما تجد الأم سلوتها في ولدها العزيز عن الزوج الحبيب الذي طواه الموت، وجد الرافعي العزاء في أطفال معانيه عن مطلقته العنيدة. . . لقد فارقها ولكنه احتواها كتاب!

إن الأم لا تنسى زوجها الحبيب إذا فارقها وخلف بين يديها بضعة منه، ولكنها تجد العزاء عنه بشيء منه وإن قلبها ليخفق بذكراه في عيني هذا الحبيب الصغير. وكذلك لم ينس الرافعي ولكنه وجد السلوان. . . لقد أفلتت من يده ولكنها خلفت ذكراها معه، ذكرى حيةً

ص: 52

ناطقة تتمثل معاني وكلمات في كتاب يقرأه كلما لج به الحنين فكأنه منها بمسمع ومشهد قريب!

يرحمه الله! لقد مات ولكن قلبه ما يزال حياً ينبض يتحدث عن آلامه وأشواقه في قلب كل محب يقرا كتابه فيجد فيه صورة من قلبه وعواطفه وآماله. . . يرحمه الله!؟

(طنطا)

محمد سعيد العريان

هنا ينتهي حديث الرافعي العاشق لنبدأ عنه من الأسبوع المقبل إن شاء الله في حديث جديد

ص: 53

‌الفلسفة الشرقية بحوث تحليلية

للدكتور محمد غلاب

أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين

- 29 -

الفلسفة الصينية

العصر المنهجي - كونفيشيوس

الأخلاق عنده

جزم اكثر المستصينين بأن غاية (كونفيشيوس) من فلسفته العملية كانت إصلاح الهيئة الاجتماعية في عصره، وإحداث تجديد أخلاقي وعمراني وسياسي في الدولة، ولكن العالم المحقق (زانكير) يرى أن هذا غير صحيح، ويصرح بأن حكيمنا لم تكن له غاية تحقيق الواجب في ذاته، وأن النظريات التي ترمي إلى المنفعة أو إلى السعادة أو التي تعلل الأمر والنهي الأخلاقيين بعلة خارجة عن الواجب لا أثر لها في مذهبه وهو في هذه الناحية يشبه (كانت) في رأي الأستاذ (زانكير) إذ كلاهما يأمران باتباع الواجب لذاته لا لشيء آخر، وهو يستدل على صحة رأيه بالنص الآتي من كلام (كونفيشيوس) في كتاب (لون - يو):(إن الحكيم يتعطش إلى الفضيلة، والرجل العامي يتحرق إلى اللذائذ المادية، وإن الحكيم يعنى بأن يلاحظ الواجب ويذعن له والرجل العامي لا يهتم إلا بأن يتصيد ما فيه من فوائد، وإن الحكيم لا يفهم في العموم إلا الواجب، أما العامي، فهو لا يفهم إلا منفعته)

لا ريب أن هذا النص يؤيد الأستاذ (زانكير) فيما ذهب إليه لأنه صريح في أن الحكيم لا يأبه إلا للواجب في ذاته، وأنه إذا حاد عن هذا الطريق فاكترث بأي شيء آخر كلذة أو منفعة هوى إلى صفوف العامة والجماهير، والآن وبعد أن أثبتنا أن (كونفيشيوس) كان في مقدمة القائلين بـ (الفيذاتية) المطلقة، نريد أن ندرس مذهبه الأخلاقي على ضوء نصوصه كما هي طريقتنا دائماً في هذه الدراسات.

قال (كونفيشيوس) في كتاب (تشونج - يونج) ما نصه: (إن الطبيعة هي الإرادة الإلهية

ص: 54

الخالدة، وإن الحياة بحرية أو اتباع الطبيعة هو واجب الإنسان أو (تاوو)، وإن معرفة الواجب هي الدين نفسه. إن الواجب هو ذلك الشيء الذي ليس بمسموح لأحد إبعاده لحظة واحدة، لأنه لو سمح بالبعد عنه لحظة لما اصبح هو الواجب، ولهذا يعنى الحكيم في شيء من الانتباه بما لا يرى في داخله ويخشى في شيء من القلق ما لا يسمعه بأذنه، ويجب ألا يعالج بالكشف ولإيضاح إلا ما هو مخفي في داخل نفسه، ويجب ألا يكون شيء أوضح لديه من أعمق طيات قلبه، ولأجل ذلك يلقي الحكيم بنفسه بين أعطاف هذه المعالجات التوضيحية كلما خلا بنفسه، وحينما تكون النفس غير مهتاجة بأحاسيس حب أو غضب أو حزن أو سرور يقال عنها أنها في حالة الاعتدال أو (تشونج)، وحينما تتولد هذه الأحاسيس في النفس دون أن تتجاوز الحد المعتدل، قيل عن هذه النفس: أنها في حالة الانسجام (تاوو) وإذاً، فالاعتدال هو الأصل، والانسجام هو القانون العام وحينما يلحق الاعتدال والانسجام غايتهما يسود النظام في السماء وعلى الأرض، وتنمو جميع الكائنات)

من هذه النصوص يتبين مذهب هذا الحكيم في لأخلاق جيداً، وتتضح فكرته عن الواجب والاعتدال والانسجام، ومن الجملة الأخيرة بنوع خاص نلمح مذهب (كانت) قبل وجوده بأكثر من أربعة وعشرين قرناً، وهو القائل بان الاعتدال هو أصل أساسي في النفس، وبأن الحيدة عن الصراط المستقيم طارئة على الإنسان بسبب أحاسيس الحب والبغض والغضب والرضى والسرور والحزن، وبأن الحرية الأخلاقية هي منشأ مسئولية، وبأن الانسجام ضرورة سماوية لبقاء العالم ونموه وسيره نحو الكمال وما أقوى الشبه بين نص (كونفيشيوس) القائل:(وحينما يلحق الاعتدال والانسجام غايتها يسود النظام في السماء وعلى الأرض، وتنمو جميع الكائنات) ونص (كانت) القائل: (إن كل ما لو عم لصلحت الأرض هوالخير، وكل ما لو عم لفسدت الأرض هو الشر)

بل ما أحكم الصلة بين نص (كونفيشيوس) القائل: (إن الاعتدال هو الأصل والانسجام هو القانون العام) وبين نص (كانت) القائل: (إن إرادة كل فرد عاقل معتدل هي المؤسسة للقانون العام)

يرى (كونفيشيوش) كما يرى (كانت) أن كل إنسان إذا حقق الانسجام الطبيعي وثبته في داخل نفسه كما شاءته الإرادة الالهية، فقد حقق الواجب، وهو يرى كذلك أن الحرية النفسية

ص: 55

يجب أن تسبق تأدية الواجب، وأن الإرادة البشرية ليست موفقة دائماً لتحقيق الواجب، وإنها تستطيع أن تبتعد عنه، ولكن ليس معنى هذا الابتعاد أن يتغير الواجب، كلا، بل هو كما تبعته الإرادة البشرية أو لم تتبعه، وهذا يدل - كما يرى الأستاذ (زانكير) - على أن قانون الأخلاق هو معتبر في ذاته أو هو مطلق عام لا شخصي مقيد، ولولا ذلك الإطلاق وهذه العمومية لما كان قانوناً أخلاقياً لكل أفراد الإنسانية، بل للسماء والأرض

وعنده أيضاً أن جميع أفراد بني الإنسان متساوون أمام هذا القانون الأخلاقي، وأنه في درجة من الوضوح لا تخفى على أي فرد، لأن العلم به فطري، وهو يرى لذلك أن الواجب لا غاية له إلا ذاته، وأنه إذا لوحظت في تأديته غاية أخرى من منفعة أو لذة أو أية غاية أخرى خرج عن كونه واجباً عاماً وأصبح غير صالح للجميع، لأن الناس يختلفون في غاياتهم الشخصية، فإذا أخضعنا الواجب لبعض تلك الغايات المتباينة لم يعترف به الآخرون الذين ليس لديهم مثل هذه الغايات، وبهذا يفقد كل شئ.

وعنده أيضاً كما عند (كانت) أن العمل إذا قصد به غير وجه الواجب سقطت قيمته الأخلاقية وأصبح نفعياً، وأن اتباع الإرادة للواجب يصيرها سامية فوق اعتبارت الحياة العامية، وإن الحكيم يشعر في داخل نفسه عند أداء الواجب بأقصى أنواع السعادة وهو في كل هذا يقول:(إن الإنسان ذا الأخلاق الكاملة (جين) هو الذي يقدم المتعب المضني على النافع اللذيذ ولا يلتفت عند أداء الواجب إلى ما يستفيده منه) ويقول أيضاً: (إن الإنسان بدون الأخلاق لا يستطيع أن يحتمل الفقر ولا الغنى وقتاً طويلاً. وإن الأخلاقي يجد في الأخلاق كل ترضية وإن الحكيم لا يصيره شرهاً نهماً إلا كنز الفضيلة)

لا ريب أن عدم احتمال الفقر عند غيبة الأخلاق أمر مفهوم لأن من تعوزه فضيلة الصبر يتعذب بمرارة الفقر، أما عدم احتمال الغنى في تلك الحالة فلعل الحكيم يقصد به أن الغنى في حالة فقد الفضيلة خطر لا يحتمله حتى صاحبه. بقي علينا الآن أن نشرح كلمة (جين) الواردة في هذا النص الذي أسلفناه لك كما فهمها المستصينون، ومعناها: الأخلاق، أو الواحد لأجل الجميع، أو الفرد للمجموعة.

وجه بعد ذلك سؤال إلى (كونفيشيوس) من معاصريه قالوا له فيه: كيف يتبع الإنسان الواجب دائما؟ وما هي الوسيلة العملية لتحقق هذا الواجب؟ وما هو ذلك الصوت الذي

ص: 56

تقول انه ينادي دائما بالإذعان للواجب؟ وأي ضمان يطمئن الإنسان على أنه سائر دائماً في طريق الواجب؟ فأجاب بقوله: إن الطريق العملي لتحقق الواجب هو الإذعان لهذا الصوت الداخلي، وإن الضمان المطمئن هو إدمان مراقبة النفس حتى يكشف جميع دواخلها، فإذا حصل للفرد هذا الكشف وصل إلى درجة الحكمة، لأن القلب حينما يقوده الهوى ينسحب إلى الشر دون أن يشعر فيصبح الإنسان يرى ولا يبصر ويسمع ولا يعقل. والعلة في هذا هي أن العواطف والأهواء تسود أعمالنا وتمنعنا من أن نحكم أحكاماً صحيحة على أنفسنا وعلى العالم الخارجي.

أحسب أن الباحث لا يجد عسراً في ربط هذا الجواب الأخير بقول حكيم اليونان الأول: (اعرف نفسك بنفسك) تلك الحكمة التي وجدها (سقراط) - فيما تقول الأساطير الإغريقية - مكتوبة بالذهب على عتبة معبد (دلفى) واستغلها فكان أساساً صالحاً لفلسفته وفلسفة تلميذه العظيم (أفلاطون) بل إنها ظلت تتغلغل ساطعة في غيابات المستقبل حتى كانت أحد أسباب جلال (ديكارت) وخلوده حيث صرح بعد اثنين وعشرين قرناً بقوله: (إني لما كشفت الأنا حملت مصباحه الذي على سناه كشفت كل اللاأنا)

على أن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل أن الأستاذ (زانكير) يرى أن فلاسفة اليونان الذين قالوا بمبدأ (اعرف نفسك بنفسك) لم يتنبهوا إلى العقبات التي تعترض سبيل الإنسان عندما يحاول هذه المعرفة، وهو يصرح بأن (كونفيشيوس) إن لم يزد على أولئك الفلاسفة في هذه النقطة فهو من غير شك يساويهم فيها. وبناء على ذلك، فالقائلون بأن (كونفيشيوس) حتى لو كان قد تنبه إلى معرفة النفس بالنفس فإنه قصر في معالجة العقبات الناشئة من هذه المحاولة هم على خطا في هذا الرأي، لأن تلك العقبات لم يعرض لها إلا علماء النفس في العصور الحديثة. وإذن، ففلاسفة الإغريق وحكيم الصين في هذا الموقف متساوون

يختلف (كونفيشيوس) مع (لاهو - تسيه) في وسيلة الوصول إلى الكمال الخلقي، فأما (لاهو - تسيه) فهو يرى أن التأمل النفساني كافٍ لوصول الإنسان إلى الكمال أو إلى تحقيق الانسجام المطلق في جميع حركاته. والانسجام عنده هو المسمى بالسكون الطبيعي الذي لا ينقصنا إلا حينما ننشغل بالظواهر، ومتى فصمنا عرى صلاتنا بها عاد إلينا. أما (كونفيشيوس) فيرى أن من المستحيل قطع صلاتنا بالظواهر الخارجية وإن كل محاولة في

ص: 57

هذا السبيل فاشلة، وإن الإنسان لا يصل أبداً إلى الانسجام المطلق في جميع حركاته وإنما يصل إلى انسجام نسبي يقترب من الإطلاق بعض الشيء، وإن التأمل وحده ليس كافياً، وإنما يجب أن تضم إليه الثقافات والمعارف الخارجية، بل أن الثقافة هي الجوهر الأساسي للوصول إلى المعرفة والفضيلة الكاملتين، وهو لهذا يقول:(إن الشغوف بالدراسة يمنح الفضيلة الحكمة، وإن من يقوم بمجهود يمنح فضيلة حب الإنسانية، وإن الذي يحمر وجهه خجلاً من أنانيته يمنح فضيلة القوة) وهذه الفضائل الثلاث هي عنده الواجب أو ضروريات الكمال. وهو يرى أن الدراسة المحققة للثقافة والفضيلة يجب أن تتناول حقائق الأشياء: معنوياتها ومحساتها تناولاً دقيقاً مؤسساً على النقد الذي لا يعرف هوادة ولا ليناً، ولا يخضع لرحمة ولا عاطفة ولا هوى، فإذا نبت الدراسة عن هذه العوائق أنتجت أسمى النتائج وأرقاها. وفي هذا يقول:(حينما تدرس طبيعة الأشياء عن قرب وبانتباه تصل المعرفة إلى أعلى آواجها. وحينما تبلغ المعرفة أقصى آواجها تصبح الإرادة كاملة، وحينما تصبح الإرادة كاملة تصير حركات القلب منظمة متفقة مع القانون. وحينما تصبح حركات القلب منظمة يتخلص الإنسان من الآثام. وبعد أن يتخلص الفرد من الآثام يشرع في توطيد دعائم النظام والانسجام في الأسرة. وإذا ساد الانسجام في الأسر بلغ الحكم في المدينة درجة الكمال، وإذا بلغ الحكم في المدينة حد الكمال استمتعت الإمبراطورية بالسلام التام)

أحسب انه بعد كل الذي قدمناه من آراء هذا الحكيم القيمة وبعد هذه الموازنة التي أسلفناها بينه وبين أولئك الفلاسفة القدماء والمحدثين لا معنى لأن يغمطه بعض الباحثين الغربيين حقه فيرموه تارة بأنه ليس فيلسوفاً، وأخرى بأنه عملي أو نفعي. وأحسب كذلك أنه لا ينبغي أن نتأثر في حكمنا على هذا الفيلسوف بذلك التشويه الذي أصاب مذهبه بعد عصره، بل يجب علينا أن نضع نصب أعيننا ذلك السمو الفلسفي، والنبل الأخلاقي اللذين تفيض بهما مؤلفات (كونفيشيوس) وأن نذكر دائماً أنه وضع للمتفلسف ثلاثة شروط أساسية، الأول الإخلاص الكامل في كل ما يخطوه من خطوات علمية أو عملية. الثاني البدء بدراسة (الأنا) ليتوصل به إلى كشف كل (اللاأنا). الثالث الدراسة النقدية العميقة لجميع الأشياء الخارجية. فإذا لاحظنا كل هذا جزمنا بأن كل من لا يسمو بهذا الفيلسوف إلى الصف الأول من صفوف مفكري الإنسانية كان غير موفق في دراسته وحكمه.

ص: 58

(يتبع)

محمد غلاب

ص: 59

‌رسالة الشعر

الليل. . . .

للأديب محمود السيد شعبان

أَسْبِلْ على الدُّنيا سُتُورَ الكَرَى

وَلُفَّها يا ليلُ في ضُلْمَتِكْ!!

الصَّمْتُ في وادِيكَ حَيٌّ يُرى!

والوَحْدَةُ الَخرْساَءُ في عُزْلَتِكْ!

والموْتُ في نادِيكَ يَرْعَى البَشَرْ

يا مَوْطِنَ الُهلْكِ وَمثْوَى النَّهَمْ!

وفيِ دياَجِيكَ يَطِيِشُ القَدَرْ

وَيفْتِكُ الَهمُّ ويَطْغَى السَّأَمْ!

أأنْتَ مَعْنىً مِنْ معَانِى الرَّدىَ

أَمْ أَنْتَ طَيْفٌ مِنْ طُيُوفِ الملَلْ؟

قدْ ضاَعَ في وَادِيكَ عُمْرِي سُدَى

وماَ جَنَتْ كَفَّاىَ إِلاَّ العِلَلْ!

يا مَوْطِنَ الأَشْباَحَ يا اُبنَ العَدَمْ

ماَ أَناَ مَنْ يخشاكَ أَوْ يَرْهَبُكْ!

وفي فُؤَادِي غَيْهَبٌ مِنْ أَلَمْ

يَرْوِى دُجاَهُ بالأَسَى غَيْهَبكْ!

أَطَلْتُ يا لْيلُ إِلَيْكَ النَّظَرْ

فماَ رَأَتْ عَيْناَىَ شَيْئاً يُرَى!!

ياَ وَيلَتاَ لِي كيْفَ أَهْوى السَّهَرْ

وكلُّ مَنْ فِي الارْضِ يَهْوَى الْكَرَى؟

نَمْ يا فُؤَادِي كلُّ شَيْءٍ هُناَ

أَغْفَى عَلَى أُمْنِيَّةٍ تُرْتَجَى!!

وَهَدْهَدَتْهُ بِاسَماتُ الْمنُى

في هَدْأَةِ الَّليْلِ وَصَمْتِ الدُّجَى!

لَمْ تُبْقِ لي الأيَّامُ مِنْ مَأْمَلِ

في حاضِرِي أَرْجُوهُ أَوْفي غدِى!

قدْ غَاضَتِ اْلآماَلُ مِنْ جَدْوَلِي

وقدْ نَفَضْتُ الآنَ مِنْها يَدِى!

مالي ولْلأَغْلَاسِ تُعْيىِ الْبَصَرْ

ولَيْسَ لي في الليْل إِلْفٌ يُرى!

يا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ جفَاَنِي الْبَشَرْ

أَمْ أَنَّنِي وحْدِي جَفَوْتُ الْوَرَى؟

يا نَجْمُ ماذَا في الدُّجَى أَعْجَبَكْ

الَّلْيلُ يا نجمُ عُباَبُ القَدَرْ؟!

أَأَنْتَ يا نجمُ تُحِبُّ الْحَلكْ

أمْ أنْتَ مِثْلِي مُولَعٌ بالسَّهَرْ؟

يا ساَهِداً لَمْ يَدْرِ مَعْنَى الْكَرَى

كُنْ مُؤْنِسِي إِنِّي وَحِيِدٌ هُناَ!!

أَماَ تَرَانِيِ قَدْ هَجَرْتُ الوَرَى؟

فَلَيْتَنِي أَسْطِيعُ هَجْرَ الدُّناَ!

أَلِيَّةً يا نَجْمُ قُلْ لِلسَّحَرْ:

تعالَ إِنِّي قَدْ سَئِمْتُ الْغَلَسْ!!

ما في الدُّجَىِ مِنْ مُتْعَةٍ لِلْبَصَرْ

ولَيْسَ في وَادِيهِ إِلاَّ الَخرَسْ!!

ص: 60

يا رَاقِداً حَفَّتْ بِهِ العاَفِيَهْ

ودَاعَبَتْ أَجْفاَنَهُ الَحالِمَهْ!

أَلَمْ تُثِرْ أَشْجاَنِىَ الباكِيَهْ

لَفْحَ الأَسَى في نفسِكَ النَّاعِمَهْ؟!

عَلَى سَرِيِرِ الوَرْدِ نَمْ إِنَّنِي

على سَرِيِرِ الشَّوْكِ أَسْتَشْهِدُ!!

أُرِيدُ أَنْ أبْكي فَلا تَلْحَنِي

لَعَلَّ هَذَا الدَّمْعَ لِي يُسْعِدُ!!

نَمْ يا حَبيِبي لَا يَرُعْكَ الأَسَى

ماَ أَناَ في الظَّلْماَءِ إِلاَّ شَبَحْ!!

أَو ْزَوْرَقٌ في بَحْرِهِ ماَرَساَ!

أو تاَئِهٌ عَنْ دَارِهِ قَدْ نَزَحْ!

نَمْ يا حَبيِبي ناَعماً لا تَخَفْ!

مِنْ عاَبِرٍ أَضْناَهُ طُولُ السُّرى!

وَهَبْ لِرُوحِي قُبْلَةً مِنْ تَرَفْ

لَعَلَّ عَيْنِي تَسْتَطِيِبُ الكَرى!

يا لَيْلُ مالِي مِنْ حَبِيبٍ َفلَا

تَسْأَلْ فُؤَادِي: فِيِمَ ذِكْرُ القُبَلْ!؟

هَذَا خَياَلٌ زَائِفٌ ماَسَلا

عَنْ ذِكْرِهِ قَلْبٌ يُحِبُّ الْغَزَلْ!

يا وَهْمُ ما أَحْلَاكَ مَوِّهْ مَعِي

عَيْشِي بأَطْياَفِ الرُّؤَى اِلخادِعَهْ!

وَاُسْكُبْ لُحُونَ البِشْرِ في مِسْمَعِي

وَاُمْلأْ حيِاتِي بالمُنَى الرَّائِعَهْ!

يا وَيْحَ قلبي ماَتَ فِيهِ الَهوَى

وماَ تَبَقَّى مِنْهُ غيْر الَخبَلْ!!

وَكانَ ماَ كانَ فلَمَّا انْطَوى

مَضَى الرِّضى عنْهُ وغاَضَ الجذَلْ!

وهاَمَ في الظلمة بِى يَسْأَلُ:

أََيْنَ الَهوى يا لَيْلُ أيْنَ المرَحْ؟!

يا قلبُ لا تَسْأَلْهُ ماَ يَجْهَلُ!

وَدَعْ لِمَنْ ضَلَّ الأَسَى والترَحْ!

يا لْيلُ دَعْنِي قدْ دَهاَني القَلَقْ!

وَحَطَّمَتْنِى عادِياَتُ القَدَرْ!!

وَارْحَلْ فقد يَذْهَبُ عنِّي الأَرَقْ

إِنْ اُنْتَشَتْ رُوحِي بِعِطْرِ السَّحَرْ!

قدْ أَقْبَلَ الفجرُ فلَا تَيْأَسِي!

ما ضاَعَ يا نَفْسِي اصْطِباَرٌ سُدَى!

وأَغْمِضِي جَفْنَيْكِ ثُمَّ اْنَعسِي!

ولَا تَخَافي إِنْ أَتاَكِ الرَّدَى!!

(الإسكندرية)

محمود السيد شعبان

على زهرة ذاوية

للسيد جورج سلستي

ص: 61

عَبَثَتْ برونقِها يدُ الدهرِ

وبدا البِلى بعروقِهِا يَسريِ

وتناثرتْ اوراقُها - وَثَوَتْ

فوق الثرى - كتنُاثرِ الدرِ

لهفي على حسنٍ تصحّوهُ

أيدي العفاءِ وسطوة الغدرِ

كانتْ تَزيُنُ الرَوضَ روعتُها

وتضمِّخُ الأرجاَء بالعطرِ

كانت وكان الفجرُ يعبدها

بين الرياض ولم تكنْ تدري

جاسَ الغرامُ فؤاده وكوى

منه الضلوعَ بلمسهِ السحري

فبدا له، فأراقَ مهجتهَ

فيها، فكانتْ ديمة القطر

ليس الندى إلاّ دماه، ألا

لله من فعل الهوى العذري

يا زهرة روَّيتُها بدمي

وسقيتُها بمدامعي الحمرِ!

نامي بحضنِ الأرضِ هانئةً

إنَّ الردى خيرٌ من العمر!

إنَّ الحياةَ لمَرَّةٌ أبداً

ملأى من الآثام والشرِّ!

أسقتنيَ الأيامُ من مَدَرٍ

وغذتنيَ الأقدارُ بالمرِّ

صافَ الهنا عنِّي، وقد نَفَرتْ

مني السعادةُ كالظِبا الُعفْرِ

قد كان لي يا زهرتي أَملٌ

لكنما اودى به دهري

وحبيبةٌ كالصبح طلعتُها

غَدَرَتْ كأنَّ الحسنَ بالغدرِ

يا زهرتي، يأتي الربيعُ غدا

وينمِّق الجنّاتِ بالزهرِ

ناميِ بحضنِ الأرضِ حالمةً

بمجيئهِ، وببسمةِ الفجرِ

لكنّ آمالي وقد غَربتْ

ليست تعودُ؛ غلبتُ في أمري

لك في مماتكِ عودةٌ وأنا

بعد المماتِ أظَلُّ في قبري!

(بيروت)

جورج سلستي

ص: 62

‌الأسرار

للأستاذ إيليا أبو ماضي

يا ليتني لص لأسرق في الضحى

سرّ اللطافة في النسيم الساري

وأجس مؤتلق الجمال بأصبعي

في زرقة الأفق الجميل العاري

ويبين لي كنه المهابة في الربى

والسر في جذل الغدير الجاري

والسحر في الانغام والالوان وال

أنداء والأشذاء والأزهار

وبشاشة الموج الخصيب ووحشة ال

وادي الكئيب وصولة التيار

وإذا الدجى ارخى عليَّ سدوله

أدركت ما في الليل من أسرار

فلكم نظرت إلى الجمال فخلته

ادنى إلى بصري من الأشفار

فطلبت وإذا المغالق دونه

وإذا هنالك ألف ألف ستار

باد ويعجز خاطري إدراكه

وافِتنْنَي بالظاهر المتواري!

إيليا أبو ماضي

ص: 63

‌رسالة العلم

الزنك كعنصر أساسي لنمو النبات

للأستاذ عبد الحليم منتصر

تتمة

بينا في المقال السابق الأعراض التي تبدو على النبات المحروم من عنصر الزنك من بين ألوان غذائه، وأتينا على طرائق علاج هذه الحالات المرضية التي تعتريه بإعطائه حاجتهمن هذا العنصر، ووعدنا بتفصيل العلاقة بين طبيعة التربة وصفاتها الكيميائية وبين سير هذا المرض وتأثر النبات به ودرجة احتماله إياه ومقاومته له. فقد ثبت من التحاليل الكيميائية الدقيقة التي أجراها (هبرر) و (إلين) و (بوجز) أن النبات لا يستخلص كل الزنك الذي بالتربة ولكن لسبب ما - لعله الحموضة أو القلوية الموجودة أكثر من اللازم - يجعل التربة تحبس زنكها عن النبات، فإذا كانت قلوية كان السبب عدم ذوبان مركبات الزنك في هذا المحلول القلوي. وإذا كانت حامضة كان السبب عدم سهولة الاحتفاظ بالزنك في المحلول بالتربة، ويكون آنئذ سريع الانتشار. فمن ذلك نرى أن هناك علاقة بين ظهور أعراض المرض وبين درجة الحموضة أو القلوية للتربة، بمعنى أن المرض يظهر ويشتد في درجة حموضة أو قلوية خاصة، على حين لا تبدو آثاره في درجة أخرى. فقد وجد أنه إذا كانت درجة القلوية من 7 إلى 7. 3 تكون أعراض المرض شديدة جداً، بل يندر أن ينجو من خطره أقوى أنواع النبات احتمالاً، لأن درجة احتفاظ التربة بالزنك في هذه الحالة تكون ضعيفة مسرفة في الضعف. أما إذا كانت هذه الدرجة من 8 إلى 9 في ارض طينية فانه يندر أن تتأثر الأشجار كثيراً بنقص الزنك لان مثل هذه التربة تحتفظ بالزنك إلى درجة كبيرة، وهي في الوقت نفسه لا تحبسه عن النبات

ومن العوامل الطبيعية التي تؤثر في سير المرض حرارة الجو وكمية الضوء، فهو في الشتاء حين الحرارة منخفضة وكمية الضوء قليلة ضعيف الانتشار؛ وعلى نقيض ذلكتكون الحال في الصيف.

وهناك من الحقائق ما يثبت أن في التربة المصاب نباتها من العوامل ما يمنع الجذر من

ص: 64

امتصاص الزنك، أو المساهمة في نقله إلى قمم الأشجار أو سائر أعضاء النبات. وقد وجد في بعض الأشجار التي تعاقبت على إصابتها السنون دون علاج أن كثيراً من أجزاء الجذر قد ماتت فعلاً. والمرجح أن عنصر البوتاسيوم لا يلبث أن يخرج من قلف الجذر في النبات المصاب، فقد ثبت أن ما به منه لا يتجاوز 10 إلى 25 % من البوتاسيوم الموجود بقلف الساق أو بقلف جذر نبات سليم أو معالج بالزنك. وبما أن الزنك يتحد بمركبات عضوية، ويكون أحد مقوماتها غير العضوية، فربما كان خروج البوتاسيوم يساعد على استمساك الجذور بزنكها واحتفاظها به، فلا يتصاعد إلى القمم. وكانت نتيجة التحاليل الكثيرة التي أجريت إثبات تجمع الزنك بالجذر في بعض الحالات

على أن الواقع أن معالجة الأشجار بالرش، أو بإيلاج قطع الزنك في الفروع دون التعرض للتربة، من شأنه أن يشفى النبات ويجعله في حالة جيدة، مما يدل على أن الجذر برغم عدم جعل العلاج عن طريقه مباشرة، يقوم بوظيفته الطبيعية في سهولة ويسر

ومن الإحصاءات البديعة ما قدمه (باركر) عندما قارن بين الأشجار المعالجة برش الزنك وتلك التي لم تحظ بهذا العلاج، إذ وجد أن الشجرة المعالجة قد أعطت 477 رطلاً من الثمار على حين كان ما أنتجته الثانية لا يزيد على 56 رطلاً فقط؛ وذلك فضلاً عن أن ثمار الأولى أكبر حجماً وأجمل منظراً، وهي بالتالي أسرع نفاذاً في السوق، لكثرة الإقبال عليها من المستهلك. كذلك وجد (باركر) في حالة البرتقال (أبو سرة) أن محصوله قد تضاعف فاصبح ستة أمثاله قبل العلاج

وقد بينا أنه في حالة وضع قطع من الزنك في الفرع تظهر آثار العلاج في الجزء من قمة الفرع إلى مكان الزنك فيه، نمواً وإزهاراً وإثماراً على حين يكون الجزء الأسفل ما يزال يعاني آثار المرض، وإن ثبت أن بعض التحسن يبدو عليه بعد ذلك كنتيجة لاطراد التقدم سنة بعد أخرى، وذلك من آثار الصحة والنشاط التي ستتبدى في الأوراق بعد العلاج، فيعم خيرها على النبات كله بالتدريج.

وقد أوضح بعض الباحثين منهم (آرك) و (هجلاند) الأثر الذي تنتجه الكائنات الدقيقة التي توجد بالتربة في ظهور هذا المرض أو اشتداد آثاره، تلك التي كانت نتيجة إبادتها بالفورمالين أو الحرارة أو الأثير زوال الأعراض السالفة أو تخفيف بعض آثارها مما يدل

ص: 65

على أن لهذه الكائنات فعلاً في إظهار المرض وسيره. ولكن الواقع أن معالجة التربة بهذه الطرائق أي المطهرات أو الحرارة غير متيسرة إلا في الصُّوَب (بيوت زجاجية لتربية النبات) ولذلك فهي غير مجدية في الحقول أو الحدائق. أما إضافة الزنك إلى التربة فأنها أكيدة النفع محققة الغرض

على أننا نتساءل الآن: ماذا عسى أن يكون هذا الدور الذي يلعبه الزنك في النبات؟ فالمعروف أن لكل عنصر يدخل النبات دوراً يقوم به في تغذيته وتركيبه، أو في العمليات الفسلجية التي تجري به. ولما كانت نسبة الزنك في النبات ضعيفة جداً خصوصاً إذا قورنت بأي عنصر من العناصر الأخرى، فهي لا تكاد توازي جزءاً واحداً لكل ألفين أو ثلاثة آلاف جزء من الأزوت مثلاً. بيد أن نقص الزنك أنتج مرض حرمانه كما رأينا من الآثار السيئة الشديدة التي تصيب النبات من هذا الحرمان. وذلك رغماً من أن الزنك لا يدخل دائماً في تركيب البروتبلازم أو مركباته، كما هي الحال مع الفسفور أو الكبريت أو الأزوت. والمعتقد أن للزنك دوراً هاماً يقوم به في بعض العمليات الفسلجية بالنبات، وخاصة عمليات التأكسد التي لولاها لتكونت مواد ثانوية ضارة هي التي تؤخر النمو وتكون السبب في ظهور البقع والأوراق الصغيرة المحمرة وغيرها من الأعراض؛ كما أن له أثراً آخر قد لا يقل عن سالفه، وهو أن مركب الزنك يعتبر عاملاً مساعداً يسرع بالعمليات الكيميائية وخاصة ما يتصل منها بالمواد الكربوايدراتية. ودليلنا على ذلك شدة الأعراض في الصيف إذ يكون اليوم طويلاً فتتجمع المواد النشوية كذلك في حالة الأشجار التي تتساقط أوراقها شتاء؛ فهذه الأعراض تبدو قوية الأثر آنئذ بسبب تراكم المواد النشوية فتتحسن حالته في أوائل الربيع، وذلك عندما يأخذ النبات أهبته ويستأنف نشاطه، فيستغل ما تجمع فيه من مواد لنموه. وقد ظهر من المشاهدات والبحوث العديدة التي أجريت في هذا الصدد أن عنصراً غير الزنك لا يستطيع أن ينتج نفس الأثر أو يمنع عوارض المرض، فقد استعملت مركبات الكوميوم والزئبق والفضة والنيكل والكروم والبورق والتيتانوم فكانت النتائج سلبية. وكذلك الحال باستعمال مركبات الصفيح والزركونيوم والتنجستن والموليبدنوم.

من هذه الحقائق مجتمعة، يصح لنا أن نعتقد أن الزنك عنصر أساسي للنبات، سواء منه

ص: 66

الفطريات أو النباتات الراقية. وإن من المناسب إضافته إلى ثبت العناصر الأساسية الهامة التي تلزم لكي يحيا النبات حياة طبيعية هادئة، وحتى تستقيم له أسباب نموه وإراقه وإزهاره.

ولعل الصعوبة التي كانت تحول دون هذا الاعتبار إنما ترجع إلى الحقيقة الواقعة من أن كمية ضئيلة منه تكفي، ثم أنه من السهل وجود مثل هذه الكمية في المركبات الكيميائية المختلفة التي توجد بالتربة أو التي تضاف إليها، وذلك لان مركباته ذائعة الانتشار جداً مع المركبات الأخرى عندما تكون غير نقية، أو غير تامة النقاء. ولقد رأينا كيف أن عدم وجود الزنك بين عناصر الغذاء يسبب مرض الحرمان الذي أشرنا إليه في هذا الحديث، وأن علاجه يكون بالإضافة إلى التربة، أو في ثقوب بالجذع والفروع، أو بدق مسامير مطلية بالزنك، أو برش مركبات الزنك على الأوراق والفروع. أما المقدار الذي يضاف إلى التربة فإنه يختلف تبعاً لطبيعة التربة والنبات والكائنات المجهرية التي بالتربة. كما أن المرجح حتى الآن أن الدور الذي يقوم به الزنك في العمليات التي تجري بالنبات هو دور العامل المساعد في بعض التفاعلات التي تتصل بتمثيل المواد الكربوايدراتية.

عبد الحليم منتصر

ماجستير في العلوم

ص: 67

‌القصص

من روائع القصص الواقعي الإسلامي

عمار بن ياسر

لأستاذ دريني خشبة

(يا ابن سمية، لا يقتلك أصحابي، ولكن تقتلك الفئة الباغية!)

(حديث شريف)

- 1 -

(عير من اليمن)

الحارث - ولم لا تعود معنا يا أخانا إلى اليمن؟

ياسر - اليمن وطني، ولكني والله أشم ريحاً بمكة لا تهب إلا من السماء؛ وإن قلبي ليهفو إلى مسراها. فاذهبا أنتما حتى يأذن الله!

مالك - يا أخانا، أنأتي إلى الحجاز لنعود أربعة إن وجدنا أخانا الضائع، فلا نعود إلا اثنين؟ أي ريح هذه التي تهب من السماء وإنك لتهفوا إلى مسراها؟

ياسر - والله يا ابن أم ما أدري. وما أكاد أنصح لكما ألاّ تعودا أدراجكما حتى ننشقها جميعاً. . .

مالك - بل تبقى أنت ونرتحل نحن غداة غد. . .

ياسر - ومع ذاك فلا أحب إليّ من أن تبقيا!

الحارث - بل تبقى أنت ونرحل نحن

- 2 -

(في مضارب بني مخزوم)

ياسر لأعرابي - عم صباحاً يا أخا العرب

الأعرابي - عم صباحاً! من أنت؟ ومن أي البطون أقبلت؟

ياسر - أنا رجل يمني أقبلت في عير معي أخوي لنبحث عن أخ لنا رابع أبق

ص: 68

الأعرابي - ما عن ذاك سألت!

ياسر - بلى، وأريد أن أحالف سيد هذه العشيرة. فمضارب من هيه؟

الأعرابي - مضارب سيد العرب أبي حذيفة بن المغيرة ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم وإنه لقادم فألقه إن شئت!

(يقبل أبو حذيفة)

أبو حذيفة - ممن الرجل وماذا يبغي؟

ياسر - يمني يعربي قحطاني يبغي أن يحالف سيد العرب فيخلص له!

أبو حذيفة - على عهد بعل وهبل!

ياسر -. . .!. . .

أبو حذيفة ينادي: يا كعب. . . يا كعب. . . خذ الرجل فاعهد إليه بالإبل!

- 3 -

أبو حذيفة - وحق بعل وهبل يا ياسر إنك للمخلص الأمين وإني مزوجك أمتي الجميلة العاقلة سمية هذه

ياسر -. . . الحمد لله!

أبو خذيفة - بل لهبل!

ياسر - الحمد لله لي ولك يا سيدي على ما رزقني

أبو حذيفة - إحمد هبلاً وإحمد بعلاً يا ياسر، فإنهما الإلهان!

- 4 -

(في مقابر بني مخزوم)

ياسر - لفي هذا الثرى ترقد يا أبا حذيفة! أما والله انه لا بعل نفعك ولا هبل. . . أما والله لقد عجل بك الموت عن الطريق السوي. . .

عمار - ماذا تقول يا أبتاه! ما الطريق السوي؟. . .

ياسر - والله يا بني إنا لفي زمان أظلنا فيه فيء نبي، وإني لأجد شميمه، وإني والله تخلفت عن أعمامك فلم أضرب بطون المطي إلى اليمن من اجل هذا لأن اليهود تقول أنه من

ص: 69

قريش

عبد الله - وما بكاؤك هذا كله على أبي حذيفة؟

ياسر - أكرم مثواي وزوجني سمية أمكما فرزقتكما منها يا بني؛ وقد أعتقني فما رضيت أن أفارقه. ولشد ما أخشى أن أهون بعده!

- 5 -

(بيت بالصفا بلحف أبي قبيس)

ياسر - اسمعي يا ابني ما أحلى ما يقرأ محمد والمسلمون معه!

عمار - وماذا يقرءون يا أبي؟

ياسر - يقرءون ما يقضي إلى محمد وحيه من الله. لله ما أحلى ولله ما أعلى!

عبد الله - أليس هو من عند بعل يا أبتاه!

ياسر - بعل حجر لا ينطق وهم خلقوه. ولله لقد حام حين بعل!

عمار - ولم لا ندخل فنقرأ معهم يا أبي؟

ياسر - والله إني لهذا جئت إلى الصفا يا بني ووالله إني لأجد الريح التي تنشقتها مذ قدمت من اليمن. ومن اجلها استأنيت الحجاز وخالفت أخوي!

عمار - إذن نطرق الباب لنكون من السابقين!

ياسر - والله لنكونن منهم بإذن الله. . اطرق يا بني فلقد شرح الله صدورنا لهذا الأمر

(عمار يطرق الباب)

صوت الداخل - (من؟

عمار - مؤمنون بمحمد يريدون رسول الله!

الصوت - حباً حباً إخواننا في الله!

ياسر - يدك يا رسول الله. أشهد وبنيَّ أنه لا إله إلا الله وإنك رسول الله

(يمد له الرسول يمينه فيبايعونه)

ياسر - انطلق يا عمار فآت بسمية تشهد معنا وتغنم هذا الخير، إن ههنا مؤمنات مسلمات خابتات خاشعات!

- 6 -

ص: 70

(رمضاء مكة وقت الظهيرة)

(يقدم بنو مخزوم ومعهم عمار وأبوه ياسر وأمه سمية)

أحدهم لياسر - نم يا صاحب محمد! ذق عذاب السعير الذي ينذرنا به نبيك!

(ويضربه ويضع الحجارة على صدره)

أحدهم لعمار - وأنت يا ابن الأمة! قل كفرت برب محمد! قل! اخلع هذه الثياب فلنفصلن لك ثياباً من رمضاء مكة تكويك وتشويك

(ينزع عنه الثياب ويقيده ويحثو التراب على رأسه)

أترى إلى هذا الجعل؟ قل هو ربي! قل هو خير من إله محمد! قل آمنت ببعل وود ويغوث ويعوق وهبل، وكفرت بإله محمد!

عمار - بل الله الله! الله ربى وبعل حجر أنتم خلقتموه!

(الكافر يركله ويحمي حديداً في نار موقدة ويكويه به)

الكافر المخزومي - قل كفرت بإله محمد أو أسمل عينيك

عمار - اقض ما أنت قاض. إنما تقضي هذه الحياة الدنيا!

الكافر - انظر إلى أبيك وأمك كيف يتعذبان! ألا تستر أمك فتكفر بمحمد وإله محمد يا ابن الأمة!

عمار - بل يصبران لبلاء الله كما اصبر. . . الله. الله. الله!

أحدهم لسمية وهو يعذبها - انظري يا أمة بعل، هذا زوجك وهذا ولدك، إلا تكفرين بإله محمد فنرسلك ونرسلهما؟

سمية - وكيف وقد هداني الله؟ لعذابكما أهون من حر جهنم. بل ربي الله لا اعبد إلا إياه. . .

الكافر المخزومي - وولدك هذا الذي يكوى بالنار؟

سمية - يصبر اليوم خير من ألا يصبر غدا!

الكافر المخزومي - ولن أدعك حتى تكفري بمحمد

(يضربها على يافوخها فتحتضر)

سمية - بل ربي الله! آمنت بالله وبرسوله

ص: 71

(يمر رسول الله فيرى ما يقع بآل ياسر)

رسول الله - (صبراً آل ياسر! موعدكم الجنة. صبراً آل ياسر! موعدكم الجنة)

آل ياسر - لقد بعنا لك أنفسنا يا رسول الله فانظر ما يفعل السفهاء بنا

سمية - صوت من؟ الرسول الكريم! محمد! آمنت بك يا محمد! آمنت بك يا محمد! اشهد يا محمد ما يصنع بنا بنو مخزوم. . .

الكافر المخزومي - تعال يا محمد فخلص عبيدك!

(ويضربها الكافر بحجر كبير على رأسها فتموت ويستعبر النبي)

الرسول الكريم - يا رب. يا رب. يا رب!

أبو جهل (يحضر فيشهد فيقول لياسر) - يا فاجر تكفر بأربابك وأرباب آبائك؟ ها هو ذا محمد أدعه يمنعك!

(يمضي أبو جهل فيحثو التراب على رأس الرسول ويعود)

أرأيت ها هو ذا محمد! تركت دين أبيك يا ياسر وهو خير منك. لنسفهن حلمك ولنفيلن رأيك!

(يضربه ويمضي)

أبو سلمة المخزومي - يا لقومي! أتقتلون أناساً أن يقولوا ربنا الله!

أبو جهل - اسكت يا أبا سلمة أو لنرجمنك ونضعن شرفك!

- 7 -

(النبي والصحابة يبنون مسجد المدينة)

مدني لأنصاري - من أخوكم هذا الرجل الآدم الطوال المضطرب الأشهل الذي يحمل لبنتين ولا يحمل أيهم إلا لبنة واحدة؟

الأنصاري - ألا تعرف من هذا؟ إنه حبيب نبينا الرجل المؤمن الذي ما تعذب أحد من المسلمين كما تعذب. . . هذا عمار بن ياسر. . .

المدني - ومن هذا الرجل النظيف المتنظف يحمل اللبنة ويجافي بها عن ثوبه، فإذا وضعها نفض كفيه ونظر إلى ثوبه، فإذا أصابه شئ من التراب نفضه؟

الأنصاري - هذا الرجل الصادق عثمان بن عفان

ص: 72

(علي بن أبي طالب يرى ما نصنع عثمان فينشد)

علي بن أبي طالب:

لا يستوي من يعمر المساجدا

يدأب فيها راكعاً وساجداً

وقائماً طوراً وطوراً قاعداً

ومن يرى عن التراب حائداً!

(عمار يسمع علياً فيحفظ ما يقول وينشده فيسمعه عثمان)

عثمان - يا ابن سمية ما اعرفني بمن تعرض. لتكفن أو لأعترضن بهذه الجريدة وجهك

(النبي يسمع ما يقول عثمان)

عمار - جلدة ما بين عيني وأنفي، فمن بلغ ذلك منه فقد بلغ مني. . .

بعض المسلمون لعمار - إن رسول الله قد غضب فيك ونخاف أن ينزل فينا قرآن!

عمار - أنا أرضيه كما غضب!

(يقصد نحو النبي)

عمار - يا رسول الله مالي ولأصحابك؟

رسول الله - ومالك ولهم؟

عمار - يريدون قتلي. . . يحملون لبنة ويحملون عليّ لبنتين

(النبي ينفض عنه التراب بيديه الكريمتين ويطوف به)

النبي - ويح عمار! تقتله الفئة الباغية. . . يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار. . . للناس أجر ولك أجران، وآخر زادك من الدنيا شربة لبن

- 8 -

(سنة 37 هـ يوم صفين في الفتنة بين علي ومعاوية)

مجلس شورى

علي بن أبي طالب بعد خطباء - أيها الناس! أنه قد بلغ بكم وبعدوكم ما قد رأيتم، ولم يبق منهم إلا آخر نفس، وإن الأمور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأولها، وقد صبر لكم القوم على غير دين حتى بلغوا منكم ما بلغوا، وأنا غاد عليهم بنفسي بالغداة فأحاكمهم بسيفي هذا إلى الله!

(خطباء كثيرون يرون الحرب ويرى غيرهم الموادعة)

ص: 73

عمار بن ياسر - أما والله لقد أخرجها إليك معاوية بيضاء، من أقر بها هلك ومن أنكرها هلك. مالك يا أبا الحسن؟ أشككتنا في ديننا ورددتنا على أعقابنا بعد مائة ألف قتلوا منا ومنهم؟ أفلا كان هذا (الاحتكام إلى كتاب الله) قبل السيف وقبل طلحة والزبير وعائشة؟ قد دعوك إلى ذلك فأبيت، وزعمت أنك أولى بالحق، وأن من خالفنا منهم ضال حلال الدم، وقد حكم الله تعالى في هذا المال ما قد سمعت. . . فإن كان القوم كفاراً مشركين فليس لنا أن نرفع السيف عنهم حتى يفيئوا إلى أمر الله، وإن كانوا أهل فتنة فليس لنا أن نرفع السيف عنهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. والله ما اسلموا ولا أدوا الجزية ولا فاءوا إلى أمر الله ولا طفئت الفتنة. . .

علي - والله إني لهذا الأمر كاره!

- 9 -

(في حرب صفين)

عمار - أيها الناس! ائتوني بضباح من لبن في قدح أروح له حلقة حمراء (يشرب ويحمد الله ويقول:) إن رسول الله قال لي إن آخر شربة أشربها من الدنيا شربة لبن. . . اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن اقذف بنفسي في هذا البحر لفعلته. . . اللهم انك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أضع ظبة سيفي في صدري ثم أنحني عليها حتى تخرج من ظهري لفعلت. وإني لا أعلم اليوم عملاً هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم أن عملاً من الأعمال هو أرضى لك منه لفعلته. . .

(عمار يهتف بالمسلمين من أصحاب علي)

- ألا من يبتغي رضوان الله علية ولا يؤوب إلى مال ولا ولد. . .؟

- (يقصد إليه مسلمون كثيرون فيهتف بهم)

- أيها الناس! اقصدوا بنا نحو هؤلاء الذين يبغون دم عثمان ويزعمون انه قتل مظلوماً؛ والله ما طلبتهم بدمه، ولكن القوم ذاقوا الدنيا فأستحبوها واستمرءوها وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه من دنياهم. ولم يكن للقوم سابقة في الإسلام يستحقون بها طاعة الناس والولاية عليهم فخدعوا اتباعهم أن قالوا إمامنا قتل مظلوماً ليكونوا بذلك جبابرة ملوكا. . تلك مكيدة بلغوا بها ما ترون. . . ولولا هي ما تبعهم من

ص: 74

الناس رجلان. . . اللهم إن تنصرنا فطالما نصرت وإن تجعل لهم الأمر فادخر لهم بما أحدثوا في عبادك العذاب الأليم!

(ويمضي بمن معه من المحاربين)

عمار - يا عمرو بن العاص

عمرو - ما لك يا عمار؟

عمار - تباً لك بعت دينك بمصر! تباً لك تباً! طالما بغيت في الإسلام عوجاً. . . يا عبيد الله بن عمر بن الخطاب!

عبيد الله - ما لك يا عمار؟

عمار - بعت دينك من عدو الإسلام وابن عدوه؟

عبيد الله - لا، ولكن اطلب بدم عثمان

عمار - أشهد على علمي فيك انك لا تطلب بشيء من فعلك وجه الله عز وجل، وانك إن لم تقتل اليوم تمت غداً، فانظر إذا أعطى الناس على قدر نياتهم ما نيتك!. . . أما والله لقد قاتلت صاحب هذا الراية مع رسول الله ثلاثاً، وهذه الرابعة ما هي بأبر ولا اتقى

(عمار يهجم بمن معه ويقول لهاشم حامل الراية)

تقدم يا هاشم. . . . الجنة تحت ظلال السيوف، والموت في أطراف الأسل. وقد فتحت أبواب السماء وتزينت الحور العين؛ اليوم ألقى الأحبة محمداً وحزبه

(يهجم عليه أبو غادية المزني من أصحاب معاوية فيقتله)

أبو غادية - إليك أيها الرجل فأنا قاتله. . .

عقبة بن عامر - بل أنا صاحبه. إليك إليك. . . لي رأسه أحتزه بسيفي!

أبو غادية - فتذهب بها إلى معاوية!

(ويقبل معاوية ومعه عمرو بن العاص)

عمرو بن العاص - والله إن يختصمان إلا في النار!

(ينصرف الرجلان بعد تسليم الرأس)

معاوية - ما رأيت مثل ما صنعت! قوم بذلوا أنفسهم دوننا تقول لهما إنكما تختصمان في النار

ص: 75

عمرو - والله ذاك! والله إنك لتعلمه، ولوددت أني مت قبل هذا بعشرين سنة. . لقد أسلم قبلي وقبلك وأوذي ما لم نؤذ، وأحبه رسول الله، وحضر كل وقائع النبي. . . وقال الرسول تقتله الفئة الباغية!

معاوية - ويك يا عمرو! أنحن الذين قتلناه. . لقد قتله من أخرجه لهذا اليوم!

عليك السلام يا عمار. . . ليت قوماً غير المسلمين قتلوك!

دريني خشبة

ص: 76

‌البريد الأدبي

كتاب عن الصحاري المصرية

من الكتب التي استرعت الأنظار أخيرا في إنكلترا وأمريكا كتاب صدر عن الصحاري المصرية بقلم الماجور جارفيس بك عنوانه: (صحراوات ثلاث) وقد كان جارفيس بك مدى ثمانية عشر عاماً حاكماً إدارياً في الصحاري المصرية وكان إلى عامين حاكم محافظة سيناء، ثم أقيل من الخدمة فيمن أقيل من الموظفين الإنكليز، وعكف على إخراج كتابه. وقد درس جارفيس بك خلال خدمته الطويلة أحوال الصحاري المصرية من الوجهة الجغرافية والوجهة الاجتماعية، ودرس اللغة العربية ولهجات البدو دراسة حسنة، فكتابه ثمرة لدراسة مستفيضة. وهو يقص علينا تجاربه الأولى حينما أرسل إلى العامرية محافظاً للصحراء الغربية ليشرف على ضبط الأمن والنظام في منطقة صحراوية شاسعة يجهل خواصها وأحوال سكانها. ومن رأيه أنه خير لأهل هذه الواحات النائية أن يبقوا على حالهم من البداوة والتأخر؛ وهو أيضاً خير لحكامهم، وتزداد مهمة الحاكم صعوبة كلما تقدم هؤلاء البدو في المعرفة والتمدن. غير أنه قد أضحى من المستحيل اليوم أن تطبق هذه النظرية بعد أن تطورت طرق المواصلات السريعة، وانتشرت الطيارة والراديو، وخرجت الصحراء عن عزلتها القديمة، وأضحت ترتبط بالعالم المتمدن. وهنا ينظر جارفيس بك إلى مهمته نظرة استعمارية فيحمل على مواطنيه الذين يضطلعون بمثل مهمته، ويجهلون كيف تساس هذه المجتمعات المتأخرة، وكيف تحشد لواء المستعمر. على أن كتاب جارفيس بك يحتوي بالرغم من صبغته الاستعمارية على كثير من المعلومات القيمة، وقد زين بكثير من الخرائط والرسوم

شاعر إنكليزي كبير يحاضر بالقاهرة

دعت كلية الآداب بالجامعة المصرية الأستاذ لاسيل ابركرومبي الشاعر الإنكليزي الكبير ليلقي بالقاهرة بعض محاضرات عن الشعر الإنكليزي والشعراء الإنكليزية وستبدأ هذه المحاضرات اليوم 13 ديسمبر بمحاضرة عن الشاعر (بن جونسون) ثم تعقبها محاضرات أخرى

والأستاذ ابركرومبي من أعظم الشعراء والنقدة المعاصرين في الأدب الإنكليزي؛ ويعتبر

ص: 77

اليوم بعد وفاة توماس هادري وكبلنج ودرنكوانز عميد الشعر الإنكليزي. وهو عضو في الأكاديمية البريطانية؛ وقد شغل منصب الأستاذية في عدة من الجامعات الإنكليزية الكبيرة مثل جامعة ليدز وجامعة لندن، وموضوعه الشعر والشعراء. وهو يشغل اليوم في إنكلترا نفس المكانة التي يشغلها زميله وقرينه الشاعر بول فاليري في فرنسا

وسيكون ضمن محاضراته أحاديث عن التجديد في الشعر الغنائي والتجديد في فن الدرامة، وهما من الموضوعات التي اختص بدراستها وله فيها آراء جديرة بالتقدير.

رينه دوميك

نعت أنباء باريس الأخيرة الكاتب الفرنسي الكبير رينه دوميك سكرتير الأكاديمية الفرنسية. وكان دوميك مدى ثلث قرن في طليعة الكتاب والصحفيين البارزين؛ وقد بدأ حياته أستاذاً للأدب في كلية استانسلاس، ثم عالج الكتابة في الصحف فلم يلبث أن ظهر بصفاء أسلوبه وقوة نقدة. ولما تبوأ مركزه في الصحافة العالمية، اشتغل حيناً في جريدة (الديبا) ثم دعي إلى التحرير في مجلة العالمين الشهيرة وهنالك ظهر على صفحات هذه المجلة العظيمة إلى جانب زميله وصديقه الكاتب الكبير جول ليميتر. ولبث دوميك أعواما طويلة يعمل في أسرة مجلة العالمين، وكان لجهوده أثر بارز في تقدم هذه الصحيفة في العصر الأخير. واستقر المطاف بدوميك أخيراً في الأكاديمية الفرنسية حيث عين سكرتيراً دائماً لها. وهنالك بذل دوميك أيضاً جهوداً عظيمة في تنظيم الأعمال العلمية والاجتماعية. واشتهر دوميك بأسلوبه الذي يغلب عليه طابع الدقة والتحقيق. وله عدة مؤلفات أدبية ونقدية أشهرها كتابه في تاريخ الأدب الفرنسي.

كتاب جديد عن مكتشف أمريكا

صدر أخيراً بالفرنسية كتاب جديد عن كريستوف كولمبمكتشف أمريكا عنوانه (سر كريستوف كولمب) بقلم الكاتبين شارل دي جافري ورينه لي جانتي وفيه يحاول الكاتبان تمحيص جميع الأساطير التي ذاعت حول مولد كولمب وشخصيته وجنسيته؛ ودحض المطاعن والروايات القاذفة التي ثارت حول أعماله في أواخر حياته وقد أسبغت هذه الروايات على سيرة المكتشف وعلى خلاله كثيراً من الريب، وألقت على بطولته

ص: 78

حجاباً كثيفاً. ويعترف الكاتبان أن بحثهما النقدي المستفيض لم يبدد كل غموض في حياة المكتشف العظيم، بيد أنه يلقي عليها كثيراً من الضياء الجديد

وفاة أديب عراقي في القاهرة

توفي الأستاذ محمود السيد سكرتير مجلس النواب العراقي يوم الجمعة الماضي بمستشفى الروضة على أثر عملية جراحية خطيرة ظل ثلاثة أشهر يكابد غصصها بعيداً عن وطنه، غريباً عن أهله حتى قضى نحبه المحتوم بين عناية أطبائه وعطف أصدقائه وقد أوصى وهو في سياق الموت أن يدفن في القاهرة. والأستاذ الشاب محمود السيد كان من السابقين الأولين في ميدان الأقصوصة، وقد بدأ شوطه فيها بداية حسنة، وهو وتيمور وصاحب الحاصد البغدادية طلائع النهضة القصصية في العالم العربي. رحمه الله رحمة واسعة وعزى فيه الشباب العراقي خير العزاء

الرطانة واللغة الإنجليزية

لما فتح العرب فارس والشام ومصر فشت الرطانة في اللغة العربية. ونقصد بالرطانة ما أطلق عليه المؤرخون (اللحن) وقد أثرنا الرطانة لأنها أعم، إذ اللحن لا يعدو الخطأ في الإعراب. وما حدث للغة العربية منذ ثلاثة عشر قرناً يحدث مثله اليوم للغة الإنجليزية. فقد فشت في آسيا الشرقية وجزر المحيط الهادي رطانة إنجليزية أطلقوا عليها هذه اللفظة بدجن، فقالوا وهي خليط من الإنجليزية والصينية لا يعسر على الإنجليزي أن يفهمها بعد أسابيع من إقامته هناك. . . وقد فشت هذه الرطانة الإنجليزية في دور العلم والمعاهد الصينية ولاسيما في هونج كونج التي تنفذ منها الثقافة الإنجليزية إلى قلوب الصينيين. . . ويحاول الإنجليز جهدهم تخفيف هذه الرطانة ولكنهم لا يفلحون

باكونين

صدر في إنجلترا في الأسبوع الفارط كتاب عن الفوضوي الروسي باكونين هو أكبر مؤلف في غير الروسية عن هذا الرجل السياسي الخطر الذي يرجع إليه الفضل في الحركة النهلستية التي أقضت مضجع القيصر وأقلقت بال حكومته، والتي كمنت في الشعب الروسي البائس، لتنفجر في هذه الثورة الجامحة الهدامة التي قام بها لنين وتروتسكي

ص: 79

واتباعهما. . . ومؤلف الكتاب هو الأديب المؤرخ الإنجليزي الكبير ا. هـ. كار. . . وقد استطاع أن يلم بحياة المترجم إلماماً يثير الإعجاب ومن أحسن ما قال فيه: (فلإن تكن جهود باكونين قد انتهت آخر الأمر إلى أيدي عصابة من الأبالسة، فليس الذنب ذنب تعاليمه، فالرجل كان ينشد لروسيا حرية وحكومة صالحة أمينة على مرافق الأمة، لا حكومة جبارة حمراء، تستمد حمرتها من الدماء الزكية التي تسفكها. . . وقد كان باكونين غولاً يرتعد منه القيصر، فلما فر الزعيم من وجهه إلى أوربا ناشد قياصرتها باسم المودة أن تقبض عليه وتبعث به إليه. . . وقد فعلوا. . . فقد قبض عليه في درسدن وحوكم بتهمة التآمر على سلامة الدولة وحكم علية بالإعدام، وأرسلت به الحكومة إلى النمسا ولا ندري لماذا، فأيدت الحكم عليه بالإعدام محاكمها الإمبراطورية. . . ثم أرسل من هناك إلى روسيا، فصدر عليه نفس الحكم؛ ثم خفف بالنفي إلى أصقاع سيبريا. . . وقد ظل هناك بضع سنين. . . وكتب إلى القيصر يستعطفه ويرجوه أن يمنح البلاد بعض الحقوق الدستورية، ولكن القيصر سخر بكتابه. . . غير أن باكونين فر من منفاه، واستطاع أن يركب البحر إلى أمريكا، ومنها إلى أوربا، ووصل إلى كوبنهاجن، ولكن عيون القيصرية كانت تترصده، فثنى عنانه إلى فرنسا، واستقر في ليون، يعاني شظف العيش ويتجرع غصص الحياة، حتى وافته منيته سنة 1875). هذا وقد تأثر كبار أدباء الروس بتعالم باكونين وفي مقدمتهم دستوفسكي وتولستوي وترجنيف

تطور القصة البوليسية

تشغل القصة البوليسية اليوم أوسع مكان في الأدب القصصي، بل هي اليوم احب أنواع القصص الشعبي وهي تستهوي الشباب بنوع خاص، ومن ثم كانت العناية بتهذيبها وصقلها اليوم. ويعتقد البعض خطأ أن القصة البوليسية حديثة العهد بين أنواع القصص؛ والواقع أنها قديمة النشأة وتجد مادتها في التاريخ بكثرة غير أنها اتخذت في العصر الحديث صبغتها الفنية الجديدة، واصبح بطلها التقليدي رجلاً مغموراً لا أسرة له، يستهويه بحث الغامض وتحقيق القضايا المعقدة ومطاردة الجناة البارعين في التستر والتخفي. وقد كان هذا البطل في البداية يقدم إلينا في صور وصفات بغيضة أخصها القسوة والخشونة وحب التنكيل والتشفي؛ وفي مثل هذه الصورة يبدو لنا (جافير) أحد أبطال قصة (البؤساء) لفكتور

ص: 80

هوجو؛ ولكن هذه النزعة تطورت في العصر الأخير تطوراً ظاهراً وغدا بطل الرواية البوليسية شخصاً محبوباً يتصف بالتواضع والبراعة والخلال الحسنة، ويحب الخير، ولا يقسو إلا على المجرمين العابثين. وكان أول من قدم إلينا هذا النوع من الأبطال الكاتب الفرنسي (أميل جابوريو)، وهو بلا مراء أعظم كتاب القصة البوليسية في فرنسا؛ وتلاه بعد ذلك جمهرة من الكتاب البارعين أضحت أبطالهم البوليسية شخصيات محبوبة تثير الإعجاب. ومن هؤلاء السير كونان دويل مبتكر شخصية شرلوك هولمز؛ وبوتسون دي تيراي مبتكر شخصية روكامبول اللص البارع والبوليس المدهش معا؛ وموريس لبلان مبتكر شخصية أرسين لوبان وغريمه الشرطي جانيمار، وغيرهم. وتتجه القصة البوليسية اليوم إلى نوع من القصص التهذيبي المفيد بعد أن ظهر أنها أحب أنواع القصص إلى الشباب.

ص: 81

‌الكتب

قصة معمل الذهب

القصة الثالثة عشرة من القصص المدرسية

للأساتذة: سعيد العريان، أمين دويدار، محمود زهران

للأستاذ أبو الفتوح محمد التوانسي

عنوان القصة الجديدة من القصص المدرسية وهي أولى المجموعة الثالثة من هذا القصص الرفيع، فماذا يوحي هذا العنوان الطريف العجيب الذي يثير الرغبة ويهيج الشوق؟

لا شك عندي أن الطفل سيسر حين يطالع قصته، وسيغرق في الضحك حين يعلم أمر الأب توت مع الشقي حابي، وسيدفعه هذا وذاك إلى إدراك جمال القصة، وقريب من أذهان الطفولة تلك الأسمار الشائعة التي لا يزال يرويها عامة القصاص في القرية من حكايات العفاريت التي يتخللها كثير من صور المسخ والتقمص. وفي اعتقادي أن هذا أثر عريق من آثار مصر القديمة في عهدها الأسطوري لا زال عالقاً بالأذهان، رغم تقادم الحقب وامتداد الزمن؛ فالشراب الذي يحيل الحيوان الناطق إلى حيوان نكير الصوت شبيه بالكيمياء الذهبية، وتلك خرافة قديمة

وما زالت الخرافة عند الشعوب منشأ الفلسفات والأديان؛ فالقصة التي تصوغ الحقيقة الواقعة في أسلوب خرافي هي أدنى إلى منازع الطفولة، وقصة معمل الذهب تقوم على فكرة من هذه الفكر التي تنتهي حتما إلى غرض تهذيبي، وإذا فماذا يفهم الطفل من قصته الجديدة؟ سيعرف بلا ريب أن السرقة التي حرمتها الأديان لا تليق بكرامته، لأن مصيره ربما كان كمصير اللص حابي ومن لف لفه.

فإذا انتقلنا من هذا العرض الموجز ألفينا في القصة أسلوباً قصصياً بارعاً، نسج برده طبع قصصي، فهو يملك سمع الطفل ويحرك فيه شهوة القراءة، ثم يمنحه زاداً لغوياً نافعاً ويسوقه في رفق إلى تذوق التعابير الصحيحة التي هي الغاية من تعليم اللغة. فقصة معمل الذهب وشقيقاتها السابقات طريق سهل واضح المسالك إلى تعليم الإنشاء العربي. وما تزال طريقة هذا الفن في مدارسنا في حاجة إلى التجويد، وإن تكن قد بلغت منزلة مشكورة من

ص: 82

الإجادة الفنية في حسن الاختيار والتصرف والشرح. والأمر في قبضة المعلم الحازم الذي يولد من القصة موضوعات شائقة في الإنشاء. وما أحب هذا النوع من الكتابة الفنية لدى الأطفال والناشئين من تلاميذنا! ومما يرفع من شأن القصص المدرسية في جملتها وعنايتها الصادقة بتصحيح التراكيب والمفردات التي كان يظن أنها في فسولة العامية، وليس هذا بالأمر الهين فهو مما يحتاج إلى جهود متضافرة، واطلاع شامل، وخبرة تامة بأساليب اللغة العامية أما الخيال في هذه القصة وفيما سبقها فبعيد مداه، ليس له أفق محدود، وهذا العنصر من عناصر القصة متى أجاده المؤلف وواتاه فيه الطبع أكسب القصة سحراً وتأثيراً.

هذا وقد بلغ التحليل النفسي الغاية في دقة الوصف، وأثر ذلك واضح في تصوير بطلي القصة الأب توت، ذلك الحكيم الكيماوي، وحابي الأثيم الذي كم ذاق صنوفاً من الشقاء. وقد أصاب مؤلفو القصص المدرسية في هذه الناحية توفيقاً كبيراً يدل على قدرة عجيبة في فهم طبائع الأشخاص، ودراسة ممحصة لأحوال البيئة المصرية، تجد ذلك في العرض الدقيق في سائر القصص للعادات والتقاليد والأوضاع الاجتماعية في بيئتنا، مع صدق في اللهجة، وجمال في الفن وبساطة في التعبير، وابتكار متجدد، فتلك جريدة التلميذ الملحقة بقصتنا الجديدة نوع مستحدث ومستطرف يرمي إلى غرس الملكات الأدبية في نفوس الناشئين

وكل ذلك مما يجعل القصص المدرسية مورداً عذباً لدراسة عقلية نافعة، ومثلا عليا للتلميذ تحببه إلى الفضيلة وتعمل على رفع مستواه الخلقي، وتشحذ من عزيمته، وتقوي من استقلاله الفكري

وبعد فماذا في تلك القصص؟ إنها مجهود أدبي في أدب الطفل يسير في طريق تحقيق الغاية من إيجاد الأدب القومي الذي يجمع بين الموروث عند العرب في الثقافة اللغوية، وبين موضوعات البيئة التي نعيش فيها.

فإلى من يهتمون باللغة القومية في العهد الجديد من المسئولين وغيرهم نوجه الحديث، فإن في تشجيع ذلك المجهود شداً لأزر الفصحى في المدارس

(الجيزة)

أبو الفتوح محمد التوانسي

ص: 83