الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 234
- بتاريخ: 27 - 12 - 1937
رجل سعيد
وعدتك أن أقص عليك حديث الرجل السعيد بخلقه ودينه عسى أن تجد فيه ما يبرد غيظك ويرد حلمك ويقر بالك. وهأنذا اليوم أسوق إليك هذا الحديث على سرده:
دخل علي هذا الرجل وأنا مكب على عمل دقيق حافز، فلم يسعني حين رأيت ما عليه من سمت الوقار وسيما الخير إلا أن أدع ما في يدي وأفرغ له
- نعم يا سيدي
- أنا رجل من أهل. . . قرأت ما كتب في الرسالة عن الأخلاق ونكولها أمام الغرائز الوصولية في الإنسان، فسأني وأيم الله أن تشتبه المعالم حتى يضل الهادي، وتعترك الظنون حتى يشك المؤمن. وليس لي قلم أضعه بين هذه الأقلام فيدلها على موضع الحق أو يعينها على مقطع الحكم، فآثرت أن أشخص إليك لأكون أمامك مقالاً حياً يقرر، ودليلاً ناطقاً يؤيد
وفي الحق أن الرجل كان في بزته العربية المهندمة، ولهجته الطبيعية المتزنة، كأنما ينطق عن وحي الفضيلة العليا. فقلت له: أتظن أن الفاضل ينجح بمحض فضله في هذا العصر الآلي الأصم؟
فقال: لا أظن، وإنما أعتقد؛ ولا أنكر مع هذا الاعتقاد أن الفضيلة وعرة الطريق، وأن الخير صعب المرتقى. وفي قول الرسول الكريم:(حفت الجنة بالمكاره)، و (القابض على دينه كالقابض على الجمر) ما يصدق ذلك. ولكن الفضائل تعليم وتعويد ورياضة؛ فإذا أوف غرسها في النشء، وضعف أثرها في المجتمع، دل ذلك على فشل التربية لا على فشل الفضيلة.
أنا رجل واسع الثراء سابغ النعمة؛ وقد جمعت مالي الوفر من ذلك الطريق السوي الذي ألزمني إياه أبي منذ الصغر؛ فليس في نصابه قرش زائف ولا متر مغتصب. ورثت عن أبي الدين الصحيح على أنه دستور الدنيا، والخلق الصريح على أنه جوهر الدين؛ ثم زاولت التجارة بالصدق والصبر فاستغنيت، واقتنيت العمائر والضياع فأثريت، وأديت الصلاة فوصلت ما بيني وبين الله، وآتيت الزكاة فأصلحت ما بيني وبين الناس. ثم أحصنت نفسي بالزواج الباكر فوهبت البنين، وعصمت شهوتي من المتع الحرام فرزقت العافية. وطهرت قلبي من الطمع الحاسد والخصام الحاقد فأوتيت السكينة. ثم جهلت البنك
فجهلت الربا والدين، وأنكرت المحكمة فأنكرت العداوة والظلم، ووضعت فضل مالي في أيدي ذوي الخلق من التجار يحفظونه لي ويستثمرونه لهم، وجعلت أرضي في ذوي الدين من الزراع يريعونها علي ويستغلونها عليهم، ومسست بالمواساة والرحمة قلوب البائسين حولي فسللت منها الضغينة؛ ثم كان لي في كل مبرة سهم، وفي كل مستشفى سرير، وفي كل مشروع وطني يد. فأنا أمشي في الناس ملحوظ الشهادة محفوظ الغيب، لا تمتد يد إلى مالي لأنه مبذول للسائل والمحروم، ولا ينبسط لسان في عرضي لأن جاهي موقوف على العاطل والمظلوم، ولا يأتمر أحد بحياتي لأن وجودي أمان للشقي من البؤس والجريمة
أما سعادتي في نفسي وولدي فهي أعظم وأتم من سعادتي في عملي ومالي: أجدني كنف الرجاء لكثير من الأسر الفقيرة، ومصدر العزاء لطائفة من القلوب الكسيرة؛ وأرى في كل نظرة وفي كل بسمة وفي كل كلمة معاني لا تتناهى من العرفان والحنان والشكر، فتعظم سعادتي في نفسي، وتجمل دنياي في عيني، ويغمرني شعور من عزة المؤمن وزهو الخاشع، لأن حياتي لها هذا الخطر في حياة بعض الناس. ثم أنظر إلى بني الثمانية فأرى في وجوههم صورتي، وفي صدورهم محبتي، وفي شعورهم عاطفتي، وفي ميولهم رضاي، وفي آمالهم مناي، فأقبل يدي ظاهراً وباطناً وأقول لنفسي: احمدي الله واشكريه فإن علياً لن يموت، وإن ثراءه لن يبيد، وإن بناءه لن يتقوض!
ذلك كله يا سيدي بفضل الخلق. فإذا كان قد تهيأ لمثلي على جهله بقواعد المدنية وضروريات العلوم أن يجمع بمعونة الله وحده هذه الثروة الضخمة وليس له رأس مال من إرث ولا فيض رزق من حكومة، وإن ينال هذا الجاه العريض وليس له نسب عريق في أسرة ولا سبب وثيق إلى سلطان، وأن يخلق من حوله هذا النعيم المقيم فيغرق فيه أهله وعشيرته وبيئته، وأن يرفع بناء الأخلاق الفاضلة في بنيه بالتربية وفي أهله بالقدوة وفي مواطنيه بالتقليد، فكيف لا يستطيع معلمو المدرسة ووعاظ المسجد ومشرعو البرلمان أن يخلقوا في كل مكان هذه البيئة وتلك الجنة فيصلح المجتمع ويسعد العالم؟
فقلت له وقد أعجبني عقله وأمتعني حديثه: يا سيدي، إن من سعادتك وسعادة الناس بك أنك صاحب عمل لا صاحب علم، ورجل عزيمة لا رجل رأي. ولو كنت من كهنة العلم لصعدت إلى قدس الأقداس وظللت تقرأ الفلسفة والأخلاق لرياضة العقل أو للذة المعرفة أو
لشهوة الجدل، ثم رميت الناس من عليا سمائك بالآراء المتعارضة والأحكام المتناقضة لتصطرع في المطابع حيناً ثم تموت في الكتب
لا يزال المربون يا سيدي يجادلون في أغراض التربية ويجربون نظرياتها المختلفة في حقولهم الخاصة. فليت شعري وشعرك أيتاح لهؤلاء في دهر من الدهور أن يقبضوا على أعنة الأمم ويتولوا القيادة في ركب الحياة!؟ أدع الله للناس أن يلهمهم من الحق ما ألهمك، وأن يعلمهم من قواعد الخير ما علمك!
قال صاحبي الثأر وقد شبا وجهه بشي من الإيمان والاطمئنان: وهل تستطيع أن تعد كثيراً من الناس على غرار هذا الرجل؟ فقلت له: يا صاحبي! ليست المسألة مسألة إحصاء وعد، إنما هي مسألة إمكان وواقع. ومتى ثبت أن الأخلاق الفاضلة استطاعت أن تصنع من هذا الرجل هذا المثال، فلم لا تستطيع أن تصنع غراره ملايين من الرجال؟
أحمد حسن الزيات
هل الحرب ضرورة؟
للأستاذ عباس محمود العقاد
- 2 -
ظهور المذهب في الأمة شيء، وشيوع العمل بذلك المذهب شيء آخر
لكن ظهور المذاهب مع هذا لا يخلو من دلالة قوية على طبيعة الأمة ومعدن أخلاقها وطرائق معيشتها، ولو لم يعمل به الناس أو يتقيدوا بأحكامه في الحياة اليومية
فالجنود والفلاسفة ورجال المال وأصحاب التجارات الواسعة موجودون في بلاد الحضارة كافة، وربما تساوت (النسبة) بينهم في العدد والقوة والجاه، ولكن مما لاشك فيه أن البلد الذي (مثله الأعلى) رجل الحرب غير البلد الذي يتخذ له (مثلاُ أعلى) من الرجل الغني أو من الرجل الحكيم أو من الرجل الزاهد. فإذا ظهر في الصين حكيم يوصي الناس بالوداعة وحب السلم وكراهة القتال فليس بالمعقول ولا بالميسور أن يشيع العمل بوصاته حتى يمتنع ظهور الجند ووقوع القتال بين تلاميذه ومريديه؛ ولكن ليس بالمعقول كذلك إن نسوي بين هذا البلد وغيره من البلدان التي يتمنى حكماؤها شيوع الحرب أو شيوع الثروة أو شيوع الزهد والرهبانية، إذ يكفي أن يتمنى الإنسان شيئاً ليكون مختلفاً في تفكيره وشعوره ممن لا يتمنونه وقد يتمنون نقيضه، ولا يسوى بينهم بعد ذلك أنهم يشتركون في عمل واحد يعمله بعضهم مضطراً مسوقاً إليه، ويعمله بعضهم مختاراً شديد الرغبة فيه
لقد أوصى حكماء الصين بالسلام وبغضوا الناس في الحرب وفيمن يجعلها صناعته وهمه وهجيراه، فليس معنى هذا أن حرباً لم تقع في الصين وأن حكيماً لم يظهر بين أهلها يحثهم على الكفاح كلما دعت إليه حاجة أو قضت به مصلحة سياسية؛ فقد ظهر من الصينيين فلاسفة بالغوا في تمجيد الحرب كما يبالغ فيها اليوم فلاسفة المذاهب (الفاشية) أو مذاهب العسكريين. وقال أحدهم وهو (كنج سوف يانج):(إن الأمة التي تجتمع فيها القوة حقيقة أن ترهب وتصبح عظيمة البأس والمهابة؛ أما الأمة التي تلهو بالكلام فهي وشيكة التمزيق. ولو أن ألفاً اشتغلوا بالزرع والحرب وواحداً بينهم أشتغل بنظم القصيد ورواية التاريخ وتنميق الأحاديث لأفسد عليهم أعمالهم أجمعين. . .) إلى أمثال هذا الكلام الذي يخيل إلى قارئه أنه من عربدة المعسكرات لا من نصائح الوعاظ والحكماء
ظهر في الصين من قال بهذا وظهر فيها من قال بغيره وهو الفريق الغالب والقدوة العامة المرموقة من الأكثرين، وربما كان ظهور الحكماء المسالمين وانتشار حكمتهم هو الباعث إلى ظهور المخالفين لهم وإغراقهم في دعوة الحرب وآداب القتال، كما يصيح الإنسان ويبالغ في الصياح كلما أحسن أنه ضائع الصوت والصدى محتاج إلى جذب الأسماع ولفت الأنظار؛ وإنما عبرة هذا جميعه أن النيات لها دلالة قوية وليست الدلالة كلها للأعمال والوقائع؛ فإذا رأينا أناساً ينوون السلم ويحاربون فليس بالصحيح أن نسوي بينهم وبين من ينوون الحرب ويحاربون: هم مختلفون وإن تشابهوا في عمل واحد، ونحن رابحون إذا أشعنا دعوة السلم وإن لم يتبعها على الأثر شيوع السلم وبطلان القتال
ومن الأشياء التي لها دلالتها في العصر الحديث كثرة الناعين على الحروب بين الأمم الحرة، وكثرة المنكرين لمظاهر الزهو التي كانت تحيط فيما مضى برجال الفتوح والغزوات، فسيكون لذلك كله أثره كما كانت له دلالته وكانت له دواعيه. وحسبنا أن العمل في هذه الوجهة ليس بالعبث ولا بالعقيم، بل حسبنا أنه واجب محمود، بل حسبنا أنه ليس بذميم، ليكون ذلك من أسباب المضي فيه والإقبال عليه
يقال إن الضراوة ليست من طبيعة الوحش في حالة التأبد والسهولة. ويقول هدسون: إن ألبوما - وهو من أشد السباع الأمريكية - لا يهجم على أحد إلا وهو مدافع عن حياته. ويقول كومستوك: إن الثعابين والدببة وغيرها من السباع لا تتعلم الضراوة إلا حين يظهر بينها الإنسان ويوغل بينها في الصيد والاعتداء والتحرش والإيذاء. وحسبنا من ذلك أن الضراوة ليست أصلاً في الخليقة حتى بين السباع والعجماوات، وإنها ضرورة وليست بشهوة مطلوبة، وأنها تحول إذا امتنعت الضرورة وتغيرت الأسباب. فلا نزعم كما يزعم الفاشيون أن تربية الإنسان على الحرب فضيلة متى ثبت أن الحرب رذيلة ليس عنها محيد: ذلك خطأ لا ريب فيه، لأنه لم يثبت أولاً أن الحرب طبيعية في الأحياء، ولن يثبت بعد ذلك أن الرذيلة تصبح فضيلة مرغوباً فيها متى علمنا أنها عسيرة الاجتناب
ولست أكبر من شأن الدلالة التي أشار إليها الكاتب (الدوس هكسلي) صاحب كتاب الغايات والوسائل حين قال: إن الإنسان في دور الفطرة لم يكن يعرف الحرب على نظامها المعروف بين أصحاب الحضارة، فإن الرجل الذي يحارب ليس بأبشع ولا أقسى من
الرجل الذي يقتل بعد تدبير وإصرار؛ ولعله أقل بشاعة وقسوة لأنه يقتل وهو مهتاج مستثار بما يثير الجنود في حومة الصراع. إلا أنني أومن بما تواترت به الآراء عن قلة الضراوة بين الأحياء التي تعيش على الفطرة في حالة التبدي والسهولة، فإن ذلك معناه أن الحرب آفة قابلة للعلاج في زمن من الأزمان، وأنها متى بطلت أسبابها الأولى ووضحت أضرارها الجسام وكثر المصابون بتلك الأضرار خفيت من عالم الإنسان المتحضر كما خفيت من عالم الإنسان الفطري أو من عالم الحيوان
وربما لاح عجيباً للمصريين أن يعلموا أنهم أول أمة في العالم قد اخترعت (فن الحرب) على النظام المعروف؛ فقبل الحضارة المصرية لم تكن حرب منظمة ولا تعبئة مدروسة ولا حركات يتعلمها القادة كما يتعلم صناعته كل ذي صناعة محفوظة الأصول والقواعد؛ وإنما كانت هناك مشاجرات يدخل فيها استخدام السلاح ولا تعتمد في فنون التعبئة على نظام سابق. فما أعجب أن يكون المصريون الموادعون هم اسبق الأمم إلى اختراع فن القتال! وما أعظم ما في ذلك من دواعي التفاؤل عند أناس ودواعي التشاؤم عند آخرين! فأما التفاؤل فذاك لأن هذه العجيبة دليل على أن الحرب ضرورة معيشة في بعض حالات الحضارة الأولى، وليست بشهوة مقرونة بالوحشية التي تناقض الوداعة والمسالمة؛ وأما التشاؤم فذاك أن يقول القائل: هذا شأن الموادعين فكيف بالضراوة المقتحمين؟!
ومع هذا نقول ويقول هكسلي: إن علاج الحرب نفسي وليس باقتصادي على زعم الاشتراكيين أصحاب التفسير المادي للتاريخ، وإن المعيشة تابعة لحالة النفس قبل أن تكون الحالة النفسية تابعة للمعيشة. فهذب الرجل وأصلح من ذوقه وتفكيره ينتقل من منزل إلى منزل ومن حي إلى حي ومن كساد إلى كساد ومن طعام إلى طعام، وهكذا يكون العلاج لآفات الأمم في هذا الزمان
وقد وعدنا في المقال السابق أن نلم بأسباب الحرب الاقتصادية كما يراها مؤلف الكتاب. فأهمها وأسبقها تاريخاً في نظره هو التماس المرعى الخصيب وانتزاعه من أيدي مالكيه؛ ثم تبدل هذا الباعث في زماننا فحل التماس الأسواق محل التماس المرعى الخصيب، وأدى التماس الأسواق إلى إنشاء المصانع في البلاد المستعمرة فقام النزاع بين المصالح في أيدي الأقوياء والضعفاء على السواء
ومن أهم أسباب الاقتصادية معامل السلاح ونفوذ المنتفعين بترويج الأسلحة بين المتحاربين. وليس من العلاج الناجع في رأي هكسلي أن تستولي الحكومات على هذه المعامل فتبطل الدعاية للحروب، لأن الحكومات تحتاج إلى المال كما تحتاج إليه الشركات؛ ويزيد على المشكلة مشكلة جديدة وهي أن الحكومات أقوى على الجملة من الشركات
ويمضي الكاتب في سرد أمثال هذه الأسباب مجتهداً في إبراز غرضه الأصيل من كتابة الكتاب وهو تغليب العوامل النفسية على العوامل الاقتصادية وتوجيه الأذهان إلى ابتغاء العلاج الأدبي مع العلاج الاقتصادي في وقت واحد. وخلاصة العلاج الأدبي ترجع بنا إلى مذهب كمذهب أهل الهند أو مذهب المتصوفة القائلين بأن عظمة الإنسان على مقدار استغنائه عن قيود اللذات والشهوات وقيود الأوجاع والهموم، وأن المثل الأعلى في التربية هو الترفع عن الحاجات وليس الخضوع لها والانقياد لغوايتها. أما خلاصة العلاج الاقتصادي فهي العناية بالوسائل الزراعية التي يجريها الدكتور ولكوكس صاحب كتاب (الأمم تعيش على مواردها الداخلية)؛ وفحواها أن الأمة بالغاً ما بلغ عدد سكانها قادرة على استخراج طعامها من أرضها إذا هي عمدت إلى تطبيق بعض الأساليب العلمية التي حققها بالتجربة المشهودة. ويتوقع هكسلي أن طريقة ولكوكس ومثلها طريقة الأستاذ جريك في كليفورنيا ستحدثان في العالم انقلاباً شاملاً لا يذكر إلى جانبه انقلاب الصناعة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إلا كما تذكر التوافه واللمم في معرض الأخبار الجسام
وجميع هذه الخلاصات إنما هي فهرس للعناوين يشوق من يعنيه الأمر إلى المراجعة والاستقصاء. فإذا راجع واستقصى علم أن الجزاء أكبر من العناء، وأن من مباحث الزراعيين في عصرنا هذا ما يلذ القارئ كما يلذه البحث في الأدب والفن والفلسفة وأصول العقائد وقوانين الاجتماع، فلا سبيل إلى علاج عالمي يعصف بآفات القرون الأولى ويحيط بعواملها الفكرية والشعورية ما لم يكن مصحوباً بدراسة هذه الشؤون
عباس محمود العقاد
ليلى المريضة بالعراق
للدكتور زكي مبارك
- 3 -
. . . في صباح يوم السبت توجهت إلى بهو أمانة العاصمة لأؤدي واجب التحية، تحية العيد إلى وزراء الدولة. وقد ظنني فخامة الرئيس عراقياً، لأني كنت بالسدارة، فسرني ذلك. وكانت فرصة طيبة عيدت فيها على رجال كنت أحب أن أذهب إليهم في منازلهم؛ وراقني أن يعرف العراقيون مكاناً عاماً يلتقون فيه يوم العيد، وهي عادة حسنة كنت دعوت إليها في الرسالة التي قدمتها للمباراة الأدبية الرسمية: رسالة (اللغة والدين والتقاليد)
وتلفتّ فرأيت الدكتور حسين كامل يشير اليّ، وما هي إلا لحظة حتى كانت يد كريمة تصافحني وتقول: أنا الدكتور شوكة الزهاوي رئيس الجمعية الطبية العراقية، وقد سألت عنك مرات لأن أسمك يرد كثيراً في المخابرات التي تجري بيننا وبين الجمعية الطبية المصرية. والحمد لله على أن اهتديت إليك بعد التشوف والاشتياق
ثم أستطرد فقال: إيش لون ليلى؟ (واللون في عرف العراقيين هو الحال في عرف المصريين)
فقلت وأنا أبتسم: ستعرف ذلك يوم ألقي بحثي في المؤتمر الطبي عن ليلى المريضة بالعراق
فقال: عجل بدفع الاشتراك ليحفظ لك مكانك بين الخطباء
فأخرجت ديناراً لم يكن معي سواه وقلت: إليك الدينار في سبيل ليلى! والله المستعان
والظاهر أنه لم يعرف شيئاً عن الرسالة التي كلفت الأستاذ الزيات تبليغها إلى الجمعية الطبية المصرية (ولا تغضب يا صديقي الزيات من كلمة تكليف، فكذلك قلت، وما أكذب عليك)
وفي المساء ذهبت إلى نادي المعارف واشتركت في استقبال الكشافة السورية، وألقيت خطبة تناسب المقام. وما كادت تنقضي الحفلة حتى عدوت إلى منزلي لأنتظر وصيفة ليلى
وجاءت الساعة العاشرة ولم يحضر أحد، فقلت في نفسي: هذا جزاء الفضول!
ثم تذكرت أني أؤدي خدمة وجدانية سيذكرها التاريخ فأنشرح صدري بعض الانشراح
وهدأت، ثم أخذت أقلب أوراقي في سكون واطمئنان
وبعد نصف ساعة أحسست يداً رفيقة تطرق الباب، فخففت إليه في وقار مصنوع وفتحته بدون أن أسأل عن أسماء الزائرين. وما الحاجة إلى ذلك وأنا أعرف جوهر الزيارة في نصف الليل؟ وليتها كانت زيارة تذكر بالأيام الخوالي حين كنت أدرس الطب في باريس، وحين كنت أترك الباب بلا رتاج لتدخل الصغيرة المحبوبة حين تشاء
إنها زيارة جرداء ستنقضي في السؤال والجواب، وأنا اليوم طبيب مسؤول عن رعاية الحرمات
دخلت جميلة أولاً، وتبعتها ليلى. دخلتا ملفوفتين، مع أن المرأة جميلة جاوزت الستين؛ وشعرت بشيء من الخجل للفقر البادي في غرفة الاستقبال، ثم تماسكت حين تذكرت أن هاتين المرأتين تفهمان بلا ريب أني طبيب غريب وأن الوقت لم يتسع لتأثيث العيادة والبيت
- يا جميلة، ما أسم هذه الوصيفة؟
- اسمها ظمياء، ولكن ما ذنبي عندك يا دكتور حتى تغير اسمي؟
فقلت: لن أذكر أسمك الصحيح في علاج ليلى، لأني لا أريد أن تغتنمي الفرصة فتصبحي علماً على حسابها يا حيزبون!
وأخذت المرأة في اللجاجة ولكني انصرفت والتفت إلى ظمياء
- إيش لون ليلى؟
- بخير، يا دكتور، وقد سرت في روحها البشاشة منذ الوقت الذي رأتك فيه، ولكن في نفسها منك شيء
فقلت وأنا منزعج: وما هو ذلك الشيء؟ أعوذ بالله من كيد الشياطين!
فأجابت: كتب إليها كثير من أدباء مصر يؤكدون أنك أديب ولست بطبيب
فقلت: هؤلاء دساسون، وقد آذوني قبل ذلك أبلغ إيذاء، فقد كنت خطبت فتاة في باريس وطاب لي معها العيش، إلى أن تدخل المفسدون وحدثوها أني متأهل، وأن لي خمسة أبناء. وأنا يا آنستي رجل محسود لا أخطو خطوة إلا وحولي رقباء لا ضمائر لهم ولا قلوب
فقالت: ولكن ليلى رأت في صدور كتبك أنك دكتور في الآداب
فقلت: هذا تواضع مني، لأن الطبيب الحق لا يقول إنه طبيب، ومع ذلك فلا بأس من إخبارك بكل الحقيقة لتبلغي ليلى فتطمئن. عندي يا آنستي ثلاث دكتوراهات: الأولى في الآداب، والثانية في الطب، والثالثة في القانون
فتهلل وجه ظمياء وقالت: الآن فهمت ما ينشر في الجرائد من أنك تلقي محاضرات في كلية الحقوق
فقلت: هو ذلك يا آنستي. وستقرئين في الجرائد بعد حين أني ألقي محاضرات في كلية الطب!
والآن ندخل في صحيح الغرض من هذه الزيارة الليلية، ولندرس الموضوع من جميع الأطراف، لأني لا أستريح إلى دعوتكما لزيارتي مرة ثانية، فإن العيون تترصدني من كل جانب، وسمعة الطبيب هي كل ما يملك، وأنت في الحق فتاة حسناء وأخشى أن تحيط بي من أجلك الظنون
فتنهدت وقالت: العفو يا دكتور! إن مرض ليلى هدني ولم يبق مني على شيء
فقلت وقد غاظني أن تحسبني أتغزل: أسمعي، ليس الوقت وقت دلال، أنت هنا في خدمة الواجب، أجيبي على الأسئلة بصدق وصراحة، واحذري عواقب المداورة في الجواب
- هل ترين ليلى امرأة مصونة؟ هل يحيط بسمعتها قليل من الشبهات؟
- ليلى مصونة كل الصيانة يا دكتور، بالرغم من كثرة الحواسد لم تستطع امرأة أثيمة أن تقول في حقها كلمة سوء، فهي مثال الطهر في بغداد، وحديثها كالعطر في جميع أرجاء العراق
- وكم سن ليلى الآن؟ وكيف كان ماضيها في الحياة الزوجية؟
- هي في حدود الأربعين، ولا تزال عذراء
(وعندئذ دونت في مذكرتي أن المرأة التي تصل إلى سن الأربعين وليس لها زوج ولا أطفال معرضة لكثير من الأمراض، وهذه أهم نقطة أعرضها للدرس في المؤتمر الطبي)
ثم رفعت بصري إلى ظمياء وقلت: ولكن كيف أتفق أن تعيش ليلى كل هذا العمر عذراء؟
فتلجلجت الفتاة ثم لاذت بالصمت، فنهرتها بعنف، فأجابت وما تكاد تبين:
- كانت تحب الضابط عبد الحسيب
- ومن هو الضابط عبد الحسيب؟
- فتى كان في الجيش العراقي وأبوه من مصر وأمه من لبنان
(للحديث بقية)
زكي مبارك
ضبط النفس
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
علمتني الحياة ضبط النفس، والحياة مع الأسف مدرسة ولكنها فيما يبدو لي عقيمة، فإن الدروس فيها لا تنتهي، ولا يكاد المرء يظن أنه حذق بعضها وآن له أن ينتفع بما تعلم منها حتى تسلمه الأقدار إلى العفاء! ففيم كان طول التتلمذ هذا؟ وما خيره إذا كان العمر ينتهي به؟ وما الفرق إذن بين الجهل والعلم والطيش والحكمة؟ ولماذا يعني المرء نفسه بالنظر والتدبر والتحصيل؟؟
قلت هذا مرة لصديق إنجليزي فلم يستغربه، لأنه لا جديد فيه، ولكنه سألني:(أيشق عليك هذا؟) فاحتجت أن أدير عيني في نفسي لأتبين، فما أدري والله أهو يشق أم يهون. ثم قلت له:(لا أظن. . فإني حائر. . أجهل ما تنطوي عليه نفسي. . ولكني أريد أن أفهم وأن أهتدي إلى الحكمة. . . فإني أراني أتعب وأكد في التحصيل والنظر. . . وسأقضي حياتي كلها في هذا، ثم يجيء يوم فأطوى. . . ويطوى معي كل ما تعبت في إفادته ولم أنفع به أحداً. ولو أني كنت أموت ويبقى ما أفدت لأختلف الحال، ولكن عقلي يبطل، وإحساسي ينعدم، فكأني ما عشت ولا كنت. فما هذا الموت الذي تموت به كل المعاني الحاصلة، والحكمة المستفادة، والمعارف والاحساسات؟ هذا هو الذي يثقل علي، وإن كان لا مفر منه. وفي سؤالك ما يشعر أنك لا تستثقله كما أفعل، وهذا راجع إلى طبيعة المصري، فأنها غير طبيعتكم. نحن المصريين يختلط في نفوسنا الشعور بالحياة بالشعور بالموت، وتفكيرنا في هذه بتفكيرنا في ذاك. حياتنا كلها وآثار آبائنا الأقربين والأقدمين تثبت ذلك، ولكنكم تفكرون في الموت كأنه شيء مستقل عن الحياة، يعترضها ولكنه ليس منها، هو عندكم طارئ غريب. . . أو قل إنكم لا تحسون به كإحساسنا نحن. . .)
وقصصت عليه قصة تجلو فرق ما بيننا وبين الإنجليز في هذا، وتلك أن سيدة استأجرت غرفة في بيتها في لندرة روت لي يوماً أن جارها توفي أبوه، وقالت إنه الآن مسجى على سريره في غرفته ينتظر يوم الدفن، وكان الابن يحب فتاة ويشتهي أن تكون زوجته، وقد تودد إليها وأطلعها على ما يجن لها من الحب وخطبها فشكرته وأسفت واعتذرت، وكان له صديق يحب الفتاة أيضاً وينافسه عليها، وقد ظفر منها بكلمة القبول في نفس اليوم الذي
مات فيه أبو صاحبه، فزاره ليعزيه، ثم لم يسعه إلا أن يفضي إليه بما يملأ قلبه من السرور وأن يبلغه أن الفتاة رضيت أن تكون زوجته، فأحتمل الرجل الصدمتين: صدمة الموت وصدمة الحرمان، وتناول زجاجة الويسكي وناول صديقه كأساً وتناول هو أخرى، قالت السيدة: وقد ظلا يشربان إلى الهزيع الثاني من الليل. وقد كانت تروي لي هذه القصة وهي معجبة بسعة صدر ذلك المفجوع في أبيه وفي حبه، وعظم ضبطه لنفسه؛ ولم يكن إعجابها به لأنه أستقبل صديقه وراح يسامره وأبوه الميت لا يزال في البيت فإن الموت مألوف لا جديد فيه، ولا خير من تقطيع القلب حسرات من جرائه، وإنما كان الإعجاب لأنه أحتمل الهزيمة في ميدان الحب على هذا النحو الكريم
مثل هذا لا يمكن أن يحدث في مصر. ولو أن اثنين تنافسا على فتاة، لما كان من سلامة الذوق أن يذهب الفائز بها إلى مزاحمه ليطلب منه تهنئته بذلك ومشاركته في سروره، فإن هذا في عرفنا أشبه بأن يكون شماتة ومكايدة، فكيف إذا كان أحدهما أبوه ملفوف في أكفانه ينتظر أن يحمل إلى قبره؟
وأكثر ما نراه من مظاهر الحزن أو الجزع عندنا من التكلف ولاسيما بين النساء. ولكن لماذا يتكلف المصريون هذا ويحرصون على إبدائه؟ أترى تكلفهم هذا يرجع الأمر فيه إلى الجهل أم إلى شعور بشيء في الطباع؟ لا أدري، ولكن الذي أدريه أن التجلد يكون مما يتحدث به الناس ويلهجون بذكره، كأنما الأصل هو الجزع. وإني لأذكر أني تظاهرت بالاطمئنان، وتكلفت الابتسام لما ماتت أمي، بين يدي، وكنت أخادع أخي وأخادع سيدات كثيرات كن في تلك الساعة في البيت، وقد كرهت أن ينفجرن بالصراخ والعويل واللطم، وأمي بينهن في ثيابها التي كانت تلبسها لما حضرتها الوفاة، فلما عرف أخي ما دبرت ساءه هذا مني وكبر عليه أني زعمت له أنها نائمة وهي ميتة، وأني تبسمت وكان حقي أن أبكي، وبقي أياماً لا يكلمني، وإذا لقيني ترقرقت الدموع في عينيه؛ ولا أدري ماذا كان يجديه أن يعلم أن روحها فاضت قبل ساعة أو بعد ساعة، وأحسب هذا من الحزن، ولم أكن دونه حزناً، بل لعلي أعمق منه حزناً عليها، ولكنه كان عليّ ما لم يكن عليه من الواجبات في تلك الساعة فاحتجت إلى خنق شعوري حتى أفرغ من الأمر على ما أحب
وكانت لي طفلة صغيرة ماتت، فاحتلت حتى استطعت أن أواريها التراب وأمها تعتقد أن
بنتها لا تزال على قيد الحياة، وكانت الأم مريضة، وقد أوصاها الطبيب بالتزام السكون واجتناب الحركة والأنفعال، فلم يسعني أن أفعل إلا ما فعلت، وكان هناك عامل آخر غير الموت يزيد في ألمي، وذاك أني موقن أن الإهمال هو الذي جر الموت، والآجال بيد الله، ولكن لكل شيء سبباً، وكانت البنت قد أصيبت بالحصبة، فاحتجنا - لمرض أمها - أن نكل العناية بها إلى خادمة كنا نظنها حاذقة ذكية، فأصيبت البنت بالتهاب رئوي قضى عليها وأودى بها؛ غير أن ما كان كان، ولا حيلة فيه لإنسان. فكظمت غيظي، وكتمت ألمي، وتشددت لأعين الأم المسكينة على الصبر. وجاءني بعض الأصدقاء يعزونني في المساء فألفوني أبتسم وأضحك وأمزح فتعجبوا، ولا محل للعجب في الحقيقة، وأحسب الأمر قد صار عندي عادة وما أظن بي إلا أني أصبحت (كالحانوتي) والمرء مما تعود
ولم أكن هكذا في صغري. وإني لأستحيي أن أقول كيف كنت أحمق طياشاً قليل الصبر سريع التأثر، ولو شئت لقصصت على القارئ مائة حكاية وحكاية، ولكني لا أنوي أن أفضح نفسي، وقد صرت يهون على كل شيء إلا أن يراني الناس لا أملك زمام نفسي، ولا أستطيع ضبطها وكبحها. ومن العسير أن أعرف البواعث التي أغرتني بهذا الكبح وزينته لي حتى أصبحت لا يسخطني شيء كأن يتلفت زمام النفس من يدي. وفي وسعي أن أقول في هذه البواعث، ولكني لا أحسب أني قادر على الإحاطة بها أو مهتد إلى الخفي منها. وما ذكرت الموت إلا لأنه في مصر مما يغتفر الجزع حياله، وإن كان المرء يلقى في حياته ما هو شر منه وأدهى، وقانا الله السوء ولطف بنا. ولم تهن علي الحياة، ولكني مللت طول الحيرة التي يورثنيها النظر في وجوهها وأضجرني العجز عن الاهتداء والفهم، فنفضت يدي يائساً وقلت فليكن ما يشاء الله أن يكون، ولأعش كما يتيسر لي أن أعيش والسلام، ولأدع عناء التفكير والنظر لمن أراد أن يحطم رأسه، فإني أنا لا أشتهي هذا التحطيم، وقد جربته فلن أعود إليه. ومن هنا قلة مبالاتي. وماذا أبالي بالله؟
إبراهيم عبد القادر المازني
هل انتهت السياحات والكشوف الظاهرة
في القرن السابع عشر أو بعده؟
للأستاذ أديب عباسي
إذا كتب الأستاذ الكبير - العقاد - أطرف وأبدع، فلا يسع القارئ الذي يصح أن نطلق عليه هذا الاسم إلا أن يقرأ ما كتب الأستاذ. وإذا قرأ له القارئ فلا يسعه إلا أن يقرأ مترفقاً مستأنياً، فليس الأستاذ العقاد بالذي تستطيع أن تقرأ له على الطريقة الأمريكية، طريقة الخطف واللمح والقراءة بالأسطر والفقرات بدل القراءة بالجمل والكلمات. وليس ذلك لإبهام في الرأي الذي يبسط الأستاذ أو التياث في الرأي الذي يشرح، وإنما هو راجع إلى خصلة التركيز الشديد والعمق الصادق التي تتسم بها كل آثار العقاد. وإذا قرأ القارئ الحصيف ما يكتب الأستاذ العقاد هذا النوع من القراءة المتئدة المترفقة فالأرجح أن يخرج مما قرأ له على وفاق معه لا يشوبه تردد الإبهام ولا شك المداورة. ذلك بأن الأستاذ، في صميم ما يكتب، لا يحاول أن يكتب ليفحم، إنما يكتب ليفهم، ويناقش ليقنع لا ليدهش. أقول هذا لمناسبة ما كتب الأستاذ في موضوعي (الحد الحاسم) و (النماذج والأفراد في الأدب) اللذين نشرا في عددي 228 و 229 من الرسالة. هذان المقالان يكادان يكونان نموذجاً لما تتصف به كتابات العقاد من العمق وسلامة المنطق وقوة التوجيه مع الشمول والإحاطة. ومن هنا بادرت أتهم نفسي بالتواء القصد عليها حينما رأيتني أخالف الأستاذ فيما ارتأى ختام موضوعه الثاني فأرى هذا الرأي الذي أبسطه في بقية هذه الكلمة، ولكنني برغم ما اتهمت نفسي واعدت قراءة الموضوع لم أوفق إلى شيء يردني إلى رأي الأستاذ أو يوافق بين رأيه ذاك، ورأيي الذي أبسطه هنا ليتكرم فيصلحه لي، إن رآني مخطئاً، أو يصلح رأيه إن رآني مصيباً
لخص الأستاذ في مقاله الأخير رأياً للأستاذ أدولف وولف في علاقة الديمقراطية والدين بظهور الخصائص المستقلة في الصور الأدبية بعد القرن السابع عشر فقال: (فمنذ أصبح الإنسان فرداً معزولاً في حكم الدين لا اختلاط بين حسناته وسيئاته وبين حسنات الآخرين وسيئاتهم ولا التباس بين ثوابه وثوابهم وعقابه وعقابهم، هنالك أصبحت كل نفس بما كسبت رهينة، وأصبحت كل نفس حقيقة بالمحاسبة والإحصاء والمراقبة، ورسخت جذور
الديمقراطية فلم يبق إلا أن تظهر لها على وجه الأرض فروع وأوراق وثمار)
وكان من هذه الفروع - كما يرى الأستاذ - ظهور الخصائص الفردية والسمات المميزة والفوارق القوية في الصور الأدبية الحديثة. هذه الخصائص والسمات والفوارق يجعلها الأستاذ وولف - كما لخصه لنا الأستاذ العقاد - رهناً بظهور التحليل النفسي الذي كان بدوره رهناً بشيوع الروح الديمقراطية والنظر إلى الفرد نظرة خاصة فاحصة، فلا تفنى معالم شخصيته ومظاهر سلوكه في غمار الجمهور والنماذج التقليدية المرسومة. إنما يؤثر الأستاذ العقاد، في ختام موضوعه، أن يرجع التحليل النفسي والديمقراطية معاً إلى شيء آخر (هو انتهاء الكشوف الظاهرة وابتداء الكشوف الباطنة، أو انتهاء السياحات الجغرافية وابتداء السياحات النفسية الإنسانية)
هنا يسمح لنا الأستاذ العقاد أن نخالفه ويسمح لنا أن نسأل: أصحيح أن الكشوف الظاهرة أو الكشوف الجغرافية انتهت في القرن السابع عشر أو حواليه، ومن ثم بدأت الكشوف الباطنة للنفس كنتيجة لانصراف الذهن البشري عن الدراسات والسياحات الظاهرة إلى الدراسات والسياحات الباطنة؟! إنني أشك في صحة هذا الزعم، بل أكاد أنفيه قاطعاً
ليست السياحات الظاهرة وقفاً على الضرب في مجاهل الأرض واكتشاف كل رجأ من أرجائها، وليس الاستشراف للمجهول في خارج حدود النفس الإنسانية قاصراً على الحدود الجغرافية لقارات الكرة الأرضية؛ فهناك السماء بعوالمها الشاسعة، وأكوانها المبثوثة في رحاب الكون وأسرارها المحيرة؛ وثمة الذرة بصفاتها العجيبة وسلوكها الغريب وأسرارها الدقيقة؛ وهناك أمواج الأثير من ضوء وحرارة وكهرباء وأشعة كونية وخلافها؛ وهناك النبات والحيوان؛ وهناك ما يسيطر على كل أولئك من قوانين خالدة وقوى منظمة. أفبعد كل هذه العوالم العجيبة نستطيع أن نقول: لقد انقضى عهد الكشوف الظاهرة في القرن السابع عشر أو انتهى مجالها؟! كلا! والدليل القاطع هذه الكشوف الرائعة التي انتهى إليها الإنسان في سياحاته بين أجواز الفضاء ورحاب الكون أو في حقائق الذرة ومعاقلها المنيعة. ومن يستطيع أن يقول: إن الكشوف الظاهرة التي تمت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبداءة هذا القرن في عوالم الطبيعة والحياة تقل روعة وأسراً للخيال وشدها للإنسان عن أروع المغامرات الجغرافية التي تمت في القرن السابع عشر أو بعده؟ ثم هذه الكشوف
الجغرافية ذاتها هل انتهت حقاً في القرن السابع عشر؟ أين مغامرات سكوت وشاكلتون وبيرد وغيرهم؟ قد يقال هذه المغامرات منها ما جاء متأخراً ومنها ما لم يقع إلا في أوائل هذا القرن، ولكن هذا في اعتقادي ليس بالشيء المهم، فالتطورات الفكرية والنفسية العامة تحسب بالأجيال والقرون، ولا تحسب بالأيام والشهور والسنين.
وقد يسأل الأستاذ العقاد: إذن بماذا نفسر ظهور الدراسات الباطنة، وما تلاه من تأسيس علم النفس التحليلي الذي تهداه أدباء الأجيال الحديثة في كتابة القصة التحليلية؟ وأجيب أن هذه الدراسات الباطنة للنفس كانت مظهراً عادياً يتساوق مع المظهر العام لنشاط الفكر البشري في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فلما كشفت الكشوف الفلكية والطبيعية والكيميائية والفزيولوجية، كشف كذلك الكشوف في مجاهل النفس وخوافي الحس. فمنذ اصطنعت الطريقة العلمية في البحث وأخذ العلماء يجرون على أسلوب المشاهدة والفحص والاختبار اتخذت دراسة النفس خطة منظمة مجدية، فظهر أولا علم النفس العام، وتلاه علم النفس التحليلي؛ ولكننا نعود ونقول: إن هذه الدراسة لم يكن الحافز فيها والباعث عليها انتهاء الكشوف الظاهرة، وإنما كان الحافز عليها اتساع هذه الكشوف وسيرها على خطة علمية منظمة مجدية شملت الجماد والحيوان والإنسان جميعاً. هذا وأحب أن أقرر هنا أن الدراسات النفسية لم تحد ولم تخرج عن حدود الحدس والتخمين وإيهام الفلسفة الذي قيدها من زمن أرسطو، إلا حينما تابع رجالها أسلوب العلم الطبيعي في المشاهدة والاختبار، بل لقد استفادت الدراسات النفسية فائدة مباشرة مما كشفه البحث من العلاقة الوثيقة بين تركيب الجسم الفزيولوجي ومظاهر النشاط الفكري والنفسي. ومن هنا كانت الدراسات النفسية باعتبار الزمن تابعة للدراسات الطبيعية مقلدة لها في أسلوبها مستفيدة من حقائقها. وقد بلغ من اعتماد علماء النفس اليوم على الطريقة العلمية في البحث بحيث غدوا لا يؤمنون بأسلوب الاستبطان والدراسة الذاتية وأضحى همهم أن يدرسوا النفس البشرية دراسة موضوعية مبنية على المشاهدة الظاهرة والاختيار المنظم
وجملة ما نريد أن نقرره هنا أن الكشوف والسياحات الخارجة لم تنته قط في القرن التاسع عشر، بل هي زادت واتسع نطاقها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وبداءة هذا القرن إلى الحد الذي يكاد يكظ الأذهان ويتخم الفكر. وإذن ليس صحيحاً أنه جاء يوم انقطع
فيه الإنسان الباحث المفكر عن الكشف الظاهر فتسنى له مع ذلك الانقطاع أن ينصرف إلى السياحات الداخلية والكشوف النفسية. والصحيح أن الإنسان الباحث تنبه إلى الكشوف الباطنة لما أرتفع مستوى البحث والتطلع وأتسع نطاقه ومجاله حتى شمل كل موضوعات النظر والبحث وفيها صفات الإنسان النفسية والفكرية.
أديب عباسي
الحضارة المصرية في عهد الدولة القديمة
بحث للعلامة الأثري اريك بيت
للأستاذ أحمد نجيب هاشم
جغرافية مصر وأثرها
ليست هناك بلاد يمكن أن يتتبع فيها أثر البيئة في طبيعة أهلها أكثر من مصر. فلفهم الحضارة التي قامت في مصر القديمة يجب علينا أولا أن نصف المظاهر الطبيعية لهذا القطر
تنقسم مصر قسمين لكل منهما ميزات خاصة: مصر العليا، ومصر السفلى. والأولى شريط من الوادي يمتد من رأس الدلتا أو القاهرة الحالية إلى الشلال الأول، وهي مسافة يبلغ طولها 547 ميلا، ولا يزيد عرضها في أي أتساع على أثني عشر ميلا، وقد لا تزيد في جهات على مائة ياردة. ويقع هذا الجزء في منخفض حوالي ثلاثمائة قدم عن مستوى الأراضي المحيطة به. ويرى فريق من الجغرافيين أن النيل هو الذي حفر لنفسه هذا الوادي العظيم أيام أن كانت الصحراء التي تحيط به غزيرة الأمطار. ويقول آخرون: إن هذا الوادي العيبي كان بمثابة الخط الأقل مقاومة للمياه المتجمعة في الجهات المرتفعة في الجنوب
عاش ساكن الصعيد في واد ضيق يحد أفقه من الجانبين صخور جيرية تقع في أعلاها الصحراء، وهي أرض تكاد تكون عديمة الأثر في حياته. وقد قسم المصري الأرض إلى نوعين: الأرض السوداء، وهو أسم أطلقه على وادي النيل بسبب لون تربته الداكن، والأرض الحمراء، وأراد بها الصحراء الرملية. وكانت معرفته بالممالك الأجنبية بسيطة إن لم تكن معدومة، فكان يرمز إليها في لغته الهيرغليفية كأنها بلاد جبلية بالنسبة لسهل مصر المستوي. وأتخذ المصري مجرى النيل مرشداً له في غدواته وروحاته، فالشمال عنده هو الجهة التي يجري إليها النهر، والجنوب الجهة التي يجري منها. فكان يقول صعد أو نزل مع النهر بمعنى سار جنوباً أو شمالاً، وعلى ذلك لما بلغ المصري نهر الفرات ببلاد العراق سمى ذلك النهر بذي المياه المنعكسة المجرى التي تنزل مع النهر أي تسير جنوباً بدلاً من
أن تجري شمالاً. وليس هناك ما يدل على عزلة المصري القديم من اعتقاده هذا
أما في الدلتا فقد كانت الأحوال مختلفة كل الاختلاف إذ أن هذا المثلث المستوى والذي هو حديث التكوين نسبياً يكاد يكون خالياً مما يحدد أفق سكانه. ولابد أنه ظهر لهم كأنه سهل متسع يمتد حتى الأفق في كل الجهات لا تتخلله تلال ولا مرتفعات؛ بيد أن شروط العمل على الأرض كانت شبيهة بدرجة كبيرة بمثيلتها في الصعيد
ولا ريب أن أتساع الأفق أمام سكان الدلتا وانعدام صخور الصحراء مما بث شعور الحرية في كل جهة، أنتج على عقولهم نتيجة مخالفة. وكان من سوء الحظ أن رسوب غرين النيل في الدلتا مضافاً إليه حاجة الزراعة جعلت أغلب المدن الفرعونية القديمة وراء علم الباحث، ولذا لا يمكننا أن نقدر الدور الذي لعبه في تطور التاريخ المصري القديم
أما من حيث الجو فمعروف أن الوجهين البحري والقبلي يتمتعان بجو جميل على العموم، ويسقط المطر في الدلتا ويكاد ينعدم في الصعيد، وقد ينهمر عليه سيل غزير مرة في كل عشر سنوات
وتشتد الحرارة في الصعيد وتزداد شدتها كلما اتجهنا جنوباً. هذه هي أهم المظاهر الطبيعية لمصر، ولا يقل عنها أهمية موقعها الجغرافي، وهي تحمي مدخل أفريقية ضد الغزو من جهات أسيا الغربية، فقد كانت تلك الأجزاء على الدوام مركزاً للاضطرابات التي كانت أحياناً تشتد جداً إذا كان سكانها يميلون إلى الهجرة إلى دلتا مصر الخصبة، وتكررت غزواتهم وكان لكل نتائج وقتية. ولا شك أن هذه الغزوات حالت دون الاطراد في تقدم مصر. ففي كل مرة خرجت فيها مصر من الضربة التي أصابتها استنفذ هذا الخروج كثيراً من نشاطها، وكان من الممكن أن تستنفذه في نيل تقدم حقيقي
ولم تكن الدلتا أسلم في جهة الغرب منها في جهة الشرق، فهناك عاشت قبائل ليبية لم تقتصر في سكناها على الإقليم الساحلي، بل نزلت أيضاً في الواحات التي تمتد جنوباً داخل أفريقية؛ وربما استولى بعضها فعلا على الجزء الغربي من الدلتا في عصر ما قبل الأسرات. وعلى كل حال كانت هذه القبائل الليبية طول التاريخ المصري القديم تنتهز ضعف الحكومة في مصر أو قيام نزاع داخلي فيها فتنقض على الأراضي الخصبة التي اعتقدت إنها ميراثها القديم
أما الصعيد فلم تهدده غزوات تقريباً؛ إذ ليس له جيران في الشرق ولا في الغرب؛ ثم إن الصحراء نفسها كانت بمثابة سد منيع ضد أي إغارة من الجهتين
أما من جهة الشمال والجنوب فقد كان من السهل الدفاع عن البلاد بمقدمة حربية لا تزيد على ميل أو ميلين بل لا تزيد أحياناً على بضع مئات من الياردات
وكانت الدلتا من جهة الشمال سداً منيعاً ضد غزو الأسيويين من الشرق والليبيين من الغرب
أما من جهة الجنوب فإن القبائل المتوحشة في النوبة العليا والسودان لم تزعج مصر إزعاجاً يذكر إلا في عهد الفاتح بعنخي في القرن الثامن قبل الميلاد
على ذلك نرى الأحوال في الصعيد كانت تنعم بالاستقرار الذي كان ينقص الدلتا. وفي كل مرة تقع فيها الدلتا فريسة للغزو الأجنبي نرى الصعيد ينجو منها ويصل تقدمه السياسي والاجتماعي، بل يكون على استعداد عندما تتخلص البلاد من غزاتها الأجانب أن يعيد المياه إلى مجاريها في الداخل والعمل على توسيع ملكها في الخارج
مصر قبل الأسرات
كانت مصر العليا والنوبة قبل قيام الأسرة الأولى في يد جنس واحد له مدنية واحدة ونسميه شعب ما قبل الأسرات. ولا يزال البحث العلمي يكشف لنا شيئاً عن هؤلاء القوم الذين يمكننا أن نتبع حوادثهم في مقابر البدارى، وعندما نسمع عنهم لأول مرة لا نراهم متوحشين بل نجدهم قد عرفوا النحاس ولهم فنونهم وحرفهم؛ وأهم من كل هذا أنهم عرفوا الزراعة واشتغلوا بها
وهذه الحقيقة الأخيرة هي أساس فهم حياة مصر الاجتماعية، فنظامها قائم على الزراعة - ولا نعرف أين نشأت لأول مرة بل ليس من المؤكد أيضاً أنها ظهرت في تلك الجهات مثل وادي النيل أو الفرات حيث الظروف أكثر مناسبة لها، وإنما يمكننا أن نقول إن الزراعة وما تطلبته من صناعات تقدمت بسرعة بعد أن قامت في مصر وأخذت تؤثر في أخلاق الناس ونظمهم
أما الصيد وهو إحدى الوظائف الثلاث الهامة التي أشتغل بها الإنسان الأول فلم يلعب دوراً هاماً في الحياة المصرية. نعم يرجح أن الصحراء التي تقع على جانبي وادي النيل كانت
تأوي كثيراً من الحيوانات المتوحشة، فهناك لوحة يرجع تاريخها إلى ما قبل الأسرات عن حملة منظمة أرسلت لصيد الأسود. ثم نرى في مقابر أشراف المصريين القدماء طول مدة تاريخهم مناظر تمثل أصحابها وهم يقومون بحملات لصيد الأسود والفهود والوعول مستعملين لذلك السهام. على أن الصيد كان ولا يزال عندهم وسيلة من وسائل الرياضة عند الأشراف ولم يتخذه الأهالي وسيلة للارتزاق؛ فإن هؤلاء كانوا يحصلون على حاجاتهم من اللحوم من طيورهم وحيواناتهم المستأنسة. وفي الوقت نفسه يظهر أن صيد الوعول وغيرها من حيوانات الصحراء الصغيرة التي تربى وتسمن وتقدم على المائدة مع (الدواجن المألوفة) كان ذلك من الأشياء التي تمارس لتكون مرتزقاً
أما الطيور والسمك فقد كانت برك الدلتا ملأى بكثير منها، وكانت تصاد بشباك ثم تربى للأكل. وقد عثر على بقايا الفخاخ التي كانت مستعملة لذلك. والمقابر ملأى بالرسوم التي تمثل الطيور
وقد أتخذ النبلاء صيد الطيور وسيلة للرياضة أيضاً فترى من هذه الرسوم صوراً تمثل النبيل في قاربه المصنوع من البردي وهو يصيب الطير بعصاه
وقد أولع المصريون بصيد السمك إذ كان طعاماً أساسياً للأهالي. وكان الصياد يصيده بالشص؛ أما النبيل الذي يتخذ هذا الصيد وسيلة من وسائل الرياضة والتسلية، فقد كان يصيده برمح. وقد كانت هذه الطريقة في الأصل مستعملة في عصر ما قبل الأسرات كما يستدل على ذلك من الحراب المصنوعة من العظام والنحاس التي عثر عليها الباحثون
هكذا لم يكن المصريون الأوائل صيادين بمعنى الكلمة فلم تدفعهم الحاجة إلى تتبع فريستهم مما يجعل شعب الصيادين متنقلاً غير مستقر، فقد يفر الأسد وعجل البحر أو الفيل من الصعيد إلى النوبة ثم إلى السودان ولكن المصري لم يحاول أن يقتفي أثرها
قد يختلف علماء الأنتربولوجيا في النقطة الآتية: هل من الممكن لشعب أن ينتقل من طور الصيد إلى طور الزراعة دون أن يمر بطور الرعي؟ ولكن هذه المسألة لا تعنينا هنا فإننا نجد في مصر في عهد ما قبل الأسرات، الزراعة والرعي قائمين جنباً إلى جنب
ولهذا السبب لا يمكننا أن نعتبر المصريين قوماً رعاة بمعنى الكلمة، وليست مصر على أي حال بلاداً من طبيعتها الرعي. أجل قد يكون من الجائز أن الزراعة لم تشمل كل البلاد في
الزمن العريق في القدم، وأنه كانت هناك أرض مغطاة بالأعشاب مخصصة للماشية. على أي حال فإن أراضي الرعي في عهد الدولة القديمة كانت قليلة في الصعيد لدرجة كبيرة حتى اضطر القوم أن يرسلوا ماشيتهم في عهدة رعاة إلى الدلتا مدة أشهر الصيف. ولعل هذه الحال تغيرت فيما بعد وأصبحت كما هي اليوم حيث تربي الماشية على علف خاص يزرع لها
أستأنس المصريون قليلاً من الحيوانات منها الماشية التي اتخذوا منها اللبن وزودت الأغنياء باللحوم وأستعملها فوق ذلك وسيلة من وسائل النقل. وإن أهم حيوان في هذه الناحية كانت الإبل. أما الغنم فلم تقتصر الفائدة على لحومها بل كانت هامة أيضاً لأصوافها؛ ثم استعملت الخنازير فيما بعد (للدوس) فوق البذور بعد بذرها
ومن الحيوانات التي استأنسها المصريون الجدي والكلب السلوقي والقط؛ أما الحصان فلم يعرف إلا بعد دخول الهكسوس مصر. وكذلك ظل الجمل مجهولاً حتى عهد اليونان
وكان للثور أهمية كبيرة كأهمية الجاموسة في العصر الحالي. وكان الفلاحون يعملون على تسمينه بإعطائه خميرة من العجين إذا قل غذاؤه الطبيعي. وكان الرجال يحلبون البقر بدلاً من أن يقوم النساء بهذه العملية
وترى في النقوش التي تمثل لنا حياة المصريين (جنباً إلى جنب) مع الحيوانات المستأنسة صورة غزالة خجلة، وكانت هذه من الأطعمة الفاخرة للأغنياء وقد عملوا على تسمينها بإعطائها خميرة - كما كان الحال مع الماشية - وليس هناك ما يدل على أنها ربيت، بل يرجح أنها كانت تصاد من الصحراء بشباك أو فخاخ
ولم يستأنس المصريون الطيور إذ كانت برك الدلتا ملأى بالبط على أنواعه، وأدرك القوم أن صيدها بالشباك وتسمينها في مدة قصيرة قبل ذبحها للأكل أوفر لهم من الإنفاق عليها لاستئناسها
وهنا يجب أن نذكر أن الدجاج لم يعرفه المصريون حتى عهد الدولة الحديثة عندما عادت إحدى حملات تحوتمس الثالث بأشياء عجيبة من بينها طيور (تبيض كل يوم بيضة)
على أن الزراعة كانت أهم ما أشتغل به أكثر المصرين على الأقل في فترات معينة من السنة، فقد كان النيل كريماً من ناحية وقاسياً من ناحية أخرى على البلاد: فهو كريم بما
يجلبه من غرين يلقيه على تربة الأرض فيجعل السماد غير ضروري تقريباً، وهو قاس لأنه بمجرد أن يتم فعل هذا يأخذ في الانخفاض فيصعب على الفلاح أن يروي أرضه منه. وإذا كانت مصر شحيحة الأمطار كانت سعادتها متوقفة على نشاط الزراع ومجهودهم في رفع المياه من النهر وتسييرها في قنوات وترع إلى أرضهم. والغريب أن الطريقة التي استعملوها لذلك هي نفس الطريقة التي يستعملها الفلاح اليوم أي بالشادوف
أهم المحصولات
كانت أهم المحصولات في العصر القديم والقمح والكتان؛ وكانت طرق الزراعة غاية في البساطة، فحينما ينخفض ماء النيل يحرث الفلاح الأرض بمحاريث من الخشب كان يجرها في عصر المملكة القديمة الثيران، ثم يبدر الحبوب وتدوسها الغنم كي تغرسها في الأرض (وقد استخدمت الخنازير فيما بعد في هذه العملية) ثم يلي ذلك أسابيع يقضيها الفلاح في العمل بنشاط أمام الشادوف. فإذا طاب الزرع حصد الفلاح القمح وترك العيدان في الأرض، ونقل القمح المحصود في شكل حزم على الحمير إلى الجرن، وهناك تدوسه الحمير والماشية، ثم يذرى في الهواء بمذراة من الخشب فينفصل التبن عن القمح (الحب) ثم يوضع القمح في الزكائب وينقل إلى مخازن خاصة تتكون من بناء من اللبن كالقباب له فتحة صغيرة في أعلاه يصب القمح منها، وفي أسفل البناء باب لسحب الغلال حسب الحاجة. وكان الكاتب يشرف على هذه العملية فيدون في لفائف ورق البردي التي يحملها ما يخزن من الغلال زكيبة زكيبة وما يخرج منها
وقد استعمل الشعير والقمح في صنع الخبز وعمل الجعة. وزيادة على هذه المحاصيل كانت هناك نباتات أخرى أهمها الخضر المختلفة وخصوصاً البصل، وكان غذاء أساسياً؛ ثم فواكه كثيرة أهمها التمر والتين والعنب، وكانت تكثر زراعته في الدلتا، وقد صنع المصريون من التمر نوعاً من النبيذ والعرق
توحيد القطرين
كانت مصر قبل الأسرة الأولى منقسمة إلى مملكتين منفصلتين: مملكة الوجه القبلي ومملكة الوجه البحري. وكانت هاتان المملكتان مقسمتين إمارات لكل منها طوطم خاص كان بمثابة
علم الإمارة الذي كان يحمل أمام رئيسه. ومما لا شك فيه أن بعض هذه الرموز كانت اسماً للمقاطعة باللغة الهيرغليفية، وكان البعض الآخر رموزاً للقبيلة؛ ومن هذه الرموز ما هو في شكل حيوان كالأرنب والوعل
ويعتقد العلماء أن أصل هذه الرموز راجع إلى إن مصر كان يسكنها في وقت ما قبائل مستقلة، كل قبيلة ترمز لنفسها بنوع خاص من الحيوانات أو النباتات يكون معروفاً لجميع أهلها ويميز كل قبيلة من غيرها
وحدث قبل قيام الأسرة الأولى أن انضمت قبائل الوجه القبلي وكونت مملكة واحدة، وكذلك فعلت قبائل الوجه البحري ثم قامت محاولات لتوحيد القطرين، وتم ذلك على يد رجل واحد عرف باسم مينا. ويرجح أنه بقيام الأسرة الأولى انتهى الدور الطوطمي بمدلولاته الاجتماعية؛ وأهم ما تركه من آثار مجموعة الآلهة التي في جسم إنسان ورأس حيوان مثل تحوتي ورمز له بطائر أبي منجل، وسبك ورمز له بالتمساح، وحوريس ورمز له بالصقر
كان اندماج القبائل في كل من الوجهين القبلي والبحري أمراً طبيعياً، لأن انتشار الزراعة أدى إلى الرغبة في الاستقرار وإدراك المصلحة المشتركة؛ أما انضمام الوجهين إلى بعضهما فقد كان أقل ضرورة، إذ كون كل منهما وحدة جغرافية قائمة بنفسها؛ ولذلك يرجح أن هذا الضم تم على يد رجل ذكي دفعته أطماعه إلى ذلك. هكذا استطاع مينا أن يوحد القطرين وأصبح الميدان حراً لظهور شعور قومي. ومع أن المصريين حافظوا على ذكر هذا الضم وحرصوا على إظهاره في ألقاب الملك وفي أسماء دواوين الحكومة إلا أن الاندماج كان في الواقع تاماً وأبدياً فأصبحت مصر منذ ذلك الوقت - عدا فترات الفوضى القصيرة - مملكة واحدة
(البقية في العدد القادم)
أحمد نجيب هاشم
أستاذ بمعهد التربية للبنات
نجوى للشمس الغاربة
للكاتب الفنان الفرنسي (بيير لوؤيس)
للأستاذ خليل هنداوي
أركاس - أيتها الغادة ذات العينين السوداوين. . .
ميلينا - لا تمسني!
أركاس - لن أمسك، وإنما سأظل بعيداً عنك يا أخت أفروديت! أيتها الغادة ذات الغدائر المدلاة كالعناقيد، إنني أقف على حافة الطريق لا أستطيع أن أتزحزح عنه لا إلى من ينتظرونني ولا إلى من غادرتهم
ميلينا - اذهب! إنك تنطق عبثاً، يا راعياً بدون قطيع! ويا سارحاً في الطرق المبهمة! إذا لم تستطع أن تتبع الطريق فخض خلل الحقول، ولكن لا تدخل في حقلي يا من لا أعرفك. أذهب وإلا دعوت. . .
أركاس - ومن عسى تدعين في هذه العزلة؟
ميلينا - الآلهة الذين ينتظرونني
أركاس - آه أيتها الغادة الصغيرة! إن الآلهة هم أبعد عنك مني الآن. ولو أنهم كانوا حولك لما منعوني أن أقول لك إنك جميلة. إنهم يباهون فخورين بوجهك لأنهم يعلمون أنه أثر رائع منهم
ميلينا - أسكت أيها الراعي وأبرح هذا المكان فإن أمي منعتني أن أسمع أية كلمة من رجل. إنني هنا أرعى نعاجي حتى غروب الشمس. لا أريد أن أسمع أصوات الفتيان العابرين الطريق مع ريح المساء.
أركاس - ولماذا؟
ميلينا - لا أعلم السبب، ولكن أمي تعلمه خيراً مني. . . لم يمر علي ولادتي فوق هذا السرير القائم من أوراق الشجر إلا ثلاثة عشر عاماً؛ وإني سأكون غبية جاهلة إذا أغفلت عمل ما تطلبه مني أمي.
أركاس - إنك لم تفهمي أيتها الصغيرة عن أمك الحسنة العاقلة المحترمة. . . إنها حدثتك عن الرعاع الذين يعبرون البراري والعقد في أذرعهم والسيوف مشهورة بأيديهم. إن هؤلاء لئام بالنسبة إليك لأنك ضعيفة وهم أقوياء. وهم في الأقطار التي نزلوها ذبحوا عذارى كثيرات لهن مالك من الجمال. ولو رأوك لما أشفقوا عليك. ولكن مثلي أي شر يحمله لك؟ ليس لي إلا جلد على كتفي وخاتم في يدي. حدقي في مليا، هل ترينني مرعباً؟
ميلينا - لا أيها الراعي، إن كلماتك عذبة سوف أصغي إليها طويلاً. ولكن الكلمات الأعذب هي الأغدر عندما يتوجه بها رجل إلى واحدة منا
أركاس - وهل إلى جواب من سبيل؟
ميلينا - بلى!
أركاس - بماذا كنت تحلمين تحت الزيتونة السوداء خلال عبوري؟
ميلينا - لا أريد أن أقول
أركاس - أعرف ذلك
ميلينا - قل إذن
أركاس - إذا أذنت لي بالدنو منك وإلا لبثت صامتاً، لأنني لا أستطيع أن أقول إلا همساً. لأن هذا سرك لا سري. إنك تريدين أن أقترب منك وأن أتناول يدك
ميلينا - بماذا كنت أحلم؟
أركاس - بنطاق العذراء!
ميلينا - آه! من قال لك؟ هل قلت ذلك عالياً؟ هل أنت إله أيها الراعي فتقرأ ما يرتسم من بعيد في عيون الفتيات؟ لا تنظر إلي هذه النظرة ولا تحاول أن تقرأ ما أفكر فيه الآن. .
أركاس - إنك تحلمين بنطاق العذراء وبذلك المجهول الذي سيحله بمثل هذه الكلمات العذبة التي رحت تخشينها. . . فهل تكون إذ ذاك هذه الكلمات غادرة؟
ميلينا - إنني لم أسمع أبداً مثلها
أركاس - ولكنك تسمعين كلماتي وترين عيني
ميلينا - لا أريد أن أراهما
أركاس - إنك تنظرينهما في حلمك
ميلينا - أيها الراعي. . .
أركاس - عندما آخذ بيدك لماذا تجفين؟ وعندما يلتف ذراعي على صدرك لماذا تنحنين؟ ولماذا يبحث رأسك الضعيف عن ذراعي؟
ميلينا - آه أيها الراعي
أركاس - كيف تكونين عارية هكذا بين ذراعي إذا لم أكن بعلك؟
ميلينا - لا لا، إنك لن تكونه. دعني وحدي، إن أحشائي ترعد من الخوف فأذهب عني! إنني لا أعرفك. دعني! إن يدك تؤلمني، لا أريد
أركاس - لماذا تتكلمين بلهجة أمك؟
ميلينا - ليست أمي هي التي تكلمك وإنما أنا! إنني عاقلة فاتركني أيها الراعي. إنني لأستحيي أن أفعل ما فعلت (تاييس) أو (فيليرا) أو (كلوا) اللواتي لم ينتظرن ليالي أعراسهن
أركاس - ولماذا؟ وما عسى أن أصنع لك؟. . . على أنني أهجرك وأتركك وحيدة. أذهبي! لماذا لا تذهبين؟
ميلينا - ذرني أذرف الدمع
أركاس - أتخالين أنني أحبك حباً ضعيفاً يأذن لي بتركك وحدك؟ وهل كنت أتكلم من بدء إصغائك إلي لو لم أطلب إليك إلا لحظة سرور قد تستطيع أن تمنحني إياها كل الراعيات؟ ألم تعلمك عيناي شيئاً؟ ولكنك لا تنظرين فيهما، في عيني. . إنك توارين عينيك وتبكين. . .
ميلينا - بلى!
أركاس - إذا شئت فإني أسفح على قدميك حياة كلها حب وكلمات عذبة، وألف بذراعي جسدك، وألقي رأسي على صدرك، وفمي على فمك، وأنت تحلين غدائرك المعقودة لتغمري قبلاتنا بالعطف والرقة
اسمعي! إذا شئت أقمت لك كوخاً أخضر الأفياء من الغصون الزاهرة والأعشاب الندية تصيح خلالها الصراصير الشادية ذات الألوان الذهبية اللامعة. هنالك تقلقين عليّ كل الليالي، وعلى السرير الأبيض الذي يغطيه جلدي الممدود سيخفق قلبانا إلى الأبد قلباً على
قلب
ميلينا - آه دعني أذرف الدمع أيضاً!
أركاس - بعيدة عني؟
ميلينا - على ذراعيك، وفي عينيك
أركاس - يا محبوبتي! المساء يلف الكون، والنور يتوارى كأنه كائن مجنح نحو السماء، والأرض قد غمرها الظلام، ولا يرى في الأعلى إلا طريق المجرة الطويلة التي تسطع كنهر من النجوم حول حقلنا. ما أشد هذا الستار اللامع!
ميلينا - إنه لامع جداً. قدني إلى حيث تشاء!
أركاس - تعالي! فالغاب الذي نجوس خلاله بين الغصون الحانية هو غاب عميق، حتى الإلهات يخشين سلوكه في النهار. هنالك لا يرى - على طرقه - من يتبع خطوات الجنيات. هنالك لا يرى - بين أوراقه - العيون الخضراء واقعة على عيون الرجال الخائفة. ولكنا لن نخاف ما دمنا معاً أنت وأنا. . .
ميلينا - لا. . . إنني أبكي بالرغم مني، ولكني أحبك وأتبعك. إن إلهاً في قلبي. حدثني. . . حدثني أيضاً. إن إلهاً في صوتك
أركاس - أسدلي غدائرك على عنقي، وأرخي ذراعك حول أزاري، وضعي خدك على خدي. خذي حذرك، هنا حجارة وصخور؛ واخفضي عينيك، هنا جذور؛ والأعشاب لها حفيف خفيف تحت أقدامنا العارية؛ والثرى ندى، ولكن صدرك حار تحت يدي
ميلينا - لا تبحث عن صدري فإنه صغير، ليس بجميل. في الخريف الغابر لم أر منه إلا ما رأيته يوم ولادتي. . . إن صويحباتي يسخرن مني. ولكن في الربيع وجدته ينمو مع براعم الأشجار. لا تدغدغه هكذا. إنني لا أستطيع أن أمشي
أركاس - تعالي، نحن هنا في الظلام، لا أرى وجهك. نحن هنا شيء لا هو أنا ولا هو أنت. لا تعطني شفتيك. أريد أن أرى عينيك. تعالي إلى هذه الشجرة الكهلة التي تسطع تحت رواء القمر. إن ظلها يزحف نحونا فاتبعيه. . .
ميلينا - إنه ظل ضخم كالقصر
أركاس - قصر عرسك الذي تتفتح أبوابه لنا في أعماق الليلة السرية
ميلينا - أسمع ضجة، هذا حفيف النخيل
أركاس - النخيل النامي في موكب العرس
ميلينا - وهذه النجوم
أركاس - إنها المشاعل
ميلينا - وهذه الأصوات
أركاس - هي الآلهة
ميلينا: أيها الراعي! دخلت هذا المكان عذراء (كأرتميس) التي تضيء لنا بعيداً خلل الغصون السوداء والتي قد يمكن أن تسمع عهودنا. فلا أعلم هل أحسنت صنعاً في أتباعك حيث سلكت. ولكن نفخة في صدري، وروحاً ولدها صوتك، إنك منحتني السعادة كشيء خالد بإعطائك إياي يدك
أركاس - أيتها الغادة ذات العينين السوداوين. لا أبوك ولا أمك هيئا اتحادنا بغناك أو غناي. إننا فقيران فنحن إذن حران. وإذا كان أحد سهل قراننا هذا المساء فهم آلهة الأولمب الذين يحرسون الرعيان!
ميلينا - يا زوجي، قل لي ما اسمك؟
أركاس - اسمي أركاس. وأنت ما اسمك!
ميلينا - اسمي ميلينا. . .
خليل هنداوي
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 -
1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 19 -
بين الرافعي وطه (2)
لم تكن بداية هذه المعركة تنذر بما آلت إليه، فما كانت في أولها إلا خصومة بين مذهبين في الأدب وأسلوبين في الكتابة، فما لبثت من بعد أن استحالت إلى حرب شعواء يتقاذف فيها الفريقان بألفاظ الكفر والظلال والإلحاد والغفلة والتعصب والجمود، وانتقلت من ميدان الأدب واللغة إلى ميدان الدين والقرآن، ثم إلى ميدان السياسة والحكومة والبرلمان، ثم إلى ميدان القضاء. والدكتور طه رجل لا تستطيع أن تفرق بين مذهبه في الأدب ومذهبه في الدين، ولا بينهما وبين مذهبه في السياسة. والرافعي رجل كان لا يفرق بين الدين والأدب، ولا يعرف شيئاً منهما ينفصل عن شيء أو يتميز منه، ولكنه في السياسة كان يتحلى بفضيلة الجهل التام، فلا تعرف له رأياً في السياسة تؤاخذه به أو تناقشه فيه، لأنه كان لا يعرف من السياسة إلا حادثة اليوم بأسبابها، لا بأصحابها. وكم جر عليه هذا الجهل السياسي من متاعب! وكم ألصق به من تهم! ولكنه هنا كان من عوامل توفيقه في هذه المعركة
في سنة 1925 كانت الحكومة للأحرار الدستوريين ولأصدقائهم. والأحرار الدستوريين حزب طه حسين، نشأ بينهم ووقف قلمه على الدعاية لهم. فلما رأى علي ماهر باشا أن يضم الجامعة المصرية إلى وزارة المعارف، أنضم معها الدكتور طه حسين أستاذ الأدب العربي بالجامعة.
ومضى الدكتور طه يحاضر طلابه في كلية الآداب محاضرات في الأدب الجاهلي، على الأسلوب الذي رآه لهم؛ فلما استدار العام جمع طه محاضراته في كتاب أخرجه للناس باسم (في الشعر الجاهلي)؛ وقرأ الناس كتاب الدكتور طه حسين بعد أن سمعه طلابه منجماً في
كلية الآداب، فقرءوا رأياً جديداً في الدين والقرآن رجح ما كان عندهم ظناً بالدكتور طه حسين وكتاب السياسة الأسبوعية. فقال الأكثرون من القراء: هذا كفر وضلال. وقالت طائفة: هو خطأ في الفكر وإسراف في حرية الرأي. وقال الأقلون: بل هو الأسلوب الجديد لتجديد الآداب العربية وتحرير الفكر العربي. وظل الرافعي ساكتاً، إذا لم يكن قد قرأ الكتاب بعد، فما نبهه إلى خطره إلا مقالان نشر أحدهما الأستاذ عباس فضلي القاضي في السياسة الأسبوعية، وكتب ثانيهما الأمير شكيب أرسلان في كوكب الشرق، فكان فيهما الإنذار للرافعي بأنه قد آن أوانه. . .
وانتضى الرافعي قلمه وكتب مقاله الأول فبعث به إلى جريدة (كوكب الشرق)، ثم مقالات ثلاثاُ بعده، ولم يكن قد قرأ الكتاب ولا عرف عنه إلا ما نشرت الصحف من خبره؛ فكانت المعركة بذلك في ميدانها الأول: خصومة بين مذهبين في الأدب وفي الكتابة وفي طرائق البحث. على أن الرافعي لم ينس في هذه المقالات أن له ثأراً عند طه، فجعل إلى جانب النقد الأدبي في هذه المقالات شيئاً من أسلوبه المر في النقد، ذلك الأسلوب الذي لا يريد به أن يفحم أكثر مما يريد أن يثأر وينتقم. ثم تلقى كتاب الدكتور طه حسين فقرأه، فثارت ثائرته لأمر جديد. . .
لقد كان شيئاً منكراً أن يزعم كاتب أن له الحق في أن يتجرد من دينه ليحقق مسألة من مسائل العلم، أو يناقش رأياً من الرأي في الأدب، أو يمحص رواية من الرواية في التاريخ؛ لم يكن أحد من كتاب العربية ليترخص لنفسه في ذلك فيجعل حقيقة من حقائق الدين في موضع الشك، أو نصاً من نصوص القرآن في موضع التكذيب؛ ولكن الدكتور طه قد فعلها وترخص لنفسه، ومنح نفسه الحق في أن يقول قالةً في القرآن وفي الإسلام وتاريخ الإسلام؛ وقرأ الرافعي ما قال طه، فغضب غضبته للدين والقرآن وتاريخ المسلمين، ونقل المعركة من ميدان إلى ميدان. . .
وكان طه في أول أمره عند الرافعي كاتباً يزعم أن له مذهباً جديداً في الأدب، فعاد مبتدعاً مضلاً له مذهب جديد في الدين والقرآن؛ فكما ترى البدوي الثائر لعرضه أن ينتهك، كان الرافعي يومئذ؛ فمضى يستعدي الحكومة والقانون وعلماء الدين أن يأخذوا على يده ويمنعوه أن تشيع بدعته في طلاب الجامعة. . . وترادفت مقالاته ثائرةً مهتاجة تفور بالغيظ
وبالحمية الدينية وبالعصبية للإسلام والعرب، كأن فيها معنى الدم
ونسي في هذه المقالات كل اعتبار مما تقوم به الصلات بين الناس، فما كان يكتب نقداً في الأدب، بل يصب لهيباً وحمما وقذائف لا تبقي على شيء. وكان ميدانه في جريدة كوكب الشرق، وكوكب الشرق يومئذ هي جريدة الأمة وجريدة سعد وجريدة الشرق العربي كله؛ فمن ذلك لم يبق في مصر قارئ ولا كاتب إلا صار له رأي في طه حسين وفي دينه، وإن للأمة من قبل لرأياً في وطنيته ومذهبه، وحسبك بها من وطنية في رأي الشعب، وطه حسين هو عدو سعد
ووقفت الدوافع السياسية إلى جانب الرافعي تؤيده وتشد أزره، وإن لم يكن للرافعي في السياسة باع ولا ذراع
وبلغت الصيحة آذان شيوخ الأزهر، فذكروا أن عليهم واجباً للدفاع عن الدين والقرآن فجمعوا جماعتهم إلى جهاد
وتساوقت الوفود إلى الوزارة تطلب إليها أن تأخذ طه بما قال؛ وإن طه لأثير في وزارة الأحرار الدستوريين وأصدقائهم، ولكنها لم تستطع أن تتجاهل إرادة الرأي الإسلامي العام. . .
ومضى الرافعي في حملته تؤيده كل القوى وتشد أزره كل السلطات
ونشطت النيابة العمومية لتنظر في شكاوي العلماء وتحدد الجريمة وتقترح العقاب، فعرف الدكتور طه حسين أن عليه وقتئذ أن يقول شيئاً، فكتب كتاباً إلى مدير الجامعة يشهده أنه مسلم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولكن الرافعي لم يقنع فمضى في النقد على جادّته
ولم تجد الجامعة في النهاية بداً من جمع نسخ الكتاب من المؤلف ومن المكتبات لتمنع تداوله، لعل ذلك يرد الفتنة التي توشك أن تعصف بكل شيء حتى الجامعة، ولكن الرافعي لم يقنع فأستمر في حملته على الدكتور طه حسين، وظهيرُه يومئذ هو الدكتور زكي مبارك. . .!
لقد كانت هذه المقالات التي ينشرها الرافعي في كوكب الشرق صيحةً مدوية وصلت إلى كل أذن؛ فما أحسب أحداً في أدباء العربية وقرائها قد فاته منها شيء. لقد كان المصريون
وقتئذ مكمومة أفواههم عن السياسة والحديث في شئونها فلعلهم وجدوا في هذه المقالات ما يعزيهم عن شيء بشيء، إذ كان طه عندهم يومئذ ما يزال هو طه حسين عدو سعد، ومحرر جريدة السياسة، وعضو الأحرار الدستوريين
لا أزعم أن اهتمام الناس جميعاً في مصر بهذه المقالات لأنهم جميعاً قد صار لهم في شئون الأدب رأي، أو لهم في الذود عن الإسلام حمية، لا؛ ولكنه نوع من التعصب السياسي جاء اتفاقاً ومصادفة في هذا الوقت نفسه ليكون تأييداً لقول الله وانتصاراً لكلمته؛ على أن هذه المقالات بإقبال الناس عليها - لسبب أدبي أو لسبب سياسي - قد بعثت روحاً دينية كانت راقدة، وأذكت حمية كانت خامدة، وألفت قلوباً إلى قلوب كانت متنافرة، ونبهت طوائف من عباد الله كانت أشتاتاً لتعمل للذود عن دين الله
وإني لأذكر مثلاً مما كان من إقبال الناس على هذه المقالات أنني - وكنت طالباً. . . لم أكن أطيق الانتظار حتى يجيء بائع الصحف إلى الحي الذي أسكنه لآخذ منه كوكب الشرق، بل كنت وجماعة من الطلاب نستعجل فنقطع الطريق من المنيرة إلى باب اللوق راجلين لنشتري من الأعداد المبكرة المسافرة إلى حلوان، لنقرأها قبل أن يقرأها الناس
وتطورت السياسة المصرية، وتخلى زيور باشا عن الحكم، وعادت حكومة الشعب يؤيدها برلمان سعد؛ وعكف نواب الأمة على تراث الحكومة الماضية يفتشون عن أخطائه؛ وما يزال في آذانهم صدى يرن عما كان من أمر الجامعة وأمر طه حسين، فأبدى البرلمان رغبته في محاكمته. وقال النواب: نحن نريد. وقالت الحكومة: وأنا لا أريد. وتشاد عدلي رئيس الحكومة وسعد رئيس النواب؛ فقامت زوبعة، ونشأت ضجة، وحدثت أزمة وزارية، ولوح عدلي بالاستقالة، وأصر سعد على وجوب تنفيذ رأي الأمة، وتعقدت المشكلة. . .
وسعى الوسطاء بالصلح بين الزعيمين؛ فما كان الحل إلا أن يتقدم النائب الجليل عبد الحميد البنان بشكواه إلى النيابة العمومية فتسقط التبعة عن الحكومة، وينفذ رأي الأمة، ثم تسير القضية إلى غايتها أمام القضاء وكان بعد ذلك ما كان
وإذ كان انضمام الجامعة إلى وزارة المعارف عملاً من أعمال علي ماهر وزير المعارف، فإن ما ثار حول الجامعة بسبب الدكتور طه حسين قد دعا نائباً أو نواباً إلى اقتراح محاكمة علي ماهر بما فعل للجامعة، وبما غير من نظام التعليم العام من غير أن يكون ذلك من حقه
الدستوري. . . ولكنه ظل اقتراحاً لغير التنفيذ
ليست كل هذه الحوادث من تأليف الرافعي، ولكنها شيء يتصل بتاريخه وله أثر فيه أي أثر؛ فلولا ما كان من الخصومة بين الرافعي وطه، لما قامت هذه الضجة، ولا ثارت هذه الثائرة، ولما كان في التاريخ الأدبي أو السياسي لهذه الحقبة شيء مما كان
على أن هذه المعركة قد خلفت لنا شيئاً آخر، هو أغلى وأمتع، ذلك هو كتاب:(المعركة تحت راية القرآن) وهو جماع رأي الرافعي في القديم والجديد، وهو أسلوب في النقد سنتحدث عنه بعد
ولقد ظلت الخصومة قائمة بين الرافعي وطه إلى آخر أيامه، بل أحسبها ستظل قائمة ما بقيت العربية وبقي تاريخ الأدب؛ فما هي خصومة بين شخص وشخص تنتهي بنهايتهما؛ بل هي خصومة بين مذهب ومذهب سيظل الصراع بينهما أبداً ما دام في العربية حياة وقدرة على البقاء
وما أعرف أن الرافعي وجد فرصة ليغمز طه في أدبه، أو وجد طه سانحة لينال من الرافعي في فنه ومذهبه، إلا أفرغ كل منهما ما في جعبته. وكم مقالٍ من مقالات طه حسين قرأه علي الرافعي فقال: اسمع، أنه يعنيني. وكم مقال أملاه علي الرافعي أو قرأته له فوجدت فيه شيئاً أعرف من يعنيه الرافعي به. ومرة أو مرتين قال الأستاذ الزيات للرافعي: أرجو أن تعدل في أسلوب هذا المقال - مما ينشر في الرسالة - فإني لا أحب أن يظن طه أنك تعنيه بشيء تنشره في الرسالة وعلي تبعته عنده
ولما ثارت في الجامعة في العام الماضي مسألة المسجد والمصلي والدروس الدينية وفصل الفتيان عن الفتيات، كتب الرافعي مقالا للرسالة غمر فيه طه وحيا شباب الجامعة، ولم يجد الأستاذ الزيات بداً من نشره. وفتن الرافعي بمقاله ذاك وحسن عنده وقعه، فأنشأ تتمة له بعنوان (شيطان وشيطانة) يعني طه وتلميذته، ولكن الزيات وقف له واحتج حجة، رعاية للصديق القديم طه. وكان أول مقال يكتبه الرافعي فترده له الرسالة. وقد أغتاظ الرافعي لذلك غيظاً شديداً، وأحسبه مات وفي نفسه حسرة من عدم نشر هذا المقال. لو كان لي أن أعرف أين صورة هذا المقال لأوجبت على الرسالة أن تنشره بحق التاريخ الذي لا يحابي الأحياء ولا الأموات، ولكن أين أجده؟ الأستاذ الزيات يقول: لقد رددته إليه. والدكتور
الرافعي يقول: لم أجده على مكتب أبي؛ وما كان بين هذا المقال وبين أجل الرافعي إلا قليل
ولم يتلاق الرافعي وطه وجها لوجه في النقد بعد هذه المعركة حول كتاب (في الشعر الجاهلي)، ولكن المعارك بينهما ظلت مستمرة من وراء حجاب، تنتقل من ميدان إلى ميدان
ولما أشترك الرافعي في المباراة الأدبية في العام الماضي، ونال في بعضها من الجائزة دون ما كان يطمع، لم ينسب ذلك لشيء إلا لأن طه كان عضواً في اللجنة. . . وطه خصم عنيد. . .
أما بعد فهذا شيء للتاريخ أثبته على ما فيه، ليس فيه رأيي ولا رأي أحد معي؛ ولكنه شيء مما حكاه لي الرافعي أو قرأت في كتبه، فكتبته في موضعه من هذا البحث بضمير المتكلم ومالي فيه إلا الرواية، وذلك حسبي من العذر إن كان علي معتبة أو ملام
(شبرا)
محمد سعيد العريان
ثورة على الأخلاق
للأستاذ علي صرطاوي
إلى الأخ محمود بواسطة الأستاذ الزيات
قرأ أصدقاؤك والمعجبون بأدبك في الأقطار الشقيقة شكواك البليغة في عدد الرسالة (229)، فعتبوا عليك، وأسفوا أن تمر بسمائك سحابة صيف من مآسي الحياة في ظرف من الظروف الأليمة التي يطيش فيها حلم الحليم، فتحجب عن بصرك ذلك القبس الإلهي الذي كان يجبب إليك أن تحترق كالشمعة لتنير الطريق إلى الذين لا يعرفون الفضيلة في الدنيا؛ وأن تتحمل كل ما في الألم من مرارة وما في الاضطهاد من معنى، في سبيل الأخلاق الفاضلة والذود عنها والدفاع عن حرمتها، فتنقلب في طرفة عين إلى خصم لدود يطعنها تلك الطعنات القاتلة، فكنت كالذي أوشك أن يتم جداراً لاقى النكد في بنائه، فأنقلب إليه يهدمه إلى وجه الأرض لأن حجراً وقع عليه
لا يجادلك فيما ذهبت إليه في شكواك إنسانٌ في الدنيا، ولا يوافقك على الأسباب التي أدعيتها علة النجاح من له دين وتفكير إلا إذا كنت تريد أن يتدهور البشر إلى مستوى العجماوات حيث يعيشون للطعام والشراب، وأن يتلاشى ذلك التراث الإنساني الثمين الذي ورثته البشرية عن الأنبياء والمصلحين.
إن نجاح التاجر الذي يغش ويسرق، والموظف الذي يتلون حسب الظروف، والظالم الذي لا تعرف الرحمة طريقاً إلى قلبه، لا يقوم دليلاً على ما ذهبت اليه، ولا شأن للأخلاق فيه، إذ ليس ذنب الماء العذب أن يزعم مريض أنه كريه المذاق، ولا الشمس المشرقة أن يجادل في رؤيتها أعمى. فالذنب يا سيدي الكريم هو ذنب المجتمع المريض الذي يسمي الأشياء بغير أسمائها، فيرى الجبل شجرة، والحجرة كتاباً، والجمرة تمرة. ولو كان لنا مجتمع تعيش فيه الصراحة والجرأة الأدبية ويشرق عليه نور الخلق الفاضل والتربية العملية الدينية الصحيحة، لتضور أمثال هؤلاء جوعاً فيه
وراع الدكتور عزام طعنك في الأخلاق على النحو الذي قرأه الناس جميعاً، فأسرع يكتب إلى صاحب الرسالة كلمته البليغة لتصل إليك في العدد (230) وظن القراء أن فيما أورده الدكتور من الآراء الصائبة ما يكفي لإرجاعك إلى الحق، والرجوع إليه فضيلة؛ وانتظروا
أن يقرءوا ذلك في العدد (231) وإذا بصديقك الزيات يقول إن المجلس الذي أبلغك فيه رأي الدكتور، وكان حافلا بغيرك من رجال العلم والدين، كانوا لك وعليه، وأنك ظللت صامتاً ولم تحر جواباً
لقد أعجبني صمتك، لأن السكوت دليل على التسليم، ولكني لم أرض أن يزعم أن مجلسك كان حافلاً برجال العلم والأدب والدين، ويقول على لسانهم بأن السبيل (القاصدة إذن أن نطب لهذه الحال فيما يوائم بين طموح الناس وكرامة الأخلاق وسلامة المجتمع، وليس هناك إلا وسيلة من وسيلتين: إما أن نصد الناس جميعاً عن هذه الطرق المتعددة ونقصرهم على هذه الطريق الواحدة بقوة الأديان والسلطان والتربية، وذلك ما عناه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (عليكم بالجادّة ودعوا البنيَّات) وإما أن نعيد النظر في قانون الأخلاق فلعل فيه ما لا يرافئ تقلب العصر وتطور المجتمع. فأما الوسيلة الأولى فقد سجل الماضي ودلل الحاضر على أنها خيال نبيل لا يقع في الإمكان وحلم جميل لا تقوم عليه يقظة، وتعليل ذلك لا يغرب عنك فلا حاجة إلى تقريره. وأما الوسيلة الأخرى فهي على ما يرون مظنة التوفيق في الإصلاح الجديد)
يزعم أصدقاؤك أن إلزام الناس طريق الفضائل عن طريق الأديان والسلطان والتربية (خيال نبيل لا يقع في الإمكان، وحلم جميل لا تقوم عليه يقظة) ويؤكدون أن الماضي قد سجل ذلك، وأن الحاضر قد دلل عليه. . .
أما السلطان فأوافقهم على ذلك إذ:
لا ترجع الأنفس عن غيها
…
ما لم يكن منها لها زاجر
وأما الأديان، فأي ماض قد سجل ذلك؟ هل قرأ أصدقاؤك التاريخ العربي قبل الإسلام وبعده؟ من هم أولئك الذين كانوا يأكلون الدم والميتة، ويئدون البنات، ويتزوج العشرة منهم امرأة واحدة؟ ومن هم أولئك الذين صهرتهم حرارة الدين فأخرجت منهم أبا بكر وعمر، ووطئت خيولهم الصين وسهول اللوار، وملئوا الدنيا والتاريخ عدلاً، وخاطب خليفتهم في بغداد السماء بأن تمطر أنى تشاء فالخراج لهم؟
إذا تعلم أفراد المجتمع الدين تعلماً عملياً صحيحاً، وساروا على صراطه المستقيم، فعسير أن يعيش بين أفراده مثل من ذكرهم صديقك الزيات. فعلة العلل أننا لا نعرف الناحية
العملية من الدين. . . وهذا ما كان سبباً في تهكم أحد رؤساء الجامعات الأوربية على دروس الأخلاق النظرية التي وجدها في أحد برامج بعض المدارس العربية العالية. . . إذ قال بأن الشرقيين لا يزالون في الضلال يعمهون حين يظنون أن في المستطاع تكوين الخلق الفاضل بعيداً عن الناحية العملية. وأما الحاضر الذي دلل على ضعف الدين، فهو حاضر لا يمت إلى الدين بشيء
والإصلاح الجديد الذي يراه أصدقاؤك يجلب على المجتمع الدمار والبؤس والفوضى التي يئن تحتها المجتمع الأوربي في مظاهر مدنية النار والحديد
ويرى أصدقاؤك في صلف الإنجليزي العزة، وفي طموح الإيطالي الرجولة، وفي طمع الفرنسي الحياة، وفي صراحة الألماني الهيبة، وفي استقلال الأمريكي الفوز، ويرون في قناعة العربي الإهمال، وفي زهده الحرمان، وفي مداراته الذل، وفي توكله العجز. ولست أظنهم ينصفون الحقيقة في هذا الرأي، فمقياس الفضيلة هو مقدار الناحية العملية الصالحة منها، وحسب أصدقائك أن يقارنوا بين فضائل من ذكروا، وبين فضائل العربي وهو قريب من عهد الرسالة، وهي منتزعة من صميم الدين، والتي لا تمت بصلة إلى الأسماء التي تطلق عليها الآن، وهو على أبواب مدينة حمص حينما هاجمها الروم للمرة الثانية، فتدفع تلك الفضائل العربي أن يعيد لأهل المدينة الجزية التي أخذها منهم، فيرفضون أخذها ويدفعون الروم بكل ما يملكون. والأمثلة كثيرة، وثقافتك الواسعة وعروبتك الصادقة في غير ما حاجة إلى إقامة دليل
وأما الربا فيريدون ألا يظل في عصر الاقتصاد رذيلة، وحجتهم أن الغرب لم يستعبد الشرق إلا عن طريق بنوكه، وأن ربح الأموال التي كانت تضيع على المسلمين في البنوك، لو صرفت على طرق الإصلاح ووجوه البر لما بقي أجنبي في أرضهم ولما ظل تحت سمائهم فقير. والواقع لا يدل على ذلك أبداً، فلقد حرم الدين الربا لحكمة لا نستطيع بعقولنا المادية المحدودة إدراكها. ويجب أن يبقى كذلك عملاً بأوامر الدين. وأما استبعاد الشرق عن طريق البنوك، فمسألة فيها نظر وليست قضية مسلمة، ودليل ذلك أن الإنجليز كانوا يطمعون في مصر منذ سنة 1845. ويقرأ ذلك من يشاء في رحلة الإسكندر وليم كنج لاك في بلاد الشرق الأدنى في السنة المذكورة التي سماها (يوثين) حيث تنبأ وهو أمام
أبي الهول باحتلالهم مصر قبل أن تشق قناة السويس. وأما طرق الإصلاح ووجوه البر، فلو صرفت عليها الزكاة التي فرضها الدين لما بقي فقير بين المسلمين
وبعد فسيضل الخلق الفاضل عدة النجاح مادام هنالك دين في الدنيا والسلام عليك.
(جينين)
علي صرطاوي
أناشيد صوفية
جيتانجالي
للشاعر الفيلسوف طاغور
بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب
- 49 -
لقد هبطت عن عرشك لتقف بازاء باب كوخي
كنت جالساً وحدي في زاوية أترنم بألحان ألقيت أنت إليها سمعك فهبطت عن عرشك لتقف بازاء باب كوخي
وفي فنائك أحتشد العظماء والأغاني تتردد هناك في كل حين؛ غير أن لحناً بسيطاً أرتفع بين هذه الأغاني فجذبك إليه؛ هو لحن قصير فيه الشجن أختلط بموسيقى العالم العظمى فهبطت ومعك هدية من زهر. . . هبطت لتقف بازاء باب كوخي
- 50 -
وانطلقت أتكفّف الناس وأنتقل من باب إلى باب على طريق القرية. ثم بدت عربتك الذهبية عند الأفق كأنها الحلم اللذيذ فعجبت: ترى من يكون ملك الملوك هذا!
ولمع الأمل في نفسي وخيل إلي أن أيام السوء قد انقضت فوقفت أنتظر الهبات، وهي تعطي في غير سؤال، والمال وهو ينثر هنا وهناك
ووقفت العربة بازائي. وحين وقع بصرك علي دلفت نحوي وعلى شفتيك ابتسامة، فاستشعرت السعادة في نفسي؛ وعلى حين فجأة مددت إلي يمناك وأنت تقول:(ماذا عندك لتهبه لي؟)
آه! إنها دعابة ظريفة أن تمد يدك تسأل شحاذاً. واضطربت وسيطرت عليّ الحيرة ثم تناولت من سلتي أصغر حبة قمح. . . تناولتها في بطء وقدمتها إليك
لشد ما عجبت حين أفرغت سلتي عند الغروب، فألفيت بين متاعي الحقير حبة من ذهب في قدر حبة القمح، فرحت أبكي في حرقة وأسى لأنني لم أجد في نفسي القوة على أن أقدم إليك كل ما أملك
- 51 -
أظلم الليل وانتهى عملنا اليومي، وخيل إلينا أن آخر ضيف قد قدم لأن أبواب القرية غلقت؛ غير أن قائلاً قال:(سيأتي الملك) فسخرنا منه وقلنا: (لا، لا يمكن!)
وبدا لنا كأن طارقاً يدق الباب فقلنا إنه الريح؛ ثم أطفأنا المصابيح وانطلقنا إلى الفراش؛ غير أن قائلاً قال: (إنه رسول!) فضحكنا منه وقلنا: (لا، بل هي الريح!)
وفي أعماق الليل دوى صوت فخيل إلينا - والنعاس يغالبنا - أنه هزيم الرعد؛ ثم زلزلت الأرض زلزالها، واضطربت الحيطان ففزعنا عن مراقدنا، وقال قائل:(إنه صوت عربات) فقلنا في صوت الحالم: (لا، إنه جلجلة السحب!)
وفي جوف الليل رن في مسامعنا دوي الطبل، ونادى مناد:(هبوا، لا تنوا!) فوضعنا أيدينا على قلوبنا والخوف ينفضنا نفضاً شديداً، وقال قائل:(ويلي، هاهي ذي راية الملك تخفق!) فاندفعنا نصيح: (لقد أزف الوقت فلا تتكاسلوا!)
لقد جاء الملك، ولكن أين المشاعل؟ أين الأكاليل؟ أين العرش ليستوي عليه؟ يا للفضيحة، يا للعار! أين الدار؟ أين الزينة؟ فقال قائل:(عبثاً تصيحون، حيوه بأيد فارغة وادعوه إلى حجراتكم المعطلة. . .)
افتحوا الأبواب، واعزفوا الألحان! ففي جوف الليل جاء الملك إلى بيتنا الموحش المظلم. إن الرعد يزمجر في السماء وإن البرق يزيح أستار الظلام. هات فراشك البالي وأفرشه في الفناء؛ فهو قد جاء على حين بغتة مع العاصفة الهوجاء. . . هو رب الليل الحالك المهيب. . .
- 52 -
لقد أردت أن أطلب إليك عقد الورد الذي تحلي به جيدك غير أني لم أجسر، فانتظرت حتى تبرح عند الصباح. وحين غادرت وجدت بقايا منثورة على الفراش، وفي السحر رحت أفتش عن الوريقات المفقودة كأنني شحاذ
آه، ماذا وجدت؟ ماذا تركت ذكرى هواك؟ إنك لم تترك الزهر ولا العبير ولا زجاجة عطر بل سيفك العظيم يتألق كشعلة من لهب، وهو ثقيل كالصاعقة. لقد أخترق نافذتي أول شعاع
فتيِّ من أشعة الصباح فهم الطير يسقسق ويسأل: (أيتها الفتاة، ماذا أصبت؟) لا، لم يكن الزهر ولا العبير ولا زجاجة عطر، بل هو سيفك المهيب
وجلست أفكر في دهشة: ماذا عسى أن تكون هذه الهدية؟ لم أجد له مخبأ، وإني لأخجل أن أتقلده وأنا حطام متهدم، وإنه ليؤذيني إن ضممته إلى صدري، ولكني سأحمل في قلبي هذا الشرف. . . هذا العبء الثقيل من الآلام. . . هذه الهدية الغالية والآن لم يبق في هذه الدنيا ما أخافه لأنك أنت نصيري. لقد نزعت عن رفيقي الموت، فسأفديه أنا بروحي. إن سيفك معي لأحطم به قيودي فلا يبقى في هذه الدنيا ما أخافه
سأنزع عن نفسي - منذ الآن - زخرف الحياة؛ ولن أتوارى بعد - يا مليك القلب - في ركن أبكي، ولن أستحي أو أرقق من خلقي فأنت قد حبوتني سيفك لأزين به فلن أتحلى بسواه من زينة الحياة
ما أجمل سوارك وقد زينته النجوم، ورصعته كواكب الحلية؛ غير أن سيفك أحلى منه في عيني وهو يلمع كأنه جناح طير فينشو المقدس، وقد انتشر في أشعة الغروب الحمراء، إنه يضطر كأنه آخر أحاديث الحياة حين يسيطر الألم على الإنسان في ساعة الاحتضار فيذهله عن نفسه؛ ثم هو يتألق كأنه شعاع الوجود الطاهر حين يرسل شرارة حامية فتلتهم كل العواطف الأرضية
ما أجمل سوارك وقد زينته كواكب الحلية! غير أن سيفك - يا إله الرعد - قد رصع بجمال باهر يفوت الوصف ويفوق الخيال
- 53 -
لن أطلب إليك شيئاً؛ ولن أذكر اسمي عند مسمعيك. وحين تنأى عني سأقف في صمت. لقد كنت لدى البئر وحدي والظل وارف، والفتيات ينطلقن إلى دورهن، يحملن جرارهن المترعة؛ لقد نادينني:(تعال معنا، إنه يضنيك أن تنتظر من لدن الصباح حتى الظهر) غير أني ترددت حيناً ثم ذهلت عن نفسي وسط الخواطر المضطربة
ما سمعت دبيبك حين جئت، وكان في نظراتك الأسى حين وقع بصرك علي، وكان في صوتك أثر الأين والتعب حين قلت:(آه، إنني مسافر ظمآن) ففزعت عن أحلامي لأصب الماء في كفيك، فحفت الأوراق من فوقنا، وانبعث شدو الطير يمزق سكون الظلام، وفاح
أريج عطر الزهرات من منعطف الطريق
ووقفت صامتاً في خجل حين سألتني عن أسمي، ماذا أسديت إليك فتسأل عن أسمي لتذكرني؟ ولكن ذكرى الماء الذي أطفأت به حرتك ستعلق بقلبي وتبعث فيه الرضى. إن ساعات الصباح قد انطوت، والطير يغرد في كلال، والأوراق تحف من فوقي، وأنا جالس إلى نفسي أفكر وأفكر
- 54 -
ما يزال الفتور يسيطر على قلبك، والنعاس يستولي على عينيك
أفلم يبلغك أن الزهرة تحكم بين الشوك في كبرياء؟ أستيقظ؛ أوه، انتبه! لا تدع الزمان يمر عبثاً
عند نهاية الطريق الصخري وفي بلاد الوحدة الطاهرة. . . هناك يجلس صاحبي في عزلة، فلا تخدعه. أستيقظ؛ أوه، انتبه!
ماذا لو أن السماء تلهبت واضطربت في قيظ الظهيرة المحرق. . . ماذا لو أن الرمال المتأججة نشرت لظى الظمأ. . .
أفلا تجد الطرب في قرار قلبك؟ أفلا تتفجر قيثار الطريق - في كل خطوة من خطواتك - عن لحن شجي فيه الألم؟
- 55 -
إن رغبتك تامة فيّ، وإنه أنت الذي هبطت إليّ؛ فمن عسى أن يكون حبيبك - يا إله الملك - إن لم أكُنْه؟
لقد اتخذتني لك شريكاً أقاسمك هذا الثراء العريض؛ ففي قلبي السرور اللانهائي أستمده منك، وفي حياتي مشيئتك تسيطر عليّ
لهذا زينت نفسك - وأنت ملك الملوك - بالجمال الخلاب لتأسر قلبي، ولهذا بذلت حبك في سبيل من تحب، فظهرت للأعين كاثنين امتزاجا معاً
- 56 -
أيها النور، أيها النور الذي تشرق على العالم، وتقبل العيون وتنفث البهجة في القلوب!
آه، إن النور يرقص - يا عزيزي - في أعماق حياتي إنه يضطرب بين أوتار قلبي؛ إن السماء تنفرج، والريح تهب عاصفة، ورنات الضحك تتردد على الأرض
إن الفراش ينشر أجنحته على لجة النور، والزنبق والياسمين يضطرب فوق موجها
لقد تحطم النور فوق كل سحابة - يا عزيزي - إلى قطع من لجين استحالت إلى جواهر تتألق
إن البهجة تتناثر - يا حبيبي - على أوراق الشجر فيعم السرور، وإن نهر السماء يفيض على شاطئيه فيملأ الطرب كل مكان
كامل محمود حبيب
فلسفة التربية كما يراها فلاسفة الغرب
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 4 -
جولة في أغراض التربية
أوردت لك فيما سبق تفسير الفلسفة للتربية، وكشفت عما بينهما من علاقة، وأبنت ضرورة الأولى للثانية، ثم تناولت الثانية ذاتها ببعض الشرح والتحديد. وأحب اليوم أن أجول بك في (أغراض) هذه (العملية الكبرى) التي اصطلحنا على تسميتها بالتربية والتعليم!
لِمَ يتعلم الناس؟ وفيم تقام لهم هذه المدارس وتلك الجامعات التي تنفق فيها الجهود الطائلة والأموال الجسيمة؟ أظنك قد أصبحت ترى معي أن من حق الفلسفة بل من واجبها أن تناقش ما عسى أن يكون لهذه (العملية الكبرى) من أغراض، علها تستطيع أن تهدينا إلى (الغرض الأسمى)!
والحق أنه إن لم يكن للتربية غرض واضح محدود صريح فإن عمليتها لا تعدو أن تكون ضرباً في الهواء مصيره الفشل المحتوم!؛ ولما كانت حياة (الأفراد) على ظهر الأرض واحدة لا رجعة لها ولا تكرار؛ ولما كانت (التربية) هي الأداة التي تعدنا لهذه الحياة الواحدة القصيرة، فإنه لا شك في ضرورة (إيجاد) ذلك (الغرض الأسمى) الذي نستطيع به - وبه وحده - أن نستغل (العمر) إلى أبعد حدود الأستغلال، وأن نتمتع به إلى أقصى وأرفع حدود التمتع
ولكنك تعلم أن الفلسفة حينما تعرض لمثل هذا (المشكل) لا تستطيع أن تنجو من ذلك (التباين) الهائل الذي يبدو في أغلب مذاهبها
يقول الأستاذ بولزن في أسلوب عذب رشيق (يريد المرء أن يلعب ويتعلم، وأن يعمل ويكتسب، وأن يملك وينعم، وأن يكون ويخلق، وأن يحب ويعجب، وأن يطيع ويحكم، وأن يجاهد ويفوز، وأن يردد الشعر ويحلم، وأن يفكر ويبحث وأن يجرب علاقة الابن بأبيه، والتلميذ بأستاذه، والخادم بسيده، وأن يعيش قنوعاً؛ أخا بين أخوة، وصديقاً بين أصدقاء، وزميلاً بين زملاء، ومواطناً بين مواطنين، وحبيباً وعدواً، وزوجاً ووالداً ومربياً؛ كل ذلك
على نحو طبيعي خاص؛ فإذا ما تحقق له ذلك شعر أن حياته قد كملت، وأنتظر النهاية الأخيرة برضا وارتياح، لأنه سيلحق بعدها بآبائه وأجداده.)
وأنت ترى أن ذلك الغرض طويل غير محمل وإن كان صحيحاً في كل أجزائه، وأنه يرمي إلى تكوين الفرد الاجتماعي الناجح السعيد.
ويقول فيخته (إن غرض التربية هو تكوين الوطني العارف بحقوق الوطن وواجباته). ولكن من ذا يستطيع أن يحصر الحياة في دائرة الوطنية فحسب؟ أليست الوطنية إحدى نواحي الحياة الشاملة الفسيحة؟
ويقول هربارت (إن غرض التربية هو تكوين إنسان عارف بحقوق الإنسانية؛ وإن غايتها القصوى هي اكتساب الفضائل والتحلي بمكارم الأخلاق). ولكن ترى ما هي حقوق الإنسانية التي يتركها لنا هربارت غامضة من غير ما تفسير؟ وإذا كانت الأخلاق هي غاية التربية القصوى، فأين يقع (التفكير الخالص) من هذه الغاية وقد وضعه (ارسطو) فوق جميع الغايات عندما ينصب على أسمى موضوعات التفكير وهو الله؟
ويقول ديوي (إن غرض التربية الأسمى هو النمو) ولكن ما معنى النمو وما مقياسه المضبوط؟ يلمس (ديوي) بنفسه ذلك الغموض ويرسم لنا مثلاً أعلى (للإنسان النامي) فإذا هو (كائن ذو عادات بصيرة حساسة بعيدة النظر خاضعة لمسئوليات أكثر). وذلك قول جامع ولكنه لا يخلو مع ذلك من غموض. . .
ويقول الأستاذ ريدجر (تلائم التربية بين الفرد وبين عناصر البيئة المعترف بها في الحياة الحديثة، وهي تعمل على تنمية وترتيب وتدريب قواه حتى تصبح ذات (فاعلية) مشروعة النفع) وذلك أيضاً قول دقيق لولا ما قد ينتاب (هذه الملاءمة) من القضاء على روح الثورة في الناشئ. تلك الثورة التي نريدها منه كلما رأى ما هو جدير بها في حياة المجتمع
ويقول الأستاذ تورندايك (إن أقصى غايات التربية هو غرس رغبة (الخير) وتكوين القدرة على الحياة السعيدة والمتعة النبيلة البريئة) ولكن ترى ما هي الحياة السعيدة ذات المتعة النبيلة البريئة؟ أما نحتاج هنا لتحديدهما؟
أما (سبنسر) فيلسوف التطور فيقول (إن غاية التربية هي أولا وقبل كل شيء حفظ الحياة). ولكن من الثابت الواضح أن (حفظ الحياة) وسيلة وليس بغاية؛ إذ في سبيل أي
شيء نحفظها؟ يقول سبنسر نفسه: (إن واجب التربية هو الأعداد للحياة بأوسع معانيها. وأهم ما في الحياة هو الحكم الصائب في كل الاتجاهات وجميع الظروف، ثم تربية الجسم والعقل، ثم الإعداد للعائلة والسعادة والوطن وخدمة المجتمع) وذلك كلام له وجاهته الخاصة دون ما شك. ولكن ألسنا نرى فيه إغفالا أو شبه إغفال لناحية الشعور بما فيه الدين؟
ويبسط لنا الأستاذ ريدجر غرض الملاءمة الآنف في فصل طريف فحواه الحياة بالعقل والروح ثم بالجسد في جو خلقي دائب التجدد، يقوم فيه الدين إلى جانب الفن، ويتسلط فيه الإنسان تسلطاً عاقلاً على البيئة، شاعراً أنها وطنه الذي يجد فيه المتعة العقلية والفنية، منتفعاً في نفس الوقت بكل ما فيها مما يفهمه ويقدره
أما الأستاذ فيقول إن غرض التربية (هو النمو المتشابه لقوى الفرد) وذلك قول له طرافة من الناحية النفسية التي تطالبنا بإيجاد التوازن بين قوانا بحيث لا يطغي فيها العقل على العاطفة، أو العاطفة على العقل، ولكنه لا يزال بعد مفتقراً إلى (تشريع) يوجه هذا النمو المتشابه به في نواحيه المنشودة
وأما أبناء العم سام فأغراض التربية عندهم هي:
(1)
عضوية الأسرة الناجحة (2) المهنة الموفقة (3) الفراغ الممتع (4) التمدن العاقل (5) الصحة الحسنة (6) المعاملات الطبية
ولكن واضح أن ذلك المستوى شعبي بحت لا يتناول (الفكر الراقي) كما ينبغي أن يتناوله
وتلك كما ترى آراء كثيرة توسع من مدى فكرنا وإن كانت لا تقف به عند رأي حازم جازم لأن طبيعة (الغاية الأخيرة) ذاتها تتطلب ذلك الخلاف مادام أن الأفراد أنفسهم هم الذين يتناولونها بالبسط والتحديد لأنها غايتهم. ويشعر الأستاذ ديوي نفسه بصعوبة الموقف فيقول: (ليس للتربية غاية أو غرض خاص، ولذلك يجب أن نأخذ في حسابنا نشاط من يراد تعليمهم وحاجاتهم الطبيعية والاكتسابية عندما نحدد للتربية والتعليم أغراضهما)
ويعقب الأستاذ يعقوب فام على هذا الرأي بقوله: (ليس التعليم منفصلاً عن الحياة حتى يقال إنه وسيلة لها، بل هو والحياة أمر واحد) ومعنى ذلك أن غاية التربية هي هي غاية الحياة. فترى ماذا عسى أن تكون تلك الغاية؟ أهي ذلك الثالوث الأقدس الذي ينادي به الأستاذ فيكتور كوزن في كتابه الطريف ثالوث الخير والحق والجمال؟ أم هي (التفكير الخالص)
في أسمى موضوعات التفكير كما يقول أرسطو؟
ومهما يكن من شيء فإن الأستاذ (ديوي) يعطينا مقياساً طريفاً نطبقه على الأغراض (المطروحة) لنختبرها به وهو: (1) قيام الغرض على الظروف الراهنة (2) وقدرته على القيادة والمرونة (3) والاتفاق التام بينه وبين الوسيلة. ثم هو يعطينا مقياساً آخر نقيس به مواد الدراسة هو (درجة وطريقة ما تجلبه على الطالب من شعور بيئته الاجتماعية، وما تمده من قدرة يفسر بها قواه الخاصة من ناحية قابليتها لخدمة المجتمع) ويفسر لنا الأستاذ (باجلي) مدى هذه (القابلية) بقوله: (إنها تتضمن أن يكون المرء فاعلاً في المجتمع منتجاً أو مرشداً الناس إلى الإنتاج، متدخلاً في مجهودات الآخرين بأخلاقه الصالحة، عاملاً على تكميل القوى الاجتماعية أي إنجاح الجماعة) ويعزز الأستاذ ديوي نفسه ذلك الرأي بقوله: (أعتقد أن كل تربية يجب أن ترمي إلى مشاركة الفرد في الوجدان الاجتماعي)
ولا بأس من أن نختم هذا الفصل بقول الأستاذ وهو: (أننا لا نستطيع أن نحصر أغراض التربية في غرض واحد، وكل ما هنالك أن التربية يجب أن تشمل الإبقاء على الماضي إبقاء لا يستر عيوبه ولا يعمينا عن خيرات الحاضر، ثم الوقوف على الأزمنة والبيئات والطبقات المختلفة حتى نوسع من مدى اتصال الناس بعضهم ببعض، ثم تمدين ومحو الوحشية من بينهم، أي انتشال العقول من الأدوية المظلمة، والعواطف من الغرائز الحيوانية، ثم غربلة الناشئين وتوجيه كل منهم إلى الطريق الذي يتفق وميوله الخاصة حتى يبلغ أقصى ما هو كفء له، ثم غرس العادات الحسنة من غير استبعاد الناشئ لها)
وبعد، فماذا تريد أن أقول؟ وأي الأغراض تحب أن أزجيها إليك؟
أليس من الخير أن نترك هذا الباب مفتوحاً لرجال التربية في الشرق، كما يدلوا فيه بآرائهم السديدة، ويرسموا لنا تلك (الغاية الأخيرة) التي يجب أن ينشدها الشرق في تربيته على الخصوص؟
ثم أنت ترى المعاهد في مصر كثيرة والخريجين أكثر، فهل تستطيع أن تتبين وراء تلك المعاهد (غرضاً واضحاً محدوداً) وهل تستطيع أن تتلمس (الطريقة) التي يحقق بها هذا الغرض وما عسى أن يكون فيها من ضعف وقوة؟
أحب أن تفكر في هذا قليلاً. لا، بل كثيراً
(شبرا)
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بالمدارس الثانوية
هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشة
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
الرؤى والألغاز
- 1 -
وعندما تناقل البحارة خبر وجود زارا بينهم وكان بلغهم ذلك من رجل دخل السفينة معه قادماً من الجزر السعيدة ساد الجميع شيء من القلق وباتوا يتوقعون حدثاً في وجوده، غير أن زارا بقي يومين جامداً تساوره أحزانه؛ تحدق فيه الأنظار فلا يلتفت، وتوجه إليه الأسئلة فلا يجيب. وأخيراً أصغى لما يقال حوله متوقعاً سماع أبحاث لها خطورتها تدور على هذه السفينة القادمة من بعيد والمتجهة إلى أماكن سحيقة. وما كان زارا لينفر من الأسفار البعيدة ومن الأخطار، وبعد أن أصغى طويلاً حلت عقدة لسانه فأنطلق يقول:
- إليكم أيها الشذاذ الجريئون أياً كنتم، أيها المستسلمون للشراع الغدار على هائجات الأمواج
إليكم أيها الثملون بخمرة الأسرار، المنجذبون بين خيوط الظلمات والأنوار، إلى نغمات كل شبابة تنوح في المجاهل الخفية. إنكم تنفرون من تلمس طريقكم بيد مرتجفة على ما نصب من دليلات الحبال إذ تفضلون الإدراك بالحس على الإدراك بالاستقراء
إليكم دون سواكم أوجه الخطاب لأخبر بما تجلى من ألغاز وبما خطر من رؤى لأشد الناس استغراقاً في عزلته.
لقد اجتزت الغسق في أشد فتراته وجوماً. اقتحمته وقد تقلصت شفتاي وعلا وجهي الاغبرار وكنت شاهدت من قبل شموساً كثيرة تجنح إلى الغروب
رأيت أمامي طريقاً يتسلل على جروف المرتفعات، طريقاً وعراً تعرى جانباه من كل نبات فدفعت عليه أقدامي أتحداه فأسمع صريف حصاه تحتها.
مشيت صامتاً أحاول تثبيت الحصى المتطايرة بخطواتي لأنجو من الانزلاق عليها
واعتليت فإذا بروح الكثافة وهو عدوي الألد يشد بي إلى الأعماق، واعتليت أيضاً فإذا بهذا
الروح المطبق عليّ كالقزم من الناس والخلد من سكان الأوجار يسكب في أذني ودماغي كلمات ثقيلة كالرصاص فسمعته يقول لي متمهلاً هازئاً:
أي زارا أيها الحجر المدعي الحكمة، لقد رشقت نفسك إلى ما فوق، ولكن أي حجر أرتفع ولم يسقط عائداً إلى مصدره؟
أي زارا أيها الحجر الحكيم المنقذف إلى العلا ليزعزع الكواكب في مدارها ما أنت إلا القاذف والمقذوف معاً، فلابد لك من السقوط ككل حجر يرشق إلى ما فوق. لقد حكمت بالرجم فكان حكمك به على نفسك، وهذا الحجر الذي فوّقته سيرجع ساقطاً عليك
وسكت القزم طويلاً حتى ضاقت من سكوته أنفاسي، فالرفيق الصامت يشعرك بوحشة الانفراد أكثر مما تشعر بها وأنت وحدك لا رفيق لك
وارتقيت أيضاً وأنا تائه في تفكيري وأحلامي شاعراً بتزايد الضيق في صدري كأنني عليل نبهته أضغاث أحلامه فاستفاق ليشعر بأوجاعه
غير أنني أعهد بنفسي قوة أسميها شجاعة وهي القوة التي أرغمت بها كل وهن في نفسي، بهذه الشجاعة تذرعت فصحت بالقزم قائلاً:
إن واحداً منا يجب عليه أن يتوارى
ما من قاتل كالشجاعة التي تهاجم، وما من فيلق يتقدم إلا وفي طليعته الأنغام الحاديات
إن أوفر الحيوانات شجاعة إنما هو الإنسان الذي قهر بشجاعته سائر الحيوانات وتغلب على جميع الأوجاع ماشياً وراء حاديات الأنغام بالرغم من أن أوجاع الإنسان أشد ما في الكون من أوجاع
وللشجاعة أيضاً فضيلة ردع الدوار المستولي على الرؤوس حين تحدق في الأعماق، وما من موقف للإنسان لا هاوية تحته وما عليه إلا أن يحدق ليرى المهاوي من أي موقف في مواقفه،
إن الشجاعة خير ما يقتل فإنها تقتل الإشفاق أيضاً؛ وما من هاوية أبعد قراراً من الإشفاق لأن نظر الإنسان ليذهب وهو يسبر الآلام إلى أقصى مدى يبلغه عند سبره الحياة نفسها
إن خير ما يقتل إنما هي الشجاعة إذا هاجمت، لأنها ستتوصل أخيراً إلى قتل الموت نفسه لأنها تقول في ذاتها:(يا للعجب! أهذا ما كانت الحياة؟ إذن لأرجعن إليها مرة أخرى) إن
في مثل هذه العقيدة أشد حداء يدفع إلى الإقدام. ومن له أذنان سامعتان فليسمع
- 2 -
واستوقفت القزم قائلاً: يجب أن يبقى أحدنا ويفنى الآخر. إنني أنا الأقوى لأنك لا تدرك أعمق أفكاري، وما أعمقها إلا فكرة لا قبل لك باحتمالها. فارتمى القزم عن كتفي فخف حملي، فإذا بهذا القزم يجلس القرفصاء على حجر أمامي، وإذا نحن تجاه باب كأنه وجد صدفة هناك فقلت لرفيقي:
أنظر إلى هذا الباب فإن له واجهتين، وهنا ملتقى مسلكين لم يبلغ إنسان أقصاهما، أحدهما منحدر يمتد إلى البرية، والآخر مرتفع يمتد إلى البرية الأخرى، والمسلكان يتعارضان متقاطعين عند هذا الباب وقد كتب أسمه على رتاج واحد (الحين)
فقلت: أتعتقد أيها القزم أن من يتوغل في إحدى هذين المسلكين يبقى معتقداً بأن اتجاه أحدهما معارض لاتجاه الآخر؟
فقال القزم بازدراء: إن كل اتجاه على خط مستقيم إنما هو اتجاه مكذوب، فالحقيقة منحرفة لأن الزمان نفسه خط مستدير أوله آخره
فأجبته قائلاً: لا تستخف بالأمر أيها الروح الكثيف وإلا غادرتك فتعطب حيث أنت، ولا تنس أنني أنا حملتك إلى الأعلى. تفكر في (الحين) الذي نحن فيه الآن، فإن من بابه يمتد سلك أبدي لا نهاية له متراجعاً إلى الوراء، فإنما وراءنا البرية يا هذا
أفما كان لزاماً على كل شيء معززٍ بمعرفة السير أن يجتاز هذا السلك فيما مضى؟ أفما تحتم على كل شيء له طاقة الوصول أن يكون قد وصل فيما مضى فأتم سيره وعبره؟
وإذا كان كل موجود الآن قد وجد من قبل فما هو اعتقادك في هذا الحين؟ أفما كان لهذا الباب وجود سابق؟
أفما ترى الأشياء كلها متداخلة، وأن هذا (الحين) يجر وراءه كل ما سيكون، بل يجر نفسه أيضاً؟
أفما يتحتم والحالة هذه على كل معزز بقوة السير أن يندفع مرة أخرى على هذا المسلك المتجه إلى فوق؟
أنظر إلى هذه العنكبة التي تدب على مهل تحت شعاع القمر! أنظر إلى شعاع القمر نفسه
وإلى ذاتي وذاتك مجتمعتين تحت هذا الباب تتهامسان بأسرار الأبد! أفما تعتقد أنه لابد أن نكون وقفنا جميعاً من قبل في هذا المكان؟
أفليس علينا أن نعود أيضاً للتدفع تكراراً على المسلك الآخر الذاهب أمامنا متصاعداً مستطيلاً مروعاً؟ أفما لزم علينا أن نعود تكراراً وأبداً؟
هكذا كنت أتكلم بصوت يتزايد انخفاضه وقد أرعبتني أفكاري وما كمن وراء أفكاري فإذا بي أسمع نباح كلب على مقربة منا
خيل إليّ أنني سمعت مثل هذا النباح من قبل، ورجعت بتذكاري إلى الماضي فإذا هو يسمعني هذا النباح في أبعد أيام طفولتي ويمثل لي مثل هذا الكلب الذي أراه الآن وقد وقف شعره ومد رقبته مرتجفاً في أشد الليالي سكوناً حيث يتراءى للكلاب أيضاً أن في العالم أشباحاً
ونبه نباح الكلب إشفاقي إذ تذكرت أنه عندما عوى منذ هنيهة كان القمر يطل من وراء البيت صامتاً كالموت؛ ومنذ هنيهة كان هذا القمر يستقر فوق السطح كقرص ملتهب يراود ما ليس له، وذلك ما أثار غضب الكلب لأن الكلاب تؤمن بالسارقين والأشباح
عندما سمعت هذا النباح للمرة الثانية عاودني الإشفاق تكراراً
أين توارى القزم الآن ومعه الباب والعنكبة وأحاديث المناجاة؟ أكنت في حلم فاستفقت فأنا الآن وحيد بين جرداء الصخور لا سمير لي غير شعاع القمر المنفرد في السماء
ولكنني رأيت رجلاً مسجى على الأرض وكان الكلب يقفز وقد أقشعر جلده وهو يهدر هديراً، وإذ رآني قادماً نحوه بدأ بالنباح فتساءلت عما إذا كنت سمعت من قبل كلباً ينبح بمثل هذا الصراخ المستغيث
والحق أن ما رأيت في ذلك المكان ما كنت رأيت مثله، لأنني شاهدت أمامي راعياً فتياً ينتفض محتضراً، وقد أرتسم الروع على وجهه وتدلت من فمه أفعى حالكة السواد، فتساءلت عما إذا كنت رأيت قبل الآن مثل هذا الاشمئزاز والشحوب على وجه من الوجوه. لعل هذا الراعي كان يغط في رقاده عندما أنسلت الأفعى إلى حلقه وانشبكت فيه
وبدأت أسحب الأفعى بيدي، ولكني شددت عبثاً، فسمعت من داخلي صوتاً يهيب بالراعي قائلاً: عض عليها بأسنانك ولا تني حتى تقطع رأسها، وهكذا سمعت بهذا الهتاف أصوات
رعبي واشمئزازي وضغينتي وإشفاقي كأنها صوت واحد يتعالى مني
فيا أيها الشجعان المحيطون بي، أيها الشذاذ المكتشفون يا من تقتحمون مجاهل البحار مستسلمين للشراع الغدار وأنتم تسرون بالمعميات والألغاز، عبروا رؤى المنفرد وحلوا ما رأى من معميات وقد كمن فيها ما كان وما سيكون
أيّ هذه الرموز يدل على ما فات وأيها يدل على ما هو آت؟
من هو الراعي الذي اندست الأفعى في فمه، ومن هو الإنسان الذي سيصاب بمثل هذه الداهية الدهماء؟
على أن الراعي بدأ يشد بأسنانه منفذا ما أشرت به، وما لبث أن تفل دافعاً برأس الأفعى إلى بعيد، ثم أنتفض ووقف على قدميه
وتبدلت هيئة الراعي فلم يعد راعياً حتى ولا إنساناً، إذ جلله الإشعاع وضحك ضحكة ما سمعت حياتي مثلها
لقد سمعت يا أخواني ضحكة ليست من عالم الإنسان ولم أزل منذ ذلك الحين أحترق بشهوة لا أجد ما يطفئها. إن شهوة هذه الضحكة تنهش أحشائي فكيف أرضى الموت بعد الآن
هكذا تكلم زارا
(يتبع)
فليكس فارس
رسالة الشعر
وحشة!
للأستاذ أمجد الطرابلسي
ما أرى الينبوع في هذه الفلاه=فالتمسه اليوم في أعماق نفسك!
أيها الغربانُ يا شؤمَ الربوعِ
…
انعبي ما شئتِ في صدري وقَرّي
يُنشدُ الشاعرُ في عرسِ الربيع
…
وأنا أَستلْهِمُ الوحشةَ شعري!
هذه الصّحراءُ ما بين ضلوعي
…
كاد يُذوي شوكَها فرطُ صَداها
أَعولتْ في الصَّدرِ تَسْتَجدى دموعي
…
فأبى مُسْتكبِرُ الدمع وتاها
هذه الصّحراءُ حولي أين سرتُ
…
تفزعُ الجِنَّانُ من وحشتِها
قد عوى في جوِّها الويلُ المُشِتُّ
…
وتنزّي الرملُ في شُعلتِها
تتعبُ الأَعينُ في آفاقِها
…
كشراعٍ بينَ أَمواجِ العُباب
ويَضِجُّ الغمُّ في أعماقِها
…
ضجَّةَ الأغلالِ في دار العذاب
يا لصحراوَيْنِ في قلبي وحولي
…
أَتمنَّى فيهما لمعَ سراب
أنا ما بينهما أرقبُ ظِليّ
…
فأَراهُ سَلوتي وسْطَ الرّحاب
أيّها الوحشةُ خَلّي العنكبوتْ
…
تنُسجِ الأكفانَ في أحناءِ صدري
وانشري اللّيلَ على كهفي الصَّموتْ
…
وأصبِغي باليأسِ والأهوالِ فجري
أَظمئي زهري وزيدي سَأَمي
…
وارتعي في خاطري يا وَحشتي!
أنا منْ صمتِكِ أَغذو نَغَمي
…
وَبِوَيْلاتِكِ أسقي جنّتي!!
إنّ غَمّاً لم يزلْ في الصّدرِ يُطوى
…
هو كنزي ومَعينُ الشّعرِ عندي
لا تُهنْه أَيّها القلبُ بشكوى
…
إنّ فيها هونَ آمالي ومجدي
إيهِ يا نضوَ الفلا حسبُك صمتا
…
غّنِّ في الوَحدةِ أَلحانَ التَّصافي
لستَ بالشاعرِ يا قلبيَ حتّى
…
تُطلعَ النّرجسَ من شوكِ الفيافي!
عَبَثاً تخرسُ في الصَّدرِ الّلحونْ
…
أيّها المُصْحِرُ صَنّاً وإِباَء
أنت كالبلبلِ في هام الغصونْ
…
عيشُهُ أَنْ يُسكرَ الروضَ غِناَء
يَتَمّنى الصّمت - لو كانَ مُتاحا -
…
ضَرَمٌ في صَدرِهِ مُسْتَبْسِلُ
لا الجوى لا الغَمُّ لا الويلُ جِراحا
…
تُسكتُ البلبلَ، عاشَ البلبلُ!!
أَيّها الضاربُ في عُرِضِ الصَّحارى
…
تَتَمنَّى واحة تأوي إليها
عَبَثاً تطلبُ في الصّحراءِ دارا
…
تطرحُ الأعباَء ما بينَ يديْها
أيها الهارب من دُنيا الجُحودْ
…
إنَّ في صدرك أَنغامَ الوفاء!
أيها المُدلجُ في ليلِ الجُمودْ
…
إنَّ في نفسكَ آفاقَ الضِّياء!
أيها الظمآنُ في هذا العَدَمْ
…
أنتَ نبعٌ ترتوي منهُ الظِّماءْ
أنتَ فيه يائسٌ تشكو السَّقمْ
…
وَهْوَ منْ يأسكَ يستسقي الرّجاء!
غنّ هذا الموتَ ألحان الحياهْ
…
وأسقِ صحراوَيْكَ من خَمرِة حِسِّكْ
ما أرى الينبوعَ في هذي الفلاهْ
…
فألتمسهُ اليومَ في أعماقِ نفسِك!
(دمشق)
أمجد الطرابلسي
الصدى والنرجس
للأستاذ خليل هنداوي
مهداة إلى الأستاذ دريني خشبة
(نرجس كان فتى سليل إلهين من آلهة الماء، فأحبته (الصدى) فصد عنها وجفاها، فشكت أمرها إلى الآلهة (هيرا) زوجة (أبولون) فلم يذعن ولذا مسخه أبولون زهرة هي زهرة النرجس، فكانت على غراره مصوبة برأسها لأنه كان يقف على حوافي الغدران وينكس رأسه ليستجلي جماله في مائها. أما الصدى فأصابها الهزال حتى لم يبق منها إلا القدرة على ترديد الأصوات)
أيها الرجل! لا تصم سمعك عندما تناديك المرأة فهي شيء غير الحب والجمال
(خ. هـ)
نرجس
على وجنتيه يرفُّ الشباب
…
وتزهو على الفجر ألوانه
ومن مُقلتيهِ يشعُّ الضياء
…
كأن الكواكبَ أخدانه
يفيض على الكون من حسنه
…
كأن حمى الحسن أوطانه
تمثَّلَ في قلب كل الحسان
…
فكان الرجاء، وكان المثل
لكم تهادى عليه القلوب
…
وكم تتهادى عليه المقل
على كل ثغر يطوف أسمه
…
كأن أسمه - عندهن - الأمل!
رأته التي راعها حسنه
…
فراحت تذيع جواها به
وظلت تلازم محرابه
…
كراهب دير بمحرابه
فيا من رأى من جفاها الكرى
…
موزعة النفس في بابه!
لقد شفها منه هذا النفور
…
وصيَّرها الحب مثل الخيال
أيشعر رب الجمال الفتون
…
بما في قلوب المها للجمال
فقالت: لآتيه في خلوة
…
أبث هواي له في اعتزال
وأشكو وأبكي لما حف بي
…
فيرحم ما سال من أدمعي
وإمَّا أستخف كشفت الضلوع
…
وأعلنت ما تحتوي أضلعي
وأمَّا نبا قلت: قف يا فتى!
…
لتشهد عن كثب مصرعي
فيرسم في مقلتي حسنه
…
وتسقط شكواه في مسمعي
ويلبث مستعبراً مشفقاً
…
ويحنو كئيباً على مضجعي
وإذ ذاك أغفو على راحة
…
لأن حبيبي يقيم معي!
لقاء
رأته مُكباً على دافق
…
كمن تتراءى له خاطره
فما مدَّ عيناً لمن أقبلت
…
ولا لفت الطرف للزائره
ولكنها وجمت وهلة
…
تلملم آمالها الحائره
رأت وجهه في رقيق الغدير
…
يرى الحسن منه ولا يشبع
فقالت: أتيتُ بلا موعد
…
إلى حاجة لم تكن تُدفع
فكان على زهوه ذاهلاً
…
عن الصوت، يصغي ولا يسمع
أما راق عينيك حسني النضير؟
…
وهذا المقبل والمعتنق؟
لقد لثم الفجر ثغري الصغير
…
وضرَّج خدَيَّ لونُ الشفق
صفا كل معنى بجسمي الرشيق
…
وراق به كل شيء ورق. . . .
تسللتُ والفجر في غبشة
…
جرى في حواشي الدجى تبره
وجئتك يقتادني لاهب
…
من الوجد لا يتقى حره
أتغفو على الحب غفو الخلي
…
ومضناك يقتله صبره؟
هنالك غيد تطير الأماني
…
بهن لحسنك أنى ائتلق
ولكنني شبح هائم
…
أبيت على أرق أو قلق
تعال! فما بيَ إلا رمق
…
وإلا تباريح تُذكي الحُرق
أراك تميل ولا تطمئن
…
فأَهو عليَّ! ولا تبخل
ألا رشفة منك فيها الرحيق
…
تقطر من ريقك السلسل
ألا قبلة يا حبيبي النفور!
…
ولكنه سار لم يحفل!
في قمة الأولمب
وزفَّت إلى قمة الآلهات
…
وقد هالها منه ما هالها
وقصت على (هير) ما عالها
…
وأذهب في الحب آمالها
فحنت لها آلهات الأُلمب
…
وكل بكى أو تباكى لها
لقد لج بي الوجد يا ربتاه
…
فقولي له يعطني ما أشاء
أهم بتقبيله عنوة
…
فيزجرني زاجر الكبرياء
فنادوه حتى يلبي النداء
…
فزاد عتوَّا. . فكان الجزاء
نرجس والصدى
تعالين يا فاتنات الوجوه
…
تأملن في النرجس الهائم
// لقد مسخوا شخصه نرجساً
…
يظل على الماء كالحائم
يطيف بكل مسيل رقيق
…
ويحدق في حسنه الناعم
مهبك يا ريح زاكي الأريج
…
فمن أين يا ريح نفح العبير؟
حنت حين هبت على نرجس
…
شذاه العبير، هواء العذير
وقد بلَّل الماء أعراقه
…
فطاب النسيم ورق النمير
وأما الصدى فهي ولهى تجوب
…
من القفر كل بعيد المدى
وتحسب كل نداء نداه
…
فتمضي تجيب النِّدا بالنِّدا
لقد شحبت من أساها الصدى
…
فليس تردد إلا الصدى. . .
خليل هنداوي
-
من مشاهد دجلة في الشتاء
للأستاذ محمد بهجة الأثري
ويومٍ ببغدادَ في شَتْوَةٍ
…
كما تلسَعُ العقربُ الشائلهْ
فليس الدثارُ يقي بردَها
…
ولا النارُ مشبوبةً هائلهْ
ترى المرَء يَصْلى بكانونها
…
وتأخُذُه رجفةٌ خاذلهْ
لمحتُ بدجْلَةَ فيه أمْرَءًا
…
تجرَّدَ كالإِبْرَةِ العاطلهْ
فطوراً يُكِبُ على جسمه
…
كما تَرْحَضُ الرَّيْطَةَ الغاسلهْ
وطوراً يعومُ بتَيّارها
…
كما انْسابتِ الحيَّةُ الوائلهْ
يغوصُ كما الصخر يُلْقى بها
…
إلى أنْ تَظُنَّ بهِ النازلهْ
فيطفُو على مَتْنها جائِلاً
…
شبِيهَ الحَبَابِ طَفَتْ جائِلهْ
تَفَنَّنَ في عَوْمِهِ جاذِلاً
…
كراقصةٍ رقصةً جاذِلهْ
نظرتُ إليه وبي دهشةٌ
…
كما يَجِمُ القلبُ في الآزِلهْ
تعجَّبْتُ منه ومن حالتي
…
ولي حالةٌ عكسه حائلهْ
حرامٌ عليَّ سوى فائِرٍ
…
من الماء في القيظِ في القائِلهْ
تعجَّبتُ منه ولو راءني
…
لَقَهْقَهَ قهقهةً هازلهْ
كلانا عجيبٌ. فسُبْحانَ مَنْ
…
برا الناسَ شاكِلةً شاكِلهْ
ترى خَلْقَه ظاهراً جائراً
…
وباطنه حكمةٌ عادِلهْ
تدِقُّ عن الفهم أسرارُها
…
وإنْ بَلَغَ الرتْبَةَ الكامِلهْ
هو الكونُ أحْجَّيةٌ أعجزتْ
…
بنى الأرضِ قافلةً قافلهْ
عَلَوْاً لُجَّهُ الغَمْرَ من آدَمٍ
…
وغاصُوا وما عَرَفُوا ساحلهْ
بدائعُ دَلَّتْ على مُبْدِعٍ
…
وأَعْظَمُها القوّةُ العاقلهْ
فلا يَزْعُمَنْ جاهلٌ فِطنةً
…
فَيَجْحَدَ من جهله جابِلَهْ
ألا إنما العقلُ مُسْتَبْصِرٌ
…
فهل ينزِع النزعة الجاهلهْ؟!
(بغداد)
محمد بهجة الأثري
رغبة
للشاعر الألماني شيللر
للسيد عارف قياسه
من يستطيع أن يتصور غبطتي وابتهاجي، حين أجد مخرجاً من هذا الوادي، حيث سحب الضباب الصفيقة تنعقد في وجوه، وتتلبد على عدوتيه، وأقذف بنفسي في الفضاء الرحيب
ثمة تصافح عيني هضبات ضاحكة مستبشرة، كللتها خضرة أبدية، وزينتها فتوة سرمدية
وا حسرتاه! ليتني عصفور! ليت لي أجنحة! إذن لدوّمت ثمة ورّنقت فوق هاتيك الربى وتلك الهضبات
فلطالما رنت في أذني ألحان علوية، ليس لي بها من عهد، أفلتت من موسيقى ذلك العالم الطرب المفراح
ولطالما بلغني أريجه العبق الفواح، ممتطياً أجنحة النسيمات الرقيقة، فسطع في أنفي
ثمة أرى أثماراً ذهبية اللون تتألق خلال الأوراق الكثيفة ونباتات تتلألأ بالنوار، لا تخاف قر الشتاء ولا صبارته
تالله ما أرغد الحياة وأهناها فوق هاتيك الربى حيث تذهبها بآرادها شمس أبدية!
ولكن أمواج تيار جياشة مزبدة، تخطر الاقتراب عليّ، وتمنعني من الدنو، وتملأ قلبي فرقاً ورعباً
فالزورق ينوس قرب الشاطئ ويرجحن، ولكن وا حسرتاه ليس له من ربان يدير دفته! وماذا يضير؟ فلنلجه في غير وجل ولا إشفاق، فإن شرعه لمنشورة. . . فلنأمل ولا نقنط، ولنجترئ ولا نفرق، ومن يرج النجاة فليسلك مسالكها
إن أعجوبة فريدة تستطيع أن تنقلني إلى ذلك العالم الجميل المفعم بالأعاجيب والمليء بالمعجزات.
(حماه - سوريا)
عارف قياسه
القصص
قصة شرقية من كاتلين رودس
زبيدة
للأستاذ دريني خشبة
من دأب الزائرات في بعض الممالك الإسلامية أن يلبسن كَوْثاً أحمر يخلعنه لدى باب حجرة الزائرين ليراه الرجال فلا يدخلوها ما دمن فيها. وهذه قصة الزوج المسكين صادق علي، الذي رأى الكوث الأحمر فلم يستطع أن يلج باب الحجرة ليلقى زوجه بعد سفر طويل عبر الصحراء الملتهبة المتلظية، وما حل بصاحب الكوث من دمار
زبيدة ابنة الصائغ فتاة جميلة بارعة الحسن ساحرة اللفتات، تميس كالغصن الرطب في الروضة الفيحاء، وتبسم كالزهرة الناضرة في الخميلة الغناء. . . لم تكد تبلغ من العمر سنتها الثانية عشرة حتى حبسها أبوها في ظلام الخدر، وأسبل على بدرها السافر خمار الأسر، كما تعود الشرقيون أن يفعلوا ببناتهم إذا ما بلغن هذه السن المبكرة، التي تعد فيها الفتاة لزواج مبكر كذلك، بينما يكون بناتنا (في إنجلترا) يتلاعبن في الحدائق، ويتثقفن في المدارس، دون أن تبدو عليهن بداوات الأنوثة الفائرة الثائرة، التي هي أول إرهاصات الزواج
وكان جميع موسري المدينة ينتظرون اكتمال شباب الفتاة ليخطبوها من أبيها لأبناهم، وكان كل منهم حريصاً أشد الحرص على أن يفوز بها لأبنه دون جميع الناس. وكانت حمرة الخوخ التي تتأرج بالعطر من خديها، وتفتير النرجس الذي ينفث السحر من عينيها، ثم هذه القسمات التي تتحوى حول فمها الدقيق الرقيق. . . كان جميع ذلك مخلوقاً للحب، موقوفاً على الهوى، غير ميسر إلا لشباب غض مثله ريان كما إنه ريان
وتقدم الأباء إلى الصائغ يخطبون زبيدة، ولكن الصائغ كان يغلو في تقدير مهرها ليتخلص ممن لا يراه كفءاً لها، وطمعاً منه ألا يكون أحد قد قبض لأبنته مهراً أكثر من مهر زبيدة. ولم لا؟ أليست زبيدة أجمل فتيات المدينة وأرشقهن وأوفرهن فتنة وأخفهن روحاً؟ وهي مع ذاك كاتبة قارئة تحفظ قدراً غير قليل من آيات الله وحديث الرسول وقصائد الشعراء، ثم
هي تجيد الإنشاد والغناء حتى لا يغني مثلها بلبل، ولا يجيد أن يرسل مثل نغمها ناي ولا عود. . . أضف إلى ذلك كله مهارة فائقة في الحياكة وأشغال الإبرة وشواغل المنزل. . .
وكان أغنى أغنياء المدينة - صادق علي - رجلاً شيخاً، أشرف على الستين، وكان صديقاً للصائغ، يقضي كل يوم شطراً من فراغه عنده؛ وكانت أسعد لحظاته تلك التي يرى فيها زبيدة الصغيرة تلهو بعرائسها أو تبعث بِبِلْيها، وهي مشرقة أمام الدكان بين أترابها كالقمر الحالم بين الأنجم الحَسْرى. . . ولم يكن أحد يفكر في أن هذا الشيخ الذي أوهنه الكبر قد ثوى في فؤاده من حب زبيدة ما لم يثو في أفئدة الشبان اليوافع؛ وأنه صمم على أن يشتري هذا الجمال وذاك الكمال بذهبه الذي لا يكاثره في ضخامته أحد. . . فلما تقدم خاطبا زبيدة إلى أبيها، هش الرجل وبش، وعده فخراً أي فخر أن يصهر إلى صادق علي ذي الكنوز والضياع والأملاك الشاسعة، والقصور المنيفة العامرة
وذعرت زبيدة أيما ذعر لما صعقها أبوها بهذا النبأ. وكيف لا تذعر وهي تعرف الرجل أحسن المعرفة، وطالما قدمت له أقداح الشاي المعطر، وفناجيل القهوة العربية، في دكان أبيها؟ وكيف لا تذعر، وهي يعز عليها أن يذبل شبابها الفينان، في هاتين اليدين المثلوجتين، وتحت ظلال تلك الشيبة الناصعة، وهذا البدن المهزول المعروق. . . إن سنيها الثلاث عشرة لتنوء تحت كلكل السنين الستين التي يرزح تحتها هذا الرجل. . . وإن حمرة الخوخ وتفتير النرجس وقسمات الخدين وجنة بدنها الخصب الناضج، لأعز من أن تشرك صادق علي في قبره القريب! فلم لا تفزع الفتاة من النبأ المزعج الذي فجأها به والدها في أمسية شقية فتقول له:
- أبتاه! عمرك الله ماذا تقول؟ ما أظنك إلا ساخراً بي! إن صادق علي رجل عادل، وأحسبه لا يرتضي هذا الظلم الذي يوشك أن يحل بي، فهو شيخ عجوز طاعن في السن، وأنا بعد فتاة صغيرة لم تكد تنقضي طفولتي، فأين أنا وأين هو. . . لا لا يا أبي. . .
فيتلطف أبوها ويقول: (هذا حق، إلا أنه يا ابنتي رجل موسر غني ضخم الثراء، وقد مهرك مهراً لم تمهر بمثله فتاة في المدينة؛ وهو مع هذا يحبك وسيحرص عليك كروحه، وحين تصبحين زوجة سيحترمك الجميع وتكونين على رأس السيدات قاطبة. . . ثم هو برغم سنه قوي فتي مفتول العضل، غض الإهاب موفور الشباب. . .
فتعبس الفتاة وتقول شاكية: (أوه يا أبي! ولكني لا أستطيع أن أحبه. . . هل ضقت بي ذرعاً يا أبي فتريد أن تقذف بي ولما أستمتع بعد بشبابي؟! دعني أعش معكم قليلاً يا أبتاه! دعني أستمتع بالشباب الحلو، وأهنأ بأفاويق الصبا الغريض!
وأتقد عينا الأب الجشع بالغضب، وهم أن يبطش بزبيدة المسكينة التي تقدمت في سذاجة وخوف، فطوقت أباها بذراعيها اللدنتين، وأسندت رأسها الصغير إلى صدره الكبير، وانطلقت تبكي
- أسكتي يا ابنتي! إن الفتاة العاقلة المهذبة هي التي لا تضطر أباها إلى أخذها بالشدة، بل ما على الوالد إلا أن يأمر، وما عليها إلا أن تطيع. إنني لست كهؤلاء الآباء الذين نشأوا أبناءهم على احترام العصا، ولكنني أرجو ألا أضطر إليها إذا ركبت رأسك ولم تصيخي ولم تسمعي!
وأزلزل قلب الفتاة، وذكرت ما كان يعاملها أبوها به من اللطف والظرف والرقة والرفق، وأنه ما ساءها قط بضرب ولا تأنيب، وأنها، وما تزال، كانت كل شيء له في هذه الحياة، لأنه لم يكن له ولد غيرها، وأنه طالما جلب لها اللعب، وترضاها بالدمى. . . فسكنت وقالت:(عفواً يا أبي. . .) وسر الرجل التاجر، وقبل أبنته وقال: (الآن أنت ابنتي حقاً. . . أنت زبيدة المؤدبة المهذبة المطيعة. . . غداً يحضر صادق علي فينثر ذهبه تحت قدميك، ولا يمضي شهر حتى تزفي إليه
وكان لزبيدة خادمة نوبية أبنوسية السواد، وكانت بها حفية وعليها عطوفا، فأهرعت إليها زبيدة تقول:
- فاطمة! فاطمة! هل علمت؟ لقد أمر أبي أن أتزوج من صادق علي العجوز الغني الأرمل الذي سنه أضعاف سني؟! وهو يقول إنني سأزف إليه قبل شهر، فهل رأيت؟ آه يا فاطمة أنا لا أطيق هذا! ساعديني بربك حتى أنجو من هذا العذاب
- آه يا صغيرتي العزيزة! لا بد أن تتم مشيئة أبيك! حقاً إن صادق علي رجل عجوز أرمل، ولكنه غني واسع الغنى، وستنعمين عنده بما لا تحلم به فتاة!
فجحظت عينا زبيدة، وقالت للنوبية المشئومة:
- حتى أنت يا فاطمة! وسري الذي ألقيته إليك أمس؟ هل نسيته؟
فوضعت النوبية إصبعها الأبنوسي في فمها المرجاني، وأنشأت تقول:
- صه! أسكتي يا صغيرتي! إياك أن تنبسي بهذا الهذر بعد فقد يذهب به طائر سوء إلى من تكرهين أن يعلمه. . . حقاً، أنا لم أنسى ما قصصت عليّ من غرام عمران الشاب صاحب الناي. . . ولكن هذا العبث لابد أن ينتهي الآن، ويجب ألا تلتقيا بعد اليوم!
- بيد أنني أحبه يا فاطمة! إنه جميل ويافع. . . وعزفه أحب إليّ وأحلى من غناء النسيم في أفنان شجرات اللوز، وصفاء عينيه أوقع في النفس من صفاء الماء النمير في الغدير. . . إن له لملمساً ناعماً كأوراق الورد يا فاطمة! أواه لو أنني زففت إليه بدلاً من صادق علي!
- حسبك! إنك إذن كنت تلقينه! والله لو علمت بهذا لفضحتك عند والدك منذ أسابيع!
وهكذا اسودت الدنيا بأسرها في فؤاد الفتاة، فلقد كانت ترجو أن تعينها فاطمة على بلواها، فانعكست الآية، وأنتشر ليل أحزانها من وجه النوبيه البغيض
لقد أحبت زبيدة عمران، وأحب عمران زبيدة، لأنهما نشآ في مهد الطفولة الناعم، وشبا على غرار الشباب الغريض، فبارك الله قلبيهما، ومشى عليهما بيده الرحيمة الطاهرة. ولما وقفا مرة قبيل حجاب زبيدة، تحت ظلال أشجار البرتقال في حديقة بيت الصائغ، نقل الأرج الحلو شذى حبهما من قلب إلى قلب، وعرفا لأول مرة سر الوجود، ونظر بعضهما إلى بعض نظرات عميقة جديدة مغرورقة بالدموع، تنسكب من أغوار الفؤاد لا من أطراف العين. . . وظلت أشجار البرتقال هيكلهما الحبيب، يتناجيان في ظله ويتشاكيان، هي في الثالثة عشرة أو في فجر الرابعة عشرة؛ وهو في الثامنة عشرة، أسود العينين، مسبل الشعر، وضاح الجبين؛ ثغره الباسم كالأقحوانة، وخده المكسو بالخمل مهيأ للقبل، وشبابه اليانع كنضرة الحديقة، وماءة حسنة تسكب نداها في روح زبيدة، القسمة الوسيمة، المفتان الحسان التي لها هذا الفم وذاك الجسم. . . تبارك الله!. . .
يا للقضاء الساخر! لقد قطف الحبيبان جنا القبلة الأولى. . . القبلة الشهية السحرية التي غيرت معالم الأرض، ودارت برأسيهما حولها. . . في صبيحة اليوم الأسود الذي تكلم فيه الصائغ مع فتاته، فصعقها بالنبأ المشئوم
لقد باتت زبيدة ليلة يا لها من ليلة، تتقلب على فراش من الشوك، وتجتر صنوفاً مهلكة من الهموم، وتطيف برأسها المتقد شهب من الأفكار تقذف روحها بالصواعق. . . حتى إذا
انبلج الفجر، وأنفلق الصباح، وثبت كالقطاة من سريرها الكئيب وطوت الدرج دون أن تنتعل حذاء يقي قدميها المعبودتين، وذلك مخافة أن توقظ أحداً من النُّوام الأشقياء، ثم انفلتت إلى الحديقة قبل أن يهتف المؤذن هتاف الصباح الرهيب:(الله أكبر! الله أكبر!) وقبل أن تنتثر أوراق الورد على جبين المشرق. . . ومضت إلى الهيكل. . . بيت المقدس الحبيب. . . إلى شجرات البرتقال، ووقفت ثمة ترتقب عمران الذي كان منها على موعد. . . ولم تبال بقطرات الندى التي كانت تهل معطرة بفغمة الورد، وعبير أزهار اللوز، وروح الزئبق والياسمين، لأنها ملائكة الحب تجبر القلوب الكسيرة، وتمسح الدمع من عيون العشاق. . .
وأقبل عمران في ظلام البعد يسكب في آذان الطبيعة النائمة موسيقاه، ويساعد المؤذن التقى بنايه الفردوسي، فتصحو البرايا وتهتف مع المؤذن ومع عمران:(الله أكبر)
وروع عمران ما رأى من وجوم حبيبته، وما لمح من لؤلؤ دمعها الذي يوشك أن ينهمر:(ماذا؟ زبيدة! ما لك يا حبيبتي؟ لقد كنا بخير أمس! فماذا؟ ما بالك باهتة هكذا كأننا في أخريات رمضان؟) ولفت زبيدة ذراعيها الحبيبين حول عنق فتاها، وجعلت تصعد آهاتها وتقول:(آه يا حبيبي! لقد كان ما لم يكن في الحسبان. لقد خطبت! وقضى أبي أن أزف إلى صادق علي العجوز الأرمل بعد شهر من الزمان!)
وتصدع قلب الوامق المحب، وبكى، وبكت معه زبيدة؛ وطفقا ينعيان أحلامهما، ويتغنيان آلامهما، ولا يدريان ماذا يصنعان. وكان الفجر الحزين يبكي معهما بدموع الندى
وجلسا على العشب المبلل ساعة، وزبيدة نائمة غارة في صدر حبيبها، وكلما حاول عمران أن يتكلم انحبس منطقه وتكلمت جفونه، ولم يملك إلا أن يغمر حبيبته بالقبل، يطبعها في شعرها المغدودن، وفوق جبينها الشاحب، وعلى صدرها المرتجف، حتى ذر قرن ذكاء، وآذنتهما بالفراق، فهب الفتى المتبول يعانق زبيدة وزبيدة تعانقه، ويقبلها وتقبله. . . ثم افترقا. . . هي كالشبح في ظلال الأشجار إلى القصر الرهيب، وهو كسير القلب، مهيض الجناح. . . إلى. . . الصحراء، لا يدري أيان يذهب
وجعلوا يسمنون زبيدة فيقدمون لها كرات الشهد معجونة بالأفاويه، ويدسمون لها السمان، ويبالغون في انتقاء الآكال. . .
ولكن زبيدة مع ذاك جعلت تشحب وتشحب، ويذبل جسمها ويضوي، وأبوها القاسي يرى ذلك فيحزن، ثم يواسيها بكلمة جافة فتبدي له الرضى. حتى إذا كانت ليلة الزفاف، وخرجت الفتاة من الحمام، وسيقت إلى سجن زوجها، أخذت تودع الحديقة عن كثب، وترمق هيكل الحب المقدس تحت ظلال البرتقال، وتذرف العبرات الحرار، وفاطمة الخبيثة تشهد ولا تتصدع، بل تبسم وتتفكه. . . وتزغرد وتغني. . .
ومضت الأيام. . . ولم يأل صادق علي جهداً في ملاطفة زبيدة ومداعبتها، ولم يترك حلية من ذهب أو ماس أو لؤلؤ إلا اشتراها لها مهما كان ثمنها. . . ولكن الفتاة كانت مع ذاك تشحب وتشحب، ويشتد شحوبها. . . لأنها لم تنس عمرانها الفتى الجميل الذي زاد جماله وتضاعف حبه بازدياد كراهتها لصادق علي. . .
ولم يكن الشيخ العجوز يسمح لزبيدة بمغادرة باب القصر. . . حتى ولو إلى الحديقة الواسعة الفيحاء التي تحيط به، فكانت تصعد إلى السطح، لتتنسم أخبار حبيبها في أديم السماء، ولتنشق عبير الحب القديم على أجنحة الذكريات!
فبينا هي على السطح يوماً إذا بها تسمع موسيقى حلوة في حديقة القصر، وإذا الموسيقى إرنان ناي كناي حبيبها. . . فأطلت لترى من صاحب الناي، فوجدت بستانياً يجمع الأوراق المتناثرة فوق عشب الحديقة. . . وكأنما جذبته روحها اللهفانة فرفع رأسه إلى السطح. . . والتقت الأعين. . . وعرف كل حبيبه
لقد عمل عمران بستانياً لدى صادق علي. . . لينشق الهواء الذي تنشق منه سالبة لبه، وساكنة قلبه. . . وهو مع ذاك لا يحلم بلقائها. . .!
ودارت الأرض مرة أخرى. . . واستيقظت آمال وأحلام!
وكان يحس عمران هذه اللحظة السعيدة التي يرى فيها كل أصيل وجه حبيبته، وتلتقي عيناه بعينيها. . . لكن الحب أجرأ من هذا وأشجع. . . وهو لا يبالي أن يسلك سبل الجحيم ليصنع ما صنع يَاوْلو وفرنشيسكارا. . . فتبدلت النظرة فصارت ابتسامة ثم تمتمة، ثم تلويحاً بأعواد من الياسمين. . . ثم محاولة لقاء. . .
ولقي صادق زوجته فشدهه منها تبدل حالها وتدفق الدم الشاب الفتي في خديها. . . وأخبرها أنه مزمع سفراً طويلاً في الصحراء قد لا يعود منه قبل أسبوع، لأن الشيطان
نزغ بين نفر من أقاربه، فهو ذاهب لإصلاح ذات بينهم، وإحلال الصفاء محل الجفاء فيهم؛ ثم أوصاها بالقصر، وحذرها - في تلطف - من مغادرة بابه، حتى يؤوب. . . ووعدته أن تكون عند ظنه بها، وفية له، حفية به، عاملة على ما فيه رضاه!
وسافر صادق علي. . . واستطاعت زبيدة أن ترسم الخطة للقاء عمران. . . وكلمته حين أمنت مكر الخدم وقت غدائهم، خلال (مشربية) مشرفة على الحديقة، فاتفقا أن يزورها في زي امرأة (!) وأن يعد لذلك كوثاً أحمر وملاءة سوداء ونقاباً. . . وأن يتخذ اسماً مستعاراً، وليكن (مرسينه). . . ولم يكن أحد من الخدم يعرف من هي هذه السيدة مرسينه التي تريد لقاء سيدتهم، ولكنهم لم يشكوا قط في إحدى زائرات القصر، ولهذا كانت الخادم، بعد إذ تقدم أكواب الشاي المعطر، أو أقداح القهوة العربية، للسيدة مرسينه، تنسحب من الطابق كله. . . فيخلوا الجو للحبيبين المشوقين!!
ومضى الأسبوع على أحسن حال بينهما من تساقي الحب وتشاكي الهوى، وبلّ أوار القلوب، ثم جاء رسول من لدن صادق علي يحمل رسالة من مولاه، أن قد شجر خلاف آخر، وأنه قاض أسبوعاً آخر عند أهله. . .
وفرح عمران أيما فرح. . . وطفر قلب زبيدة. . . وما كان أجمل عمران وهو يبث حبه إلى فتاته، وهو يعانقها في شدة وحرارة ويقول:(أسبوع أخر؟ وما سبعة أيام يا زهرة حياتي وننفصل بعدها، وتقبل الشفتان الكريهتان فتقطف القبل الحلوة المعسولة من فمك الرقيق الدقيق، وينحط الصدر البغيض الميت فوق صدرك الناهد الأغيد، وتنقلب السلاسل الذهبية التي تربط قلبينا بأغصان الورد فتؤذي قلبك بأصفاد من حديد؟!)
بيد أن صادق علي أنجز أعماله في ثلاثة أيام أو نحوها، وأقبل يحث المطي عبر الصحراء، فوصل قبل ميعاده. . . وصل والمحبان يرشفان كؤوس الهوى، ويتبادلان سلافة الحب، فلما أقبل الزوج مشوقاً إلى لقاء زوجه، نظر فوجد الكوث الأحمر لدى الباب، فلبث قليلاً، وجعل يروح ويجيء، وينتظر بجدع أنفه أن ينصرف الزائر فلا ينصرف. . ثم يسأل الخادم فيعلم أنها امرأة تدعى مرسينة (تطيل اللبث يا مولاي عند سيدتي، وتحضر إلى هنا كل يوم. . . و. . . و. . .)
ويمضي الرجل المسكين فيدخل إلى الحمام ليذهب عنه غبار السفر
ويصعد الخادم فيرهف سمعه، وينصت ليسمع حديث من في الغرفة. . . ولكنه بدلاً من أن يسمع حديثاً ترن في أذنيه قبل فضية، وآهات موجعات. . . ثم ينصت. . . فيسمع شكوى ونجوى. . . وسباباً مقذعا، فيعلم السر. . . ويسقط في يده:(تالله لو علم مولاي لذبح حبيبها أمام عينيها)
وفضل الخادم أن ينقذ الموقف، فنقر بإصبعه على الباب واستوى عمران وأستتر. . .
- أدخل!
- سيدتي. . . لقد عاد مولاي صادق علي فجأة. . . وهو يريد أن يراك! وارتبكت زبيدة، وأسقط في يدي عمران
- لا بأس. . . أذهب أنت!
وتبادل الحبيبان القبل مع ذاك، ثم فتحت له زبيدة شباك (المشربية) فانفتل منه وقد لبس الكوث الأحمر
وخرجت زبيدة لتلقى زوجها وهي مطمئنة آمنة. . . ولكن ساعة بأكملها مضت دون أن يخرج من الحمام. . . ومضت ساعة أخرى. . . وأرخى الليل سدوله. . . وأمرت الخدم فأوقدوا السرج. . . وآثرت أن تذهب إلى الحمام لتلقى زوجها. . . وما كادت تفعل حتى برز صادق علي من إحدى الغرف وقد بدل ثيابه، فعانق زبيدة عناقاً حاراً وطفق يغمرها بقبل لا جنية ولا مشتهاة!
- قط ما عرفت الشوق كما عرفته في هذا السفر يا زبيدة!
-. . .؟. . .
- لقد أحضرت لك هدايا وألطافاً جمة. . . يا غلام! أحضر السلال والحقائب
وأحضر الغلام السلال والحقائب، وطفق صادق علي يحل الأربطة، ويخرج عقود اللؤلؤ وأقراط الذهب وأساور الفضة، ثم يضع كل ذلك موضعه من عنق زبيدة وجيدها وأذنيها وذراعيها. . . ثم فتح حقيبة وأخرج ثوباً ثميناً موشى فخلعه عليها فبدت فيه كامرأة هرون الرشيد!
- هذا جميل. . . أشكرك
- وأجمل منه الهدية التالية. . . يا غلام. . . أحضر السفط! وأحضر الغلام السفط الكبير
فقال صادق علي:
- أما والله لا يفتح السفط إلا زبيدة. . .
فارتجفت يدا زبيدة كأن فيهما كهرباء، وفتحت السفط، ثم جعلت تخرج ما فيه من طرف وتحف. . .
ولكنها اقشعرت فجأة، حينما اصطدمت يداها بكوث أحمر. . . ثم بثوب فيه شيء ثقيل. . .
ماذا. . . وا حرباه!! رأس عمران الجميل. . . الرأس الذي كان يرسل عينيه الساحرتين الدعجاوين في عينيها الوامقتين المشغوفتين. . .! الرأس الذي كان لسانه يصوغ أحلى عبارات الغزل! الرأس الذي كان فمه ينفخ في الناي فترقص الملائكة. . .
- زبيدة!! أحزينة أنت!
- اقتلني. . . اقتلني يا صادق!
- لا. . . بل أعاقبك بأشد من القتل! ستعيشين لي! انظري! هاتان الشفتان المرتعشتان ستنطبقان على شفتيك برغمك. . . لا شفتا عمران! وهذا الوجه المكلثم المجعد الشائه سيزعجك دائماً. . . وهذا الصدر الثقيل سيضايقك أبداً. . . ستكونين لي بعد عمران يا زبيدة! لن يشركني فيك أحد بعد اليوم! أليس كذلك؟ ها ها. . . ها. . .)
ولفت الدنيا برأس زبيدة، ولكن فكرة طافت بدماغها فجأة فجثت تحت قدمي صادق علي، وطفقت تتوسل وتتضرع، وتلف يديها على وسطه، حتى إذا لمست خنجره، انتزعته بقوة، ثم أغمدته في صدرها. . .
- لا لأن أكون لك أيها المسخ، وسأكون إلى الأبد لعمران. . . سأضل وفية لك يا عمران. . . لك وحدك. . . يا. . . عمران!. . .
الشباب للشباب يا شرق. . . وإلا. . . فالكوث الأحمر يعمل عمله
دريني خشبة
البريد الأدبي
جوائز أدبية مصرية
تنشر الرسالة في هذا الباب كثيراً من أنباء الجوائز الأدبية التي ترتبها مختلف الأمم لتشجيع الآداب والعلوم، ولكنها لم تستطع أن تنشر حتى اليوم أنباء (الجوائز الأدبية المصرية) ذلك لأن هذه الجوائز لم توجد مع الأسف حتى اليوم؛ بيد أنه مما يدعو إلى الغبطة أن تكون وزارة المعارف قد فطنت أخيراً إلى هذا النقص، فأمامها الآن مشروع قدمه منذ حين صاحب السعادة الدكتور حافظ عفيفي باشا سفير مصر في لندن يقضي بإنشاء خمس جوائز أدبية تمنح للمتفوقين من كتاب العربية في الآداب والعلوم؛ وقيمة هذه الجوائز ألف جنيه لكل منها مائتا جنيه قد تزاد إلى مائتين وخمسين، ويمنح منها أربع للمصريين، وترصد الخامسة لأبناء الأقطار العربية الشقيقة. ولم توضع نصوص المشروع النهائية بعد، ولكن هناك تفكيراً في أن يكون باب التشجيع والمنافسة مفتوحاً لكل كتاب العربية من مختلف الأقطار في جميع الموضوعات الأدبية العامة مثل الشعر وتاريخ الأدب والقصة والقطع المسرحية وأمثالها؛ وأما الموضوعات المصرية المحضة فتقصر المباراة فيها على المصريين. وعلى أي حال فإن الغاية الأساسية من ترتيب هذه الجوائز هي تشجيع الآداب العربية بصفة عامة، وهي غاية نحمدها ونرجو أن توفق الجهات المختصة إلى تحقيقها. ذلك أن الأمر لا يتعلق هنا بوزارة المعارف فقط، ولا يكفي فيه أن ترتب جوائز خمس؛ فهنالك الجامعة المصرية وكلياتها المختلفة، وهنالك الجامع الأزهر وكلياته المختلفة، وهنالك مختلف الهيئات العلمية والفنية، فهذه كلها يطلب إليها أن ترتب الجوائز الأدبية والعلمية. وإذا كانت وزارة المعارف تعتمد في كل عام نحو عشرة آلاف جنيه لتشجيع الحركة المسرحية، وتغدق من هذا المبلغ معظمه على الفرق التمثيلية الأجنبية، فإنه يكون من التقتير الواضح أن ترصد ألف جنيه فقط لتشجيع الحركة الأدبية. لذلك نحب أن نعتبر مشروع الجوائز الحالي بداية فقط نرجو أن تثمر ثمرها المرغوب، وأن تؤازرها جميع هيئاتنا العلمية، فترتب كل جوائزها لتشجيع التفكير العربي في مختلف نواحيه
إغلاق مقهى أدبي شهير
من أنباء باريس أن مقهى (كافيه ده كرواسان) الشهير قد أغلق نهائياً بعد أن لبث مدى
تسعين عاماً منتدى للأدباء والصحفيين. وكان هذا المقهى التاريخي يقع على زاوية شارع مونمارتر عند التقائه بشارع كرواسان الصغير؛ وقد اشتهر منذ أواخر القرن الماضي بأنه مقهى الأدباء الناشئين. ثم غدا قبيل الحرب مجمع الصحفيين يحتشدون فيه صباحاً ومساء ليكتبوا أخبارهم أو مقالاتهم؛ وهكذا كانت تحرر فيه معظم الصحف الباريزية، وتعقد فيه الاجتماعات الأدبية والصحفية. وكان صاحبه مسيو فيدمان أديباً يشرف على كثير من الاجتماعات الأدبية التي تعقد في مقهاه. ومما هو جدير بالذكر أن جان جوريس الكاتب الفرنسي والزعيم الاشتراكي الشهير قتل في أغسطس سنة 1914 أثناء جلوسه في شرفة هذا المقهى
وقد تحول تيار الأدباء والفنانين في العهد الأخير من مونمارتر إلى مونبارناس، وأخذت مقاهي مونمارتر ومطعمها الشعبية تواجه الأزمات نظراً لانصراف أصدقائها القدماء عنها، بينما أخذت مقاهي مونبارناس، ومعظمها جديد، تزخر بعملائها الجدد، وقد عرفت مقاهي هذا الحي الباريزي الشهير دائماً بأنها مجمع الفنانين، ولكنها اليوم تغدو أيضاً مجمع الأدباء والكتاب من كل ضرب
اقتراح إنشاء جامعة عراقية
أقام أدباء بغداد حفلة تكريم للدكتور زكي مبارك فألقى في تحيتهم خطبة جاءت في ختامها الكلمة الآتية:
(لقد رحلت عن مصر وأنا مصمم على الاستبسال في الدعوة إلى إنشاء جامعة عراقية، فلما وردت العراق لم أجد من يشجعني على تحقيق ذلك الأمل النبيل، وصارحني بعض الرجال بما يعترض إنشاء الجامعة العراقية من عراقيل
فأنا أنتهز هذه الفرصة لتسجيل هذه الرغبة بطريقة علنية، وأصافح بيمناي أنصارها الأوفياء، وأدعوكم إلى الكتابة عن هذه الأمنية في كل يوم، والكلام عنها في كل مجتمع، والإلحاح بها على جميع الوزراء. وأعلموا أن من العار أن تخلو بغداد من جامعة وباسمها الخالد تتعطر الأفواه في جامعات الشرق والغرب
إن الحجة في أيدينا أيها الزملاء، فعندنا نواة الجامعة العراقية، عندنا النواة السليمة لأربع كليات، فلنبادر بتأسيس الجامعة العراقية بصفة رسمية، ولنبادر بخلق الصلات العلمية
والأدبية مع الجامعة المصرية وجامعة باريس، ولنقرر منذ هذه الساعة أن نفتتح الجامعة بمهرجان مشهود في آذار المقبل، شهر الأزهار والرياحين
أيها الصحفيون الشرفاء
لقد كنتم عند ظن الوطن الغالي في ظروف كثيرة، فشدوا من عزائمكم لنصرته هذه المرة، وحققوا أشرف غاية لحملة الأقلام وهي إعزاز العلوم والآداب والفنون
أيها الزملاء
لقد كرمتموني بهذا الاحتفال الرائع، فهل تعرفون متى أرد لكم هذا الدين النبيل؟
سأرده يوم يتقرر بفضل مسعاكم إنشاء الجامعة العراقية، ويومئذ لا أكتفي في تكريمكم بألوان الحلوى وأكواب الشاي، وإنما أعقر لكم الذبائح من عرائس الشعر الجميل)
وقد نوهت جميع الجرائد العراقية بهذه الدعوة التي صادفت هوى من أنفس الحاضرين وفيهم أقطاب التعليم بوزارة المعارف العراقية
المهرجان الملكي لجماعة الأسبوع الصحي
رأت جماعة الأسبوع الصحي أن تقيم لمناسبة زواج جلالة الملك الميمون مهرجاناً في إبان الزفاف، تسهم فيه بنصيبها في أفراح الأمة، وتعلن عظيم سرورها بذلك الأملاك الكريم. وقد تألفت من بين الأعضاء القائمين بهذا المهرجان لجنة أدبية لتدعو الشعراء والكتاب والخطباء والزجالين إلى مبارزة بيانية تقام في مكان وزمن يعلن عنهما فيما بعد. وإن في التقدم إلى تلك المباراة تسجيل فخار وشرف لما لموضوع القول من جلال الخطر، وسمو الشأن، وكرم المنصب، وشرف المحتد، وعلو القدر بين العالمين
وإن ميدان البيان البليغ لمتسع، شباب رائع فتي، وعقل ألمعي، وقلب تقي، وخلق عظيم، ودين مكين، قد ضرب أروع الأمثال للشباب الطاهر، فسارع إلى الزواج، وهو سنة الإسلام ونصف الدين، وبادر إلى إحصان، ليكون أسوة حسنة لشباب مصر في إجابة دعوة الرسول الأمين
وإن اللجنة لتتقدم داعية رجال الأدب إلى تلك الحلبة الطاهرة المباركة ليتقدموا إليها بشعرهم، وخطبهم، وكتاباتهم، وأزجالهم وأدعيتهم الضارعة إلى الله تعالى أن يبقي مليك مصر خائنة الأعين وما تخفي الصدور
ومن يقع الاختيار على كلامه يكن له حق إلقائه في يوم المهرجان، أو يسجل في كتاب يرفع إلى مقام المليك، وينشر بين الناس تذكاراً خالداً. وستضع اللجنة جوائز مختلفة لمن يحوز قصب السبق في المباراة. وإن أقصى ميعاد يرسل فيه الأدباء ما تجود به قرائحهم هو يوم الاثنين 10 يناير سنة 1938
وترسل إلى الأستاذ محمد عبد الجواد المدرس بدار العلوم العليا بالمنيرة بمصر
مقرر اللجنة
محمد أبو زهره
المدرس بكلية الحقوق
معركة الفاشستية والديمقراطية
يتخذ النضال الدولي يوماً فيوماً صورة صراع واضح بين معسكرين من المبادئ الخصيمة: الفاشستية والديمقراطية؛ وهذه الظاهرة تستغرق اليوم اهتمام المفكرين والساسة في جميع الأمم.
وقد ظهر أخيراً كتاب يتناول هذا الموضوع بقلم الكاتب السياسي الأمريكي هاملتون ارمسترنج عنوانه (إما نحن وإما هم) ونحن يقصد بها الكتلة الديمقراطية، وهم يقصد بها الكتلة الفاشستية. ويستعرض الكاتب ظروف هذه المعركة بقوة ووضوح، وهو يدرسها ويستعرضها منذ أعوام في مجلة الشئون الخارجية الأمريكية التي يشرف على تحريرها ببراعة. ومن رأيه أن توجد اليوم بين هاتين الكتلتين من المبادئ هوة لا يمكن إجتيازها، وإن إحداهما ستقتل الأخرى بلا ريب؛ وكل ما هنالك هو السعي لمعرفة من يكون الظافر. فهل تنتصر الشعوب الحرة وتلك التي تريد أن تستعيد حريتها، أم تنتصر عصبة الفاجرين الحمقى الذين يريدون أن يجعلوا من البشرية أداة حية لخدمة الحكم المطلق؟
ويدحض الكاتب بقوة الزعم الذي تستتر وراءه الفاشستية منذ حين وهو أنها تخاصم الشيوعية وتعمل لسحقها؛ ومع أنه ليس بالاشتراكي ولا بالشيوعي فإنه ديموقراطي في تفكيره مؤمن بمبدأ سيادة الشعب وحكومة الشعب. وهو يرى أن الحرية هي أسمى ما يمكن أن يتمتع به شعب حر، ولكنه يحمل على تلك الديمقراطية البرجوازية التي تعترف بعجزها
عن تهيئة الأعمال للعاطلين وفتح الأسواق للأعمال والتجارة، ومحاربة الصناعات المحتكرة، وتخفيض مستوى العيش؛ مثل هذه الجماعة أو الحكومة ليست جديرة في نظره بالبقاء والحياة، وليست بالأخص جديرة لأن تخاصم وتناضل أنواع الحكم الأخرى
ويشرح الكاتب نظرياته بأمثلة عملية من حوادث التاريخ الحديث والمعاصر؛ ويرى في المسألة الإسبانية ومسألة الصين أعظم ميدان لاصطدام القوتين الخصيمتين، ويحمل بشدة على سياسة الدول الديمقراطية في هاتين المسألتين، ويرى فيها دلائل الاضطراب والضعف. وفي اعتقاده أنه ليس ثمة ما يحمل الدول الديموقراطية على كل هذه التقديرات الخطيرة التي ترتبها على مقابلة الهجوم بمثله، وإنه قد يكون الخطر في الميدان الدولي أقل بكثير إذا قامت الدول الديموقراطية بعمل ما مما لو استمرت في موقفها السلبي الحاضر
روح العصر في معرض باريس
كانت المعارض إلى عهد قريب تعنى بإبراز البهارج التي تلفت الأنظار، وتثير إعجاب البسطاء، وإن عنيت أحياناً بعرض مدى التقدم الذهني في أمة من الأمم. ففي المعرض البريطاني الذي أقيم في عام 1851 أنشئ هذا البيت العظيم الجميل الذي أطلق عليه (القصر البلوري)، والذي دمره الحريق أخيراً وكان دائماً آية ذلك المعرض، وحامل ذكراه للأجيال؛ وفي معرض باريس الذي أقيم عام 1889 أنشئ برج إيفل، وكانت النزعة التي تمخض عنها نزعة فرعونية كالتي حدت بزوسر وخوفو وخفرع إلى بناء الأهرام، وإلا فقد كان الفولاذ الذي أستخدم في بناء هذا البرج كافياً لبناء أسطول صغير يدفع بعض الأذى عن فرنسا. أما في معرض باريس الأخير (1937) فقد تجلى روح العصر، وتناسى العارضون بعض هذه العنجهية التي كانت تجعلهم يبنون القصر البلوري ويقيمون برج إيفل. هذا وإن يكن المعرض الأخير يفوق كل المعارض السابقة رونقاً وعظمة وجلالا. وأحسن ما يشهد لهذا المعرض بتفوق روح العصر هذه الدار العظيمة التي أقيمت في المعرض، والتي أطلق عليها (دار الاستكشاف) والمراد الاستكشاف العلمي الذي تدين له الحضارة الحديثة بكل ما تتيه به على غابر القرون. فقد حشدت في هذه الدار الهائلة جميع الاستكشافات التي أدت إلى تقديم الإنسانية، وخطت بالعالم أشواطاً بعيدة نحو الكمال. وهي مع ذاك لم تهمل الاستكشافات القديمة التي كانت سبباً مباشراً أو غير مباشر لما أبدعته
القرائح الحديثة. . . فبينا ترى جهازاً أتوماتيكيا (آليا) يكلمك ويشرح لك نظريات نيوتن وجاليليو في الحركة والجاذبية إذا بك تنظر إلى جهاز آخر يوضح لك كيف تستنبط الكهرباء بأبسط الوسائل، وكيف استخدمت الكهرباء بعد الاهتداء إليها في الإضاءة وتحريك الآلات ونقل الصوت باللاسلكي والصور بالتلفيزون. . . وتسير بضع خطوات فترى فوقك العالم السماوي بأكمله، وقد جرت فيه كل النجوم والكواكب، ووضحت فيه سدم المجرة، وهكذا تعرف من الفلك ما كان يعوزك أن تعرفه في أعوام. . . ثم تنتقل فترى معهداً للحياة يضع بين يديك لامارك وهكسلي وداروين، ويريك كيف تدرجت الحياة من الذر إلى هذا العالم الحافل بعجائب المخلوقات. . . وأنت فيما بين هذا تشهد التجارب المدهشة لإثبات قوانين مندل في الوراثة واستكشافات باستير وكوخ في عوالم المكروب. . . وقل مثل ذلك في كل ما أفاد العلم في البر والبحر وتحت الماء وفي أجواز الفضاء. . . وقد تكلفت هذه الدار ملايين الفرنكات، على أنها عوضت ما أنفق عليها، إذ قد زارها حسب إحصائية المعرض في المدة من 25 مايو إلى 7 أكتوبر الماضي 1 ، 600 ، 038 زائراً دفعوا جميعاً رسوم الدخول. وزارها غير هؤلاء 400 ، 000 طالب وعالم وأستاذ، من جميع أنحاء الأرض، وعقدت فيها المؤتمرات العلمية الطريفة لتبادل الآراء ومناقشة أحدث المستكشفات
ألف ليلة بالإنجليزية
ما يزال كتاب ألف ليلة وليلة موضع إعجاب الأمم الأوربية عامة والإنجليزية خاصة، ولقد ظهرت ترجمات كثيرة لبعض قصص الكتاب في لغات شتى، ولكنه لم يترجم ترجمة كاملة إلا هذا العام، وقد ظهرت الترجمة بالإنجليزية في أربعة أجزاء $ تعرض للبيع بأربعة جنيهات وربع الجنيه، وهو ثمن يبهرنا نحن الشرقيين ويزعج جيوبنا، ولكنه يدل على الروح العالي الذي يتقبل به الإنجليز كنوز المؤلفات الرفيعة. ومترجم ألف ليلة هو الأديب الإنجليزي الكبير بويس ماتر، وقد وضع نصب عينيه وهو يترجم الكتاب أن يتحاشى العيوب التي ظهرت في ترجمة جالان الفرنسية (1704 - 1712) وترجمة لينز الإنجليزية (1840م) وترجمة سير ريتشارد برتون (1880م) - ولم يفته أن ينتفع بمحاسن الترجمة الفرنسية التي وضعها الدكتور ج. ماردروس (1899) وقد قلد هذه
الترجمة في بعض صورها فنقل الأشعار العربية إلى شعر إنجليزي رائع، وإذا عرفنا أن المترجم شاعر فذ علمنا إلى أي حد وفق في نقل أشعار ألف ليلة
إلى الأخ السوداني
كنت قادماً من بيروت. فلم أكد أنزل من السيارة حتى استقبلني من كان في (مكتبة عرفة) وهي مجمع الأدباء في دمشق، بكلمتك الرقيقة الصادقة ونصبوا من أنفسهم محامين عنك، فوجهوا إلى أمر العتاب، وأشد الملام، حتى اضطررت إلى الأعتراف، لأني لم أجد لنفسي عذراً، وقديماً قالوا الاعتراف يذهب الاقتراف
أي والله يا أخي إننا إخوة وإن أختلف الألوان، وتباينت الديار، وحد بيننا الشرق، ووحدت بيننا الآلام والآمال، وآخى بيننا الله من فوق سماواته، قال الله تعالى:(إنما المؤمنون إخوة). وللسودان والله على سواد بشرتهم، أطهر أفئدة، وأسمى نفوساً، وأدنى إلى الفضيلة والحق من كثير من بيض الجلود. وما أردت والله إلا أولئك السود من سكان أفريقية الوسطى، وكانت كلمة أسرعت إلى اللسان، قبل أن يتدبرها الجنان. فمعذرة يا أخي وشكراً لك على حسن ظنك بي، والسلام عليك ورحمة الله
من أخيك: علي الطنطاوي
الكومنترن أو الشيوعية الدولية
ترددت كلمة الكومنترن هذه الأيام بمناسبة الاتفاق الثلاثي الذي تم بين ألمانيا وإيطاليا ثم اليابان لمقاومة الشيوعية - وكثير من القراء لا يعرفون ما هو الكومنترن الذي هو في الحقيقة اسم منحوت من كلمتي أي شيوعية أي دولية، فالكومنترن هي الشيوعية الدولية وهو أسم جديد للدولية الثالثة التي تحكم روسيا الآن. . . والمدهش أن روسيا اليوم لا أثر فيها لتعاليم الكومنترن الأصلية التي وضعها الزعيم لينين، ولكن الحكومة الروسية تدأب على نشر هذه التعاليم خارج حدودها لأنها ألد أعداء السلام العالمي
تصويب
وقع في مقال (مصرع شجرة الدر) الذي نشر في العدد الماضي تحريف في علمين أولهما (ثوران شاه) وصوابه توران شاه والثاني الخليفة المعتصم العباسي وصوابه المستعصم بالله