الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 233
- بتاريخ: 20 - 12 - 1937
الأخلاق
بين النجاح والفشل
تعال يا صديقي! جعلتموني مظهراً لثورتكم على الأخلاق فحسب الناس أني ثائر معكم عليها وهي مصدر سعادتي ومنبع رضاي. فلماذا لا تمضي ما تقول باسمك كما يفعل كل رجل له رأي وفيه صراحة؟
فقال صاحبي وقد استوى على المقعد الذي يحبه من المكتب وكفَّاه تدوران على عدد مطوي من الرسالة أظنه الأخير:
إن مقال الثائر المجهول كقبر الجندي المجهول يعبر عن فكرة ويرمز لطائفة. ولو كان ذلك رأيي الخاص لأمضيتُه، ولكنه رأى جميع المنكوبين بأخلاقهم وإخلاصهم اضطرب على لساني حديثاً بعدما اضطرم في نفوسهم ثورة. ولقد كان فيما قلتُ وقال الإخوان تفريج لما كرَب صدورنا من وقاحة الحال وصراحة الواقع؛ غير أن في نفسي بعد أن قرأت هذا العدد كلمة
قلت وماذا تريد أن تقول بعدما أجرَّتْ لسانَك الأخلاقُ بعقلين متيني الحجة من عقول دعاتها وحماتها؟
فقال: (إن الأستاذين الجليلين عزاماً والخولي أطلا علينا من قُدْس الأقداس وكلمانا بلغة الدين الذي يتجاهل الكفر، ولهجة الحق الذي يتناسى الباطل. وقدس الأقداس كما تعلم مكان بين النجوم ينزله الأحبار والفلاسفة فينظرون إلى السماء أكثر مما ينظرون إلى الأرض، ويتصلون بالملائكة أكثر مما يتصلون بالناس، ويدبرون أمر هذا الكوكب المظلم على أنه مَرَاد الصلاح الخالص والخير المحض، فلا يريدون أن يقيموا وزناً للمنكر، ولا أن يلقوا بالاً إلى الشر، حتى أنهم ليغفلون ذكر الفواحش في كتب الدراسة ليجهلها الناشئ، كأنما جهلك الشيء يمحوه من الوجود! والشر منذ معصية آدم وجريمة قابيل قسيمُ الخير في الأرض. والرذيلة هي الطبيعة الحرة لهذه الحياة، أما الفضيلة فهي قيد لها وحدٌّ منها
لا أريد أن أقول لعلماء الأخلاق زاوِجوا بين الخير والشر ينتج منهما مزاج مستقل لا هو الخير كله، ولا هو الشر كله، فتلك تجربة نعوذ بالله من غوائلها إذا طاشت؛ ولكني أطلب إليهم أن يعالجوا مشكلة الفضائل على أساس التسليم بأن للرذائل جاذبية ومنفعة، وأن
مصلحة الفرد لا ينبغي أن تذوب هذا الذوبان في مصلحة الجماعة. ذلك أدنى إلى أن يكون العلاج أنجع والشفاء أتم. أما أن تكون القاعدة في رأي الأستاذ الخولي أن الفاضل لابد أن ينجح، والرذيل لابد أن يخيب، إذا تساويا في الاستعداد والاجتهاد والكفاية، فإذا وقع العكس كان شذوذاً يؤكد هذه القاعدة ولا يهدمها، فذلك على ما أظن حكم لا يصححه القياس ولا يناصره الواقع. وليس الأستاذ الخولي بالرجل الذي نضرب له الأمثال من الماضي، ونذكر له الشواهد من الحاضر، فإنه يعلم علم اليقين أن تاريخ الدنيا يسجل في كل زمان وفي كل مكان أثر الرذيلة الخطير في النجاح الخارق، سواء أكانت الرذيلة في الناجح أم فيمن يلابسه. هذان فرسان رائعان اشتركا في خصائص القوة والفتوة، ثم ضُمِّرا على نمط واحد، وركبهما في السباق فارسان على كفاية واحدة؛ فلو أنهما تراكضا بالحق لاستوليا معاً على الأمد؛ ولكن صاحب أحدهما حقنه بمادة يعرفها بياطرة السباق ويحظرها القانون، فجعلت من كل شعرة فيه جناحاً بلغت به الغاية قبل أن يتوسط قِرْنه الميدان. وأحرز الفرس المحقون الرهن الضخم فأصبح ملك الخيل وسبع الليل. وشبيه بهذين الفرسين رجلان تماثلا في الشهادة والكفاية والاستعداد والخلق، ثم سارا معاً في طريق الحياة جنباً إلى جنب، وكان لأحدهما زوجة جميلة لبقة، فحقنت زوجها حقنة تعرفها هي، جعلته في اليوم التالي سيداً للناس ورئيساً على الآخر. لا يستطيع المسبوق أن يستعد لمثل هذه الرذيلة لأنه لا يعرف مأتاها، ولو عرف لما استطاع أن يحتقن بمثل هذه الحقنة وهو عالم. ولو تقصينا أسباب النجاح السريع - وهو الكثرة الفاحشة - لوجدنا هذه الحقنة هي جماع تلك الأسباب في شكول مختلفة. وحصر الدعة واللذاذة في الثراء الحلال البطيء آت من شعور الأستاذ نفسه. فإنه إذا لم يجد المراءة والهناءة إلا في لحم الخروف، وجدهما ألوف غيره في لحم الخنزير. وإذا عد الأستاذ تاجراً من تجار الغلال أثري بطيئاً وهو وادع بفضل الخلق، عددنا له ألفاً من تجار المخدرات أثروا سراعاً وهم آمنون بفضل الشُّرَط
يقولون إن نجاح الأخلاق الفاضلة مشروط باستعداد الفاضل. والاستعداد أهبة الكفاح ووسيلة النجاح ما في ذلك شك؛ ولكن كيف اتفق أن يكون أكثر الأراذل قادرين وأكثر الأفاضل عجزة؟ لقد ذكَرْنا بذلك فكاهة من قال إن أكثر أهل الجنة الأغفال والبُله من النساك والمشعبذين والجهلة، وأكثر أهل النار العباقرة والأفذاذ من الفلاسفة والحكام والقادة.
لم لا يجوز أن يفسَّر هذا النقص العام في الفضلاء بأنهم يُلزمون أنفسهم الطريق الوعر إلى الغاية البعيدة، بينما يجد غيرهم إلى الغاية الواحدة ألف طريق؟
لقد سرني أن فسر الأستاذان الجليلان ما عبنا من بعض الفضائل هذا التفسير، فإنه - وإن كان أبعد المعاني عن فهم الناس لهذه الأخلاق - أقربها إلى القصد الذي تتوخاه من التعديل والإصلاح. ولعلك تلمح في هذا التفسير اعترافاً مضمراً بأن من الفضائل ما لا يلائم بمفهومه الشائع طبيعة هذا العصر ولا روح هذا المجتمع و. . . . . .)
ورأيت صاحبي يتمكن في مقعده الوثير، ويسحب سيكارة من علبته الأنيقة، ويريد أن يرخى للحديث العنان. فقلت له: حسبك! حسبك! فقد انتهت الصفحة وضاق الوقت. وليته اتسع حتى أسرد عليك حديث أحد السعداء الناجحين بالأَخلاق أَفضى به إليَّ قبل أن تدخل علي، فربما وجدت فيه ما يرضيك ويهديك. فإِلى فرصة أخرى
أحمد حسَن الزيات
وكان صباح
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
جاء يوم العيد، وطلع نهاره، وارتفعت شمسه، وأنا لا أرى أحداً يدخل عليّ فيقرئني السلام ويحييني تحية الصباح، ويهنئني بهذا العيد الجديد، ويتمنى لي كثيراً من أمثاله، وأمثال أمثاله إن شاء الله. شيء بارد!! أين هذه الزوجة التي كنت أظنها صالحة، والأولاد الذين كنت أرجو أن يكونوا بررة؟؟
وأنا يحلو لي الحديث على الريّق، بين نوبات التثاؤب والتمطي تحت اللحاف أو الملاءة، ولا أذكر أني عدمت قط من يحدثني في صباح - حتى قبل أن أستيقظ! - يدخل عليّ أحد الصغيرين اللعينين فأسمع صوتاً ناعماً يناديني:(بابا. . . بابا) فأتقلب في فراشي وأحدث نفسي أن هذا حلم، ولكن الصوت يلح عليّ بالنداء (بابا. . . بابا) فأفرك عينيّ بيد، وأدس الأخرى تحت الوسادة لأخرج الساعة وأنظر، فإذا هي الخامسة صباحاً! فأصيح:(يا خبر أبيض. . .! ما لك يا ولد!؟ فيقول (صباح الخير) فأقول: (أي خير يا أخي؟ حرام عليك!) فلا يعبأ بي، ولا يشفق عليّ، ويقول (هات القررررش) - هكذا ينطقها - فأحتال لأصرفه عني برفق وأقول له في جملة ما أقول (اذهب إلى أمك. . . خذه منها) فيأبى اللعين أن يتزحزح ويقول:(نائمة!) فأحدق في وجهه مستغرباً وأسأله (نائمة؟ بالذمة؟) فيؤكد لي أنها نائمة، فأقول (وأنا؟؟) فيقول (صاحي!) فأقول (تمام. . . في محله. . . لا بأس. . . ولكن القرش تحت الوسادة التي تريح عليها أمك النائمة خدها الأسيل، فاذهب إليها وادفع يدك تحت المخدة. . . بقوة. . . وخذ القرش، فإذا لم تجده هناك، فستجده لا محالة بين أسنانها، فإنها ماكرة، فافتح لها فمها وانتزعه من بين أضراسها)
فيضحك الخبيث وقد راقه الكلام، ويسألني (وإذا عضتني؟) فأطمئنه وأؤكد له أني سأعضها انتقاماً له! فيذهب عني مسرورا. . .
أو تقبل الخادمة، ويحسن أن أقول إن لها في بيتي عشر سنوات، فتقف على رأسي وراء شباك السرير وتقول بصوت خافت ولكنه ملح:(سيدي. . . سيدي. . .)
فأنظر في الساعة التي تحت الوسادة، وأقرض أسناني من الغيظ، ولكني أتجلد وأقول:(يا صباح الفل، نعم يا ستي. . . هل تريدين أن أفسر لك حلماً؟)
فتبتسم - أعرف أنها تبتسم وإن كنت لا أراها - وتقول (هل تريد الشاي خفيفاً أو ثقيلاً؟)
فأتنهد، فإن هذا سؤالها كل يوم منذ عشر سنوات، وأقول لها ما قلت كل يوم في هذه السنوات العشر:
(خير الأمور الوسط يا شيخه!)
فتسأل (نعم؟)
فأقول على سبيل الشرح (متوسط. . لا بالخفيف ولا الثقيل. . ماذا تصنع الست؟)
فتقول: (نائمة)
فأقول: (يا بختها! ليتني كنت الست في هذا البيت السعيد!)
فتقول الفتاة معترضة (يا سيدي!)
فأقول: (اسمعي. . . إذا كنت تحبين ألا أكون الست، فاذهبي إلى هذه الست التي تغط في نومها إلى الآن (الساعة الخامسة) وأيقظيها وقولي لها إني أصبح عليها وأقبل وجنتيها، واسأل عن الشاي الجديد أين خبأته؟ افعلي هذا، والله يحفظك)
والدعاء للخادمة واجب، فما ثم شاي جديد، ولا خبأت الست شيئاً، ولكن لماذا يزعجني كل من في البيت في هذه الساعة المبكرة دونها؟
ويعلو الضجيج، ثم تدخل الست مرغية مزبدة، وهي تصيح بي:(ألا يمكن أن تكف عن هذا العبث؟ حرام عليك يا شيخ. . والله ما نمت إلا ساعتين)
فأقول (كالقطط. . . تأكل وتنكر. . . أنا أيضاً لم أنم إلا دقائق. . . ضاع الليل كله في أحلام. . .)
فتنحي عني اللحاف، وتشد يدي، أو رجلي، وهي تقول (طيب قم. . .)
فأصيح بها (إلى أين؟)
فتقول (وهل أنا أعرف؟ قم والسلام، وليكن هذا جزاؤك على إقلاق راحتي)
فأقول: (اتقي الله يا مسلمة)
فتقول: (ولماذا لا تتقيه أنت؟)
فأؤكد لها أني سأتقيه من الآن فصاعداً، وأرجو أن تتركني أنعم بالرقدة، ولكن هيهات، فقد استيقظ كل من في البيت، فلا سبيل بعد ذلك إلى راحة أو نوم
ولكن الساعة قاربت التاسعة في يوم العيد، ومازال البيت ساكتاً على خلاف عادته، فقلقت عليهم ونهضت، ودخلت غرفهم واحدة واحدة، ونظرت في وجوههم وجسست نبضهم لأطمئن، وأردت أن أستوثق وأن أنفي كل شك في أنهم مازالوا أحياء وبخير وعافية، فوضعت أذني على صدورهم - أعني قلوبهم - لأسمع دقاتها، ولم يكفني هذا، فقد كانت بقية من الشك تختلج في صدري، فما رأيتهم يتحركون، فرحت أقرص هذا وأشد أذن ذاك لأرى هل يحسون أو لا يحسون، فقاموا جميعاً فزعين يصيحون ويحتجون، فلما سكنت الضجة قليلاً قلت لهم:(ما هذا النوم؟ قوموا يرحمكم الله وتعالوا هنئوني)
فمشوا ورائي وحفوا بي حيث جلست، وأقبلوا عليّ يسألونني؛ وتعلق بي الولدان اللعينان فرحين، ووقف الباقون ينتظرون أن أفضي إليهم بالسر، فأغرقت في الضحك ثم قلت وأنا أنهض:
(أليس في البيت شيء يؤكل؟ إني أتضور جوعاً)
فقالت الزوجة الصالحة: (شيء يؤكل؟ هل تعني أنك أزعجتنا جميعاً على هذه الصورة الفاضحة، لا لسبب سوى أنك تريد أن تأكل؟)
فقلت: (اسمعي يا امرأة. . . لا تجدفي. . . إن الطعام شيء مقدس. . . لا تذكريه إلا بلهجة الاحترام والتوقير. . . فما خلقنا إلا لنأكل. . . على الأقل هذا ما يبدو لي أنا. . . لا تقاطعي من فضلك. . . أنت تظنين أنك خلقت لتنامي. . . ولكنك مخطئة. . أوه جداً. . . الأكل أحلى، وأوفق، وأليق بالحي. . . أما النوم؟ ما الفرق بالله بين الميت والنائم؟)
فقاطعتني وقالت: (يعني ضحكت علينا وأجريتنا وراءك بعد أن أوهمتنا أن هناك داعياً للتهنئة. . .؟)
قلت: (كلا. . . لم أضحك على أحد. . . أليس اليوم يوم عيد؟ تعالوا إذن قبلوا يدي بأدب، وهنئوني، وادعوا لي بالسعادة وطول العمر. . . مالكم؟)
ولم أسمع جواب السؤال، ولم أعد أعنى بأن أسمعه، فقد شغلت عنه بالنار التي اندلعت في بدني، من القرص الذي انهال به عليّ الكبار والصغار، حتى خيّل إليّ أني في خلية من خلايا النحل، لا في بيت يسكنه آدميون. . .
وقلت وأنا أنظر إلى وجهي في المرآة: (ليتكم تفعلون بي هذا كل صباح. . لقد صار وجهي
أكبر. . وأحمر. . وأحلى. . ما شاء الله!)
فقالت الزوجة الصالحة: (كابر. . . كابر. . .)
قلت: (لا مكابرة. . . هي الحقيقة. . . لقد صار خداي كالوردتين. . .)
قالت: (حسن. . . سنصبحك ونمسيك بما يحفظ لك حمرتهما. مستعدون يا أولاد؟)
فصاحوا جميعاً: (أيوه. . .)
فقعدت، وقد نويت أن آخذ بثأري. . .
وكان صباح. . .
إبراهيم عبد القادر المازني
ليلى المريضة بالعراق
للدكتور زكي مبارك
- 2 -
. . . ودخلت أعدو خَلْف الوصيفة في بصر زائغ، وقلب خفاق، فلم أكد أتبين مدخل البيت، وعثرت قدمي على السلم عثرة خفيفة سلم الله منها ولطف، وانتهيت إلى غرفة صغيرة فيها أريكة وثلاثة مقاعد، وتركتني الوصيفة وزاحت تدعو ليلى، فتلفت أدرس أساس الغرفة في لهفة وشوق، فوجدت على الحائط قطعة من القطيفة نقش عليها هذا البيت:
يقولون ليلى بالعراق مريضةٌ
…
فيا ليتني كنت الطبي المداويا
ورأيت بجوار تلك القطيفة صورة السيدة نادرة التي جمعت عواطف العرب حول ليلة بفضل ما أبدعت في ترجيع هذا البيت، ورأيت فوق المنضدة كتابين: رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده، وذكريات باريس للشيخ زكي مبارك، فيا عجباً كيف جاز لمنزل ليلى أن يجمع بين الهوى والضلال!
وغابت ليلى ولم تعد الوصيفة، واستمر الحال كذلك عشرين دقيقة، فدفعني الملال إلى التلهي بالنظر في سلة المهملات، وما أدري كيف وقعتُ في هذا الفضول، فهل تصدقون أني رأيت بين الخطابات الممزقة رسالة من (فلان) يؤكد لها أن زكي مبارك أديب وليس بطبيب؟ سامحك الله يا دكتور فلان، ولا أراك نعمة الهوى والجنون!
لعل ليلى في زينتها، وإلا فكيف أعلل صبرها عن لقائي كل هذا الزمن الطويل؟
ثم فتح الباب، ودخلت امرأة ملفوفة بالسواد لا تقع العين منها على شيء، ولم لا أقول دخل شبح أسود نحيل كأنه عود الخلال؟
وانحط ذلك الشبح على أحد المقاعد، ولكن هذه الجفوة لم تمنع قلبي من تواتر الخفوق. وبعد لحظات طوال كأعمار الأحزان تكلمت ليلى
رباه! ماذا أسمع؟ إن أذنيّ لا عهد لهما بمثل هذا الصوت المتكسر الناعم الحزين
ومضت ليلى تتكلم وتسهب، ولكني لم أفهم شيئاً، فقد كنت مشغولا بدرس طبيعة هذا الصوت، هذا الصوت الذي يذكرني بتلك الفتاة التي خفق القلب لها أول خفقة، والتي قلت فيها أول قصيدة، وسكبت عليها أول دمعة، تلك الفتاة المنسية التي تنام في قبر مجهول
تحت سماء سنتريس
ما هذا الصوت؟ يا رباه! أفي الحق أني سمعت أمثال هذه النَّبرات على كثرة ما طوَّفتُ في البلاد؟
لا أكذب الحق، هذا جوهر لم أشهد مثله في سنتريس ولا باريس، وإنما هو من جواهر العراق، هو صوت تحدر عن تلك الإنسانة التي قال فيها أحد المفتونين في بغداد:
وكأنَّ رَجْعَ حديثها
…
قِطعُ الرياض كسِين زهرا
هو صوت تحدر عن تلك الإنسانة التي قال فيها أحد القدماء:
رُهبانُ مديَنَ والذين عهدتُهم
…
يبكون من خوف العذاب قُعودا
لو يسمعون كما سمعتُ حديثها
…
خروا لعزةَ ركَّعاً وسجودا
هو صوت ليلى يا بني آدم، ليلى المريضة بالعراق، ولو سمعه الشيخ فلان لسال منه اللُّعاب
ثم انتبهت، فقلت في نفسي: إن ليلى بخير، فهذا الصوت الضعيف يحمل قوة تهد رواسي الجبال
ثم انطلقنا نعدد في شجون الأحاديث، فسألتني عن مصر، وسألتني عن صاحبة الذهبية التي ترسو على الشاطئ الأيمن خلف جسر إسماعيل؛ فعجبت من أن تصل أخباري إلى ليلى وهي مريضة بالعراق، وقلت: إن تلك الإنسانة بخير، ولكنها تركت الذهبية وعادت إلى منزلها بمصر الجديدة، وقد صحا القلب يا ليلى فلم يَعُد بيننا تلاق منذُ ربيع سنة 1935 والله المستعان على مكاره الصدود!
فتنهدت ليلى وقالت: حتى أنت تنسى العهود! وماذا خليت لِغُلْف القلوب؟
ومضت تتحدث عن الحياة الأدبية في وادي النيل، وسألتني عن كثير من الأدباء، فكنت أذكرهم جميعاً بما يحبون أن يذكروا به في بغداد، ورأيت أن أكون أميناً في تبليغ التحيات فقلت: إن الأستاذ الزيات يسلم عليك. فقالت: لا أحب أن أسمع اسمه. فقلت: وكيف؟ فقالت: هل تصدق أنه أقام سنين في بغداد ولم يسأل عني؟ فتشجعت وقلت: لعل له عذراً وأنت تلومين! ذلك رجل يتهيب أقاويل المرجفين
واستطردت فقلت: ولعل الدكتور السنهوري قام بالواجب.
فضحكت ضحكة عالية كادت تخرق النقاب وقالت: السنهوري أغلظ كبداً من ذلك!
فقلت: وما صنع الدكتور عبد الوهاب عزام؟
فأجابت: أوَ كنت تحسبني أنتظر زيارة الدكتور عزام؟ إنه رجل أديب، ولكن انشغاله بالتحريم والتحليل لم يترك في قلبه مجالاً لرقيق الأحاسيس
فقلت: لقد مرّ الأستاذ أحمد أمين ببغداد منذ سنين، فماذا فعل؟
فقالت: هو رجل صافي الذهن، ولكن يظهر أنكم أوهمتموه في مصر أن العالم الحق لا يليق به أن يُشغَل بشؤون الوجدان
ثم أغرقتْ في صمت مُوحِش حسبتُه لوناً من العتاب
وجاءت أقداح الشاي، فتجرأتُ وقلت: وأين أكواب الصهباء؟ نحن في حضرة ليلى وتحت سماء بغداد!! فقالت: أنا امرأة مسلمة ونحن في رمضان؟ وأنتَ؟
فقلت: وهل حسبتني من الكافرين؟
وفهمتُ أنني أخطأت فغيّرت مجرى الحديث
- مولاتي ليلى!
- نعم، يا مولاي!
- إنما جئت للعناية بصحتك، كما تعلمين
- أعرف ذلك، وهو فضل سأذكره ما حييت. سأذكر أن الحكومة المصرية كانت أعرف الحكومات الشرقية بالواجب نحو امرأة عليلة أوحت ما أوحت من الشعر والخيال ثم أضرعها الداء فتناساها الأهل والأقربون
فقلت: البركة في الحكومة العراقية
فقالت: الحكومة العراقية؟ سامحها الله! هل تصدق يا دكتور أن الحكومة العراقية تبيح لمحطة الإذاعة أن تذيع جميع الأغاني والأناشيد، إلا الصوت الحزين:
يقولون ليلى في العراق مريضة
…
فيا ليتني كنت الطبيب المداويا
وهنا تنبهت إلى أني لم أسمع هذا الصوت في بغداد
فقلت: وكيف تحرِّم الحكومة العراقية هذا الصوت؟
فأجابت: إن الحكومة في هذا الزمن لا تعرف غير الجيش والرماح والسيوف والمدافع،
وهي تبغض أحاديث الوجدان كل البغض، ولا يرضيها أبداً أن يتحدث إنسان عن ليلى المريضة بالعراق
فقلت: وكيف يصح ذلك وعندكم وزير مشرق الجبين هو المدفعيّ، وعندكم وزير أديب هو الشبيبي؟
فقالت: أما المدفعيّ فله من اسمه نصيب، لأنه منسوب إلى المدفع؛ وأما الشبيبي فلا تغرّنك بسماته العِذاب، فقد كان شاعراً فيما سلف، أما اليوم فهو من دواهي العراق، العراق الذي يعبد النضال
ومرت لحظات صمت كانت أبلغ من الإفصاح
- مولاتي ليلى!
- نعم يا مولاي!
- إنما جئت للاهتمام بصحتك
- أشكر لك يا دكتور، ولكنك تكرر هذه العبارة. فماذا تريد؟
- أريد أن أرى وجهك ويديك
- وهل تريد أن تخطبني؟
- ليس هذا ما أريد، فلي بحمد الله أهلٌ وأبناء
- إذن ماذا تريد؟
- اعقلي يا ليلى، إن الأمر كله جِدّ، والأمة المصرية تهتم بصحتك أبلغ اهتمام، وقد نزلت الحكومة عند إرادة الأمة فأوفدتني إليك، ثم بالغتْ في الاحتياط فأوعزتْ إلى الدكتور علي باشا إبراهيم أن يقترح على الجمعية الطبية أن تجعل مؤتمرها المقبل في بغداد، وأنا أحب ألا يعقد المؤتمر إلا وأنت في عافية الفرس الجموح، فإن لم يمكن ذلك فلا أقل من أن أقدِّم للمؤتمرين تقريراً ضافياً يشهد بأنني لم أضع الوقت في التعرف إلى عيون الظباء. وسيَقْدَم الدكتور محجوب ثابت وهو من خصومي، الألدّاء، وأخشى أن يشي بي فيصرح لمعالي الأستاذ نجيب الهلالي بك بأنني لم أكن في الحرص على مهمتي من الصادقين
وبدأت ليلى فكشفت عن يديها، فانخلع قلبي من الرُّعب، حين وقع البصر على تلك الأنامل الصُّفر الدِّقاق
فتماسكتُ وقلت: وعيناك؟
فألقت النقاب عن وجه مليح التقاسيم كان له في ماضيه تاريخ جميل، وتأملت أنفها مرات ومرات فرأيت فيه أخيلةً من الملاحة قلما يجود بمثلها الزمان
ثم ارتقيتُ فوقعتُ على عينيها وقُوعَ الطائر الظمآن على الوِرد النمير
الله أكبر! ما هذا السحر المبين؟ أأنت مريضة يا ليلى ولك هاتان العينان؟
فابتسمت وقالت: صدق الدكتور فلان حين كتب إليّ أنك أديب ولست بطبيب!
فقلت: إنما أريد بعث الطمأنينة في قلبك المروعّ يا مريضة العراق
وقضيت ساعتين في مسامرة ليلى ثم استأذنت في الانصراف والله المحمود على نعمة ذلك الحديث
والآن أوجه القول إلى الأمة المصرية، الأمة القلقة على المريضة بالعراق، ولاسيما الأستاذ محمد الهراوي الذي دسّ في جيبي دينارين على المحطة، أجرة برقية أرسلها من بغداد ليطمئن على ليلى المريضة بالعراق، إليهم أوجِّه الكلام فأقول:
بني وطني:
إن ليلى تملك عنصرين مهمين من عناصر الحياة: رخامة الصوت، وملاحة العينين؛ ولكنها مع ذلك فريسة الضَّنى والنحول، وسأبذل جهد الجبابرة لأصل بها إلى ساحل النجاة
وقد كلفت السيدة جميلة المقيمة بشارع صريع الغواني أن تحتال في دعوة وصيفة ليلى لقضاء سهرة بريئة في منزلي بشارع الرشيد، فإن حضرت تلك الوصيفة فسأعرف سِرَّ ليلى. سأعرف كيف قضت أهوال الحب بأن تصل إلى ذلك النحول
فإن تمت لك المحاولة فقد أصل إلى شيء، وإن لم تتم فستذهب جهود المؤتمر الطبي أدراج الرياح
وأنا أرجو صديقي الأستاذ الزيات أن يقف أطباء مصر على تفاصيل هذه المعضلة، فما أحب أن يعودوا خائبين، فيسيئوا إلى سمعة الحكومة المصرية بلا موجب معقول
وأنت أيتها السيدة التي اسمها جميلة، والتي زعمت أنني فتى جميل، اسمعي؛ ليس يهمني بالدرجة الأولى على حد تعبيركم في بغداد أن تغسلي ثيابي، وأن تحضري لي مائدة فخمة في كل أسبوعين؛ يا بخيلة، وإنما يهمني أن تقودي وصيفة ليلى إلى منزلي، إلى غرفة
الاستقبال يا لئيمة لا غرفة السرير، فإن عند تلك الفتاة أسراراً تكشف المحجوب من حياة ليلى المريضة بالعراق
يا جميلة! لقد كنت في صباك جميلة، فكوني عندما أرجوه من محمود الظنون
يا جميلة! أنا أنتظرك مع وصيفة ليلى في الساعة العاشرة من مساء السبت المقبل، والله بالتوفيق كفيل
(للحديث بقية)
زكي مبارك
مصرع شجرة الدر
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كانت كليوباتره آخر ملكة جلست على عرش مصر الفرعونية، وكانت شجرة الدر أول وآخر ملكة جلست على عرش مصر الإسلامية. وكانتا كلتاهما آية الجمال والسحر، وعنوان البطولة والحزم، زينة الملك، وملاذ العرش والدولة؛ وقد لقيتا كلتاهما مصرعها في ظروف روائية مؤثرة؛ ولكن بينما تحيط الأسطورة بحياة كليوباترة وتكاد تغمر حوادث مصرعها، إذا بشخصية شجرة الدر تبرز واضحة خلال الفترة القصيرة التي تبوأت فيها عرش مصر، وإذا مصرعها مأساة قصر تحيط بها جميع العوامل والظروف التي تجتمع حول مآسي القصور
لم تكن شجرة الدر كما تريد أن يصورها القصص أحياناً، غانية قصر تعتمد على سحرها النسوي فقط في تبوء المكانة التي سمت إليها؛ ولكنها كانت فوق سحرها الجم، امرأة رفيعة الخلال وافرة الذكاء والعزم؛ بدأت حياتها جارية وحظية للصالح نجم الدين أيوب ولد الملك الكامل ملك مصر مذ كان نائباً عن أبيه بالولايات الشرقية. ولما توفي الملك الكامل، وتولى ولده الملك العادل دون أخيه الأكبر الصالح نجم الدين، وأعلن الصالح الثورة على أخيه بقيت شجرة الدر إلى جانبه في جميع الوقائع والخطوب التي خاضها، وشاركته مرارة الحرمان والأسر. ولما خلع الملك العادل وتولى الصالح مكانه ملك مصر في سنة 637هـ تألق نجم شجرة الدر وتبوأت ذروة النفوذ والسلطة وغدت كل شيء في البلاط وفي الحكومة. وكان الصالح قد فتنته خلالها الرفيعة فأعتقها وتزوجها، ورزق منها ولداً يدعى خليل. ولم تبق بعد حظية تسمو بجمالها وسحرها، ولكنها غدت سيدة القصر الشرعية، وأم ولده المحبوب؛ كانت هذه الجارية التركية أو الرومية تلعب يومئذ في بلاط القاهرة نفس الدور الذي لعبته من قبل صبح النافارية (البشكنسية) جارية الحكم المستنصر وأم ولده المؤيد في بلاط قرطبة. ولما توفي ولدها خليل حدثاً بعد ذلك بأعوام قلائل، لم تزعزع هذه الضربة الأليمة مركزها، بل لبثت محتفظة بنفوذها وتأثيرها في توجيه الشئون
ولما قدم الفرنج الصليبيون إلى المياه المصرية بقيادة ملكهم لويس التاسع في أوائل سنة 647هـ (1249م)، وحاصروا دمياط، كان الملك الصالح مريضاً وكان البلاط في حيرة،
وكانت مصر تضطرب من أقصاها إلى أقصاها؛ فأبدت شجرة الدر في هذه الآونة العصيبة ثباتاً مدهشاً، واستطاعت بعزمها وبراعتها أن تسير الشئون، وأن تشرف على أحوال الدفاع؛ ثم توفي الملك الصالح بعد ذلك بأشهر قلائل، فأخفت شجرة الدر نبأ وفاته، حتى استقدم ولده ثوران شاه من الشام، ولبثت مدى حين تخرج الأوامر والمناشير ممهورة بالعلامة السلطانية. ولما وصل ثوران شاه إلى مصر وتقلد الملك باسم الملك المعظم، أساء السيرة، واختلف مع شجرة الدر ومع مماليك أبيه، فأتمروا به وقتلوه لنحو شهرين فقط من ولايته، واتفقوا على تولية شجرة الدر، فتبوأت عرش مصر في عاشر صفر سنة 648هـ
وكانت ولاية شجرة الدر حادثاً فريداً في التاريخ الإسلامي، فلم تجلس امرأة قط من قبلها أو بعدها على عرش مملكة مسلمة مستقلة؛ وكان للحادث وقع عميق في العالم الإسلامي حتى قيل إن الخليفة المعتصم بالله العباسي نعى على مصر أن تجلس على عرشها امرأة، ونعاه بعض فقهاء العصر. وشعر المماليك الذين ولوها بهذا الشذوذ، فعينوا إلى جانبها أميراً منهم هو عز الدين أيبك التركماني ليكون مقدماً للعسكر ومشرفاً على الشئون. ودعى لشجرة الدر على المنابر، ونعتت في الخطبة (بالجهة الصالحية ملكة المسلمين عصمة الدنيا والدين، أم خليل المستعصمية، صاحبة السلطان الملك الصالح) وكانت علامتها على الأوامر والمراسيم: (والدة خليل). وتولت شجرة الدر الأمور بحزم، وكان الجيش المصري قد استطاع في تلك الأثناء أن يقف زحف الصليبيين وأن يسحقهم في موقعة المنصورة الشهيرة (المحرم سنة 648)؛ وأُسر لويس التاسع وعدد كبير من أُمرائه، وبدأت مفاوضات الصلح بين الفريقين، فأشرفت شجرة الدر على هذه المفاوضات، وانتهت بانسحاب الفرنج من الأراضي المصرية والإفراج عن ملكهم لقاء فدية كبيرة؛ وأبدت شجرة الدر في ذلك كله براعة ومقدرة تخلق بأعظم الرجال
على أن شجرة الدر كانت تشعر بضعفها كامرأة فرأت أن تتزوج من عز الدين أيبك، فتقوي بذلك مركزها كملكة، وتدعم عصمتها كامرأة. ولما شعرت أن هذا الزواج لم يحقق كل شيء، ورأت أن جلوسها على العرش قد أثار الفتنة في الشام ويخشى أن يثيرها في مصر، نزلت عن العرش لزوجها، وجلس أيبك مكانها على عرش مصر باتفاق المماليك البحرية باسم الملك المعز، وذلك في آخر ربيع الآخر، وبذلك لم يطل ملك شجرة الدر أكثر
من ثمانين يوماً
وعادت شجرة الدر امرأة وزوجاً فقط، ولكنها لبثت كما كانت أيام زوجها الأول الملك الصالح سيدة القصر والبلاط، وكان المعز طاغية ظلوماً، ولكنه كان يخشى هذه المرأة القوية التي رفعته إلى الملك، ويصدع بأمرها ووحيها؛ وكانت شجرة الدر كثيرة الغيرة بالرغم من كونها قد جاوزت سن الشباب، فأرغمت المعز على طلاق زوجته الأولى، وكانت تحدث بينهما المناظر العاصفة من وقت إلى آخر. ولما سئم المعز هذه الحياة الزوجية النكدة فكر في اختيار زوجة أخرى، وبعث بالفعل إلى بدر الدين صاحب الموصل يخطب ابنته؛ ولعله لم يكن في الوقت نفسه بعيداً عن التفكير في التخلص من شجرة الدر، والتحرر من نيرها المرهق؛ ولكن شجرة الدر كانت ترقبت حركاته ومشاريعه، فثارت نفسها سخطاً وكبرياء، وأدركت بثاقب فكرها وخبرتها لدسائس القصر أنها إذا لم تبادر إلى التخلص منه، فإنه سيعاجلها بالتخلص منها
فلم تضع وقتاً، ولجأت إلى دهاء المرأة وخديعتها؛ وكان المعز يقيم منذ أيام في مناظر اللوق بعيداً عنها، فبعثت إليه تتلطف به وتدعوه إلى قصر القلعة، فاستجاب إليها المعز؛ وكانت قد رتبت له من غلمانها خمسة ليقتلوه، وعلى رأسهم الخادم سنجر الجوهري. وفي مساء اليوم الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة 655هـ ركب المعز إلى القلعة، فاستقبلته شجرة الدر بحفاوة، وبعد أن مكث حيناً دخل الحمام فانقض عليه الغلمان الخمسة وهو عار لينفذوا فيه حكم الإعدام الذي أصدرته شجرة الدر. وتنقل الرواية إلينا عن مصرعه روايات مثيرة، فيقال إن القتلة أخذوا بخصيتيه حتى زهق، أو أن شجرة الدر أخذت تضربه بالقبقاب على رأسه وهو يستغيث حتى أجهزت عليه. وعلى أي حال فقد تمت الجريمة وقتل المعز قتلة مروعة بتحريض زوجه الغادرة الخؤون
وحاولت شجرة الدر على أثر ذلك أن تقيم في السلطة أميراً آخر تستتر وراءه في الحكم فلم توفق؛ ونادى الأمراء المعزية بتولية الملك المنصور ولد المعز، وهو يومئذ صبي في نحو الخامسة عشرة، ووافق الأمراء الصالحية على توليته اتقاء الفتنة؛ وامتنعت شجرة الدر بجناحها بالقلعة مع نفر من خدمها وجواريها، وطالب الأمراء المعزية بالقبض عليها، وحاولوا اقتحام الدار فمنعهم الأمراء الصالحية حماية لشجرة الدر، وكادت تقع بين الفريقين
فتنة لولا أن تعهد الأمراء المعزية بتأمين شجرة الدر وعدم التعرض لشخصها. وفي اليوم التاسع والعشرين من ربيع الأول أُخرجت شجرة الدر باتفاق الفريقين من جناحها الملكي واعتقلت في البرج الأحمر أحد أبراج القلعة مع بعض جواريها، وقبض على الخدم الذين اشتركوا في الجريمة وزعيمهم سنجر وصلبوا جميعاً، وأعدم عدة كبيرة من الغلمان والطواشية، وقبض على الوزير الصاحب بهاء الدين بن حنا بتهمة الاشتراك في الجريمة، ولم يفرج عنه إلا بعد أن افتدى نفسه بمبلغ طائل
وأصر الأمراء المعزية بعد ذلك، بتحريض الملك المنصور وأمه، على معاقبة شجرة الدر، واعترض الأمراء الصالحية أياماً؛ ولكنهم كانوا الفريق الأضعف فلم تغن معارضتهم شيئاً. وفي يوم السبت الحادي عشر من ربيع الثاني (أو الجمعة 17 منه على رواية أخرى) نفذ المماليك المعزية إلى البرج الأحمر، وقبضوا على شجرة الدر، وحملوها إلى أم الملك المنصور لكي تتولى عقابها بنفسها. وهنا يقول لنا المقريزي (فضربها الجواري بالقباقيب إلى أن ماتت في يوم السبت؛ وألقوها من سور القلعة إلى الخندق وليس عليها سوى سراويل وقميص، فبقيت في الخندق أياماً، وأخذ بعض أراذل العامة تكة سراويلها، ثم دفنت بعد أيام - وقد نتنت وحملت في قفة - بتربتها قرب المشهد النفيسي؛ وكانت من قوة نفسها، لما علمت أنها قد أحيط بها، أتلفت شيئاً كثيراً من الجواهر واللآلئ كسرته في الهاون)
وهكذا زهقت تلك التي لبثت مدى أعوام طويلة زينة البلاط المصري وصاحبة الحول والسلطان فيه؛ وزهقت بنفس الأسلوب المروع الذي زهق بها زوجها الملك المعز؛ وكان القصاص مثيراً ولكن عادلاً، وكان الفصل الأخير مأساة قصر بدأت رائعة باهرة، ثم انحدرت إلى ظلمات الجريمة
محمد عبد الله عنان
حياة الأمة العربية بين الماضي والمستقبل
للأستاذ ساطع بك الحصري
مدير الآثار العامة في بغداد
يسرني أن أحيي فريق الكشاف العربي، تحت سقف هذا البناء القديم، باسم دائرة الآثار القديمة
إنني أحيي فريق الكشاف العربي باسم دائرة الآثار العربية مع علمي بأن الكثيرين من الحضور سيستغربون قولي هذا وسيتساءلون: ما شأن الآثار القديمة في الأعمال الكشافية؟
في الواقع أيها السادة أن الكشاف يمثل (الشباب المتجدد) وأعمال الكشافة كلها بمثابة (استعداد للمستقبل) في حين أن هذه البناية هي (موئل القديم) وكل ما فيها (مثال الماضي ومرآة التاريخ) فجمع الكشافة في هذه البناية القديمة بين القاعات المملوءة بالآثار القديمة، يظهر في الوهلة الأولى كأنه (الجمع بين الأضداد) مثل (الجمع بين الماضي والمستقبل)
غير أنا، أيها السادة، إذا تعمقنا في البحث قليلاً نضطر إلى التسليم بأن الماضي والمستقبل ليسا متناقضين إلا من حيث المعنى اللغوي؛ أما من جهة العمل الاجتماعي فإنهما مرتبطان متلازمان، فإن الماضي منبع المستقبل دائماً، كما أنه من عوامل الدفع إلى الأمام في كثير من الأحيان ولاسيما في حياة الأمم التي تستفيق من سباتها وتنزع إلى النهوض بعد الرقود
لقد قال أحد المفكرين: (إن الأموات لا يرقدون في المقابر في حقيقة الأمر، بل إنهم لا يزالون يعيشون في نفوس الأحياء ويسيطرون على الكثير من أعمالهم في كثير الأحيان) إن هذا القول يحتوي على قسط كبير من الحقيقة ولاسيما في حياة الأمم. فلأجل أن نقتنع بذلك جيداً يجدر بنا أن نلقي نظرة عامة على أهم مقومات الأمم
إن كل أمة من الأمم تكون شخصية معنوية تتصف بالحياة والشعور وتمتاز ببعض النزعات والميول
إن حياة الأمة تقوم بلغتها بوجه عام، أما الموت بالنسبة إلى الأمة فليس - في حقيقة الأمر - إلا في الحرمان من اللغة الخاصة بها. إن الأمة التي تدخل تحت حكم دولة أجنبية تفقد استقلالها وحريتها، تصبح مستعبدة لها ولكنها لا تفقد حياتها ما بقيت محافظة على لغتها، فقد قال أحد المفكرين: (إن الأمة المحكومة التي تحافظ على لغتها تشبه السجين الذي يمسك
بيده مفتاح باب سجنه) إنها تبقى حية ما بقيت محافظة على لغتها؛ إنها تبقى مستعدة للتحرر والاستقلال مادامت مستمسكة بلغتها. أما إذا فقدت هذه اللغة فإنها تكون قد فقدت الحياة؛ تكون قد اندمجت في الأمة المستولية عليها وفقدت كل ما لها من عناصر الكيان. إنها تكون قد زالت من عالم الوجود وبتعبير أقصر (ماتت) بكل معنى الكلمة. إن اللغة التي تكون بهذه الصورة هي (روح الأمة وحياتها) وتمثل (أهم عناصر القومية وأثمن مقوماتها). أليست ميراث الأجيال الماضية وهدية الحوادث التاريخية بوجه عام؟ أفلا يحق لنا أن نقول إنها تربط الماضي بالمستقبل دائماً؟.
هذا ويجدر بنا أن نلاحظ، أيها السادة، فضلا عن كل ذلك أن الحياة ليست كل ما يهم الوجود. فإن هناك شيئاً آخر لا يقل أهمية عن الحياة وإن كان تابعاً له، ألا وهو الشعور. إن للأمم شعوراً كما للأفراد. فالشعور القومي بالنسبة إلى حياة الأمم مثل الشعور الشخصي بالنسبة إلى حياة الأفراد.
قلنا إن حياة كل أمة من الأمم تقوم بلغتها، ويجب أن نعرف في الوقت نفسه أن شعور كل أمة من الأمم يتكون من ذكرياتها التاريخية الخاصة بها
فالأمة التي تحافظ على لغتها وتنسى تاريخها، تكون بمثابة فرد فاقد الشعور، بمثابة فرد يغط في النوم، أو بمثابة مريض في حالة الإغماء. نعم إنه لا يزال على قيد الحياة، ولكن حياته هذه لا تكتسب قيمة إلا إذا استيقظ من نومه واستعاد الشعور الذي فقده مدة من الزمن
فيحق لنا أن نقول إن إهمال التاريخ القومي يكون بمثابة الاستسلام للذهول والكرى؛ وأما نسيان التاريخ المذكور فيكون بمثابة فقدان الشعور. . .
هذه حقيقة يعرفها جيداً رجال الحكم والاستعمار ويستفيدون منها دائماً، فهم عندما يستولون على أمة من الأمم يبذلون قصارى جهدهم لإبعاد ذاكرتها عن تاريخها الخاص. إنهم يتوسلون بكل الوسائل الممكنة لتخدير الأمة وتنويمها عن طريق الحيلولة بينها وبين تاريخها القومي. إنهم يعرفون جيداً أن الشعور القومي عند الأمم المحكومة يأخذ في الخمود والتضاؤل كلما أسدل النسيان سدوله على (التاريخ القومي) إلى أن ينعدم تماماً بنسيان التاريخ الخاص نسياناً تاماً
أما عودة الشعور القومي إلى مثل هذه الأمم المحكومة فلا تتم إلا باستعادة الذكريات
التاريخية. إن حركات النهوض والانبعاث وجهود الاستقلال والاتحاد عند تلك الأمم تبدأ بوجه عام بتذكير الماضي واستلهام التاريخ. استعرضوا تواريخ استقلال الأمم التي كانت مغلوبة على أمرها، ثم نهضت وتخلصت من ربقة الاستعباد تفهموا جيداً منها أن حب الاستقلال يتغذى بذكريات الاستقلال المفقود، والتوقان إلى السؤدد والمجد يبدأ بالتحسر على السيادة الماضية والمجد السالف، كما أن الإيمان بمستقبل الأمة يستمد قوة من الاعتقاد بماضيها الباهر؛ والنزوع إلى الاتحاد يزداد شدة وحماسة بتجدد ذكريات الوحدة المضاعة. . .
ومما يجب أن يلفت أنظارنا في هذا المضمار أن خطة استلهام الماضي والاستفادة من التاريخ تظهر للعيان حتى في أعمال الأمم التي تقوم بثورات عنيفة وتحاول قلب حياتها الاجتماعية رأساً على عقب بصورة جدية وفورية. إن تلك الأمم تثور في حقيقة الأمر على (الماضي القريب) وحده، وتحاول في خلال ثورتها هذه أن تستمد قوة من الماضي البعيد. أنعموا النظر في تاريخ ثورات ووثبات تلك الأمم - مثل اليابان وتركيا الحديثة - تجدوا فيها أيضاً، بجانب حركات التجديدات الجندية، اهتماماً متزايداً بالأبحاث التاريخية، وتغلغلاً مستمراً في استخدام التاريخ لتقوية الروح القومية وإيجاد النزعات التجديدية
إن أمر الاهتمام بالتاريخ والالتفات إلى الماضي ليس من الخطط الخاصة بالأمم التي كانت في حالة تأخر وسبات، بل هي من الأمور التي تشمل جميع الأمم بدون استثناء. تعمقوا في دراسة أحوال أرقى الأمم العصرية، وأنعموا النظر في أحسن الشوارع والميادين في أرقى المدن الحديثة تجدوا في جميعها آثار اهتمام عظيم بالماضي والتاريخ، تجدوا في جميعها عدداً كبيراً من الأنصاب والتماثيل والألواح التذكارية وسلسلة طويلة من المهرجانات والاحتفالات يقصد منها تذكير الماضي للناس، وترسيخ التاريخ في الأذهان
ولهذه الأسباب كلها أقول في كل حين: إن الماضي منبع فياض للمستقبل والتاريخ قوة مهمة في حياة الأمم
ولهذه الملاحظات رأيت من الواجب على فريق الكشاف العربي أن يذهب إلى سامرا ليقضي يوماً كاملاً في التجوال بين أطلالها، ويطلع على الآثار الباقية من عند الإمبراطورية العربية العباسية فيها، ثم يعود إلى هنا ليجتمع معنا في هذه البيئة التاريخية
ويتأمل مدة في ماضي أمتنا العزيزة، ويستمد من ذكريات هذا الماضي قوة جديدة لجهوده القادمة. ولهذا أقدمت على تحيته باسم دائرة الآثار القديمة
إنني لا أحب المغالاة في مثل هذه الأمور، بل أنزع دائماً إلى مجابهة الحقائق من كل وجوهها. وبعد أن شرحت لكم ما أعتقده في خطورة الدور الذي يلعبه التاريخ في حياة الأمم أرى من واجبي أن أقول لكم كلمة عن مضاره أيضاً، لكي أحذركم منها
إن الحياة الاجتماعية غاية في التعقد؛ والعوامل الاجتماعية في منتهى التشابك. ولذلك قلما نجد بين تلك العوامل ما هو مفيد على الإطلاق، ومجرد عن الشوائب والأضرار في كل الأحوال. إن الفوائد والأضرار في الحياة الاجتماعية تتشابك بشكل غريب، فاقتطاف الفوائد مع توقي الأضرار يحتاج إلى يقظة كبيرة وانتباه شديد في معظم الأحوال
إن تأثير التاريخ والماضي في حياة الأمم، لا يشذ عن هذه القاعدة العامة، فإنه أيضاً قد يصبح مضراً في بعض الأحوال
فإن التاريخ يكون مفيداً عندما يفرغ في شكل (قوة دافعة) تحركنا إلى الأمام كما ذكرت لكم؛ غير أنه يصبح مضراً إذا أخذ شكل (قوة جاذبية) تدعونا إلى العودة إلى الوراء. فلا يجوز لنا أن نعتبر الماضي هدفاً نتوجه نحوه، ونسعى للعودة إليه، بل يجب علينا أن نجعل منه (نقطة استناد) نستند إليها في سيرنا إلى الأمام، يجب علينا أن نكون منه قوة فعالة حافزة تدفعنا نحو المستقبل الجديد، وبتعبير أوجز: شعارنا في هذا الباب يجب أن يكون: (تذكر الماضي، مع التطلع إلى المستقبل دائماً)
واسمحوا لي أن أشرح لكم قصدي من هذا الشعار بذكر بعض الأمثلة:
كلكم تعلمون أن سيرة خالد بن الوليد من أجلِّ السير التي سجلها التاريخ، فيجب علينا أن ندرسها بكل اهتمام؛ ولكن لماذا ولأي قصد؟ ألقصد الحصول على دروس في فنون التعبئة والحرب؟ كلا؟ فإن الخطط الحربية التي كانت تضمن النجاح والنصر في عصر خالد بن الوليد لا يمكن أن تفيد في هذا العصر بوجه من الوجوه. ولا مجال للشك في أن الخطط الحربية التي تضمن النصر والنجاح في عصر الدبابات والطيارات والغواصات والمدافع الضخمة والقذائف الهدامة والغازات الخانقة - تختلف كل الاختلاف عن الوسائل التي كانت تؤدي إلى النصر في حروب العصور السالفة. فكل من يحاول أن يجد في خطط خالد
بن الوليد دروساً في فنون الحرب قابلة للتطبيق في العصر الحاضر يكون قد أقدم على عمل لا يتفق مع العقل والمنطق
غير أنه يجب أن نعرف أن الحروب لا تتم بالوسائط والقوى المادية وحدها، بل إنها تحتاج إلى قوى معنوية متنوعة فضلاً عن القوى المادية، أهمها: الوطنية الصادقة، والإيمان بإمكان النصر مع الإقدام على إحرازه بحزم وثبات، وجرأة وشجاعة لا تتأخر عن نوع من أنواع التضحية. إن هذه القوى المعنوية لعبت ولا تزال تلعب دوراً هاماً في الحروب في جميع العصور، مهما كانت الوسائط المادية المستعملة في خلالها، سواء أكانت من نوع السهام أم الدبابات، أم الجمال أم الطيارات. إن سيرة خالد بن الوليد مملوءة بأمثلة عليا عن هذه القوة المعنوية؛ وإذا ما أقدمنا على درس سيرة خالد بن الوليد يجب أن ندرسها لكي نستفيد من تلك القوى المعنوية؛ وإذا ما بحثنا عنها يجب أن نبحث عنها بقصد استثارة قوى معنوية مماثلة لها، لا بقصد محاولة الحرب على الطريقة التي مشى خالد بن الوليد عليها
وكذلك كلكم تعلمون بأن أجدادنا العظام أسدوا إلى الطب من الخدمات ما لا ينساه التاريخ، فيجب علينا أن ندرس تلك الخدمات، ونطلع عليها ونتذكرها دائماً، ولكن لماذا؟ وبأي قصد؟ هل يجوز لنا أن نفعل ذلك بقصد الاستفادة من آراء كبار أطباء العرب في مداواة الأمراض؟ لا مجال للشك في أن ذلك يكون في منتهى السخافة. يجب علينا أن ندرس خدمات العرب للطب، لا بأمل أن نجد في اكتشافاتهم ما يفيدنا في أمر التطبيب والمداواة، بل لنزداد مباهاة بأعمال أجدادنا العظام، ولنزداد إيماناً بحيوية أمتنا الكامنة، ولنحصل على دوافع باطنية تحفزنا على القيام بخدمات تشبه خدماتهم الغالية. إن أطباء العرب القدماء خدموا الطب خدمة كبرى، ومشوا في مقدمة العالم في هذا المضمار قروناً عديدة. إن خدمات هؤلاء يجب أن تولد في نفوسنا طموحاً لإحراز مكانة عالية في الطب الحديث، مثل المكانة التي كان أحرزها هؤلاء في العصور التي عاشوا وعملوا فيها
ولذلك قلت إنه يجب علينا أن نستمد من التاريخ قوة معنوية، تثير في نفوسنا نزعات التقدم إلى الأمام، وتحفزنا إلى العمل لمجد المستقبل
أما أهم النزعات التي يجب أن نستلهمها من التاريخ فهي في نظري الإيمان بحيوية الأمة العربية، وبإمكان حصولها على مجد جديد لا يقل شأناً عن المجد الذي كانت نالته في سالف
العصور
إننا في حاجة إلى مثل هذا الإيمان في هذا الزمان أكثر من أي زمان آخر، لأن المصائب انصبت على العالم العربي من كل حدب وصوب. ومن المعلوم أن كثرة المصاعب والمصائب تفتح باباً إلى تسرب الفتور والقنوط إلى القلوب التي لا تتجهز بالأمل القوي، ولا تتقوى بالعقيدة الراسخة
ونحن نعلم أن الأمل من أهم عوامل السعي والعمل، وأما القنوط فهو من أفعل دواعي التقاعد والشلل. ولهذا السبب نستطيع أن نقول: إن تطهير القلوب من شوائب الفتور والقنوط وتجهيزها بالأمل والإيمان يجب أن يكون من أهم أهداف العاملين، ولاسيما في الظروف التي أحاطت بالعالم العربي في خلال هذه السنين
وبهذه الوسيلة، وقبل أن أختم كلمتي هذه أود أن أذكركم بإحدى الأساطير اليونانية، وهي (أسطورة باندور):
باندور كانت إلهة جمة الخصال تكونت من عطايا جميع الآلهة: أعطتها كل إلهة من الآلهة الموجودة في ذلك الحين شيئاً من خصالها، ولهذا السبب سميت هذه الإلهة الجديدة باسم (باندور) بمعنى (عطية الكل)
عندما غضب جوبيتير على هرقل وأراد أن ينتقم منه فكر في إغرائه بواسطة باندور، فسلمها علبة سحرية، وطلب إليها أن توصلها إليه من غير أن تفتحها وتطلع على ما فيها. وحملت باندور هذه العلبة، غير أنها لم تستطع أن تتغلب على ميل الاستطلاع في نفسها، ففتحت العلبة في طريقها؛ وعند ذلك أخذ يخرج من العلبة جيش عرمرم من المساوئ والشرور، وينتشر في الأرض بسرعة العاصفة مع أزيز هائل. اندهشت باندور من كل ذلك، وأخذت تبذل كل ما لديها من قوة لإعادة إقفال العلبة بسرعة؛ غير أنه قد خرج من العلبة جميع الشرور قبل أن تتمكن من ذلك، ولم يبق فيها إلا شيء واحد، وكان ذلك الشيء الذي بقي في العلبة مقابل جميع تلك المساوئ والشرور هو (الأمل)
إن حالة العالم العربي الآن تشبه الحالة التي حدثت عند انفتاح علبة باندور المذكورة في هذه الأسطورة. لقد انتشرت المصائب والشرور في العالم العربي، ولم يبق بين أيدي أبنائه شيء غير (الأمل)، فيجب علينا ألا ننسى أن الأمل هو من أهم عوامل العمل، ولابد أن
نحرص عليه كل الحرص فلا نترك سبيلاً إلى تسلل القنوط إلى قلوبنا. فليكن قلب كل واحد منا شبيهاً بعلبة باندور (يحفظ الأمل) بل لا يكتفي بحفظه فيسعى إلى تغذيته وتقويته إلى أن يتحول إلى (إيمان لا يتزعزع) يدفعنا إلى العمل المتواصل بروح التضحية والإخلاص.
ساطع الحصري
إلى الأستاذ الزيات
تكيف الأخلاق الفاضلة
للأستاذ خليل جمعة الطوال
- بلى يا محمود! وهل تشك في ذلك. . .! إن الأخلاق الفاضلة هي مبعث كل سعادة، وأس كل نجاح، ولولا فضيلة الخلُق لكان للعالم شأن غير هذا الشأن. فهي الصخرة الناشزة في طريق الكفر التي تحطمت عليها أصنام الوثنية في قريش؛ وهي القوة العظيمة التي بدَّلت نواميس الطبيعة التي لا تتبدَّل يوم هرب موسى بشعبه من ظلم فرعون الطاغية؛ بل هي العدة الوافرة التي تسلح بها المسلمون في جهادهم فجعلت سيوف المشركين في أيديهم خشبا، وحملها العرب في فتوحاتهم فإذا بها لغم تداعت له جوانب الإيوان وشرفاته، وتلاشت فيه أبهة التاج ومجوهراته. ولكن ما العمل فقد تطور الحال، واستحال الزمان، ولم يعد ابن الأمس - المتوحش على زعمنا - في قياس هذا العصر بإنسان، ولا أخلاقه الرجعية بالتي ترجح فيها كفة الفضيلة في الميزان؟
يا أخي! إنها (لموضة) تعم كل شيء، وتجتاح كل ما في سبيلها، وتخضعه لحكمها؛ فلا فرق في ناموسها بين الأخلاق الفاضلة والسراويل المخرفجة التي يلبسها خصيان الأتراك. ومتى انتشرت (الموضة) فعار على الإنسان أن يتخلف عنها. ولقد نظرتُ في تاريخ المدنية فرأيت فيه أزياء من الأخلاق بعدد (موضات) الملابس، ورأيت أن الأخلاق تتكيَّف بالزمن وملابساته، تكيف الجسم بالمحيط ومؤثراته. وما تعمل الأخلاق غير هذا. . . إنها مكرهة عليه لتحتال لنفسها على البقاء وتنجو من يد الفناء، فهو طريقها في شهوة الخلود، ولا محيص لها عن سلوكه. ألا فانظر كيف يقلم الإنسان أظفاره لاستغنائه عنها، ويدرمها (بالمونيكير) مجاراة للموضة، وكيف حسر عن رأسه ليظهر شعرهُ السبطُ اللامعُ المطيب بأطايب (الموضة) أفلا يسفر بعد هذا عن أخلاقه!. . . ولقد نظر في ناموس الأخلاق، فرأى أن الفضائل التي كانت فيما مضى قائمة به إلى معالي الأمور، حافزة له على عظيم المآثر، هي القاعدة به اليوم عن عالي الرتب، وعريض الجاه؛ وهي السالكة به طريق الفشل، والصادة له عن محجة النجاح؛ فلا عجب بعد هذا أن يتنكب جادتها، ويصد عن ورد شرعتها؛ فالكرمُ الذي كان يتهالك عليه المرءُ فيما مضى، إذ كان طريق السؤدد
ومحمدة ما فوقها من محمدة أصبح اليوم - في عرف هذا العصر - تبذيراً وهوساً. وأعوذ بالله ممن يرميه الناس بالتبذير، ألا يتهمونه بالهوس؟ والحلم أصبح ضعفاً وعجزاً، والتقوى تزمتاً ورجعية، والحياءُ نقصاً في الرجولة وأنوثة. وما الفضائل الجلى، والخطوة البالغة، والمكانة السامية إلا في الطباع اللئيمة، والكذب الصراح، والتملق الشائن، والخلق اللدن، والمثالب الفاضحة، والسفالة الواضحة.
هي الأخلاق تنصهر بالموضة وتميع، ومتى ماعت جرت - حسب قوانين السوائل من فوق إلى تحت - من ذروة سمو النفس، إلى دركة حيوانية الطبع، وتشكلت بشكلها والعياذ بالله!
أين ذاك الزمان الذي كان يتنافس فيه الأقران على اجتذاب حبل الفضيلة بوأد حيوانية الطبع، وعلى سمو النفس بصلب سفالة الشهوة، وعلى زعامة الخلق بإنكار أنانية الذات، مِن هذا العصر الذي تدلت فيه معنويات الفضيلة، فحبل الشهوات البهيمية على الغارب، وخسة الطبع والقحة هما من الأخلاق في ذروتها، والتبجح الكاذب مدار الحديث في كل مجلس وناد؟ والأغرب أن الناس إنما يتجاحشون على الرذيلة باسم الفضيلة، ويتمرغون في حمأة الموبقات باسم الأخلاق، ويرتكبون اللتيا والتي باسم التجديد! التجديد الذي شمل الأخلاق وعم الفضائل، فحور فيهما وبدل، ما حور وبدل في الثياب
استعرض الناس على اختلاف طبقاتهم وبيئاتهم، وانظر علامَ يتجاحشون! أعلى الصدق وهم يرونه آفة على جمع المال الذي احتكرته المخاتلة والخداع؟ أم على الحياء وقد أصبح صاحبه مقروناً بالحرمان، كما أصبحت الحظوة من مدلولات القحة؟ أم على الكفاية وقد تغير مقياسها - بتغير الموضة - ولم تعد دليلاً على مقدار رسوخ قدم صاحبها في العلم والعرفان، ولا على مقدار ما في نفسه من معنويات الشرف، وطهارة الوجدان، وإنما على مقدار ما له من جاه عريض، وأصل أثيل، وعلى عدد ما في بطانته من أرباب الرتب الملحوظة، والألقاب الضخمة، والشخصيات المنفوخة: إن صح هذا التعبير كالأفندية! والباكوية! والباشوية! كلا ليس على شيء من هذه الفضائل يتجاحشون، ولِمَ يتجاحشون عليها وهم يرونها - جميعها - قد اختلطت، وتفاعلت، وتركبت في جوهر واحد فقط هو الوظيفة؟
أفلا تراهم يشترون أحط الوظائف دركة بماء وجوههم اللدنة ونخاسة سمعتهم السافلة، وفضيلتهم الدابرة، حتى إذا ظفروا بها بطروا، وضحوا في سبيل استبقائها والحرص عليها بجميع أخلاقهم وبضمائرهم الموبوءة، وما ذلك إلا ليكونوا من ذوي الزلفى، وليثملوا بنشوة الغرور، إذ يقول فيهم الناس، تزلفت إلى البيك في الديوان وزرت الأفندي في الديوان، وتوسطت في الأمر لدى الباشا في الديوان
قد يسوءك الأمر ويغمك، ولكن الأخلاق الفاضلة غير مسئولة عن ذلك لأنها تطورتْ وأنت تحجرتَ - في عرف أهل الموضات - وتقدمتْ فتخلفتَ
يا أخي! لقد تلقحت أخلاقنا الفاضلةُ الأصيلة بأخلاق سِفلة الشعوب الوضيعة فنغلت وصارت كالخنثى، لا هو ذكر ولا أنثى، بل كالبغل ليست فيها أصالة الحصان ولا ضعف الأتان
هي (الموضة) يا عزيزي. . .! وقد أبت الأخلاق إلا أن تتكيف بها، فتصبغت وتطيبت ثم تدلت وانتهت إلى هذه الحالة التي تشكو منها. وما شكاتك إلا شكاة الفضائل بأسرها، والأخلاق العالية بكاملها. هي (الموضة) وعبثاً يحاول الإنسان أن يجاري المدنية ولا يجاريها، فهي من مقوماتها الأولى، ومستلزماتها الرئيسية
أفبعدَ هذا - يا محمود - تطمح إلى النجاح في القرن العشرين وعدتك له عدة الجدود الغابرين؟
(شرق الأردن)
خليل جمعة الطوال
صور وخواطر
بعد المرض
للأستاذ علي الطنطاوي
. . . يقولون إن الإنسان يأكل ليعيش، ولكني أعيش في هذه الأيام لآكل. آكل بشراهة ونهم، حتى أحس الامتلاء ولا يبقى في المعدة مكان لذرّة. . . فأدع الطعام آسفاً، وأنظر إلى الأطباق وما فيها نظرة المودّع الحزين، ثم أقوم إلى كتابي فأفتحه، أو إلى شباكي أطلّ منه، أتلهى بهذا أو بذاك حتى أحس أو أتوهم أني أحس جوعاً، فأدعو بالطعام، أو تمضي ثلاث ساعات، فآكل ولو لم أكن جائعاً. . . ألم يقل لي الطبيب: كلْ كلّ ثلاث ساعات؟!
ذلك لأني لبثت عشرين يوماً أشتهي قطعة الخبر، فأطلبها وألح في طلبها، فتمتنع عني، وأحرمها فأراها في منامي، وأحلم بها في يقظتي تجسمها لي أمانيّ وأفكاري، فأتخيل أين قد نلتها، فإذا أنا لم أنل إلا هذا اللبن (الحليب) الذي برمت به واجتويته، والذي يفضل المريض رؤية عزرائيل على رؤيته يطالعه في الصباح وفي المساء، والذي كرهت لأجله كل أبيض، حتى بياض الفجر وبياض النحر. . . والذي أصبح قذىً في عيني لا أطيق رؤيته، وسمّاً في فيّ لا أقدر على تذوقه. . . ثم فرّج الله عني بعد الضيق وأنالني ما أشتهي من الأطعمة وأريد، فكيف لا أهجم عليها بشراهة ونهم، وكيف تبلغ بي الحماقة أن أقوم عن المائدة وفي الأطباق بقية؟
لا أكاد أشبع من الطعام ولا من القراءة، ولا من النظر في هذا الفضاء الفسيح، وهذه الجنات المتسلسلة تبدو من شباكي يعانق بعضها بعضا، حتى يستلقي آخرها في أحضان قاسيون. لا أكاد أشبع من شيء، لأني خرجت من هذا المرض كمن ولد ولادة جديدة، فهو لا يعرف الدنيا قط وهو ينظر إليها بعيني طفل ذكي يدهشه كل شيء ويود لو يمتلكه ويأكله أو تحتويه يده. . . ولأني خرجت منه ضعيفاً مهدوداً، ولقد كنت من قبله قوياً نشيطاً. استحممت يوماً في البحر، ثم خرجت منه متوثباً متحفزاً، أكاد أطير مما أحس في جسمي من النشاط، فسرت على الشاطئ حتى حاذيت الصخرة (الروشة!)، تلك الصخرة القائمة في البحر كأنها الطاق العظيم، أو كأنها قوس نصر، أقامه الماء الهيّن الليّن الذي انتصر بصبره وثباته في جهاده، على هذه الصخرة العاتية المتكبرة، فجعلها فارغة جوفاء، ولا تزال على
عتوها وكبرها سنة الله في المتكبرين، لا يكونون إلا فارغين. . . تلك التي يدعونها في بيروت صخرة الانتحار، لأن المجانين أعداء أنفسهم وأوطانهم، يلقون بأنفسهم منها يثبون إلى. . . إلى جهنم! وكانت الشمس مائلة إلى المغيب، تمنح البحر آخر هباتها، فيبدو براقاً لامعاً، قد لبس حلّة من النور، فأكبرت هذه المخلوقات: الشمس والبحر والصخر، ووقفت صاغراً حيال عظمة الطبيعة وجلال الطابع جل جلاله، ثم غلب عليّ هذا النشاط الذي أحسّ، وبلغ دماغي فملأه ادعاء وكبراً وغروراً؛ والمرء في فكره وعواطفه خاضع أبداً لحالة جسمه، ودرجة صحته، فرأيت هذا الصخر إلى زوال قد عبث به الماء، والماء إلى ذهاب قد بخرته الشمس، والشمس إلى غياب قد ابتلعها البحر، ورأيتني وحدي الذي يبقى، أنا الذي فتّت الصخر، وأنا الذي أذلّ البحر، وأنا الذي اتخذ الكون كله معمل تجارب لعقله وسخّره لمنفعته، وأنا الذي يحوي في صدره عالماً أكبر من هذا العالم، ونوراً أبهى من هذه الشمس وعواطف أعمق من هذا البحر، وأرقّ من هذا الماء، وأشد من هذا الصخر. . .
وذهبت إلى المدرسة، وأنا أقول (أنا)، والعياذ بالله من (أنا) فإنها كلمة إبليس. . . ذهبت ماشياً فأكلت من ساعتي أكل من لبث في البحر ساعتين، ومشى ساعة كاملة، من (الروشة) إلى الحرج، وكانت سكرة النشاط، ونشوة (أنا) لا تزال ضاربة في رأسي، فذهبت مع الطلاب أمشي وأعدو وأثبت، وأفعل كل ما لا يفعل عاقل، ولم أعد إلى المدرسة إلا غارقاً في العرق فشربت قازوزتين مثلجتين من (القازوز)، وصارعت. . . واغتسلت بالماء البارد، ونمت فأصبحت مريضاً!
يا لهذاالمغرور الأحمق الذي أصاب ذرة من العلم، وعبث بالكون عبث الوليد، يرفع ويضع فلم يعد يرضيه إلا أن يدّعي الألوهية، أو (يؤلّه هذا العلم). . . يا لهذه القوة الكاذبة، وهذه السطوة الفارغة، هذا القويّ الجبار الذي فتت الصخر، وأذلّ البحر، يذله مخلوق من أصغر مخلوقات الله، لا تراه لهوانه العين؛ يعيش الملايين منه في قطرة ماء، مخلوق واحد من أضعف المخلوقات يلقي الإنسان محطوماً، ويطّير هذه الأفكار كلها من رأسه حتى يعود ذليلاً خانعاً. . . فكيف ويحك لو أصابك الله بعذاب من عنده؟ يا للأحمق المغرور!
أصبحت فإذا أنا قد نسيت أفكار الأمس ونسيت الأمس كله وأحسست بالبعد عن الدنيا التي آلفها وأحبها. ولقد انقطعنا مرة في قلب جزيرة العرب، وتهنا في رمالها الموحشة سبعة
عشر يوماً نسير وراء حدود العالم مع الوحش والآكام، والشمس والعطش والموت، فما أحسست بأني بعيد عن الدنيا ولا بلغ بي ذلك كله ما بلغ بي هذا المرض القصير. . . لقد أصبحت بلا ماض ولا مستقبل ولا حاضر إلا هذا الحاضر الضيق الأليم الذي يستقر في بطني حيث (الزائدة) الملتهبة، وفي خاصرتي حيث الرمل في الكلية. اصطلحت عليّ العلل، واجتمعت المتناقضات، فالالتهاب لا يطفئه إلا كيس الثلج، ونوبة الرمل لا يصلحها إلا الماء الحار، فإن داويت هذه زدت تلك، وإن عالجت تلك انتقضت هذه. . .
أنساني المرض كل شيء، حتى ما أذكر أني كنت يوماً من الأيام أمشي وآكل وأشرب واقرأ وأكتب وأمارس أنواعاً من الرياضة، ولا أذكر أني كنت أستطيع التفكير في آلاف المسائل وأعالج المئات من الأمور، وماتت الدنيا في عيني، وأصبح هذا الألم دنياي كلها، فأنا أطلق الفكر من عنانه، فلا يخرج عنه، ولا يجول إلا فيه، يتخيل أبشع أنواع المرض، وأفظع ألوان الخطر ثم ينطلق الفكر إلى العملية التي أكد الأطباء أنه لابد منها، فلا يكاد يشرع في تصورها حتى تسود الحياة في عيني، وأراها كلها ألماً وشراً، وأتمنى أن لو كان أبي على مذهب المعري، أو لو أن أمي لم تلدني. . . ويوسوس لي الشيطان أن ما حق أبيك في أن يقضي عليك فيجيء بك، أليست حياتك متعلقة بك وحدك؟ فهل استشارك فيها، أو هو قد ضحى بك وبحريتك وسعادتك في سبيل لذته، أو هو لم يفكر فيك أبداً، ولم تخطر له على بال؟. . . فأرى الشيطان يريد أن يزيدني على مرض جسمي مرض ديني، فألعن الشيطان وما جاء به، وإن مما يجيء به الشيطان لما يسمونه فناً وابتكاراً وتجديداً، ولكنه يبقى أبداً فناً شيطانياً. . . أدع هذا وأعود بفكري إلى سرير العمليات الذي حملني إليه المدير مرة ووكل بي الممرضات، وأقام عليّ طالبين يحرسانني، وذهب إلى الطبيب يحضره فوثبت أحمل أوجاعي وأناضل دون حريتي حتى بلغت الشارع حافياً، وركبت إلى الكلية أول سيارة رأيتها وأنجاني الله من العملية والأطباء. والأطباء - والرجاء عدم المؤاخذة - قوم برئوا من العاطفة وانبتوا من الشفقة يشقون بطون الناس - نسأل الله السلامة - ويخرجون أمعاءهم فيضعونها في طبق. . . ويكسرون جماجم البشر، ويعبثون في أدمغتهم ويفعلون ما لو فعله غيرهم للحقه الشرط، واصطف له القضاة، وفتحت له أبواب السجون، وأعدت له حبال المشانق؛ ثم يتصدرون المجالس يفتخرون بأنهم أصدقاء
الإنسانية أفأعطيهم بطني ليشقوه، ويردوني مريضاً بعد إذ أنا معافى وأتعجل الداء بنفسي؟ أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين
لم يكن يفزعني شيء وأنا مريض مثل ما يفزعني الليل بسواده وامتداده. كنت أخافه أشد الخوف، وأحسب لمجيئه الدقائق والثواني، وأرقبه كما يرقب المحكوم ساعة القتل، ذلك أني لم أكن أستطيع النوم ولا أطيق الجلوس، وإنما أستطيع أمراً واحداً، هو الاضطجاع على قفاي أحدّق في السقف ليلاً ونهاراً. . . ولطالما رأيت في السقف بقعة سوداء، فخيل إليّ لطول التحديق فيها، أنه حية تريد أن تنقضّ عليّ أو رتيلاء كبيرة ذات تسع وتسعين رجلاً وعشرة رءوس، أو مجموعة من العقارب أو عفريت من الجن، أو جني من العفاريت، فأصيح فزعاً وأنطلق أهذي هذيان محموم حرارته أربعون. . .
إني لأضحك الآن، وأكركر من الضحك حين يعيدون عليّ ما كانوا يسمعون مني إذ أهذي، وأرى فيه صورة واضحة لكثير مما نقرأ في الصحف والمجلات ينشره أصحابه على أنه أدب، ويقرؤه الناس على أنه ثرثرة وهذيان محموم!
وكان أحبّ شيء إليّ وأنا مريض أن يكثر الناس من حولي، ثم يتحدثوا شتى الأحاديث لأخلص من وحدتي وأتسلى عن ألمي وأذكر جانباً مما في الحياة. . . ولكني كنت أسمع أصواتهم كأنها خارجة من جوف بئر سحيق، أو أعماق مغارة بعيدة، وأراهم من خلال ضباب كثيف، فلا أتبين صورهم ولا أصواتهم، وسرعان ما أملّ منهم وأطلب جديداً. كانت أيامي متشابهة متشاكلة، فكنت أحب أن أجد كل لحظة شيئاً جديداً
ضعفت قواي وضاعت إرادتي ولم يبق لي طاقة على المشي، ولا قدرة على المحاكمة العقلية، ولم يبق حياً فيّ إلا لساني. . . أكل ذلك لأن جرثومة صغيرة دخلت جسمي. . .؟ يا لضعف هذا الإنسان القويّ!
تألمت في هذا المرض لكني تعلمت. تعلمت في الحياة درساً جديداً، وما الحياة إلا دروس. . . هو أن المرض نعمة ليس بنقمة، وأنه لازم للإنسان لا يدرك قيمة الصحة ولا يعرف معنى الحياة ولا يرجع إلى نفسه إلا إذا مرض، هنالك يدرك معاني هذه الأشياء التي يمرّ بها وهو صحيح مراً سريعاً لأنه مشغول عنها بما لا نهاية له من الصغائر والترهات، وإن للمريض - قبل كذة الصحة - لذتين، لذة هذا العطف الذي يحاط به والحب الذي يغمره،
ولن أنسى أبداً عطف مدير الكلية وناظرها عليّ وحبّ الطلاب إياي وإني لأسيغ ذكرى الألم إذا تصوّرت هذين الطالبين اللذين كانا يقيمان الليل كله بجانبي، إذا قلت آه أو انقلبت من جنب إلى جنب كانا واقفين أمامي. آثراني على أهلهما وفضّلَا راحتي على راحتهما، أما عطف اخوتي وأهلي فلست أذكره. . .
ولذة أخري، وهي اللذة الكبرى التي يجدها ساعة يلجأ إلى الله، ويدعوه مخلصاً مضطراً، وكنت إذا وصف لي مريض به مثل ما بي اليوم، يُدار بي من الرثاء له، والخوف مما هو فيه فلما غدوت مريضاً، لم أجزع ولم أخف، وكانت تمر بي لحظات أضيق فيها بهذا القيد إلى السرير وهذا الألم، ويبلغ بي الضيق في الليل أقصاه، ولكنها كانت تمر بي لحظات كنت أرضى فيها كل الرضى، وأفئ فيها إلى ربي، وأرى ما أنا فيه امتحاناً لصبري، ونعمة من الله تزيد في أجري، فأطمئن ويبلغ بي الأمر إلى أكثر من الاطمئنان إلى نوع من اللذة الخاصة لا أشعر بمثلها في الصحة، وإلى لون من النشاط والقوة لا أعرفه قط وأنا معافى، وأحسب أن لو أصبت بأشد الأمراض وأقواها، وأنا أقدر على هذا الرضا، وأحس هذا الاطمئنان لما وجدت فيه إلا لذة. هذا ما كنت أجده لا أبالغ ولا أتخيل، فأرجو أن يصدقني القراء، وهذه نعمة من نعم الله الخفية على الإنسان، ومظهر من مظاهر القوة الهائلة التي أعطاه، فلا يحكم الإنسان على المريض أو البائس بظاهره. فيشك في عدل الله ورحمته، ولكن ليدخل إلى الداخل، لعل وراء الجدار الخرب قصراً عامراً، ولعل خلف الباب الضخم كوخاً خرباً، ولعل في هذه الثياب الرثة، وهذا الجسم الممزّق البالي نفساً مشرقة سعيدة وإنساناً كاملاً. . .
وتعلمت من المرض أن المساواة التامة هي سنة الله في الحياة. انظروا المرض هل يعرف غنياً أو فقيراً؟ هل يمتنع منه الملك الجبار رب القصر والحراس؟ وهل تمنع أبوابه وجنده هذا المخلوق التافه الصغير من الدخول؟ سد الأبواب، وأغلق النوافذ، وأقم الجند بالسلاح، وعش في صندوق مغلق، إنه يدخل مع الهواء الذي تنشقه، والماء الذي تشربه، والطعام الذي تأكله، ويحتل جسمك، ويعيش في عينك وفمك، ويسبح في دمك
ترفع عن المساكين، وتكبر على الفقراء يرجعك المرض إلى صفوف المساكين والفقراء، فتألم كما يألمون، وتصيح مثل ما يصيحون، وكل ما في الحياة يسوّى بينك وبينهم؛ هل
تنشق أيها الغني من الهواء هواء معطراً، وينشقه الفقير بغير عطر، أم إن الهواء وهو قوام الحياة لك وله، قد سوى فيه بينك وبينه؟ هل تشرب ماء العيون معسولة مذاباً فيها السكر، ويأخذها الفقير ملحاً أجاجاً. . إن الهواء والماء والشمس والقمر والصحة والمرض والولادة والموت كل أولئك سطور خط فيها الله على صفحة الحياة: إن الناس متساوون. هل سمعتم أن ابن الملك يولد إذ يولد مرتدياً الحرير، يمشي على رجليه إلى سريره ويلقي بنفسه خطبة ميلاده، ويشرف من شباكه على شعبه، وابن السوقي يولد أخرس عارياً؟ افتحوا القبر المجصص الفخم، وارفعوا ما فوقه من نصب وتماثيل وكتابات ونقوش هل تجدون فيه عظاماً تضوع بالمسك، وتفوح بالند، لأنها كانت تلبس الحرير، وترتدي الديباج؟
هذا ما تعلمته من المرض!
وبعد، فلقد أطلت الكلام، وآن أوان الطعام، ولابد من قطع هذا الحديث! وأنا أحمد الله على الصحة والمرض، وأحمده على كل حال
(بيروت)
علي الطنطاوي
التزوج بالغربيات
تحريمه بفتوى وقانون
لأستاذ جليل
هلاكُ الشيوخ والشبان منا معشر المصريين على التزوج بالغربيات أجلَ أن نهدّم (قاصدين أو غير قاصدين بُلْهاً أو متفلسفين) الأسرة المصرية بل الأمة المصرية - أجبر على كتْب هذه السطور:
قال الله تعالى: (اليومَ أُحِلّ لكم الطيبات، وطعامُ الذين أوتوا الكتاب حِلّ لكم، وطعامكم حلّ لهم، والمحصناتُ من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهنّ أجورهنّ محصنين غير مسافحين ولا مُتخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عملُه، وهو في الآخرة من الخاسرين)
صدق الله العظيم، وقول الله بيّن، وظاهرُه طوَّع لائمةٍ نكاحَ الكتابية: اليهودية والنصرانية. بيد أن لنزول الآيات أسباباً يوردها المفسرون، وقد يكون المغزى في آية غير ما يلوح أولَّ وهلة. والصحابة والتابعون هم أدرى بكتاب الله ومراميه من تابعي التابعين ومن مجتهدين مولدين محدثين (وللمجتهد فضل وقدر وأجر) فقد جاء في (مفاتيح الغيب):
(كان ابن عمر (رضى الله عنهما) لا يرى التزوج بالذمية، ويحتج بقوله:(ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ) ويقول: لا أعلم شركا أعظم من قولها: (إن ربها عيسى) ومن قال بهذا القول أجاب عن التمسك بقوله تعالى (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) بوجوه: (الأول) إن المراد الذين آمنوا منهم، فإنه كان يحتمل أن يخطر ببال بعضهم أن اليهودية إذا آمنت فهل يجوز للمسلم أن يتزوج بها أم لا، فبين تعالى بهذه الآية جواز ذلك. (الثاني) روي عن عطاء أنه قال: إنما رخص الله تعالى في التزوج بالكتابية في ذلك الوقت لأنه كان في المسلمات قلة، وأما الآن ففيهن الكثرة العظيمة، فزالت الحاجة، فلا جرم زالت الرخصة. (الثالث) الآيات الدالة على وجوب المباعدة عن الكفار كقوله (لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) وقوله:(لا تتخذوا بطانة من دونكم) ولأن عند حصول الزوجية ربما قويت المحبة، ويصير ذلك سبباً لميل الزوج إلى دينها، وعند حدوث الولد فربما مال الولد إلى دينها، وكل ذلك إلقاء للنفس في الضرر من غير حاجة. (الرابع) قوله تعالى في خاتمة هذه
الآيات: (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله، وهو في الآخرة من الخاسرين) وهذا من أعظم المنفرات عن التزوج بالكافرة، فلو كان المراد بقوله تعالى:(والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) إباحة التزوج بالكتابية لكان ذكر هذه الآيات عقيبها كالتناقض، وهو غير جائز)
وروى محمد بن جرير هذا الخبر معنعنا:
(من نساء أهل الكتاب من يحلّ لنا، ومنهم من لا يحل لنا، ثم قرأ: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية) فمن أعطى الجزية حل لنا نساؤه، ومن لم يعط الجزية لم يحلَّ لنا نساؤه)
فهذا الخبر يُحلّ نكاح النصرانية المصرية (القبطية العربية) لا النصرانية الغربية الأوربية، الأمريكية، و (حنانيك) كما قال الشاعر وجاء في مثل. وفصل الخطاب في هذا الباب عندي وعند كل مصري (مسلم أو قبطي) حريص على وقاية المصرية وصونها ونجاتها - هو خطة (الفاروق) رضي الله عنه فقد جاء في (جامع البيان):
(. . . شهر بن حوشب قال: سمعت عبد الله بن عباس يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء - إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات - عن كل ذات دين غير الإسلام. وقال الله (تعالى ذكره) ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله. وقد تزوج طلحة بن عبيد الله يهودية، وتزوج حذيفة بن اليمان نصرانية، فغضب عمر بن الخطاب رضي الله عنه غضباً شديداً حتى هَمَّ بأن يسطو عليهما، فقالا: نحن نطلق يا أمير المؤمنين، ولا تغضب، فقال: لئن حلّ طلاقهن لقد حلّ نكاحهن ولكن أنتزعهن منكم صغرة قَمْأة)
إن هذا الشر، شر نكاح الغربيات قد اشتد واستفحل بل استأسد، فإذا لم يُدرك الناسَ في مصر رجالُ الدين والدنيا وشيخ الإسلام ومفتيه وهيئة كبار العلماء، بالدواء الناجع، بالفتوى المحرِّمة، والقانون المانع، دارئين بذلك هذا البلاء، هذه الداهية الدهياء، هذا التزوج بالغربية - فحولقْ (أيها المصري) واسترجعْ، واقرأ الفاتحة (على الأسرة) وقل السلام على (الأمة)!
وإني في هذا المقام أذكّرُ عاملا بقول الله: (وذكّرْ فإن الذكرى تنفع المؤمنين) رئيس الدولة
وشيخ الإسلام بأن (موسوليني) الطلياني و (هتلر) الجرماني قد سارا سيرة (الفاروق) في التحريم. فحرّم الأول على قومه نساء الأحبوش أو الحُبشان، وحرَّم الثاني بنات يَهود. وما لامهما في الناس لائم. وحري بمن امتلّ ملة (الفاروق) - ومن أعرف بدين الله من عمر؟ - أن يستن بسنته، وينقذ من شقاء الدنيا وعذاب الآخرة بني أمته، والله يقول:(أنا لا نضيع أجر المصلحين)(أنا لا نضيع أجر من أحسن عملا)
اللهم، إني قد بلغت في (الرسالة) الإسلامية، العربية، وقلت، وذكّرت
اللهم، اشهد
(الإسكندرية)
(* * *)
أناشيد صوفية
جيتانجالي
للشاعر الفيلسوف طاغور
بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب
- 39 -
حين يتصلّب قلبي ويتحرّق، صب عليّ رشاش رحمتك
حين ينزع الحنان من على الأرض، ابعث إلي بنشيدك العذب
حين يعلو ضجيج العمل فيشمل كل مكان فيباعد بيني وبين الناس جميعاً، أرسل إلي - يا إله الصمت - فيض الهدوء والأمان
حين يخرّ قلبي الضعيف ساجداً في عزلته، افتح الباب - يا مليكي - وتعال إليّ في أبهة الملك
حين تعمي الرغبة الملحة قلبي وتنفث فيه الغواية، إليّ - أيها المقدس - في برقك ورعدك
- 40 -
لقد كفّ غيثك - يا إلهي - عن قلبي الظمآن منذ أيام وأيام، والأفق قفر ليس فيه غمامة رقيقة ولا أثر قطرة واحدة
وإذا شئت فانفخ من عواصفك الهجوم ما يحمل ريح الموت ثم املأ السماء بالبرق الخاطف
ولكن رُدَّ عني - يا إلهي - هذه الحرارة المتسعرة الصامتة فهي في شدتها وقسوتها تلفح القلب بنار اليأس القاتل
ثم دع سحائب الرحمة تنهل علينا من علٍ كأنها نظرات أُم عطوف ترى الأب يتنزّى غضباً فتترقرق فيها عبرات الحنان
- 41 -
يا من أحب، أين مكانك من وراء الزمر، وأنت تتوارى في ظلالهم؟ إنهم ينطلقون على الطريق التَرب، يمرون بك فلا يلتفتون إليك؛ وأنا هنا أنتظر الساعات الطوال في قلق
وبين يدي الهدايا، وحين يمرون بي يلتقطون زهوري واحدة واحدة وسلتي تكاد نفرغ
لقد تصرَّم النهار، وجاء الليل ينشر ظلامه، والنعاس يداعب جفنيّ، والناس ينطلقون إلى دورهم، وفي أعينهم نظرات التهكم والسخرية، وفي قلبي الخجل. إنني هنا أنتظر في جلسة الشحاذ، أرخي فضل ثوبي على وجهي، وحين يستخبرونني أعرض عنهم في صمت
أوه، كيف أخبرهم بأنني أنتظرك وأنني منك على ميعاد؟ كيف أستطيع أن أقول لهم إنني أقدم فقري مهراً لك؟ آه، سأكتم كبريائي في أعماق قلبي
أنني أقضي الساعات على الحشائش الخضراء أحدق في السماء وأرخي لخيالي العنان أحلم بساعة اللّقيا الجملية - فيخيل إليّ أن النور يسطع وأن الرايات الذهبية تخفق فوق مركبتك، والناس على جانبي الطريق يحدقون في ذهول حين يرونك تهبط من عليائك لتنتزعني من التراب، ولتجلس إلى فتاة فقيرة ترتدي الأسمال، وهي تضطرب من أثر الحياء والكبرياء كأنها حشرة تتهادى بين نسمات الصيف
إن الساعات تمر وأنا لا أحس صوت عربتك. كم حفل مر بي في ضجة ولجب فيه سحر الأبهة! أفتبقى أنت من ورائهم تتوارى في صمت وأنا أقضي حياتي أنتظر عبثاً أبكي وقلبي يتفطر؟
- 42 -
في بكرة الصباح سمعت همسة: ستبحر معه في قارب، أنتما معاً فقط، وما في العالم من يعرف شيئاً عن هذه السفرة، فهي إلى غير غاية وإلى غير نهاية
في أضعاف ذلك اليم اللانهائي وعند بسمتك الرقية الهادئة ستحور أغانيّ إليّ لحن طليق كالموج. . . لحن لا تحده الألفاظ
أفلم يأن لي؟ أفلا يزال هناك ما يشغلك عني؟ يا أسفا! لقد أسدل الليل أستاره على الشاطئ ونزع الطير إلى وكره
من يدري متى ترفع السلاسل ويندفع القارب فيتوارى في أحشاء الليل كأنه آخر شعاع من أشعة الطَّفَل؟
- 43 -
ما كنت أهيئ نفسي للقياك حين وجدت السبيل إلى قلبي، فدخلت إليه - يا مليكي - دون إذن كأنك واحد من الشعب غريب عني، فطبعت على لحظات من عمري بطابع الخلود
واليوم كشفت عن تلك اللحظات - على حين فجأة - فألفيتها منثورة على التراب وعليها خاتمك ومزاجها ذكرى أيام قليلة من حياتي الغابرة فيها الأسى والطرب في وقت معاً
لا ترتد عني محتقراً سني طفولتي حين كنت ألهو باللعب في التراب، فإنه ليتراءى لي أن خطواتي وأنا أدرج في حجرتي بين اللعُّب تشبه تلك التي يدوي صداها بين النجوم
- 44 -
إن متعتي في أن أجلس على جانب الطريق أنتظر وأرقب الظلام وهو يطارد النور، والمطر وهو يتعقب صفاء الصيف
ورسلك يمرون بي وعليهم بشرى السماء يحيونني وينطلقون في سبيلهم فيهتز قلبي طرباً وأنا أستروح النسمات الحلوة
من الفجر لدن الغسق وأنا جالس بازاء بابي لأنني أوقن بأن فترات السعادة آتية لا مرية فيها، آتية حين أرى. . .
في هذا الحين سأخلو إلى نفسي أبسم وأترنم والهواء يتضوع بأريج الوعد
- 45 -
أفلم تحس وقع خطواته الهادئة؟
هو آت. . . آت. . . ودائماً هو آت
في كل لحظة وحين، في كل يوم وليلة؛ هو آت. . . آت. . . ودائماً هو آت
لقد شدوت بألحان كثيرة ما تزال رناتها تقول: (هو آت. . . آت. . . ودائماً هو آت)
في اليوم الصحو العطر من شهر أبريل، وعلى طريق الغابة هو آت. . . آت. . . ودائماً هو آت
في عبوس الليلة المطيرة من شهر يوليه، وعلى مركب السحب المزمجرة هو آت. . . آت. . . ودائماً هو آت
إن خطواته هي التي تسحق قلبي في لحظات الأسى والحزن ولكن لمسات قدميه الذهبية
هي التي تبعث الطرب في قلبي مشرقا
- 46 -
لست أدري منذ كم من الزمان وأنت تهفو تريد لقياي؛ وما تستطيع شمسك ولا كواكبك أن تحجبك عني إلى الأبد
ما يزال وقع قدميك يرن في مسمعيّ كل صباح وكل مساء، وما يزال وحيك يهتف في قلبي ويناديني سراً
لست أدري لماذا تضطرب حياتي في هذه الأيام، وفي قلبي نبضات السرور
لكأني أرى الأيام تهم لتنجز عملي، وأنا أستروح النسيم الحلو يبشرني بقدومك
- 47 -
أوشك الليل ينحسر وأنا أنتظر عبثاً. إنني أخشى أن يحضر والفجر، وقد غلبني النعاس والتعب معاً. فيا صاحبي دع الطريق أمامه مفتوحاً ولا تقف في سبيله
وإذا لم توقظني خطواته فلا تفزعني أنت عن منامي؛ فما أريد أن يزعجني عند انبثاق الفجر، لحن الطائر الغرّيد، ولا زفيف الريح. ذرني هادئاً في نومي ولو جاء سيدي إلى بابي
أيها النوم، أيها النوم اللذيذ، إنك تنتظر لمساته لتطير عني. آه، سنفض نورُ بسماته عن عينيَّ ثقلَ الكرى، وهو أمامي كأنه حلم لذيذ يلمع بين ظلمات الهجوع
فليأت أمام ناظريّ كأول شعاع أضاء وكأول شبح بدا. إن نظرّاته ستبعث في حياتي العابسة أول هزات الطرب. وحين أعود إلى نفسي فلتكن عودتي إليه هو
- 48 -
إن صمت الفجر العميق يمزقه رجع تغريد الطير؛ والأزاهير نشوى على جانبي الطريق، وبين تفاريق السحب تنثر الثروة الذهبية؛ أما نحن فنهرع إلى العمل في شغل لا نلتفت
ليس في ألحاننا النشوة والطرب؛ ولم تنطلق إلى القرية طلباً للفائدة؛ ولم تنفرج شفاهنا عن كلمة أو ابتسامة، وما تريثنا على الطريق؛ ولكن رحنا نستحث الخطو كلما انطوى الزمن
تكبدت الشمس السماء والبط يمرح تحت وارف الظل، وأوراق الشجر تضطرب في
الهاجرة، وغفا الراعي في ظل شجرة الرند يحلم؛ أما أنا فاستلقيت إلى جانب الغدير مرسلاً أطرافي المكدودة على الحشائش
لقد سخر مني صحابتي وانطلقوا في سفر فلم يعقب واحد منهم ولم يستأن، ثم غابوا عند الأفق. لقد اجتازوا مهامه ومروجاً وبلاداً نائية عجيبة. لك المجد يا من تملك الطريق اللانهائي! إن السخرية واللوم أفزعاني عن مكاني، وإن لم أجد الرضا في نفسي فلقد فقدت نفسي في أعماق الخشوع الجميل. . . فقدتها في ظلال النشوة الغامضة
إن وشي الشمس الجميل انتشر في بطء على قلبي فإنساني ما انطلقت على أثره فأسلمت عقلي - في غير عناد - إلى مباهج الظل والأغاني
وأخيراً حين استيقظت من سباتي وجدتك إلى جانبي تنزع عني النوم بابتساماتك. كم خشيت أن يكون الطريق إليك طويلا وعراً، وأن يعجزني أن أصل إليك!
كامل محمود حبيب
بين القاهرة واستنبول
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 3 -
المتحف العسكري
يا أخي صاحب الرسالة
سلام عليك. لا أقول هذه ثالثة الرسائل خيفة أن تقول في نفسك (ثالثة الأثافي) بل أقول هذه الرسالة الثالثة أرسلها إليك من استنبول لأصف لك مما رأيت
خرجت من مسكني في تقسيم أؤم المتحف العسكري ومعي زميلي الدكتور زيادة، فلما أجزنا الجسر - جسر غلطة شرعت السماء ترذّنا، حتى إذا بلغنا ساحة أياصوفيا وملنا شطر قصر (طوب قبو) انهمر المطر فأوينا إلى الباب، وهو باب شاهق واسع عليه الطغراء السلطانية، يمتدّ على جانبه سور عال كأسوار القلاع، أوينا إليه مع من ألجأهم المطر؛ وازداد المطر انهماراً فطال بنا الوقوف. ولست أنسى مشهداً رائعاً شهدته هنالك: إلى اليسار سبيل السلطان أحمد في جمال هندسته وحسن نقشه، وحلىً من الخط والمعنى تتجلى بها أبيات من الشعر أطافت به؛ وإلى اليمين جامع أياصوفيا يبدو جانب من قبته ومأذنتان من مآذنه الأربع؛ وأمامي على بعد جامع السلطان أحمد في جلال قبابه. وجمال بنائه، قد علت قبته ومآذنه السّت أهّلةٌ ذهبية يزيدها المطر اشتعالاً. وهيهات أن تذهب بنور التوحيد سُدَف الدجن أو شآبيب المطر، وجامع السلطان أحمد أجمل جوامع استنبول في رأيي وأكثرها إضاءة في قلب الداخل وعينه. ما يزال الطرف يتقلب بين جدرانه وأساطينه وقبابه حتى إذا بهره الجمال والجلال استراح إلى مرأى البحر من خلال النوافذ الزجاجية الجميلة. وقد دخلته قبل ثماني سنين، فلما رأيت هذه الأساطين الأربع الهائلة قلت (يا لك أربعة أساطين حملت الدنيا والدين!)
خف المطر فأسرعنا صوب المتحف العسكري فإذا هو مقفل إلى الظُّهر فأوينا إلى باب (الضربخانة). ولما أذن المطر بالمسير انصرفنا نسير في أرجاء المدينة. ثم عدنا إلى المتحف، وهو في كنيسة قديمة اسمها سنت أدنيا، رُصّت خارجه مدافع كثيرة جاهدت في
عصور مختلفة. فيها مدفع كبير بجانبه قذائف مكورة من الحجر وقد نقش عليه بالعربية بيتان يدلان على أنه من مدافع سليمان، وأنه صنع سنة 928هـ وهناك مدافع أخرى نقش عليها أسماء صانعيها؛ وأمام المتحف قنبلة سوداء مخروطية طويلة هي بعض ما ألقاه الأسطول الإنكليزي على الجيوش العثمانية حينما سدّت طريق الدردنيل بأبدانها وإيمانها
وفتحنا الباب فإذا دهليز على جانبيه تمثالان لجنديين دارعين من انكشارية القرنين الثامن والتاسع من الهجرة. ثم سلكنا الدهليز بين بنادق كثيرة من صنع القرن الماضي والقرن الحاضر. ولست أستطيع ولا أستحسن أن أصور لك كل ما رأيت في هذا المعرض العظيم من تاريخ الصناعات ومجد العثمانيين وعبر التاريخ: أكدس من الوقائع والعبر، يضيق عنها النظر والفكر، وإنما أصف لك ما غلب على الذاكرة، من بينها: المتحف كنيسة قديمة تقوم على ساحتها قبة كبيرة عالية ويدور بها طبقتان من الأروقة سرنا في الرواق إلى اليمين ودرنا معه فإذا بنادق ومدافع وآلات حربية كثيرة ومناظر لبعض الحروب، حتى انتهينا إلى سيارة في نوافذها ثقوب؛ فهذه السيارة التي قتل فيها المرحوم محمود شوكت باشا وهو صدر أعظم في عهد السلطان محمد الخامس؛ وبعدها صور وآثار كثيرة لمتأخري القواد العثمانيين: علمدار مصطفى باشا ومختار الغازي وأنور وغيرهم. ثم خرجنا إلى وسط الكنيسة فرأينا في صدرها صورة الغازي مصطفى كمال باشا بجانبها أنواع من الأسلحة القديمة والحديثة. وسرنا قليلاً فإذا درع قديمة تتخطاها العين غير حافلة، حتى إذ أوقفها التطلع قرأت عليها:(درع الفاتح) فأخذها جلال الذكرى وأدركت فرق ما بين المظاهر والحقائق، بجانب الدرع سيوف من ذلك العهد وتروس محكمة الصنع منها ترس محمود باشا أحد الصدور في عهد الفاتح، وترس يعقوب جلبي بن السلطان مراد الأول. ويقال إن السلطان بايزيد أمر بقتله وهو يتعقب العدو في موقعة قوصوه الأولى سنة 791، ثم سيوف لسليمان القانوني فيها سيف كتب عليه:
على الله في كل الأمور توكلّي
…
وبالخمس أصحاب العباء توسُّلي
ورأينا بعد هذه خوذات أهداها نابليون إلى السلطان سليم الثالث، وعلماً رفعه العثمانيون في موقعة قوصوه الأولى، ثم مخلفات السلطان عبد الحميد. وهكذا نطوي العصور في لمحات. فالفاتح وبايزيد وسليم وعبد الحميد طواهم التاريخ في سجله، وجمعهم الزمان في معرضه،
فدار بهم الزائر في خطوات، وحواهم بطرف في نظرات، وقبض الدهر هذه العصور المتطاولة في كلمة واحدة:(الماضي). . .
وفي الدهليز الذي إلى اليمين سنان رمح كان للإمبراطور جستنيان، وبركار كان للمعمار سنان. قلت لنفسي: شتان ما بين السنانين هذا للحرب والفناء، وهذا للعمران والبقاء. قد فنيت آثار سنان جستنيان، وللفناء كان طعانه، وبقيت آثر بركار سنان، وللبقاء كان بنيانه. وحسب سنان خلودا هذا الجامع الرائع والأثر العظيم الذي يدل على الصانع: جامع السلطان سليمان. على أن هذه اليد الماهرة المعمرة شادت في أرجاء المملكة أربعمائة بناء (عمر المعمار سنان أكثر من مائة عام وتوفى سنة 996 ودفن في الجامع الذي ينسب إليه في استنبول) وبعد هذين صورة تمثل الأمير البطل عبد القادر الجزائري وهو يقابل القائد الفرنسي بعد معاهدة تفنة سنة 1838م
وفي الطبقة الثانية تماثيل كثيرة تمثل رجال الدولة وخدم الملوك في أزيائهم القديمة. فهذا شيخ الإسلام على أريكة قد جلس أماه أعوانه، وهذا قاضي العسكر بجانبه قاضي مكة وآخرون. وهذا أغادار السعادة، وهذا قزم كان يضحك السلاطين، وهذه صور الانكشارية في أزيائهم العجيبة، وهذا الجلاد واقفاً كالقضاء ينفذ أمر السلطان - صور من التاريخ مبكية مضحكة، وفي هذه الطبقة خرائط مجسَّمة تمثل القسطنطينية وما يحيط بها، وألواح فيها آيات من القرآن أو كلمات مأثورة. . .
وبعد فحسبي اليوم هذه السطور. ولعل الرسالة الآتية تبلغك عما قليل، والله يرعاك والسلام عليك
استنبول 3 أغسطس سنة 1937
عبد الوهاب عزام
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 -
1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 18 -
(كتب كاتب في العدد الأخير من مجلة المقتطف الغراء شيئاً بعنوان (سيرة الرافعي) فيه أشياء أعرفها ويعرفها قراء الرسالة، وفيه أشياء لا أعرفها ولم أسمع بها على طول صحبتي للرافعي وما رويت من خبره عن أهله وخاصته، وفيه أشياء أنا على خلافها؛ ولو كان لي أن أعرف مصادر الكاتب إلى هذا العلم لاتهمت نفسي؛ ولكني أحسب كل مصادره أنه يسرف في الاستنباط، فرجائي إليه أن يمايز بين أجزاء الكلام ليعرف ما هو له وما هو للحقيقة، فإن فكر المفكر غير حوادث التاريخ، وما تراه أنت رأياً في الحادثة قد يراه غيرك على نقيض؛ والحياة حادثة وقصة واحدة لا خلاف فيها، ولكنها على اختلاف من ينظر فيها من أهل الرأي والفلسفة قصص وحيوات؛ وإن عليّ للرافعي لديناً يدعوني إلى السهر على تراثه، فمن ذلك أرى عليّ أن أتوجه إلى الكاتب بهذا الرجاء، وأن أتوجه بالعتب إلى الأستاذ فؤاد صروف القائم على تحرير المقتطف، وهو الخبير بموازين الكلام، وهو هو الذي كان للرافعي صديقاً من خاصة أصحابه وأصفيائه)
(العريان)
الرافعي الناقد
سأحاول في هذا الفصل أن أتحدث عن شيء مما كان بين الرافعي وأدباء عصره، وإنه لحديث شائك، وإنني منه لفي حرج شديد. لقد مات الرافعي ولكنه خلف وراءه صدى بعيداً مما كان بينه وبين أدباء عصره من الخصومات الأدبية؛ فما أحد منهم إلا له عنده ثأر، وفي صدره عليه حفيظة أو له عليه معتبة. ولقد اهتزت بلاد العربية كلُّها لنعي الرافعي وما اختلجت نفس واحد من خصومه فكتب إلى أهله كلمة عزاء، إلا رجلاً واحداً هو الدكتور
طه حسين بك، إذ كتب برقية إلى ولده؛ فلا جرم كان بذلك - على تفاهته - أنزهَ خصوم الرافعي وأعرَفهم بالأدب اللائق!
ولقد مضى بضعة أشهر منذ ترك الرافعي دنياه؛ فهل رأيتَ أحداً منهم كتب شيئاً عنه يناله بالمدح أو المذمة؟ وهل رأيت اللجنة التي اجتمعت لتأبينه قد استطاعت أن تحمل واحداً من هؤلاء على أن يشاركها فيما تعمل لتأبين الرافعي، أو قل لتأريخ عصر من عصور الأدب قد انطوى تاريخه بين أعيننا ويوشك أن يضيع في مدرجة النسيان؟
ليت شعري أكان الرافعي من الهوان في المنزلة الأدبية بحيث لا يذكره ذاكر من زعماء الأدب العربي ولما ينقض على موته بضعة أشهر، وبحيث تجتمع له لجنة التأبين وتنفض وتحدد الموعد ثلاث مرات ثم لا تجد من يتقدم إليها ليقول في تأبين الرافعي فتوشك أن تنسأ الأجل إلى غير ميعاد. . .؟
ولكنه هو - يرحمه الله - الذي ألَّب على نفسه هذه العداوات حياً وميتاً. لقد كان ناقداً عنيفاً حديد اللسان، لا يعرف المداراة ولا يصطنع الأدب في نضال خصومه. وكانت فيه غيرة واعتداد بالنفس؛ وكان فيه صراحة وصرامة؛ وكان له في الأدب مذهب وحده؛ وكان فيه حرص على اللغة (من جهة الحرص على الدين، إذ لا يزال منهما شيء قائم كالأساس والبناء: لا منفعة فيهما معا إلا بقيامهما معا) وكان يؤمن بأنك (لن تجد ذا دِخْلة خبيثة لهذا الدين إلا وجدتَ له مثلها في اللغة). . . فكان بذلك كله ناقداً عنيفاً، يهاجم خصومه على طريقة عنترة: يضرب الجبان ضربة ينخلع لها قلب الشجاع. . .!
اقرأ له في أول كتاب المعركة: (. . . إنما نعمل على إسقاط فكرة خطرة، إذا هي قامت اليوم بفلان الذي نعرفه، فقد تكون غداً فيمن لا نعرفه؛ ونحن نرد على هذا وعلى هذا برد سواء، لا جهلّنا من نجهله يلطّف منه، ولا معرفتنا من نعرفه تبالغ فيه. . . فإن كان في أسلوبنا من الشدة أو العنف، أو القول المؤلم أو التهكم، فما ذلك أردنا؛ ولكنا كالذي يصف الرجل الضال ليمنع المهتديَ أن يضل، فما به زْجرُ الأول بل عظة الثاني. . .)
وأول ما أعرف للرافعي في النقد، مقاله في الثريا عن شعراء العصر في سنة 1905؛ ثم مقاله في الرد على المرحوم المنفلوطي في المنبر، وكان نشر مقالاً يعارض به رأي الرافعي في الشعراء وينتصف به لصديقه المرحوم السيد توفيق البكري، فكتب المرحوم
حافظ إلى الرافعي يقول: (قد وكلت أمر تأديبه إليك. . .!)
ثم كانت مصاولات أدبية بينه وبين الجامعة المصرية غداة نشأتها في سنة 1908، ثم مقالات عن الجديد والقديم، والعامية والفصحى، في مجلتي البيان والزهراء؛ ثم خصومة بينه وبين لجنة النشيد القومي في سنة 1921؛ ثم وقعت الواقعة بينه وبين الدكتور طه حول كتاب رسائل الأحزان في سنة 1924 في السياسة الأسبوعية؛ فكان هذا أول ما بينهما؛ ثم كانت المعارك العنيفة بينه وبين العقاد، وبينه وبين عبد الله عفيفي، وبينه وبين زكي مبارك، إلا ما لا ينتهي من المصاولات بينه وبين أدباء عصره
على أن أشهر هذه المعارك شهرةً هو ما كان بينه وبين طه وبينه وبين العقاد، بل لعلها أشهر وأقسى ما في العربية من معارك الأدب، وإنها لجديرة بأن يؤرخ بها في تاريخ النقد كما كان العرب يؤرخون بأيامهم. . .!
وإنني لأشعر أن عليّ واجباً أن أكشف عما أعرف من الأسباب الخاصة أو العامة التي نشأت بها هذه الخصومات الأدبية أو انتهت إليها، وإنني لأشعر بجانب ذلك أنني أكلف نفسي بهذا فوق ما أستطيع
إن كل ما تناولته إلى الآن من تاريخ الرافعي كان له هو وحده، فلا عليَّ مادمت مطمئن النفس إلى ما أكتب؛ أما الآن. . . أما الآن فسيكون إلى جانب اسم الرافعي أسماء، وإنهم لذوو حول وسلطان، فما أدري أيرضون ما أكتب عنهم أم يسخطون. ولقد رأيت ما فعلتْ بالرافعي شجاعتُه فمات لم يذكره أحد منهم أو يترحم عليه؛ وما أنا كفء لهذه العداوات، ولست لها بأهل، وما لي طاقة بالدفاع عن نفسي، ولا لي أنصار ذوو لسان وبيان، وما تهون عليَّ نفسي. . .!
ولكن. . . ولكن من عَذيري يوم الحق من كتمان الشهادة؟ ولكن. . . ولكن ما أنا إلا راوية يكتب ما رآه لا ما ارتآه. ولكن. . . ولكنَّ فلاناً وفلاناً اليوم أناسيّ تصول وتجول، وإنها غداً لصفحات من التاريخ تتحدث. ولكن. . . ولكن التاريخ قد وقع فلا سبيل إلى مَحْوٍ فيه أو إثبات. ولكن. . . ولكن الندم على ما كان لا يمحو من تاريخ الإنسان ما كان. . .
فهذا عذري عند فلان وفلان ممن يتناولهم حديثي بما يغضب أو يسوء، فإن كان لي عندهم عذر من الكتمان إن كتمت الشهادة فليحدثوني لأطوي من الحديث ما قد يغضب أو يسوء. .
أمَا وإن تاريخ الرافعي في هذا الفصل هو تاريخ الأدب في جيل من الأدباء، فإن كان من حق أحد أن يعتب عليّ لنشر هذا الفصل فإن حق الأدب لأوجب؛ وما أريد من فلان وفلان شيئاً، وما لي عندهم حاجة ولا لهم عليّ يد؛ فليغضب من يغضب للحق أو لنفسه فلا عليّ من غضبه أو رضاه، وإني لماض فيما أنا بسبيله. . .
بين الرافعي وطه
في سنة 1922 كانت السياسة الأسبوعية هي صحيفة الأدب والثقافة؛ وفيها كان يعمل الدكتور طه حسين في الأدب وفي السياسة معاً؛ ولم يكن بين الرافعي وطه يومئذ شيء يثير ثائرة في الصدر، أو يدعو إلى عتاب وملامة، ولكنّ إرهاصات كانت تسبق ذلك ببضع عشرة سنة. . .
كان طه حسين في سنة 1909 هو الطالب المرموق في الجامعة، وكان الرافعي الشاعر ماضياً في الشعر على سنته، لا يعرف له أحد مذهباً غير الشعر؛ فلما نشر مقاليه المشهورين في (الجريدة) ينقد بهما أساليب الأدب في الجامعة، تنبهت إليه العيون؛ فلما أنشأ كتابه تاريخ آداب العرب في سنة 1911، عرف الأدباء الرافعي العالم المؤرخ الرواية، وعرفه طه حسين الطالب بالجامعة.
أفكان الطالب طه حسين يرشح نفسه من يومئذ ليكون أستاذ الأدب بالجامعة، فنفس على الرافعي أن يؤلف كتاباً في تاريخ آداب العرب فكتب ينقد كتابه ويقرر أنه لم يفهمه، ثم يقررها ثانية في نقد (حديث القمر) وثالثة في (رسائل الأحزان)؟
الحق أن الرافعي كان يطمع في أن يكون إليه تدريس الأدب في الجامعة منذ أنشئت الجامعة، وقد كشف عن رغبته هذه في مقاليه الأول والثاني بالجريدة؛ ولكن طه يومئذ كان طالباً في الجامعة، فمن الإسراف في المزاح أن ننسب ما كان بينهما من بعدُ إلى النفاسة أو المنافسة على كرسي الآداب في الجامعة! ولكنه صدر من تاريخ هذه الخصومة الأدبية له قدره في هذا الفصل فلابد من الإشارة إليه
ونفخت السياسة الأسبوعية في الأدب روحاً جديدة، واتخذت لها أسلوباً في الدين وفي العلم وفي الأدب، قال عنه جماعة من الأدباء: إنه إلحاد وكفر وضلال. وقالت طائفة: إنه
المذهب الجديد في الدين والعلم والأدب. ثم مضت السياسة بما تكتب وبما تفسح من صدرها للكتاب، تقسم الأدباء إلى فرق ومعكسرات، وقديم وجديد، ورفعت في الجهاد راية. . .
والرافعي رجل - كان - فيه عصبية للدين، وعصبية للقديم؛ فأيقن منذ قرأ العدد الأول من السياسة الأسبوعية أن سيكون له شأن مع السياسة وكتاب السياسة في غد. . .
ونال الرافعي رشاش من بعض المعارك وإنه لبعيد عن الميدان، فأحس في نفسه رغبة في الكفاح فتحفز للوثبة. . .
ودسّ كلمةً إلى طه يذم أسلوبه بما يشبه المدح، ويعيب عليه التكرار وضيق الفكرة، فنشرها طه في السياسة قبل أن يستبين مغزاها وما ترمي إليه. . . ثم عرف. . .
وتهيأت أسباب الحرب ولم يبدأ أحدٌ بالعدوان. . وتربّص الرجلان في انتظار السبب المباشر لبدء المعركة. . .
ثم أصدر الرافعي رسائل الأحزان، فسعى راجلاً إلى دار السياسة ليهدي إليها كتابه. وهناك التقى الرافعي وطه حسين وجها لوجه. . . ونظر الرافعي إلى طه، واستمع طه إلى حديث الرافعي، وتصافح الخصمان قبل أن يصعدا إلى حلبة المصارعة، ونفخ الدكتور هيكل بك في صفارة الحكم، وبدأت المعركة. وكانت مشادة حادة خرج الرافعي يتحدث عنها وصمت طه
لمن يا ترى كانت الغلبة؟ الرافعي يقول: أنا. . . ولكن طه لا يتكلم، والدكتور هيكل ضنين بالحديث
ومضت فترة، ثم نشر طه حسين رأيه في رسائل الأحزان في السياسة الأسبوعية، فرفع راية العداء وأعلن الحرب. ورد الرافعي يقول:
يسلِّم عليك المتنبي ويقول لك:
وكم من عائب قولاً صحيحاً
…
وآفته من الفهم السقيم!
ثم مضى في رده يهزأ ويسخر ويتجنى ويتحدى، في مقال طويل تقرؤه في ص 109 - 122 من كتاب المعركة؛ وطارت الشرارة الأولى، فاندلعت ألسنة النار فما خمدت حتى أحدثت أزمة وزارية، وأنشأت جفوةً بين سعد وعدلي، وأوشكت أن تؤدي بعلي ماهر إلى
المحاكمة، وهزّت دوائر البرلمان، ثم انتهت في النيابة العمومية. . .
وفي الأسبوع المقبل بقية الحديث عما كان
(شبرا)
محمد سعيد العريان
أبو إسحاق الصابي
للأستاذ عبد العظيم علي قناوي
- 2 -
لعل أبا اسحق الصابي أصدق مثل يضرب لمن يماري في وجوب نزول الآباء على إرادة الأبناء فيما يحبون من فروع العلوم أو ينزعون إليه من آفنان الفنون، وأن خير ما يؤخذ به المتعلم هو الرغبة الحافزة لا الرهبة القاسية، إذ لا يرتجي كثير نجاح في قسر الأبناء على علم بعينه يريده الآباء، ولا أخذهم بدراسة مخصصة لا يبغيها أولئك ويحتمها هؤلاء، فإن ذلك قاتل لملكاتهم رافع بهم إلى الاستيئاس من النجاح، أو على الأقل الأدنى نازع بهم إلى القصور في كل علم، والتقصير فيما لا يميلون إليه من الفن، وضارب بهم في مهامه لا يعرفون وجه المحجة فيها، وموقع بهم في مفاوز إن نجوا منها فبعد لأي وعناء؛ ولاسيما متى كان ذكاؤهم محدوداً ونبوغهم قاصراً. ورضى الله عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حيث يقول:(لا تقسروا أبناءكم على آدابكم، فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم) وإذا كان رضوان الله عليه قد قصد بالتأديب معناه الأخص فهو على وجه العموم أولى، وبشموله كل أدب أجدى
دفعني إلى تلك التقدمة أني رجل تربية من واجبي تنبيه الأذهان إلى ترك الحرية العلمية للتلميذ ينهج فيها نهجه الذي يحبه. فلقد حاول أبو الحسن والد إبراهيم الصابي تعليمه منذ نشأته صناعة الطب وحذق الحكمة سيرا على سنن آبائه ونهجا على منهج أسلافه، إذ كان جلهم رجال طب وحكمة. وبذل في سبيل ذلك غاية الجهد، وجهد لتنفيذ أربته إلى أقصى غاية، وقد وجد من ابنه سميعاً ومن إبراهيم مطيعاً، لا عن رغبة وحب، بل عن رهبة وأدب، وقسر وزجر. ولو غير أبي إسحاق لرمى بكلام أبيه عرض الأفق، ولكنه كان باراً بأبيه عالماً بواجبات الأبوة لا يعصى له أمراً وإن جاء قاسياً، ولا يخالف له رأياً وإن بدا له رأياً خاطئاً، وإن هذه النزعة فيه نزعة البر والحدب والحب والولاء ليعبر عنها شعره تعبيراً قوي الأسر صادق النزعة، فهو أي أن الإنسان بعد فقد والديه ليس شيئاً مذكوراً، وأنه يعيش في الدنيا غريباً، لأنه لا يجد فؤاداً يحنو عليه ولا عيناً ترمقه، وأنه يعيش - متى كان حي الوجدان - جنيب صفاء وأليف شقاء، فمن هذا قوله:
أسرة المرء والداه وفيما
…
بين حضنيهما الحياة تطيب
فإذا ما طواهما الموت عنه
…
فهو في الناس أجنبي غريب
ولا يختلف شأنه مع أبنائه عن شانه مع والديه، فإنه ليعطف عليهم عطف الأم الرءوم لا الأب الرحيم، ويتجاوز عن جرائرهم ويجعل هفواتهم دبر أذنه، حتى لا تقع عليهم لعنة الله ولا تحق فيهم كلمته؛ شأن الأب الكريم، وشيمة الرجل الحليم الحكيم. وهو إذ يتحدث عن ذلك يتحدث في زهو، ويقصه في فخر معلما أولئك الآباء القساة طرائق في التربية تسعدهم وتسعد أبناءهم، ومتى أغنت النظرة فلا حاجة إلى الكلمة، وفي مثل ذلك يقول:
أرضى عن ابني إذا ما عقني حذَرا
…
عليه أن يغضب الرحمن من غضبي
ولست أدري بما استحققت من ولدي
…
أقذاء عيني وقد أقررت عين أبي
واستمع إليه يرد على رسالة وردته من ابنه أبي علي المحسّن كان قد كتبه تسلية له في إحدى نكباته، وجاء في رسالة أبي علي هذان البيتان:
لا تأس للمال إن غالته غائلة
…
ففي حياتك من فقد اللُّهى عوض
إذ أنت جوهرنا الأعلى وما جمعْت
…
يداك من تالد أو طارف عَرَض
فكتب تلك الأبيات التي أحسبها من حبات قلبه نسيجها، ومن عبرات عينيه نظيمها، فكل حرف شفقة وعطف، وكل كلمة بر ورحمة، قال:
يا درة أنا من دون الردى صدف
…
لها أقيها المنايا حين تعترض
قد قلت للدهر قولاً كان مصدره
…
عن نية لم يشب إخلاصها مرض
دع المحسّن يحيا فهو جوهرة
…
جواهر الأرض طرا عندها عرض
فالنفس لي عوض عما أصبتُ به
…
وإن أصبت بنفسي فهو لي عوض
أتركه لي وأخاه، ثم خذ سلبي
…
ومهجتي فهما مغزاي والغرض
فلا غرو إذا ما نزل، وهذا خلقه وتلك شيمه، على أمر أبيه كارهاً، وأطاعه تكلفاً، وجامله فيما كلفه إياه مصانعاً، فتعلم الطب مخلصاً في تعلمه، وإن لم ينته عن التعرض لما تصبو إليه نفسه، ويرغب فيه طبعه، فكان يزاول في أوقات خلوته وسويعات فراغه من كتب الحكمة - أشتات علوم اللغة والأدب وما إليهما، فإن علم أبوه ذلك عنه نهاه وزجره، حتى يأخذ فيما يؤهله له، ولا يصرف وقته فيما لا غناء فيه في نظره. وأجدر بي أن أسوق
حديث أبي إسحاق عن نفسه في هذا الموقف، فإنه يقول:(كان والدي أبو الحسن يلزمني في الحداثة والصبا قراءة كتب الطب والتحلي بصناعته، وينهاني عن التعرض لغير ذلك، فقويت فيها قوة شديدة، وجعل لي برسم الخدمة في (البيمارستان) عشرون ديناراً في كل شهر، وكنت أتردد إلى جماعة من الرؤساء خلافة له، ونيابة عنه، وأنا مع ذلك كاره للطب، ومائل إلى قراءة كتب الأدب، كاللغة والشعر والنحو والرسائل والأدب؛ وكان إذا أحس بهذا مني يعاتبني عليه، وينهاني عنه، ويقول: يا بني لا تعدل عن صناعة أسلافك. فلما كان في بعض الأيام ورد عليه كتاب من بعض وزراء خراسان يتضمن أشياء كثيرة كلفه إياها، ومسائل في الطب وغيره سأله عنها، وكان الكتاب طويلا بليغاً، قد تأنق منشئه وتغارب. فأجاب عن تلك المسائل، وعمل جملا لما يريده، وأنفذها على يديّ إلى كاتب لم يكن في ذلك العصر أبلغ منه، وسأله إنشاء الجواب عنه. قال: فمضيت وأنشأت أنا الجواب، وأطلته وحررته، وجئت به إليه، فلما قرأه قال: يا بني سبحان الله! ما أفضل هذا الرجل وأبلغه! فقلت له: هذا من إنشائي، فكاد يطير فرحاً، وضمني إليه، وقبلني بين عيني، وقال: قد أذنت لك الآن، فامض فكن كاتباً
ومن ذلك اليوم هجر أبو إسحاق الطب إلى الأدب وقلى الحكمة ليواصل اللغة، فكان كاتباً أريباً وشاعراً مجيداً، جرى اسمه في كل مجلس، سواء في ذلك مجالس الأنس والنحس، وحلق في كل أفق لا يبالي أكان الأفق ساطعاً أم ملبداً، وبرع في كل فن حتى صار ملء الأسماع ومهبط الآماق؛ ولله در واصفه إذ يقول:
أصبحت مشتاقاً حليف صبابة
…
برسائل الصابي أبي إسحاقِ
صوب البلاغة والحلاوة والحجا
…
ذوب البراعة سلوة العشاق
طوراً كما رق النسيم وتارة
…
يحكى لنا الأطواق في الأعناق
لا يبلغ البلغاء شأو مبرز
…
كتبت بدائعه على الأحداق
وإن أدبه - كما يقول معاصروه - لسلوة الحزين، وشفاء الكليم، وأنيس المسافر والمقيم، وسمير الصديق والحميم، مما يدل على أنه كان أمة عصره ونابغة دهره، يشهد له بذلك البعيد والقريب، والعدو والحبيب، ولن أبلغ في وصف أدبه الغاية كما بلغ لداته، فهذا أحدهم يقول:
يا بؤس من يمني بدمع ساجم
…
يهمي على حجب الفؤاد الواجم
لولا تعلله بكأس مدامة
…
ورسائل الصابي وشعر كشاجم
ولكنه لبؤس حاله ونكد طالعه نشأ في عصر أفعم بالفتن، فسياسته مختلة، ورياسته معتلة، والخلافة اسم ليس له مسمى، ورسم لا حقيقة، وملوك الديلم تتأرث بينهم الأحقاد، وتحاك الدسائس وتفشو الفتن، والرجل ذو المروءة لا يسلم روحيّاً وحسيّاً، فإما النفاق فيسخر ضميره لكل حاكم، ويكتب بكل قلم، ويأكل على كل مائدة، ويمنح عقله كل راغب، ويعطي لسانه كل خاطب؛ وإلا فالمحابس مفتحة، والسلب والنهب أيسر عقاب. ولقد كان إبان شبابه قبل أن تستشري الفتن، ويتنزى الاضطراب وتتأصل في النفوس السخائم، يتسامى ويتصاعد، وجده يتعالى ويتماجد، حتى صار من العظماء الممدوحين لا من الأدباء المادحين، فسعى إلى أبي الطيب المتنبي راغباً إليه أن يمدحه بقصيدتين ولا يمنعه رفده، أو يقطع عنه سيبه بل يرفده بخمسة آلاف درهم، فبعث إليه المتنبي قائلاً:(والله ما رأيت بالعراق من يستحق المدح غيرك، ولا أوجب عليَّ في هذه البلاد أحد من الحق ما أوجبت، وإن أنا مدحتك تنكر لك الوزير (يقصد المهلبي) وتغير عليك لأنني لم أمدحه، فإن كنت لا تبالي هذه الحال، فأنا أجيبك إلى ما التمست، وما أريد منك مالاً، ولا عن شعري عوضاً؛ فتنبه إلى موضع خطئه ولم يعاوده بعدئذ. وإن دلنا ذلك الحديث الذي رويناه عن ياقوت على شيء فإنه يدل على سمو نفسه واعتزازه بقدره، فمن أسمى من ممدوح المتنبي؟ كما يدل على علو منزلته لدى أبي الطيب، وعلى أن هذا كان شديد الإخلاص وفير الوفاء لصداقته، فلو قد فعل دون تحذير أو تنبيه لبكرت عليه النكبات، ولفقد ولياً طالما بذل له رفده، ولعب على ضوء وده
وكان لذيوع اسمه بين الكتاب والشعراء موجدة إن نأى ومحبة إن دنا في نفوس الملوك والوزراء، وما أكثرهم في ذلك العصر، فهو إن أخلص لهذا عوقب، وإن والى ذلك عوتب، وإن لزم الحيدة أنب، وإن أعلن عن رأيه أدب، فهو ملوم في كل حال، مستحق العقوبة في كل زمان ومكان، فكان نزيل السجن مسلوب الوفر، وهذا ما جناه على نفسه. فلو أنه أطاع أباه وانصرف إلى الطب لعاش سعيداً ومات سعيدا، ولكنه تنكب الطريق السوي فكان من أمره ما سنفصله في مقال تال
عبد العظيم علي قناوي
يوميات نائب في الأرياف
للأستاذ أحمد الزين
أهدى الأستاذ توفيق الحكيم إلى الشاعر الراوية الأستاذ أحمد الزين كتابه (يوميات نائب في الأرياف) فأجابه الأستاذ الزين على هديته بهذه الأبيات:
إنْ يفخر العَربُ الكرام بكاتب
…
فَلْيَفْخروا بيراع ذاك النائبِ
قلمٌ بتصوير السَّرائر مُولَع
…
غَيْبُ النفوس عليه ليس بغائب
يَسري إلى طي الصدور شعاعُه
…
أمضى وأنفذ من شهابٍ ثاقب
يصف النفوس كما بَرَاها ربها
…
ويميط عنها كلَّ ثوب كاذب
فكأَنما يدعو النفوس فتلتقي
…
في الطرس سافرة سفور الكاعب
سحر البيان يبين كل خفية
…
أين المصوِّر من يراع الكاتب
إيهٍ أديبَ الشرق، هات روائعا
…
قصصاً تُوَشِّيها بظرف خالب
وأَفِض على اللغة الكريمة ثروةً
…
فالعُرْب أشْكرُ أمة للواهب
أحمد الزين
رسَالة الشِّعر
وحي المصيف
بين الأمواج وفوق الشاطئ
للأستاذ محمد الأسمر
ليس الفؤادُ وإن حرصتَ بسالِم
…
فاقرعْ على ما كان سنَّ النادمِ
ناديته - والموج فيما بيننا -
…
فأجابني: دعني فما من عاصم
الذنبُ ذنبي حيث أنزل لاهياً
…
في البحر أسبحُ بين سرب حمائم
ما كُنَّ من وُرْقِ الوكور وإنما
…
وُرْقٌ هزأنَ بكل ريش ناعم
يَسْبَحْن فوق الماء ألين ملمساً
…
منهُ وأبهى من فرند الصارم
سِرْبٌ تقاسمَ مهجتي ومضى بها
…
فرحان يلعبُ كالإِوز العائم
وعلى الرمالِ من الحسان جآذرٌ
…
كدراهمٍ نُثِرتْ حيالَ دراهم
متبسماتٌ للهواء وللهوى
…
يَمْرحْنَ ما يمرحْنَ غير أواثم
مستلقياتٌ كاللآلئ رونقاً
…
نهبَ النواظر، والخيال الهائم
لكأنَّ (بحر الروم) أخرج دُرَّه
…
فمشت به الأمواجُ جِدَّ رواغم
حملته وهي غواضبٌ وأتت به (ال
…
مصطافَ) بين هماهم وزمازم
أو ما تراها لا يقر قرارها
…
في كل ناحيةٍ زئيرُ ضراغم
قذفتْ به فوق الرمال أوانساً
…
من نسل أعرابٍ، ونسل أعاجم
فوق الظهورِ أو البطونِ رواقدٌ
…
متناوماتُ الجفن غير نوائم
حيث الهواء الطلقِ، والشمس التي
…
تَفْترُّ عن ثغر هنالك باسم
جاذْبَننِي عقلي فطاوعَ بعدما
…
قد كان لي في البحر ألومَ لائم
فالآن لا قلبي، ولا عقلي معي
…
إلا خيالاً مثل حلم الحالم
محمد الأسمر
طيفها.
. .
للأديب محمود السيد شعبان
يا مَنْ أراها بِرَغْمِ البُعْدِ دَانيَةً
…
ولَا يَراها برغْم القُرْبِ مَنْ تَصِلُ!
لا تَجْحَدِي خاطراً قد جَالَ في خَلَدِي
…
أَوْحَتْهُ لِي مِن سَموَاتِ الهوى رُسُلُ
أوْ تُنكِري ما رَأَتْ نفسِي وما نظرتْ
…
فَالدَّمْعُ يَشْهَدُ إنْ أنْكَرْتِ والقُبَلُ!
يا طَالَما زُرْتِنِي والفجرُ مُبْتَسمٌ
…
وطَالَما جِئْتنِي واللَّيْل مُنْسَدِل!
أَلَسْتِ أنتِ التي أنْشَدْتِنِي نَغَماً
…
هو الرِّضَى والهوَى والشَّوقُ والغَزَلُ؟!
أَلَسْتِ أنتِ التي أَهْدَيْتنِي قُبَلاً
…
كالسِّحْرِ يَكْمُنُ في طيَّاتِهِ الخَبَلُ؟!
تذكَّري لا تقولي: لَسْتُ ذاكرةً
…
فإنَّما البشْرُ قد أنْسَاكِ والجَذَلُ!!
يا طيْفَها هل تراني كنْتُ في حُلُمٍ
…
أَمْ أَنَّه الحقُّ لَا مَيْنٌ ولَا خَطَلُ؟!
ذهَبْتَ يا طيفَها عنِّي إلى وطنٍ
…
تَقَطَّعَتْ دُونَهُ الأسْبابُ والسُّبُلُ
فكْيفَ أحياَ غريباً عنكَ مبتعداً
…
والحسْنُ فنٌّ فريدٌ فيكَ مكْتَمِلُ؟!
أَمُدُّ كَفِّيَ أرجو أَنْ تصافِحَنِي
…
فلَا تَمُدُّ يداً نحوِي وتَرْتَحِلُ!
تعالَ يا طيفها زُرْنِي كمن كَرُمُوا
…
ولا تكن مثل مَنْ ضَنُّوا ومن بَخِلُوا!
خَلَّفْتَنِي مُفرداً لهفانَ لا وَطَرٌ
…
بِه أُعَلِّلُ أنْفَاسِي ولا أَمَلُ!
أَضُمُّ ظِلَّكَ مِن شوْقٍ فيتركني
…
يا حسرتاهُ وحيداً ثم يَنْفَتِلُ!
وَالآنَ. . . يا طْيفَها أَقْبِلْ لِنَنْهل مِن
…
موارِدِ الحبِّ طهْراً مثل مَن نهلوا!
(الإسكندرية)
محمود السيد شعبان
أنا نبأ كاذب
جبران - عن نعيمة -
للأستاذ خليل هنداوي
ويا ناعتي بسمو الخيال
…
أنا نبأ كاذب فاجر
لقد سكن الوحش في باطني
…
وإن لان مني لك الظاهر
يُهذب نفسي الخيال الرقيق
…
ويغمرني بالهدى غامر
ولكنني أبداً في انخفاض
…
يجاذبني طبعي الماكر
ويغلب فيَّ الدنيءُ البريءُ
…
ويسطو على الشاكرِ الغادرُ
وتنزع نفسي إلى فحشها
…
وثوبي - بعين الورى - طاهر
أَتزعم أَني لطبعي قهور
…
إذا شئتُ، وهْو لي القاهر
أَأَقهر إرث زمان طويل
…
بنفسي، فأنت إذا جائر!
عوالم أحمل آثارها
…
من الشعر يخطئها الناظر
عوالم تنبثُّ في اللاشعور
…
يُقَادُ بها الوعيُ والخاطر
وتحسَبُ أنيَ كون حديث
…
وفيَّ انطوى العالم الغابر
وهل أَنا إلاَّ صدى للبعيد
…
يردده صوتي الحاضر!
خليل هنداوي
صورتان
للأستاذ زكي المحاسني
أيا صورةً منسيةً وهي في نفسي
…
أشاهدها مادمت أصبح أو أمسي
مددت إلى الأوراق كفاً وعهدها
…
قديم كأني كنت أعهدها أمسِ
تلمستها مثل الذي نال ضائعاً
…
ولم أدر أن الكهرباء لدي اللمس
رجفت وأصماني من الحزن سكتة
…
بقيت لها حيناً كأَني من الخرسِ
بكيت على تلك المباسم في الثرى
…
وعهدي بها كالورد مخضلة الغرس
فيا طول ذاك النأي ما منك رجعة
…
وهل يرجعن الدهر ميتاً من الرمسِ
أقبل منك الرسم وهو بقية
…
كما قنع الصديان من فضلة الكأْس
على مَ التجافي يا حبيبي وإنما
…
خلقنا لكي نحيا أليفين في أنسِ
فوالله مهما عشت لست ببائع
…
هواكَ ولو أمعنتَ بيعي في بخسِ
لو أن المنى حقت لجزنا مع الهوى
…
إلى مطلع الأفلاك حتى مدى الشمس
تعالي أمثل فيك رسماً مجدداً
…
لصورة محبوب تصور في حسي
وأُعظِم فيك الطهر والحب والوفا
…
كما تُعْظَمُ الأوثان في الهيكل القدسِ
يناديكِ، لو أُسمعتِ، بي كل خافقٍ
…
فإن قلتِ كذابٌ فها كبدي جُسّي
إذا شئتِ بيضتِ الحياة بناظري
…
وخليتِ لي دنياي ترقص كالعُرسِ
وإلاَّ تشائي الحب كوني صديقتي
…
أجدْكِ عزاءً لي إذا عضني بؤسي
زكي المحاسني
أستاذ اللغة العربية في تجهير دمشق
القَصصُ
أقصوصة من مرجريت ستين
الحلقة الأخيرة
للأستاذ دريني خشبة
(هل الحياة الحب؟ أم الحياة العمل)
لقد كانت مفاجأة عجيبة حقاً من تلك الفتاة الجميلة العذراء (ديانا. . .) حين ذكرت لصديقتها الآنسة تمارْ كوري أنها متزوجة! فلم تكن الصديقة الوفية تعرف عن صديقتها إلا أنها تحب الفتى القسيم الوسيم كليف صولوي، وأن الفتى القسيم الوسيم صولوي يحبها، إن لم يكن يتعبدها، وأنه إنما رحل منذ عشر سنوات إلى كندا الإنجليزية يلتمس الثراء الضخم والغنى الوافر ليضمن لمعبودته نعيم الخلد بما ضمنت له نعيم الحب، وليهيئ لها عيشة رغداً، لا يتلف جمالها عمل، ولا يذهب بروائها عناء. لذلك قالت لصديقتها حينما سألتها سبب هذا الكتمان الطويل إنهما أرادا بذلك أن يضمن أحدهما الآخر أثناء هذا البعاد الطويل
وقد جلست ديانا تشكو لصديقتها ما تحس به من شتى الأحاسيس نحو فتاها صولوي الذي عرفته وأحبته حين الصبا في شَرْخه، والشباب في ميعته، والقلب في فتوته، وربيع الحياة في إبانه. فكانت هذه السنوات العشر بما حَوّرت وطَوّرت، وبدلت وغيرت. فكأنما القلب غير القلب، والسمع غير السمع، والحياة غير الحياة!
ذلك أن الفتاة ديانا، ذات القوام والقد، والجيد والخد، والفم الأنيق والأنف الدقيق، والجمال والفِتنْ. . . اليتيمة مع كل ذلك، والتي أضفى يُتمها على جمالها ظلالاً من السحر العميق اضطرت أن تبرز إلى ميدان الحياة لتجاهد في سبيل قوتها بعد إذ ارتحل حبيبها إلى أمريكا بشهر واحد، لأن عّمتها التي كانت تكفلها وتكفيها عناء العمل. . . ماتت بعد هذا الشهر أيضاً ولم تترك لها من حطام الحياة إلا نصيباً نَزْراً من المال ظل يَتَسقط من راحتيها اللتين لم يعرفا مَساكا حتى لم يبق منه إلا دريهمات
وساعدتها صديقتها تمارْ كوري فقدمتها إلى أحد بيوت النشر الإنجليزية فربطوا لها راتباً بسيطاً. وكان عملها ثمة أن تقرأ الرسائل الكثيرة المتنافرة ذوات الخطوط المختلطة، التي
كان أكثرها أشبه بفرق من راقصات الزنوج يترنحن على القراطيس. ولم تلبث ديانا أن خبرت من الحياة تجاريب لم تعرفها من قبل كان محورها جميعاً المال. . . المال!. . . المال الذي تدور حوله كواكب الآمال السيارة، والذي بدونه يقف دولاب كل شيء. . . حتى دولاب الحب، كما بدأت ديانا تعتقد!
لقد كانت تشهد كيف تتم الصفقات في البيت الذي تعمل فيه، وكيف كان أصحاب العمل يجنون أشهى الثمرات بقليل من الجهد، حتى لا يكاد أحدهم يبذل في سبيل المئات التي يحصل عليها آخر كل سنة بعض ما يبذلها أبسط الموظفين في الشركة. . من أجل ذلك دأبت ديانا تدخر مبالغ صغيرة من راتبها التافه، حتى إذا اجتمع لديها قدر غير قليل أخبرت صديقتها تمار فعقدت أسبابها بأسباب خبير مالي من رجال الأعمال يدعى لويس كراوفورد، له دراية واسعة بالصيرفة، فنصح للفتاة بالمضاربة في أحد البيوت المالية المربحة بنصف ما معها، حتى إذا غنمت شيئاً عادت فضاربت بنصف ما تملك. . . وهكذا. . . واعتمدت ديانا على الله، ثم على هذه الآمال البراقة التي تولدت في نفسها مذ وضعت رجليها في شركة النشر. . . وضاربت كما أشار المالي لويس. ولشد ما شدهها أن ربحت مبلغاً لم تكن قط تحلم به منذ أن ضيعت مائة الجنية التي تركتها لها عمتها. . . ودق قلبها البشائر واتسعت أمامها آفاق الأماني، واصطبغت أحلامها ببريق الذهب وقويت إرادتها وثبتت عزيمتها، فضاربت بنصف ما اجتمع لها من المال، وقد صار شيئاً كثيراً في حسبانها. . . وربحت. . . وفرحت فرحاً شديداً بهذا الحظ المواتي. . . وتعلمت أشياء لم تكن تعرفها. . . دروس الحياة وأفانين المال وعجائب العمل. . . وضاربت مرة ثالثة ورابعة. . . واجتمع في قبضتيها كنز من الذهب رَوّأ لها الآمال ووسع في قلبها الأماني، حتى لباتت تفكر في شراء بيت النشر الذي تعمل فيه!
أما كليف صولوي. . . الفتى القسيم الوسيم، ذو العينين الزرقاوين اللتين تختلط بزرقتهما خضرة الأطلنطيق الواسع الخضم فقد عمل هو الآخر وجد، وسعى واجتهد، واشترى مرجاً واسعاً من مروج كندا الشاسعة، جلب له قطيعاً من الغنم الأمريكي ذي الصوف الغزير، وجعل في الله رجاءه أن يغل له المال الوفير ليبني لحبيبته ديانا القصور والعلالي
وتصرمت سنون خمس؛ وكتب صولوي إلى منية نفسه خطاباً يقول في شطره: (لم أستطع
بعد يا حبيبتي أن أشيد لك القصر الذي حلمنا به، على رغم جهادي الطويل الشاق. . . إن هو إلا مرج شاسع حلو العشب، لا ينقصه إلا شخصك المعبود ليكون جنة ذات أعناب!) وتناولت ديانا يراعها وجلست تكتب إلى حبيبها وقد اختلطت في قلبها دنيا الأطماع بعالم الحب والأحلام:(حبيبي! لشد ما أود أن أجتاز الأطلنطيق إليك الآن. . . الآن. . . في هذه اللحظة. . . لأشفي حاجات الفؤاد المعذب. . . ولكن أصغ إلي. . . ألا نستطيع أن نتلبّث هكذا. . . كما نحن (!) حلقة أخرى من الزمان! خمس سنوات أخرَ يا صولوي، وأعود إليك امرأة ذات مال يا حبيبي! ألا نحتاج مالاً كثيراً نعمل به في مَرجك الشاسع فيضمن لنا حياة واسعة مخفرجة، نقضي نصفها كل عام في إنجلترا ونصفها الثاني في أمريكا؟ يا حبيبي! ألا تكون حماقة منا أن نهجر الطريق الذي يؤدي إلى أبدع الأماني بعد أن قطعنا نصفه. . .؟) وعندما ذهبت لتلقي بالخطاب في صندوق البريد، ذرفت دموعاً غزيرة، وتجاوب صدى وقع الخطاب في الصندوق في فراغ قلبها الذي ما يزال حب صولوي يملأه. . .
وكتب إليها صاحبها يقول: (أختاه! لقد علمتنا السنوات الخمس الماضية دروساً صارمة في فن العيش. . . علمتنا الأنفة والكبرياء. . . إننا الآن في مباراة عقيمة. . . وكل منا يشتهي أن يكون السابق المجلي. . . لقد نسيت أن أذكر لك في خطابي السابق أن المرج الذي أُنَضِّره لك ليكون جنتك الفيحاء، هو مرج من أبناء الطبيعة الذين لم تتلفهم المدنية، ولم تفسد سليقتهم الحضارة ذات البهارج. . . ولو أنك وافقت لصار بك الفردوس الموعود. . . ألا ما أروع السكون هنا؟ لا ضجيج كما هو عندكم في لندن. . . على كل سأبذل جهدي فأبتني القصر المشيد الذي يليق بأبهة مليكتي. . .!)
وجازفت ديانا فاشترت شركة النشر؛ وقد أحدثت هذه الخطوة الجريئة انقلاباً قوياً في حياتها، فقد باتت لا تفكر إلا في تنمية مواردها، ومضاعفة النجاح الذي كان لهذه الشركة قبل أن تحمل الاسم الجميل الجديد:(هـ. بْلَنْدِلْ) وقد اتسعت أعمال الشركة فعلا، واضطرد تقدمها، وبعث كل ذلك في نفس ديانا كثيراً من الزهو وكثيراً من الخيلاء، وكثيراً من هذا الشعور الذي هو نتيجة نجاح الطفرة وأثر من آثارها
لذلك كانت مفاجأة غريبة ألا تعلم تمار كوري، أعز صديقات ديانا وأوفاهن، إلا ذلك اليوم،
بزواج صديقتها من حبيبها كليف صولوي، وهو موشك أن يصل من كندا، بل هو واصل منها غداً بعد غياب عشر سنوات
ما كان أطولها ليلة مملوءة بالهواجس، مزدحمة بالوساوس، عاجَّةَ بالأفكار، هذه الليلة التي تقلبت فيها ديانا على فراش القلق وما كان إلا من ديباج. . . وما كان أشقاها بهذا الشوك الذي يخز جسمها الغض، وما لبست إلا شفا أنعم من خدود الورد. .
لقد باتت تفكر في الـ (هـ. بلندل) وأولئك العمال الكثيرين الذين أصبحت هي ضرورة لهم، وهؤلاء العملاء الذين يصبون أنهار الذهب في خزائنها. . . وتلك الأبهة وهذه العظمة. . . والحياة العالية الأرستقراطية المحفوفة بالوقار. . . ثم تنتقل من كل ذلك إلى هذا المنفى السحيق وراء الأطلنطيق في ذاك المرج النائي المهجور. . . ولكنها كذلك كانت تفكر في حبيبها صولوي القسيم الوسيم فتذكر أحلام الصبا وأفاويق الشباب وموسيقى القبل، وتذكر أيضاً أنه زوجها الذي ارتبطت به برباط السماء العلوي المقدس. . . وتذكر فوق ذلك جميعاً أنها لا تستطيع الحياة بغير صولوي كما لا يستطيع صولوي الحياة بدونها. . . وهنا تتحير وترتبك، وتسبح في بحر لجي تتقاذفها أمواجه فتعلو بها وتسفل
وتنظر إلى رأسها في المرآة فلشد ما تذهل وتراع! لقد رأت أولى شعراتها البيض نذيراً صارخاً من مارد الشيب الجبار يؤذن بخاتمة الثلاثين. . . فتزعج وتنزعج. . . وترسل في المرآة آهة تغطيها بضبابة تستر ما افتر باسماً ساخراً من شيبها!.
ولبثت ترهف أذنيها لرنين جرس الباب. . . فقد دنا موعد وصول صولوي. . . ولم تشأ أن تنزع الشعرة البيضاء، بل آثرت أن تتركها حيث هي ليشهد حبيبها حقيقة ما كان. . . وهي بذلك قد سخرت من نذير الشيب الذي شاء أن يسخر هو منها. . .
ورنَّ الجرس. . . وأهرعت إلى الباب فتلقت حبيبها ملء ذراعيها، وضمها هو إلى صدره الواسع الرحب بذراعين مفتولتين جبارتين، لم تكونا له قبل أن يرتحل إلى كندا، ثم انحنى على الفم الرقيق المرتجف يقبله، وما كاد يفعل حتى قاومت ديانا. . . وجاهدت حتى انفلتت من صولوي، وفرت منه إلى ركن الردهة القصي! ووقفت ثمة تحدجه، وتقلب فيه عينيها الثاقبتين!
لقد كبر صولوي وتغيرات معالم شبابه! ما هذا الصدر العظيم والعضل المكتنز والوجه ذو
الأسارير؟ وعيناه؟ أين زرقة السماء التي كانت تختلط بخضرة الأطلنطيق؟ وأين هذا الكوكب الدري الذي كان يتألق في أغوارهما فيرسل منهما بريقاً أي بريق؟ وما هذه الملابس الغليظة الخشنة والحقائب الثلاث البالية؟ وما هذه السحب الكثيفة من دخان التبغ يرسلها صولوي فيتلف بها سماء الحب القديم الصافية. . . لقد وقف كليف المسكين، وقد أشعل لفافته ينفث الدخان من فمه! فيتلف على ديانا أخيلتها، ويمسخ أمانيها. . .
ثم انفجرت ضاحكةً وانفجر ضاحكا
- أوه! حبيبي! هلم! أدخل أولا! لقد شببت!
- أجل يا حبيبتي! هَيَّا. . . لقد أحضرت كنوزي لأضعها بين يديك. . .)
وانحنى صولوي فحمل الحقيبتين الكبريَيْن، وحملت ديانا الحقيبة الصغرى، حتى إذا بلغت غرفتها الفخمة التي تدير منها أعمال شركتها، لم يلبث كليف أن قال:
- حبيبتي، إني لا أطيق أن أنظر إلى هذه الغرفة ما لم تكوني أنتِ فيها!)
وفهمت ديانا ما يقصد صولوي أن يقول، فقالت له. . .
- لا عليك، فسنصعد سوية إلى الطابق العلوي يحملنا؛ إذ لا أحد معنا يحمل هذه الحقائب المثقلة عنا. . .
ومضيا في سبيلهما صعدا، وظلت ديانا تنظر إلى بعلها الذي كان يبدو كأنما تقدمت به السن عشراً على عمره، بينما كانت تبدو هي، برغم الشعرة البيضاء، كأنما تأخرت بها السن عشراً عن عمرها. . . وظلت كذلك تفكر فيما قال عن غرفة إدارتها. . لقد أحست أن روحه نفرت من هذه الغرفة التي بعثت الكبرياء والعجب في نفسها، وهذا أقل ما تفعله فترة من الزمان قدرها عشر سنوات
- هذه غرفة الخادمة يا صولوي. . . لقد ذهبت لتمضي الليلة عند أهلها
وفتحت باب الغرفة فدهش صولوي لما فيها من أثاث ورياش. . . وعجب كيف يغطي سرير خادمة هذا اللحاف الإيطالي الموشى، وكيف تزين أركان غرفتها هذه الأصص الفاخرة من السوسن المصنوع الجميل!
- أما تلك فغرفتي. . . أنظر. . . أتراها جميلة؟
ونظر صولوي فذهل. . . وسرعان ما ذكر أيامه القريبة بمرجه القفر في فلوات كندا،
وكوخه الموحش الخشن ذا السرير الحديدي الصدئ، والأرائك البالية، التي ظل يتقلب فوقها طوال عشر سنوات، لا يفكر في زخرفتها وتوشيتها! ووضع يديه في جيبيه خاشعاً وقال:
- أحسب أنه آثر لدينا أن نستأجر خصاً في ريف لندن فنعيش فيه شهراً قبل أن نحضر إلى هنا. . . ألا توافقين؟)
وفهمت ما يريد أن يقول هذه المرة أيضاً فقالت: (ما أجمل أن يكون هذا. . .!)
وحان موعد العشاء، فذهبت به إلى حجرة الطعام الغنية الحافلة، حيث راعته المائدة النظيفة الناصعة، التي صُفت فوقها الأطباق والأكواب وكؤوس الخمر، وقوارير البلور، وملاعق الفضة ذوات الطنين وذوات الرنين. . . وأكلا. . . ودار بينهما هذا الحديث:
- لن تمضي خمس سنوات يا ديانا حتى يكون لك القصر الذي حلمنا به في مرجنا الواسع الجميل. . . لقد اشتريت لك حصاناً يا له من حصان. . . وأسميته هصار. . . وستروقك منه قوائمه البيض التي تشبه جوربات الربيع. . . إنني إذن أستطيع أن أعين وكيلا عني فنقضي نصف كل سنة في إنجلترا كما أشرت!)
وكانت صدمة لروح ديانا هذه السنوات الخمس. . . هذه الحلقة الأخرى من الزمان الطويل اللانهائي. . . ولمه؟ أليست هي الآن في رغد من العيش؟ ما الذي يقسرها على ذلك المنفى البعيد الموحش الخشن؟ إذن، فلتصارحه!
وروت ديانا قصتها، وكادت تجلس كأفروديت الساحرة على عرش جمالها، ثم طلبت إليه، أو أومأت إليه، أنه ينبغي أن يهجر مرجه ليعمل معها في الـ (هـ. بلندل): فقال صولوي واجماً: (سأنظر في هذا. . . سأنظر!) ثم عبس وبسر، وغاب من عينيه هذا الملاك الكريم الحالم، وأطل مكانه شيطان رجيم مارد، ثم قال:(طبعاً. . . إنك لن تتركي كل هذه الدنيا التي تلفت حواليك لتذهبي معي إلى أمريكا فتبني لي عشاً هناك. . .!) وكان روح الازدراء تتدفق في لهجته المرة، فروعت ديانا وقالت تجيبه:(ماذا يا صولوي! اهدأ ماذا أصابك؟ إني لم أرد أن أسوءك؟) لكن صولوي لم يهدأ، بل زادت ثورته، واشتدت حدثه، فقالت ديانا: (تالله يا صولوي إن كل هذه الدنيا التي تحيط بي لا تهمني. . . أنظر. . . أترى هذه الصورة الصينية الفاتنة؟ إنها أثر قيم اشتريته بالمئات. . . وصديقتي تام تقدر عمرها
بالقرون. . . أنظر. . .) ثم قذفت بالصورة إلى المدفأ فذهبت بها ألسن النيران
- لا أدري والله ماذا تعنين بهذا؟
- أعني أنني لا تهمني زخارف الحياة كما زعمت!
- إذن ماذا يهمك؟
- يهمني هذا العمل العتيد الذي بذلت له جهدي وقواي. . الـ (هـ. بلندل) يا صولوي! كيف أدعه يتلاشى!؟)
- غير أنك كنت تعلمين أنني قادم إليك!
- أجل، كنت أعلم هذا، بيد أنك تقول إنك في حاجة إلى خمس سنوات أخر، إلى حلقة ثالثة لتضمن لنا عيشاً هانئاً، وكيف؟ كم بقي من العمر لنقضي منه خمس سنوات تضيع عبثاً وعناء؟ وهذا العمل العظيم الذي شدته؟ كيف يضيع هو أيضاً عبثا؟ بل أقيم أنا هنا، لأنني أصبحت ضرورة لحياة كثيرين، أما هناك، أما في المرج البعيد النائي، فإنني أكون عبئاً عليك وعلى نفسي، وقد تقتلني الوحشة والركود يا صولوي! ماذا أكون هنالك؟ ماذا أعمل وقد تعودت العمل؟ أأكون متعة فقط؟
- لا. لا رأيت في حياتك مكروهاً كهذا المكروه! وكيف تكونين متعة لراعي قطعان!
- خمس سنوات أخر؟ ثم ماذا؟ ما الحياة يا صولوي حتى تريدها أن تحتمل كل هذا؟ لقد علمتنا الحياة فنونها القاسيات. . لقد علمتنا أن ننظر إليها بعين غير العين التي تعودناها في الصبا. . لقد كشفت لنا عن المعميات يا حبيبي! لقد وضحت لنا حقائقها بقدر ما غاضت أحاسيسها وترهاتها!)
- وما هي هذه الحقائق بالله عليك!؟
- هي الصراحة والجد، والجهاد والعمل، والتحصيل الذي يضمن للإنسان حياة طيبة موفورة قليلة البؤوس، حياة كريمة تتفق وكبرياء المرء، يرضى بها عقله، كما يستريح إليها جسمه!)
- وإذا عرضت عليك هذه الحياة، ولكن في مرج بكندا فلم ترفضين؟
- لشد ما يعزب عنك ما أريد يا صولوي! إن المادة لا تهمني إلى هذا الحد، ولكن يهمني ألا تتعذب روحي في هذا الركن من أركان الدنيا. . . أنا لم أتعود هذا اللون من الحياة الذي
تريده لي يا حبيبي، وقد أحتمله لوقت قصير، بيد أنه لا جرم أنني سأضيق به، وعندها يُقضي على كل شيء. . . حتى على حبنا!
- لا تتحدثي عن حبنا أرجوك! إنني أرى ما وراء الأكمة! إني أرى ماذا تضمرين! بل كوني صريحة. . . ماذا يرضيك بعد هذا. . .؟
- ولم لا أبقى أنا حيث أنا الآن حتى تشيد قصرك وتعد العدة لحياتنا المنشودة، وأستطيع بذلك أن أدير أعمالي الواسعة هنا، ثم نلتقي بعد أية فترة من الزمان. . . بعد عام أو عامين أو أكثر أو أقل. . .؟
- إذن تريدي أن تَقصريني على خطتك دائماً. . . توجهينني حيثما تريدين وكيفما تشائين. . . لا. . . لقد تكلمت عن الوحشة والوحدة فيما مضى وفيما خفت أن يأتي. . . إذن. . . أنا لا أربطك
- ثم. . .؟
- ثم لا شيء. . . إنك إذا استعملت أحداً في عمل لك ولم يؤده لك حسب هويتك استغنيت عنه واستعملت غيره مكانه، أليس كذلك؟
وسرت قشعريرة من الذعر في جسم ديانا، وبدا الارتباك في محياها، فلم يعبأ صولوي وقال متماً حديثه: (أنت تفضلين عملك المالي على أن تكوني زوجة لرجل راع صاحب قطعان في كندا، أليس كذلك؟ لا بأس، فزوجة الراعي لن يكون لديها وقت طويل للأعمال المالية. . .
- هل تريد أن تجعلني أفهم أنك قد عولت على الاستعاضة بامرأة سواي؟
- لقد أخلصت لك سنوات عشرا في جميع أمري. . . ولشد ما آسف على هذا البله الذي حصل مني!
- صولوي!
- لا. . . بل لابد من إنقاذك من هذا الغل الذي وضعته بإخلاصي حول عنقك. . . فلا تبتئسي ولا تحزني. . . لابد أن يتبدل الأمر غير الأمر!
- بل أنت تحب امرأة أخرى!
- ولم لا؟. . . على الأقل امرأة تعني بشأني. . . لقد أخلصت لي، وصدقتني الحب. .
فَرَىْ لنفسك فقد صرحت لك!
- إنك تعني الطلاق. . مضحك. . مضحك جداً يا صولوي!
- عرفت إذن! لا خير! فلقد أخطأنا حينما كنا صغيرين فلم لا نتدارك خطايانا وقد شببنا. . . اسمعي يا ديانا ينبغي أن أذهب الآن. . . سأنزل في فندق، وسأخبرك عن اسمه بعد، وإذا احتجتك فسأدعوك في التلفون. . .
- صولوي. . . صولوي. . .!
وفي اليوم التالي لقيت صديقتها تمار كوري، فلما سألتها عما كان قالت لها ديانا: انتهى كل شيء، حيث كان ينبغي أن يبدأ كل شيء!
- ماذا تعنين؟ أتقصدين أنك قذفت به من حالق بعد أن انتظرته كل هذه السنوات العشر؟
- بل هو قد قذفني من حالق يا أختاه! لقد ظهر أنني كنت كَلاًّ عليه. . . أليس هذا عجيباً؟
- أكبر ظني أن هذا كان نتيجةً لخطئك؟ ماذا قلت له؟
- قلت له إنني لا أستطيع أن أهجر عملي هنا في الـ (هـ. بلندل) لأعيش في قفار كندا. . . ماذا كنت أقول له غير هذا؟ أذلك يعني أن حبي له قد نقص؟
- فو. . .!! يا بلهاء! بمثل هذه الحماقة يفلت من يديك كليف؟ يا له من كنز؟ ما الذي عوقك كل هذه السنين الطوال إن لم يكن هو حبك لصولوي؟ وما الذي عوقه هو الآخر؟ ما الذي جاء به من كندا؟ لقد كان لك في لويس كراوفورد، أو في الشاب ستيفن، خير زواج لو أردت ذلك منذ سنين، فما الذي حال بينك وبينهما؟ أليس هو حبك وجميل وفائك لصولوي؟ والآن؟ أتدعينه يفر منك هكذا؟ يا بلهاء؟ يا حمقاء؟
- يا أختاه فكري قليلا فيما عسى أن تكون حياتي في كندا بعد هذه السنين العشر الحافلة في لندن الصاخبة. . . سنوات عشر يا تام! كلها جِهاد. . . كلها قتال. . . كلها حرب على الحياة!
- حرب! إي والله! الحرب التي تتعشقين! أنت لا تهوين سواها! الحرب التي كوَّنت لك الـ (هـ. بلندل!) أليس كذلك؟ ومم كونت لك هذه الحرب أعمالك الباهرة؟ من دريهمات أريتها لي يوم لقيتني قبل أن تلتحقي بعملك الذي در عليك أخلاف الرزق فأعماك!! إنك من أجل الـ (هـ. بلندل) ترفضين ما عرضه عليك كليف من السعادة في أكناف مرجه بكندا،
وقد علمت أنه عمل أبهر من عملك أضعافاً مضاعفة. . . الـ (هـ. بلندل!) هذه اللعبة! بل هو الفتى الخبيث ستيفن الذي فتنك، والذي تظنين أنه يضمن لك حياة الخلد في باحات لندن! يا ديانا! لقد عرفت ستيفن قبل أن يعرفك فاحذري. . . إنه يصبو إلى ثروتك ليعتصرها ثم يقذف بك. . . ثم لا يكون الـ (هـ. بلندل) بنك إنجلترا بعد. . .؟
- ليس ما تقولين حقاً يا تام!. . .
- شْو. . . دعيني أتم حديثي. . . إنك لا هم لك إلا الحرب والقتال. . . حتى أصدقاءك تحاربينهم. . . حتى الرجل الذي أحببته وأحبك فأخلص لك الحب. . . بل هناك حد إذا وصلت إليه الكبرياء انقلبت فصارت غفلة وحماقة. . . ولقد وصلت إلى هذا الحد بأذن الله!
- تعنين أنه ينبغي أن أذهب فأنتظر السعادة في قفار كندا بعد خمس سنوات طوال يبنى لي بعدها صولوي بيتاً يضمني ويؤوي أبنائي؟. . .
- لابد أن يصل كليف إلى كل مطمحه يوماً ما. . . ولكن لا تنسي خطاباته إليك، فلقد شهدت أكثرها. . . لا تنسي أنه دعاك إلى كندا قبل خمس سنوات فأبيت، فوافقك، فلم لا توافقين اليوم. . .؟ ثقي أن كل حرب إلى نهاية، ولقد حاربت بما فيه الكفاية. . . واعلمي أن ما أنت مقبلة عليه لن يحيق شره إلا بك!
- ماذا تعنين؟
- أعني أن الكبرياء التي تحسبينها لك الآن ستكون له. . أعني أنه هو الذي سيرفضك فيقف مكانك وتقفين مكانه، وتنعكس الآية، ويصعب عليك إصلاح الحال!
- وكيف وقد انتهى كل شيء يا تام؟
- بل لم ينته كل شيء يا أختاه. . . المرأة التي عركت الحياة لن تفقد وسيلة لبلوغ مآربها. . . وكيمياء الحظ ماهرة صناع
وجلست ديانا في غرفة إدارة الـ (هـ. بلندل) مضطربة كاسفة البال. . . وطفقت تذكر ما كان من حبها لصولوي، وإخلاصها له طيلة هذا الزمان، ثم ما كان من لقائه هذا اللقاء المضني. . ثم هذا الحب الذي زعمه لها أنه يشغل قلبه. . ورددت حديث صديقتها وسبب نعمتها تمار كوري، وراحت تسائل نفسها: ما عقبى هذا الجهاد الطويل الذي كانت تتخذه
سبباً فأصبحت تتخذه غرضاً. .؟ وجعلت تتخيل هذه المرأة التي سحرت حبيبها فشغلته عنها؟ من هي؟ وما جمالها؟ وما مالها؟ وما جسمها. . . وجعلت تقارن كل ذلك بنفسها. . . ثم تبسمت حين ذكرت مرج صولوي والحصان الذي اشتراه لها وقوائمه البيض. . .
واستيقظت في باكورة الصباح فدقت التليفون إلى الـ (هـ. بلندل)، وكلمتها إحدى العاملات فأخبرتها أنها لن تنزل إلى الشركة اليوم. . . وعجبت العاملة لذلك أيما عجب، إذ لم يحصل أن تأخرت المديرة خلال السنوات الخمس لأي سبب من الأسباب. . وانتظرت ديانا أن يكلمها صولوي في التلفون كما وعد فلم يصنع، ولم يرسل أي خطاب منه يعلمها به ماذا انتهى إليه عزمه. . . ورن جرس التلفون فجأة فدق معه قلبها. . .
- مِسْ بلندل؟ هنا محل المصور لمشيرييرز. . . لقد طلب إلينا شخص يدعى كليف صولوي أن نعطيه صورة لك عن إحدى السلبيات التي لك عندنا، فهل نفعل؟
- لا بأس، ولكن هل أعطاكم عنوانه؟
- كلا. . . ولكنه حدد يوم الأربعاء لتسلم الصورة
- هل التي تكلمني هي المس موريس؟
- أجل يا مس بلندل، أنا هي. . .
- أرجو إذا حضر المستر كليف لتسلم الصورة أن تدعيني في التيلفون وأن تعطليه لديك حتى أحضر لمقابلته، فهل تذكرين!؟
- بكل تأكيد يا مس!
وهكذا كان كليف صولوي أبعد في لندن منه في كندا، لولا هذه المفاجأة التليفونية. . .
ورن جرس التليفون يوم الأربعاء، فدق قلب ديانا معه. . . ولكن بشدة. . .
- مس بلندل. . . المستر كليف هنا. . .
- أرجو أن تذكري ما أوصيتك به. . . سأصل حالاً
- أخشى ألا نستطيع حجزه طويلا. . . لقد احتج بأن عنده ميعاداً قريبا. . .
وأهرعت ديانا المسكينة إلى تحت ووجدت لحسن الحظ سيارة ركوب لدى الباب فطارت بها إلى الأستوديو. . .
وا أسفاه. . . لقد أخذ كليف الصورة ومضى لطيته. . .
واسودت الدنيا في عيني ديانا. . . وعادت في سيارتها تترنح في شوارع لندن ذات الضجيج. . . ولم تسمج في عينها لندن كما سمجت ذلك اليوم، ولم تكره صخبها كما كرهته الساعة. . .
ثم لمحت كليف واقفاً عند عمود مصباح وسط الشارع المزدحم فجأة فأشارت إلى السائق فوقف، ونزلت وهي لا تكاد تعي وذهبت من فورها إلى حبيبها، غير عابئة بآلاف السيارات التي تطوي الشارع. . . والتي أشار إليها الشرطي ذو الذراع البيضاء فوقفت جميعا. . .
- صولوي. . . ما هذا الظرف الذي تحمله؟
وانتزعت منه الظرف الكبير الذي كان يحمل دعوى طلاقها فمزقته قصاصات قصاصات، وبعثرت الوريقات في الشارع. . . والناس ينظرون ويبتسمون. . .
- صولوي. . . سأتبعك. . . سأتبعك ولو إلى القطب الجنوبي. . . سأعيش معك. . . لن نفترق. . . ستكون هذه السنوات الخمس حلقة تجاريبنا الأخيرة!
دريني خشبة
البَريدُ الأدَبيّ
مشروع جديد لدراسة القانون
وضع معالي وزير المعارف بصفته الرئيس الأعلى للجامعة المصرية مشروع إصلاح جديد لدراسة القانون في كلية الحقوق؛ وأهم عناصر المشروع الجديد هو تخفيض مدة الدراسة من أربعة أعوام إلى ثلاثة، وإنشاء قسم جديد لإجازة الدكتوراه تجري الدراسة فيه باللغة العربية، وتكون مدتها سنتين. وقد كان دراسة الحقوق حتى الآن تستغرق أربعة أعوام؛ ولم يكن بالكلية من قبل قسم للدكتوراه، فكان الطلبة المصريون الذين يرغبون في الحصول على هذه الإجازة يقصدون بعد إتمام دراستهم بمصر إلى جامعات فرنسا؛ وأنشئ أخيراً قسم للدكتوراه بكلية الحقوق ولكنه لم يحقق الغاية المرجوة من إنشائه لأن الدراسة فيه كانت بالفرنسية، وكان الإقبال عليه لذلك ضعيفاً. وينص المشروع الجديد على حذف بعض مواد الدراسة التي أضحت غير ضرورية حتى تكون دراسة الأعوام الثلاثة شاملة لكل ما هو ضروري فقط. والواقع أن توحيد القوانين الأهلية والمختلطة، وتقدم القضاء المصري بجهاته المختلفة في ميدان التوحيد، وتمصير الإدارة الداخلية مما يسهل تبسيط الدراسة القانونية التي كانت تحتوي من قبل على عناصر كثيرة من الدراسات القانونية والإدارية والمالية لم يبق لها اليوم ضرورة. ومن جهة أخرى. فإن المشروع الجديد يقرب إلى طلبة الليسانس دراسة الدكتوراه ويشجعهم بذلك على التقدم في دراسة العلوم القانونية العليا. وقد كان لهذا التعديل في مناهج الدارسة وقع حسن لدى طلبة الحقوق
مجمع اللغة العربية الملكي
يفتتح مجمع اللغة العربية الملكي المصري دورته الجديدة في الثامن عشر من ديسمبر، والمفهوم أن هذه الدورة ستكون خاتمة اجتماعات المجمع طبقاً للنظام الحالي. وفي خلال الدورة البرلمانية الحاضرة ينتظر أن يوضع نظام جديد للمجمع ينص على الزيادة في أعضائه وعلى تنظيم اختصاصاته وتوسيعها، إذ لا يخفى أن المجمع الحالي قد أنشئ في ظروف خاصة، وقصد به إلى تحقيق غاية ضيقة، وأن عناصر مصرية تمتاز بمكانتها العلمية الرفيعة قد أبعدت عنه لاعتبارات خاصة؛ والمفهوم أن هذه العناصر ستتبوأ مكانتها الحق في المجمع الجديد؛ وسيكون المجمع الجديد أداة لغوية علمية صالحة للعمل المثمر
لخير اللغة العربية وتقديمها وتدعيم نهضتها، وسيجري على خطته من الاستعانة بالعناصر الممتازة في هذا الميدان من أبناء البلاد العربية الأخرى وكذلك من العلماء المستشرقين، على أن تتخذ هذه المعاونة صورة المراسلة العلمية والمؤتمرات العامة كما هو متبع في الهيئات العلمية المماثلة في أوربا
مؤتمر الرمد الدولي
اختتم مؤتمر الرمد الدولي الذي عقد بمدينة القاهرة منذ 8 ديسمبر الجاري أعماله في الرابع عشر منه. وهذا المؤتمر هو الخامس عشر من نوعه؛ وقد وجهت مصر الدعوة إلى عقده بها منذ عام، واشتركت في إجابة الدعوة معظم الدول الكبرى وفي مقدمتها إنكلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وأمريكا. وشهد المؤتمر وفود كبيرة من أعلام الطب المردي في أنحاء العالم. وقد كان لعقد هذا المؤتمر في القاهرة أهمية خاصة، لأن مصر تعتبر موطن الأمراض الرمدية؛ وقد تقدمت بها مباحث الرمد تقدماً عظيماً، ولأطبائها الرمديين شهرة عالمية. وقد نوه أعلام الأطباء الأجانب في المؤتمر بما كان للعرب من فضل عظيم في هذا الميدان. ومما هو جدير بالذكر أن هذا هو أول مؤتمر رسمي يفتتحه صاحب الجلالة الملك فاروق الأول بعد توليه الملك، وقد آثر حفظه الله أن يفتتحه باللغة العربية بعد أن كانت المؤتمرات المماثلة تفتتح دائماً باللغة الفرنسية، وبذلك وضع جلالته سنة جديدة نبيلة
معهد فرنسي جديد للدراسات الاجتماعية
قررت مدرسة الحقوق الفرنسية بالقاهرة أن تفتتح قسما جديداً يسمى معهد الدراسات الاجتماعية المصرية؛ وقد بدأت الدراسة بالفعل في هذا المعهد الجديد منذ 16 الجاري؛ وصرح مديره الأستاذ بواييه أن الدراسة فيه ستجري على مثل الدراسة في مدرسة العلوم السياسية بباريس، وأنها ترمي إلى توسيع الثقافة القانونية والسياسية والاقتصادية، وإعداد الطلاب للالتحاق بالأعمال في الشركات الأجنبية
ونستطيع أن نذكر بهذه المناسبة أن فرنسا تبدي في العهد الأخير عناية خاصة نحو تدعيم نفوذها الثقافي في مصر؛ فمنذ أسابيع قلائل افتتحت في هليوبوليس مدرسة فرنسية جديدة (ليسيه)، ويفد إلى مصر في كل شتاء عدة من الأساتذة والكتاب الفرنسيين يلقون
المحاضرات المختلفة وينوهون دائماً بما لفرنسا من مكانة ثقافية قديمة في مصر. وفرنسا تشعر أن صرح ثقافتها القديمة في مصر قد وهنت أركانه منذ بعيد ولم يبق منه إلا أطلال الجيل الماضي. وقد جاء اتفاق مونترو بإلغاء الامتيازات الأجنبية ضربة جديدة لهذا النفوذ الثقافي، ولم يبق في وسع مدرسة الحقوق الفرنسية أن تمضي في مهمتها؛ فافتتاح معهد الدراسات الاجتماعية هو محاولة جديدة للتمشي مع العهد الجديد، واستدراك بعض ما طرأ على الثقافة الفرنسية في مصر من عوامل الوهن والضعف
دور مصر في بناء الحضارة
ألقى العلامة الدكتور هارتمان محاضرة في بهو قصر ميرابل بمدينة سالزبورج تحدث فيها عن (الدور الذي أدته مصر في تاريخ الحضارة) فذكر أن مصر القديمة بلد العجائب من وجوه كثيرة، فهي مهاد الأديان والعبادات الأولى، ومهد الفنون والبناء؛ وليس من شك في أن الحضارة المصرية القديمة كان لها أثر عظيم في بناء الحضارة الأوربية ما يزال ماثلا إلى عصرنا. وقد كان اليونانيون القدماء الذين يعتبرون من آباء الحضارة الأوربية، يعتبرون المصريين أساتذتهم في الحكمة المقدسة وفي كل ضروب المعارف والحضارة؛ وكانت مصر أول مهد في التاريخ لفنون النحت والتصوير، وقد وضع المصريون القدماء المباحث الأولى لمسائل العالم الخالدة، وهي المولد والحياة والموت، ودعوا فكرة الخلود والبعث ومثلوهما في النقوش والقربان، وتحتفظ مصر الفرعونية بأقدم آثار في هذا الميدان. وليس من ريب في أن تقاليد الموت الفرعونية مازالت تمثل في كثير من تقاليدنا، وقد أوضح الدكتور هارتمان محاضرته بعدد من الصور البديعة
وهذه المحاضرة التي ألقاها الدكتور هارتمان أخيراً هي واحدة من سلسلة من المحاضرات الأثرية والتاريخية التي يلقيها أثناء موسم الشتاء عن حضارة مصر الفرعونية وتاريخها
الصحافة والترجمة بكلية الآداب
تفتتح كلية الآداب بالجامعة المصرية قريباً قسماً جديداً للصحافة والترجمة والتحرير يلتحق به الحائزون لإجازة الليسانس في الآداب، وسيسد هذا القسم الجديد فراغاً كانت الحاجة تدعو إلى سده؛ وسيكون مهداً حسناً لتخريج شباب يجيدون الترجمة والتحرير والأعمال
الصحفية الفنية
المعجزة، الشعبذة
في (الرسالة) الغراء - الجزء 232 - في (مجادلة في معجزات الإسلام) للسيد خليل جمعة الطوال - هذا القول: (الأمر واضح فلا نبوة بغير معجزة - وإلا لادعى النبوة كل مشعوذ) والمعجزة في (الأديان) هي مضادّة السنن الكونية، والسير الطبيعية. والعلماء الغربيون المتحررون يكفرون بالمعجزات ويرونها شعبذات، ويقولون: إن الأنبياء لم يأتوا بها، وإنما نسبها أتباع تلك الشرائع بعد حين أو قرون إلى شارعيها. ولهم في موسى والمسيح (صلوات الله عليهما) ووجودهما أقوال كثيرة. ففقدان (المعجزة) عندهم في دين هو من مزايا ذاك الدين. وهم يسخرون من كل نحلة تدعيها، ويعيبون كل طائفة تؤمن بها. ومن أئمة هؤلاء القوم في بلاد الغرب (م. جيو) صاحب كتاب (اللادينية في المستقبل) وهو كتاب مهم احتوت عليه خزانة (فريدريك نتشه) وقد قرأه هذا المفكر الجرماني، وله في ذلك الكتاب تعاليق ذات بال. وهذا ما أورده (م. جيو) في مصنفه في مبحث فيه أرويه بلغته، قال:
' ' ، ، ، ; -
فلو تعلّم صاحب (الخليل) وعقل كلام هذا العالم الفرنسي لاستحى من أن يقول في (المعجزة) ما قاله إن كان من أهل الحياء
وبعد فليعلم من يجهل أن معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كتبتها مؤلفات المسلمين تزيد على معجزات النبيين كلهم أجمعين قاطبة
(قارئ)
إلى الأستاذ عبد الله عنان
اطلعت على الكلمة التي استنكرت بها فرية صاحب (المكشوف) في بيروت بنشره مقالات لك قديماً وادعائه أنك أرسلت إليه عتاباً لطيفاً مع المقال. وقد عجبت قبل ذلك وداخلني الشك في العتاب والمقال، وقلت في نفسي كيف أقدم الأستاذ عنان على هذا التملق والاستخذاء لجريدة عرفت مراميها التجارية في بث الفتنة وإيقاع العداوة بين الأدباء فضلا
عن إمعانها في التزوير والطعن على قادة الأدب العربي في القطر المصري الشقيق. ولما رأيت الأستاذ أبا شبكة يعلق على مقالك في صحيفة (الجمهور) أبديت استغرابي بمقال نشرته (صوت الأحرار) ومما قلت فيه: (ومن الغريب أن يستخذى الأستاذ عنان فيبعث للمكشوف بعتاب لطيف ومقال عتيق عرض فيه لوجوه الضعف في الحركة الأدبية المصرية، ترضية لجريدة عرفت غايتها في شن الغارة على أدب إخواننا المصريين، وكان ينبغي أن يربأ بقلمه عن الخوض في هذا المجال حرصاً على كرامته)
أما وقد أعلنت مرتين استنكارك لتزوير صاحب (المكشوف) وإقامتك الدعوى الجزائية عليه - وأنت المحامي - فإني أعتذر إليك عما كتبت بنية خالصة. ولا ريب أن الصحافة اللبنانية تستنكر مثلك هذا التحرش، فتنصح صاحب (المكشوف) بالإقلاع عن خطته الشائنة، أو تدعو كل عربي لمقاطعة صحيفته القاذفة، إن الباطل كان زهوقا
(دمشق)
وداد سكاكيني محاسني
إلى الأستاذ علي الطنطاوي
تعقيب على بعض ما جاء في رسالته إلى أخيه بباريس
عفا الله عنك أيها الأخ الكريم
أيجدر بك - وأنت المنتصر للشرق الغيور على الإسلام - أن تجعل من بلد شرقي مسلم مضرباً لأمثال السوء؟ لئن كان عيب السودان لونهم الأسمر أو بشرتهم القاتمة، فإن خلف تلك السمرة وذلك القتام قلوباً عامرة بالإيمان، ونفوساً أبيّة تَعِفُّ عن مواطن المسكنة وتربأ عن الهوان، وعقولاً على نزر ما تلقى من الثقافة - بحكم مركز السودان السياسي - جبارة دائبة التفكير فيما يعلي شأن بلادها، لا تخلد إلى الراحة ولا تستمرئ الخمول
سل مصر الشقيقة تنبئك عنا وتصل أسباب التعارف بينك وبين أخيك النائي، فقد حان الوقت الذي يجب أن يعرف فيه بعضنا بعضاً حتى نعمل يداً واحدة فننهض برسالة الشرق والإسلام. وإن تذرع الأخ بأنه إلى غير سوداننا قصد فلا ينس أن كلمة (السودان) شاملة وأنه لابد أن يلحقنا كِفْلٌ من المسبة
عفا الله عنك أيها الأخ الكريم! على أني لازلت معجباً بما تكتب، فخوراً بغيرتك على الإسلام وانتصارك للشرق. وأصدقك القول بأني على رغم ما اضطرني إلى إثبات هذه الكلمة لم أقف قراءتي دون خاتمة الرسالة
(أم درمان - سودان)
(سوداني)
(الرسالة) جاءنا من إخواننا السودانيين رسائل كثيرة في هذا
المعنى فاكتفينا بهذه الرسالة لاعتدالها وإيجازها.
في المسرح الروسي الحديث
يقاسي المسرح الروسي الحديث كثيراً من العنت بسبب الدكتاتورية الفاسدة التي يفرضها الطاغية ستالين. . . وقد كان المظنون أن البلشفية الروسية هي أشهى ثمار الأدب الروسي الذي تقدمها ومهد لها، ووضع لها في قلوب الفقراء أسساً من الثورة والتبرم والاشمئزاز من الوسائل القيصرية العاتية في حكم الشعب، وهو ما نلحظه واضحاً تمام الوضوح في قصص دستوتفسكي وتولستوي وترجنيف وتشيخوف ومن إليهم من أعلام الكتاب الروسيين. . . وكان المظنون أيضاً أن فقيد روسيا العظيم جوركي سيقف حائلا بين الأدب وبين طغيان الحكومة التي حاولت إفساده بإخضاعه لنظمها واستخدامه للتبشير بين الجماهير، فلما شجر الخلاف بينه وبين رجال الثورة في إبانها استبشر المغرمون بالأدب الروسي خيراً، ولكنهم سرعان ما فوجئوا بعودة جوركي إلى روسيا وصلحه مع طغاتها، وصيرورته مبشراً بتعاليمهم، بل من أشد المتحمسين لهم، حتى خاب الظن، ووثق الجميع أن مجد الأدب الروسي قد انهار، وأنه ركد ركوداً لا أمل في انتعاشه منه قط. . . ولولا أن كان جوركي أديباً بطبعه، ولولا أن حياته امتدت في ظل البلشفية، لكانت نكبة الأدب الروسي بتعاليمها نكبة حاسمة، إلا أن هذا الرجل الذي لم تلهه حياة الفراغ والدعة قد ستر هذا النقص فيما جناه هذا النوع الفوضوي من الحكم على الأدب في روسيا، فلما مات خبا آخر قبس من هذه النار المقدسة التي ظلت أعواناً تؤجج قلوب الروسيين ومشاعرهم. . .
وقد هال موت جوركي رجال الحكم في روسيا وعلى رأسهم ستالين، وهوبا ينصرون الأدب فيما يخيل لهم عن طريق المسرح، وهم يبذلون جهود الجبابرة لإقالة عثرته، بيد أنهم لمبالغتهم في جعل المسرح للبلشفية، لا البلشفية للمسرح، ومبالغتهم أيضاً في بلشفة كل ما يتعلق بالتمثيل قد باءوا بالفشل من حيث كانوا ينشدون النجاح. . . وهم يعترفون بهذا، ولذا دأبوا على إبراز درامات جوركي على أكثر مسارحهم، حتى أن روايته الأخيرة (بيجور بوليشوق) تمثل في الليلة الواحدة في أكثر من ستة مسارح من مسارح العاصمة. . . وتبدو الروح البلشفية المفتعلة في درامات أكثر الكتاب، إما لاضطرارهم إلى إرضاء الحكومة وتملقاها، وإما لعجزهم عن وصل ما انقطع من جهود أسلافهم العظام. . . فهذه درامة (الأرستقراطيين) للكاتب نيقولا بوجودين تكاد تكون حرباً على الأرستقراطية التي يجهلها شباب روسيا تمام الجهل. . . وكذلك رواية إيفان كوشرجا (الساعاتي والدجاجة) إن هي إلا درامة فارغة برغم الطبل المدوي الذي دقه النقاد الروسيون لها، وبرغم الجائزة السنية التي نالها صاحبها بسببها. على أن بعض الكتاب الذين احتفظوا باستقلالهم قد استطاعوا أن يكتبوا قطعاً فنية رائعة وإن تكن تحمل الطابع البلشفي أحياناً. . . ومن هؤلاء الكاتب فسوفولود فشنفسكي مؤلف (المأساة التي تبشر بالخير) والتي اضطر أن يقحم عليها روحاً من نوع الميلودرام إرضاء للسادة الحاكمين
ومن أعجب العجب خمول كتاب نابهين مثل كرشون وأفينوجنيف. . . ويبدو أن سبب خمولهم عائد إلى عدم استطاعتهم هضم هذه الدكتاتورية التي يفرضها ستالين وأذنابه على روسيا، وهي الدكتاتورية التي حاربوها من قبل في شخص القيصر نفسه