المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 235 - بتاريخ: 03 - 01 - 1938 - مجلة الرسالة - جـ ٢٣٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 235

- بتاريخ: 03 - 01 - 1938

ص: -1

‌الرسالة في عامها السادس

ننقل اليوم خطوتنا السادسة في سبيلنا القاصدة إلى غايتنا البعيدة؛ وليس لنا عدة غير الإيمان، ولا زادٌ غير الصبر، ولا عونٌ غير الله. وعَسِيٌّ بالمؤمن الصابر المتوكل أن يبلغ وإن طال الأمد!

تعودنا منذ صدرت الرسالة أن نتحدث إلى قرائها وأصدقائها في مثل هذا اليوم من كل عام، نجدد لهم العهد الذي أعطيناه، ونعرض عليهم الشوط الذي قطعناه، ونتصل من وراء الغيب بأرواحهم العارفة العاطفة الآسية؟، نسترفه بنجواها من الشُّقَّةِ الجاهدة، ونستعين بهداها على المرحلة الجديدة.

أما العهد فإننا نجدده ونؤكده. ولله علينا ألا يحله إلا خروج النفس أو نكول العافية. وأما الشوط فكان رهَقُه محنة المجاهد وبلاء الدليل. انبثقت على جانبيه العوائق المثبطة من إلحاح المرض وغلاء الورق واضطراب السياسة ونغل الصداقة وشيوع الأدب الهزيل، فثبتت الرسالة في مكانها لا تهِن، واستقامت في طريقها لا تحيد. وطريقها هو الطريق الوحيد الذي سنَّه الخُلق الفاضل؛ وهو أقرب الطرق إلى الغاية لأنه مستقيم. على أن استقامته طالما كانت - وا أسفاه - علة الإبطاء والبعد. فقد يعترضك وأنت مطمئن إلى السير فيه النهر الذي لا يُعبر، أو الجبل الذي لا يجتاز، أو العقبة التي لا تقُتحم، أو السبع الذي لا يُهاجم؛ فتقف مضطراً تعالج هذا العائق بالعزيمة والحيلة والجهد، لأن الأخلاق الرقيبة لا تنفك تهيب بك من جهاتك الست:

(لا تتنكب الجادّة المثلى، ولا تزغ عن الصراط السوي).

وتنظر حواليك فلا تجد إلا الفراغ والوحشة، لأن الركب الذي كنت تسايره راعه الأمر وخذله الصبر وأعجلته الغاية، فتبدد ذات اليمين وذات الشمال يرتاد المسالك السهلة، وخلَّفك وحدك على سواء الطريق عرضة للجوع والخوف! فإذا سمعت من هذا السائر المتروك صرخة ثائرة فاعزُ حدتها إلى الحائل الذي قام، وإلى الرفيق الذي نكص!

ليس من طبع الرسالة أن تمالق الرغبات بالتَّمْنية، ولا تستميل الشهوات بالوعد. فإن العمل الصامت أنطق الأدلة على توخي الحق؛ والماضي المعلوم أضمن الوثائق للمستقبل المجهول.

هذه مجلدات الرسالة التسعة! أليست هي شهادتها الصادقة على أنها أوفت بما عاهدت

ص: 1

القراء عليه من إحياء الأدب القديم، وإنشاء الأدب الحديث، وتدعيم الأدب المصري بقواعد الفن، وتطعيم الأدب العربي بنتاج الآداب الأُخَر؟

أليست هي ديوان العرب المشترك جمعت فيه الأشتات إلى الأشتات، ووفقت بين الأصوات والأصوات، ثم ألَّفت من هذه الآلات المنفردة جوقة موسيقية متحدة تسكب في مسامع الوجود أناشيد الخلود؟

أليست هي كتاب الشرق الجديد تجد في صفحاته المشرقة روحيته وريحانه، وتحس في معانيه ومراميه إلهامه وإيمانه؟

إن الإشادة بمجهود الرسالة حق علينا لأولئك الأقلام الكريمة التي أخلصت لله وللناس وللفن فجعلت منها هذه المجموعة التي لا تجد لها مثيلاً في عصر من عصور اللغة.

ليت شعري متى تغلظ الأيام فنكتب هذه الكلمة السنوية خالية من الشكاة والألم؟ هيهات هيهات لما نَوَد! إن شكوى الرسالة في كل عام هي شكوى الأدب في كل يوم. وستدوم إن شاء الله ما دامت الحكومة لا تبالي الأدب، والطبقة المتعلمة لا تقرأ الجد، والكثرة الفاحشة لا تعرف القراءة.

قلنا وقال الناس لولاة الأمر إن الأمة لا يمكن أن تكون جسماً من غير عقل، ومنفعة من غير عاطفة، ومادة من غير أدب؛ وإن الحكومة التي لا يعدو همها إصلاح الأرض وتوفير العدة وتقويم البدن لا تخلق إلا مجتمعاً من الشهوات الفاجرة والنزوات الثائرة والغرائز الخشنة؛ وإن المدرسة وحدها لا تستطيع مهما انفسخ ذرعها واتسع مداها أن تربي العقول وتهذب الأخلاق وتثقف العواطف. فأخطروا ببالكم أولئك المجاهدين في سبيل الروح، المجدين في خدمة الفكر، الذائدين عن قدس الخلق؛ أولئك هم الأدباء الأحرار الأبرار الذين يبلغون رسالة الحق في كتاب، أو يؤدون أمانة الخير في صحيفة. أعينوهم على أكلاف العيش بالرعاية، وشجعوهم على إجادة الإنتاج بالجوائز. ولا تكلوهم إلى هوى النفوس وجهل العامة فينطفئوا انطفاء السراج في عين الأعمى، ويموتوا ميتة البلبل في أذن الأصم.

ولكن الأديب كتب عليه أن يجاهد ويجالد ويضحي. لا يستمد العون إلا من ربه، ولا يلتمس العزاء إلا من قلبه، ولا يبتغي الثواب إلا من سلطان ضميره.

ص: 2

والرسالة لا تملك أن تحيد عن الطريق الوعر الشائك الذي نهجه الله لعباده المصطفين من رجال الدين والعلم والأدب. وحسبها أن تحيا بالعمل سعيدة، وأن تموت في الجهاد شهيدة!

على ذلك تجدد العهد لأصدقائها وقرائها مرة أخرى، معتمدة على فضل الله، معتدة بإخلاص القلب، معولة على إتقان العمل؛ وفي بعض ذلك الضمان الأوفى والسند الأقوى والمرفأ الأمين.

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌في الأدب وغيره

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

زارني مرة لفيف من الشبان قال قائلهم: إنهم جاءوا ليسألوني عن رأيي في الأدب ويستفتوني في مسائل، فساءني هذا ولم يسرني، فقد كنت مشغولا، وكان العمل الذي ينبغي أن أفرغ منه كثيرا، فسألت الذي كان يتكلم:(كم سنك؟ ولا تخش أن أذيع السر؟).

قال (اثنتان وعشرون).

قلت (يا أخي، أني كنت في مثل سنك صاحب رأي، في الأدب وغيره، وصاحب مذهب أدعو أليه وأحاول هدم ماعداه؛ وكان لي ديوان شعر مطبوع، وزوجة ووظيفة أيضا. ولا أنكر أن رأيي قد تغير في مسائل كثيرة، ولكن هذا لماذا؟ إنه دليل على أني أديم النظر والتفكير والتدبر، ولعلي كنت في أمسي على صواب، وعسى أن أكون في يومي على خطأ، ولكن المرء لا يطالب بالتوفيق، وإنما عليه أن يسعى، وأنا اذكر لكم هذا لأني أتعجب لكم واستغرب أمركم. فلماذا بالله لا تنظرون بعيونكم، ولا تفكرون بعقولكم؟ ولماذا ينبغي أن اتعب أنا لكم - أقرأ وأحصل وأفكر وأنخل وأغربل، وانتم مستريحون ليس عليكم ألا أن تتجشموا تعب الحضور إلى هنا، وإلا أن تؤدوا أجرة الترام، أو الأمنيبوس، ومن يدري لعلكم آثرتم المشي فإنكم شبان أقوياء، والأحذية التي تبلى يؤدي ثمنها آباؤكم فلا خسارة عليكم تشعرون بها، وليبق القرش فوق القرش ليتيسر أن تقضى السهرة في مرقص!).

فضحك أحدهم، ورآه الآخرين يضحك، فأبتسم البعض وقهقه البعض، فقلت، وأنا أحس أن عفريتا قد ركبني:(صحيح قولوا. . . كم كتابا عنيتم بأن تشتروا في حياتكم منذ عرفتم الكتابة والقراءة إلى الآن - أعنى غير الكتب المدرسية التي لا تفتحونها إلا لأداء الامتحان؟).

فلم يجيبوا، وماذا عسى أن يقولوا، وأنا أعرف أن هذا الجيل يندر فيه من يحصل من العلوم أو الفنون أو الآداب شيئا غير ما يتلقى في المدرسة؟ وحتى الذي يفيده في المدرسة ينساه بعد الامتحان، ولم يسعني وأنا أحاول أن أوقظ نفوسهم وأبث فيهم روح الطلب إلا أن أذكر كيف كنا في صبانا نفرح بما يجتمع في أيدينا من المال القليل ونخف به إلى المكاتب ونروح ندير عيوننا في مئات الكتب المرصوصة على رفوفها ولا نخرج إلا وقد نفذ ما

ص: 4

معنا أو كاد.

وكان الذي أسخطني على هؤلاء الشبان هذا الكسل والاعتماد على الغير، والرغبة في إفادة المعرفة - كائنة ما كانت قيمتها - بلا عناء أو مشقة. ومن أدراهم أن ما يسمعون مني أو من سواي هو الصواب؟ وهم يتلقون ما تفضي به إليهم منرأى ناضج أو فطير بالتسليم والتصديق وبلا مناقشة.

وأحسست من هيئاتهم ونظراتهم أن الأولى بي أن أدخر جهدي، فأسلمت أمري لله وقلت لهم:(تفضلوا. . . سلوا ما بدا لكم).

فأدنوا كراسيهم، وقد نسوا العلقة التي استقبلتهم بها، وأقبلوا عليّ يسألونني عن الأدب والغاية منه، فضحكت وقلت:(والله ما أعرف له غاية؛ وإني لحي، ولكنى أجهل الغاية من الحياة، فكيف تريدون مني أن أعرف الغاية من الأدب؟ وأعترف أني كنت قبل سنوات طويلات المدد، قد أقنعت نفسي بأن للأدب غاية، وكان الذي جسم لي الوهم هو ما قرأته في هذا الباب، فرحت أنسج على منواله وأقول كلاماً شبيها به؛ ويتفق أن يقع في يدي شيء مما كتبته في ذلك الزمان فلا يسعني أن أضحك ساخرا، لأنه كان من الجهل أو التقليد - كلا. لا أعرف غاية للأدب. . . وقولوا ما شئتم، ولكن الحقيقة هي أني نظرت ونظرت، وحدّقت، وحملقت، حتى كادت عيني تخرج، فلم أر شيئاً؛ وأني فكرت وفكرت، فلم يهتد عقلي هذا إلى شيء. وكل ما اعرفه هو أني أزداد حيرة كلما علت بي السنّ، وإن كل ما كنت أعده من الحقائق الثابتة يخامرني الآن فيه شك كبير. . . والسبب في ذلك، فيما يبدو لي، هو أني أتلقى ما أقرأ بالتسليم، أما الآن فأنا أجادل وأكابر بالخلاف في كل شيء، وقد ينتهي بي الأمر ألي التسليم والموافقة، ولكنى أجد لذة في هذه المكابرة).

فسألني بعضهم: (لماذا قل الشعر السياسي في هذا الزمان؟).

قلت: (لا أدري، وعسى أن يكون السبب أن الناس صاروا أصح فهما للأدب، وأتم إدراكا له، وأكبر عقولا، وأوسع نفوسا. نعم أظن هذا هو السبب، فقد كان الشعر السياسي هو الذي يكثر فيه القول، وكان شعراء ذلك الزمان إذا قالوا في غير الحوادث لا يفعلون ذلك إلا على سبيل التسلي، وليقال عنهم إنهم يجيدون النظم في كل باب. ولكن الناس يدركون الآن أن شعر الحوادث ليس إلا باباً واحداً صغيراً من مئات وآلاف من أبواب القول، أو من

ص: 5

(بواباته). ولم يكن شعر الحوادث شيئا مستحدثاً أو جديداً، لأنه لم يكن أكثر من ضرب من التقليد للشعر القديم، فكما كان المتنبي يقول في حروب سيف الدولة، كذلك كان شوقي يقول في الخديوي وأعياده ورحلاته وفي السلطان وأعماله، ثم بعد ذلك في الحوادث السياسية التي يلح عليه أصدقاؤه أن ينظم فيها كلاما. وكان حافظ يقول في العميد البريطاني وفي سياسة الأنجليز، لأنه لم يتصل بأمير كما اتصل شوقي، فحل الشعر أو الرأي العام عنده محل الأمراء الذين كان الشعراء السابقون ينظمون الشعر لإرضائهم، واقتضت المنافسة بين الرجلين أن يكون حافظ شاعر الشعب، كما كان شوقي شاعر الأمير. وقد تغير كل هذا، وزهد الأدب الحديث في التقليد، ونظر رجاله بعيونهم، وأحسوا بأعصابهم، وفكروا بعقولهم، ففتحت لهم آفاق رحيبة جداً صرفتهم عن القول في الحوادث العارضة، وشغلتهم بما هو أعمق وأصدق في الحياة؛ فلست تراهم يقولون في الحوادث إلا إذا استفزت نفوسهم وحركاتها تحريكا قويًّا يجري الشعر على ألسنتهم، لا تكلُّفا ولا تقليداً، بل لأنهم لا يسعهم في هذه الحالة إلا أن يقولوا. ولاشك أن ثم أسباباً أخرى، أسوق منها على سبيل التمثيل، أن الأدباء يعمل أكثرهم في الصحف، وهم يكتبون كل يوم تقريبا في الحوادث، فلا معنى لأن يقولوا الشعر فيها أيضا، إلا إذا عرضت مناسبة فذة قوية تحرك النفس كما قلت. والكتابة أسهل، والإقناع بها أقرب، والشعر لا يصلح للجدل السياسي كما تصلح الكتابة، ولكني أعتقد أن صحة الإدراك للأدب هي السبب الأول، كائنة ما كانت الأسباب الأخرى. ولا مانع من أن يقول الشاعر في السياسة والحوادث إذا أحس دافعاً إلى ذلك، كما يقول في غير ذلك إذا بعثته البواعث).

فنهضوا، ومدوا أيديهم ليصافحوني، وتمتم بعضهم بالشكر، فابتسمت وقلت لهم (والله إني لتحدثني نفسي بأن أنقض لكم كل ما سمعتم مني، وأن أثبت لكم أن كل ما قلت خطأ في خطأ، وأن الصحيح والصواب غير ذلك. وإني لقادر على هذا. والسر في قدرتي أني أراكم أهملتم هذه العقول التي ركبها لكم الله؛ ولا شك أن له سبحانه وتعالى حكمة في خلق عقول لا يريد أصحابها أن ينتفعوا بها. فليتكم تستطيعون أن تعيروني بعضها ما دمتم لا تنتفعون بها، فإن رأسي قد كل وتعب ومل).

فضحكوا وانصرفوا، وقعدت وأنا أهز رأسي وأمط بوزي آسفا متعجباً. . .

ص: 6

إبراهيم عبد القادر المازنى

ص: 7

‌ليلى المريضة بالعراق

للدكتور زكي مبارك

- 4 -

- ضابط في الجيش العراقي أبوه من مصر وأمه من لبنان؟ كيف اتفق ذلك يا ضمياء؟

- لذلك يا سيدي تاريخ. . .

- انتظري قليلا. . . قبل أن ندخل في تاريخ ليلى مع الضابط عبد الحسيب، أحب أن أسال: هل كان حبها ذلك الضابط أول حب؟

- نعم يا سيدي أول حب.

- منذ كم سنة أحبت ذلك الضابط؟

- منذ أثني عشر عاما.

- تذكري يا ظمياء أنك قلت إن ليلى في حدود الأربعين فهل يُعقل أن تظل عذراء القلب إلى الثامنة والعشرين؟

- نعم يا سيدي، وما أقوله تشهد به الست جميلة، وتعرفه الخالات والعمات والجارات في شارع العباس بن الأحنف وشارع صريع الغواني.

- ولكن هذا غير معقول، فما يمكن أن تظل فتاة عذراء القلب إلى الثامنة والعشرين!

- أنت يا سيدي غريب بهذه المدينة ولا تعرف النساء في بغداد.

- بغداد في عينك يا ظمياء! وهل بغداد تحمى المرأة من أن تكون لها عين تنظر وقلب يميل؟

- أؤكد لك يا سيدي أن ليلى لم تحب أحدا قبل الضابط عبد الحسيب.

- ولكن كيف اتفق أن تظل بلا زوج إلى الثامنة والعشرين؟

- لقد حفيت أقدام الخاطبين وهي ترفض بلا سبب معقول.

(فدونت في مذكرتي أن الفتاة التي ترفض الزواج، ويطول بها ذلك، لابد أن تكون أصيبت بنوبة حب، ولا بد أن يكون ذلك الحب صور لها فحولة الرجل في صورة فلسفية أو أدبية، ولكن هذا الحب سيظل مجهولا ما دامت ليلى تكتمه، وما دام النساء اللائى يحطن بها يتمتعن بقسط وافر من الغفلة، على قلة ما نرى من النساء الغافلات. ويظهر أن موقفي

ص: 8

سيكون دقيقا في المؤتمر الطبي، لأن المؤتمرين سيسألون عن الصور الفلسفية والأدبية لفحولة الرجال في أخيلة النساء، ولكن لا بأس فهي فرصة طيبة لشرح آراء شيث بن عربانوس في هذه القضية. على أني سأجد مفاتيح هذا السر المدفون حين أقف على قصة الضابط عبد الحسيب، وربما كان من الخير أن أرجع إلى البحث الممتع الذي نشره الدكتور عبد الواحد بك الوكيل عن أثر الحب في الأمراض العصيبة).

- دكتور! ماذا تكتب؟

- اسمعي يا بلهاء.

- هذا جزاء من يصنع الجميل!

- أستغفر الله! إنما أردت أن أقول اسمعي يا ظمياء. أنا يا بنيتي أقيد ملاحظات تنفعني في مداواة ليلى؛ ومرضها كما تعلمين عصيب، وأحب أن أستعد لمداواتها أتم استعداد، والله المعين.

(ولكن ألا يمكن أن يقال إن ليلى مرضت في صباها بالغفوة الروحية، ولم تفق إلا في الثامنة والعشرين؟ ومن يصدق حديث الغفوة الروحية؟ لقد كنت الطبيب الوحيد الذي استكشف هذا المرض الخبيث، وألقيت عنه محاضرة في باريس بعد أن أديت الامتحانات النهائية في الطب، ثم نشرت خلاصة بحثي في المجلة الطبية المصرية، ولم أظفر، واأسفاه، بغير السخرية يواجهني بها زملائي في مصر، ويراسلني بها أساتذتي في باريس).

- دكتور، ألا ترى كيف أقفقف من البرد؟

- اسمعي يا بلهاء، فما عندي لك دفء.

(وما الذي يمنع من انتهاز هذه الفرصة الثمينة، فرصة انعقاد المؤتمر الطبي في بغداد، لإعلان نظرية الغفوة الروحية بطريقة دولية؟ إن الشواهد تحت يدي، فأنا أعرف ناسا بأعيانهم انخرطوا في سلك الكهنوت وهم شبان، وعاشوا عيش الطهر والعفاف إلى سن الثلاثين. ثم استيقظت أرواحهم فجأة فهربوا من الكنائس والصوامع وأقبلوا على الدنيا إقبال المنهومين، ومنهم صديقي فلان الذي عرفته في حانات مونمارتر سنة 1927 وصديقي فلان الذي عرفته في مرقص الكوبول سنة 1933، ولكن كيف أقول هذا الكلام في المؤتمر الذي يعقد في بغداد وأنا أشتغل بالتعليم في بغداد؟ الخطب سهل: أنا أتكلم في المؤتمر باسم

ص: 9

الدكتور مبارك الطبيب، والناس جميعا يعرفون أني أحرزت الدكتوراه في الطب قبل أن أحرز الدكتوراه في الآداب).

- دكتور، أروح؟

- وين تروحين؟ اجلسي يا بلهاء.

- أنا اسمي ظمياء.

- اجلسي يا ظمياء.

(ولماذا أفضح نفسي في المؤتمر بأحاديث مونمارتر ومونبارناس؟ لماذا لا أكتفي بالشواهد التي أعرفها في مصر؟ ألم يكن صديقنا فلان من أعف الناس في صباه؟ ألم يكن يحوقل ويستغفر ويسترجع حين يطرق أذنيه بيت من النسيب؟ رحمة الله على أيامه الطيبات، أيام كنا نتقرب إلى الله بتقبيل يمناه! فمن يصدقني اليوم إذا قلت إنه كان في صباه فتى عفيفا؟ وكيف يصدقني الناس إذا ادعيت ذلك وهو اليوم ألطف ما جن وأظرف عربيد؟!).

- دكتور!

- اخرسي يا بنت!

- شنو؟

- ما أدري شنو!!

(إن حال ليلى في جوهره يرجع إلى فرضين: الفرض الأول أن تكون رأت في مطلع صباها صورة مست شغاف القلب ثم اختفت تلك الصورة، وظلت المسكينة تترقب ملامحها في أوجه الخاطبين بدون أن يتحقق لها رجاء، فلما وقع بصرها على الضابط عبد الحسيب رأت فيه ملامح الحبيب الضائع فأقبلت عليه وقد استيقظ هواها القديم يقظة مرعبة ضجت لها بغداد؛ والفرض الثاني أن تكون أصيبت بالغفوة الروحية، ذلك المرض الخطر الذي تفردت باستكشافه والذي سيجعل لي مقام صدق في عالم الطب، وقد عاشت المسكينة تحت سيطرة هذا المرض إلى أن بلغت الثامنة والعشرين ثم عوفيت فجأة، فكانت عيناها الناعستان وابتسامتها الساحرة من نصيب الضابط عبد الحسيب).

- دكتور! طال مقامي عندك، وليلى ستظن الظنون!

- أي ظنون يا ظمياء؟

ص: 10

- قد تحسبك كالطبيب فلان الذي خُرِّبت عبادته بسبب امرأة ألمانية كانت تزوره في العشيات.

- وأنت تلك الألمانية يا ظمياء؟ ما هذا الغرور الفظيع الذي لا تخلو منه امرأة شوهاء!

(وهنا ضحكت المرأة جميلة ضحكةً رجت أركان البيت).

- اعقلي يا ظمياء! أنا رجل غريب، والغريب يدخل سجن الفضيلة وهو راغم. فأنت في حماية هذا التخوف، تخوف الغريب من قالة السوء. وسأعيش في بلدكم ما أعيش، ثم أخرج بأذن الله وأنا أبيض الصحائف وضاح الجبين.

- هل معنى ذلك أني في أمان؟

- في أمان يا ظماء، سبحان الله!

- أنت تهينني! فأنا عندك فتاة شوهاء لا تهيج الغواية في قلوب الرجال!

(وهنا دونت في مذكرتي أن المرأة لا يسرها أن تكون في أمان، لأنها لا تكون في أمان إلا حين تزهد فيها القلوب. وأشهد أن ظمياء فتاة شريفة، ولكن تغلب عليها نزعة الجنس، فهي تحب أن يكون شرفها بفضل التصون، ويؤذيها أن تصل إلى الشرف عن طريق الزهد، الزهد فيما تدعيه لنفسها من حسن مرموق).

- دكتور، أروح؟

- وين تروحين؟ حدثيني عن قصة ليلى مع الضابط عبد الحسيب.

- كانت بداية القصة في سنة 1926 حين ثار حزب الشعب على المرحوم عبد المحسن عبد المحسن السعدون، وكانت الجرائد العراقية أطنبت في وصف المعرض الزراعي والصناعي الذي أقيم في الجزيرة بالقاهرة في ذلك التاريخ، وكانت ليلى ضجرت من ضجيج السياسة في بغداد فاستأذنت والديها رحمهما الله لترى ذلك المعرض علها تنسى ضجيج بغداد، فرفض أبوها، وشجعتها أمها، والمرأة تغلب الرجل حين تشاء، فلم ينتصف شهر آذار، شهر الأزهار والرياحين، إلا وليلى تطالع سِفر الحياة على شواطئ النيل وطن مولاي الطبيب.

(للحديث بقية)

زكي مبارك

ص: 11

‌سنان شيخ الجبل

صفحة من تاريخ الأدب السياسي

للأستاذ محمد عبد الله عنان

في القرن السادس الهجري (القرن الثاني عشر الميلادي) كانت الأمم الإسلامية تجتاز مرحلة عصيبة من تاريخها، ففي هذه الحقبة استقر الفرنج الصليبيون في فلسطين وثغور الشام، وقامت مملكة نصرانية لاتينية في بيت المقدس في قلب ديار الإسلام، وانقسمت الكتلة الإسلامية في المشرق إلى دويلات صغيرة متنازعة؛ ونشب بين الإسلام والنصرانية في تلك المهاد صراع مستمر طويل الأمد؛ وكانت المعارك سجالا بين هذه القوى الخصيمة المتفرقة؛ ولكن الفرنج الصليبين احتفظوا لأنفسهم مدى حين بنوع من التفوق؛ ذلك لأن الخلافة الفاطمية كانت تجتاز مرحلة انحلالها، وكانت الإمارات الإسلامية في شمال الشام مشغولة بمعاركها المحلية؛ وكان الفرنج ينتهزون الفرص السانحة فيعملون على إذكاء الخلاف ويظاهرون أميراً على أمير، ويحققون لأنفسهم ما استطاعوا من الأسلاب والمغانم.

ففي تلك الفترة العصيبة المضطربة كانت الشام فوق كونها مسرحا للحروب الأهلية والمعارك الصليبية المتواصلة مسرحا لنشاط بعض الجماعات السرية التي الفت فرصتها في تلك الفوضى السياسية والاجتماعية الشاملة، وكانت في مقدمة هذه الجماعات طائفة فرسان المعبد أو الداوية، وطائفة الاسبتارية، وطائفة الإسماعيلية الباطنية؛ وكانت الأولى والثانية طائفتين نصرانيتين ظهرتا بعد قيام المملكة الصليبية، وأنشئتا في البداية لبواعث وظروف دينية، ثم انقلبت كلتاهما بعد ذلك إلى جمعية سرية فدائية وكانت الثالثة تحسب ضمن الطوائف الإسلامية المذهبة، وقد أنشئت في أواخر القرن الخامس على يد داعية إسماعيلي بارع هو الحسن بن الصباح الحميري، ونظمت أولا في شمال فارس، حيث استحالت غير بعيد إلى عصابة إرهابية قوية تعتصم ببعض القلاع المنيعة، وتعتمد في تنفيذ مآربها على الإرهاب السياسي والاغتيال المنظم؛ وفي أوائل القرن السادس لما اشتدت مطاردة الأمراء السلاجفة للإسماعيلية في فارس، فر بعض دعاتهم إلى الشام، ولبثوا حيث يبثون هناك دعوتهم سراً؛ وكان الأمراء المحليون مثل صاحب حلب وصاحب دمشق يلجئون أحيانا إلى هؤلاء الدعاة الخطرين في تنفيذ مشاريعهم واغتيال خصومهم،

ص: 13

وبذلك أضحوا قوة سياسية يحسب حسابها، ولما كثر جمعهم وقوى أمرهم طلب زعيمهم بالشام بهرام الاستراباذي من صاحب دمشق حصنا يأوي إليه مع أنصاره، فأقطعه قلعة بانياس (سنة 520هـ)، فتحصنوا بها، ولم يأت منتصف القرن السادس حتى كانت لهم في الشام سلسلة من القلاع المنيعة بين طرابلس وحماة، يتخذونها قواعد للإغارة والدفاع، وحتى غدوا عاملا قويا في حوادث هذا العصر وتطوراته.

كان الدواية والاسبتارية يعملون في البداية لخدمة القضية الصليبية ونصرة الأمراء الصليبين، وكانت نظمهم ووسائلهم تشبه من بعض الوجوه نظم الإسماعيلية ووسائلهم من حيث اعتمادهم على التآمر والدس والاغتيال المنظم، ثم استحالوا غير بعيد إلى جماعات سرية نفعية ترتكب جرائمها، وتبحث عن مغانمها حيثما استطاعت دون النظر إلى اعتبار الدين أو القومية؟ أما الإسماعيلية فإنهم بالرغم من ثوب الرياء المذهبي الذي أسبغوه على عقائدهم الدينية والسياسية، ظهروا على مسرح الحوادث طائفة مغامرة لا عهد لها ولا ذمام تبحث وراء طالعها في هذا المعسكر أو ذاك، وتتقلب في خدمة المسلمين والفرنج طبقا للحوادث والظروف، وتدس ما استطاعت بين أمراء الفرنج وأمراء المسلمين لتجني ثمار دسها؛ وكان يحسب أعظم وأقوى الأمراء من الفريقين؛ وقد ارتكب دعاتها عدة جرائم سياسية رنانة ذهب ضحيتها جماعة من أكابر الأمراء والقادة، وكان لها أثر كبير في تطور الحوادث والمعارك في بسائط الشام.

كان الإسماعيلية يمثلون في الشام نفس الدور الذي كان يمثله زملاؤهم في فارس، وكان أولئك الدعاة والمتآمرون الأذكياء يبثون أينما حلوا بذور التوجس والروع، وكانوا يمتنعون بقلاعهم الشاهقة يتحينون فرص العمل الخفي الغادر؛ وكان الفدائية منهم - وهم الذين يناط إليهم تنفيذ الجرائم السياسية - رجالا من أخطر طراز يمتازون بالإقدام المدهش، لا يتهيبون الموت، ولا يردهم عن غايتهم شيء؛ ولم يتخذ زعماء الإسماعيلية قط لقب السلطنة أو الإمارة، ولكنهم كانوا يقنعون بلقب المقدام أو الشيخ أو شيخ الجبل؛ وكان هذا اللقب الأخير يطلق بنوع خاص على زعيم الإسماعيلية في الشام، وإن كان الرحالة مركوبولو الذي عرف الإسماعيلية ودعاتهم في فارس يحدثنا بأن كبيرهم ينعت أيضا بشيخ الجبل؛ وعلى أي حال فإن كلمة الشيخ تعني هنا السيد أو الرئيس خلافا لما ذهب إليه

ص: 14

الرواة الفرنج المعاصرون من اعتبارهم الشيخ هنا بمعنى (الرجل العجوز)، وهو خطأ شائع في معظم التواريخ الفرنجية.

وكان مقدم الإسماعيلية أو شيخ الجبل في الشام في أواسط القرن السادس زعيماً وافر الجرأة والذكاء هو راشد الدين سنان ابن سلمان؛ ولا تعرف الرواية سناناً إلا بأنه مقدم الاسماعيلية، ولا تحدثنا عن أصله ونشأته، ولكن لاريب في أنه أحد أولئك الدعاة المغامرين الذين يكتنف الغموض حياتهم الأولى، ثم يظهرون فجأة على مسرح الحوادث. وكان مقره في حصن مصياب (أومصياف) على مقربة من طرابلس وهو يومئذ أمنع حصون الإسماعيلية بالشام؛ وكان هذا الداعية الإسماعيلي يخفي مشاريعه ومطامعه الدنيوية تحت ستار من الورع المؤثر، ويبدو دائما في صفة الإمام الديني، ويرتدي الثياب الخشنة، ويعظ أنصاره طول اليوم من فوق رابية، ويحيط كل حياته بحجاب من الغموض حتى قيل إنه لم يوقظ نائماً أو آكلاً أو شارباً؛ على أنه كان بالرغم من هذه المظاهر الورعة الخلابة مغامراً لا ذمام له، يتربص فرص الوثوب والفتنة، ويتقلب في خدمة الصديق والعدو معاً؛ ولم ير سنان بأسا من مخالفة الفرنج الصليبين، فنراه يتصل بأموري ملك بيت المقدس، ويرسل إليه الداعي بهاء الدولة سفيراً ليسعى لديه إلى إعفاء الإسماعيلية من الجزية التي تعهدوا بدفعها؛ ونجح السفير في مهمته، ولكن قتلة الداوية (فرسان المعبد) حين عودته؛ وخشي ملك الفرنج عواقب هذه الجريمة، فاعتقل القتلة وقضى عليهم بالسجن، وذلك استبقاء لمودة الإسماعيلية واتقاء بطشهم.

ولعب سنان في حوادث هذه الفترة دوراً عظيما؛ ومع انه لم يكن قويا بجسمه وقواه المادية، فقد كان قويا بدسائسه ووسائله الإرهابية الخطرة؛ وكان أمراء الشام المسلمون يرهبون جانبه ويلتمسون محالفته؛ ولما تألق نجم صلاح الدين وقبض على زمام الأمور في مصر اتجهت أبصار خصومه إلى الإسماعيلية أو الحشيشية كما تسميهم الروايات المعاصرة، لما عرف من انهم كانوا يأكلون أوراق الحشيش؛ ففي سنة 569هـ (1173م) دبر أنصار الدولة الفاطمية الذاهبة مؤامرة لقلب حكومة القاهرة، واغتيال صلاح الدين، وفكروا في الاستعانة بالفرنج كما فكروا في الاستعانة بسنان شيخ الجبل، فبعثوا إليه ليدبر كميناً لاغتيال السلطان (صلاح الدين) على يد بعض الفدائية سواء في الشام أو في مصر

ص: 15

ووعدوه بالمنح والعطايا الجزيلة؛ ولكن سرعان ما افتضحت المؤامرة وقبض على مدبريها وأعدموا، ولم تسنح الفرصة في هذه المرة ليعمل شيخ الجبل؛ ولكن الفرصة سنحت غير بعيد؛ ففي أوائل سنة 571هـ (1175م) كان صلاح الدين على رأس جيشه في شمال الشام على مقربة من حلب، وكان من برنامجه سحق الإمارات المستقلة التي تمزق الشام وتجعل منه فريسة هينة للفرنج الصليبين؛ وكان أتابك الموصل عز الدين مسعود يخشى على ملكه إذا استولى صلاح الدين على الشام، فاتفق مع سنان شيخ الجبل على اغتيال صلاح الدين أثناء وجوده بالشام؛ وكان الإسماعيلية أو الحشيشية يرون في تقدم صلاح الدين خطراً داهماً على سلطانهم فكانوا يرحبون بكل مؤامرة أو مشروع لسحقه؛ ففي الحال بعث سنان بعض الدعاة الفدائية إلى معسكر السلطان (صلاح الدين) فاندسوا إليه متنكرين. وفي ذات مساء استطاع أحدهم أن يصل إليه وهو في خيمة بعض الأمراء يفحص خطط الدفاع، ثم انقض عليه وطعنه في رأسه بخنجره، وكان صلاح الدين يعرف غدر الباطنية ويحترز منهم بارتداء الدروع المصفحة، فحالت قلنسوته الصلبية دون إصابته؛ فحول القاتل عندئذ خنجره إلى خده فجرحه جرحا شديدا، ثم دفعه إلى الأرض وحاول أن يجهز عليه؛ وذهلت بطانة السلطان لهذه المفاجأة الغادرة مدى لحظة، ولكنهم بادروا إلى القاتل، وطعنه أحد الأمراء بسيفه فأرداه؛ فبرز من جوانب الخيمة آخرون من الباطنية الفدائية متنكرين في زي الجند، وحاول أحدهم أن ينقض على السلطان، فتلقاه بعض البطانة وقتلوه، واشتد الاضطراب والهرج، وقتل في هذه الواقعة عدة من الدعاة الإسماعيلية؛ ونجا صلاح الدين من خناجرهم بأعجوبة، وانهار مشروع شيخ الجبل وحلفائه مرة أخرى.

وأدرك صلاح الدين ما يحيق به وبسلطانه من الخطر من غدر الإسماعيلية ومؤامراتهم، فعول على مهاجمة قلاعهم وسحق نفوذهم، فسار إليهم في العام التالي (سنة 572هـ)، وحاصر مصياب أمنع قلاعهم، وفيها مركز زعامتهم؛ فاستغاث سنان شيخ الجبل بصاحب حماة وهو خال السلطان، ورجاه أن يشفع لديه فيهم، وتعهد له بالتزام الحيدة والولاء نحو السلطان، وهدده في نفس الوقت إذا أبى هذه الشفاعة، فخشي الأمير من وعيدهم، وبذل وساطته لدى السلطان حتى أقنعه بالعفو عنهم، فغادر قلاعهم بعد أن أخذ عليهم المواثيق والعهود؛ ولزم الإسماعيلية وزعيمهم بعد ذلك خطة الولاء نحو السلطان إما خشية سطوته،

ص: 16

وإما لأنهم خشوا رجحان كفة الصليبين إذا اختفى صلاح الدين من الميدان.

ولبث الإسماعيلية من بعد شيخهم سنان زهاء قرن آخر، يمتنعون بقلاعهم في الشام، وينتهزون فرص المعارك والأحداث المختلفة ليظهروا على مسرح الحوادث حيثما آنسوا الغنم، وشغل بلاط القاهرة عنهم طوال هذه الحقبة بمكافحة الفرنج ورد الخطر الصليبي؛ فلما كان عهد الظاهر بيبرس، سارت حملة مصرية إلى الساحل في سنة 668هـ (1269م)، وحاصرت قلاع الإسماعيلية، واقتحمت مصياب أمنع حصونهم ومقر زعامتهم وخربت قلاعهم ومزقت قواهم كل ممزق؛ وبذلك انهار نفوذهم في الشام كما انهار في فارس قبل ذلك بقليل واستحالت هذه الطائفة الإرهابية الخطرة بعد ذلك إلى شراذم لا أهمية لها سواء من الوجهة السياسية أو المذهبية، وانتهى بذلك تاريخها الحافل بالجرائم والمؤامرات المدهشة.

محمد عبد الله عنان

ص: 17

‌في ليلة رأس العام

أنا. . . بين الطبيعة والله!

للأستاذ علي الطنطاوي

انصرف الطلاب إلى بنية النوم حين سمعوا الساعة الكبيرة تطنّ عشر طنات، وخلت ردهة المكتبة ونشر عليها الصمت أجنحته السود، فلم أكن ألمح في خلاله إلا رنين طنّات الساعة وأصداء أصوات الطلاب الذين كانوا هنا منذ لحظة واحدة يتسامرون ويتحدثون. . . ترن هذه الأصداء في أذني، فإذا أنا أراها بعيني تتراقص بين طيات الصمت الأسود حتى تنحدر إلى أغواره العميقة، ويشمل السكوت الرهيب بنية التدريس (في كلية بيروت الشرعية) ويتمدد في أبهائها وغرفها وممراتها. . .

فجلست أصغي إلى أناشيد الصمت التي كانت تسمع من حولي باستمرار فأجدها تملأ قلبي مرارة وأسى. . .

ثم رفعت رأسي فجأة إلى التقويم فنظرت فيه وجمد بصري عليه. . .؟ أمن الممكن هذا؟ أيحدث هذا كله في هدوء. . . يموت في هذه الليلة عام ويولد عام، يمضي الراحل بذكرياتنا وآلامنا وآمالنا إلى حيث لا يعود أبداً، ويقبل القادم فاتحا ذراعيه ليأخذ قطعة من نفوسنا، وقسما من حياتنا، ولا يعطينا بدلاً منها شيئاً. . . وهل الحياة إلا أعوام فوق أعوام؟ وهل النفوس إلا الذكريات واللذائذ والآلام؟

وجلست بين المأتم والمولد أفكر وأتذكر وأحلم. . . ولقد تعودت أن أجلس هذه الجلسة كلما تصرّم عام، أصفى حالي مع الحياة، أنظر ماذا أخذت، وماذا أعطيت، وأراقب هذه القافلة من السنين التي بدأت مسيرها منذ. . . منذ بدأ الزمان، لست أدري متى بدأ الزمان، والتي تنتهي حيث لا يدري أحد.

تعودت أن أعطي نفسي من فكري ساعة في العام، أفكر فيها في نفسي وفي الوجود. . .

نظرت فلم أجد إلا كتاب التفسير أحضر منه درسي الذي سألقيه غدا، وكتب البلاغة التي أكسر بها دماغي وأدمغة الطلاب في غير طائل. . . فنحيتها كلّها ووجدت ركام (الوظائف) التي يجب علي أن أنظر فيها وأصححها، وأقرأ كل ما تفيض به هذه القرائح الفتية من سخف وهراء، يدعوه أصحابه (إنشاء). . . فبعثرتها في غيظ وحنق. . .

ص: 18

أنا في هذا البلاء منذ عشر سنين، عشر سنين يالها من دهر طويل! كان ربيع حياتي، وزهرة شبابي، أضعته كله في هذا العناء، فماذا استفدت؟ لا شيء إلا أن أحرقت نفسي كالشمعة لأضيء لهؤلاء الفتية طريقهم إلى المجد، هؤلاء الذين أحببتهم وأخلصت لهم الحب، وعشت بهم دهراً ولهم، واعتصرت ماء شبابي لأنضر شبابهم، ثم فرّق الزمان بيني وبينهم، فلم أعرف مكانهم من الشام أو العراق، ولم يعرفوا مكاني لأنهم لم يفكروا في أن يعرفوه. . .

إذن فأنا أحترق كالشمعة! يا للحقيقة المرة المروّعة! يا لشمعة شبابي التي ذوت وخبت وأوشكت أن تنطفئ!

إني أعيش في العدم، أعيش في الماضي بالذكرى، وفي المستقبل بالأمل، مع أن الحاضر وحده هو الموجود، لقد مضى الغد إلى حيث لا رجعة ولن يأتي المستقبل أبدا. . .

أين هو هذا المستقبل؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يصل إليه؟ لقد جلست في مثل هذه الليلة من العام الذي يموت الآن، في شرفة منزلي بالأعظمية (بغداد) أحلم بالمستقبل بهذه الليلة التي كانت هي مستقبلي، أسعى إليها، وأؤمل أن أدركها، فلما أدركتها صارت (حاضرا)، وطفقت أسعى إلى مستقبل آخر. إنني كالثور يسعى ليدرك حزمة الحشيش التي يراها على شبر واحد منه فيهلكه السعي، ولا ينالها أبدا، لأنها معلقة بقرنيه تسعى أمامه!

يومض شعاع الأمل من بين فرج الغد، فنسعى لندركه فلا نجده إلا سرابا. إن الأمل مصباح لا يضيء إلا من بعيد. أفليس من سخافات الفكر الإنساني أن يضع في اللغة كلمة الأمل ولفظة المستقبل؟ أليس وجودهما في المعاجم دليلا على تأخر البشرية وانحطاطها، وأنها لم تدرك بعد حقائق الحياة؟

لقد كنت في (الأعظمية) غبيا جاهلا، لأني كنت مطمئنا متفائلا. كنت كلما ودعت بالخيبة عاما، انتظرت آمالي عند آخر، ولكني صحوت الآن فلا آسف على ماض، ولا أؤمل في مستقبل.

لقد قدر علي ألا أشهد ولادة العام إلا غريبا عن موطني بعيدا عن أهلي تارة في مصر، ومرة بالحجاز، وحينا في العراق. وهاأنذا الآن غريب من جهتين: هذا السد الهائل من الجبال: جبال لبنان بيني وبين أخوتي في دمشق؛ وهذا البحر الواسع بيني وبين أخي في

ص: 19

باريس؛ والدهر والأبدية بيني وبين آمالي؛ والقبر بيني وبين والديّ؛ وأنا بعد هذا كله غارق في كتب البلاغة، (ووظائف) الإنشاء، نسيت مشروعاتي الأدبية التي رسمت خططها، وأقمت أسسها، وأهملت بحوثي ومطالعاتي، وبعت ذكائي ومواهبي وشبابي برغيف من الخبز. . .

هذا ما قدر عليّ، وإني راض بما قدر!

إني أعيش الآن بلا غاية، ولكن غايتي أن أعيش، أن أثبت وجودي في هذه الدنيا، كتلميذ كسلان ما جاء ليتعلم، ولكن ليعدّ في التفقد موجودا، أو موظف خامل مقصر. . .

فلماذا إذن أعيش؟

الآن لي حق الحياة؟ فلماذا لا يكون لي إذن حق الموت؟ ألا أملك أنا أمر نفسي، ولكن من أنا؟ ومن نفسي؟ أأنا اثنان في واحد؟. . .

إنني لا أستطيع التفكير في هذا. . .

وملأ نفسي الشعور بالوحشة، وأحسست في نفسي وفيما حولي فراغاً مخيفاً، وشعرت كأن هذه الغرفة تتسع ثم تتسع، حتى صار بين الجدران فضاء لا يدركه البصر!

ثم ضاق بي الفضاء - حتى كدت اختنق فيه، فخرجت إلى الشارع. . . وكان موهن من الليل. . .

تركت ميدان البرج يضحك بالكهرباء، ويرقص على ألحان الأشعة، التي تنسكب على الميدان من ذرى البنى الرفيعة فتغمره بجو فاتن وتسيل على جوانبه، وتنسج فوقه شبكة من الأشعة منسوجة من ملايين الخيوط الملونة بمئات الألوان، وتركت الناس يحتفلون بعيد رأس السنة، يتأملون معاني الوجود، وفلسفة الخلود، وحقيقة الزمان في هذه المراقص الصاخبة، الغارقة في الخمر والعهر. . .

ويممت شطر البحر أمشى في الطرق المظلمة المنعزلة الخالية إلا من أعقاب السابلة ممن هو حليف البؤس أو الرذيلة فخلا الجو لفكري فانطلق. . .

قالت النفس: إن العالم يموت، أفلا نودّعه بحسرة. . . أو نسكب على جثته عبرة؟

فلم يعرف العقل ما هو الموت ولم يصدق بوجوده. . .

قال العقل: ما هو الموت؟ إن كان انتقالا من حال إلى حال فليس موتا؛ وإن كان الموت

ص: 20

عدما فإن العدم ليس له وجود أبداً.

قلت: ولكن أبي قد مات؟

قال: لا، إنه لم يمت، تذكره ويعيش حيّاً في ذاكرتك، وليس في الذاكرة شيء ليس له وجود في الواقع.

قلت: وأين يوجد؟

قال: لست أدري، هو في ذاكرة الكون.

قلت: إن العام يموت الآن!

قال العقل: إن العام (365) يوما وبعض من اليوم هو ست ساعات و (47) دقيقة، وبعض منها هو (33) ثانية، وبعض الثانية فلنفرض هذا البعض (20) ثالثة، وبعض الرابعة فلنفرض هذا البعض (25) خامسة وبعضا. . . وهكذا يمشي العقل حتى يصل إلى أصغر الأجزاء الزمنية، ولكنه لا يزال يمشي لا ينتهي أبدا. . . إن عام الهجرة مثلا لا تزال له بقية في الوجود، أجزاء من الزمن بالغة في الصغر حدا لا يدركه العقل، ولكن تدركه الذاكرة. . . إن هذه البقايا هي ذكريات الأعوام في نفس العام الجديد!

قلت: إني لم أفهم شيئا!

وقفز عقلي فجأة من أجزاء الزمن الصغيرة إلى الزمان المطلق، وراح يمشي على هذا الخط الطويل يقطعه في لحظة، ولكنه لا يستطيع أن يبلغ طرفيه، فلا يني يحاول بلوغهما ولا ينقطع عن السؤال. . . إلى أين ينتهي هذا الخط؟ من أين يبدأ؟ أليس له نهاية؟ ما هي اللانهاية؟

وذهب العقل يفكر: إن عمر عشر حشرات ساعة من عمري، وعمر عشرة رجال ساعة من عمر الصحراء، وعمر الصحارى كلها ساعة من عمر الشمس، فما هي الساعة إذن؟ ما هو العام؟ ما هي حقيقة الزمان؟

وما هو المكان؟ إني لم أر مكانا قط، ولم أر إلا موجودات لا أعرف نهايتها، ولا أدرك آخرها، فكيف لي أن أرى مكاناً ليس فيه شي؟ ما حقيقة المكان والزمان؟ ما عمرهما؟ ماذا وراءهما؟

ألا أستطيع أن أعرف هذا العالم الهائل الذي تحجبه عن عيني هذه الطبيعة كما تحجب

ص: 21

الكف الدنيا الواسعة وهي كف واحدة. . .

وضجرت من هذه الفلسفة، فانصرفت عن العقل وتركته يهذي وحده.

وكنت قد بلغت البحر، فوقعت في حجر الطبيعة أتأمل وأناجي وأحلم. . .

لقد نفضت يدي من الناس ولجأت إلى هذه الطبيعة السخية الوفية الوادعة الجميلة أجد عندها أنس نفسي وراحة قلبي، أنظر إليها فتمحى هذه الأبعاد والمسافات، وتبدو لعيني لوحة فنية حافلة بالألوان التي لا يستطيع أبرع مصوّر أن يجمعها في لوحة. ومن لعمري يصوّر ألوان الغروب، أو ألوان الزهر في الروض أو يثبتها على لوحة بالألفاظ والأوزان أو بالأصبغة والألوان؟ إن الطبيعة أبرع في الألوان، ولكن الفن البشري أبرع في الأصوات. إن الطبيعة ليست موسيقية فنانة. . . عندها من الألوان مالا نهاية له ولكن ليس عندها إلا هدير الموج، وخرير النهر، وحفيف الأشجار، وتغريد البلابل، وسجع الحمام، وقصف الرعد. . . هذه موسيقاها، ومن هنا كانت الموسيقى أسمى الفنون لأنها ابتكار وتجديد، على حين أن الأدب والتصوير تقليد. . .

هذه الطبيعة التي أجد في حماها الحب والعاطفة والجمال، كلما لجأت إليها فراراً من الناس، وضيقا بالحياة، وما ذهبت مرة إلى بسّيمة وأطللت من (بيت طه) على هذا الوادي الصغير الذي يشبه همسة حلوة من همسات الحب، أو بيتاً بارعاً من قصيدة الجمال، إلا نسيت الدنيا كلها وأحسست أني مع حبيب قد وضع رأسه على فخدي، ونام. . . هذا الوادي الذي تجري فيه العين الخضراء لينة الأعطاف، فاتنة المحاسن، كأنها فتاة مدللة تخطر بحسنها وفتنتها على سفح الجبل، تغمز بردى بعينها وتغريه بجمالها وهو يلحقها جريا في بطن الوادي، متحدراً متكسراً كشاب قوي متين العود، جهير الصوت، قد اكتملت رجولته كما اكتملت أنوثتها، وأشجار الحَوْر (حُور كواشف عن ساق) يرقصن في عرس الفتاة المدللة والفتى القوي، رقصة الحب، يتمايلين على العروسين وقد تعانقا بعد قليل، وضم الفتى عروسه حتى اختفت بين ذراعيه، وطار بها إلى دمشق، لتكون جلوتها في الغوطة جنة الأرض. . .

وهذه الجبال الحمراء، تقوم على الباب، تحرس الوادي أن يدخله واش أو عذول يفجأ العروسين العاشقين، وتمنع الشمس الملتهبة أن تدنو منهما أو تعكر عليهما خلوتهما، فيبقى

ص: 22

الوادي جنة تري من تحتها الأنهار، والدنيا من حوله في جحيم الصيف. . .

غبت في تأملي وأنا على شاطئ البحر فلم ينبهني إلا المطر يساقط على وجهي ويديّ، فنظرت فإذا السحب قد نسجت في السماء ليلاً آخر، وإذا المطر يهبط بشدة، ثم يستحيل بردا طياشا؛ ثم تهب الريح وتجن الطبيعة جنونها، فتنطلق تعول وتولول، وتنتف شعرها، وتحطم كل ما بلغته يدها، فماجت نفسي واضطربت كهذا البحر الذي يزمجر ويلكم صخور الشاطئ حتى تكل سواعده، فيستلقي على الرمال فلا تكون إلا لحظة حتى ينزل سوط الرياح على ظهره دراكا، فيهب فزعاً مرتاعاً، ويعود إلى ضرب الصخر في غير ما طائل، والريح تدير هذه المعركة كلها، تقفز على رؤوس الجبال، وتبعثر البرد يمينا وشمالاً، وتنثر الرياح ثم تجمعها ثم تعبث بها. . .

جنت الطبيعة جنونها، ولكني لم أخفها ولم تكبر في عيني، وإنما ازدريتها وأبغضتها، ما هذه المخلوقة الضعيفة العاجزة التي لا يدري بها أحد من سكان هذا الكون الواسع؟ لقد رأيتها من قمة لبنان نقطة، فكيف يراها المشتري؟ وهل يعبأ نجم القطب بثورتها وجنونها. .؟

وانصرفت إلى نفسي أفكر آسفا. . .

إن العام يتصرم وليس حولي صديق أطمئن إليه، وأحمل معه أعباء الوداع، وأشاركه دمعة يذرفها معي على الفقيد الراحل، وبسمة يمنحها هذا المولود الجديد. . .

عرفت أن الصداقة ليس لها وجود، فنفضت يدي منهم ولجأت إلى الطبيعة أتخذها صديقي المخلص وأوليها حبي وقلبي فكانت هذه هي النتيجة. صادقت مجنونة طياشة بكاشة لا تعرف إلا التخريب والتدمير وتجهل ما هو الحق، وما هو الشعور؟

أهذا كل ما لي عندك يا صديقتي؟ ألجأ إليك في ساعة من أحرج ساعات حياتي قد تركت فيها أهلي وعفت صحبي لألقى بنفسي في أحضانك، وأخفي وجهي بين ثدييك، وأنشق عبيرك الطاهر، وأغتسل بدموع محبتك وعطفك، وأدفن آلامي في صدرك، فلا تلفينني إلا بهذا الجنون وهذا العويل؟

كلا، إنك لا تعرفين الحق ولا الشعور!

وأين لعمري مكان الشعور من الطبيعة؟

ص: 23

أنا أشعر بجمال الربيع، ولكن هل يشعر الربيع بجمال نفسه؟ لقد رأت الكونتس دي نواي في الطبيعة مخلوقا حيا ذا شعور وعانقت الربيع، وجالست المساء، ولكن ماذا رأى الربيع في الكونتس دي نواي؟ هل يفرق الربيع بين الفتاة تقطف الزهرة لتقدمها بفمها إلى حبيبها، والبقرة تقطف الورقة لتملأ بها معدتها.

وأنت أيها الجبل؟ كم رأيت من الفواجع التي تفتت الأكباد وتذيب القلوب، فهل شعرت بشيء منها؟ هل حزنت هل تألمت؟

أشعرت بالأمس القريب يوم عصفت الأثرة برؤوس نفر من القواد، فأطفئوا بأفواههم شعلة السلام، وملئوا العالم ظلاماً ثم نهضوا يبنون من الجماجم مجدهم في التاريخ، فلما امتلأت الأرض بالدم وتغطت بالجثث، وغسلت بالدموع، وتجلببت بالآلام والأوجاع والثكل واليتم، ولما كان الأمهات يبكين أبناءهن الذين ضاعت قبورهم كما ضاعت أسماؤهم، والأطفال يهتفون: بابا. ينادون من ليس يجيب. . . كان القواد العظماء يحتفلون بالظفر. . . أشعرت بشيء من ذلك يا لبنان؟ أشعرت بالأرامل والصبايا والأطفال يفتشون عن الخبز. . الخبز الأسود، فلما لم يجدوه توسدوا رجلك ونظروا إليك صامتين. ثم ماتوا جائعين. . كما مات ألوف وألوف في سبيل مجد القواد الظافرين!

ألان قلبك الذي قدّ من جلمد الصخر؟ أذرفت يا لبنان من عيونك الصافية دمعة حنان؟

وكم رأيت يا لبنان من متع الحب! وكم أوى إليك العاشقون فاستظلوا بظلك، وتعانقوا في حجرك، وشربوا خمر العيون، وسكروا بنجوى الحب، وتحدثوا بوسوسة القُبَل، ونسوا الدنيا كلها والزمان والطبيعة، ونسوا أنفسهم حين التقت الشفاه بالشفاه، وأغمضت العيون لترى القلوب مفاتن هذا العالم المسحور وتستمتع بهذه الدنيا المعطرة الحلوة المغنية دنيا القبلة الكاملة.

أهاج ذلك عاطفتك يا لبنان؟ أحرك قلبك كل ذلك أيها الشاب التياه الذي يخطر بحلله الخضراء الزاهية ويتيه بعطره الخالد؟

فأين هو مكان الشعور من الطبيعة؟

أأنت أيها البحر الرقيق السيال أرهف شعورا وأرق عاطفة؟ أيحزنك منظر البؤس والشقاء، وأنت تلتهم الأحياء، وتخنق البشر، وتفتح فاك لابتلاعهم، أأنت ذو الشعور؟. . .

ص: 24

أين هو الشعور؟ وأين أجد العاطفة في الطبيعة؟ أأبتغيها في البركان الهائل المحرق، أم في العاصفة العاتية المدمرة؟

وأين هو الحق في الطبيعة؟

أنا أرى في الطبيعة عاصفة تكسر الأغصان، وتقلع الأشجار؛ وأرى صاعقة تهدم الدور؛ وأرى سيلا يجرف المدن، ويكتسح في طريقه كل شيء؛ وأرى البركان الثائر؛ وأرى الرياح العاتية. كل هذا وجود مادي للقوة، فأين هو الوجود المادي للحق؟

لقد اتضح الأمر، وخسرت صديقتي الطبيعة الجامدة الظالمة الميّتة. . .

فلمن ألجأ؟

لمن ألجأ ويحك يا نفس؟ هذا العام يوشك أن يموت!

فعجزت النفس ولم تجب، وانطلق العقل يتفلسف، قال: إن في الطبيعة لحسّاً وتمييزا، ضع ذرة واحدة من الفحم، وخمسا من الأيدروجين يأخذ الفحم أربعا ويدع الواحدة، ومهما ضاعفت العدد تبقى النسبة ثابتة، أفليس هذا دليلا على أن الجماد يميز؟

وضع الذهب بين عشرة معادن وألق عليه الزئبق فإنه يعانق الذهب ويدع كل ماعداه، أفليس في هذا دليل على أن في الجماد شعورا وعاطفة؟

ولكني لم أنتبه لما قال العقل؟

ونظرت إلى البحر فقلت: ما البحر؟ ما الطبيعة؟ أنا لا أرى إلا هذا العالم المادي؛ ولكن ماذا وراء المادة من عوالم؟ إن الروح أول محطة في طريق هذه العوالم، فهل استطعنا أن نبلغها؟ إن العقل البشري يمشي إليها منذ بدأ صناعة التفكير، ولا يزال في الطريق لم تبن له معالمها. . . إنه تعب وملّ ويئس. . . افتح الآن أي كتاب من كتب (علم النفس) إنك لا ترى في فهرسه اسم الزوج ولا النفس. . .

وفكرت في العام الراحل فقلت: ما هو العام؟ ما وجوده؟ ما حقيقته؟ ولم أسمع جواباً فأغمضت عينيّ كما أغمضت قبة الأعظمية عينيها منذ عام، ولكني لم أحلم ولم أتذكر، وإنما لبثت صامتا محدقا في غير شيء كالأبله أو المشدوه، وتركت عقلي المغرور يتيه وحده في قضاء اللانهاية. . . إنه لا يستطيع أن يعرف شيئا مما وراء المادة. . . كما أن عقل الجنين لا يقدر أن يعلم شيئا عن هذا العالم ولا يؤمن بوجوده. . .

ص: 25

وكنت قد نسيت الطبيعة الجامدة الميتة التي لا شعور فيها ولا عاطفة، ونسيت هذه المخلوقات التافهة الحقيرة التي يدعونها (الناس)، ونسيت هذه الذرة التائهة في رياح الوجود التي اسمها (أنا)، وتوجهت إلى العظيم الباقي الذي هو وحده الخير المطلق والحق والجمال. . . توجهت إلى الله أسأله أن يلبس هذا العام القادم ثوب السعادة، ويضفي على العام الراحل حلة الغفران. اللهم آمين.

(بيروت)

علي الطنطاوي

ص: 26

‌بين القاهرة واستنبول

للدكتور عبد الوهاب عزام

- 4 -

متاحف طوب قبو سراي

يا أخي صاحب الرسالة:

سلام عليك والله يرعاك

أكتب إليك اليوم بعض ما شهدته أمس في متاحف قصر طوب قبو الذي كان مباءة السلاطين عصورا متطاولة. وعسى أن أكتب إليك من بعد طرفا من تاريخ هذا القصر الأفيح الذي يمتد على إحدى هضاب المدينة من جامع أيا صوفيا إلى رأس السراي (سراي بورنو) على بحر مرمرة:

للقصر أسوار بعد أسوار. الأبواب الخارجة تؤدي إلى حدائق واسعة. وقد ذكرت في رسالتي السابقة أحد هذه الأبواب حين ألجأني المطر أليه.

سرنا في الحديقة حتى انتهينا إلى باب آخر أسمه باب السلام فولجناه إلى حديقة أخرى واسعة تحيط بها أروقة، ويبدو فيها إلى اليسار بناء ذو قباب، أمامه رواق جميل. دخلنا فإذا حجرتان تتصل بهما حجرة مغلقة. اسم هذا البناء (قبة آلتي) أي تحت القبة. وكان في العصور الغابرة مجلس الوزراء. وكان الوزراء من اجل هذا يسمون وزراء القبة أو جلاّس القبة (قبة نشين). فالحجرة التي إلى اليسار فيها أرائك للوزراء تتوسطها أريكة الصدر الأعظم.

ويرى فوق مجلس الصدر نافذة عليها شباك من الحديد ناتئ كان السلاطين يشرفون من هذه النافذة ليسمعوا مفاوضة الوزراء أو يروا استقبال الصدور السفراء. وكتبت إلى جانب النافذة كلمة الشهادة وطرتان، بخط السلطان أحمد الثالث، والحجرة التي إلى اليمين كانت للكتّاب وفيها طرة للسلطان مصطفى الرابع، وسجادة يقال إنها نسجت قبل خمسة قرون. وكانت الحجرة المغلقة لاستراحة الكتاب.

وبني هذا البناء في عهد سليمان القانوني سنة 933.

ص: 27

ووراء هذه البَنيّة برج يعلو في الهواء 42مترا عليه منظرة تطّلع على المدينة كلها وكان حوله بناء.

وعلى مقربة من (قبة آلتي) حجرة كبيرة هي اليوم خزانة الأسلحة القديمة أسلحة الملوك والأمراء. يرى الداخل أمامه بلطات كثيرة من سلاح مماليك مصر، والى يمينه خزائن زجاجية يطّلع فيها على سيوف لبايزيد وسليمان. وهذا سيف السلطان الغوري وهذا سيف طومان باي. وأما سيف قايتباي هذا فقد طبعه من حديد وجده عند الحجرة النبوية سنة 881. وهذان سيفان لمحمد الفاتح؛ هذا الطويل المحلى للمحافل، وهذا القصير العاطل للمعارك.

وبينا نتأمل هذه السيوف ونعجب من قدمها، أرانا المعرض ما هو ابعد في التاريخ وأجل شأنا؛ هذا سيف عليه اسم معاوية وهذه سيوف أموية طويلة مستقيمة، وهذا سيف لعبد الله بن عمر، وآخر لكعب الأحبار. وهذا السيف الطويل العريض المذّهب قائمه قد كتب عليه:(معاذ بن جبل كاتب رسول الله) بل هذا سيف عثمان بن عفان. سعدت حينا بالذِكَر ولم أكدرها بتحقيق الأسانيد.

وتقدمت قليلا لأرى دروعا لمماليك مصر: وهذه درع كاملة: قميص وسراويل وعلى الصدر أضلاع من الحديد.

ومشيت إلى جانب آخر من الحجرة فرأيت الأقواس والسهام ريشها ونصالها، والجُعَب، وهي قِسىّ تركية من نبات القرنين العاشر والثالث عشر هـ. وهذه جعاب (تراكش) محلاة مزركشة، وهذه درع هنجارية محلاة الصدر بالذهب والفصوص الكريمة، وهذه درع كتب عليها اسم الشاه عباس الصفوي، ولا أدري أي العباسين الأول أم الثاني؟

وليت شعري لمن هذه الدروع التي اتخذت جُنة من الآيات والدعوات تقرأ عليها: يا خفيّ الألطاف نجنا مما نخاف. فالله خير حافظا، يا مالك الملك، يا منجي من المهالك، أنت الباقي وكل شيء هالك. وبيِّن أن السجع يقتضي أن يكون: يا مالك الممالك الخ ولعله تحريف الكاتب أو الطابع.

سنتقدم ونمر إلى خفتانات من الجلد أو النسيج الصفيق ومغافر من الجلد والحديد. بل هذه مغافر للخيل؛ والفرس صديق الفارس في المآزق يحتاط له كما يحتاط لنفسه. وكانت الخيل

ص: 28

تلبس المغافر على رؤوسها والتجافيف على أبدانها. وفي شعر أبي الطيب:

حواليه بحر للتجافيف مائج

يسير به طود من الخيل أيهم

ثم ترى قوائم أعلام يعلم الله ما شهدت من ظفر وهزيمة، ثم بنادق من عصور مختلفة فيها المحلى بالصدف الذي يضرب بالزند والصوان، وفيها بنادق القلاع الثقيلة، وضروب أخرى كثيرة.

- 2 -

تركنا خزانة السلاح وسرنا حتى اجتزنا الباب الثالث إلى رحمة واسعة، ويفضي الباب إلى رواق مستطيل مع الجدار، وعلى الباب من الداخل كتابة وثلاثة ألواح مستديرة فيها أسماء السلاطين وتواريخ ولايتهم ووفاتهم من عهد عثمان إلى محمد السادس وهي تشغل لوحين ونصف الثالث، وبقي الفراغ فيه ناطق بانتهاء الدولة.

وأمام الباب حجرة يتقدمها رواق. وهي حجرة العرض (عرض أوده سي) وكانت مجلس السلطان لمقابلة السفراء، ورجال الدولة أيام الأعياد وفيها سرير منجد تعلوه قبة من الخشب المصنع المزين وكان أثاث الحجرة وزينتها من آيات الإتقان والبذَخ ولكنها احترقت سنة 1273 وبقي بعض آثارها.

وفي جانب الحجرة نافورة يقال إنها كانت تفتح حين يُسر السلطان حديثه حتى لا يسمع الذي في الخارج.

وفي الرواق الذي أمام الحجرة حجر من المرمر يقال إن قتلة السلطان سليم الثالث وضعوا جثّته عليه وأروها للصدر علمدار مصطفى باشا.

وتقدمت فملنا ذات اليمين إلى (الخزينة) وفيها من نفائس التاريخ وأعلاق الملوك ما يكل الطرف دون تأمله؛ الحجرة الأولى والثانية بهما أدوات الطعام والقهوة من الصيني الجميل في ندرة من الألوان، وفتنة من بدائع النقش، صحون وطسوت وأباريق وفناجين، وأدوات من البلور والنحاس المذهب، وخوانات من الفضة ومواقد الخ الخ.

هذه المرائي اللألأة تبهر العين حيثما توجهت فتشغل الناظر عن التفكير فيما وراءها من التاريخ. قلت ماذا أرى وماذا أدع؟ هذه للعابر متعة دقائق، وللباحث درس أشهر، وللمفكر عبرة الدهر.

ص: 29

ثم حجرة الملابس، ياله منظرا مهيباً ومقاماً هائلا! صف ينتظم السلاطين من الفاتح إلى عبد المجيد. هاأنت ذا في حضرة السلاطين الذين رجفت بهم الأرض قرونا وامتلأت صفحات التاريخ أجيالا. هوّن عليك لا تُرَع. ما هي إلا ألبسة تحملها أعواد. أجل! هذه الجبة، وهذه العمامة الكبيرة، وهذه الشارة (سرغوج) التي تعلو العمامة محلاة بالماس، وهذا الخنجر المذهب الذي تثقله هذه الزمردة الكبيرة - أجل هذا لباس الفاتح وزينته وسلاحه، ولكن لا تُرَع إن هو ألا لباس على أعواد. اضحك إن شئت، وتحدث كما تشاء، ولا تأخذك هيبة الفاتح وصولته، وإن شئت فقف خاشعا مطرقاً مفكراً فإنها ذكرى واقعة وتاريخ ماثل، فإذا أخذتك سورة الذكرى واستشعرت رهبة الملك فارفع رأسك وانظر فليس أمامك الفاتح، ولكن جبته وقفطانه وعمامته وخنجره.

وانظر بجانبه ملابس بايزيد الصوفي: عقد من الزمرد حول حلقة من الجواهر يزين هذه العمامة، وعلى مقبض الخنجر ثلاث قطع من الفيروزج زرقاء صافية. وتقدمت فوقفت أمام سليم وسليمان! ولست أبالي حضرة سليم وسليمان، فقد ذهب الدهر بسليم وسطواته، وذهبت الريح بملك سليمان.

وانظر إلى من بعد سليم وسليمان: هذان سليمان الثاني ومحمد الرابع على رأسيهما عمارتان تخالفان ما رأيت قبلا، عمارة حمراء عليها لفافة صغيرة، وشارة عظيمة جداً؛ ثم انظر العمائم الطويلة المضلعة على رأس مصطفى الثاني ومن بعده.

وهذا محمود الثاني الذي بذل في اٌلإصلاح جهده وبطش بالإنكشارية بطشته في زي أوربي على رأسه طربوش عليه قطيفة سوداء وشارة. ثم عبد المجيد على رأسه الطربوش والشارة فقط. وهكذا يسير التاريخ متمهلا من أبهة الماضي واستقلاله وجلاله إلى يسر الحاضر وتقليده وجماله.

وفي وسط الحجرة صوالج لعبت بالأمور حتى لعبت بها الأقدار. وليت شعري ما خَطبُ هذا المهد السلطاني الصغير؟ بل أي طفل من بني السلاطين ترجّح فيه، وأي يد من أيدي الأميرات أو الخادمات هزته؟ وماذا كان حظ صاحبه من هذا المهد إلى ذاك اللحد؟

وأما هذا العرش العظيم المسبغ الجوانب ذو القوائم الأربع فيقال إنه عرش الشاه إسماعيل. . .

ص: 30

وبعد فيا صديقي الزيات! أخشى أن يطول الحديث فليقف الكلام عند عرش إسماعيل وموعدنا الرسالة المقبلة إن شاء الله.

والسلام عليكم ورحمة الله.

عبد الوهاب عزام

ص: 31

‌أناشيد صوفية

جيتانجالي

للشاعر الفليسوف طاغور

بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب

- 57 -

انتظم في نشيدي الأخير كل فنون الطرب: الطرب الذي يكسو وجهه بخضرة النبات المتراكم؛ الطرب الذي يبعث التوأمين - الموت والحياة - في أنحاء الأرض يطوفان معا؛ الطرب الذي يهبط جارفاً في ثنايا عاصفة فينفث في الحياة روح اللذة والمرح، الطرب الذي يستقر في هدوء وعبراته على زهرة اللوتس الحمراء وهي تتفتح؛ الطرب الذي ينثر كل ما يملك على الثرى ثم هو لا يستطيع حديثا.

- 58 -

نعم، أنا أوقن بأن هذا ليس شيئا سوى حبك، يا حبيب القلب! هذا الشعاع الذهبي المتألق على أوراق الشجر، هذه السحب المتكاثفة وهي تسبح في الفضاء، هذا النسيم العليل وهو يهب ندياً يداعب وجهي.

لقد ملأ نور الصباح عينيّ، وهو رسالتك إلى قلبي، إن وجهك يطل على من علٍ، وعينيك تحدقان في، وقلبي يلمس قدميك.

- 59 -

على شاطئ بحر الكون اللانهائي يتلاقى الأطفال، ومن فوقهم السماء تمتد في سكون إلى اللانهاية، وبازائهم الأمواج المضطربة تزمجر، وعلى شاطئ بحر الكون اللانهائي يتلاقى الأطفال في هياج ومرح.

وهم يتخذون من الرمال قصورا، ومن الأصداف الفارغة لعبا؛ ويشيدون من الأوراق الذابلة قوارب يدفعون بها على صفحة الماء الغمر في لذة. إن الأطفال يجدون السلوة على شاطئ بحر الكون.

ص: 32

إنهم لا يستطيعون السباحة ولا يعرفون كيف تلقى الشباك. إن الغواص يندفع يفتش عن اللآلئ، والتاجر ينطلق على الفلك يجمعها، ولكن الأطفال يجمعون الحصى وينثرونه لأنهم لا ينقبون عن الكنوز الخفية، فهم لا يعرفون كيف تلقى الشباك.

البحر يموج كأنه يقهقه، ورمال الشاطئ الصفراء تشف عن بسمة رقيقة، والأمواج إلى جانب الأطفال تردد أغاني لا معنى لها كأنها صوت أم تهدهد طفلها وهو في مهده. إن البحر يداعب الأطفال، ورمال الشاطئ الصفراء تشف عن بسمة رقيقة.

على شاطئ بحر الكون اللانهائي، يتلاقى الأطفال والعاصفة تزمجر في الفضاء، والسفن تتحطم في مجاهل الأمواه. الموت هناك، وهنا الأطفال يلعبون. على شاطئ بحر الكون اللانهائي يتلاقى الأطفال لقاءهم العظيم.

- 60 -

أفيستطيع إنسان أن يعرف من أين يهبط النوم الذي يداعب جفني الطفل؟ نعم، إن الإشاعة تدوي أنه يتخذ له مسكنا في القرية الجميلة التي بين تفاريق الغابة الظلماء لا ينيرها سوى الشعاع الضئيل المنبعث من الفراش المضيء، هناك تتدلى زهرتان فيهما الحياء والفتنة تنفثان ريح النوم فينطلق ليقبل عيني الطفل.

أفيستطيع إنسان أن يعرف من أين تهب البسمة الساحرة التي ترسم على شفتي الطفل وقد غمره النوم؟ نعم، إن الإشاعة تدوي أن شعاعاً رفيقاً ندياً انبعث من القمر وهو هلال فلمس حافة سحابة من سحب الخريف وهي تكاد تتلاشى، فولدت - أول ما ولدت - الابتسامة في أحلام الصباح الندي. . . هذه هي الابتسامة الساحرة التي ترتسم على شفتي الطفل حين يغمره النوم.

أفيستطيع إنسان أن يعرف أين كان يتوارى النشاط الحلو الرقيق الذي يضطرم في أطراف الطفل؟ نعم، حين كانت الأم فتاة ألقت بقلبها في هدوء بين خفايا الحب. . . الحب، إنه هو النشاط الحلو الرقيق الذي يضطرم في أطراف الطفل.

- 61 -

حين أحمل إليك - يا بني - اللعب الجميلة الملونة أستطيع أن أعرف لماذا ارتسمت هذه

ص: 33

الألوان على السحب، على الماء، ولماذا صبغت الأزهار اليانعة بألوان جذابة. . حين أحمل إليك - يا بني - اللعب الجميلة الملونة، حين أغني أمامك لترقص على نغم أغاني؛ أعرف حقا لماذا تنبعث الموسيقى من حفيف أوراق الشجر، ولماذا يرسل الموج ألحانه في قلب الأرض الصامتة. . حين أغني أمامك لترقص على نغم أغاني.

حين أقدم لك الحلوى فتتقبلها في شغف؛ أعرف أنا لماذا امتلأ كأس الزهرة رحيقا، ولماذا انضمت الفاكهة على عصير حلو. . . حين أقدم لك الحلوى فتتقبلها في شغف.

حين أقبل جبينك - يا عزيزي لتبسم؛ أستطيع أن ألمس اللذة في شعاع الصباح المنير، وأن أحس النشوة التي تنفثها في نسمات الصيف. . . حين أقبل جبينك لتبسم.

- 62 -

أنت عرّفت علي أصدقاء لا أعرفهم، وحبوتني بمكان في كل دار وليس لي واحدة منها، وأنت كشفت لي عن كل مبهم، ومننت علي برفيق في الغربة.

إن قلبي ليضطرب حين أهجر مأواي الذي سكنت إليه. لقد نسيت أن القديم يتحدر إلى الحديث فيعيش معه، وأنك أنت أيضا.

بين صراع الحياة والموت، على هذه الأرض أو على سواها، تقودني أنت أنى شئت. . . وأنت رفيقي الأوحد في هذه الحياة الأبدية، رفيقي الذي تجذب إليك قلبي بنفثات من الطرب المجهول.

إن الذي يعرفك لا يستشعر الغربة في هذا العالم ولا تسد في وجهه الأبواب. أوه، تقبل صلواتي كي لا أفقد لذة لمساتك - أيها الفرد - في سبيل المجموع.

- 63 -

عند منحدر النهر الموحش، وبين الحشائش النامية سألتها (يا سيدتي، إلى أين تذهبين وأنت تسترين سراجك بين طيات ملاءتك؟ إن داري مظلمة خاوية فأعيريني ضوءك!) فأرسلت من عينيها السوداوين نظرات نفاذة اخترقت أستار الظلام، واستقرت علي حينا ثم قالت (لقد جئت إلى النهر لأضع مصباحي على صفحة الماء حين ينطفئ مصباح النهار) فوقفت وحيداً بين الحشائش أرقب نور مصباحها الخافت وهو يتناثر بدداً على صفحة الماء.

ص: 34

وفي صمت الظلام سألتها: (يا سيدتي، لقد همد مصباحك فإلى أين تنطلقين ومعك سراجك؟ إن داري مظلمة خاوية فأعيريني ضوءك!) فأرسلت من عينيها السوداوين نظرات نفاذة استقرت علي حيناً، ثم قالت:(لقد جئت لأقدم مصباحي إلى السماوات) فوقفت أرقب الضوء الخافت وهو يضطرب - دون جدوى - في الفضاء.

وفي أعماق الليلة الظلماء سألتها: (يا سيدتي، لماذا تضمين مصباحك إليك؟ إن داري مظلمة خاوية فأعيريني ضوءك!) فتلبثت قليلاً تفكر نظرت إلي وقالت: (لقد جئت بمصباحي لأنضم إلى الحفل) فوقفت أرقب الضوء الخافت وهو يغوص وسط المصابيح.

كامل محمود حبيب

ص: 35

‌من الشعر الإنجليزي.

القبرة

للشاعر العبقري الإنجليزي (شيللي)

للأستاذ خليل هنداوي

(تعد هذه القطعة أكمل ما جاء في الشعر الإنجليزي وقد نظمها صاحبها في إيطاليا، وهو في الثامنة والعشرين من عمره. وقد قالت امرأته: إنه كان في أحد أيام الصيف يتجول في الغابات وقد سمع صوت قبرة، فأوحت إليه قصيدة من أسمى قصائده)

(خ. هـ).

سلاما عليك أيتها الروح المرحة!

أنت لستِ بطائر

يا من تسكبين من السماء ومن الطباق المجاورة

ألحانا مبتكرة - علينا - يطفح قلبك بها

تطيرين إلى الأعلى، دائماً إلى الأعلى

وتنقذفين من الأرض كسحابة من نار،

وتطيرين فوق الأعماق الزرقاء

شادية وأنت محلقة

محلقة وأنت شادية لا تنتهين.

وفي لمعات الشمس الغاربة التي يسطع لها السحاب

تسبحين وتركضين كفرح طليق متوثب بدأ سباقه؛

صفرة المساء الأرجواني تنتشر حولك

وكنجمة غمرها نور النهار الواضح تصيحين متوارية،

ولكني لا أزال أسمع هتافك الطروب.

الفضاء والأرض مفعمان بصوتك

كعهدهما عندما يرسل القمر أشعته من وراء سحابة منعزلة

ص: 36

في الليلة الصافية

والسماء يفيض على حواشيها شعاعه

خرير الينابيع بين الأعشاب اللامعة

والأزهار النائمة التي ينبهها المطر

وكل ما أطرب وأفرح وسر ألا يفوق لحنك منه شيء

علمنا أيها الطائر!

أي جمال في أفكارك!

فإني لم أسمع مقطوعة في حب أو خمر تفجر في النفس كمثل

ما يفجره لحنك من الغبطة الإلهية

إن الحان العرس وأغاني النصر إذا قيست إلى ألحانك لا

تبدو إلا ضجة فارغة أو فراغاً لا معنى له.

لأية غايات تترامى ينابيع صيحاتك الفرحة؟

أية حقول وأية أمواج أو جبال؟

وأية مشاهد في الأرض أو في السماء؟

وأي حب للقريب؟ وأي جهل للشقاء؟

إن العناء لا يسكن مع فرحك الظاهر القوي؟

وخيال الضجر لا يَمسُّك أبداً

إنك تحيين ولكنك لم تعرفي أبداً شبح الحب الكئيب

سواء كنت نائمة أو يقظى، فإن لك أفكاراً على الموت اثبت

حقيقة مما نحلم به

وإلا فكيف تسبح أنغامك كالأمواج البراقة؟

إننا ننظر أمامنا ووراءنا، وإنا لنشحب بعد الفناء؛

وضحكتنا الأكثر صفاء هي مشوبة ببعض الألم؛

واجمل أغانينا الأغاني التي ترجع لنا أفكارنا الكئيبة،

على أننا لو قدرنا أن نجتنب الخوف والبغض والكبرياء

ص: 37

ولو ولدنا لكي لا نبكي أبداً،

فإني لا ادري كيف لا يستطيع فرحك أن يستعطف أنفسنا!

إن فنك الذي يزدري الأرض

يكون - عند الشاعر - افضل من أوتار الألحان الرائعة

ومن كل الكنوز التي تصونها الكتب.

آه لو علمتني - أيتها القبرة - نصف فرحك الذي يعرفه قلبك

أو صوتاً مطرباً يفيض من شفتي يسمعه مني الناس كما اسمع الآن

ص: 38

‌قبرة شيللي

للشاعر الإنجليزي توماس هاردي

كتبت في إيطاليا حيث كتب شيللي مقطوعته الشهيرة (القبرة)

هنا بعض شيء - حول هذا المكان - يستريح ملاصقاً أمينا للأرض الناسية العمياء

بعض شيء ترك قلب الشاعر فياضاً

قبضة مجهولة من تراب لا يُرى

تراب القبرة التي سمعها شيللي وخلدها لكل الأزمان

على أنها لم تعش إلا كمثل عصفور من العصافير

ولم تعلم أنها أصبحت مخلدة

قضت حياتها العذبة ثم سقطت يوما كتلة من ريش وعظام.

أما سؤالك كيف هلكت وهي ترجع أنشودة الوداع

وأين استقر رمادها

فهذا أمر مجهول.

ربما تستريح تحت عيني في التراب

وربما تخفق بين أوراق الرياحين

وربما تنام في ظاهر لون عنقود يتلون في منحدر التلال

بعيداً عن البحر

ألا فتشن عنها أيتها الجنيات!

ألا فتشن عنها هذه القبضة الصغيرة من الرماد من غير ثمن

وخذن آنية موشاة بالفضة مغشاة بالذهب، مرصعة باللؤلؤ

إننا سنضعها فيها بأمان، ونسلمها إلى أبد الزمان

لأنها بلغت ذروة الذهول السامي في التفكير والألحان

خليل هنداوي

ص: 39

‌فلسفة التربية

كما يراها فلاسفة الغرب

للأستاذ محمد حسن ظاظا

- 5 -

الديمقراطية والحياة المثلى

(أية قطعة من الخليقة هو الإنسان؟ كم هو عظيم في عقله وليس بمحدود في ملكاته؟ وكم هو رائع وسريع في صورته وحركته؟ وكم هو كالملاك في عمله وكالإله في فهمه؟ إنه جمال العالم وتاج الحيوان!!)

شكسبير - هملت.

(على التربية اليوم أن تصلح الأخطاء التي فشلت السياسة في إصلاحها، وأن تخدم قضية الديموقراطية أفضل خدمة).

،

عرضت عليك في المقال السابق ألواناً من أغراض التربية وصوراً، وأشرت إلى دقة الموضوع وصعوبته، ثم تركته مفتوحاً لرجال التربية في الشرق كيما يدلي كل منهم فيه برأيه الخاص؛ وأعود اليوم فأجول بك في (الحياة المثلى) ما دمنا نريد من التربية أن تعدنا لمثل تلك الحياة. . .

ولكن ترى ماذا عسى أن تكون هذه (الحياة المثلى) لذلك (الإنسان العظيم) الذي تصوره شكسبير؟؟ وأي علم من العلوم، أو فن من الفنون، يصلح للخوض في ذلك الموضوع غير الفلسفة والشعر؟؟ ومن أين تستمد التربية هذه الحياة إذا هي لم تستمدها من الفلسفة والشعر؟؟

الحق أن الناس قد اختلفوا وما زالوا يختلفون في تصورهم للحياة، وأن الفلاسفة والشعراء قد تباينوا تباينا عظيما فيما قد رسموه لها من (مثل عليا) دافعوا عنها ودعوا الناس إليها! وأنت ترى بعد ذلك أن الموضوع خطير كل الخطورة ما دامت حياتنا هنا واحدة لا عودة لها ولا تكرار!

ص: 40

إذن فيم تقوم (الحياة المثلى)؟ أفي الزراعة وحكمة الأقدمين كما يقول (غاندي)؟ أم في السرور كما يزعم (ماتيو أرنولد)؟ أم في العمل بالتئام مع إرادة حاكم الكون كما يردد (زينو)؟ أم في النشاط الفكري الدائر حول أسمى موضوعات الفكر - وهو الله - كما يؤكد (أرسطو)؟ أم في إشباع الحاجات الطبيعية دون إفراط أو تفريط كما يطالب (سبنسر)؟ أم في التأمل في الجمال المطلق كما يسمو (أفلاطون)؟ أم في حياة الفضيلة كما نصح الرواقيون؟، أم في الحياة الطبيعية البعيدة عن العلم والفن كما صرح (روسو)؟ أم في أداء الواجب فحسب كما ألح (كانت)؟

تلك جمعياً تصورات (للحياة السعيدة) فيها من التشابه والاختلاف الشيء الكثير. ولقد حاول (ديوي) في نزعته الاجتماعية الجارفة أن يدلي برأيه في الموضوع فقال: (إن السعيد من الناس هو من ينظر إلى قوى نفسه من ناحيتها الاجتماعية فلا يدبر أمراً أو يرغب فيه إلا بالإشارة إلى أثره في الجماعة التي هو جزء منها. ذلك أن سعادته إنما تقوم في تنمية (النشاط الاجتماعي) دون النظر إلى ما عسى أن يكون في ذلك من لذة أو ألم) ومعنى ذلك أن الإنسان - مهما سما في الفكر أو اغتنى بالمادة - لا يستطيع أن يتذوق السعادة الحقة إلا في ظل الجماعة التي هو جزء منها، والتي لها عليه واسع الفضل وعظيم النعمة؛ وليست هذه النزعة في الواقع إلا صدى لتيار (الديمقراطية) الذي أغرق بأمواجه المدوية الجارفة خرافة (التفريق بين الناس)، وحمل (الشعب) على ظهره إلى فردوس الكرامة والرقي!

وماذا عسى أن تكون هذه الديمقراطية؟ وماذا عسى أن تكون تطبيقاتها في التربية؟

أما هي فيعرفها (ديوي) بأنها (حكم الشعب لأجل الشعب وبالشعب)! ويفسرها بأنها اشتراك الأفراد في المصالح العامة بحرية تامة وفي دائرة الخير العام؛ هذا بينا يعرّفها (باستور)(بأنها النظام الذي يمكن الجميع من تحقيق أقصى مجهوداتهم).

وأما تطبيقاتها في التربية وفي غير التربية فخطيرة وعظيمة بحيث لا يكاد يتسع لها مثل هذا البحث. . . وحسبك أن تعلم آثارها في نظام الحكومة، ونظام العمل والعمال، ونظام التعليم الشعبي، بل نظام العالم كله كما يتصوره السلميون العالميون لتعلم حقيقة ما أقول:

وهاهو ذا (وولف يشترط في أعمال الفرد الديمقراطي أن (تكون شائقة جذابة وإلا دفعت به إلى الفساد الخلقي)!

ص: 41

وهاهو ذا (هوبهوس) يحرم الحرب في الديمقراطية لأنه يراها تقتل (الحرية)، وهذه - كما تعلم - أساس الديمقراطية.

بل هاهو ذا الأستاذ يرى مع (ديوي) وغيره أن الديمقراطية يجب أن تسود التربية في جميع مراحلها وتطبيقاتها ويرجو من التربية ذاتها أن تكون خير مساعد في نشرها كيما تستطيع غدا أن تصلح تلك (الأخطاء الهائلة) التي رزح العالم تحت أثقالها سنين طوالاً، وكان الجاني عليه فيها سياسة عمياء، ونزعة حمقاء، وجهل مطبق!

تطبيقات الديمقراطية على التربية

وما دمنا هنا إزاء التربية فلا بد من أن نجعلها صالحة لخلق ذلك المجتمع الديمقراطي المنشود - لابد من أن نجعلها تعد الفرد لا لملء مركز خاص كما كان الحال في (خرافة الطبقات)، بل لخلق مركز مناسب يعمل فيه كوحدة مرنة متسقة محترمة قادرة على مواجهة التغير المنتظر في كل وقت، وغير خاضعة لسياسة تعسفية مفروضة!

ولم ذلك؟ ألم تفشل مدارسنا الراهنة في تعليمنا أن الحياة مغامرة فيها من المفاجآت القاسية بقدر ما فيها من المداعبات الهينة؟ ألم تخرج لنا أولئك المتكبرين المتعجرفين الذين لا يصلحون لشيء غير ملء المقاعد وتسويد الأوراق، والذين تقوم بينهم وبين الشعب هوة من الإنسانية الكسيرة، والكرامة المهيضة والشرف المذبوح؟

نريد إذن عالماً أحسن؟! عالماً لا تثور فيه الحرب، ولا تطغى الآلة، ولا يذبح فيه (العلم المادي) الإيمان فيؤخر السمو الخلقي ويعوقه عن اللحاق بالتقدم العلمي!! عالماً لا يدخل عليه التغير الحتمي فيغرق أبناءه في جحيم من الفوضى كما نرى في كل مرحلة انتقال تجتازها أمة من الأمم أو مجتمع من المجتمعات!!

وسبيل ذلك كله هو تحويل (المدرسة والتدريس) إلى (شيء آخر) تنمو فيه شخصية الطفل، وتقوى على مواجهة الظروف، وتكون مرنة لا تأسرها العادات، وذات فراغ كاف بريء يكسبها حكمة العلم ورقة الفن ويسمو بها فوق الآلات!! ذلك إلى عمل (مفهوم) وشائق وجذاب، وإلى ثقافة راقية تفهم صاحبها مركزه في الكون ووظيفته في الجماعة التي يجب أيضا أن تكون مفهومة لديه!! ثقافة خالية من (لصوص التاريخ وسفاكيه) كما يقول هازئاً (برناردشو) وبذلك يكون لدينا عضواً فعالاً، متعاوناً مستقلاً، عادلاً، يحترم المعارضين،

ص: 42

ويشك، وينقد، ويجازف، ويسمو في إنسانيته فوق العجماوات، عضواً يرى السلاح حقارة كما يقول (برتراند رسل)، ويمقت البدع الدينية ومروجيها من ذوي الطيالس واللحى، عضواً كله إقدام وتفاؤل وأمل، لا خوف وتردد ويأس. . .

وستسأل بعد ذلك عن الأساس الفلسفي الديمقراطي؟! وسأجيبك أن الله الذي خلق الإنسان (على مثله وصورته) ما كان ليرضى له ذلاً أو استعباداً، أو أي مظهر آخر من مظاهر الاستبداد الذي يخمد إنسانيته ويعوقها عن كمالها المنشود.

أوَ ليس (الإنسان) عظيماً في عقله، وغير محدود في ملكاته، ورائعاً في صورته، وسريعاً في حركته؛ وكالملاك في عمله، وكالإله في فهمه؟ لأنه جمال العالم وتاج الحيوان؟

إذن فما لنا نأبى عليه إنسانيته الرفيعة هذه، ونلقي به في هوة فيها ما شئت وما لم تشأ من حيوان وشيطان؟

(يتبع)

محمد حسن ظاظا

مدرس الفلسفة بالمدارس الثانوية

ص: 43

‌للأدب والتاريخ

مصطفى صادق الرافعي

1880 -

1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 20 -

تحت راية القرآن

الجديد والقديم. . .! هنا ميدان الخصومة بين الرافعي وأدباء عصره؛ فمنذ نحله أديب منهم زعامة المذهب القديم في مقال كتبه لمجلة الهلال سنة 1923، نشط الرافعي ليجاهد هذه الدعوة التي يدعون إليها بتقسيم الأدب إلى قديم وجديد؛ إذ لم تكن هذه الدعوة عنده إلا وسيلة إلى النَّيل من العربية في أرفع أساليبها، وسبيلاً إلى الطعن في القرآن وإعجاز القرآن، وباباً إلى الزراية بتراث الأدباء العرب منذ كان للعرب شعر وبيان. ومن ذلك اليوم نصب الرافعي نفسه ووقف قلمه على تنفيذ دعوى التجديد؛ فجعل همَّه من بعد أن يتتبع آثار الأدباء الذين ينتسبون إلى الجديد ليردَّ عليهم ويكشف عن باطلهم. وما كان يرى في عمله ذلك إلا أنه جهاد لله تحت راية القرآن؛ فمن ذلك كان اسم كتابه الذي جمع به كل ما كتب في المعركة بين الجديد والقديم، من سنة 1908 - 1926.

هو كتاب لم ينشئه ليكون كتاباً، ولكنها مقالات تفرقت أسبابها واجتمعت إلى هدف واحد، وكانت مزقاً مبعثرة في عديد من الصحف والمجلات فجمعها بين دفتي كتاب، فاجتمع بها رأي الرافعي في القديم والجديد على اختلاف أسبابه ودواعيه وما كُتب له؛ على أنك لا تكاد تبلغ من صفحات هذا الكتاب إلى الصفحة المائة من أربعمائة حتى يخلو الميدان من كل أنصار الجديد إلا رجلاً واحداً هو الدكتور طه حسين بك، ويتوجه إليه الخطاب والرد في كل ما بقي من صفحات الكتاب؛ فكأنما أنشأه الرافعي وجمعه كتاباً للرد عليه هو وحده، وكأنه هو وحده الذي يدعو إلى الجديد وينتصر له ويحمل رايته؛ فإذا أوشكت أن تفرغ من الكتاب فرغت من الرافعي ومن رأيه ومن حديثه، لتقرأ جلسة من جلسات البرلمان يرأسها سعد ويتداول الحديث فيها طائفة من النواب عن طه حسين ورأي طه حسين في الأدب

ص: 44

وفي الدين وفي القرآن، ويحتدم فيها الجدل بين حكومة عدلي وبرلمان سعد في شأن هو إلى الأدب أدنى منه إلى السياسة؛ وإنها لجلسة ممتعة خليقة بأن تكون في موضعها من كتب الأدب وتاريخ النقد الأدبي.

وليس الكتاب على استواء واحد في أسلوبه؛ ففي المقالات الأولى منه تقرأ رأي الرافعي هادئاً متزناً فيه وقار العلماء وحكمة أهل الرأي ورحابة صدر الناقد البريء؛ فإذا وصلت من الكتاب إلى قدر ما، رأيت أسلوباً وبياناً غير الذي كنت ترى، وطالعتك من صفحات الكتاب صورة جَهْمةٌ للرافعي الثائر المغيظ المحنق، جاحظ العينين كأنما يطالب بدم مطلول، مزبد الشدقين كالجمل الهائج، منتفخ الأنف كأنما يشم ريح الدم، سريع الوِثاب كأن خصماً تراءى له بعدما دار عليه طويلاً فهو يخشى أن يفر، وهو هنا يعني طه حسين وحده!

وليس عجيباً أن ترى هذين اللونين من النقد لأديب واحد بين دفتي كتاب؛ فإن هذه المقالات وإن صوَّبتْ إلى هدف واحد قد اختلفت دواعيها وأسبابها ومن كُتبت له؛ وقد كان بينها في التاريخ الزمني سنوات وسنوات، والكاتب المتجدد لا يثبت على لون واحد من عام إلى عام.

على أنك تقرأ للرافعي من هذا الكتاب رأيه في طريقة تدريس الأدب بالجامعة غداة تأليفها سنة 1908، فتراه يدعو إلى مذهب جديد في تدريس الأدب، وتقرأ له - من الكتاب نفسه - ردَّه في سنة 1926 على طه في طريقته الجديدة لتدريس الأدب، فتراه ينكر عليه هذا الجديد؛ فتعلم من هذا وذاك أن الرافعي لم يكن يعني بحملته أن يناهض كل جديد، بل كانت غايته أن يردَّ إلى الأفواه كل لسان يحاول بدعوى الجديد أن يتنقص من القديم ليخلص من ذلك إلى النيل من لغة القرآن ولغة الحديث ومن تراث أدباء العربية الأولين.

ليس يعنيني هنا أن ألخص رأي الرافعي في الجديد والقديم، فمراجع البحث عن رأيه في ذلك واسعة مستفيضة، إنما قصْدت إلى تعريف هذا الكتاب إلى قراء العربية في عرض موجز ووصف كاشف؛ أما ما دون ذلك فله من شاء من أهل الرأي والنظر، وله مني غير هذا المجال من الحديث.

والآن سأتجاوز الفصول الأولى من الكتاب لأتحدث عن أسلوبه في سائره؛ ويبدأ هذا الجزء

ص: 45

من صفحة 104 - 405 وفيه تفصيل ما كان بين الرافعي وطه حسين منذ بدأت الخصومة بينهما حول (رسائل الأحزان) إلى أن انتهت عند مجلس النواب حول كتاب (في الشعر الجاهلي)، وهو فصول عدة، فيها ألوان من النقد مختلفة، وأساليب في البيان متباينة؛ ففيها التهكم المر، وفيها الهجوم العنيف، وفيها المصانعة والحيلة، وفيها رد الرأي بالرأي، وفيها تقرير الحقيقة على أساليب من فنون النقد، وفيها المراوغة ونصب الفخاخ للإيقاع، وفيها الوقيعة بين فلان وفلان، وفيها الزلفى إلى فلان وفلان، وفيها العلم والأدب والاطلاع الواسع العميق، وفيها شطط اللسان ومر الهجاء؛ وفيها فن بديع طريف، فيما حكى الرافعي عن كليلة ودمنة. . .

ولكن اكثر هذه الفصول يطرد على مثال واحد إذا أنت نظرت إليه في جملته، فيبدأ كل فصل منها بأسلوب اليم من التهكم يفتنّ الرافعي فيه فنوناً عجيبة حتى يبلغ نصف المقال؛ ثم يميل إلى طرف من موضوع الكتاب المنقود، فيتناوله على أسلوب آخر هو اقرب الأمثلة إلى ما ينبغي أن يكون عليه النقد الأدبي، لولا عبارات وأساليب هي لازمة من لوازم الرافعي في النقد إذا كان بينه وبين من ينقده ثأر. . . بلى إنها نموذج عال في النقد العلمي الصحيح لولا تلك العبارات وهذه الأساليب!

كليلة ودمنة

على أن مبالغة الرافعي في التهكم قد شققت له فنوناً من المعاني والأساليب، لولا الناحية الشخصية منها لكانت نماذج لها اعتبار وقيمة في أدب الإنشاء؛ وأبدع هذه الأساليب حديثه عن كليلة ودمنة وما نحلهما من الرأي في طه حسين. وكليلة ودمنة كتاب في العربية نسيج وحده، لم يستطع كاتب من كتاب العربية أن يحاكيه منذ كان ابن المقفع، إلا مصطفى صادق الرافعي. وكانت أول هذه المحاكاة اتفاقاً ومصادفة، في مقالة من مقالات الرافعي في طه حسين؛ إذ أراد أن يتهكم بصاحبه على أسلوب جديد، فبعث كليلة ودمنة ليقول على لسانهما كلاماً من كلامه ورأياً من رأيه؛ فلما أتم تأليف هذا الفصل عاد يقرؤه، فإذا هو عنده يكاد من دقة المحاكاة وقرب الشبه أن ينسبه - على المزاح - إلى ابن المقفع فلا يشك أحد في صدق روايته، فنشره بعدما قدم له بالكلمة الآتية: (عندي نسخة من كتاب كليلة ودمنة ليس مثلها عند أحد. . . ما شئت من مثل إلا وجدته فيها؛ وقد رجعت إليها اليوم فأصبت

ص: 46

فيها هذه الحكاية. . .

(قال كليلة: أما تضرب لي المثل الذي قلت يا دمنة؟ قال دمنة: زعموا أن سمكة في قدر ذراع. . . . . .) ومضى في اختراعه وتهكمه حتى انتهى إلى رأي دمنة في الدكتور طه حسين. . .

ثم استمر ينقل عن (نسخته الخاصة) من كليلة ودمنة ما يجعله مقدمة القول للتهكم فيما يلي من مقالات في الرد على الدكتور طه حسين، فنشر منها ثمانية فصول طريفة ممتعة في كتاب المعركة. وإن قارئ هذه الفصول الثمانية ليرى فيها لوناً طريفاً من أدب الرافعي، لو أن الظروف واتته لأتمه فأنشأ به في العربية إنشاء جديداً له خطر ومقدار. على أن الرافعي لم يكن يقصد أول ما قصد أن يتمه كتاباً، إنما دفعه إلى إنشاء هذه الفصول السبعة بعد الفصل الأول، ما لقي من استحسان القراء لهذا اللون الجديد من أساليب التهكم في النقد؛ وأحسب أن الدكتور طه حسين نفسه كان معجباً بهذه الفصول الثمانية من كليلة ودمنة مع ما يناله فيها مما يؤلم ويسيء، كما كان يعجب فلان بما ينشر بما ينشر له من الصور الرمزية الساخرة لأن فيها فناً ومقدرة. . .!

وانتهى الرافعي من حديث كليلة ودمنة بعد انتهاء هذه المعركة وظل مهملاً (نسخته الخاصة) ست سنين بعد ذلك، حتى تذكرها في سنة 1932 أو 1933 في إبان المعركة بينه وبين العقاد حول (وحي الأربعين) فنشر الفصل التاسع منها في البلاغ بعنوان (الثور والجزار والسكين) ثم نشر في الرسالة سنة 935 الفصل العاشر بعنوان (كفر الذبابة!) يعني بها مصطفى كمال وحركته الدينية، وفصلاً آخر لا أذكره.

وقد كان في منية الرافعي أن يتم هذه النسخة من كليلة ودمنة يعارض بها كتاب ابن المقفع أو يتمه، ولكنه لم يوفق، وكان في ذلك خير؛ فهذه الفصول في موضعها من الكتب التي نشرت بها اجمل وأخف، وإفرادها بالنشر يحملها على تكلف الصنعة ويباعد بينها وبين أذواق القراء. على أن هذه الفصول لا اتصال بينها في موضوعها بحيث تصلح للنشر متساوقة متتابعة كما تتساوق الفصول والأمثال في كتاب ابن المقفع.

هذا مجمل الرأي وملخص الموضوع في كتاب المعركة تحت راية القرآن وما احتواه. وهو وكتاب آخر اسمه (على السفود) خلاصة مذهب الرافعي في النقد وأسلوبه في الجدال؛

ص: 47

وفيهما أشلاء المعركتين الطاحنتين بينه وبين طه وبينه وبين العقاد، بدمائهما، ورمامهما، ولهيبهما المستعر، ودخانهما الخانق، وغبارهما الكثيف. .

لو تجرد هذان الكتابان من بعض ما فيهما لكانا خير ما أنتجت العربية في النقد، واحسن مثال في مكافحة الرأي بالرأي مع الاطلاع الواسع والفكر الدقيق. ولكن وا أسفا، إن الإطار يحجب ما في الصورة من جمال، فمنذا - غير مالك الصورة - يستطيع أن يحطم هذا الإطار ليجعلوا الصورة في جمالها على أعين الناس!

(شبرا)

محمد سعيد العريان

ص: 48

‌نهضة القصة في لبنان

للسيدة وداد سكاكيني

كان من حظ لبنان أن هبت عليه ريح الثقافة اللاتينية بعد الحرب الكبرى، فدبت في أرجائه حياة أدبية جديدة نفخت في أبنائه روحاً طوحاً، فذاق المتعلمون منهم أطيب ثمار الآداب الفرنسية؛ ومنها فن القصة الذي كان له في نهضة فرنسا الحديثة تأثير كبير سايرها في شتى مناحي الحياة. وليس بغريب أن يسمو فن القصة في أمة ناهضة استيقظت على صرير الأقلام الحرة، فقد عرف قادتها في الرأي والتفكير كيف يشقون الدروب للموهوبين في القصة والأقصوصة فكرموهم اجمل تكريم وضمنوا لهم حياة راضية حفزتهم للإجادة بالتنافس، فتسابق البارعون منهم إلى المجامع العلمية والندوات الأدبية يرفعون إليها قصصهم لينالوا جوائزها المعدة للفائزين.

وأولى هذه الجوائز التي ظهرت في فرنسا اعترافاً بالسمو الأدبي جائزة غونكور، وما تزال موضع رجاء يتطلع إليه الأدباء بلهفة وإكبار. وقد تعد لديهم أعلى مكانة وأرفع قدراً من مقعد خالد في الأكاديمية. وهناك جائزة فمينا وميركورد وفرانس والشاعر مالارميه، كما أن المجمع الفرنسي يهب كل عام آلاف الفرنكات للمجيد في كتابه القصة.

ليس بعجيب كما أسلفت إذا كانت الأمة الفرنسية تعني وهي في أوج مجدها بالفن القصصي وتحذو حذو الروس لتمهيد السبيل لعباقرة الرواية الذين استطاعوا أن يخلقوا بفنهم الرفيع آفاقاً جميلة تعيش فيها جماعات وأفراد تترفع عن الإسفاف وتدنو من الكمال، إذ ليس مثل القصة وسيلة لسرور الأسرة ورفعة الوطن ورقي المجتمع. ويحق للقصة أن يسطع نجمها في الآداب العالمية لأنها اصدق مصور للحياة بأفراحها وأتراحها، تؤدي أغراض الإنسانية المنوعة على الوجه القريب الكامل، وتبث في النفوس ما ترمي إليه من أهداف وآراء بسهولة وإغراء.

ولقد تأثرت ناشئة لبنان في عهده الجديد بآداب الفرنسيس الطريفة فذاقوا حلاوتها، ونشقوا عبيرها، وكان من إقبالهم عليها وفهمهم إياها ما نراه اليوم من شغف ظاهر بفن القصة ومحاولات موفقة في إنشاءها وترجمتها، وتوجيهها إلى الصدق والإبداع.

إذن لم يشهد لبنان نهضة في الفن القصصي إلا منذ عهد غير بعيد لأنها في أدبه العربي

ص: 49

الحديث وليدة الأمس القريب، وكما يكون كل عمل في أوله غثاً وكل غيث قطراً، فكذلك ابتدأت القصة حياتها في لبنان، وكان أول من اطلع من أفقه شمسها في نهضتها الحديثة كرم ملحم كرم، فقد انشأ مجلته (ألف ليلة وليلة) لتكون عاملاً قوياً في بناء القصة العربية، فكان يزجي لقرائه كل أسبوع هدية أدبية إما من وضعه أو تعريبه، وما يزال هذا دأبه منذ عشرة أعوام ونيف، ولكنه برغم ما أوتي من موهبة فنية مرهفة ولسان عربي مبين لم يطبع قصصه الأسبوعية إلا قليلا بطابع الآداب الرفيعة، فقد دعته مساوقة اكثر القراء إلى أن ينزل بقصصه إلى مراتبهم ووفق متناولهم من ثقافة أو معرفة؛ وعذيره في ذلك أنه يقدم للمجموع ما يفهم ويرغب ويعود عليه بما يثبت قدمه في عمله الصحافي. فلو أن الحكومة اللبنانية تسير على غرار الحكومات في الغرب فتخصص الإعانات المالية والجوائز للكتاب الذين لهم في يقظة الشعب وتغذيته وإصلاحه أكبر الأثر كي يتوفروا على أعمالهم الأدبية ويخلوا إلى تجويدها والتفوق بها بسكينة واطمئنان للمعاش - لكان هذا الأديب زعيم القصة بلا منازع في نهضتها الحديثة بلبنان. بيد أن الأستاذ كرماً مع انهماكه بجهده المرهق الموزع بين الصحافة والأدب استطاع أن يخلد فنه القصصي في روايتيه (صرخة الألم) و (المصدور) وبعض أقاصيصه البارعة التي كفلت له منزلة القصصي العربي في عصرنا الحديث. على أن مجهوده في سبيل القصة بلبنان سيسجله تاريخ هذا الفن العريق بأحرف من نور. ولن ينسى فضله المنشئون المخلصون الذين عرفوا من تأليفه وتعريبه معنى القصة فسلكوا سبيله، بالاقتداء والاحتذاء، فكان له فضل البادئين السابقين إلى توجيه الفن القصصي اتجاهه الراهن.

وحين ملأ الأستاذ كرم أجواء لبنان وبيئاته بشذا رواياته قام نفر من نوابغ الكتاب ينشرون القصة والأقصوصة في معناها الحديث. وهذه الطائفة من الأدباء وفقت في محاولتها ففتحت في الأدب القصصي فتحاً مبيناً، إذ اتسع أفقه وتوفرت موضوعاته ورأينا من اجله حدباً عليه وتشجيعا لكتابه، فقد أقامت مجلة (الدهور) البيروتية مباراة للأقصوصة عام 934 فاز بجائزتها الكاتب فؤاد الشايب وهو من أدباء الشام الذين يملئون ما يكتبون بأدب الصراحة والحياة.

وفي العام الماضي تبرع الشاعر يوسف غصوب بجائزة للأقصوصة العربية في جريدة

ص: 50

(المكشوف) اللبنانية تعزيزاً لهذا الفن الذي يقدره الشاعر وله فيه صور خالدة. وقد نالت جائزة غصوب كاتبة هذه السطور. وما انفك الأدب العربي في لبنان مولياً وجهه شطر القصة موالياً السير إلى الأمام بهمة المضطلعين بتسديد خطواته من الأعلام الغُيُر.

على أن من البر بالحقيقة ومن الواجب عليّ - خدمة للتاريخ - أن أذكر أديبين كان لهما اثر واضح في النهضة القصصية الجديدة، فقد كتبا الأقصوصة ببراعة وشجاعة فوفقا فيها وتهافت قراؤهم عليها، فاستحقا الشكر لدفعهما النشء العربي عن تلك الأقاصيص المبتذلة التي تنشرها الصحف التجارية لتسلية القراء ولهوهم.

لقد نوهت الأقلام في العامين الماضيين بقصص الأديب الموهوب توفيق يوسف عواد الذي أكب على كتابة الأقصوصة التي تمثل الطبقة الدنيا في المجتمع اللبناني، وكان الفن معواناً له على وصف البؤس العنيف الذي يفتك بأبناء الشوارع والصعاليك وذوي العاهات. غير انه يغلب على نسج قصصه الأسلوب الصحفي بحكم عمله اليومي. وقد نشر مجموعتين:(الصبي الأعرج) و (قميص الصوف) والأمل معقود بهذا الشاب، فان له شأناً في القصة اللبنانية. وأقول اللبنانية لان قصصه موسومة بكل ما هو لبناني إقليمي. وليس هذا بضائره فإن أكابر القصصيين في عصرنا يمتاز كل منهم بوصف ناحية من نواحي الحياة أو بدرس أطوار جماعة من الناس أو بتصوير الألوان المحلية في البيئة التي يعيش في جوها، ويتنفس هواءها ويرى نورها.

وبينما الناس معجبون بباكورة عواد القصصية أقبل عليهم أديب رفيع العماد هو خليل تقي الدين. لقد نشر قصصه العشر أو التسع على الأصح لان إحداها مترجمة لا موضوعة فرفع بأسلوبه المشرق وديباجته الأنيقة قدر الأقصوصة العربية، ورأينا في قصصه التي سلخها من صميم الحياة ما هو حري بأن يتخذ مثالاً للرواية الفنية الحديثة.

لا أعدو الحقيقة ولا أغلو إذا قلت إن هذه البوادر الطيبة كانت تباشير النهضة القصصية في لبنان ففيها الأمل كل الأمل بتقدمها وازدهارها. وكيف كان الأمر ليقظة القصة ونهضتها في لبنان، فإن مصر اليوم زعيمة القصة العربية، وهي السباقة في حلبتها والقدوة لغيرها، ولن ينزع منها زعامتها الأدبية هراء حاسد ولا حملة حاقد.

هذا قول عاجل. وسأعود قريباً إلى دراسة المؤلفات اللبنانية في القصص وتحليل مضامينها

ص: 51

وألوانها.

وداد سكاكيني

ص: 52

‌الحضارة المصرية في عهد الدولة القديمة

بحث للعلامة الأثري أريك بيت

للأستاذ أحمد نجيب هاشم

(تابع)

دل قيام الملكية الواحدة في مصر على تقدم عظيم، تقدم جعل كثيرين يعتقدون انه راجع إلى إغارة شعب أجنبي أكثر حضارة، ولكن المستكشفات الحديثة لا تؤيد هذا الرأي. أجل إن مقابر الأسرة الأولى تفوق بمراحل مقابر ما قبل الأسرات مباشرة، ولكن يجب أن نتذكر أن هذه المقابر الأخيرة إنما هي مقابر عامة الناس، ولم يعثر على مقابر ملوك ما قبل الأسرات، فلا يصح أن نقرن مقابر عامة الناس في عصر ما بمقابر ملوك في عصر آخر.

والحقيقة نفسها توضح لنا كيف أن الكتابة تظهر فجأة في الأسرة الأولى بشكل بعيد عن حالتها الأولية، إذ كان الخط المستعمل هو الخط الهيراطيقي، وهو كما لا يخفى اختزال الهيروغليفي فلابد أذن أن يكون هذا الأخير مستعملاً قبل حكم الأسر بزمن طويل. وإذا قصرنا أنفسنا على نوع واحد من المقابر رأينا أن الانتقال من قبل الأسرات إلى عهد الأسرات حدث تدريجياً. ثم إن الأعمال الفنية في الفترة الأخيرة السابقة للأسرات ومن أهمها لوح (نارمر) الإردوازي ومقبض سكين جبل العرك تدل على أن فن الأسرة الأولى هو ثمرة نمو تدريجي لأهل البلاد.

أما وقد قامت الملكية فكان لابد للأنظمة الاجتماعية والسياسية أن تتطور إلى حد بعيد، ولم يكن الملك المصري في أول الأمر ألا رئيساً محلياً ممتازاً.

وكان رئيس القبيلة حاكماً وكاهناً أكبر ومشرعاً لقبيلته فأصبحت هذه الوظائف كثيرة على الملك بعد أن اندمجت القبائل قهراً وطوعاً وأصبحت مصر مملكة واحدة، لذلك اضطر أن يتنازل عن بعض هذه الوظائف، ولكنه ظل نظرياً الكاهن الأكبر لكل إله، فنراه في نقوش المعابد يرأس كل الحفلات الدينية الهامة، وإذ كان من المستحيل أن يوجد في مكانين في آن واحد كان لابد أن ينوب عنه كهنة، وبذلك نرى في أيام المملكة القديمة نواة طائفة الكهنة المحترمين آخذة في التكون.

ص: 53

ولا نعرف شيئاً كثيراً عن تاريخ الملكية في عهد الأسرات الثلاث الأولى؛ فإذا وصلنا إلى الأسرة الرابعة وجدنا مادة كثيرة نستطيع أن نكون منها صورة هامة عنها، ومع ذلك يجب أن نذكر أن مادتنا هذه تتكون إلى درجة كبيرة من ألقاب، وهذه قد تكون مضللة لاسيما وأن فرعون كان يغدقها عن سعة على المقربين إليه حتى اضطر أصحاب الوظائف الحقيقية أن يلجئوا في كثير من الظروف إلى إضافة كلمة الحقيقي بعد لقبهم تمييزاً لهم عن غيرهم.

الحكومة المحلية

كانت حكومة البلاد في يد إدارات محلية تشرف عليها الحكومة العليا وعلى رأسها الملك. وكانت الولاية هي الوحدة الإدارية ويرأسها الأمير أو حاكم الإقليم، وكان حاكماً وقاضياً ومديراً في ولايته وهو فوق ذلك الكاهن الأكبر لإلهها المحلي ويتمتع بحرية كبيرة داخل حدود ولايته.

على أن هذا الحاكم كان مسؤولاً أمام الحكومة العليا عن ضرائب ولايته، وعن إدارته لها إلى حد ما. والظاهر أن انقسام البلاد إلى إمارات على هذا الشكل هو أثر لانقسامها إلى قبائل قبل هذا التاريخ. وكان الأمراء يتوارثون الحكم في الولايات بعد موافقة الملك لان الأرض نظرياً كانت كلها ملكه.

الحكومة العليا

وليست معلوماتنا عن الحكومة العليا اكثر منها عن الحكومة المحلية إن لم تكن أقل؛ فالملك هو الرئيس الأعلى، وفي عهد الأسرة الثالثة بدأ فرعون يختار وزيراً لمساعدته في المسائل القضائية والإدارية، ونجد أن ملوك الأسرة الرابعة يختارون وزراؤهم من أبنائهم، ثم أصبح فرعون يختار وزيره بعد ذلك من أسرة أخرى إذا شاء. وكان أكثر رجال المملكة مسؤولية لأنه كان الرئيس المباشر لأعمال الموظفين في الحكومة الفرعونية كافة من إداريين وكتبة من أكبرهم إلى أصغرهم، وكان يشترط فيه أن يكون بارعاً في فن العمارة، ومن أهم وزراء الأسرة الثالثة الوزير الحكيم (امحتب) الذي برع في الطب والعمارة وشيد لمليكه زوسر هرم سقارة المدرج.

ويساعد الملك غير الوزير عدد من الموظفين، وكانت أعمال خزانة الدولة في يد بيت

ص: 54

الفضة والشونة المزدوجة إشارة إلى الشونة الملكية، كذلك نسمع عن كنوز الإله أي الملك وكنوز ملك الوجه البحري (وهذا من غير شك لقب قديم ظل بعد اتحاد القطرين) ونقرأ أيضاً عن مراقبي بيت الفضة ومخازن الغلال. ويرجح أن تجزئة إدارة القطر المصري بين وجهيه لم تذهب إلى أبعد من التجزئة الاسمية، وقد حافظ المصريون على هذا الازدواج الاسمي في مصالح الحكومة، مع أن وجهي مصر انضما معاً تحت إدارة واحدة، وإنما فعلوا ذلك احترماً للقديم الراسخ في الأذهان ولكن بالرغم من أن الملك اضطر أن يتنازل عن بعض وظائفه إلا انه ظل ملكاً مطلقاً.

من السهل أن نتبين مزايا هذا النظام وعيوبه، فمتى كان فرعون قوياً يمكنه أن يضع حداً لمطامع الأمراء فالنظام سليم لأن الحكومة في كل إقليم كانت في يد أشخاص خبيرين بالشئون المحلية. أما إذا كان الملك ضعيفاً فان تلك السلطة الهائلة التي يتمتع بها الحكام المحليون تصبح خطراً على الدولة يهدد كيانها، ولهذا السبب عينه يرجع سقوط الدولة القديمة في نهاية الأسرة السادسة ثم إغارة الآسيويين أثر ذلك على الدلتا فقد أخذت قوة الأمراء تزداد تدريجياً على حساب الملكية.

والآن علينا أن نسأل كيف كان نظام المجتمع في ذلك العصر؟

الملك وبلاطه

كان على رأس الدولة الملك وبلاطه، وقد كونوا بيروقراطية كبيرة تهتم بالألقاب اهتماماً عظيماً فنرى ألقاب البعض يقرب عددها من الثلاثين أو الأربعين اغلبها لا معنى له، وبجانب هذه البيروقراطية المركزية نجد بيروقراطية أخرى مشابهة لها في قصبة كل إمارة، وكان لكثير من هؤلاء الموظفين أملاك واسعة في ولاياتهم.

الفلاحون

يفصل الموظفين عن الفلاحين بون شاسع، لان هؤلاء كانوا يشتغلون كعبيد في مزارع الملاك، يحرثون الأرض ويروونها، ويتعهدون الماشية والأغنام، ولا نسمع عن وجود طائفة وسطى بين الطبقتين الآنفتي الذكر؛ فإن كان هناك طبقة من هذا النوع - ولابد أن التجار وأصحاب المهن والحرف كونوا طبقة - فإنها لم تكن غنية بدرجة تكفيها لأن تفاخر

ص: 55

بفضائلها في مقابر منقوشة نقشاً جميلاً، ولابد إنها كانت معتمدة على نفسها ولم تعد من طبقة الخدم، لأننا نجد الأمراء يولعون برسم خدمهم على جدران مقابرهم. كذلك لا نعرف شيئاً عن مركز الكهنة الاجتماعي، وإنما نعرف أن عددهم كان وافراً، وانهم كانوا يعيشون على الهبات التي تقدم إلى المعابد؛ وإن صح لنا أن نذكر تعميماً عن الحياة في المملكة القديمة فإننا نميل إلى القول بأن الأمراء وكبار الموظفين كانوا سعداء الحظ بينما كان الفلاحون تعسين فهم عبيد يلحقون بالضياع الواسعة، وينتقلون من مالك إلى آخر كأنهم جزء لا يتجزأ عن الأرض ليس لهم حقوق على أسيادهم، إذا ارتكب واحد منهم أقل هفوة فالجلد المضني عقابه، وأشد من هذا وأنكى أنه لم يكن لهم سيد واحد بل اثنان، فإذا جاء الفيضان وغطى ماؤه الأرض واصبح العمل في الحقل مستحيلاً لمدة طويلة كان على الفلاح أن يقوم بعمل آخر في خدمة الملك، إذ عليه أن يذهب لينقل الأحجار التي قطعها العمال من المحاجر الواقعة تجاه منف فيشتغل هو وزملاؤه تحت إشراف موظفي الحكومة، وينقلون الأحجار فوق الحقول المغطاة بالمياه إلى حيث يريد الملك أن يبني هرمه، ولم يكن لهذه العملية نهاية فإن أول ما يفكر فيه الملك عند إخلائه العرش هو بناء مقبرة له، فإذا أتمها قبل أن يموت أخذ يحسن ويوسع فيها، وإذا انتهت أيامه فهناك هرم خلفه لابد من بنائه.

وقد اهتم المصريون القدماء كما نفعل اليوم بفيضان النيل، وهذا أمر طبيعي فإن سقطت الأمطار بغزارة على الجبال القائمة في الجنوب الشرقي من مصر خافوا فيضاناً عالياً يهدد حياتهم، ويغرق جزءاً كبيراً من أراضيهم، وإن قلت الأمطار توقعوا فيضاناً منخفضاً يتلوه قحط ومجاعة في البلاد، فكانوا إذا اقترب وقت الفيضان يتحدثون عن النعم التي يغدقها عليهم (نيل طيب) ويبدؤون في البحث عن الوسائل التي يجب عليهم اتخاذها وقت الخطر، إذ كان كل واحد منهم يتأثر بهذا الحادث السنوي - كل حريص على محصوله - أما موظف الحكومة فعليه أن يحسب مقدماً مقدار ما ستأخذه الحكومة من محصول كل شخص، وهذا هو الضريبة الرئيسية. كذلك كان يعد الحازمون من الحكام العدة لإطعام فقراء إقليمهم إذا ما انخفض الفيضان، ويخزنون الحبوب للمستقبل أن كان المحصول اكثر من المتوسط.

(البقية في العدد القادم)

ص: 56

أحمد نجيب هاشم

ص: 57

‌رسالة الشِّعر

تحية الرسالة في مستهل عامها السادس

للأستاذ محمود الخفيف

البَسي الحسن رداَء

واملأي الدنيا رُوَاَء

ابزغي كالشمس نوراً

وحياة وعلَاء

أَقرضي الشرقَ سَنَاهُ

وخُذِي الحمدَ جَزَاَء

واسحبي في المجدِ ذيلاً

لم يُعَوَّدْ خُيَلَاء

وارفعي للنجم طرْفاً

أبداً يَهْوَى السمَاَء

وانشري ما سِرْت في الأر

ض طموحاً وإباَء

واجعلي عهدَك في الشَّرْ

قِ سلاماً وإِخاَء

أيْقِظِي العِزَّةَ فيه

والعلا والكبْرِياَء

جَدِّدِي رُوحاً بها أم

س على الدُّنْيا أَضَاَء

لَمَعَتْ في طور سينا

ومَشَتْ تَبغي حِراَء

إيهِ يا شمسُ، بها الشر

ق مع النيل استضاَء

جَمَعَتْ فَضْلاً وعلماً

وجَلالاً وذكاَء

الشبابُ الطامحُ الحُرُّ

اجْتَلى فِيكِ اللواَء

سار في ضوءك للعل

ياء ما شِئتِ وشاَء

رقرقي الأضواء في الآ

فاق واجتازي العَمَاَء

وابعثي فيها من الرأ

ي وميضاً وسنَاَء

احْفِزِي للفوز أبنا

ءً كرَاماً بُسَلَاء

ذَكِّرِيهِمْ عَهْدَ قَوْمٍ

رفعوا أمس البناَء

عصبة شقوا إلى العزَّ

ة والنصرِ الجِوَاَء

يا ابنةَ الضَّادِ لَكُمْ أَحْ

سَنْتِ في الضَّادِ البَلَاء

قد سما فَضْلُك حتى

فَاتَ في القَدْرِ الثناَء

دانَ بالفَضْل لك اليا

نِعُ والغَضُّ سواَء

ص: 58

وجَدَا عِنْدَكِ خِصْباً

وحياةً ونَمَاَء

وجَنىً حُلْوَا وسَلْسَا

لاً وظِلاًّ وشِفَاَء

وجَمَالاً عَبْقَرِيّاً

وصفاءً وبهاَء

أنْتِ أَوحَيْتِ إلى الأفْ

رَاخِ في الرَّوض الغِنَاَء

وبعثتيهم عن الماض

ين سلوى وعَزَاَء

أنْتِ قَرَّبْتِ على البُعْ

دِ بَنِيكِ الفصحاَء

وحَشَدْتيهم على الح

ق جنوداً أوفيَاَء

فِتْيَةً صاروا بِمَسْعَا

كِ لِمِصْرٍ أوْلِيَاَء

طُفْتِ بالكأْس دهاقاً

وسَقَيْتِ النُّدَمَاَء

أدَباً كالكوْثرِ العَذْ

بِ نَقَاءً وَصَفاَء

فيهِ آمالُ بِلادٍ

بِتْنَ لِلْمَجْدِ ظِمَاَء

وسُلافاً من حَدِيثٍ

يَمْلأُ القَلْبَ انتشاَء

كنسيم الصُّبْح يجرِي

عَاطِرَ الذَّيلِ رُخَاَء

باعثاً ذِكرى عهودٍ

قد تواثبْنَ انقضاَء

وبياَناً مثل وَشيِ الرَّ

وض قد رَاقَ ابتدَاَء

يُعْجبُ الرَّاسخَ صوغاً

واتِّسَاقاً وجَلَاء

وَيُرى النَّاشئَ فنّاً

يتوَخَّاهُ اقتداَء

ضمَّ للقلب معاً والع

قْلِ رِيّاً وغِذَاَء

يا عَرُوساً عِيدُها يُو

حِي إلى النَّفْسِ الوفاَء

لَسْتُ أنسىَ لكِ عِندي

مِنَناً غُرّاً وِضاَء

كشَفَتْ يُمْنَاكِ عن عَيْ

ني وعن قلبي الغِطاء

حُزْتُ في حِجْرِكِ فَضْلاً

وصَحِبْتُ الفُضَلاء

يا عَرُوسَ السِّحْرِ والحِك

مةِ مُلِّيتِ البقَاء

وتَزَيدْت عَلَى الدَّ

هْرِ عُلُوّاً وارْتقَاء

عشْتِ للفُصْحَى لواء

وَمنَاراً وَرَجاء

ص: 59

(القاهرة)

الخفيف

ص: 60

‌نجوى الحرية

للأستاذ محمد بهجة الأثرى

الحسنُ أنتِ مثالُهْ

والكونُ أنتِ جمالُهْ

وأنتِ في دَيْر قلبي

تسبيحُهُ وابتهالُهْ

عَبَدْتُ فيكِ الكمالا

كما عَبَدْتُ الجمالا

ما أنتِ إِلا مَلاكٌ

عن العيوبِ تعالى

أَشْبهتِهِ رِفَةً والْ

تماحَةً وخَيالا

فما أَرى لكِ بين الْ

مَلا - لَعَمْري - مثالا

وإنما أنتِ معنى

في الكونِ أعيا مِثالُهْ

رُوحٌ ولكنْ مُجَرَّدْ

نَعَمْ، ونُورٌ مُجَسَّدْ

غشَّاه، وهو لَمُوعٌ،

إِفْرِنْدُهُ فَتَوَقَّدْ

تألُّقَ البَرْقِ في الأفْ

قِ وَهْوَ يُنْضَى ويُغْمَدْ

والبَدْرِ في صفحةِ الما

ءِ والنسيمُ تَنَهَّدْ

يا بَسْمَةَ الكونِ أنتِ الْهَوَى

وأنتِ وصالُهْ

البَدْرُ لاحَ تِماماً

يَفيضُ منكِ سَنَاهُ

والزَّهْرُ فاح ذكيّاً

يَنمُّ عنكِ شَذَاهُ

والقَطْرُ ساح نقياً

يَرْوي صفاكِ صَفاهُ

والفَجْرُ لاح بَهيّاً

من وجنتَيكِ ضياهُ

والطيرُ ناحَ شجيّاً

عليكِ منكِ انْفعالُهُ

رقَّتْ حواشيكِ حتى

رقَّ الهوا لِخِلالِكْ

لكن قلبكِ قاسٍ

علي مُرِيدِ وِصالِكْ

بَخِلْتِ حتى خَيَالاً

فَمَنْ له بخيالِكْ؟

أَينَ الوُعودُ اللواتي

مَنَّينَني باقْتبالِكْ؟

شهرُ الصيام تَوَلى

فالعيدُ أين هِلالُهْ؟

غُمَّتْ عليهِ السماءُ

أم طاولَتْ (أسماءُ)؟

ص: 61

بلى، وما كانَ ظني

ألاّ يكونَ انجِلاءُ

مارَسْتُها فتأَبَّى

عليَّ منها الوَلاءُ

ألهكذا كلّ حسنا

َء ما لديها وَفاءُ؟

يا وَيْحَ صَبٍّ تَعايا

في الوَصْل عنه غزالُهْ

يا رَوْحَ قلبي المُعَنَّى

كلُّ الوعودِ رِياحُ

ما في الأَماني أمانُ

إنْ لم يُعنك السلاحُ

تلك العروسُ ولكن

أين الصِداق المتاحُ؟

قد زاحَمَتْكَ عليها

مناكبُ وصِفاحُ

فاحتلْ عليها عسى أنْ

يُجْدِي الكريمَ احتيالُهْ

(بغداد)

محمد بهجة الأثرى

ص: 62

‌أحب وأحتقر!

للأستاذ أمجد الطرابلسي

أُحبُّ الجبالَ الشّامخاتِ كأَنّها

على جَبهةِ الدّنيا تصولُ عواتيا

تَضاحَكُ من عصفِ الرياحِ وزأرها

وتحتضنُ السيل الحَرونَ المُعادِيا

وتلهو عن الزّلزالِ وهْوَ مُزَمْجَرٌ

يَضجُّ ببطنِ الأرضِ غضبانَ واريا

وأحتقرُ الكُثبانَ تُرعشها الصِّبا

ويفزعها الإِعصارُ إن مَرَّ لاهيا

وتحملُها الأرياحُ أنى توجَّهت

ألاعيبَ في أسفارها وألاهيا

وَإِنِّي لأهوى السَّيلَ يَنْحَط مزبداً

ويَدفُقْ جَيَّاشاً ويهدِرُ صاخبا

عَتِيّا على السَّدِّ المنيع يَدُكُّهُ

ويحملُهُ نحو السُّهول خَرائبا

يمرّ على العُشْبِ الضعيفِ مُسامِحاً

ويلتقفُ الدّوح العَنيدَ المغالبا

وتحقرُ عيني جَدولاً في خميلةٍ

يحوِّل طفلُ الحيِّ مجراهُ لاعبا

يكَدِّرُهُ حتى النسيمُ ملاطفاً

ويُفزِعُهُ حتى فمُ الطفلِ شارِبا

أُحبُّ العُقابَ اَلجوْنَ يختال في الذرا

ويركب متنَ الجوِّ جذلانَ باسما

ويخترقُ الريحَ العَصوف لقصدِه

ولو حطَّمتْ من جانحيه القَوادما

يموتُ ولا يشكو الجراحَ ولا ترى

له آكلاً بينَ الأنامِ وهاضماً

وأحتقر الورقاَء تألفُ سجنَها

وتبكي ما تلقى من الناسِ راحماً

وهل غيرُ ضَعفِ الوُرْقِ سوَّغَ حَبْسَها

وصَيَّرَ شدواً نوحَها والمآتما

وإني لأهوى نحلةً تدهَمُ الرُّبا

فتنهلُ من ثغرِ الزهورِ رحيقَها

ترشَّفُ من كأسِ الأقاحي صبوحَها

ومن خمرةِ الوردِ النَّدِيِّ غَبوقَها

حَصَانٌ تَروعُ العاشقينَ بوخزها

إذا ما تَمَنّوا لو يذوقونَ ريقَها

وتحقرُ عيني نملةً تألفُ الوَلى

وتملأُ من بَخْسِ الفُتاتِ خُروقَها

تدِبُّ على الأقدام هُوناً وذلةً

وتسلكُ من تحتِ النِّعالِ طريقَها

أُحبّ شَموخَ الدَّوحِ في ربواته

يُجابهُ هَوْلَ العاصفاتِ ويثبُتُ

أبيّاً على حربِ الأعاصيرِ ظافراً

تكُرُّ جموعاً حولَهُ فَتَشتَّتُ

وإنْ خرَّ في الميدانِ بعد نضالِها

تراها عليه نائحاتٍ تُصَوِّتُ

ص: 63

وَأَحتقرُ الأعشابَ تحني رُءوسَها

فتسلَمُ من رَيْبِ المنونِ وتُفْلِتُ

تدورُ مَعَ الإِعصارِ حيثُ يُديرها

ويلطِمُها هوناً فترضى وتسكُتُ

وإني لأهوى الليث يستعذبُ الطوى

ويأنفُ أن يُدنى إلى جيفةٍ يدا

يسيرُ أَشَمَّ الأنفِ مستكبرَ الخُطا

فترتجفُ البيداءُ إن راحَ أو غدا

ويَجْبهُ وحشَ البيدِ في حُرِّ وَجْهها

ولا يَدَّري أعداءه مُتَصَيِّدا

وتحقرُ عيني ثُعلباناً مخادِعاً

جَباناً خليعَ القلبِ يغدِرُ بالعِدا

يُصيبُ فُضالاتِ السّباع وينثني

ليشكرَ رزّاق العبيدِ ويَحْمدا

أحبُّ الفتى يَفري الفلاةَ مُهَجّراً

فلا يشتكي أيناً ولا يتظلَّمُ

إذا لذَّعتهُ الشَّمْسُ سَدَّدَ وَجْهَهُ

إليها حديدَ الطَّرفِ لا يتبرَّمُ

ويمشي على الرَّمضاء مُتَّئِدَ الخُطا

جَليداً، ونيرانُ الرمالِ تضرَّمُ

وأَحقر نكساً يستظلّ بغيره

ويخفضُ رأساً وهو شاكٍ يدَمْدِمُ

تساورُهُ الأَشباحُ في القفرِ رَهْبةً

فَيَرْعَشُ منهُ القلبُ والطَّرفُ والفَمُ

أحبُّ الفتى والغُلُّ يثقلُ عُنُقَهُ

وسيفُ الأَعادي بينَ عينيهِ مُشْهَرُ

يصيحُ بأعلى صوتِه ينكرُ الأَذى

ويضحكُ من بطشِ الطُّغاةِ ويَسْخَر

ويشمخُ بالأَغلالِ رأساً وإن غدتْ

تَحُز ومن أنيابها الدَّمُ يَقْطُرُ

وأحتقرُ الأحرارَ يحنونَ رأسهم

وليس عليهم سَيِّدٌ أو مُسَيْطِرُ

إذا كانَ قلبُ المرءِ عَبْداً ورَأْيُه

فَقُل لي - هُديتَ الخيرَ - ماذا تُحَرِّرُ

(دمشق)

أمجد الطرابلسي

ص: 64

‌القصص

أقصوصة من لويزا ألكون

في عيد الميلاد

للأستاذ دريني خشبه

قبل أن يتنفس صباح عيد الميلاد استيقظت الفتاة (جو) والفجر لم يكد ينبلج في الأفق الشرقي، ولا الخيط الأبيض قد انسرق من زجاج النافذة لينير ظلام الحجرة الدافئة. . . ولكن جو استيقظت مشوقة إلى هدايا العيد، ومدت يدها الصغيرة المرحة إلى جوربها المعلق في (شباك) السرير ليملأه الملاك بأحب اللعب. . . ولشد ما شعرت بالخيبة حين وجدت الجورب فارغاً مما أمّلت أن يمتلئ به، فكتمت أنفاسها، وأخفت حسراتها في أغوار قلبها، ودست يدها تحت الوسادة التي تحدرت فوقها دموعها. . . بيد أن أصابعها اصطدمت بشيء يشبه الكتاب تحت الوسادة، فأمسكت به، فإذا هو كتاب حقاً ذو جلد سميك مقوى، لم تدر من وضعه هنا. . . وقفزت من فراشها، وأشعلت المصباح، ونظرت في الكتاب، فراعتها جلدته الجميلة الزرقاء، وصوره الخلابة الملونة، وطبعه الأنيق المتقن. . . وقرأت فيه قليلاً فعرفت انه قصة حاج يطوف بأقصى الأرض ليبلو أعاجيب الدنيا. . . فتبسمت جذَلاً، وبادرت إلى أخواتها توقظهن:

- (ماجي! انهضي يا أختاه. . . لقد أهدى إلى الملاك كتاباً فيه صور جميلة. . . بت! قومي! استيقظي! انظري إلى الكتاب الذي أهداه الملاك إلي! إيمي! هلمي فتفرجي. . .!).

واستيقظت ماجي فسألت أختها وهي تفرك عينيها أين وجدت الكتاب؟ فلما أخبرتها أنها وجدته تحت الوسادة، دست ماجي يدها تحت وسادتها فوجدت كتاباً مثل كتاب أختها، ولكن جلدته خضراء، ورأت فيه صوراً رائعة ملونة أجمل من الصور التي في كتاب أختها. . . ففرحت فرحاً شديداً. . . ولما استيقظت بث، وجدت هي الأخرى كتابها ذا الجلدة الحمراء، وكذلك وجدت إيمي كتابها، ولكن إيمي وجدت جوربها ممتلئاً بالحلوى والمُلَبس والفستق، فصاحت بملء فيها صيحة الفرح، وراحت تنافس أخواتها وتفخر عليهم. . . وقد أحس أخواتها بانتصارها حقاً، واتهمن الملاك الكريم بأنه لم يعدل في القسمة، وإلا فإنه كان ينبغي

ص: 65

أن يملا جورباتهن كما ملأ جورب إيمي. . . وطال حوارهن، واشتد صخبهن، وكان حواراً وصخباً مملوءين بالضحك، مفعمين بالاستبشار بعيد الميلاد السعيد. . . وكانت بهجة تلقين بها العيد قبل مطلع الشمس كالبهجة التي يتلقى بها الطفل قبل أن يولد.

وذهبت جو إلى غرفة أمها - وكان أبوها على سفر - لتوقظها فلم تجدها، وظنت لساعتها أنها ذهبت إلى الكنيسة لتشكر للملاك الكريم ما أتحف بها بناتها من الكتب الجميلة ذوات الصور الملونة، وما. . أتحف به إيمي من الحلوى. . فعادت جذلانة إلى الغرفة، وما كادت تتحسس جوربها المعلق في (شباك) السرير حتى وجدته مثقلاً! فاستبشرت وطفر قلبها، وأفرغت ما في الجورب فوجدت قدراً هائلاً من الفستق المعالج بالسكر والكستناء المثلوجة. . . شيء عجيب حقاً، لقد تحسست الجورب منذ ساعة فلم يكن فيه شيء من هذا. . . لله ذاك الملاك الكريم البار. . . وعجب البنات عجباً شديداً، فذهبت كل تتحسس جوربها فوجدته مفعماً. . . فطرن من الفرح، واشتد الصخب من جديد وعلا الضحك. . . وأشرقت الشمس. . . ووقفت جو وسط أخواتها تهتف كأنها إمبراطور: (أخواتي! اسمعي يا بث، أصغي يا ماجي. . . انتبهي يا إيمي لنبق على الحلوى حتى تعود أمنا فتشركنا فيها. . . ولنشرع من الآن في قراءة الصفحة الأولى من الكتاب الجديد، حتى إذا عادت الوالدة سرت بذكائنا سروراً لا مزيد عليه. . . وبذلك نرضي الملاك الكريم الذي أتحفنا بالكتب وبالحلوى، ولم يعدنا صغاراً فلم يتحفنا بما كان أحجى أن يتحفنا به من اللعب. . . هو ملاك كريم على كل حال فلنشكره قبل أن نبدأ. . .

ورفع الصغار أيديهم إلى السقف. . . وركعن على ركبهن ورحن يشكرن الملاك الكريم، ثم اعتدلن، وأخذن في قراءة الصفحات الأوليات. . . وكان منظرهن كمنظر الملائكة الأطهار الأبرار الأخيار. وإن تكن إيمي الصغرى لم تكن تفكر في هذا الملاك الذي ضايقها بهذا الكتاب، ولم يتحفها بلعبة تفخر بها على أترابها إذا كان الصباح، وبرز الأطفال في الشارعيتنافسون ويفخرون. . . ولم تكد تفهم من اجل هذا سطراً واحداً من الصفحة الأولى من كتابها، بل سمرت وجهها في الصورة الملونة، وراحت تفكر وتدمن التفكير، في شح هذا الملاك الكريم باللعبة التي لا محيص منها في عيد الميلاد!

ولم يكد الصغار ينتهين من قراءتهن حتى دخلت أمهن وفي إثرها حَنّة الخادمة العجوز،

ص: 66

مثقلين بكثير من اللعب وشيء غير قليل من الرقائق والشطير والفطير وحلوى الكاكاو للإفطار ولقينها بالبشر، ولقيتهن بقبلة سعيدة طبعتها على جبين كل منهن إلا إيمي الصغيرة فقد طبعت لها قبلة طويلة على خدها. . وسرعان ما غفرت إيمي للملاك الكريم ما كان منه من شح بلعبة عيد الميلاد حين أخذت حصانها الخشبي الكبير فَعَلتْ صهوته، وأنشأت تمرح وتصخب، وتقول:(كتاب! أنا لم اقرأ حرفاً واحداً من الصفحة الأولى يا جو. . .) ولكن جو نظرت إليها في ظرف، ثم قالت لامها:(ولكنا قرأنا الصفحة الأولى كلها يا أماه، وسنقرأ كل يوم صفحة أو صفحتين حتى نفرغ من كتبنا. . . حقاً أن بابا نويل لملاك كريم) فردت بت تقول: (ويظهر أنه يجيد الرسم ويحذف التلوين يا أماه! انظري صوره الجميلة التي رسمها في كتابي). . . فتضاحكت أخواتها، ولكن ألام الرزينة لم تضحك، فتساءلت جو:(لم لا تضحكين يا أماه؟ فيم تفكرين؟ في أبي. .؟ سيأتي حالاً. . . هو لا شك يفضل أن يقضي عيد الميلاد بيننا!) فقبلتها أمها قبلة تفيض حناناً وحباً، ثم قالت:(اسمعن يا صغيراتي. . . لقد ذهبت فأحضرت لكنَّ اللعب من بابا نويل، وحينما كنت عائدة سمعت أنيناً في منزل جارتنا الفقيرة، فطرقت بابها ففتحت الباب ابنتها الكبرى، فلما سألتها ما هذا الأنين ذكرت لي أن أمها كانت تلد، وأنها وضعت غلاماً لا تدري فيم تلفه لتقيه البرد، وقالت لي إنهم لا يملكون حطباً يستدفئون به ولا طعاماً يأكلونه في هذا العيد السعيد، فدخلت فسلمت على ألام، ورأيت وليدها، ورأيت الصغار محتشدين في الفراش الفقير وهم ينتفضون من البرد، ويلتصق بعضهم ببعض ليستدفئوا. . . وراعني أن يطلب أخوهم الوحيد الأصغر طعاماً فتنظر إليّ أمه، وتمتلئ عيناها بالدمع ولا تقول شيئاً. . . منظر مؤلم حقاً يا جو. . . أليس كذلك يا بت؟).

وتنظر جو إلى أخواتها، وتتبلل عيناها بالدمع، وتقول:(مؤلم جداً يا أماه! وتقول إيمي: (وأين بابا نويل؟ لِمَ لم يرسل إليهم حلوى وفطيراً كما أرسل ألينا؟ فتقول ألام: (يظهر أنه نسي يا إيمي. . . جو. . . أليس يحبنا الله ويدخلنا جناته إذا نحن حملنا حلوانا وفطيرنا، وذهبنا لنفطر مع هؤلاء المساكين!).

فتسكت جو لحظة، وتنظر إلى أخواتها، ثم تقول:(والله إنها فكرة جميلة يا أماه. . . هيا. . . سأحمل جوربي كله بما فيه من كستناء وفستق) وقالت بت: (وأنا أيضاً. . . ولكن

ص: 67

الحلوى لا تشبع الجوعانين. . . هاتي الفطير يا حنة) وتقول ماجي: (لا. . . سأحمل أنا الفطير. . . لتحمل حنا الحطب. . .) أما إيمي، فقد نظرت إلى أمها مرة، والى الكتاب أخرى، ثم قالت:(وأنا. . . سآخذ هذا الكتاب لأفرحهم بصوره. . . أنا لا أستغني بحال عن حلواي!) فضحكت ألام، وضحكت حنة، ولكن جو قالت لأختها جادة:(سندخل نحن الجنة ونتركك ببابها يا إيمي؟) فقالت الفتاة وقد صدقت قول أختها: (بل ادخل قبلكن. . . سآخذ لعبتي أيضاً. . .)

وحملت كل منهن حلواها. . . وتذكرت جو اللعب، وما عساها تبعث في المساكين من مرح في هذا اليوم المبارك، فأسرعت إلى الدولاب فأخرجت كال اللعب القديمة، وكان فيها (طراطير!) من العام الماضي، فأحضرتها، وألبست كلا من أخواتها طرطوراً، ثم انطلق الجميع بأحمالهن إلى بيت جارتهن. . ولم يكن الشارع قد ازدحم بكثير من المارة، فكن يتضاحكن مرة، وينتفضن من البرد الشديد أخرى. . .

وطرقن الباب فانفتح. . . وتقاطرن داخل البيت، وأخذن ينشدن نشيد عيد الميلاد، ويملأن البيت سعادة وبهجة. وقصدن إلى السرير فأيقظن الصغار. . . وأسرع هؤلاء وعيونهن تفيض دمعاً ودهشاً. . وجعلوا يحملقون في الملائكة الأطهار اللائى جئن يسعفنهم بالحلوى والغذاء والسعادة. . . أما حنة فقد أوقدت الحطب. . . وأما ألام البارة فقد أخذت الوليد من أمه البائسة ولفته في مزق أحضرتها لهذا الغرض، ثم جلست تواسي الوالدة المسكينة بكلمات طيبات.

وأقبل المساكين والمسكينات على الفطير يلتهمونه التهاماً، كأنهم قد لبثوا أياماً دون أن يذوقوا طعاماً. . . وكان البنات يشهدن ويعجبن، لأنهن لم يرن ناساً يأكلون بهذه السرعة، ولا طعاماً يزدرد بهذا الشره. . . ولكن جو كانت تنظر وتتألم ثم تصطنع العبث وتجهد أن تضاحك الصغار ما استطاعت. . . ثم إنها أخذت الطراطير من أخواتها، فجعلتها على رؤوس البائسين. . . وهنا أخذ هؤلاء يضحكون ويقهقهون. . . ونسوا ما كان بهم من فاقة وعوز وجوع، حين دبت الدماء حارة في أبدانهم من الشبع، فلما أخذت جو تفرق اللعب القديمة بينهم ثارت بينهم وبينهن عاصفة من المرح، وسرت فيهم موجة جارفة من السرور. . . وقالت فتاة منهن صغيرة: (شكراً لك يا بابا نويل، لقد حسبنا أنك نسيتنا،

ص: 68

ولكنك أرسلت إلينا اللعب والطعام والحلوى. . . والنار. . . النار اللذيذة التي تؤججها أمنا حنة. . . فشكراً لله وشكراً لك. . . وشكراً لأخواتنا هؤلاء. .) وكانت ألام تصغي إلى ما تقول ابنتها، وعيناها تفيضان بالدمع. . فتواسيها ألام الأخرى، وتمسح عبراتها بأطيب الكلم الصالح. .

وعادت العائلة المقدسة أدراجها إلى المنزل.

وجلسن حول المائدة كعادتهن كل يوم، فقدم لهن الفطور العادي من لبن وجبن وخبز، فاقبلن عليه، واحتسين الشاي، وأحسسن إحساساً عميقاً بسعادة فذة في نوعها. . . سعادة لا تقدر الحلوى ولا يستطيع الكستناء ولا الفستق أن يصنع شيئاً منها. . سعادة الخبز والبر. . . وسعادة التقوى. . . وسعادة الله!

وجلست ألام مع ذاك تشكر بناتها، وتذكر لهن ما كان يصنع القديسون والشهداء في هذا اليوم من ضروب الإيثار وفنون التضحية. . . وكان البنات يصغين في لهفة واشتياق ويكاد الدمع ينهل من عيونهن.

ونهضت كل إلى لعبتها لتفرح بها.

ونظرت إيمي إليهن. . . وكانت قد حملت حصانها فأهدته لجماعة المساكين. . . ولم يهمنا قط أن تكون عاطلا وأخواتها حاليات. . فتأثرت ألام، وانطلقت معها إلى بائع اللعب، فاشترت لها حصاناً اكبر من الذي تصدقت به على الفقراء، فعادت إيمي وقلبها يفيض بالبشر، وراحت تفاخر أخواتها، وأخواتها مع ذاك قانعات راضيات.

وبينا هن ضاحكات مستبشرات، إذا بطارقٍ بالباب، فتمضي حنة لترى، وتعود لتذكر أن الجار الغني، صاحب القصر المنيف القريب، يريد لقاء سيدتها. . .

وتلقاه السيدة في غرفة زائريها المتواضعة. . . ويشدهها منه أن ترى معه سلة كبيرة بها أشياء فهمت أنها هدية. . .

- مرحباً يا سيد! عيد سعيد أن شاء الله!

- عيد سعيد يا سيدتي.

ترى ما الذي جاء بهذا الرجل الغني في هذا الصباح؟ لقد عرف عنه انه رجل عزوف عن الناس، عزوف لأنه غني. . . هو يرى نفسه من طبقة غير طبقة هؤلاء المساكين الذين إذا

ص: 69

تصدقوا بحلوى عيد الميلاد لم يجدوا حلوى غيرها! فماذا جاء به، وهو هو الذي كان يمر بصاحب هذا المنزل فلا يقرئه السلام من عظمة وكبرياء. . .! لقد كان فيه انقباض دائماً. . . وكان يشيح بوجهه عن أخوته من بني آدم. . . فماذا جاء به اليوم؟ ثم ما هذه السلة التي غطاها بورق كثيف؟ هذا تطور عظيم في حياة هذا الجار الجافي الغليظ المتكبر، فما باله يا ترى؟

- لقد شهدت يا سيدتي ما صنعت صباح اليوم، فتأثرت من عاطفتك الكريمة وإيثارك العجيب!

- عفواً يا سيدي. . . أشكرك.

- ولست ادري إذا كنت مخطئاً. . .

- مخطئاً في أي شيء. .؟

- لقد رأيت أن أقدم لصغارك شيئاً من الحلوى تعوض عليهم ما تصدقوا به. . . فلقد علمت منذ أيام أن زوجك الفاضل قد فصل من عمله لخطأ ارتكبه. . . وانتم لابد في ضيق مالي. . . فإذا تفضلت فأخذت هذا القدر القليل من المال أكون شاكراً.

وهنا. . . إحلولكت الدنيا بأسرها في عيني ألام، وضاع ما شعرت به منذ الصباح من الغبطة والبشر، وانقلب الهناء الذي غمر قلبها في عيد الميلاد هماً وغماً وابتئاساً!

- ماذا تقول يا سيدي؟

- أقول إنني شهدت ما صنعت للعائلة البائسة، وتأثرت جد التأثر من صنيعك الجميل، ومع ما أنت فيه من الضيق.

- وأنت ما شأنك وما أنا فيه؟

وارتبك الرجل وتلعثم لسانه، وانشأ يقول:

- لا. . . لا. . . شيء. . . فقط. . . أدرت أن أساعدك!

- على كل حال أنا أشكرك، ولكني أسائلك: هل بهذا الأسلوب تفهمون الخير أيها الأغنياء؟

- لا افهم ما تقولين!

- لا تفهم ما أقول، فكيف إذن فهمت أننا محتاجون، ولم تفهم أن جارتنا البائسة كانت في اشد العوز والحاجة إلى مساعدة أمثالك!

ص: 70

- هذا حق. . . هذا لا ريب فيه.

- وما دام هذا حقاً، فلم لا تفعل؟!

- لقد أخطأت.

- أذن لقد أحضرت لنا حلوى في هذه السلة؟

- اجل. . . بقد فعلت؟

- وماذا دفعك إلى هذا؟

- محبة الخير، وتأثري بما شهدت.

- وكيف لم تتأثر بما علمت من بؤس جارتنا؟

- لا ادري والله!

- أذن تذهب إليها بهذه السلة فهي في اشد الحاجة إليها، ولا تنس أيضاً أن تنفحها بالمال الذي أعددته لنا. . .

- سأفعل! اسمحي لي بالانصراف إذن!

- لا. . . انتظر قليلاً! أتحب يسوع أيها العزيز؟

- وكيف لا احبه!

- أذن فاخرج من مالك عن شيء يكفل الستر لجارتنا. . فإنك غني جداً. . . أتعرف أن وزجك قد مات؟

- لا والله. . . لم أكن أعرف!

- أذن لقد عرفت مبلغ فاقتها!

-. . .؟. . .

- أذن فانك خارج عن بعض مالك لها ولأبنائها. . . هل علمت أنها وضعت غلاماً سادساً اليوم؟

- لا والله. . . لم أدر إلا منك!

- أذن فقد لمست بيديك مبلغ حاجتها إلى بر أمثالك!

-. . .؟. . .

- انطلق إذن! سأزورها اليوم وسأرى ماذا تصنع!

ص: 71

وانطلق الغني ذو الجاه والثراء الضخم. . . ولكن. . . إلى داره.

وبعد ساعة أو نحوها طرق البيت صاحب الدار، ووجهه طافح بالبشر، ضاحكاً متهللاً. . وزف البشرى إلى زوجته، واخبرها أنه بُرِّئ، وعاد إلى عمله، ومنح مكافأة مالية. . . وقد احضر حلوى كثيرة لأطفاله، ولعباً شتى لعيد الميلاد. . . فلما قصت عليه قصة الصباح، وما كان من أمر جارهم الغني، تمتم وعيناه تغرورقان بالدمع:(إذن. . تعيش المرأة وأولادها معنا. .)

دريني خشبه

ص: 72

‌البريد الأدبي

الآداب والشعر عند المصريين القدماء

ألقى العلامة الأستاذ الدكتور شايدل أستاذ الأثريات المصرية بجامعة لايبزج محاضرة شائقة في متحف الجامعة على الآداب والشعر عند الفراعنة، فذكر أن الفراعنة فضلاً عما تركوا لنا من النقوش وأوراق البردي الأثرية الفياضة بالمعلومات التاريخية والقضائية والطبية، قد تركوا لنا تراثاً أدبياً بمعنى الكلمة؛ فمن ذلك باب القصص الخرافي، وقد ترك الفراعنة لنا منه نوعاً معروفاً هو القصص المتعلق بدخول اللصوص إلى خرف الكنوز الملكية ومن إحدى هذه القصص اقتبس الشاعر الألماني بلاتن مسرحيته المشهورة:(كنز رامسنيت)، وهناك نوع آخر من القصص النثري يتعلق بتواريخ الملوك وسير الآلهة، وتمجيد الحوادث التاريخية الهامة. أما الشعر الغنائي فانه يتمثل في الأناشيد الدينية الحماسية والتوسل إلى القوة العليا. ومن أناشيد الحب التي تمثلها أنشودة سالومنيس. وقد وجدت على جدران القبور أغنية عمال، ومنها أنشودة شهيرة تجري على لسان الذين يحملون الهودج ويختتمونها بطلب العطية. على أننا نجد اعظم ثروة أدبية للفراعنة في كتب الموتى التي توضع في التابوت إلى جانب الموتى، ففيها أقوال ومواعظ أخلاقية، وفيها أحاديث الحكمة التي تشرح للناس كل شؤون الحياة، وتصرف الإنسان إزاء الضيف، وإزاء المستجير، وعلاقة الزوجين وواجباتهما. وفي هذه الأحاديث نجد الأدلة على سمو تفكير المصريين القدماء. ومما هو جدير بالذكر أن الشعر عند الفراعنة لم يصدر عن لسان شاعر بعينه، ولكنه صادر عن مجموعة الشعب وباسم الشعب.

العلم والدين

كانت العلاقة بين العلم والدين وما تزال من أهم المسائل التي تشغل الذهن البشري في كل عصر وقطر؛ وقد كان لها في تفكيرنا العربي نصيب وافر، ولابن رشد الفيلسوف في ذلك رسالة شهيرة. على إنها اتخذت في العصر الحديث صورة نضال عنيف بين الدين والعلم على أثر الاكتشافات البيولوجية والطبية الحديثة التي قام بها علماء مثل داروين ولامارك في أصول الأنواع وغيرها. وأنكر بعض العلماء الأقطاب مثل باستور أن يكون بين العلم والدين اتصال أو اتفاق. ورأى مفكرون من الغلاة مثل الفيلسوف مكس نرداو أن العلم يهدم

ص: 73

الدين؛ ولكن رأى كثير من العلماء أيضاً أن لا تناقض بين العلم والدين، وان الوفاق بينهما ممكن غير مستحيل.

وقد صدر أخيراً في هذا الموضوع كتاب خطير بقلم العلامة الدكتور جورج ريجار الأستاذ بجامعة لوزان عنوانه (دراسة بيولوجية وعلمية لمسائل الدين العظمى) ريجار طبيب وعالم وبارع، وهذا ما يسبغ على بحثه قيمة خاصة. وقد تناول في كتابه جميع المسائل الهامة التي تتعلق بهذا الموضوع الدقيق، مثل الجبر، والتحكيم الحر، والأخلاق البيولوجية، والمعاناة والألم والله والدين. ويلجأ المؤلف في عرضه لهذا الموضوعات الدقيقة إلى الوقائع المادية، ثم يستخلص منها النتائج الفلسفية والأخلاقية. ومما يلفت النظر أنه على رغم مادته العلمية الخالصة يبدو مؤمناً، وهو يحاول أن يدعم أيمانه بالأدلة العلمية والعقلية، ويقدم أدلته بصورة متزنة معقولة؛ وهو يعارض بشدة أولئك الذين يرون في العلم عدواً لدوداً للدين. على أنه يرى من جهة أخرى أن التعاليم الدينية يجب أن تتطور وأن تساير العقل الوضعي حتى يمكن أن يفتح الطريق لقيام العقائد الروحية في صورة تلائم اتجاهات التفكير الحديث.

وعلى مثل الدكتور ريجار نشر العلامة الأثرى الدكتور فيجال أخيراً رسالة يدلل فيها على أن المباحث الأثرية والتاريخية في تراث مصر القديمة تقدم إلينا كثيراً من الأدلة والحوادث المادية التي تتفق تمام الاتفاق مع منطوق كثير من السير والتعاليم الدينية.

الرافعي وخصومه

أخي الأستاذ الزيات

تحيتي إليك، وإلى الوجوه التي أحبها بنادي الرسالة، وجوه الأدباء الأمجاد الذي يرون في مسامرتك معاني لا يجدونها في الطواف بشارع فؤاد وشارع إبراهيم وشارع. . .

وبعد فهل تعلم أني صبرت طويلاً على الأستاذ محمد سعيد العريان؟ لقد صبرت عليه لغرض نبيل يعرفه، ويعرفه أصدقاء تحملهم أقدامهم إلى الزمالك ومصر الجديدة. ولكن للصبر حدود، فقد شاء أن يسم أدباء مصر بميسم العقوق حين زعم أن خصوم الرافعي لم يرثوه. وهو قد شاء أن يضيفني إلى خصوم الرافعي مع أن الخصومة لم تشبَّ بيننا غير خمس مرات. وإن الجزع ليبلغ مني كل مبلغ حينما أتذكر أني كنت آخر من خاصمه

ص: 74

الرافعي في دنياه، ولكن الأديب العريان نسي أو تناسى أني كنت أول من رثى الرافعي في خطاب نشرته جريدة المصري، وأثنى عليه كل الذين قرؤوه وعدوه دليلاً على وفاء الخصوم الشرفاء.

ولم أتفرد برثاء الرافعي يوم مات، فقد رثاه الأستاذ ألمازني بمقال بليغ نشرته جريدة البلاغ، ونشرت الرسالة وغيرها مقالات كثيرة تشهد بأن المصريين لم ينسوا ذلك الفقيد.

فكيف صح للأستاذ العريان أن يزعم التفرد بإحياء ذكرى الرافعي؟

إنني أرجوه أن يتثبت مما يقول، فإن له في هذه المقالات أخطاء كثيرة. وقد آذاني ما كتبه عن (فلانة) التي جلست معي جنباً إلى جنب أربع سنين في الجامعة المصرية، وعرفت من شؤونها ما لا يعرف. وآذاني وآذى الحقيقة بما كتب عن الدكتور طه حسين، لأنه يوهم قراءه بان الرافعي كسب المعركة، مع أن التاريخ الذي نسيه يشهد بأن الدكتور طه حسين كان معقول القلم واللسان بفضل الإشارات التي صدرت إليه بأن يترك العاصفة تمر حتى لا يهزم أنصاره أمام الحكومة وأمام البرلمان.

وجملة القول أن ما كتبه ذلك الأديب عن خصوم الرافعي يحتاج إلى تصيح. فإن لم يرجع إلى الأسانيد فسنعاونه على تحرير هذه المسائل بعد حين. والسلام.

زكي مبارك

ضيف العراق

الاحتفال بتوزيع جوائز نوبل

قرأنا في البريد الأخير تفاصيل الاحتفال الفخم الذي أقيم في ستوكهلم في العاشر من ديسمبر احتفاء بتوزيع جوائز نوبل على مستحقيها من مختلف الأمم. والعاشر من ديسمبر هو تاريخ وفاة الفرد نوبل المخترع السويدي الكبير وواقف هذه الجوائز الشهيرة.

وعقد الاحتفال في بهو الموسيقى الكبير بحضور ملك السويد وأعضاء الآسرة الملكية، ورجال الحكومة، وممثلي الدول الأجنبية؛ وبعد أن ألقى رئيس لجنة الهبة خطابه قدم الفائزين بالجوائز تباعاً، وكان كل يتسلم من يدي ملك السويد التحويل المالي والشهادة الفخرية والشارات الذهبية التي يستحقها. وكان أول المتقدمين الأستاذان: دافيد سون

ص: 75

الأمريكي، وتومسون الإنكليزي، وقد نالا معاً جائزة العلوم الطبيعية، وكلاهما قام بأبحاث هامة في مسالة تعرض البلور للتيارات الكهربائية. ثم تقدم الأستاذان هوارث الإنكليزي وكارير السويسري، وقد نالا معاً جائزة الكيمياء، وذلك لمباحثهما عن أنواع الفيتامينات. وتلاهما الأستاذ زنث جيرجي المجري وقد نال جائزة الفسيولوجيا والطب من أجل مباحثه في عمل الأكسوجين والهيدروجين في حرق أغذية الجسم البشرى. ثم تلاه الكاتب الفرنسي روجيه مارتان دوجار الذي فاز بجائزة الأدب من أجل قصته الشهيرة (آل تيول)

وأقيمت في مساء نفس اليوم في (البهو الذهبي) مأدبة فخمة جريا على الرسوم المعتادة وخطب فيها مسيو دوجار، فنوه بالدور العظيم الذي تؤديه الآداب لخدمة السلام، وقال إنه يعتبر أن فوزه بجائزة نوبل لم يكن من أجل كتابه فحسب، ولكن بالأخص من أجل المعنى السلمي الذي يمثله هذا الكتاب، وما ورد فيه عن صيف سنة 1914 من الصور المؤثرة، وأن في عبر الماضي ومآسيه ما يكفي لأن يحمل الأمم على التبصر والاعتبار.

إليك

قرأت في كلام أديب مشهور هذه العبارة: (إليك الدينار في سبيل فلانة) يقصد بإليك هاك، خذ. فتذكرت نقد الأستاذ عبد العزيز الميمني في (سمط اللآلئ) وهو (الذي يستمله العصريون كلهم ولا أستثني منهم أحداً، إليك بدل هاك هو غلط فاحش) والنقد حق، وقوله (لا أستثني منهم أحداً) باطل وخطأ متفاحش. وهذا الإطلاق شيء عجيب، ففي العصر كثيرون لم يغلطوا فيما نقده، منهم حضرته (اعني الأستاذ الميمني) وإن غلط في غيره. . .

وإليك من أسماء الفعل. قال سيبوبه في (الكتاب): (وإليك إذا قلت: تنحَّ. وحدثنا أبو الخطاب أنه سمع من العرب من يقال له: إليك، فيقول: إليّ، كأنه قيل له: تنحّ، فقال: أتنحّى).

وفي (النهاية): (وفي حديث الحج: وليس ثمَّ طرد، ولا إليك، إليك، هو كما يقال: الطريق الطريق، ويُفعل بين يدي الأمراء، ومعناه تنحَّ وابعدْ، وتكريره للتأكيد).

وممن غلط في (إليك) هذه من المتقدمين مهذب الدين أحمد ابن منير الطرابلسي في قصيدته المشهورة التي مطلعها:

عذبتَ قلبي يا تَتَرْ

وأطرت نومي بالفِكَرْ

ص: 76

فقال في أحد أبياتها:

وإليكها بدويةً

رقت لرقها الحضرْ

(الإسكندرية)

(? ? ?)

فردنند دلسبس ومحمد سعيد باشا

لفردنند دلسبس صفحة من تاريخ مصر الحديث تجمع بين مجده الباهر وشقاء المصريين بهذا المجد. . . وقد قرأنا كتاباً ألفه عن هذا الفرنسي الكاتب المؤرخ الكبير هـ. ج. سكونفليد وأصدره منذ أسابيع، وتناول فيه بطبيعة الحال نشأة دلسبس والصداقة المتينة التي كانت بين والده وبين عزيز مصر الكبير محمد علي. وأول مجيء دلسبس ليعمل قنصلاً لفرنسا (الذي نعرفه أنه عين مساعداً للقنصل الفرنسي في مصر) في الديار المصرية، وكيف قرأ كتاب المسيو لوبير مهندس الحملة الفرنسية عن مشروع شق قناة تربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض إذ هو في المحجر الصحي قبل دخوله مصر. . . ثم الصداقة التي توثقت بين الأمير محمد سعيد وبين دلسبس والتي عقدت أواصرها (أطباق المكرونة!) تلك الأطباق التي كان لها الفضل الأكبر في شق قناة السويس. . . وقد أغرقنا في الضحك الممزوج بأشد الآلام عندما قرأنا ما ذكره المؤلف من حديث هذه المكرونة العجيبة وهو تخريج سيكولوجي عجيب يقفنا على الطرائق الحديثة في كتابة التاريخ، ومدى ما يلقف به المؤرخون براهينهم في تعليل الحوادث. . . فلقد ذكر المؤلف أن محمداً علياً لم يعجبه أن يرى ولده سعيداً ذا جسم ضخم كثير اللحم والشحم فحرم عليه ألوانا من الطعام وأمر إلا يقدم إليه شيء منها، ثم عهد به إلى فردنند ابن ماتيو دلسبس صديقه الحميم فعلمه ركوب الخيل وحبب إليه فنوناً من الألعاب والرياضة البدنية. . . ولكن هذه الرياضة كانت تجهد الأمير الصغير وتورثه جوعاً شديداً، ولم تكن مقادير الطعام التي تقدم إليه لترد مسغبته، فكان ينسرق من القصر ويهرول إلى منزل فردنند فتقدم له هناك أطباق المكرونة، فيقبل عليها إقبالاً شديداً. . . ومن هنا، تضاعف هيام سعيد بفردنند، فلما ولي أمر مصر بعد عباس، كان فردنند قد ترك القطر وتقلب في مناصب سياسية هامة أشهرها هذا المنصب

ص: 77

الذي مهد له القيام بالدور الخطير الذي لعبه في سبيل تقريب وجهة النظر بين دولته، والجيوش الفرنسية وبين زعيم إيطاليا مازيني. . . وما إن علم فردنند بتربع صديقه سعيد على أريكة مصر حتى أرسل إليه يهنئه فأرسل إليه سعيد يستدعيه. . . وكانت ذكريات أطباق المكرونة أول حديث دار بينهما بعد هذا الفراق الطويل. . . وفي نفس اللحظة تكلم دلسبس عن مشروع قناة السويس فوافقه سعيد باشا ونسى وصايا أبيه بوجوب الأعراض عن هذا المشروع. . . ومن المؤرخين من يعزو نجاح المشروع إلى شغف سعيد باشا بركوب الخيل وإعجابه بدلسبس كراكب ماهر. . . وسيان. . .

تجديد قصر هشام بن عبد الملك

من أخبار دمشق أن مدير الآثار كتب إلى وزارة المعارف السورية يطلب إليها رصد 25 ألف ليرة سورية في ميزانية دار الآثار لتجديد قصر هشام بن عبد الملك المكتشف في قرية الحير وإلحاق هذا القصر ببناء متحف دمشق الجديد.

وقد كتبت الوزارة إلى رياسة مجلس الوزراء للموافقة على هذا المبلغ فعاد الجواب بالموافقة بعد أن اتخذ المجلس قراراً رقم 195 بهذا الشأن.

لذلك أرسلت وزارة المعارف إلى رياسة المجلس النيابي استناداً على كتاب مدير الآثار بلزوم اعتماد المبلغ المذكور في ميزانية الآثار لتتمكن من إعادة قصر هشام الذي يعد من أكبر الآثار في البلاد السورية ونظراً لقيمته من الوجهة التاريخية والأثرية.

مدارس الفوهور العجيبة

لا تني النازية الهتلرية تبتكر الغرائب لخلق ألمانيا الجديدة. ومن آخر أنبائها أنها اعتزمت إنشاء أربع مدارس حديثة ليتعلم الشبان فيها ما يسمونه هناك أو مراقبة التطور العالمي، أو ما يعني بالإنجليزية إن خاننا التعبير العربي. وستضم كل من هذه المدارس ألف تلميذ من خيرة شباب ألمانيا؛ ويختار طلبتها بشروط خاصة من حيث الذهن والجسم. ويمكث تلاميذ كل مدرسة عاماً واحداً في مدرستهم ينقلون بعده إلى مدرسة أخرى - فيبدأ التلاميذ تعلمهم في مدرسة بوميرانيا التي تبعد عن شمال برلين أربع ساعات بالقطار، ثم ينقلون إلى المدرسة الثانية عند الحدود البلجيكية ليلبثوا بها عاماً ينقلون بعده إلى المدرسة الثالثة

ص: 78

عند شاطئ بحيرة كونستانس في أقصى الجنوب، ثم ينقلون إلى مدرسة مارينبرج عند الحدود الشرقية. وسيتعلم التلاميذ في هذه السنين الأربع أرقى الأساليب السياسية وفن الحياة على أن تناط بهم بعد تخرجهم كل الوظائف التي يراد بها تنوير الشعب وقيادته وبث روح الوطنية بين أفراده. ومعنى هذا أن يأتي يوم لا يتولى وظيفة من وظائف الدولة رجل جاهل بما تتطلبه الدولة ويقتضيه مستقبل ألمانيا. . . أما كيف يعد الأطفال للالتحاق بهذه المدارس فتتولى الدولة انتخاب الصبية في سن العاشرة على أن تلحقهم بمدارس خاصة حتى يبلغوا الثماني عشرة، ثم ينخرطون بعد ذلك فيما يسمي (معسكر العمل) حيث يقضون ستة أشهر يباشرون خلالها أعمالاً عامة تعودهم شظف العيش والحياة الخشنة، حتى إذا انتهت الأشهر الستة انخرطوا في صفوف الجيش حيث يعملون في فصائله المختلفة لمدة عامين يلتحقون بعدهما في وظائف الدولة لمدة سنة يستطيع كل منهم خلالها أن يتزوج ويكون أسرة؛ فإذا تصرم العام اختير من بين الجميع ألف طالب كدفعة أولى لمدارس الفوهرر، ويطلق عليهم حينئذ لقب أو الشباب (الجنتلمان) - وسيتحرى في اختيار هؤلاء أن يكونوا جميعاً من طول واحد، وأن تكون صدورهم من مقاس متفق عليه، وأن يكونوا ألمانيين خلصاً ومن جنس نوردي آري لم يمتزج بدم جنس آخر إلى ما قبل سنة 1800. . . وسينشئون في هذه المدارس تنشئة إسبرطية بكل معاني الكلمة فيزاولون الرياضة ويشبون على الشجاعة والإقدام والتضحية.

أما المنهاج الدراسي، فسيتعلم التلاميذ في مدرسة بوميرانيا ثقافة العصرين الحجري والحديدي. . . وبالطبع سيقحم مجد ألمانيا في هذين العصرين إقحاما قومياً. . . وفي مدرسة الحدود البلجيكية سيلقنون دروساً في الديانة المسيحية باعتبارها إحدى السياسات التاريخية فينقد المذهب البروتستانتي كما ينقد المذهب الكاثوليكي بحرية مطلقة. . . أما في مدرسة الجنوب البافارية فسيتعلمون النازية الحديثة وعلم الأجناس الجديد من وجهة النظر الهتلرية. . . فإذا ذهبوا إلى مدرسة الحدود البولندية تعلموا ثمة فنون الدعاية الجديدة والمشروعات المتعلقة بسياسة ألمانيا الشرقية كما تناولها هتلر في أل

وليتساءل القارئ بعد هذا: إلى أين تسير ألمانيا؟!

جوائز جونكور وفمينا

ص: 79

منحت أكاديمية جونكور أخيراً جائزتها السنوية للكاتب البلجيكي شارل بلسنييه من أجل كتابة (الزواج) الذي صدر منذ عام؛ وهذه أول مرة تمنح فيها هذه الجائزة الفرنسية كاتباً غير فرنسي، وليس في قانون أكاديمية جونكور ما يحرم نيل جائزتها على غير الفرنسيين؛ ولكنها تجري في ذلك منذ نشأتها على تقاليد الأكاديمية الفرنسية التي تقضي بالا يتشرف بعضويتها غير الفرنسيين. ولكن حدث في صيف هذا العام أن زار وفد كبير من أعضاء الأكاديمية البلجيكية زملاءهم أعضاء الأكاديمية الفرنسية، وكانت الكاتبة الشهيرة كوليت قد منحت عضوية الأكاديمية البلجيكية، لأن النساء لا يقبلن في الأكاديمية الفرنسية، فرأت أكاديمية جونكور من جانبها أن تخرج على تقليدها القديم، وأن تمنح جائزتها للكاتب المتفوق في الكتابة بالفرنسية، واختارت لذلك شارل بلسنييه.

ونالت مدام رايمون فنسان جائزة (فمينا) عن روايتها (الريف) وهي كما يدل عنوانها قصة نصف الحياة الريفية. وقد نشأت مدام فنسان نشأة ريفية ولم تتلق دراستها المدرسية إلا في سن متأخرة، ولكنها تتمتع بمواهب أدبية بديعة.

ونال الكاتب الناقد رومان روسل جائزة الحلفاء الأدبية عن روايته (واد بلا ربيع)

ص: 80

‌رسالة النقد

أبو تمام والمقتطف

لأستاذ جليل

قالت مجلة (المقتطف) الغراء في حديثها عن كتاب (أخبار أبي تمام) للصولي: (أبو تمام أمير من أمراء العصر العباسي، خرج لأهل عصره بجديد لم يألفوه فخرجوا عليه، وساعد في ذلك وجود البحتري فناصره الناس، وفضلوا رقته ورشاقة ديباجته على تعاظل أبي تمام وتعمقه، وطالت الخصومة، وكسب الأدب منها ما كسب من كتب النقد، وكان مما كسبه كتاب الصولي الذي أراد به الانتصار لأبي تمام على كتاب الآمدي (الموازنة بين أبي تمام والبحتري) الذي ناصر فيه مؤلفه البحتري.

قول المقتطف: (أبو تمام أمير من أمراء العصر العباسي) فيه بعض التسامح، فما كان حبيب أميراً من الأمراء، وما ترفعه عندنا إمارة، ولن تخفضه قروية؛ وفلاح عامل أو عالم خير من آلاف من أمراء أغبياء كسالى، وقد كان ابن آوس فلاحاً ابن فلاح من قرية جاسم.

قول المقتطف: (خرج لأهل عصره بجديد لم يألفوه فخرجوا عليه) فيه لبس كثير، فقد جاء أبو تمام بما جاء به ورأى الناس إبداعاً ونبوغاً وعبقرية فبهرهم ذلك واستجادوه واستجزلوه وتقبلوه (ولم يخرجوا على صاحبه) ولم ينكر ذاك الشعر العلوي العبقري ولم يعبه إلا جاهل أو حاسد أو عدو. ومتى تخلص النابغون أو العبقيريون من مناكرين ومعادين؟ وإن عاب الطائي مثل ابن الأعرابي ودعبل فقد أجله أيما إجلال مثل المبرد وابن الزيات. وقصة أرجوزة حبيب وابن الأعرابي (وهي مشهورة) تبين مقدار العداوة إذا اشتدت وجارت. ودعبل، أقواله وأهاجيّه مساخر دعبلية. . . وقد أعلن أبو الفرج في كتابه (الأغاني) والصولي في (أخبار أبي تمام) مقاصد ناقدين في نقدهم حبيباً. قال أبو الفرج:(هم أقوام يتعمدون الرديء من شعره فينشرونه ويطوون محاسنه، ويستعملون القحة والمكابرة في ذلك ليقول الجاهل إنهم لم يبلغوا علم هذا وتمييزه إلا بأدب فاضل وعلم ثاقب) وقال الصولي: (صنف أَلَف في الطعن عليه كتباً ليجري له ذكر في النقص إذ لم يقع له حظ في الزيادة، ومكسب بالخطأ إذ حرمه من جهة الصواب) وإن شاعراً أخمل في زمانه خمسمائة شاعر - إلا واحداً - كلهم مجيد لا يستبدع أن يعاديه معادون، وينبحه شويعرون، وينغر

ص: 81

عليه ويغلي شعراء مبرزون. ومن يقرأ شعر ابن الرومي في البحتري يستعجب ويستغرب في الضحك، يقول في مقطوعة خلاصتها:(أن الشاة لا تجزع من ألم الذبح ولا السلخ لكنها تشفق أن يكتب في جلدها شعر البحتري).

قول المقتطف: (فناصر الناس البحتري وفضلوا رقته ورشاقة ديباجته على تعاظل أبي تمام وتعمقه) هذا القول هو الظلم العبقري، وللمعاظلة معانٍ كلها شر؛ والتعمق هنا هو التنطع. وهذا تصوير لشعر ابن أوس مستشنع، ووصف منكر. ولو قالت (المقتطف) وفضلوا رقة البحتري على جزالة أبي تمام لاقتربت من الحق، فقد قال صاحب (المثل السائر):(أعلم أن الألفاظ تجري من السمع مجرى الأشخاص من البصر، فالألفاظ الجزلة تتخيل في السمع كأشخاص عليها مهابة ووقار، والألفاظ الرقيقة تتخيل كأشخاص ذوي دماثة ولين أخلاق ولطافة مزاج؛ ولهذا ترى ألفاظ أبي تمام كأنها رجال قد ركبوا خيولهم، واستلأموا سلاحهم وتأهبوا للطراد. وترى ألفاظ البحتري كأنها نساء حسان عليهن غلائل مصبغات وقد تحلين بأصناف الحلي) وهي طبيعة المرء (أو مزاجه) تدعوه إلى طريقة في القول بل عقيدة في الدين فيستقيد لها ويستجيب. ولن تضير ذا الرقة رقته، ولن تعيب ذا الجزالة جزالته؛ وقوة حبيب ما حرمته لطفاً، وسهولة البحتري ما منعته فحولة. فوصف صاحب المثل هو قول عدل في شعر الطائيين من جهة الألفاظ؛ وأما من جهة (الاستخراجات اللطيفة والمعاني الطريفة) كما يقول المبرد أو لطف المعاني وسموها أو العبقرية الشعرية، فالبحتري دون أبي تمام، والوليد في ذلك تلميذ حبيب. وما أصدق البحتري إذ يقول:(أنا والله تابع لأبي تمام، لائذ به، آخذ منه، نسيمي يركد عند هوائه، وأرضي تنخفض عند سمائه) وفي (الموشح): (سرقات البحتري من أبي تمام نحو خمسمائة بيت) وعندي أنها أكثر مما قال. وهنا نكتة تروي في هذا المقام: رآني ذات يوم أديب شاعر أقرأ في كتاب فقال: ما هذا؟ قلت: شرح ديوان أبي تمام. فلما أبصر الكتاب وعرفه قال: هذا ديوان البحتري. قلت: نعم. ففهم النكتة. وليس القصد من هذا الكلام تنقص البحتري وتهجينه، بل تقرير الحق وتبيينه. والبحتري هو صاحب القول الطل الجميل، وهو في الشعر العربي ثالث ثلاثة ما جاء قبلهم ولا بعدهم مثلهم. وأستاذ الاثنين - على إبداعهما وعلوهما - هو حبيب. وإن شئت فقل كما قال المتنبي:(حبيب أستاذ كل من قال الشعر بعده) وأبو الطيب

ص: 82

يدري بما يقول، ويعرف ما يعني، وهو خريجه وإن لم يجثُ بين يديه، ومعاني أبي تمام في أبيات المتنبي سوافر غير متلثمات، ينطقن بالحق فصيحات.

وعناية حبيب بألفاظه مثل عنايته بمعانيه لا كما جاء في (موازنة الآمدي): (إن اهتمامه بمعاينة أكثر من اهتمامه بتقويم ألفاظه، وأنه إذا لاح له المعنى أخرجه بأي لفظ استوى من ضعيف أو قوي) فإن هذا قول باطل، الحق يعانده، والأدلة تدحضه، وسبك حبيب العجيب يكذبه؛ فليس في العربية شاعر احتفل في المعنى واللفظ معاً احتفال أبي تمام، فهو إذا غزا المعنى العالي أنزله من اللفظ في خير مكان؛ فهو محكم المعنى مرصّن اللفظ (وإذا لم ينهض بالمعنى الشريف الجزل لفظ شريف جزل لم تكن العبارة واضحة، ولا النظام متسقاً؛ وتضاؤل المعنى الحسن تحت اللفظ القبيح كتضاؤل الحسناء في الأطمار الرثة). وفي (العمدة) لابن رشيق قال: (قال بعض من نظر بين أبي تمام وأبي الطيب: إنما حبيب كالقاضي العدل يضع اللفظة موضعها، ويعطي المعنى حقه بعد طول النظر والبحث عن البينة، أو كالفقيه الورع يتحرى في كلامه ويتحرج خوفاً على دينه؛ وأبو الطيب كالملك الجبار يأخذ ما حوله قهراً وعنوة، أو كالشجاع الجريء يهجم على ما يريده لا يبالي ما لقي، ولا حيث وقع)

وقد حقق حبيب جل شعره، وأحكم نظم أكثره، وله المتوسط، وله الرديء، والجيد جيد، والغث غث، فصف كلاً بصفته، ولا تلبس الحسن بالقبيح، وخذ الطيب وذر الخبيث، (وليست إساءة من أساء في القليل وأحسن في الكثير مسقطة إحسانه) كما قال أبو الفرج

قول المقتطف: (وكان مما كسبه كتاب الصولي الذي أراد به الانتصار لأبي تمام على كتاب الآمدي: الموازنة بين أبي تمام والبحتري) فيه تسامح كثير، فقد ألف الصولي كتابه والحسن ابن بشر الآمدي شادٍ لم يجادل ولم يوازن ولم يؤلف شيئاً. وليس في الكتابين دليل على أن أحدهما قصد مناقضة الآخر. فالصولي ينعى على جماعات مقالات لهم زائغة، والآمدي يوازن بين الطائيين وضلعه مع الوليد على حبيب. وممن يعنيهم الصولي أدعياء في الأدب أو علماء من دعاة القديم، والآمدي أديب يكبر الشعراء المحدثين.

المقتطف مجلة أجلها، وكيف لا أعظم صحيفة منشئها علامة العرب ومعلمهم (الدكتور يعقوب صروف) لكنها قالت فقلت.

ص: 83

قارئ

ص: 84