الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 236
- بتاريخ: 10 - 01 - 1938
التأليف والنشر في مصر
للدكتور عبد الوهاب عزام
حدثني بعض الأصدقاء أن أحد أصحاب المعالي وزراء الدولة في الحكومة القائمة دعا إليه جماعة من الكتاب وحدثهم في تنشيط التأليف في مصر ومكافأة المؤلفين ووعد في هذا وعوداً حسنة الخ
وهذا رأي محمود نرجو أن يتلوه العمل فيؤتى ثمراته بعد حين؛ وهذه فرصة أنتهزها للتنبيه إلى أمر طالما أهم المفكرين من قراء العربية في الشرق والغرب، وطالما ترددت منه الشكوى وأخذت به مصر قبل الأقطار الأخرى؛ ذلكم أمر النشر نشر الكتب القديمة والحديثة التي مات مؤلفوها. فهو أمر تتحكم فيه الفوضى. يستطيع الواحد من تجار الكتب أن يعمد إلى كتاب من الأمهات في الأدب أو التاريخ أو غيرهما، ويعهد به إلى من يصححه ويقدمه للطبع. وحسب هذا المصحح أن يستطيع قراءة الكتاب قراءة يتصرف فيها خياله وحظه القليل من العلم، ونشاطه التي تحده المكافأة القليلة التي ينالها من الناشر، ووجدانه الذي لا يحفل بالأمانة العلمية كثيراً. وأحياناً يتصدى لنشر الكتب بعض العارفين بأساليب النشر الحديثة، فيعهد بتصحيحه إلى بعض الأسماء النابهة، ويتخذ من وسائل الترويج ما يشاء له طمعه في الربح والصيت؛ فيستبشر الأدباء ويرجون خيراً ويتربصون على قلق حتى يظهر الكتاب فيكبوا على قراءته فإذا الأمر لا يعدو ما ألفوه من طرق النشر التي لا تصوب غلطاً، ولا تزيل شكاً، ولا تنال طمأنينة القارئ
لا يعوز الباحث أن يتابع الأدلة من الكتل المشوهة، أو الكتب التي بذل في تصحيحها جهد قليل قصر بها دون الغاية:
نشر بعض الناشرين كتاباً قديماً في الفرق الإسلامية فمر على أغلاطه لم يعرض لها وحرف بعض عبارات ظنها غلطاً وهي صواب. وحسبي أن أذكر من فعلاته هذه الواحدة: ذكر المؤلف رجلاً فنسبه إلى قبيلة وقال إنه (من ثَوْر هَمْدان) أي قبيلة ثور إحدى قبائل همدان لا من قبيلة ثور الأخرى إحدى قبائل مضر. فحرف الناشر الكلمة إلى (ثغور همذان) وأمتن على القراء في الحاشية بأنه أدرك الحق في هذه الجملة المحرفة. وأذكر أن ناشراً عمد إلى ترجمة كتاب كلستان للشيخ سعدي الشيرازي الشاعر الفارسي العظيم فطبعه
وكتب على صفحة العنوان: (كتاب جلستان: بقلم العلامة جلستان الفارسي)
وليس العهد بعيداً بكتاب معجم الأدباء، وما أهمل من غلطاته، وحرف من عباراته، وزيد عليه من شرح يتجلى فيه الخطأ والفضول. وقد أخرج للناس في موكب من التشهير والترويج، وهو في الحق حري أن يكون عيباً لمن أخرجه وعاراً على وزارة المعارف التي احتملت التبعة فيه فكتبت على صفحة العنوان:(راجعته وزارة المعارف). وكنت كتبت خمس مقالات في نقد الجزأين الأول والثاني ثم وعدت القارئ أن أعود إلى النقد بعد أن تطبع الأجزاء الأخرى لأبين أهي خير من هذين الجزأين أم مثلهما. ولعلي أفي للقراء بهذا الوعد بعد هذا المطال الطويل. بل كتب الأدب التي بأيدي الطلاب في مدارس الوزارة فيها كثير من الغلط وإذا وقع الغلط والتحريف في مثل هذه الكتب فماذا يرجى من الكتب السوقية التي يتولى نشرها تجار أكبر همهم النفقة القليلة والربح الكثير؟
كان أسلافنا يكتبون الكتب بأيديهم إذ لم تكن عندهم من وسائل الطبع والتصوير ما عندنا. فكان عليهم أن يصححوا كل نسخة من كل كتاب. وقد اضطلعوا بهذا العمل الفادح جهد طاقتهم وبذلوا فيه من فكرهم وعافيتهم ونومهم وراحتهم ما تشهد به آثارهم وأخبارهم. كان المتأدب منهم يقرأ الكتاب على أديب ثقة، ويكتب عليه أنه قرأه على فلان، ويغلب أن يكون الشيخ الذي قرء عليه الكتاب قد قرأه على آخر، وهكذا حتى تنتهي القراءة إلى المؤلف أو الشاعر أو الكاتب. ويكتب هذا السند المتصل على الكتاب فيعلم قارئه أن بيده كتاباً عمدة يطمئن إليه، بل فعلوا هذا في الدواوين المتواترة التي يتداولها الحفظ والنسخ كل حين كديوان المتنبي. وعندنا اليوم نسخ من الديوان تحمل سندها من أبي الطيب إلى سبعة قرون أو أكثر من بعده. وهذا العكبري شارح الديوان في القرن السابع لم يجز لنفسه أن يشرحه حتى قرأه على شيخين من شيوخ الأدب: مكي بن ريان بالموصل، وعبد المنعم بن صباح التيمي بمصر. وقد وضع أسلافنا أصولاً اصطلحوا عليها وسموها (أصول السماع) بينوا فيها كيف يتثبت راوي الخبر أو راوي الكتاب حتى يتحرز عن الغلط جهده.
ومن عجيب ما يروى في هذا ما حدثني به بعض الثقات أن القاضي عياضاً ذكر في كتابه (الإلماع في أصول السماع) أن أبا علي القالي صاحب الأمالي أعار الحكم المستنصر الأموي خليفة الأندلس كتاباً من كتبه وطالت غيبة الكتاب عنه. فلما رد إليه أبطل الرواية
به وقال لا آمن أن يكون قد أصابه تحريف وهو في يد غيري
ذلكم جهد السلف ودأبهم في التثبت، على ما حملهم هذا من عناء ونصب. فكيف وقد تيسر طبع الكتب بما خلقت المدنية الحاضرة من وسائل - كيف نتهاون في التصحيح والتحقيق فنخرج كتباً تنوء بأغلاطها؟ إن ناشر الكتاب اليوم يكفيه أن يصحح نسخة واحدة لتصح له آلاف النسخ فيتواتر الكتاب، ويؤمن عليه الغلط والتحريف، والزيادة والنقص من بعد. ليت شعري بأي عذر نعتذر، وبأي تعلة نتعلل؟ لا عذر ولكنه التهاون والكسل أو القصور والجهل ليس فيها خيار لمتخير
فالذي نرجوه أن تؤلف الحكومة أو تكل إلى الجامعة، تأليف هيئة لمراقبة النشر وبخاصة نشر الكتب القديمة فلا يؤذن لناشر أن ينشر كتاباً حتى تتوثق هذه الهيئة أن القائمين على تصحيح الكتاب هل لتصحيحه وإخراجه على حال يسكن إليها أولو العلم والأدب. ولهم في لجنة التأليف والترجمة والنشر أسوة حسنة ومثال صالح
ذلكم أقرب إلى التحقيق، وأبعد من الفوضى، وذلكم أجدر بنا وأولى بسمعتنا، وأحفظ لتاريخنا وآدابنا. فإن توهم متوهم أن الخطب في هذا أمم يوكل إلى الزمن إصلاحه ولا يحتاج إلى عناية الأمة والحكومة فليسأل الباحثين من علمائنا وأدبائنا ليشكوا إليه ما قاسوا من الكتب المحرفة، والنصوص المضللة. وإنا لراجون أن تبادر الحكومة إلى تبشير الأدباء بما تعتزم في هذا الأمر العظيم ثم تتبع البشرى العمل والوعد الإنجاز
عبد الوهاب عزام
في عليين
للأستاذ عباس محمود العقاد
سلفادور مدرياجا أديب إسباني كان أستاذاً للدراسات الإسبانية بجامعة أكسفورد. ثم ظهر في عالم السياسة الأوربية على أعقاب الثورة التي قام بها في بلاد الأسبان جمهرة الأدباء والمثقفين، فمثل حكومته في عصبة الأمم والولايات المتحدة وفرنسا، وراجت تواليفه التي تتمثل فيها عبقرية بلاده، فترجمت إلى معظم اللغات الغربية
وقد لازمته روح الأدب حتى في أعماله السياسية فرويت له طرائف شتى أثناء المناقشات المحتدمة في مشاكل الدول وأزمات الحكومات، ومنها انه حضر (مؤتمر السلاح) وسمع ما يقترحه كل فريق من الدول القوية من تقييد هذا السلاح أو السماح بذاك على حسب اختلاف العدة عند كل فريق، فأصغي إلى الأعضاء الجادين في مناقشاتهم ومساجلاتهم ثم قال:
(أيذكر مسيو لتفينوف خرافة الحيوانات التي اجتمعت للبحث في التقليم والتجريد؟ لقد نظر الأسد في ذلك المؤتمر إلى النسر ثم قال: علينا أن نلغي المخالب؛ ونظر النمر إلى الثور ثم قال: علينا أن نلغي القرون؛ ونظر الثور إلى النمر ثم قال: علينا أن نلغي الأظافر؛ ونظر الدب إليهم أجمعين ثم قال: بل نلغي كل شيء إلا حق الصراع والعناق!)
وعجب الناس من هذه المؤتمرات التي تجتمع ثم تفترق، وتفترق ثم تجتمع، وهي لا تأتي بنتيجة وتعلم أنها غير آتية بنتيجة. فذهب إليه مراسل بعض الصحف وسأله: ما جدوى كل هذا الاجتماع والافتراق وكل هذا الافتراق والاجتماع؟ وما يعني الساسة المحنكون بهذا العناء في غير طائل؟ فكان جواب مدرياجا للمراسل:
(أسمعت قصة الصبي اليهودي؟ إن كنت لم تسمعها فاعلم أن صبياً يهودياً تعود أن يصرف ريالاً أرباعاً ثم يصرف الأرباع سنتيمات ثم يعود فيرد السنتيمات في دكان آخر إلى أرباع فريال صحيح؛ وهكذا كل يوم بغير تحول ولا انقطاع. فتعقبه بعضهم يوماً بعد يوم ولحق به في طريقه بين الدكاكين فسأله كما تسألني الآن: فيم هذا العناء على غير جدوى؟ قال الصبي: لابد من يوم يقع فيه بعض الناس في خطأ حساب، ولن أكون أنا بعض الناس هؤلاء!)
وقس على ذلك طرائفه التي يتناول بها معضلات السياسة بين الجد والمزح والنوادر والأمثال
آخر كتاب لهذا الأديب اللبق الأريب ظهر في اللغة الإنجليزية هو كتابه (في عليين) وهو على هذه الوتيرة محاورات وأمثال ومحادثات وقعت كما تخيلها في عليين بين أرواح العظماء المرفوعين إلى السماء:
منها روح فولتير الفرنسي وجيتي الألماني وكارل ماركس زعيم الاشتراكية وواشنطون ونابليون وماري ستيوارت ونخبة من طراز هؤلاء
وهي غير مقصورة على أرواح الأموات دون الاحياء، بل يشترك فيها بعض الأحياء الذين يستدعيهم أولئك العظماء من الأرض في حالة النعاس أو حالة الغيبوبة
ويدور البحث بين هذه الأرواح في كل ما يخطر لتلك العقول من مسائل الفن والسياسة والاجتماع، ويتخلل ذلك كلمات بعضها مخترع وبعضها مما روي عن قائليه أثناء الحياة؛ وقراءتها من أمتع ما يطلع عليه القارئ في الأدب الحديث
من أمثلة ذلك أنهم اختلفوا على مشاركة الولايات المتحدة للأوربيين في حل المعضلات العالمية. فأمر واشنطون باستدعاء روح من رجال مجلس الشيوخ المعارضين في ذلك. فجاء الروح وكان أول ما استشهد به قول الرئيس واشنطون في خطاب الوداع، وجرى الحوار على هذا المنوال
الشيخ - ولم يا سيدي؟ إن الجواب لظاهر. وتوقيراً لذكرى الرئيس واشنطون أعيد كلماته التي يعيها جميع الأمريكيين في أطواء القلوب. . . لقد قال: (إن لأوربا طائفة من المصالح الأولية التي لا مصلحة لنا فيها أو تكون علاقتنا، بها جد بعيدة، ومن ثم نتورط في أسباب الخلاف والشقاق التي لا تني تتعاقب وتتلاحق، وهي أسباب غريبة عن شواغلنا، فليس من الحكمة أن نزج بأنفسنا في غمارها، ونعقد الروابط المصطنعة بيننا وبينها، في أحوال سياستها المألوفة أو علاقات الصداقة والعداوة بين أجزائها)
ثم قال: (إن سياستنا هي أن ندير شراعنا بعيداً عن رياح الدول الأجنبية)
فالتفتوا جميعاً إلى القائد واشنطون فإذا به يقول:
واشنطون - عجيب! إنني لم. . . متى قلت ذلك يا حضرة الشيخ الموقر؟
الشيخ - أخالك أنت الرئيس واشنطون إنك لشبيه بتمثالك ولكن ليس بالشبه كله، أفأنت الرئيس واشنطون بعينه؟
واشنطون - نعم يا سيدي: ما يخلد منه
الشيخ - إني سعيد بلقائك أيها الرئيس. إن الكلمات التي سمعتها هذه اللحظة مقتبسة من خطاب وداعك
واشنطون (متذكراً) - وما ذاك؟
الشيخ - حسن أيها الرئيس. إنه الخطاب الذي ألقيته لدواع لست اذكرها الساعة، ولكني أذكر منها أنك ألقيته يوم اعتزمت ألا تغزو ميدان الانتخاب للرآسة
واشنطون - أغزو؟ أنا ما غزوت قط ميدان الانتخاب، ولكني أفهم ما تعنيه وإن كانت عباراتك غريبة عني بعض الغرابة
الشيخ - لم تكن من عباراتك. إلا أننا نحفظ دروسك عن ظهر قلب. لا اشتباك في المسائل الأجنبية!
واشنطون - ومع هذا يا حضرة الشيخ أقول لك إن الابتعاد عن حوافر الخيل سياسة حسنة لصغار الجراء، ولكنها ليست بالسياسة الحسنة لكبار الأفيال
ومن أحاديث الرسالة كلمة توجهها ماري ستيوارت إلى الشاعر جيتي - وهو أستاذها ودليلها في السماء - فتقول له:
(إنك أيها الأستاذ العزيز تطلب (الحرية في النظام) ولكني أرى أن الحرية راجحة على النظام، لأن الحرية خلاقة موجدة. أما النظام فقصاراه أن يحفظ ما هو موجود، وهو يحفظ كل شيء؛ ويا له من شيطان مسكين: يحفظ ما يستحق الحفظ وما هو حقيق بالتلف والزوال، وكأنه ربة البيت المجنونة بالشح والتدبير، فهو يحيط الحياة بنطاق من حديد؛ ثم تأتي الحرية - حرية الأرواح القوية - فتحطم النطاق ولا تزال تفتحه فتحاً يوسع أطراف الحياة)
ومن أقوال ماري ستيوارت في هذا الحديث: (ليست الحياة متاجرة، ولكنها مقامرة. وليست هي مقامرة الرجل مع رجال آخرين، وإنما هي مقامرة الرجل مع الحياة نفسها)
ويقول فولتير في بعض أحاديثه: (لست أزعم أنني موضع ثقة الإله وأنني مؤتمن على
سره كالدكتور جيتي الذي يطلع على الأسرار الإلهية! بل إنني معترف بقلة الفهم لأساليبه، ومن ثم لست على يقين من أسباب لجميع هذه الأشياء)
فيقاطعه واشنطون قائلاً: لابد من أسباب على كل حال. فتصيح بهم ماري ستيوارت: أفكل شيء يجري على حكم العقل وحكم أسبابه؟ ما أحسب ذاك!
فيجيبها كارل ماركس: (ليست الدنيا مستشفى مجاذيب)
فيعود فولتير قائلاً: (أحقاً؟ لست أدري، ولكن إذا جرت الأمور على هوى أتباعك الاشتراكيين وأتباع الإمبراطور - يعني نابليون - العسكريين. فمن يدري؟)
ومن فكاهات فولتير في الرسالة قوله: (إن مذهب الشيوعيين الذين يدعون إلى استيلاء الحكومة على كل شيء لا يختلف عن مذهب الرهبان الذين يقولون باستيلاء الكنيسة على كل شيء) ثم يقول: (إن الشيوعيين هم الطبقة العصرية لطائفة اليسوعيين! الغاية تبرر الواسطة، وإلا فالأقوال الحتمية والتعميم والطاعة، كأنما الإنسان جثة ميتة باختياره، وإلا فهو جثة ميتة على الفور بغير اختيار، ولا احتمال لمذهب غير المذهب، ثم لابد من تسليم البضاعة. . .)
ويدور بعض الأحاديث في الرسالة عن الحرب كما يلي:
كارل ماركس - حرب. حرب. في أوربا كثير من أسباب الحرب غيري أنا. . .
جيتي - على التحقيق، ولكن أوربا كانت تعالج إصلاحها ومحوها، واليك مثلاً عصبة الأمم
كارل ماركس - فشل كامل!
جيتي - أتراك تنفض يديك من الشيوعية عند أول تجربة فاشلة؟
كارل ماركس - كلا! لأنني موقن بنجاحها الأخير
جيتي - وكذاك نجاح العصبة الأخير لا شك فيه
نابليون - لا. لا يا دكتور جيتي. هذا يدهشني أن أسمعه من رجل حكيم كما عهدتك
جيتي - إنما دهشتي من دهشتك
نابليون - نهاية كل قول أن الحضارة قائمة على القوة
واشنطون - كلا. بل الحضارة قائمة على العقيدة
كارل ماركس - العزة الإلهية مرة أخرى!
واشنطون - ليس هذا ما عنيت الساعة يا سيدي. وإن كنت أرى أننا لو تعمقنا في الرأي الذي أبديته فنحن منتهون لا محالة إلى العزة الإلهية
نابليون - ولكنك حين تقول إن الحضارة قائمة على العقيدة أيها الجنرال ماذا تريد؟
واشنطون - أعني الصلة الروحية التي تبعث الناس إلى عمل يعلو على مآربهم الحيوانية القريبة. أفتحسب أن جنودك ماتوا من أجلك لأنك أكرهتهم على ذلك؟
نابليون: إنما أحسب جيشي دعامة حضارتي، وإن جيشي على كل حال قوة!
واشنطون - ما كان جيشك إلا شجاعة، وإيمان بك، وحب لفرنسا
نابليون - ومدافع وذخائر وطعام
واشنطون - كل أولئك (مادة ميتة) بغير العقيدة
نابليون - أتريد عقيدة بغير مدفع؟
واشنطون - خير من مدفع بغير عقيدة
جيتي مخاطباً نابليون - فالمي يا سيدي! تذكر معركة فالمي؟ لقد غلبت العقيدة بغير المدفع على المدفع بغير العقيدة في تلك المعركة. إنني معك أيها الرئيس، وإني لشاكر لك إجابة الإمبراطور وإن كان توجيه سؤاله إلي لعجبه من إيماني بعصبة الأمم. ولقد أردت أن أقول له إنني لم أؤمن بالعصبة إلا لإيماني بأن الجماعة من الناس ينبغي أن تبادر إلى حكم نفسها ساعة وجودها أو ساعة شعورها بوجودها، فأما وجد الشعور بالجماعة الدنيوية فالحكومة الدنيوية لابد لها من وجود)
ومناقشة أخرى تدور بين فولتير وكارل ماركس عن سخافة الروايات الروسية الحديثة، فيشير ماركس إلى أسباب اقتصادية لسخافتها، ويعود فولتير فيقول:
فولتير - حتى تثبت أن غباوة جماهير المدينة نجمت من أسباب اقتصادية
كارل ماركس - حقيقة ذلك ظاهرة
فولتير - بل هي على نقيض ذلك، فما الأسباب الاقتصادية إلا وقائع ثانوية؛ أما الوقائع الأولى فهي دوافع النفوس
كارل ماركس - كلمات وليس إلا كلمات
فولتير - أأنت فأر مدينة أم فأر خلاء (تلك حقيقة ثانوية أما الحقيقة الأولى فهي أنك فأر
على كل حال)
وجيء إلى السماء بوليام جننجز بريان الذي حارب أستاذاً لأنه علم مذهب داروين في بعض المدارس الأمريكية
قال فولتير - فما هو إلا أن ارتفع إلى هنا حتى مثل بين يدي العزة الإلهية. فتهلل وليام جننجز بريان بشراً، ولكنه لم يلق ترحاباً من جانب العزة الإلهية. فقال وهو في حماسة تشغله أن يلمح ما حوله من قلة الترحاب في هذا الجو لأنه قد صعد في الأرض بحماسة كافية لأجواء عديدة: رب. هأنذا. لا يزال يغشاني غبار المعركة. لقد كانت حرباً زبوناً، ولكن الظفر كان لنا
فأجابه الله بصبره السماوي - إن لغة المعركة والحرب والظفر لا تعجبني
قال بريان - لكنك يا الله رب الجنود. أو ليس هذا اسمك في كتاب العهد القديم؟
قال الرب في حلمه السرمدي يلطف ما به: لقد كنت يومئذ ناشئاً ألهم أنبياء إسرائيل إلهام الناشئين! ولعلك نسيت أنني أرسلت إليكم منذ عشرين قرناً رسول حب وسلام
فحار بريان ثم توسل قائلاً وهو في ريب مما يسمع: ولكني يا رباه قد حاربت أعداءك
فوسعه حلم الرب وسدده إلى الصواب وهو يوحي إليه أن ليس لي يا بني أعداء. كل ما لي يا بني خلائق
فاضطرب الكتابي المسكين والشك يأكل قلبه، وصاح. لكن آراء دارون رباه تخالف أقوال كتابك
فأكد له الله قوله في حلم وحزم: (كل ما أخلص كاتبوه في كتابته فهو وحي من عندي، وكل ما استقام على الصراط فهو من مصدر الاستقامة)
وفي بعض المحادثات يقول ماركس لجيتي: إن من يعمل يعيش. فيقول جيتي: إنك إن أقمت حق العامل على عمله لا على صنعته الإنسانية قتلته، ولاسيما حين تكثر الآلات وتقل الحاجة إلى الأعمال والعاملين
وهكذا تفيض الرسالة بالطرائف التي لها مثل هذه الطلاوة أو هذه الدقة أو هذه الفكاهة. وقد رأيت أن أشرك قراء العربية في نصيب منها حتى ينقلها ناقل برمتها وهي قلما تربي على مائة صفحة صغيرة
عباس محمود العقاد
ليلى المريضة في العراق
للدكتور زكي مبارك
- 5 -
أخبار قصيرة
1 -
اعترضت مجلة الحاصد على عبارة (ليلى المريضة بالعراق) وقالت: إن البيت المشهور يجعلها مريضة في العراق لا بالعراق، وتسألنا عن معاني الباء، ولكنا نعرف أن الجدل في النحو أخرج سيبويه من بغداد وهو محموم، فلنصرح بأن الباء في العنوان القديم لم يكن لها في ذهننا معنى غير الظرفية، على حد ما قيل
ومن يك أمسى بالمدينة رحله
…
فإني وقيار بها لغريبُ
فاتركنا يا سيد أنور ما تركناك!
2 -
نشرت جريدة البلاد كلمة لحضرة سكرتير الإذاعة اللاسلكية ينفي بها ما نشر في مجلة الرسالة عن إغفال اسطوانة السيدة نادرة:
يقولون ليلى في العراق مريضة
…
فيا ليتني كنت الطبيب المداويا
ويؤكد أنه لم تصدر أية إشارة من أية جهة بمنع هذه الأسطوانة من الإذاعة، ونجيب بأننا سمعنا ذلك الكلام من ليلى وهي عندنا أصدق
3 -
كثر الاستفهام عن السيد الذي يقيم بالكاظمية والذي تفضل فهداني إلى منزل ليلى، ولكن لذلك السيد مكانة اجتماعية تجعل من العسير أن نصرح باسمه في هذه الأحاديث الوجدانية
4 -
طلب جماعة من أدباء بغداد أن أعلن أن ليلاي غير ليلى الزهاوي، فإن الزهاوي كانت ليلاه هي العراق، وأنا أصرح بأن ليلاي في بغداد هي ليلى المريضة في العراق، وهي معروفة لجميع الناطقين بالضاد
وبدت لي ظمياء فتاة شاعرة العواطف حين وصفت آذار بأنه شهر الأزهار والرياحين. وغلب الأدب على الطب فأحببت أن أعرف كيف رأت مصر وكيف رأت النيل. والحق أن ظمياء في جوهرها فتاة مليحة، ولكني أغالب نفسي فأقول إنها شوهاء مداراة للمرأة جميلة
التي تفحص أسارير وجهي بعينين كأنهما عينا العقاب، وما أدري والله كيف نجحت في اصطناع التجمل والتوقر وكنت طول حياتي مفضوح النظرات
- ظمياء
- نعم يا مولاي
- كيف كان طريقكما إلى مصر يا بنيتي؟ بالسيارة أم بالطيارة؟
- لم يكن السفر بالطيارة مألوفاً في سنة 1926 وإنما ذهبنا بالسيارة إلى الشام، ثم اخترقنا فلسطين حتى وصلنا إلى قناة السويس، وقد قضينا على شاطئ القناة ثلاث ساعات مرت كلمحة الطرف بفضل ما غرقنا فيه من التأملات
- وهل التأمل يقصر الوقت يا ظمياء؟
- لا أعرف يا سيدي الطبيب، وإنما أذكر أن ليلى كانت تحفظ قصيدة شوقي في قناة السويس فظلت تنشد طول الوقت وهي في حلاوة الرشأ النشوان
- لا أعرف أن لشوقي قصيدة في قناة السويس، وإنما أعرف أن له فيها آية من آيات النثر الفني
- لا. يا سيدي، هي قصيدة
- هل تحفظين منها شيئاً؟
- أحفظ المطلع:
تلك يا ابْنَيَّ القناه
…
لقومكما فيها حياه
- هذه ليست قصيدة يا ظمياء
- ليلى تقول إنها قصيدة
- القول ما قالت ليلى! ثم ماذا يا ظمياء؟
- كانت ليلى تنشد ما تنشد ثم تحاورني في أمر المصريين الذين حفروا القناة، ومن رأي ليلى أن حفر القناة أعظم عمل قام به المصريون في التاريخ
- ولكنها أضرت مصر يا ظمياء
- هذا يا سيدي كلام الساسة لا كلام الأطباء. وهل يضر مصر أن تكون صاحبة الفضل على العالمين فتنشئ من المرافق ما بخلت به الطبيعة القاسية على الإنسانية؟ إن الحياة يا
سيدي الطبيب لا تنهض إلا بفضل التضحية، وقد ضحت مصر بمالها وسلامتها في سبيل الإنسانية، وسيجزيها الله على ذلك خير الجزاء
- هذه فلسفة يا ظمياء، وما تهمني الآن، ثم ماذا؟
- ثم دخل الليل ونحن على الشاطئ، وطلع القمر فتحول الوجود إلى موجة فضية تفتن القلوب، ونظرت إلى ليلى فرأيت انعكاسات القمر على وجهها آية من آيات السحر والفتون
- دخلنا في الغزل يا ظمياء
- أنت الذي شجعتني على الوصف يا مولاي
- اسمعي، هنا سؤال مهم: هل رأيت ليلى على القناة في حال تختلف عما كنت تعهدين وهي في بغداد؟
- أنا أصغر من ليلى سناً كما تعرف
- مفهوم، مفهوم، وهل تخفى على مثلي هذه الفروق!
- لم أكن أعرف يومئذ ما هو الحب، لولا علاقة سطحية بابن عمي عبد المجيد
- يظهر أنك فتاة متعبة وحمقاء. ما شأني بعلاقاتك السطحية أو العميقة مع ابن عمك عبد المجيد؟
- أنا أريد يا سيدي أن أقول إني لم أكن يومئذ أدرك كيف تتغير أسارير الفتاة حين يطلع القمر، أو حين يهب النسيم، وإنما فطنت إلى ذلك بعد ما ثارت العواصف حول ليلى. وأقول لك إني فهمت الآن أن ليلى كانت تتأهب لحب مجهول، فقد كان للقمر على وجهها أضواء وظلال يطير لها لب الحكيم، وقد مددت ذراعي فطوقتها فانعطفت علي وقبلتني قبلة عطف لن أنساها ما حييت!
(وهنا تذكرت الوجه الذي كان القمر يسبغ عليه ألوان الأضواء والظلال، وجه الإنسانة النبيلة التي أتحفتني بصورتها الغالية لأدفع بها ظلام الليل في بغداد. وكدت أتنهد ثم تماسكت ولي قدرة على ضبط النفس في بعض الأحوال)
- كفى، كفى
- تحب يا سيدي أن أصف كيف رأينا القاهرة أول مرة؟
- إن كنت تحبين ذلك. . .
- أحب أن أقول لتسمع الست جميلة، فهي تحب ذلك
- وأنا أيضاً أحب أن أسمع وصف القاهرة، فقد طال شوقي إلى القاهرة
- تعرف يا سيدي محطة باب الحديد؟
- أراها يا بنيتي في طيف الخيال!
- لقد أرهقنا الحمالون. . .
- أنت يا ظمياء تتكلمين بلغة السائحين. إن لمحطة باب الحديد سحراً لا تعرفينه يا حمقاء
(ثم سكت لحظة، فقد تذكرت أني زرت تلك المحطة أكثر من مائة مرة على غير ميعاد، لأشهد أسراب المودعين والمودعات في القطار الذي يقوم إلى بور سعيد كل مساء. وتذكرت أني كنت أضحى بمكاني في قطار البحر فلا أصعد إليه إلا بعد أن يدق الناقوس لأمتع عيني وقلبي بالحسن الذي يموج فوق الرصيف وتذكرت الفتاة التي استقبلتها في تلك المحطة عند منتصف الليل في الشتاء الماضي، تلك الفتاة التي جاءت من نورمنديا خاصة لتزور معي الأهرام في ليلة قمراء. تذكرت وتذكرت حتى كاد يفضحني الدمع، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وهو وحده يعلم ما يقاسي قلبي من الغربة بين القلوب)
- ثم ماذا يا ظمياء؟
- ثم اخترقنا شارع كامل
- هو اليوم شارع إبراهيم
- أفادك الله!
- يا لئيمة، فيك أشياء من دعابة بغداد!
- ثم نزلنا عند أسرة عراقية تقيم في شارع قصر النيل، وكانت ليلى قد تعبت فظلت في البيت يومين كاملين
- وهل في الدنيا إنسان يرى القاهرة أول مرة ثم يحبس نفسه في البيت يومين؟
- قلت إن ليلى كانت تعبت، والحق أن ربة البيت الذي نزلنا فيه نهتنا عن الخروج، لأننا نزلنا القاهرة ملفوفتين بالثياب على نحو ما ترى عقائل بغداد، وكانت تلك السيدة تخشى إن خرجنا بتلك الصورة أن يرانا الجمهور من الغرباء، والغريب لا يسلم من فضول الناس. وفي يومين اثنين أحضرت تلك السيدة الكريمة ما ترى أن نلبس من الثياب. أما أنا ففرحت
بثيابي ورأيت أني تجددت؛ وأما ليلى فقد غضبت أشد الغضب وأعلنت أن الخروج بهذه الثياب ينافي الحياء. وفي الحق أن ليلى بدت في تلك الثياب كالحورية الهاربة من الفردوس، فقد كان يجب أن تمشي في الجادة وهي سافرة الوجه، وكان الثوب المصري يكشف بعض الطلائع من صدرها الجميل. ولو رأيت ليلى في تلك الساعة وهي غاضبة لرأيت العجب العجاب، فقد توهمت المجنونة أن الشبان المصريين سيخطفونها حين تقع أبصارهم على حسنها المرموق، وبلغ بها الوهم أن تزعم أن خطفها سيكون فضيحة للعراق
وعندئذ قهقهت ربة البيت وقالت: (اسمعي يا ليلى، إن المصريات لا يخرجن إلى الشارع بهذا الثوب وإنما يلبسن فوقه المعطف. فسكنت ليلى قليلاً، ثم لبست المعطف فوق الفستان، ونظرت في المرآة فرأت أن حالها مقبول، ولم تر بأساً من الخروج بهذه الصورة لرؤية المعرض)
- ثم ماذا؟
- وخرجنا فعبرنا جسر قصر النيل
- هو اليوم جسر إسماعيل
- أفادك الله!
- يا مضروبة، هل تخرجت في الأزهر الشريف!
- دخلنا المعرض، أو دخلت أنا ثم تبعتني ليلى، وقد كانت على غاية من التهيب والاستحياء، ثم رأينا أفواجاً من الشبان قيل إنهم طلبة الجامعة المصرية وعلى رأسهم أستاذ يشبه سيدي الطبيب
(وهنا ابتسمت ابتسامة خفيفة لأنه لا يبعد أن أكون ذلك الأستاذ، فقد كنت صحبت جماعة من تلاميذي لزيارة المعرض، فيهم إبراهيم رشيد وإبراهيم نصحي ومحمود سعد الدين الشريف ومحمود محمد محمود ومحمد عبد الهادي شعيرة ومصطفى زيور وعزيز عبد السلام فهمي ومحمد حمدي البكري وعبد الحميد مندور ومحمود الخضيري، ويسرني أن أقول إنهم أصبحوا اليوم رجالاً يتشرفون بخدمة الوطن الغالي. ثم شعرت بحسرة لاذعة حين تذكرت أنه كان يمكن الفرار من أولئك الطلبة الشياطين لرؤية من في المعرض، ولعلني كنت أعثر بليلى فأصبح من أقطاب الشعراء، ولكن ما فات فات فاقتل نفسك إن
شئت يا صريع الملاح)
- ثم ماذا يا ظمياء؟
- ثم طوفنا بالمعروضات فلم يرقنا غير معروضات سليم عبده
- مات، يرحمه الله
- يا عيني، لقد كان رجلاً لطيفاً، ومن عنده اشترينا أشياء كثيرة، وقدم إلينا هدايا لا نزال نحتفظ بها إلى اليوم
- ثم ماذا؟
- ثم ركبنا القطار، قطار المعرض، وكان أمامنا شاب يسارقنا النظر بعينين خضراوين، فتكلفت الشجاعة وهممت بزجره، ولكن ليلى ضغطت على يدي فاعتصمت بالصفح الجميل
(للحديث بقية)
زكي مبارك
فلسفة التربية
كما يراها فلاسفة الغرب
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 6 -
تطبيقات الديمقراطية على التربية والثقافة المثلى في جماعة
ديمقراطية
(إن الإنسانية التي تخلصت من الرق تستطيع التخلص من
الحرب)
(سير فردريك بلوك)
(يستطيع التاريخ أن يغير عقل الأمة أو يصلحه تبعاً لطريقة
تدريسه)
(موسار)
عرفت في المقال السابق كيف يؤمن (جون ديوي) وغيره بالديمقراطية كمحور (للحياة المثلى)، وكيف يريد أن يتخذ من التربية وسيلة فعالة لتحقيق تلك (الحياة)؛ وسترى في هذا المقال ما تتطلبه الديمقراطية في المعلمين والمتعلمين والمدارس والمواد وطرق التدريس جميعاً
1 -
في المعلم
وأنت تعرف من هو المعلم. هو الذي قال فيه شوقي إنه كاد أن يكون رسولاً، وإنه ذلك الذي يبني أنفساً وعقولاً!!؛ ولقد حاول (فروبل) أن يبرر عمله (العظيم) فقال:(إنه جزء من الكون، فعمله إذن جزء محدود في الكون، ومركزه يلتئم تماماً ومركز الكون، ولذلك عندما يفرض قوانينه على الطفل لا يفعل أكثر من إخضاعه لقوانين الوجود الخالدة)،
وقال: (تتعارض القوى في الطبيعة لتتلاشى وينشأ منها قوة جديدة. وكذلك الأمر بين المعلم والمتعلم). . . هذا المعلم يجب أن يكون (ديمقراطياً) أولاً وقبل كل شيء، ديمقراطياً في خلقه الخاص، وديمقراطياً في طريقة احتكاكه بالتلاميذ حتى لا يحجر على شخصياتهم. زد على ذلك أن (الدولة) يجب أن تكون (ديمقراطية) معه هي أيضاً! يجب أن تشركه في وضع (المقرر)، ويجب أن تطلعه على الكتب المدرسية، ويجب أن تأخذ رأيه في أنسب طرق التدريس لأنه المنفذ الروحي والمادي للخطط الموضوعة، فما يجوز أن تفرض عليه هذه الخطط فرضاً، ولأنه المتصل بالعقول الناشئة فهو أقدر من غيره على فهم استعدادها، ولأنه المجرب لهذا المنهج أو ذاك فيجب أن يكون لرأيه التقدير الواجب؛ أما أن تبعث إليه البرامج ويساق سوقاً إلى تدريسها، وأن يحمل النشء على الرجوع إلى كتب يراها هو غير متمشية وما انتهى إليه من رأي، وأن يقترح ويكتب، ويصرخ ويستغيث دون ما جدوى، كأنما هو في واد والدولة في واد آخر - فذلك كما ترى هدم لركن من أركان التربية جدير وخطير، وإغفال لتجارب ناطقة لا سبيل إلى التقدم السريع إلا بالاستفادة منها
2 -
في المتعلم
وأما هذا فما يجوز أن يكون شخصية سلبية تستمع إلى الدرس دون ما فكر، وتحفظه وتعيه على أساس (الطريقة الصماء) وتذهب إلى المدرسة كارهة وتخرج منها مسرورة، فإذا كانت الحياة المستقلة طار المعلم وانمحى، وحل الكسل والفراغ الآثم والاستمتاع الحقير، هذا إلى الفشل في معالجة أهون مسائل الحياة، والى الكبرياء والترفع عن (السوقة) والأعمال الحرة! أجل!. . . ما يجوز شيء من هذا. . .! وإنما يجب أن نسير معه على أساس البحوث النفسية الصحيحة التي تقول مثلاً إن (العقل) إذا مر في الحياة بمشكل راح يحدده ويفكر في وسائل حله، فيفترض الفروض ويحققها ويمتحنها؛ أو أن الشيء لا يثير الاهتمام ولا يعلق بالذاكرة إلا إذا كان شائقاً ومتصلاً بالحياة اتصالاً وثيقاً. . . إلى آخر هذه النظريات التي نعرفها ولا نعرف السبيل إلى تحقيقها. . .! وإذن فلتكن موضوعات الدراسة على هيئة مشاكل يقف الطفل حيالها (موجباً) أي محدداً ومفترضاً ومحققاً ومجرباً، ولتكن بقدر الإمكان متصلة بالحياة حوله حتى يستسيغها في مراحله الأولى، ويقبل عليها بلذة وشغف، وبذلك وبغيره ننتهي إلى جعل (التعليم) عملية لذيذة لا أهوال بها ولا مكاره،
وجعل (المعرفة) متعة سامية بريئة يقبل (المتخرجون) على التزود منها أثناء فراغهم بدلاً من الجلوس في المقاهي وغير المقاهي مما تعرف وما لا تعرف يا قارئي العزيز!، هذا إلى خلق الشخصية الديمقراطية التي تتعاون مع غيرها في المسائل العسيرة كما تعاونت بالأمس في موضوعات الدراسة، والتي تستطيع أن تكافح حقاً في الحياة وتحتقر (الديوان) وتمضي إلى الكفاح بجرأة وبأس وإقدام. . .
3 -
في المدرسة
وأما المدرسة فهي كما تعلم البيئة التي تعدنا للحياة الخارجية، ولذلك يجب أن يشملها التغيير، وأن تنقلب انقلاباً خطيراً؛ ومعنى هذا أن تصبح دار عمل وتجريب شائق لذيذ مجهد كله حرية وتعاون واحترام؛ ففيها يزرع التلاميذ الشجرة ويشاهدون نموها ويسجلونه قبل أن يقرؤوا عنه، وفيها أدوات البناء والطهي، والغزل والنسج، وأشغال الخشب والإبرة وما أشبه؛ ويقف المدرس هنا ليضع الطفل أمام التجاريب ويشعره بحاجته الماسة إليها. وبذلك تكون المدرسة كما يقول الأستاذ (يعقوب فام):(صورة مصغرة للمجتمع البشري، فهي إذن ليست وسيلة للجمعية البشرية. والفرق بينها وبين المجتمع هو أولاً أنها صورة مصغرة له، وثانياً أنها يسهل التحكم في عواملها بخلاف المجتمع، وثالثاً أنها غير معقدة؛ فهي ليست إذن مكاناً للتعليم فقط، وإنما هي للأطفال دنيا يعيشون فيها ويصرفون جهودهم ونشاطهم ثم يتعلمون). . . (ومثل هذه المدرسة لا تشوق دون جهد، ولا تجهد دون تشويق، وإنما يتأتى ذلك عن ربط المادة نفسها بحياة المتعلم)
وعلى ذلك لا يكون الطفل فيها دائرة معارف متحركة فحسب وإنما يكون آخذاً بناصية الوسائل والأدوات والمصادر التي تساعده في البحث الذي يجريه بنفسه متعاوناً ومسترشداً. وهكذا يستطيع أن يعيش وينمو على أساس الديمقراطية والعلم. . .
ههنا إذن تعاون بحت، وتنافس في الكيف لا في الكم، وتعليم للحياة بالحياة، وعمل منتج ذو غاية، ودرس لمواد متصلة لا منفصلة انفصالاً لا مبرر له، واحترام للعمل والعاملين، واكتساب للنظرة العلمية التجريبية الصحيحة، علم مقرون بعمل، وغني إلى جانب فقير، وعمل طامح مستبشر يرنو إلى شيء أكثر من ورقة ممهورة بخاتم الوزير!
4 -
في الثقافة
ويتبقى بعد ذلك أن نقرر روح الثقافة المثلى في الجماعة الديمقراطية. وحسبك أن تعلم أن هذه الثقافة لا تفرق بين النظر والعمل تفريقاً كبيراً، وتنظر (للتغير) كقانون عام يتطلب المرونة المطلقة والتجديد السريع، ولا تأخذ بغير الطريقة العلمية التي لا طلاسم فيها ولا خزعبلات؛ ولا تفرق بين مسلم ومسيحي ويهودي خشية أن تلوث تاريخ العالم بالدماء كما قد تلوث طوال الماضي الأثيم. الدين عندها لله والجميع لديها إخوان. ثم هي لا تستعبد الفكر قط، ولا تغرس فيه الأفكار الاجتماعية أو السياسية الخاطئة بالإيحاء الآثم. العقل عندها مقدس فما يجوز أن تشوهه، ومثلها الأعلى في قيمة الدراسات هو ما تقدمه من خير يكمل الفرد والجنس، ومذهبها التوازن بين الجسد والقلب والعقل حتى لا يؤدي الأمر إلى وحشية رائعة من جانب أحد أركان هذا الثالوث ضد الركنين الآخرين وغايتها خلق ذلك الرجل المثقف الثابت في تتبع ما يريد، المستعد لتعديل خطته إذا لزم الأمر، المتفتح العقل لكل ما تقدمه العلوم والفنون، النابذ للأحكام التقليدية متى ما اقتنع بخطئها، المرحب بالأفكار الجديدة، ولكن بعد نقدها وتمحيصها، المتقدم للمساعدة كلما استطاع، والمقنع المجتمع بأهليته للثقة والاحترام. ذلك الرجل الذي لا يسيء إنساناً بقصد أو بغير قصد، والذي يترك مالا يعرف لأنه لا يقوى على معرفته، والذي هو أبداً مطمئن البال ومصدر راحة لنفسه ولغيره. ذلك الذي هو حكيم لسعة اطلاعه، والذي لا يحكم إلا بعد تمحيص وروية والذي يحسن مخاطبة الناس جميعاً برقة ولباقة وظرف؛ والذي يعرف معنى ما يقول ويتكلم بصراحة ووضوح وجلاء، ذلك الذي يعبر بفكره الزمان والمكان ويفهم نفوس الغير سريعاً. ذلك الذي يعلم شيئاً عن كل شيء، وكل شيء عن شيء ما، فلا تكون (الإنسانيات) وغيرها عنده مجهولة كل الجهل؛ ذلك الذي ليس باللاذع في نكاته، وليس بالمسرف المتبذل في شهواته، لأن الجسد عنده هيكل الروح المقدس؛ ذلك الذي إذا شهد التمثيل المحزن أو المضحك استمع له في صمت وجلال وانفعل في صمت وجلال! ذلك الذي لا يذهب إلى الحرب إلا مقتنعاُ بجدارة السبب والذي يعيش مسروراً دائماً مهما أخطأ، فإذا مات لم يطمع في أن يسجل له ذووه على قبره مفخرة واحدة!!
وهذه الثقافة كما ترى تدعو للعالمية بكافة الطرق، وتستبدل بأبطال الحرب أبطال الإنسانية والعلم، وتدرس التاريخ تدريساً بعيداً عن العصبيات الوطنية كما نصح المسيو موسار في
مؤتمر التربية الخلقية الذي عقد بباريس منذ أعوام، أعني أنها لا تعتبر نابليون بطلاً مغواراً وقائداً عظيماً بقدر ما تصوره مصلحاً لم تبق من آثاره إلا تلك الأعمال السلمية النافعة.
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بالمدارس الثانوية
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 -
1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 21 -
شاعر الملك فؤاد
وهذا فصل آخر مما يتصل بموضوع الحديث عن الرافعي في النقد؛ إذ كان هو أول ما بين الرافعي والأستاذ عبد الله عفيفي؛ فإني لأقدم به للقول عن خبر ما كان يبنهما من الخصومة التي مهدت للرافعي من بعد أن ينشئ كتابه (على السفود) في نقد ديوان الأستاذ العقاد
في سنة 1926 كان ناظر الخاصة الملكية هو المرحوم محمد نجيب باشا، وكانت السياسة المصرية تسير في طريق ذي عوج، مهد لطائفة من رجال الحكم والسياسة أن ينشئوا حزباً ينسبون إليه الولاء للقصر؛ فهيئوا لطائفة غيرهم من السياسيين أن يزعموا أنهم أولياء على حقوق الشعب، حراص على سلطة الأمة، فنشأت بذلك قوة بإزاء قوة، وتناظر سلطان وسلطان، وكان لكل طائفة لسان وبيان. . .
في تلك الآونة، تقدم المرحوم محمد نجيب باشا إلى الرافعي أن يكون شاعر الملك؛ فلقي ذلك العطف الكريم بحقه من الشكر والرضى وعرفان الجميل
وشاعر الملك أو شاعر الأمير لقب قديم في دولة الأدب، وله في تاريخ العربية تاريخ، منذ كان النابغة والنعمان، وزهير وهرم بن سنان، والأخطل وبنو أمية، والنواسي وأبو العتاهية في بني العباس، والبحتري في إمارة المتوكل، والمتنبي في بلاط سيف الدولة؛ إلى شعراء وملوك لا يحصيهم العد. ولا ننس في تاريخ مصر الحديث أن نذكر الشاعرين: أبا النصر، والليثي؛ وليس بعيداًعنا أمير الشعراء المرحوم شوقي بك (شاعر الحضرة الفخيمة الخديوية)، وقد كان من الولاء والحب لمولاه بحيث لم تطمئن السلطة الحاكمة إلى بقائه في مصر بعد خلع الخديو عباس، فنفته إلى الأندلس
ولقد كان شاعر الملك قبل الرافعي هو الشاعر المرحوم عبد الحليم المصري؛ فلما مات
تطلعت إلى موضعه نفوس الشعراء؛ وكان أكثرهم زلفى إلى هذا المنصب هو المرحوم حافظ إبراهيم، إذ كان ما يزال في نفسه شيء يهفو به إليه، مما كان بينه وبين شوقي من المنافسة الأدبية في صدر أيامه على رتبة شاعر الأمير
وعاد الرافعي إلى الشعر بعد هجر طويل؛ إذ كان آخر ما نشر من الشعر هو ديوان النظرات في سنة 1908، ثم لم يقل بعهد إلا قصائد متفرقة في آماد متباعدة، لحادثة تنبعث لها نفسه، أو خبر ينفعل به جنانه. وكان أكثر ما قال الشعر فيما بين ذلك، في سنة 1924، في إبان العاصفة الهوجاء من حب فلانة، وأكثر شعره عنها منشور في كتبه الثلاثة التي أنشأها للحديث عن هذا الحب؛ ثم انبعث البلبل ينشد أهازيجه من جديد، على الشجرة الفينانة في حديقة قصر الملك، فصغت إليه القلوب وأرهفت له الآذان. . .
واستمر يرسل قصائده في مديح الملك لمناسباتها، من سنة 1926 إلى سنة 1930، حتى وقع بينه وبين الأبراشي باشا أمر - بعد موت المرحوم نجيب باشا - فسكت، وعاد ما بينه وبين الشعر إلى قطيعة وهجران، بعد ما أنشأ الخصومة بينه وبين عبد الله عفيفي. . . وعند الأستاذ إسماعيل مظهر تفصيل ما سأرويه من خبر هذه الحادثة بعد
وقصائد الرافعي في مديح الملك فؤاد نظام وحدها في شعر المديح: تقرأ القصيدة من أولها إلى آخر بيت فيها، فتقرأ قصيدة في موضوع عام من موضوعات الشعر، ليس من شعر المديح ولا يمت إليه؛ فلولا بيتان أو أبيات في القصيدة الخمسينية أو السبعينية يخص بهما الملك ويمدحه، لما رأيتها إلا قصيدة من باب آخر، تسلكها فيما تشاء من أبواب الشعر إلا باب المديح. إقرأ قصيدة الخضراء - يعني الراية - وقصيدة الصحراء في رحلة الملك إلى الحدود الغربية، واقرأ غيرهما؛ فإنك واجد فيه هذا الذي ذكرت، وواجد فناً في الشعر تعرف به الرافعي في المديح فوق ما عرفت من فنونه؛ فإذا حققت هذه الملاحظة في مدائح الرافعي وثبتت عندك، فارجع إلى تاريخ هذه الفترة من السياسة المصرية ثم التمس لها تفسيراً من التفسير، أو فارجع إلى تاريخ الرافعي نفسه واذكر ما تعرف من أخلاقه تعرف تفسيرها ومعناها
لقد كان الرافعي يجهل السياسة جهلاً تاماً، ولكن كانت فيه أخلاق السياسي ناضجة تامة: من الاحتيال، والروغان، وحسن الإعداد للتخلص عند الأزمة. بلى كانت له أخلاق
السياسيين في إبداع الحيلة والاستعداد للمخرج، ولكن لم يكن له في يوم من الأيام هوى مع أحد من أقطاب السياسة، أو يعرف له رأياً فيها، أو يدري من خبرها أكثر مما يدري رجل من سواد الناس يقرأ جرائد المتطرفين والمعتدلين على السواء
ولم يكن للرافعي أجر على هذا المنصب في حاشية الملك، إلا الجاه وشرف النسب، وجواز مجاني في الدرجة الأولى على خطوط سكة الحديد، ودلال وازدهاء على الموظفين في محكمة طنطا الكلية الأهلية، حيث كان يعمل جنباً إلى جنب مع مئات من الكتبة والمحضرين وصغار المستخدمين. . . . . .!
ولكنه إلى ذلك قد أفاد من هذا النسب الملكي فوائد كبيرة؛ فقد تعطف الملك الكريم فأمر بطبع كتاب (إعجاز القران) على نفقة جلالته؛ كما أذن بإرسال ولده محمد في بعثة علمية لدراسة الطب في فرنسا؛ فظل يدرس في جامعة ليون إلى سنة 1934 على نفقة الملك، حتى شاء الإبراشي باشا لسبب ما أن يقطع عنه المعونة الملكية ولم يبق بينه وبين الإجازة النهائية غير بضعة أشهر، فقام أبوه بالإنفاق عليه ما بقي. ومن أجل ما كان يرسل إلى ولده كل شهر في فرنسا من نفقات العيش والجامعة كان هو يعمل في (الرسالة) بأجر، وإن عليه من أعماله الخاصة ما ينوء به جسده وتنتهك أعصابه. . .!
قلت إن الرافعي ظل في حاشية الملك فؤاد إلى سنة 1930 ثم كان بينه وبين الأبراشي باشا أمر - بعد موت المرحوم نجيب باشا - فسكت؛ إذ خشي أن تعصف به السياسة أو تعبث به الدسائس فترمي به إلى تهلكته. . .
حدثني الرافعي قال: (كنت في عهد نجيب باشا أذهب إلى القصر فيلقاني بوجه طلق، ويحتفي بي، ويبسط لي وجهه ومجلسه، ويثلج صدري بما يروي لي من عطف المليك ورضاه؛ فما أغادر القصر إلا وأنا اشعر كأن نفسي تزداد عمقاً وتمتد طولاً وتنبسط سعة؛ ثم جاء الأبراشي باشا، فلم تدعني داعية إلى لقائه حتى كان يوم وجدتني فيه منطلقاً إلى هناك، لأسأله في أمر من الأمر. . .
قال: (وذهب الساعي إليه بالبطاقة ودعاني إلى الانتظار، فجلست، وما أظن إلا أنها دقائق ثم أدعى إليه. . . وطال بي الانتظار، ومضت ساعة، وساعة، وساعة، وأنا في هذا الانتظار بين الصبر والرجاء؛ وحولي من ذوي الحاجات وجوه عليها طوابع ليس على
وجهي منها، ونظرت إليهم والى نفسي فضجرت، فعدت أستأذن عليه وقد جال بنفسي أنه قد نسي مكاني، فعاد إليّ حاجبه يقول: الباشا يعتذر إليك اليوم، ويسألك أن تمر به غداً في الساعة كذا. . .
قال الرافعي: (وآذاني ذلك ونال مني، ولكني اعتذرت عنه. فلما كان الغد، جاءني النبأ ينعى إلي زين الشباب المرحوم أمين الرافعي بك؛ فآدني الهم وثقل علي، وضاقت نفسي بما فيها وتوزعتني الوساوس والآلام؛ وما نسيت وأنا أمشي في جنازة الفقيد العظيم أن علي موعداً بعد ساعات، فما هيل عليه التراب حتى كنت في طريقي عدواً إلى القصر وفاء بالوعد الذي اتعدت، وجعلت من وراء ظهري ما علي من واجب المجاملة لمن جاءوا يعزونني في أخي وابن عمي وصاحب الحقوق علي. لقد كان الذي مات زعيماً من زعماء الوطنية له مقداره، ولكني جعلت الوفاء بالوعد فوق ما علي من الواجب للزعيم الذي مات؛ وإنه لأخي، وإن في أعراقه من دمي وفي أعراقي. . .!
قال: (ووقفت بالباب أنتظر أن يؤذن لي فأدخل، وطال بي الانتظار كذلك وإن في دمي جمرات تتلهب. ومضت ثلاث ساعات وأنا في مجلسي ذاك أطالع وجوه الداخلين والخارجين من غرفة الباشا ولا يؤذن لي. . .!
قال الرافعي: (وهاجت كبريائي وثارت حماقتي. . . لا أكذبك يا بني، إن في لحماقة. ولكن. . . إن صرامة عمر بن الخطاب قد انحدرت إلي في أصلاب أجدادي من النسب البعيد؛ ولكن صرامة عمر حين انحدرت إلي صارت حماقة. إن هذه الحماقة عندي يا بني هي تلك البقية من صرامة عمر، بعد ما تخطت إلى هذا الزمن البعيد في تاريخ الأجيال. . .!
قال: (ولما بلغ الحنق بي مبلغه نهضت وفي يدي عصاي، فتقدمت إلى الباب خطوة فدفعته بالعصا وأنا مغيظ محنق، فإذا أنا أمام الإبراشي باشا وجهاً لوجه، والى جانبه رجل أوربي يحدثه. . .، فلم أعبأ، ولم أكترث، ولم أذكر وقتئذ أين موضعي وموضعه، فقلت ما كنت أريد أن أقول، وانتصفت لنفسي، وثأرت لكبريائي. وأحسبني قد خرجت يومئذ عن حدود اللائق في الحديث معه، ولكني لم ألق بالاً إلى شيء من ذلك. وما كان في نفسي إلا أنني قد قلت ما ينبغي أن أقول لأحفظ كرامتي وأصون نفسي، ولا علي بعد ذلك من غضبه
ورضاه. . .
(ولكن. . . ولكنه مع ذلك لم يغضب، ولم يعتب، بل اعتذر إلي وألح في الاعتذار. . . وصدقته حين ابتسم. . .!)
وأسرها الابراشي باشا في نفسه؛ فلما كان الموسم التالي نظم الرافعي قصيدته وأرسل بها إلى القصر، ورصفت حروفها مشكولة في مطبعة دار الكتب - كما جرت العادة - ثم أرسلت بحروفها مجموعة إلى الجريدة المختارة، ومعها قصيدة أخرى مرصوفة مشكولة مزينة، من نظم الأستاذ عبد الله عفيفي المحرر العربي بديوان جلالة الملك. ونشرت القصيدتان جنباً لجنب في جريدة واحدة، وعلى نظام واحد، وكلاهما في مدح الملك، فما يفرق بينهما في الشكل إلا توقيع الشاعرين في ذيل الكلام
وقرأ الرافعي قصيدة منافسه الجديد، فثار وزمجر، وقال لمن حوله:(أترون كيف يصنع بي؟ إنه يريد أن ينال مني. (يريد الأبراشي) أهذا شعر يقرن إلى شعري؟ أيراني وإياه على سواء؟ أيحسب أن الأدباء سيخدعهم هذا الزخرف في الطباعة فيجعلون صاحبه شاعراً من طبقتي أو يجعلونني شاعراً من طبقته؟ أيراني من الهوان بمنزلة الذي يرضى عن هذا العبث؟ أفيريد أن يمهد لصاحبه حتى يخلعني عن مرتبة (شاعر الملك) ليجعله مكاني؟ أم يراه أهلاً ليقاسمني المنزلة والمقدار عند صاحب التاج. . .)
ومضى الرافعي يومه يفكر ويقدر، وما كان إلا في مثل حال الرجل الذي يعود إلى داره التي يملك فإذا له فيها شريك يحتلها بقوة ساعده لا بحقه؛ فما يجد له حيلة في إجلائه عن الدار إلا أن يرفع أمره إلى القاضي. . . وكان القاضي عند الرافعي في هذه القضية هو الرأي الأدبي العام، فرفع أمره إليه. . .
وتحدث بنيته إلى صديقه الأستاذ إسماعيل مظهر صاحب مجلة العصور، فأوسع له صفحات من مجلته ليبدأ الحملة على الأستاذ عبد الله عفيفي في مقالات عنيفة صارخة بعنوان: على السفود!
وما كان الرافعي يجهل أنه يتناول موضوعاً دقيقاً حين يعرض لنقد هذا الشاعر؛ فإنه ليعلم علم اليقين أن هذه المقالات سيكون لها صدى بعيد، تصل به إلى آذان لا يسره أن تعلم من كاتب هذه المقالات، فتنكر وأخفى نفسه. . .
(لها بقية)
محمد سعيد العريان
في سبيل الإصلاح
أخلاقنا. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
نحن اليوم (في أكثر بلدان الشرق الإسلامي) في دور يقظة، ومطلع نهضة، ولكل نهضة جسم وروح؛ أما الجسم فهذه السياسة وما يتصل بها، وهذه الدواوين الحكومية وما يكون فيها، وهذه القوانين والأنظمة وما ينشأ عنها؛ وأما الروح فهو الأخلاق والعقائد والمثل العليا. فروح الحكم الإخلاص والقناعة والعدل بين الناس، وروح الوظيفة الاستقامة ومعرفة الواجب، وروح الديمقراطية الإرادة المشتركة وضمان المصلحة العامة، وروح المدرسة تنشئة جيل المستقبل على المثل العليا، وروح الصحافة نشر الحق والفضيلة والخير. . . فهل امتدت نهضتنا إلى الروح، أم هي قد اقتصرت على الجسم وحده، لم نعن إلا به، شأننا في كل أمر من أمورنا حين نهتم بالقشور ونقف عند الظواهر؟
الجواب عند القراء، لا حاجة إلى إثباته في هذا المقال. ولكن الحاجة ماسة إلى كتاب ومربين وعلماء، يستقرون أخلاقنا التي نحن عليها، ويصنفونها ويقومونها، ويرون ما يجب أن يبقى فيعملون على تثبيته ونشره، وينظرون ما ينبغي أن يبدل أو يعدل، فيسخرون المدرسة والصحافة والقوانين لتبديله وتعديله، لنتشأ أمة المستقبل على الأخلاق الصالحة التي تستطيع أن تبلغ بها ما تريد من مجد وعلاء، وتتبوأ المكان اللائق بها بين الأمم، وتلقي هذه الأخلاق التي ورثناها من الحكم التركي الطويل، وبلغت بنا قعر الهاوية التي نحاول اليوم النجاة منها، ونعود إلى أخلاقنا الإسلامية التي قبسها منا الغربيون فأفلحوا بها ونجحوا. . .
من هذه الأخلاق التي يجب أن نتخلص منها أننا لا نعرف التعاون ولا نقدر أن نعمل مجتمعين. فالفرد منا عامل منتج، ولكن الجماعة عاجزة عقيمة، ومن نظر إلى انتشار الشركات في الغرب على اختلاف أنواعها، والجمعيات على تنوع غاياتها، والأحزاب والنوادي، ورأى ما عندنا من ذلك رأى أنه ليس إلى المفاضلة من سبيل. . . وعلة ذلك الأنانية المفرطة، والأثرة الجامحة، وحب الذات الطاغي، فالرجل منا يريد أن يكون هو كل شيء في الجمعية أو الشركة، رئيسها إن كان لها رئيس، أو ناموسها (سكرتيرها) إن لم
يكن رئيس، وعضو الإدارة إن كان مجلس إدارة، وأن يكون له الرأي إن أخذت الآراء. . . بل إنا نرى كلاً منا يعطل أعمال الآخرين ويبطلها، ويعمل على هدمها، بينما نراه مؤمناً بلزومها، معتقداً بالحاجة إليها، ساعياً إلى القيام بمثلها، فهو يعرف الحاجة إلى ناد أدبي ولكنه يحارب النادي لأنك أنشأته أنت؛ وهو يعلم الحاجة إلى مدرسة دينية ويدعو إليها، ولكنه إذا رآها قد فتحت ونالت قسطاً من النجاح أصلاها حرباً حامية، وجعل أكبر همه هدمها وتخريبها. ذلك أن دعوته الأولى لم تكن عن إخلاص ولم يكن يريد بها وجه الله والمصلحة، ولكنه يريد الفخر والشهرة والنفع واللذة، فلما رآك أنت السابق إليها والذاهب بفخرها، خان المصلحة وعصى الله ليرضي أثرته ويستجيب لأنانيته. . وهو شاعر بالحاجة إلى جمعية خيرية يسعى إلى تأليفها بحماسة وجد ودأب قد ملأت فكرتها نفسه وحياته فهو لا يتحدث إلا بحديثها، ولا يشتغل إلا لتأسيسها، فإذا تم له الفلاح بعد التعب والكفاح وقامت الجمعية ولم يكن هو الرئيس أو هو الناموس انفصل عنها وحاربها حرباً لا هوادة فيها وسعى إلى هدم ما بناه بيده. . .
هذا داء من أشد أدوائنا الخلقية، إن لم نعالجه فشت جرثومته في جسم الأمة، فشلت أعضاءها وعطلت أعمالها:
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه
…
إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم؟
وأين هو الإخلاص، وأين هو الصدق، فيمن يدعو إلى الخير أو الدين أو الفضيلة، وغايته استغلال الدين والخير والفضيلة لمصلحة نفسه وإطاعة هواه؟
ومن هذه الأخلاق أننا لا نعرف قيمة الوقت، وأنا نضيع أوقاتنا سدى، ونذهب أعمارنا عبثاً لا نعرف لها قيمة وهي أثمن ما نملك. وإذا كان فينا من يحسن الاستفادة من وقته، وينفقه في علم أو أدب أو شيء مما ينفع الناس، لم يعدم من الثقلاء من يضيع عليه وقته، ويسرق عمره ولا يتوهم أنه أساء أو أخر. . . وما أظن أن في القراء من لا يذكر حادثة في هذا الباب. . . كنت ذاهباً إلى المدرسة ذات مرة، وكان علي محاضرة لم يبق دون موعدها إلا مسافة الطريق، وكنت مسرعاً لا أكاد أبصر طريقي فاعترضني رجل كبير كان ناظراً للمدرسة الثانوية التي كنت فيها وله في البلد حرمة ومقام، فأقبلت عليه أحييه وأفهمته برفق أن علي محاضرة قد حان موعدها فقال: طيب. . . لحظة. وانطلق يتكلم، فلا والله ما سكت
إلا بعد ساعة ونصف ساعة ألقى هو فيها المحاضرة علي، وأنا أتململ وأتحرك ويربد وجهي وأحس النار تشتعل في عروقي. . . فلما انتهى قال:
- أظن أننا وقفناك. . . عدم المؤاخذة!
قلت: أستغفر الله، ومضيت عنه. . .
هذه علة أخرى من عللنا الأخلاقية. . . لا شك في أنها من أشدها وأدواها لأن حفظ الوقت ألد وسيلة إلى النجاح، وخير طريقة لرفعة الفرد والمجموع. أذكر أن الدكتور نمر تحدث إلى قراء المقتطف في العدد الخاص بعيد المقتطف بين لهم أن أثمن ما استفاده من الأمريكان في كليتهم هو تقدير الوقت، وأن ذلك هو الذي أعانه وزميله الكبير الدكتور صروف على النجاح وأتاح لهما تحقيق هذا المشروع العظيم، والأمريكان خاصة والغربيون على التعميم يعرفون كيف يستفيدون من أوقاتهم، فيقوم أحدهم في اليوم بأعمال لا تقوم بمثلها الجماعة منا في أسبوع. وكذلك كان أجدادنا الذين تركوا هذه الآثار العلمية الضخمة، وكان فيهم من بلغت تصانيفه الثلاثمائة فما فوقها. . كانوا يحسنون الاستفادة من أوقاتهم، ولا يدعون دقيقة واحدة تمر إلا في عمل مفيد، أو راحة مقدرة، أو قضاء حق لله أو للجسم أو للعيال. . والوقت لا يضيق بعمل إذا عرفنا طريق استغلاله والانتفاع به. ولو أحصى الواحد منا ما يذهب من عمره هدراً في المقاهي أو دور اللهو، وفي الأحاديث الفارغة، ومطالعة الصحف الجوفاء، والمجلات المؤذية، وقدر ما يمكن أن يعمل في مثل هذا الوقت من جليل الأعمال ونافعها لهاله الأمر ورأى شيئاً عظيماً
وانظر إلى التلميذ إذا دهمه الامتحان كيف يقرأ الكتاب في ليال ويحفظه كله، والموظف إذا اضطر إلى العمل، أو الصحفي إذا كان موسم من موسم الصحافة، والمؤلف إذا طمع في الجائزة الكبرى؛ انظر إلى هؤلاء كلهم، وانظر إلى هؤلاء الأفراد الممتازين الذين يشتغلون بالسياسة ويبرزون فيها، ويؤلفون في الأدب وينبغون فيه، ويطالعون كثيراً من الكتب، ولا يقصرون في حقوق أنفسهم وأهليهم، وحقوق الناس، تعلم أن الوقت واسع جداً، ولكن الجاهل المهمل يضيقه على نفسه
ومن الأخلاق التي يجب أن نتعلمها تقدير المصلحة العامة. وإهمالنا هذه المصلحة باب آخر من أبواب الأثرة (الأنانية) منشؤه أن أكثر الحكومات التي تتالت على بلدان الشرق
الإسلامي في هذه القرون الأخيرة لم تكن من الشعب ولا إلى الشعب، ولم تكن تحرص على مصلحته، فزالت ثقته بها، ونظر إليها نظره إلى عدو مقاتل، وغدا يرى كل أذىً يلحقه بها، أو مال يستلبها إياه، أو حق لها يضيعه، يرى كل ذلك بطولة وفخراً، وغدا كل واحد منا يسعى جهده ليفر من الخدمة العسكرية أو يحتال بحيلة تنجيه من دفع الضرائب، أو يتوسل بوسيلة إلى اختلاس مال الخزينة. ولعل له في ذلك عذراً، هو أن الخدمة العسكرية كانت لحماية الحكومة دون الشعب، والضرائب لحياتها هي؛ وكان مال الخزينة مالها ينفق على أفرادها. ولا تزال الموازنة عندنا إلى الآن مصروفاً ثلثاها على الموظفين رواتب لهم وأجوراً، والثلث أو ما دونه على المصلحة التي أنشئت من أجلها الحكومة
ونحن في حاجة إلى التخلص من هذا المرض. نحن في حاجة إلى الإيمان بأن مصلحة الفرد في مصلحة المجموع وأن رفعته في رفعة الأمة. . . يجب أن تسأل الأم ابنها كل ليلة؟ ماذا عملت لأجل الأمة؟ بماذا خدمت اليوم الوطن؟ هل أحسنت إلى سائل؟ هل تبرعت بقرش لجمعية خيرية؟ هل تعلمت مسألة نافعة؟ هل كنت مهذباً مع رفاقك؟ ويجب أن يسأل كل منا نفسه هذا السؤال عندما يضع رأسه على الوسادة قبل أن يستسلم إلى النوم
ومن هذا الباب إطاعة القوانين واحترام النظام، ذلك الذي لم نتعلمه بعد ولا نعرفه أبداً لأن زماناً غبر (ولم يتبدل بعد) كانت القوانين والأنظمة توضع فيه لغير مصلحتنا وتفرض علينا فرضاً فتعودنا ألا نطيعها وألا نحترمها، ولكنا دخلنا اليوم في طريق الاستقلال (أو كأن قد) وصرنا نضع قوانيننا (إلى حد ما) بأنفسنا فيجب أن يتبدل ذلك كله وأن يرسخ في نفوسنا احترام القوانين وإطاعتها، لا خوفاً من العقاب بل لأن إطاعتها واجبة
ومن هذا الباب أو ما هو شبيه به احترام الراحة العامة. نمت ليلة في فندق كبير في بيروت، فنزل في الغرفة اللاصقة بغرفتي جماعة من أكابر حلب حلوا بعد نصف الليل فبعثوا أحدهم بحاجة لهم إلى السوق، فلما بلغ الشارع ذكروا حاجة أخرى يأمرونه بقضائها فأطل أحدهم من شرفة الطبقة الخامسة وناداه وكلمه بصوت يوقظ الموتى، فلم يبق حي في الفندق إلا قام. ولما عاتبوه ولاموه لم يستطع أبداً أن يفهم أو يتصور أنه أتى أمراً نكراً
وانحدرت مرة من الأعظمية إلى بغداد في سيارة عامة من هذه السيارات التي يسمونها هناك (الباص) فركب معنا جزار معه خروف مسلوخ وضعه على ركبته وألقى برقبته على
ثيابي، ورأيت الناس ينظرون إليه نظر المقر الموافق فاضطررت إلى النزول من غير أن أشتبك معه بقتال
وكثيراً ما نسمع رجلاً أو جماعة يمرون في الشارع قبيل الصبح فيأخذهم الطرب فيغنون بمثل الصوت الذي ذكره ربنا في الكتاب، ولا يقدرون أو يتصورون أنهم يسيئون إلى أحد
ولا يمضي على الواحد منا يوم لا يرى فيه ما يسوء ويزعج من بصاق في الترام أو المقهى، أو حديث في المكتبة العامة، أو خصومة حامية في المسجد، أو غير ذلك من المزعجات المنغصات التي لا يزيلها إلا عناية المدرسة بتعليم الطلاب احترام الراحة العامة، وحث الصحف الشعب على ذلك. . .
ومن الأخلاق التي يجب أن نسرع إلى تعلمها احترام الواجب والاستقامة والإصغاء إلى صوت الضمير. إن المعلم لا يتورع إذا أمره رئيس أو رجاه صديق أو نالته منفعة، أن ينجح التلميذ الذي يستحق السقوط في الامتحان، وأن يزيد في الدرجات وأن يفعل كل شيء؛ والقاضي لا يمتنع عن تبرئة الظالم وعقاب المظلوم؛ والوزير لا يتقاعس عن إيثار الشفاعات والوساطات على الكفايات والشهادات؛ والطبيب لا يبالي بأن يجهض أو يأتي كل أمر يستطيعه مادام في ذلك لذة له أو فائدة؛ والموظفون يقبلون الرشوة والناس يعطونها؛ ولا تكاد تجد من عرف الواجب عليه وأكبره إكباراً، وضحى في سبيل القيام به بكل شيء. ولا أعني أن كل المعلمين أو القضاة أو الوزراء أو الأطباء متنكبون سبيل الشرف مضيعون للواجب، ولكن الذي أعنيه أن بهم من هذا شأنه، وأن احترام الواجب لم يذع فينا ولم يصبح شعاراً دائماً لنا، وأن المدرسة والصحافة والقانون وواضعه، كل أولئك مقصرون لا يولون هذا الأمر ما يستحق من العناية والاهتمام في حين أنه من الأسس الثابتة والدعائم الكبرى في بناء الأمم
ونحن في حاجة إلى تعلم الصدق، لأن الكذب قد فشا فينا وعم وأصبح أسهل شيء علينا، فنحنن نكذب في الأمور الهينة ونكذب في الجليلة، ونعلم أولادنا الكذب. من منا لا يقرع بابه فيقول لابنه: قل له إن أبي ليس هنا! ومن منا يلقى رفيقاً له أو رجلاً عرفه فيقول له: كيف حالك أو زيك؟ فلا يقول له: بغاية الشوق، وهو لا يشتاقه ولا يفكر فيه، وقد يكون مبغضاً له يرى البعد عنه غنيمة. . . فمجاملاتنا وحياتنا الاجتماعية كلها قائمة على الكذب.
ومن جرب أن يصدق يوماً كاملاً رأى العجائب، وقد أدرك ذلك العامة فجاء في أمثالهم (الصادقة): الكذب ملح الرجال، والعيب على الذي يصدق. . .
هذا وشبهه (وما أكثر أشباهه) روح النهضة وقوامها، فإذا لم تعتن به الحكومات والأحزاب والجمعيات والمدارس، ومن يشتغل بالوطنية، ويبث في نفوس الأطفال، ويوضع في نظم التربية والتعليم، كانت نهضتنا جسماً لا روح فيه!
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
…
فإن هُم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
علي الطنطاوي
المدرس في الكلية الشرعية بيروت
الكميت بن زيد
شاعر العصر المرواني
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 5 -
وقد روى لنا أبو الفرج الأصبهاني هذه الروايات الثلاث في سبب المنافرة بين الكميت وخالد بن عبد الله، وكان عليه أن يبين لها وجه الصواب فيما تتعارض فيه من وجوه كثيرة، ولكن أبا الفرج رحمه الله لم يكن يعنى في الأكثر بنقد رواياته، وإنما كان يهمه جمعها وسردها، وعلى القارئ بعد هذا أن يحكم رأيه فيها
فالرواية الأولى تذكر أن سبب المنافرة بينهما قصيدته التي هجا فيها اليمن:
(ألا حُيِّيتِ عنَّا يا مَدِينا)
وقد اتفقت الرواية الثانية في هذا معها على خلاف قليل بينهما؛ أما الرواية الثالثة فتذكر أن سبب المنافرة بينهما شعر الكميت الذي حرض فيه هشاماً على خالد، واتهمه فيه بأنه يريد خلعه. وتفيد هذه الرواية أن قصيدة كميت التي هجا فيها اليمن كانت بعد سجنه لا قبله، وأنه قالها رداُ على الأعور الكلبي في قصيدته التي رمى فيها امرأة الكميت بأهل الحبس، ويقول فيها:
(أسْوِدِينَا واحمْرينَا)
والرواية الأولى تذكر أن خالداً روى الهاشميات جارية واحدة والرواية الثانية تذكر أنه رواها ثلاثين جارية
والرواية الأولى تذكر أن أبان بن الوليد البجلي عامل واسط هو الذي سعى في تهريب الكميت من السجن. وقد اتفقت الرواية الثانية في هذا معها على خلاف قليل بينهما، أما الرواية الثالثة فتذكر أن الذي سعى في تهريبه عبد الرحمن بن عنبسة ابن سعيد
والرواية الأولى تفيد أن خالد بن عبد الله كان بالكوفة حينما أمر بسجن الكميت. وهكذا تفيد الرواية الثانية، وإن كانت تفيد مع هذا أن خالداً قرأ على أبان بن الوليد كتاب هشام بقتل الكميت، مع أن أبان بن الوليد كان في ذلك الوقت بواسط. أما الرواية الثالثة فتذكر أن
خالداً كان بواسط حينما أمر بسجن الكميت، وأنه كتب بسجنه إلى واليه بالكوفة
والرواية الأولى تذكر أن الكميت حينما أتى إلى الشام مشت رجالات قريش في أمره إلى عنبسة بن سعيد بن العاص، فمشى فيه إلى مسلمة بن هشام فأمنه وأجاز أبوه هشام أمانه؛ أما الرواية الثانية فتذكر أنه حينما أتى الشام قصد مسلمة بن عبد الملك، وتذكر أن مسلمة لا عنبسة هو الذي مشى فيه إلى مسلمة بن هشام، وأن مسلمة بن هشام أجاره فلم يجز أبوه جواره، فاحتال له بقبر أخيه معاوية وأولاده، وقد اتفقت الرواية الثالثة معها في هذا على خلاف قليل بينهما
والرواية الأولى تذكر أن الكميت حينما عرض عليه الالتجاء إلى مسلمة بن هشام رضي به، وقد اتفقت الرواية الثانية في ذلك معها على خلاف قليل بينهما، أما الرواية الثالثة فتذكر أنه لم يرض بالالتجاء إليه، وأنه قال لمسلمة بن عبد الملك حينما عرض ذلك عليه: بئس الرأي! أضيع دمي بين صبي وامرأة، فهل غير هذا؟
وهذه هي أهم وجوه الخلاف بين هذه الروايات المضطربة، وقد يكفي هذا عند بعض الناس لدفعها كلها، وعدم الوثوق بشيء منها، ولكن ما قيمة البحث في هذا العصر إذا كانت تقنعه هذه الغاية السهلة، ويكفيه في مثل هذا أن يقول إني أشك في هذه الرواية، أو نحو هذا مما لا يكلف الباحث عناء ولا تعباً؟ وإنما قيمة البحث الحديث في تمحيصه أمثال هذه الروايات، والاجتهاد في ترجيح بعضها على بعض، والوصول إلى الحقيقة بالتعمق في البحث
ونحن نرجع أن الهاشميات نفسها هي التي كانت سبباً في المنافرة بين الكميت وخالد بن عبد الله، لأنه لا يعقل أن يسكت خالد عن تبليغ أمرها إلى هشام بن عبد الملك، وهي من الخطورة بهذا الشأن الذي أقام هشاماً وأقعده حينما بلغته. وقد كانت هذه العهود مملوءة بالوشايات والدسائس، وكان ولاة بني مروان معرضين بهذا للنكبات الشديدة التي كانت تصيبهم منهم، ولا يخفى أمرها على من يعرف تاريخهم. ولا شك أن هذا كان يوجب على هؤلاء الولاة أن يحتاطوا لأنفسهم في مثل هذه الأمور، وألا يسكتوا عن تبليغ مثل الهاشميات إلى ملوكهم إلى أن تبلغ من غيرهم، ويتخذ بها أعداؤهم حجة عليهم عند ملوكهم
وقد يكون حديث الجاريات الحسان اللاتي رواهن خالد الهاشميات صحيحاً، ويكون هذا منه
تلطفاً في الحيلة إلى تبليغها إلى هشام بن عبد الملك، أو تخلصاً من تبعة تبليغها عند قوم الكميت وأشياعه، لأن حال الولاة في مثل هذه العهود المضطربة يكون مضطرباً بين إرضاء ملوكهم وإرضاء الرعية الناقمة عليهم. والظاهر كما يؤخذ من بعض هذه الروايات أن خالداً هو الذي سهل للكميت سبيل الهرب من سجنه، وأنه كان يسلك بذلك كله موقفاً يخرجه من هذه المشكلة. وقد أرضى هشام بن عبد الملك وجعل لنفسه بعض العذر عند أنصار الكميت، إذ كان يؤثر في سياسته ملاينة الشيعة
أما المعارضة بين الكميت والأعور الكلبي فالظاهر أنها كانت بعد سجن الكميت ورضا هشام عنه، كما يؤخذ من الرواية الثالثة لأنه كان يمدح في قصيدته التي يعارضه فيها بني مروان ويفخر بهم عليه، وقد كان قبل سجنه يطعن فيهم أشد طعن، ويهجونهم في هاشمياته شد هجاء، فلا يعقل أن يجمع في هذا العهد بين هجائهم ومدحهم والافتخار بهم، وهو لم يلجأ إلى مدحهم إلا مضطراً بعد ما لقي من السجن والحكم عليه بالقتل
ومما يؤيد هذا ما رواه أبو الفرج الأصبهاني قال: أخبرني عمي وابن عمار، قالا حدثنا يعقوب بن إسرائيل، قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله الطلحي عن محمد بن سلمة بن أرتبيل: أن سبب هجاء الكميت أهل اليمن أن شاعراً من أهل الشام يقال له حكيم بن عياش الكلبي كان يهجو علي بن أبي طالب عليه السلام وبني هاشم جميعاً، وكان منقطعاً إلى بني أمية، فانتدب له الكميت فهجاه وسبه فأجابه ولج الهجاء بينهما، وكان الكميت يخاف أن يفتضح في شعره عن علي عليه السلام لما وقع بينه وبين هشام، وكان يظهر أن هجاءه إياه في العصبية التي بين عدنان وقحطان، فكان ولد إسماعيل بن الصباح بن الأشعث بن قيس وولد علقمة بن وائل الحضرمي يروون شعر الكلبي، فهجا أهل اليمن جميعاً إلا هذين، فإنه قال في آل علقمة:
ولولا آلُ علقمةَ اجتدعْنَا
…
بقايا من أنوفِ مُصَلَّعينَا
وقال في إسماعيل:
فإن لإسماعيل حقاً وإنَّنا
…
له شاعبو الصدعِ المقاربِ للشَّعْب
وكان لآل علقمة عنده يد، لأن علقمة آواه ليلة خرج إلى الشام، وأم إسماعيل من بني أسد، فكف عنهما لذلك
فهذه الرواية صريحة في أن هذه المناقضة كانت بعد الذي وقع بين الكميت وهشام من عفوه عنه، فلا يصح أن تكون هي السبب في المنافرة بين الكميت وخالد بن عبد الله، وما جرته هذه المنافرة من السجن ثم العفو، بل الظاهر أن بني مروان بعد أن وصلوا إلى إسكات الكميت، عن المضي في هاشمياته أخذوا يعملون على إبطال أثرها في النفوس، فسلطوا الأعور الكلبي على مناقضتها، وهجاء علي عليه السلام وبني هاشم جميعاً
وأما ما ذكر في الرواية الثالثة من أن سبب المنافرة بين الكميت وخالد شعر الكميت في تحريض هشام على خالد، واتهامه إياه بأنه يريد خلعه - فهو أقرب إلى الصحة مما ذكر في الرواية الأولى والثانية، ولعل الكميت فعل هذا سعياً في إفساد الأمر بين بني مروان وولاتهم، لا حباً في هشام وإرادة النصح له. وما نريد بعد هذا أن نمضي في تمحيص ما تعارضت فيه تلك الروايات، لأن ثمرة هذا التمحيص لا توازي عناءنا فيه، ولا تذكر بجانب الملل الذي يصير بنا إليه
وقد أخذ الكميت بعد عفو هشام عنه يمدحه ويمدح ولاته ووجوه دولته، ويقبل في ذلك صلاتهم وجوائزهم، ولكن مدحه لهم في نظير ذلك كان مدحاً تجارياً كسائر ما مدحوا به من شعراء عصره، ولم يكن لغاية نبيلة كتلك الغاية التي مدح بها بني هاشم في هاشمياته
والحقيقة أنه لم يكن مخلصاً في مدح بني مروان مع ما كان يناله من دنياهم، وإنما كان يأخذ في ذلك بالتقية التي يأخذ بها الشيعة في مذهبهم جميعاً، ولم يكن ذهابه إلى هشام بالشام إلا برضا أهل البيت وشيعتهم ليحقنوا بذلك دمه، ويخلصوه مما كان يراد به
وإذا كان الكميت قد أجاد في مدح بني مروان فإنما كان ذلك منه لأنه كان شاعراً فحلاً لا يرضى أن يكون شعره في ذلك دون غيره، فكان بذلك يقضي حق شعره عليه، ولا يقضي حق بني مروان في عطائهم وبذلهم له، لأنه لم يكن من أولئك الشعراء الذين يمدحون للعطاء، كما سبق ذلك في رفضه عطاء بني هاشم على مدحه لهم. وقد قال أبو الفرج الأصبهاني: أخبرني محمد بن خلف بن وكيع، قال حدثني أبو بكر الأموي، قال حدثني إسماعيل بن حفص، قال حدثنا ابن فضيل، قال سمعت ابن شبرمة قال: قلت للكميت إنك قلت في بني هاشم فأحسنت، وقلت في بني أمية أفضل، قال: إني إذا قلت أحببت أن أحسن فلم يكن الكميت إذن يمدح بني مروان عن عقيدة كما كان يمدح بني هاشم، ولم يكن إحسانه
في مدحهم إلا لأنه إذا قال أحب أن يحسن قوله لئلا يؤخذ عليه من الناحية الشعرية؛ ولكنا نخالف ابن شبرمة فيما ذكره من أن ما قاله في مدح بني مروان أفضل مما قاله في مدح بني هاشم، لأن أشعاره في مدح المروانيين لا تمتاز عن سائر المدائح الجوفاء في الشعر العربي، ولا يصح أن تذكر بجانب الهاشميات التي سلك فيها الكميت ذلك المسلك الجديد في المدح، وقام بما يجب عليه لأمته من مقاومة ذلك الحكم الظالم
وهناك بعد هذا أخبار متوافرة تدل على ما ذكرناه من رضا بني هاشم بما سلكه الكميت مع بني مروان، وعلى أن هذا لم يقطع صلته بهم في السر والعلن، وقد كانوا مع رضاهم بمسلكه معهم يحاسبونه إذا أسرف في مدحهم، فلا يتركهم حتى يرضيهم بصرف هذا المدح عن ظاهره، فكان يؤوله على نحو ما يفعل بعض الباطنية من الشيعة في تأويلاتهم
قال أبو الفرج الأصبهاني: أخبرني جعفر بن محمد بن مروان الغزالي الكوفي، قال حدثني أبي، قال حدثنا أرطاة بن حبيب عن فضيل الرسان عن ورد بن زيد أخي الكميت، قال: أرسلني الكميت إلى أبي جعفر فقلت له: إن الكميت قد أرسلني إليك وقد صنع بنفسه ما صنع، فتأذن له في مدح بني أمية؟ قال: نعم، هو في حل، فليقل ما يشاء
وقال أيضاً: أخبرني محمد بن خلف بن وكيع، قال حدثني إسحاق بن محمد بن أبان، قال حدثني محمد بن عبد الله بن مهران، قال حدثني ربعي بن عبد الله بن الجارود بن أبي سيرة عن أبيه قال: دخل الكميت بن زيد الأسدي على أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام فقال له: يا كميت أنت القائل:
والآن صرتُ إلى أمَيَّ
…
ةَ والأمور إلى المصايرْ
قال: نعم قد قلت، ولا والله ما أردت به إلا الدنيا، ولقد عرفت فضلكم، قال: أما إن قلت ذلك إن التقية لتحل
وقال أيضاً: قال محمد بن أنس حدثني المستهل بن الكميت، قال: قلت لأبي: يا أبت إنك هجوت الكلبي فقلت:
ألا يا سلم مِنْ تِرْبِ
…
أفي أسماَء من تِرْبِ
وغمزت عليه فيها ففخرت ببني أمية وأنت تشهد عليها بالكفر، فألا فخرت بعلي وبني هاشم الذين تتولاهم، فقال: يا بني أنت تعلم انقطاع الكلبي إلى بني أمية وهم أعداء علي
عليه السلام، فلو ذكرت علياً لترك ذكري وأقبل على هجائه، فأكون قد عرضت علياً له، ولا أجد له ناصراً من بني أمية، ففخرت عليه ببني أمية وقلت: إن نقضها علي قتلوه، وإن أمسك عن ذكرهم قتلته غماً وغلبة، فكان كما قال، أمسك الكلبي عن جوابه، فغلب عليه وأفحم الكلبي
وإذا كان ذلك كله قد تم برضا بني هاشم وتدبيرهم لشاعرهم فلا يمكن أن يؤخذ عليه شيء فيه، أو يقدح به في عقيدته وإخلاصه، بل إن في ضن بني هاشم عليه بالقتل، وإيثارهم له مواراة بني مروان على بذل دمه في سبيلهم - لدلالة كبيرة على عظم تقديرهم له، وأنهم كانوا يثقون به إلى آخر حدود الثقة
عبد المتعال الصعيدي
مقدمة حضارة العرب
لغوستاف لوبون
(تتمة)
للأستاذ خليل هنداوي
والآن عرضنا من مناهج البحث ما نخاله كافياً فيما يتعلق بدرس الحوادث التاريخية، بل سيكفي منه ذكر الأكثر ضرورة
إن تصور العلة التي تهيمن اليوم على درس الأشياء العلمية تهيمن كذلك على درس المسائل التاريخية، والمناهج التي تتعلق بهذا تتعلق أيضاً بذلك. فإن حادثاً اجتماعياً إنما يجب درسه كحادث طبيعي أو كيميائي مهما ذهب أمره، فهو خاضع لبعض مذاهب، أو قل إنه خاضع لسلسلة مرتبة من الضرورات المحتمة. فالإنسان يعمل والقوة السامية تقوده سواء دعوت هذه القوة الطبيعية أو العناية أو القدر أو الحظ. ونحن منذ الولادة حتى الموت تفيض علينا قوات من الخير والشر لا نستطيع لها قهراً ولا غلبة. وغايتنا الكبرى هي الوصول إلى معرفة بعض أحوال وأسباب من مظاهرها
وتاريخ الإنسانية نستطيع أن نعتبره سلسلة واسعة كل أجزائها متماسكة. قد تعود أجزاؤها الأولى إلى أبعد جذور في أرضنا. والحادث التاريخي مهما ذهب أمره هو دائماً نتيجة حلقة طويلة الأحداث الداخلية. فما الحاضر إلا لدة الماضي. والماضي يحمل الغد في أطوائه كجنين، وفي الحوادث الحاضرة يستطيع العقل الموهوب أن يتلو التعاقب اللانهائي للأشياء. ولكن مثل هذا العقل يبدو أنه لن يظهر أبداً. فبينا نعمل على معرفة مجموعة العاملين الذين ولدوا الحاضر ومعرفة قوة كل واحد منهم نرى من المحال إخضاع هؤلاء العاملين للتحليل. فعلم النجوم يعجز عن أن يعين بواسطة الحساب الهدف الذي يرمي إليه جسم يخضع لثلاثة أجسام فقط، فكيف والحالة هذه في مسألة تضم ملايين الأجسام؟
إن كل الشرائع الوهمية التي يخال أنها تؤخذ من دراسة التاريخ ما هي في الحقيقة إلا تثبيت امتحاني لبعض الأعمال. وبها يمكننا أن نقارنها مع الملحوظات الامتحانية التي يقوم بها أصحاب علم تقويم البلدان
هنالك مليون من الناس يستطيعون أن يتنبئوا بكل يقين عمن يموت منهم في عهد ما وفي عهد آخر، وعما ينشأ فيهم من جنايات لأن تجاريب الماضي تسهل لهم هذه التنبؤات. إن الصعود إلى أسباب الأعمال الملحوظة مستحيل أبداً، والعاملون الجازمون هم عدد كثير، واستمالة الصعود بعيداً في سلسلة الأسباب التي تعين أو تحدد حاثاً اجتماعياً قد ألقت شيئاً من الكره لعلم التاريخ في نفوس العلماء الذين حاولوا التعمق فيه. وهنالك عالم نبيه هو (رينان) نعت علم التاريخ بأنه علم حقير وهمي، لا يكاد يرفع حتى يتقوض بدون نهاية، ولا يشيد حتى يتهدم؛ وهو أحد الأشياء المهملة بعد مائة عام. على أنه سيأتي دور في حياة الإنسان نراه لا يتعلق بماضيه لمصلحة ما. وإني لأخشى جداً أن كتابة كتابنا في المجتمع الأدبي والفني الذين صححوا ووضحوا بعض الآثار التاريخية أن يبلوا قبل أن يتلوا)
والكاتب نفسه يفكر في أن المستقبل سيكون للعلوم الطبيعية لأنها هي العلوم التي ستعطينا سر الوجود والعالم والإله كما ينبغي أن يعطى هذا السر. لكل إنسان حق التأمل في هذا، ولكن شيئاً واحداً حتى الآن لم يحقق أملاً من آمالهم، ولا فكرة من أفكارهم. وهاهي ذي العلوم الوضعية لم تعطنا شيئاً عن العلة الأولى لحادث واحد، وهي لا تكتشف إلا بساطة العلاقات التي تؤلف قواها الظاهرة، حتى إذا اصطدمت بحوادث مركبة رأيتها تتلاشى وتضل في الظنون والأحداس. إن العلوم الحديثة قد بدأت بصورة ضعيفة أن تتمتم (من التمتمة) في الجواب عن أسئلة يضعها الإنسان كل يوم. فمن المهد إلى اللحد تغرس الطبيعة طريقنا بمسائل لا تقبل الحل. ورغبتنا في المعرفة، هذه الرغبة المتأججة لا ينطفئ أوارها أبداً. العلم يستدعي أفكاراً ولكنه لا يحل مسائل. وكرتنا الأرضية ستعانق في الفضاء العوالم القديمة الباردة قبل أن يجيب أبو الهول الخالد على سؤال واحد
يجب علينا ألا نقف على باب العلوم مغررين بأنفسنا، طالبين إليها أن تعطينا مالا تقدر عليه. إنها تقدر أن تعطينا ما نتبين به حالة إنسان أو حيوان أو مجتمع أو نبات، وما نضم به صورة أمينة لدراسة عصر ما. وما نعين به سلسلة من أمهات الحوادث التاريخية. وحذار أن نطلب أكثر من هذا إلى المؤرخ
على أن العمل مع هذا هو من العسر بمكان لما يقتضيه من الاعتناء. فالمواد التي تسمح لمؤرخ أن يضم منها صورة لحضارة ما يعسر عليه جمع أطرافها. والأعسر من ذلك أن
يخرج بها إلى حيز العمل. إذ ليس في تسلسل ذراري الملوك، ولا في قصص المعارك والحروب التي تشكل لب التاريخ المدرسي نستطيع أن نبحث عن تلك المواد. وإنما نجدها في درس اللغات والفنون والآداب والمعتقدات والتعاليم السياسية والاجتماعية لكل عصر من العصور. وأما المواد الغريبة لحضارة ما فلا يمكننا أن نعتبرها نتيجة هوى الناس أو القدر أو إرادة الآلهة، ولكنها وليدة الحاجة والفكر والعاطفة في الذراري التي تجلت فيها، فإن ديناً ما وفلسفة ما وأدباً ما وفناً ما قد يحتوي على أشكال ثابتة من الشعور والتفكير ولا يحتوي على غيرها. ومما لا جدال فيه أن الأعمال والآثار تتلو علينا أفكار أصحابها. إنها تقرأ علينا أفكارهم وتسمح لنا بأن نؤلف صورة ذلك العصر. ولكن هذه الصورة تبقى ناقصة فيجب علينا أن نوضح تركيبها، لأن الشعب الذي يدرس في لحظة معينة لم يتكون في وثبة واحدة. وإنما هو وليد ماض طويل بعيد، ووليد مؤثرات مختلفة للبيئة التي نشأ فيها وخضع لها، ولذلك وجب علينا أن نرجع إلى ماضي ذلك الشعب حتى يمكننا تحليل وضعه الحاضر. وبالإمكان أن ندعو دراسة هذا التكوين القائم من مواد مختلفة متنوعة يتألف منها المجتمع بعلم الجنين. وهذه الدراسة تغدو قاعدة راسخة للمؤرخ في عمله، كما هو الحال في أن علم تشكل الكائنات الحية أصبح اليوم أمتن قاعدة وأصدق مرجع لعلماء طبقات الأرض
كائنات حية ومجتمعات يجب أن تمر بتطور بطيء يبدل مظاهرها الخارجية قبل أن تصل إلى حالات الكمال، وهذه المظاهر المختفية لا يوحيها علينا التاريخ دائماً. فكم من حدود لهذه المظاهر قد توارت حالياً! وإنما الملاحظة وحدها تسمح لنا بأن نستدعي الحدود الضرورية؛ وكالكائنات الحية نرى أن كل المجتمعات لم تبلغ بذات الأجيال انقلابها، وأنت ترى أن كثيراً منها لم يجتز بعد هذه المراحل التي انتهى العرب من اجتيازها، هذه المراحل التي تمثل صورة الماضي الثابتة. وقد يستطيع السائح في أرجاء الأرض أن يرى المجاري الرئيسية أو المراحل الأساسية لتاريخ الإنسانية منذ العهد الحجري حتى العهد الحاضر وبهذا يمكننا أن نتوصل إلى تمثيل ماضي شعب ما، وتمثيل تطور المواد التي تألفت منها حضارتها
هنالك مواد مختلفة: منها العمارة والأدب واللغة والتعليم والاعتقاد نستطيع أن نستفيد منها
في بناء تاريخ الحضارة وتكوينها، ولكن من النادر أن نملك عليها جميعها. وفي مثل هذه الحالة نجتزئ بما نقدر أن نجمعه منها لنجد المفقود! وذات النظرية التي تسمح لنا بأن نعرف حيواناً ما بمجرد اطلاعنا على قطع من هيكله العظمي هي النظرية التي يجب أن نفرضها في التاريخ، إذ أن مظهر بعض الصفات يستلزم دائماً وجود صفات أخرى
على أن كل هذه المواد التي نحددها قد تكون ناقصة في بعض الحالات بالنظر إلى الوضوح، فالعلم الحديث سيترك مواد أكثر صحة ودقة للجيل القادم. وقد يسهل التنبؤ بأن مؤرخي المستقبل سيكتبون كتباً في التاريخ تختلف عن كتبنا فيه، ففي تاريخ حضارة القرن العشرين سيكون الموضوع خاضعاً بدون ريب لعنوان الأثر مرفقاً برسوم وخرائط وخطوط نافرة تمثل كل أطوار الحوادث الاجتماعية، وأن عظمة ما، وقوة ما، وبقاء ما ووزناً ما نستطيع أن نستشفه خلال خط مرسوم أو سطر مرقوم
وليس هنالك حادث نفسي أو اجتماعي مهما كان مركباً يفترض بأنه لا يمكن اعتباره كقيمة رياضية يمكن حلها عددياً، وإنما يكفي أن نجد له في مواده الضرورية مقياساً، فإن علم تقويم البلدان هو أقل العلوم الحديثة تقدماً في طريق التكوين. والذي علمنا إياه هذا العلم يسمح لنا بأن نستكشف ما سوف يعلمنا إياه في المستقبل. فإنتاج بلد وإنفاقه وغناه وحوائجه والقابلية الخَلقية والخُلقية للذرية التي تقطنه، واختلاف عواطفها ومعتقداتها وتأثير القائمين عليها، كلها أشياء قد جلاها لنا المقومون بأعداد يجمعونها اليوم
ونحن نرقب هذا الجيل القادم الذي تتبدل فيه المشاحنات التاريخية بصور وخرائط ومعارج هندسية تمثل حالة كل الحوادث الاجتماعية وأطوارها المتبدلة، وإنما يجب الجهد الكثير في انتقاء الصور الأكثر وضوحاً من الصور التي تركها لنا الماضي، ومن هذه المواد التي أحصيناها نمسك المواد الضرورية التي تقدم لنا صورة واضحة شاملة للحضارات الغابرة وتاريخ تكونها، ولكي نستطيع أن نخرج هذه المواد إلى حيز العمل وجب علينا أن ندرس هذه البقيات التي تركتها هذه الحضارات في مواطنها
فإن مشهد الأشياء وحده يمكن أن يعطينا من ماضي ذلك الغيب ما لا يمكن أثراً غيره أن يعطيه. والعلوم الطبيعية والاجتماعية لا يمكن أن يتعلمها الإنسان مجردة في الكتب، ولاسيما إذا كانت المسألة الشعبية كمسألة العرب الذين تعددت آثارهم في البلدان التي
ازدهرت فيها حضارتهم وشعت مدنيتهم. فعند ذلك يجب أن تدرس بيئتهم درساً لازماً لا مندوحة عنه. وليس هناك إلا الرحلات والأسفار تنقذنا من نير الآراء المصنوعة والأوهام الثقيلة الموروثة. وسيجد القارئ الأصول التي طبقناها هنا بصورة موجزة. وهذه الأصول ستقود القارئ إلى أن يتجرد من الآراء المدرسية في أكثر المسائل التي تمس الشرقيين من ديانة محمد صلى الله عليه وسلم والرق والحروب الصليبية والعلوم والمعارف والفنون وأثر العرب في أوربا وغير ذلك. . .
- 3 -
على أن البقايا التي تخلفت من حضارة العرب هي بقايا كثيرة العدد، كافية لأن ندرسها بأجزائها الضرورية. إننا سنأخذ أكثرها من الآثار الفنية والأدبية والعلمية والصناعية والاعتقادية؛ ومن بين هذه الآثار كلها ستكون اكثر استيحاء من الآثار التصويرية، فهي بشكلها الملموس تكلم عقولنا بوضوح. فيها نجد التعبير الصادق عن الحاجات والعواطف والأجيال التي ولدت فيها، وفيها نحس أثر الذرية والبيئة إحساساً جلياً. ففي آثار عصر ما مهما كان نوع منتجاته يستطاع استقراء ذلك العصر استقراء تاماً. فقافلة في العصر الحجري، وهيكل مصري، ومسجد أو كنيسة، وملجأ قطر، ومخدع غانية، وحسام ذو قبضتين، ومدفع ثقيل الوزن، في كل هذا ما هو أفصح بياناً من المناقشات. ولوصف الآثار الفنية للشعب يوجد طريقة واحدة هي تقديمها؛ فإن صور (البارتنون) والحمراء وفينوس في نظرنا أفضل من مجموعة كتب يكتبها كل مؤلفي العالم عليها. ولاعتقادنا بأهمية هذه الصور التي تنقل إلى العقل الصورة الكاملة للعصر الذي قامت فيه عمدنا إلى أن نلتقط هذه المنتجات؛ والقارئ الذي يلتفت فقط إلى الصور المرسومة في هذا الكتاب قد يكون أكثر علماً بحضارة العرب وأطوارها التي تحملتها في أقطار مختلفة من قارئ قصر اطلاعه على مطالعة الكتب التي تبحث عنها، وان وضع الآثار تحت العيون يغني في الوقت ذاته عن الأوصاف المسهبة التي لا تعطي أية فكرة عن الأشياء التي تزعم أنها تصفها وقد يقال بحق: إن مائة صفحة مكتوبة لا تساوي صورة تامة بل قل - ولا غلو - ولا مائة كتاب
عندما نعمل على تحديد الأشكال نجد أن الكلمات في أية لغة غير كافية. ولاسيما إذا كان الموضوع يمس الشرق حيث تكون الصور ضرورية. هنالك بالعيون وحدها تمكن معرفة
مناظره ومعابده وآثاره الفنية والذراري المختلفة التي تولت أمره؛ والأسلوب الغني بتصويره لن يعطي أبداً ذلك التأثير الذي يعطيه مشهد الأشياء من حيث صورتها الأمينة
ولكن هذه الآثار وهذه المشاهد والأعمال الفنية وأشكال الذريات وفصول الحياة إنما ينبغي أن يذهب الإنسان بعيداً في درسها، وإذا أراد درسها بأمانة فإن الصورة وحدها تستطيع أن تعطيها، ومن الصورة تأخذ الصورة الأمينة. وإن أياماً تمدها أيام لا تسمح للفنان الماهر مهما ذهب بأن يبلغ الإتقان الذي تحققه الصورة في ثوان معدودة
إذا أريد الاختصاص فقط بتمثيل العمارات فإن فناناً ماهراً يكون له الزمن مادة لا قيمة لها قد يصل إلى أن يتنازع مع الصورة ولكن إزاء ألوف الفصول من الحياة الشاملة التي تؤلف جزءاً كبيراً من وجود الشعب لا يمكن أن يثار نزاع حولها. فالصورة الحقيقية هي وحدها القادرة على تصوير الأشياء في حركاتها بأمانة من شارع حي ومن جواد يعدو خبباً، ومن موكب عرس وغير ذلك. ومن عهد قريب شاعت مذاهب جديدة تدعوا إلى السياحة والرحلات وقد نفذت هذه المذاهب للمرة الأولى في هذا الأثر.
وقد لعب الرسم دوره في كل شيء وعمل على أن يظهر بأمانة من عمارة، ومن أكوان، فالصورة الشمسية يجب أن تحل محله الآن، والصورة في كتب العلم والتاريخ والأسفار تكون الوسيلة الوحيدة، ولقد تكون شاقة في الأسفار النائية، ولكنها ضرورية لكل مسافر ولكل عالم
فإذا كانت الصورة العامة بما تضمنت من عوامل تعطي القارئ صورة واضحة عن الزمان الذي قامت فيه فالغاية إذن أصبحت محققة والهدف المنشود موجوداً
(انتهت المقدمة)
خليل هنداوي
قبرة شيلي
للأديب نظمي خليل
نقل الأستاذ خليل هنداوي إلى قراء الرسالة في العدد 235 قصيدة القبرة للشاعر شيلي نقلاً مختصراً فآثرت أن أنقلها على نصها الكامل
سلام عليك أيها الروح الخفيف!
سلام عليك أيها الطائر الذي لم تلامس الأرض، ولكنك تحلق في أطباق السماء العامرة
بينابيع الفن الأصيل حيث تنسكب في قلبك!
تشيل من الأرض وتسمو عالياً وعالياً كسحابة من نار وترفرف بجناحيك في طبقات الجو
الصافي. ثم تشدو وأنت تحلق وتحلق وأنت تشدو!
في الأنوار الذهبية للشمس الغارقة في بحار السحب تطير وتسبح. . .!
أيها الطائر. إنك وإن كنت بعيداً عن أنظارنا، ولكني أسمع أنشودة سرورك. . .!
تملأ الأرض والجو بصوتك إذا ما خلع الليل رداء السحب وسقطت أشعة القمر الباردة
فغمرت الكون. . .!
أما أنت، فلن ندركك. فما الذي يشبهك. . .؟
إن قطرات المياه التي تسحها السحب لا تبهجنا كتلك القطرات الموسيقية التي تهبط من
لدنك!
إنك شاعر مختبئ في ضوء الفكر يترنم بأناشيد الخلود حتى يتنبه له العالم فيحنو على
الآمال ولا يعبأ بالمخاوف
أو كعذراء كريمة الأصل في قصرها الحصين قد اختلست ساعة تسري عن نفسها جوى
الحب بموسيقاها العذبة التي تغمر خميلتها. . .
أو كحشرة ذهبية وهاجة في رض ندية ترسل لونها الشفاف في صمت وخفاء بين
الأزهار والحشائش التي تحجبها عن الأنظار
أو كوردة مستترة في أوراقها الخضراء تفتحت أكمامها بريح ساخنة ففاح شذا عرفها
القوي الجذاب. . .
إن صوت قطرات الربيع على الحشائش النضرة كان مبهجاً عذباً، ولكنها دون موسيقاك.
خبرني أيها الخيال أو العصفور أي أفكار سامية أفكارك؟
إن لغتك أسمى من لغة الحب وحميا الكأس!
أهو نشيد مرتمين، أم أغنية نصر قد بارتك. فلم تكن إلا ادعاء كاذباً. . .!
من أي الينابيع تستقي سعادتك. . . أمن الحقول، أم من الأمواج، أم من الجبال، أم من
الأجواء، أم من السهول. .؟
إن سرورك العميق الصافي لن يفتر أو يقل. .!
شبح الكدر لن يحوم حولك. .!
إنك تحب. ولكنك لم تعرف ثمالة الحب المحزنة
تفكر في الموت يقظان ونائماً. وفي أشياء أسمى وأصدق مما نحلم به نحن الفانين وإلا
فكيف استطعت التحليق في هذا الجو البلوري
أما نحن، فإننا ننظر أمامنا وخلفنا. ونذوب أسى للشيء الغامض الخفي ويشوب سرورنا
بعض الألم. .!
إن أعذب أناشيدنا ما كانت تفصح عن أحزن الأفكار لو استطعنا أن نزدري البغضاء
بالكبرياء والخوف. بل لو خلقنا لا نذرف دمعة واحدة لما عرفنا سر اقترابنا من فرحك دائماً!
أيها المزدري الأرض، إن مهارتك كانت أجدى على الشاعر من ضروب الأصوات
السارة، ومن جمع الكنوز التي تحتويها بطون الكتب!
هبني نصف الفرح الذي حواه فؤادك. .!
لقد خرج هذا الحنق الموسيقي من شفتي. .!
وعلى العالم أن يصغي كما أصغي أنا الآن. .!
نظمي خليل
أناشيد صوفية
جيتانجالي
للشاعر الفيلسوف طاغور
بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب
- 64 -
أي شراب مقدس تريد أن ترشف - يا إلهي - من كأس حياتي المترعة؟
يا شاعري، أفيلذك أن ترقب خلْقك من خلال عينيَّ، وأن تقف عند أذنيّ صامتاً تتسمع لحنك الخالد؟
إن دنياك عبارات تضطرب في خيالي، وإن مرحك يبعث فيها النغم الموسيقي. لقد نزلت علي عن نفسك في رضا لتستشعر حلاوة كمالك فيّ
- 65 -
تلك التي تستقر دائماً في أعماق حياتي، في تباشير الصباح اللامعة المضيئة، تلك التي ما ترفع النقاب عن وجهها أبداً في ضوء النهار، تلك - يا ألهي - هي هديتي أزفها إليك ملففة في لحني الأخير
لقد تساقطت حولها عبارات الاستعطاف كليلة؛ ورحت أستميلها عبثاً بكلمات فيها الشوق والحنين
إنني أضطرب في أنحاء الأرض وهي ما تنفك في زاوية من قلبي، ومن حولها يشب ويخبو غالي حياتي وغثها
وهي قد سيطرت على خواطري وأفعالي، على غفوتي وأحلامي؛ غير أنها سكنت وحيدة وفي منأى عني
كنم من إنسان طرق بابي يسأل عنها ثم ارتد في يأس
ليس في العالم من توضّحها وهي ما تبرح في خلوتها تنتظرك
- 66 -
إنك أنت السماء وأنت العش في وقت معاً
يا ذا الجمال، إن الذي في العش هو حُبك الذي يغمر الروح باللون والصوت والأريج
إن الصبح يسفر وفي يمناه سلته الذهبية وقد امتلأت بالزهور الجميلة يكلل بها وجه الأرض
والليل يسدل أستاره على المروج الممحلة وما فيها سوى أعشاب تعافها الأنعام، وعلى الطرقات الموحشة، وبين يديه جرته الذهبية وفيها رشفات باردة من الأمان، أتى بها من المحيط الغربي الساجي
ولكن هناك. . . هناك حيث تمتد السماء إلى اللانهاية فتجد الروح مكاناً فسيحاً ترفرف فيه، يتألق دائماً النور الأبيض فلا نهار ولا ليل، ولا شبح ولا لون، ولا. . . ولا حديث
- 67 -
إن شعاع شمسك ينطق إلى أرضي ممتد الزراعين، فيقف بإزاء بابي طيلة اليوم ليرتد إليك وبين يديه معاني عبراتي وأناتي وأغاريدي
في لذة النشوة لففت صدرك المرصع بالنجوم في ملاءة من السحب الندية استحالت إلى أشكال وطيات ثم بهرجتها بأصباغ ما تزال تتغير
إنها براقة متقلبة، رقيقة دامعة ومظلمة، لذلك أنت تتعشقها أيها الطاهر النقي، وهذا هو السبب في أنك تخيرتها لتغطي على ضوءك الساطع المهيب بظلها الرفيق
- 68 -
إن تيار الحياة الذي يتدفق في عروقي صباح مساء هو الذي يتحدر في أنحاء العالم فيهتز على نغم لحن جميل
وهو الحياة التي تخترق الأرض مرحة في نبات لا عداد له ثم تتفجر عن موج مضطرب من الأوراق والأزهار
وهو الحياة التي تهدهد في مهد محيط الحياة والموت، بين المد والجزر
إنني أستشعر الجلال في أطرافي من أثر لمسات دنيا الحياة؛ وكأن كبريائي وهي أثر خلجات الحياة في العصور الماضية، كأنها تضطرب في عروقي هذه الساعة
- 69 -
أفلا يلذك أن تطرب لهذا اللحن الحلو، وأن تتقاذفك نشوته المروعة فتغمرك وتحطمك؟
إن كل الأشياء تندفع في طريقها فلا تستأني ولا تعقب، وما من قوة تستطيع أن توقف تيارها وهي تندفع في طريقها إلى الأمام
كن بازاء هذه الأشياء في ميعة حضرها: الموسيقا السريعة والأيام وهي تقبل لترقص حيناً ثم تدبر. . . إن الألوان والألحان والأريج تتدفق جميعاً في المجرى اللانهائي في نشوة الطرب. . . الطرب الذي يتناثر ويتضعضع ويفنى في كل حين
- 70 -
لأن أعزز نفسي وأبعثها في جميع النواحي، فإني أنشر على ضيائك أستاراً من الظل ذات ألوان، لأن نفسي كأنها هي فتاتك (مايا)
لقد أسدلت دونك حجاباً ثم أعلنت عن ذاتك في فنون كثيرة، ولكن هذا الانفصال الذاتي حل في جسمي أنا
وتردد صدى اللحن العنيف في أضعاف السماء في أشكال مختلفة من الدمع والابتسام من اليأس والامل؛ والموج يعلو ويهبط، والأحلام تتبدد وتتجمع، ولكن فيّ بعض نفسك
وعلى الستر الذي أقمت رسوم كثيرة صورتها ريشة الليل والنهار؛ ومن ورائها عرشك وقد نسج في منحنيات غامضة أخاذة ليس فيها الخطوط المستقيمة القفرة
إن المهرجان العظيم. . . مهرجانك وإياي قد هز آفاق السماء واضطربت نغماتك وإياي في أرجاء الهواء، وانطلقت تفتش عنك وعني كل الأجيال الماضية
- 71 -
إنه هو. . . هو الباطن، الذي أيقظ الحياة في نفسي بلمساته الخفية العميقة
إنه هو الذي نفث من سحره في هاتين العينين، ووقع في سرور على أوتار قلبي لحن الطرب والألم في وقت معاً
إنه هو الذي نسج خيوط (مايا) في أصباغ حائلة من الذهب والفضة. . . أصباغ زرقاء وخضراء؛ ومن بين ثناياها أطلت قدمه، وبلمسة لمساتها ذهلت عن نفسي
إن الأيام تطلع علينا ثم تنطوي، وهو هو الذي يحرك قلبي في فنون كثيرة، وأساليب مختلفة، وخفقات من الفرح والألم
كامل محمود حبيب
الحضارة المصرية في عهد الدولة القديمة
بحث للعلامة الأثري اربك بيت
للأستاذ أحمد نجيب هاشم
(تتمة)
ولما كان الكهنة هم أكثر الناس علماً كان منهم الموظفون المسئولون عن الفيضان وعمل الترتيبات اللازمة له فكان بمعابدهم مقاييس لمعرفة زيادة النيل، وكانت بسيطة التكوين، كل منها بئر حلزونية أو مربعة الشكل توجد على مقربة من النهر ومتصلة به فكل ارتفاع أو انخفاض في النهر يصحبه بطبيعة الحال المثل في البئر، وبالبئر أرقام تقيد هذا الارتفاع أو الانخفاض، وبها درجات يستطيع المرء أن ينزل عليها كي يقرأ مستوى المياه الذي وصلت إليه يوماً بعد يوم فيعرف مقدار الزيادة، ولما كان الفيضان يبدأ غالباً حوالي الوقت نفسه كل عام سهل على الكهنة ملاحظة هذه العملية وتدوين أرقامها، وبموازنتها بالأرقام التي قيدوها في السنوات السابقة أمكنهم أن يعرفوا حالة الفيضان المقبل إن كان مرتفعاً أو منخفضاً بالنسبة لسابقه، وبذا كان في استطاعتهم أن يحددوا الوقت الذي تفتح فيه الجسور كي تغمر المياه الأرض كلها فإن كان الفيضان مرتفعاً جداً أرسلوا تحذيراً إلى الناس كي يقيموا السدود، وكانت الحكومة في هذه الساعة تسخر كل الناس في هذه العملية، وكان للفيضان أثر آخر، ذلك أن مياهه بعد أن نغمر الأرض مدة ستة أو سبعة أسابيع كانت تمحو الحدود التي بين أرض الفلاح وزميله أو تغطيها بالطمى، فعمد المصريون إلى مسح الأرض كي يعرف كل فرد مساحة أرضه بالضبط، وبذلك بدءوا علم الهندسة إذ وجدوا في مسح الأرض أضبط مقياس وأنه أفضل من وضع أحجار على الحدود، ولا تزال مشكلة ضبط الحدود موجودة في مصر، فالنيل في أثناء الفيضان يزيد مساحة الأرض الواقعة على حدود الصحراء، ولذا يحاول الفلاحون هناك الانتفاع بهذه الزيادة التي تسمى بطرح البحر بضم جزء منها إلى أملاكهم القليلة، وقد لا تبلغ هذه الزيادة ثلاثين أو ستين سنتيمتراً كل عام ولكنها تزداد على مر السنين، ولذلك يهتم مفتشو الحكومة بحراستها كما كان يفعل زملاؤهم من آلاف السنين
الفنون
الحفر والرسم: رأينا نواة التقدم الفني في العهد السابق للأسرات إذ وصل الحفر البارز درجة عالية كما تدل على ذلك مقابض السكاكين العادية والألواح الأردوازية والتماثيل التي وجدت في (قفط) كذلك يرينا لوح (نارمر) الذي يرجع إلى أول الأسرة الأولى كثيراً من قواعد الرسم التي استعملت فيما بعد في الفن المصري، فالرسوم الدقيقة القليلة البروز كانت مناسبة لمملكة تسطع فيها الشمس ويشتد الظل، وقدر للحفر نجاح عظيم في تاريخ مصر، وليس في وسعنا أن نتتبع هذا التطور في الأسرات الثلاث الأولى لقلة الأمثلة وبعد بعضها عن بعض، ولو أن لوح قبر الملك (زت) وقطعاً صغيرة كثيرة من مقابر الملوك في (أبيدوس) تدل على تقدم مضطرد في الأسرتين الأوليين لاسيما من حيث المقدرة الفنية وحسن استعمال المواد، ثم تصل هذه الأمثلة فجأة إلى أجمل مقابر الأسرتين الخامسة والسادسة كمقبرة (تي) في سقارة فهناك نرى الفن المصري في أوج عظمته وتنتقل العين بين الرسوم انتقالاً سهلاً، وهذه هي ميزة الفن في هذه الفترة، ولكن نلاحظ أن قواعد المنظور تكاد تكون معدومة في رسوم هذا العصر ونقوشه، فإذا أريد رسم شيء فوق آخر فما على الفنان سوى أن يضعه فوقه، كذلك كان يرسم الإنسان عادة جانبياً، ولكن مع ذلك نشاهد كتفيه كأنما ينظر إليها من الأمام، وعلى هذه الطريقة استمر المصريون يرسمون نقوشهم طول عهد المملكة القديمة وبالرغم من هذه الغلطات فإن النقوش البارزة على الألواح الخشبية التي عثر عليها في مقبرة حي من الأسرة الثالثة تعد من أجمل القطع الفنية في العالم، فهي تمتاز بما تبعثه في النفس من أفكار لا نهاية لها
النحت: وقد سار النحت جنباً إلى جنب مع الرسوم البارزة، فأخرجت مصر من الأسرة الرابعة إلى السادسة أكبر مقدار أخرجته من التماثيل في تاريخها بعد ذلك. وكان الدافع إلى عمل التماثيل دينياً أكثر منه فنياً إذ اعتقد المصريون أن الشخص بعد موته يعيش في مقبرته عيشة لا تختلف كثيراً عن حياته في الدنيا فاهتموا بتحنيط جثته مخافة أن يلحق هذه المومياء العطب ورأوا ضرورة وجود التمثال حتى تحل فيه الروح، والى هذا الاعتقاد الغريب يرجع الفضل في وجود كثير من أجمل التماثيل في العالم وقد وضع المصريون بعض التماثيل من الخشب ومن الحجر، والقليل منها من الجرانيت والصوان، وصنعوا
كثيراً من التماثيل من حجر الجير الملون، ومن أهم تماثيلهم تمثال (خفرع) المصنوع من الصوان وتمثال (شيخ البلد)(والكاتب الجالس القرفصاء) المحفوظ باللوفر (وتمثال نفرت مع الأمير راع حوتب الذي وجد بميدوم وهو محفوظ الآن بالمتحف المصري)
العمارة
بدأ ظهور فن العمارة في مصر منذ أخذ إنسان ما قبل الأسرات يبطن جدران مقبرته بقوالب من طمى النيل المجفف في الشمس، ولعله استعمل هذه القوالب في بناء بيته الساذج الأول ولا يبدأ أهم دور في تطور العمارة في مصر إلا ببدء العصر التاريخي إذ استعمل الحجر لأول مرة في البناء في عصر الأسرة الأولى فبنيت أرضية مقبرة الملك (دن) بأبيدوس من حجر الجرانيت وهذا أقدم مثل معروف لنا، وبعد أن تنقضي أسرة كاملة تجد في مقبرة (خاستخموي) أول ملوك الأسرة الثالثة حجرة بأكملها مبطنة بالحجر الجيري
ولا بد أن فن البناء تقدم بخطى حثيثة في الأسرتين الأولى والثانية، وتدل الحفريات الحديثة في سقارة على أنه وصل إلى درجة عالية أيام الأسرة الثالثة، ولذا يعتبر العلماء أن هذا التقدم هو نهاية لا بداية عصر معماري عظيم فقد عثر هناك على أعمدة من الطراز الدوري وكانت النماذج الوحيدة المعروفة لهذا الطراز هي تلك التي عثر عليها في مقابر الأسرتين الحادية عشرة والثانية عشرة في بني حسن، أي بعد النماذج السابقة بحوالي 900 سنة
ويلي آثار سقارة من حيث الترتيب الزمني معابد أهرام الدولة القديمة ومعابد الشمس في أبي صير، وإذ كانت عمارة هذا العصر معروفة لنا من المباني الجنائزية فعلينا أن نبحث أولاً تطور بناء المقبرة عند أولئك المصريين الأول
أخذت المقبرة في أواخر عهد ما قبل الأسرات تتطور في إحدى طريقين منفصلين وهما المقبرة ذات الدرجات والمقبرة التي قي شكل حفرة ولكل منهما تطور طويل في عهد الدولة القديمة
تكون كل قبر مصري من جزأين رئيسيين: اللحد وهو تحت الأرض وتدفن الجثة فيه ثم مكان العطايا وهو فوق الأرض ويضع فيه أقارب الميت الهبات اليومية من طعام وشراب وغير ذلك مما يحتاجه كي يواصل حياته في القبر، ويحتمل أن بعض المقابر الأولى كانت
خلواً من هذا الجزء أو لعله اقتصر على كوم من الرمل أو الحصى، وسواء هذا أو ذاك فقد تطور هذا الجزء منذ عهد السرة الأولى إلى شكل مصطبة ذات جوانب مائلة في أحدها كوة صماء لوضع العطايا تجاهها
وبتولي الأسرة الرابعة الحكم كانت هذه المباني البسيطة قد تطورت إلى تلك المصاطب الحجرية الهائلة التي بناها الأشراف لأنفسهم حول أهرام ملوكهم، ويقع اللحد تحت المصطبة الأولى نفسها وبداخل المصطبة حجرات لوضع العطايا من أكل وشراب
اختلف هذا النظام اختلافاً بسيطاً في الهرم، أجل كان الملك يدفن في حجرة تحت الأرض منحوتة في الصخر ويعلوها هرم كان كالمصطبة تذكاراً ظاهراً فوق القبر إلا أن الهرم لم يكن بداخله حجرات العطايا بل بنيت هذه في الجهة الشرقية منه ونظراً لكثرتها فقد أطلق عليها اسم معبد الأهرام؛ فإن كان الهرم هو تطور المصطبة كما يقول البعض فما المعبد إلا تطور الكوة الصماء التي كانت توضع العطايا تجاهها
ولما كان الهرم ومعبده قائمين على هضبة مرتفعة عن مستوى الحقول المحيطة بهما بنحو 100 قدم فقد بنى صاحبه طريقاً منحدراً مرصوفاً كي يسهل الوصول من الوادي إلى المعبد وبنى في أسفل هذا الطريق معبداً صغيراً سمي بمعبد الوادي، ويقول البعض إن زيارة المعبد الرئيسي كانت قاصرة على أقارب فرعون ورجال بلاطه وإن معبد الوادي كان لزيارة عامة الشعب
ويرى فريق آخر أن معبد الوادي لم يكن سوى مكان يتطهر فيه الزائر قبل أن يصل إلى المعبد الرئيسي، وما المعبد المعروف بمعبد أبي الهول إلا معبد الوادي لهرم (خفرع) وقد كشف الأستاذ سليم بك حسن تحت الطريق الواصل بينه ويبن المعبد الرئيسي للهرم نفسه عن أقدم نفق في العالم نحته مهندس ذلك الملك العظيم في الصخر الصلب كي يختصر المسافة لمن يريد الوصول من الجهة الشمالية للهرم إلى جهته الجنوبية ويوفر عليه السير الطويل حول الطريق المذكور
وتبين لنا هذه المعابد الأولى أغلب مظاهر المباني الدينية المصرية كما نراها فيما بعد هذا العصر، فكلها متينة البناء والمسقف منها مسقف بكتل حجرية أفقية قائمة على أعمدة لا أقبية فيها، على أن المصريين لم يجهلوا طراز القبو كما يتضح ذلك من مقابر الأسرة
الثالثة. وهكذا نجد في الدولة القديمة الظاهرتين الأساسيتين في بناء المعابد المصرية، فهناك البهو ذو السقف الكامل القائم على أعمدة موزعة في كل أنحاء أرضية المعبد، وهناك أيضاً البهو ذو الأعمدة ويتكون من فناء مفتوح يمتد على جانب أو اكثر فيه جزء مسقف يقوم سقفه على صف أو صفين من الأعمدة
ومن المباني الدنين التي تنتسب إلى عصر الدولة القديمة معابد الشمس التي بناها ملوك الأسرة الخامسة في أبي صير وكانت تشبه معابد الأهرام السالفة الذكر من حيث وجود معبد الوادي والمعبد الرئيسي والطريق المنحدر الواصل بين الاثنين، ولكن بدلاً من الهرم الذي كان يقام فوق المقبرة بنا ملوك الأسرة الخامسة هرماً ناقصاً صغيراً تعلموه مسلة هي رمز إله الشمس (رع)
أحمد نجيب هاشم
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
326 -
لا تجعل قلبك مثل السفنجة
في (مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة) لابن قيم الجوزية: قال لي شيخ الإسلام رضي الله عنه - وقد جعلت أورد عليه إيراداً بعد إيراد -: (لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته. وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليك صار مقراً للشبهات)
فما أعلم أني انتفعت بوصية كانتفاعي بذلك
327 -
يزيدهم حرصاً على الإسلام
في (الأحكام في أصول الأحكام لابن حزم: أن رسول الله لما خرج إلى بني قريظة والنضير قال له أبو بكر وعمر: يا رسول الله، إن الناس يزيدهم حرصاً على الإسلام أن يروا عليك زياً حسناً من الدنيا، فانظر إلى الحلة التي أهداها لك سعد بن عبادة فالبسها، فليرك اليوم المشركون أن عليك زياً حسناً
قال: أفعل
328 -
إن الاحتمال قبر المعايب
قال الأنباري في (طبقات الأدباء): كان شيخنا ابن الشجري (هبة الله بن علي) وقوراً في مجلسه، ذا سمت حسن لا يكاد يتكلم في مجلسه بكلمة إلا تتضمن أدب نفس أو أدب درس. اختصم إليه يوماً رجلان من العلويين فجعل أحدهما يشكو ويقول عن الآخر: إنه قال في كذا وكذا. فقال له الشريف (ابن الشجري): يا بني، احتمل فإن الاحتمال قبر المعايب
وهذه كلمة حسنة نافعة فإن كثيراً من الناس تكون لهم عيون فيغضون عن عيوب الناس ويسكتون عنها فتذهب عيوب لهم كانت فيهم، وكثير من الناس يتعرضون لعيوب الناس فتصير لهم عيوب لم تكن فيهم
329 -
يريد أن يموت
أبو القاسم اليزيدي: كان أبو عمرو بن العلاء في مجلس إبراهيم بن عبد الله، فسأل عن رجل من أصحابه فقده، فقال لبعض من حضره: اذهب فاسأل عنه. فرجع فقال: تركته يريد أن يموت. فضحك منه بعض القوم وقال: في الدنيا إنسان يريد أن يموت!
فقال إبراهيم: لقد ضحكتم منها عربية؛ إن (يريد) في معنى يكاد، قال الله تعالى:(جداراً يريد أن ينقض) أي يكاد
فقال أبو عمرو: لا نزال بخير ما كان فينا مثلك
330 -
وأرى الغيب فيه مثل العيان
أبو القاسم المحسن بن عمرو بن المعلى:
لست أدري ولا المنجم يدري
…
ما يريد القضاء بالإنسان
غير أني أقول قول محق
…
وأرى الغيب فيه مثل العيان:
إن من كان محسناً قابلته
…
بجميل عواقب الإحسان
331 -
اتفاق عجيب
قال ابن بسام: من عجائب ما جرى لأبي العلاء صاعد بن الحسين البغدادي - الوافد على الأندلس - أنه أهدى أيلاً إلى المنصور بن أبي عامر - ملك الأندلس - وكتب على يد موصله قصيدة منها:
عبدٌ جذبتَ بِضَبْعِه ورفعت من
…
مقداره أهدى إليك بأيل
سميتُه (غرسيّة) وبعثته
…
في حبله ليصحّ فيه تَفَؤُلي
فقضى في سابق علم الله أن ملك الروم (غرسية) أسر في ذلك اليوم الذي بعث فيه بالأيل بعينه، وسماه باسمه على التفاؤل، وكان غرسية أمنع من النجم. وسبب أخذه أنه خرج يتصيد فلقيته خيل للمنصور من غير قصد فأسرته وجاءت به، فكان هذا الاتفاق مما عظم به العجب
332 -
لكن عندي عتيق سنتين
قال ياقوت: قال المرزباني: قال عبد الله بن عياش: كنت أنا وسفيان الثوري وشريك بن عبد الله (القاضي، الفقيه) نتماشى بين الحيرة والكوفة فرأينا شيخاً أبيض الرأس واللحية
حسن السمت والهيئة، فظننا أن عنده شيئاً من الحديث، وأنه قد أدرك الناس. وكان سفيان أطلبنا للحديث، وأشدنا بحثاً عنه، فتقدم إليه وقال: يا هذا، هل عندك شيء من الحديث؟
فقال: أما حديث فلا، ولكن عندي عتيق سنتين
فنظرنا فإذا هو خمار. . .!
333 -
. . . قبل مضي أسبوع
في (حلبة الكميت): لشمس الدين النواجي: يقال: إن من نظر إلى البدر في ليال متعددة، وخاطبه بهذين البيتين وهو مشغوف القلب اجتمع بمن يحب قبل مضي أسبوع وهما:
يا أيها القمر المنير الزاهر
…
الأبلج البدر البهي الباهر
بلغ شبيهتك السلام وصف لها
…
شوقي وأني في هواها ساهر
334 -
كتبه علي بن الحسن الجويني
ياقوت الحموي: كان من شيمة الجويني الكاتب أنه ما كتب شيئاً بخطه كثر أو قل، دق أو جل إلا يكتب في آخره: كتبه علي بن الحسن الجويني
رسالة الشعر
في عيد الإحسان
فاروق حبك في القلوب عقيدة
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
نوران: نور هدى ونور تبسم
…
سطعا، فراح الشعر يسطع من فمي
فهتفت: يا دنيا الملائك طهري
…
وترى، ومن آيات وحيك ألهمي
هاتي لي النغم الجديد، بغيره
…
ما اهتز للشعراء سمع الأنجم
هاتي فإن بعرش مصر مملكاً
…
تاج العصور بمثله لم ينعم
أوفي فرحت إلى الخمائل هاتفاً:
…
هاتي الشذا من زهرك المتبسم
فضي لحون الطير من لهواتها
…
ومري أغانيها ترن بمرقمي
ودعي الصباح ونوره، ودعي الضحى
…
وعبيره ينساب طهراً في دمي
إني سأهتف للمليك بآية
…
بيضاء مثل جبينه المتوسم
مولاي! فاهتز الوجود مهللاً
…
طرباً، وإن لم يشد أو يتكلم
من رام تغريداً بظلك فليكن
…
لبلابل الخلد السواجع ينتمي
الله أكبر! ما لسمعك هزة
…
بسوى حمام الجنة المترنم!
(فاروق) حبك في القلوب عقيدة
…
أخذت سراها في القلوب مع الدم
قسمت مع الإيمان قدس مكانه
…
في اروح، وهو لغيرها لم يقسم
الشرق يقرأ في جبينك آية
…
فجر الربيع بنورها لم يوسم
النيل فسرها له متخايلاً:
…
هذي منارة كل قلب مظلم
فيها عزاء الشرق عن آلامه
…
ومناه بعد أسى وطول تجهم
الله سطرها لتاريخ الحمى
…
بشرى وثوب للعلا وتقدم!
يا عاهل الإِسلام كرم عصره
…
وأنر به حلك الوجود المعتم
ألقت إليك يد الحنيف زمامها
…
فأقلت عثرتها، وقلت لها اسلمي!
وبعثت عهد الراشدين بصولة
…
شرع السماء بها حديد المعصم
فرعيت عز الصولجان ومجده
…
وخطرت في ورع النبي الملهم
وحملت مسبحة كأن مدارها
…
فلق الهدى للحائر المتبرم
حباتها فلذ القلوب خواشعاً
…
عطلن باللثمات آمال الفم
نسق من الملك انفردت بعزه
…
لسواك في التاريخ لم يتقدم
في دولة الإحسان قامت عصبة
…
للخير في جنبات عرشك تحتمي
تأسو إذا جرح الزمان، وتنبري
…
قدراً يكفكف دمعة المتيتم
كم ثاكل ردت فواجع قلبها
…
نعماً، وأسبغت النعيم لأيم
ستارة الأعراض يغمر جودها
…
ليل الحرائر في بياض الأنعم
وترابها للمعوزين غرائس
…
للقوت، تثمر في خريف المعدم
تعطي ولا مَنٌّ يشوب عطاءها
…
وتجود جود العدل للمتظلم
منن تدب إلى النفوس خفية
…
يجري بها قدر الإله المنعم
فكأنها الأحلام تهبط في الدجى
…
للبائسين بخشعة وتحرم
شرف العطايا أن تزف وحيدة
…
كالسر بين تخفر وتحشم!
هي كعبة - للبؤس من إحسانها
…
بشر النبات بغيثه المترحم
للعلم في أكنافها ري النهى
…
ولشكوة العلات برء المسقم
مولاي أسعدها بنورك إنها
…
بهداك تفرع سابحات الأنجم
همم سبقن خطى الزمان بعزمة
…
أوقدتها سبق القضاء المبرم
هتفت بك الدنيا فرد هتافها
…
شعب يفدي بالقلوب وبالدم!
محمود حسن إسماعيل
حوَّاء
للأستاذ إبراهيم العريض
تمثّل الحبُّ للفنان بين يدَيْ
…
ذكراه كالنار تغشى طورَ سيناءِ
وقال حين رآه في تململه
…
يقلّب الطرفَ بين الزهر والماءِ:
(يا من عكفتَ على الدنيا وزينتِها
…
حتى صممت عن الأنغامِ من نائي
تحيا الحياةَ بلا إلفٍ تلوذ به
…
إلا ارتيادكَ في أفياءِ فيحاءِ
حتى كأن ضلوعاً أنت حاملُها
…
تُطْوَى على كبدٍ ليست بحرَّاء
هذا الوجودُ إطارٌ لا كفاَء له
…
وغاية الفنّ فيه رسمُ حوَّاء
لها الشبابُ الذي تَشْفى برقيته
…
ما كابد القلبُ من صدٍ وإغراء
لها الجمالُ الذي تعنو لعزته
…
فيما تشاهدُ من ظلٍّ ومن ماء
لها الوداد الذي تَبقى أشعّتُه
…
تنير خطوَكَ في طوفانِ أهواء
كأنها الشمس إشراقاً. . تبادلها
…
مرآةُ قلبك لألاءً بلألاء
لا تكذِبِ النفس في مجد حلُمَت به
…
فلست تحسن إلا قولَ: أهواها
شغفتَ بالحسن لا تنفك تطلبُهُ
…
عيناكَ. حتى ولو في كأسِ صهبَاءِ
وليس أجملَ ما في الكون من أثرٍ
…
إلا اقتباساً بدا من شكل حسناء
أنظر إلى شفتيها. هل ترى زَهراً
…
يفترّ عن نُقَط كالطلّ وطفاء
أنظر إلى وجنتيها. هل ترى شفقاً
…
يلوح من شَعْرِهَا في وسْطِ ظلْمَاء
أنظر إلى ناظريها. هل ترى ألَقاً
…
كأنه صادرٌ عن كوكب ناءِ
ما في الطبيعة من حسن فمنعكِسٌ
…
عن صدرها البضِّ في عينيك يا رائي
وأطيب الطيب ما في الخلد من زَهَر
…
وإنما غرسَتْها كفّ حوّاء
فكيف تُكبِرُ من شأنِ الجميلِ ولا
…
تثيبُهُا عن يدٍ قبَّلتَ بيْضاء
وما تؤمِّل في الفردوس منفرداً
…
لولا رجاؤك أن تحظى بلقياها)
إبراهيم العريض
هي عيناك
للأديب حلمي عطا الله
حرقة في القلب يذكيها الألم
صدمة للنفس يتلوها الندم
وأنا وحدي أسير الليل أطوي الظلماتِ
لا أبالي ما أرى في وحدتي من عقبات
أسدل الليل جناح الحلم فوق الفلوات
ألم الليل شديد الوطءِ مرّ العبرات
هي أشجاني التي توقظ فيَّ الحسرات
يا لعينيك التي تحرمني طعم السبات:
هي عيناك التي تحرقني فأهيم
هي عيناك التي تشعلني كالجحيم
قسوة الهجر على القلب العليل تقتله
كثرة التبريح بالجسم الهزيل تثقله
هذه شكواي من عينيك يا ذات الدلال
من يراعيها ويرعاني إذا طال النضال؟
هل أذوق الشهد أم أقضي حياتي في الخيال؟
أم أقاسي الصدَّ؟ كلا، إن هذا لمحال
أنا لا أطمع في النوح ففي النوح الزوال
أنا لا أبغي سوى الوصل، فذا الوصل الحلال
هي عيناك التي تأمرني فأطيع
هي عيناك التي تذهلني فأضيع
حيفا
حلمي عطا الله
القصص
أقصوصة لاذعة من أناطول فرانس
مشعوذ المادونا
للأستاذ دريني خشبة
كان يعيش في أيام الملك لويس مشعبذ فقير من كومبين يقال له برنابا، وكان لا يني يذرع أقطار الأرض ليعرض على الناس ألعابه الخارقة التي كان يبهرهم بها في خفة وحذق وبيد صناع. وكان ينتهز أيام الصحو فينتحي ناحية في الميادين العامة، ثم يفرش على الأرض قطعة من بساط خلق لم يكن يفارقه أينما سار. . . وبكلمات يقولها، وإشارات وحركات علمه إياها مشعبذ أكبر منه سناً يجتمع حوله أطفال وغلمان ومتسكعون، ثم يسوق الفضول غيرهم فيكون في حلقة من الناس من كل صنف يستهويهم بشعبذاته، ويثير عجبهم بالبراعة الفائقة التي يقف بها سكرجة من صفيح مطلي على أرنبة أنفه، وهو مع ذاك يميل ويميد ويتخلج. . . فإذا فرغ من هذا انقلب في الهواء فوقف على رأسه ويديه، ثم راح يرسل في الهواء كرات ستاً صغيرة من نحاس أحمر لامع، فيتلقاها بقدميه العاريتين في مهارة خارقة، بحيث لا تسقط منها واحدة حتى يستوي؛ وكان الناس يختلفون في أمر هذا المشعبذ، ولكنهم سرعان ما يتفقون على أنه ألعبان داهية حين يتقوس ويتقوس، حتى يعمل بجسمه المنقلب عجلة من لحم، ثم يرسل في الهواء اثنتي عشرة سكيناً مزهفة فيظل يتلقفها بيديه في سرعة تخطف البصر وتطلق أيدي النظارة بالتصفيق، وحناجرهم بالهتاف الطويل، ثم يمطرون بساطه الخلق بالدوانق والدريهمات
ولم يكن برنابا مع ذاك بدعاً من الناس، فلقد كان واحداً من هذه الآلاف المؤلفة التي تكتسب الكفاف من العيش بعرق جبينها، وكان يشقى كما يشقى إخوانه البائسون في كل زمان وفي كل مكان، بل لقد كان نصيبه من شقوة الحياة، ومضض العيش، والأوزار التي كتب في الأزل أن تنقض ظهور الناس جيلاً عن جيل عن أبيهم آدم، كبيراً مضاعفاً. . .
ولم يكن يستطيع أن يصل عمله الشاق المضني في كل وقت، فهو واحد من مئين من الأحياء التي يعج بها العالم، ويزخر بها وجه الأرض، والتي تحتاج إلى حرارة الشمس،
ودفء الهواء، لتدب الحياة فيها وتنتعش. . . لذلك كان الشتاء أكبر أعدائه، إذ كان يقاسيه كما تقاسيه الشجرة التي نفضت أوراقها، وبدت خلاله نصف ميتة. . . وكان الصقيع الذي يغطي وجه الأرض يقضه ويزعجه، ويثلج يديه وقدميه، فتسقط الكرات وتجرحه السكاكين، ولكنهه مع ذاك يبسم ويهش، متشبهاً بالصرصر المذكور في قصة مريم الأفرنسية، والذي يشدو ويرقص جوعان من. . . البرد!! أو من الجوع. . . أو منهما معاً!! وكان لسذاجة قلبه، وقناعته، يقاسي في سكون وصمت. فلم يفكر مرة في كيفية توزيع الثروة بين الناس، ولا في علة هذا التفاوت الكبير بين أقدار البشر، وكلهم من آدم، وآدم من تراب. . . لا. . . لم يفكر برنابا الطيب في شيء من هذا ولا ذاك، بل كان مؤمناً ساذج الإيمان، وكان يعتقد أن الخير الذي فاته في هذه الدنيا لابد مواتيه في الآخرة، وأن سيئات هذه الحياة ستحتسب في صحيفته حسنات يوم يوفى للناس حسابهم. ولم يكن برنابا من هؤلاء اللبقين الألبة الذين باعوا أنفسهم لسيد الأبالسة، بل كان يؤمن بالله ولا يكفره، ويلهج لسانه دائماً باسمه، وكان يحيا حياة أمينة طاهرة كلها تقوى وعفة، ولم تحدثه نفسه مرة أن يمد عينيه إلى ما متع الله به جاره من زوجة جميلة حلوة مفتان، مع أنه لم تكن له زوجة حلال. . . وكان يؤمن بخطر المرأة على شباب الرجل وعنفوانه، وكانت له أسوة بما حدث من ذلك لشمشون كما هو مشهور مأثور
وهكذا لم يك برنابا بهيمياً ولا شهوانياً، بل هو لم يفكر مرة في هذه اللذة الدنسة التي تستعبد أمثاله من المشعبذين، بيد أنه إن سلم من ذاك، فلقد كانت تأسر لبه الخمر، وكان يرى فيها منجاة من فتنة النساء والوقوع في كيدهن؛ ولم يكن برنابا مدمناً مع ذاك، وإن حب الخمر وصبا إليها من كل قلبه، لاسيما إذا كان الفصل شتاء والطقس بارداً زمهريراً. . . فإذا استثنينا شغفه بالخمر وجدناه رجلاً صالحاً يخاف الله ويتبتل إليه، وتملأ قلبه محبة العذراء، مريم الطاهرة البتول، التي كان يخبت لها ويصفيها عبادته، ويركع بين يدي صورتها كلما دخل كنيسة فيصلي هذه الصلاة:(مولاتي! أبتهل إليك أن تباركي حياتي في هذه الدار حتى يتأذن الله فيقبضني إليه، فإذا فعل، فاشفعي لي عنده أن يفيء علي من نعيم الخلد. آمين!)
وانطلق في أمسية يذرع الطرقات غب مطر وابل حزيناً واجماً كاسف البال، وتحت إبطه كراه ومزقة البساط وفيها سكاكينه، وكل همه أن يجد خاناً يؤويه فيقضي فيه ليله على
الطوى، لم يذق عشاء ولم يتبلغ بلقمة. . . فبينما هو هائم على وجهه هكذا، إذا به يرى راهباً يذرع الطريق مثله، وفي مثل الجهة التي يسير فيها، فحياه في أدب وظرف، ورد الراهب تحيته بأحسن منها، ثم قال يحدثه:
- مرحى أيها الرفيق! مالك مسربلاً بهذه الثياب الخضر من ناصيتك إلى إخمصيك. . . أذاهب أنت لتمثل البلياتشو في ملهاة خرافية؟
- كلا والله أيها الأب! إن اسمي برنابا، وحرفتي الشعبذة وحبذا لو كان عملي أن آكل متبطلاً، وأسمن واستريح من عناء الحياة!!
- أتعني ما تقول أيها الأخ برنابا؟ حذار من أن يكون في ستور كلامك لمز أو كناية! فإن أشرف عمل في هذه الحياة الدنيا هو أن تبيع نفسك لله. . . الرهبانية يا برنابا. . . إن الراهب ما يني يسبح بحمد الله، وباسم العذراء، وبأسماء القديسين! ألا وإن حياة الراهب أنشودة سرمدية ليسوع المسيح!
- وقال برنابا يجيبه: (إني أقر أنني تكلمت كما يتكلم الجهلاء أيها الأب، فعفواً ومعذرة. . . إن بيننا لبوناً شاسعاً وفارقاً عظيماً، وإنه إن يكن لشعبذاتي قيمتها عند الناس، فكذلك نسكك وترهبك مع فارق بين الصناعتين، لأنك مهما عجزت عن رقصة أقوم أنا بها في منتهى ما تتصور من سهولة ويسر، ومهما عجزت عن أن تقف سكرجتي هذه على أرنبة أنفك وتميل كما أميل، وتميد وتتخلج، فإن لرهبانيتك مع ذاك قيمتها التي لا تساميها قيمة عملي الحقير وصنعتي التافهة. . . أيها الأب الكريم! تالله إنه ليس أحب إلي من أن أنقطع مثلك للعبادة فألهج بذكر الله، وأستقل عن العلمين ليتحد قلبي بالبتول المقدسة. . . العذراء الطاهرة التي كرست نفسي وحياتي لعبادتها ومحبتها! وإنه ليس آثر عندي من أن أهجر حرفتي التي عرفت بها في ستمائة قرية وقرية، من سواسون إلى بوفيه، لكي أذهب إلى الدير، وأخلص للتأمل والعبادة والترهب!)
ووقرت سذاجة المشعبذ في فؤاد الراهب، واستشف فيه نفساً تقية وقلباً صالحاً، من تلك القلوب النقية التي قال المسيح في أصحابها: عليهم السلام في الأرض) فقال يجيبه: (إذن هلم معي أيها الصديق برنابا وسأدخلك الدير الذي أنا رئيسه، وإني أسأل الله الذي هدى مريم المصرية في مهامه الصحراء أن يوفقني في هدايتك إلى ما فيه خلاصك)
وهكذا أصبح برنابا (البلياتشو!) راهباً!
وبهره أن يرى إخوانه الرهبان يخلصون في محبتهم للعذراء إخلاصاً عجيباً، ويكرسون حياتهم ونبوغهم وجميع ملكاتهم لخدمة مجدها وتخليد ذكراها. . . فهذا رئيس الدير يؤلف في فضائلها المؤلفات، ويشيد فيهن حسب السنة بأياديها على العالمين وهذا الأخ موريس يتناول مسودات تلك المؤلفات فيسطرهن بيده النابغة الصناع، وبخطه الرائق الشائق على رقوق وكواغد ثم هذا الأخ الإسكندر ينقش فيهن نقوشه، ويرسم تصاويره، فيجعل مليكة السموات جالسة على عرش سليمان، وقد ربضت عند قدميها أربعة أسود ضياغم تحرسها وتسهر عليها، ومن فوق الهالة التي تنعقد بالنور حول رأسها ترف سبع حمامات ورق هن هدايا روح القدس السبع: الخوف، والتقوى، والمعرفة، والقوة، والعدالة، والذكاء، والحكمة، وجلس معها ست عذارى حسان ذوات شعر مغدودن ذهبي: الدعة، والكبرياء، والاعتزال والاحترام، والعذرية، والطاعة. . . هذا وقد سجد عند قدميها شبحان عاريان يشعان نوراً ولألاء، وكانا يمثلان الأرواح الخاطئة، وكانا يتوسلان إلى العذراء أن تدرك أصحابهما برحمتها التي وسعت كل شيء فتمنحهم الخلاص
وقد صور الأخ الاسكندر في صحيفة أخرى أمنا حواء في حضرة العذراء البتول حتى يرى القارئ كيف تتمثل الخطيئة والفداء في حواء الذليلة ومريم الشماء!
ومن أحسن صوره أيضاً صورة بئر المياه الحية، وصورة النبع، والزنبقة، والقمر، والشمس، والجنة المغلقة، وما إلى ذلك مما ورد ذكره في نشيد الإنشاد. . . فهذه، وصورتا بوابة السموات، ومدينة الإله؛ كلها صورت في محبة العذراء ورسمت باسمها
وكان الأخ ماربود كذلك من أطفال مريم المخلصين. . . وكان ما يفتأ ينحت التماثيل من الحجارة فتتشعث لحيته وشعره وأهدابه بغبار الرخام الأبيض، وتنتفخ عيناه وتنهمر مدامعه؛ وبالرغم من سنه المتقدمة، وشيخوخته الضعيفة، فلقد كان ماربود يصل ليله بنهاره في عمل التماثيل في حب مريم لتباركه، وتثبت خطاه نحو الأبدية. . . وكان يمثلها محمولة في محفة، وتتألق على جبينها هالة من أغلى اللآلئ. . . وكان ينصب أكبر النصب في تجعيد ثنايا ثوبها من فوق قدميها ليسترهما. . . القدمين الحبيبتين قدمي العذراء، اللتين قال في صاحبتهما النبي:(حبيبتي أشبه بجنة مغلقة!)
وكان يمثلها أحياناً طفلة رائعة فينانة، تكاد تنطق فتقول:(يا يسوع! أنت إلهي!)
وكان في الدير رهبان شعراء ما ينون ينظمون في العذراء المقدسة أغانيهم باللسان اللاتيني. . . وكان فيهم زجال بيكاردي ينقل أغاريدهم إلى اللسان العامي الرشيق
شهد برنابا هذه الحماسة التي جعلت إخوانه الرهبان يتنافسون في خدمة العذراء وتقديسها، وتكريس كل ملكاتهم لعبادتها بالقلب وبالذهن وباليد وباللسان؛ فحزن حزناً شديداً، وراح يندب حظه، ويبث جهله المطبق وسذاجته وقلة معرفته، وكان يمشي مرة في ظلال الحديقة الصغيرة التي يحضنها سور الدير، فجعل يتفجع ويقول:(وا أسفاً لشد ما يحزنني ألا أستطيع أن أعبد عذرائي تلك العبادة القيمة التي يؤديها رفاقي الرهبان مع ما بذلت من حبي لها، وبرغم ما وقفت كل تقديسي عليها! ما أتعسني إذن يا أم الإله! أنا هذا الجاهل الغبي الذي يعبدك بلسان لا يعي إلا أتفه الأدعية وأحقر التسبيحات، وهو مع ذاك يرددها لا كما ينبغي. . . ويلي من غبي جاهل لا قدرة له على فن جميل، ولا عمل من ورائه طائل! أين أنا مما ينحت الناحتون للعذراء البتول، وما يصور المصورون، وما ينظم أولئك الشعراء من أغراد وأوراد! وا أسفاه! إني لا أملك من كل ذلك قليلاً ولا كثيراً!)
وهكذا ظل برنابا يتفجع ويتألم
وجلس مرة يصغي إلى رفاقه بينما كانوا يتلهون بالحديث فيما بينهم، فسمع أحدهم يقص حكاية الراهب الذي عاش عمره جميعاً لا يستطيع أن يعبد العذراء إلا بهذه العبارة القصيرة المقتضبة: سلام على مريم. . . سلام على مريم. . . يرددها في صباحه وفي مسائه، ولا يفتر عن ترديدها لسانه. . . وكان إخوانه يزدرونه لجهله وقلة عرفانه، فلما مات، وأقبلوا عليه، رأوا، ويا ما أغرب ما رأوا، أربع وردات نواضر قد خرجت من فمه، فعرفوا أنهن برزن ثمة تقديساً للأحرف الأربعة التي يتركب منهن اسم العذراء. . . وهكذا تقدس الراهب بعد موته، وبعد ما لقي من ازدراء رفاقه في الحياة الدنيا. . .
ولما سمع برنابا هذه الحكاية ابتهجت نفسه وغمر السرور قلبه وعظمت ثقته في مريم البتول الخيرة. . . بيد أنه لم يتسل بهذا المثل الجميل، لأنه كان يود لو استطاع أن يصنع مثل ما يصنع إخوانه من تقديس العذراء بالقلب واللسان وباليد. . . فراح يفكر ويفكر، ويعمل ذهنه في الوسيلة التي تنيله ما يريد. . . ولكن. . . عبثاً حاول أن يجد برنابا تلك
الوسيلة، فكان كل يوم يمضي يزيد في أحزانه، ويضاعف أشجانه
ثم استيقظ صبيحة يوم مشرق وقد بدا في وجهه البشر، وشاع في أعطافه السرور، فانطلق من صومعته إلى الكنيسة فدخلها، وأقفل عليه بابها، ثم لبث فيها أكثر من ساعة من الزمان، وخرج وقت الغداء فلم يغب طويلاً، ثم عاد إليها، وأقفل عليه الباب كما فعل في الصباح. . .
وظل منذ ذلك اليوم يذهب إلى الكنيسة في مثل هذه الساعة التي لا يفكر أحد من الرهبان في الذهاب إليها، لاشتغالهم بما أخذوا به أنفسهم من كتابة ونسخ وتصوير ونحت ونظم. . . وتبدل حال برنابا، فلم يعد يعاوده وجومه، وذهب عنه هذا الحزن الذي كان يلازمه دواماً. . . غير أن سلوكه المفاجئ قد أثار الغرابة والدهش في نفس رئيس الدير، الذي كان واجبه يقضي عليه بمعرفة كل ما يعمل رهبان الدير حتى في سرهم ونجواهم، فصمم أن يعلم من أمر برنابا ما أراد برنابا أن يجعله سراً مكتوماً. . .
ففي إحدى خلوات برنابا، ذهب الرئيس في صحبة زميلين من أكبر رهبانه سناً، ليروا ماذا يصنع أخوهم داخل الكنسية، ووقفوا يلاحظونه من ثقوب في الباب
ما شاء الله!!
لقد شهدوا الراهب المشعبذ وقد (تشقلب!!) أمام صورة العذراء المقدسة، بحيث وضع رأسه ويديه على الأرض، ثم راح يرسل كراته في الهواء ويتلقفها برجليه، ثم يتحوى ويتكور، ويرسل سكاكينه المرهفة ويتناولها في خفة ورشاقة بكلتا يديه، كما كان يصنع في أيامه الخوالي التي أكسبته الصيت والأحدوثة وأطيب الذكر. . ولم لا يصنع؟ أليس بهذا يضع ملكاته وخبرته الفنية وطول دربته في خدمة العذراء كما يصنع رفاقه؟ وما يصنع رفاقه غير هذا؟
لكن رئيس الدير لم يفهم شيئاً من ذلك، ولم يفطن إلى غرض المشعبذ النبيل، بل صاح وصاح معه زميلاه، ولعنوه اشد اللعن بما دنس هذا المكان المقدس واستباح حرمته! لقد كان الرئيس يعرف أن برنابا رجل ساذج مغفل، ولكنه ظن هذه المرة أنه قد فقد صوابه، فاندفع داخل الكنيسة واندفع في إثره زميلاه ليقذفوا به خارجها. . . ولكن! يا للمعجزة! لقد رأوا الصورة المقدسة تتحرك. . تتحرك، وتتقدم نحو برنابا. . . وقد مدت ذراعها الجميلة
النقية، وراحت تمسح قطرات العرق التي كانت تتصبب فوق جبينه، بمنديلها الأزرق الحريري
وسجد رئيس الدير حتى مست جبهته رخام الأرض وسجد وراءه زميلاه، وجعلوا يصلون هذه الصلاة
(مباركون الذين تطهرت قلوبهم وخلت من الخبث، لأنهم سيرون الله)
دريني خشبة
البريد الأدبي
متى تستقر نظم الدراسة في مصر؟
أشرنا في هذا المكان من قبل إلى المشروعات الجامعية الجديدة التي وضعتها وزارة المعارف لتعديل نظم الدراسة في الجامعة المصرية، ومنها مشروع يقضي بتخفيض مدة الدراسة في كلية الحقوق وإنشاء قسم جديد للتخصص (الدكتوراه)؛ وكان هذا التعديل مقدمة لمشروع شامل يتناول نظم الدراسة في جميع كليات الجامعة المصرية. فالآن نقول إن النية قد اتجهت إلى إلغاء هذه التعديلات كلها؛ وقد قيل في ذلك إن القوانين الجديدة قد وضعت بسرعة ودون تمحيص، ولم يؤخذ في شأنها رأي مجالس الكليات المختصة، وإن تعديل دستور الجامعة هو قبل كل شيء من شئون الجامعة ذاتها. وهذا كلام منطقي ومعقول؛ ولكن وراء ذلك كله حقيقة يجب أن تقدر قدرها، وهو أن هذا التعديل والإلغاء طوراً بعد طور سياسة خطرة على التعليم الجامعي فضلاً عن التعليم العام، وأنه يجب أن يوضع حد نهائي لهذه الثورات الفجائية في نظم التعليم الأساسية. ذلك أن هذه النظم مسألة قومية عامة يجب ألا تتغير بتغير الوزارات. وقد عانى التعليم وعانت الجامعة المصرية في عشرة الأعوام الأخيرة كثيراً من جراء هذه السياسة التعليمية المضطربة. وإذا كانت نظم التعليم لم تستقر بعد فإنه يحسن أن تبحث في روية وتمحيص، ثم توضع على أسس قومية ثابتة بعيدة عن العواصف والنزعات المختلفة. أما تلك التعديلات الفجائية السريعة التي أكثر ما يقصد بها تخفيف أعباء الدراسة عن جيل متبرم من الطلبة فهي خطر كبير على مستوى التعليم ومستقبل الجيل
الإسلام وكيف يعرضه كاتب تركي
كان الجنرال محمود مختار كترجيوغلو، أحد ساسة تركيا قبل الحرب قد وضع كتاباً عن القرآن وتعاليم الإسلام يعرض فيه ما يتفق مع المبادئ الحديثة من أصول الإسلام؛ وظهر هذا المؤلف بالألمانية ضمن مجموعة الكتب الشرقية بعنوان:(العالم الإسلامي على ضوء القرآن والحديث) وفي سنة 1935 ظهرت ترجمة فرنسية لهذا المؤلف بعنوان (حكمة القرآن) وبها تصدير بقلم المستشرق المعروف الأستاذ ماسنيون الأستاذ في الكوليج ده فرانس؛ وظهرت أخيراً ترجمة إنكليزية لهذه الترجمة الفرنسية بعنوان: (حكمة
القرآن) بقلم المستر جون نايش
وفي هذا الكتاب عرض لأصول الإسلام مستقاة من القرآن والحديث؛ ولكن على نمط جديد. ذلك أن المؤلف كما يبدو في مقدمته متأثر جداً بوجهة النظر الغربية ومطاعن الغرب في القرآن وأصول الإسلام. وهو يزعم أولاً أن القرآن لم يكن كتاباً منزلاً، وإنما هو من صنع النبي وصحبه؛ ثم يعرض مبادئ الإسلام وتعاليمه بصورة يحاول بها إخراج هذه المبادئ والتعاليم عن حقيقتها الإسلامية المعروفة؛ ويحاول أن يقرب بينها وبين بعض المبادئ والنظريات الغربية. وهو بهذه الصورة يعتبر في الواقع من الكتب الطاعنة في الإسلام. ومن بواعث الأسف أن يكون مؤلف هذا الكتاب تركياً مسلماً من رجال تركيا القديمة التي اشتهرت بالتمسك بأصول الإسلام. ولو صدر من أحد الدعاة الكماليين لما كان في صدوره ما يلفت النظر، لأن تركيا الكمالية دولة لا دينية. وعلى أي حال فلعل الجهات ذات الشأن تعنى ببحث هذا الكتاب الإلحادي لترى ما إذا كان يسمح بتداوله في بلد إسلامي كمصر.
(م)
إلى الدكتور زكي مبارك
يا أخي العزيز
قرأت رسالتك إلى الأستاذ الزيات؛ ولقد سرني والله أن تعنى وأنت في العراق بدفع تهمة العقوق عن أدباء مصر، وإنها لعاطفة وطنية نبيلة أعرف كل العرفان ما يدفعك إليها وأنت بعيد. ولقد كنت أتمنى لو كان دفاعك إلى جانب الحق لأدع لك أن تزهى وتستطيل بين أدباء بغداد ما شئت أن تزهى وتستطيل. ولكني لا أريد أن أظلم الحقيقة يا صديقي في سبيل رضاك. وبرغمي أن أصر على اتهام الأدباء المصريين بهذه التهمة السوداء!. . . وإلا فهل ترى العربية قد وفت دينها للرافعي لأنك والأستاذ المازني قد كتبتما مقالين في رثاء الرافعي غداة منعاه؛ ولأن طائفة كريمة من الأدباء لم تكن بينهم وبين الرافعي خصومة، قد نشروا في الرسالة مقالات في رثاء الرافعي؟
ما أهون شأن الرافعي وأهون بأدباء مصر جميعاً إن كان إلى هذا ينتهي عندهم واجب
الوفاء للراحل الذي عاش في خدمة العربية وآدابها خمساً وثلاثين سنة من عمر التاريخ، كلها جهاد ونشاط ودأب، ومات ولم يجاوز السابعة والخمسين. . .!
وتغضب يا صديقي لأني أضفتك إلى خصوم الرافعي في التعداد والإحصاء مع أن الخصومة لم تنشب بينكما غير خمس مرات؛ فمعذرة إليك أيها الصديق من هذه التهمة الباطلة لأن الخصومة لم تنشب بينكما غير خمس مرات. . . على أن لي رجاءً إلى الله - أيها الصديق - أن يكون هذا الحرص الشديد على نفي ما كان بينك وبين الرافعي من خصومة، عاطفة صادقة ورأياً صريحاً؛ فإن شيطاناً تعرفه يهمس في أذني بأنك لم تكن لتحرص كل هذا الحرص إلا زلفى إلى أدباء العراق لأن هواهم مع الرافعي
وبعد فوالله ما كان لي أن أزعم التفرد بذكرى الرافعي ولا قلتها، ولو قلتها لما كذبت؛ ولوددت والله أن أكون آخر من يذكر في الكاتبين عن ذكرى الرافعي ولا أشهد في أدباء مصر هذا العقوق!
أما (فلانة) فخل عنك حديثها يا صاحبي، فما أظنك كنت تنتظر أن تقول لك وأنت تجلس معها جنباً إلى جنب في الجامعة:(إن بيني وبين الرافعي لشأناً مما يكون بين الرجال والنساء!)
على أني قد حددت ما كان بينها وبين الرافعي بزمانه، بين سنتي 1923، 1924، وما كان بينك وبينها يومئذ شيء ولا كانت تجلس إليك؛ لأنها كانت قد زهدت في دروس الجامعة قبل ذلك بسنوات وانقطع الود الذي كان وتجافى جنب عن جنب. . .!
فإن كنت ما تزال تنكر ما رويت من خبرها وخبر الرافعي بعد هذا فالتمس العلم عند غيري، فستجد كثيراً من أصدقائك الذين تثق بهم يعرف من خبرها ومن خبره ما أعلم وما رويت؛ وما كنت شاهد مجلسهما فأروي عن عيان، ولكنه من حديث الرافعي تحدث به إلي وتحدث إلى كثير؛ وعند الدكتور محمد الرافعي من رسائلها إلى أبيه يخطها ما يشهد لي ويحسم كل خلاف
وتزعم أنني حاولت إيهام قرائي بأن الرافعي قد كسب المعركة بينه وبين الدكتور طه حسين. فليكن هذا الزعم صحيحاً يا صديقي فلا علي منه؛ ون وقائع الدعوى لمبسوطة أما الأدباء يحكم فيها من يشاء بما يشاء؛ وليس يهمني أن يكون الحكم للرافعي أو عليه مادمت
أكتب للتاريخ
أما بعد فأين هي الأخطاء التي تراها في هذه المقالات؟ وما أصبرك عليها يا سيدي وللتاريخ حق عليك وللعربية حق؟
إنه واجب أؤديه غير مأجور عليه من أحد إلا وفاء لصديق أحللته من نفسي وأحلني من نفسه، ووفاءً للتاريخ؛ فإن كان فيما أكتب عنه شيء تراه إلى الخطأ فإن للعلم أمانة عندك لا يقيلك منها شفيع الزمالك ومصر الجديدة. . . وإنه ليسرني أن يكون الدكتور زكي مبارك هو الذي يحاول تصحيح أخطائي وبيني وبينه ما بين القاهرة وبغداد؛ ولكن احرص يا صديقي على أمانة العلم. ولا تكن أخطائي عندك من مثل ما قدمت: دعوى بلا بينة، وإلا فراحة لك أولى وأنا عذيرك
والسلام عليك ورحمة الله
(شبرا)
محمد سعيد العريان
من أوراق البردي المصرية
كتب العلامة الأثري الدكتور فريدمان، لمناسبة ما قرره مؤتمر الأوراق البردية من الانعقاد في مدينة فينا لسنة 1939، يصف مجموعة أوراق البردي المصرية والعربية القديمة التي تحتفظ بها المكتبة الوطنية النمسوية ويقول إن هذه المجموعة هي الثانية في العالم من حيث كميتها وقيمتها الأثرية، وإنها حملت من مصر إلى النمسا في أواخر القرن الماضي، واشتراها الأرشيدوق رينر ثم وهبها بعد ذلك للمكتبة الوطنية. ومن أنفس أوراق هذه المجموعة وثيقة ترجع إلى نحو ثلاثة آلاف عام، وهي وثيقة زواج تعس تبسط فيها الزوجة، واسمها أرتميزا، قصة شقائها وبؤسها، وهي يونانية تزوجت في مصر، ثم أساء زوجها معاملتها فكتبت قصتها وشفعتها بالدعاء بلعنه. وكان المعتقد في ذلك العصر أن مثل هذه اللعنة تلحق المذنب مادامت محفوظة في أحد المعابد المقدسة، وهو نوع من السحر الأسود كان ذائعاً في العصور القديمة. ثم وثيقة عربية كتبت على البردي وترجع إلى القرن الأول الميلادي وموضوعها كتاب غرام بعث به عاشق إلى حبيبته، وجملته حمامة
من الحمام الزاجل إلى حيث توجد المحبوبة، وعدة كتب فرعونية من كتب الموتى وغيرها. وستعرض هذه المجموعة لأنظار العلماء حينما ينعقد مؤتمر أوراق البردي الثاني. ومن المعروف أن هذا المؤتمر قد اعرف بوجود علم جديد يسمى (علم الوثائق البردية) أو البابيرولوجيا
مغامرة علماء في القطب الشمالي
نذكر أن بعثة جوية من العلماء الروس كانت قد طارت منذ أشهر إلى القطب الشمالي، ونزلت هنالك على بسيط من الجليد وأقامت منازل من المطاط لإقامتها، وكانت الطائرات السوفيتية تمونها بما تحتاج إليه من الأغذية والشحم؛ ولكن حدث بعد أسابيع من إقامتها في هذا الجليد النائي أن انفصلت الكتلة الثلجية التي تعيش فوقها وذلك في شهر مايو الماضي وأخذت تسبح ببطء نحو الجنوب؛ وعليها من علماء البعثة الأساتذة بابانين وكرنكيل وشرشوف وفيدروف ومنازلهم وأدواتهم العلمية، وبذلت من ذلك الحين عدة محاولات لإنقاذهم من هذا المأزق دون جدوى، فاكتفت السلطات بتموينهم من الجو. وأخيراً صرح الأستاذ أوتوشميدت رئيس البعثة، وكان قد عاد إلى موسكو قبل انفصال الجليد، أنه لم يبق خطر على البعثة، لأن الكتلة الثلجية التي تعيش عليها تسير في طريقها جنوباً، وقد تصل إلى جزيرة الأرض الخضراء في شهر أبريل أو مايو، ويفصل بين القطب الشمالي وساحل الجزيرة الخضراء الشمالي الشرقي مسافة شاسعة قطعت بها إلى الآن كتلة الجليد نحو ألف وخمسمائة كيلومتر منذ 21 مايو الماضي، وهي تسير بسرعة ستة كيلومترات في اليوم. والكتلة الثلجية صلبة جداً وعمقها ثلاثة مترات ومساحتها كيلومترين. وتستعد الحكومة السوفيتية لأن ترسل إلى الأرض الخضراء سفينة الجليد (مورمانتز) لتختبر حالة الثلوج وتتصل بالعلماء المحصورين بالراديو، وتهيئ مطاراً في جزيرة رودلف القريبة من مكان الحادث
اقتراح
سيتحدث كثير من العلماء والأدباء عن الأزهر وتاريخه وشئونه بمناسبة عيده الألفي؛ وسنعلم عنه كثيراً فوق ما نعلم اليوم، على حين أن هناك معاهد عظيمة لا تقل عن الأزهر
في أمجادها وعظمتها وخدمتها للعلم والإسلام لا نعلم عنها شيئاً، كجامع القرويين في فاس، وجامع الزيتونة في تونس، وجامع النجف في العراق، على حاجتنا الماسة إلى معرفة طرق التدريس فيها وأوضاعها وأحوال طلابها ومدرسيها، لأننا في مطلع نهضة عامة وتعارف بين الأقطار الإسلامية، ولا يتم التعارف إلا إذا بدأ من المدارس والجوامع مصانع الرجال ومعامل المستقبل. فهل يتطوع بعض الأدباء من إخواننا الفاسيين، أو التونسيين، أو النجفيين، ممن له وقوف على سير هذه المعاهد وأوضاعها فينشر فصولاً مختصرة في الرسالة يبين فيها تاريخ هذه المعاهد، والأدوار التي مرت عليها، وطبقات الطلاب والمدرسين فيها، والكتب المقررة، وأصول الدرس فيها، فيخدم بذلك التاريخ والعلم والنهضة الجديدة؟
(بيروت)
علي الطنطاوي
الكتب
كتاب قصص القران
للأساتذة جاد المولى بك، محمد أبو الفضل، علي البجاوي، السيد
شحاته
للأستاذ أحمد أحمد التاجي
عرض للكتاب ومنحاه
عرف الناس من سنين أن في الأدب العربي كنوزاً مخبوءة تحت الرجام، ودرراً منثورة في قاع اليم، تحتاج في استخراجها إلى الغواص الماهر. ولكن أحداً لم ينبر لتلك الكنوز يرفع عنها الأنقاض، ولتلك اللآلئ يستخرجها من الظلمات ويعرضها للأنظار
ومن بضع سنوات فقط قام نفر من الكرام - والكرام قليل - ينبشون الأطلال ويستخرجون اللآلئ، فحظي أدبنا في السنوات الآخر بما لم يحظ بمثله في السنين الخوالي
رأينا الأستاذ (الزيات) يكتب في جريدة (النديم) أولاً (والرسالة) ثانياً قصصاً رائعة اقتبسها من أنوار العربية وحلاها وجلاها، وزاوج بين الحقيقة والخيال فيها. فزفها للقراء عرائس مياسة. وكانت قصة وضاح أول ما طرق سمعي على ما أذكر في هذا المنهاج
وكتب الدكتور (طه) في هامش السيرة فكان أجمل آثاره عند كثير من الناس. وتقدم (الرافعي) إلى الميدان فجال وصال وأتى بما لم يأت به إنسان. ولكنه في بعض أقاصيصه أمعن في السير وراء الأفكار يطاردها ويولدها فاختفى وراءها فكتب فأغرب فعز أدبه على كثير من الناشئين
ومع ذلك فإننا نعتبر (وحي القلم) أعظم مجهود في إحياء روائع أدب القديم. وكتب الأستاذ الحكيم (محمد) وحباه الله التوفيق
وتنبه الأدباء لهذه الناحية، فاقتحموا المناجم، وغصوا وراء كريم المعادن، وخرجوا بملء أيديهم جواهر ونضاراً ونشروا ما عثروا عليه في المجلات والصحف فأعجبوا وأطربوا، من هؤلاء الأساتذة (الطنطاوي) و (خشبة) و (العريان) و (عين شوكة) وغير هؤلاء
وأعود الآن إلى الكتاب الذي دعاني إلى التمهيد بهذه الكلمات ألا وهو (قصص القران)
فأقول إنه يسلك في نهج (وحي القلم)
إن لم يكنها أو تكنه فإنه
…
أخوها غذته أمه بلبانها
رأيت فيه مجهوداً عظيماً لذلك النفر الكرام جمع حلاوة اللفظ، وإشراق الفكرة، ولطف الانسجام بين المبنى والمعنى والحقيقة والخيال. فجاء كخيال الحسناء في المرآة. ولا بدع فهو ظل لقصص الله، ولو جاز لي أن أقتبس كلمة سعد العالية لقلت:(إنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم)
جرى الأفاضل وراء ما قصه الله الذي يقول: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القران) فأفاضوا القول في كل قصة، وبسطوا ما ذكر رمزاً في كتاب الله، وحشدوا الأسباب وعللوا، واستخرجوا الموعظة وذيلوا، وحققوا الزمان والمكان والإنسان، وصوروا البيئة بجميل الألوان، ونطقوا عن الألسنة بما يجاري الحق والتاريخ وإن كان لقاحاً بين الحقيقة والخيال، فأتوا بالعجب العجاب. والكتاب جليل الموضوع لم يطرقه أحد من قبل - على ما نعرف - بهذا البيان والاستعداد، وهو من الكتب التي تألفها الروح وتجد فيه غذاءها. غير أن بعض قصصه - وهو قليل - نزل أسلوبه عن معظمه، وأظن ذلك من ضرورة الشركة، وهو على كل حال كتاب قيم جليل
أحمد أحمد التاجي
حركة الكشف
للكشاف أحمد الشربيني جمعة الشرباصي
بين يدي الآن هذا الكتيب الصغير، دفعه إلي رسول من مؤلفه يرجوني أن أنظر فيه وأكتب عنه، وأنا رجل عفت الكتابة عن المؤلفين والكتب من زمان؛ فما بي طاقة على أن أظلم نفسي فأقول للمسيء أسأت فأتعرض لغضبه أو عتبه، وما لي طاقة على أن أغش قرائي فأقول عن الرديء إنه حسن وما فيه إلا حسن العاقبة لنفسي. . .
ولكن ما بال هذا الكتاب يدعوني إليه فأفرغ له، فلا أدعه حتى أتمه، ولا أتمه حتى أهم بالكتابة عنه، ولا أهم بالكتابة حتى تنثال علي المعاني انثيالاً ويمضي بي الفكر إلى غايته؟
لا، لم يكن هو الكتاب ما دعاني إلى ذلك بما فيه ولكن بما حوله، وليست هي مادته ولكن
مؤلفه وظروفه: هذا فتى أزهري يطل عليك وجهه في الصفحة الأولى من الكتاب، بعمامته الصغيرة، وجبته المزرورة، وبنيقته المراغية البيضاء. . . وما كنت تتوقع هذا ولا شك، وأحسبك ستدهش دهشتي حين تقرأ هذا فتسأل نفسك: ما لهذا الفتى الشيخ؟ وما جاء به إلى هنا؟ وستفكر في كل جواب لسؤالك إلا أن يكون هذا الشيخ الصغير هو مؤلف الكتاب. . .
إي وربي إنه هو مؤلفه، وإنه هو هو أحمد الشربيني جمعة الشرباصي الكشاف، بعمامته الصغيرة، وجبته المزرورة، وبنيقته البيضاء. . . كشاف أزهري بعمامة! لوددت والله بما تشاء من ثمن أن أرى هذا الكشاف الشيخ في ملابس الميدان، لأرى كيف يستر ركبتيه العاريتين في سراويله القصير وعلى رأسه عمامته وعلى ظهره راويته وسفرته. . .
هاهو ذا أزهري فتي يضرب المثل لإخوانه الأزهريين في الفتوة الرحيمة التي تعمل للإنسانية. يا له من فتى متمرد! لا، لا تسموه متمرداً، إنه فتى يعرف ما عليه من تبعات الرجولة في غد فأعد للغد عدته، فلا عليه إن كان هو وحده الفتى الكشاف في الأزهر الكبير وروافده. إنني لفخور به
ليت شعري، هذه فرق الكشافة تنتظم تلاميذ المدارس عامة فلماذا لا نرى في الأزهريين فرقة كشافة؟ أترى تلاميذ المدارس اللدن الصغار أقدر على خشونة الكشافة من شباب الأزهر، أم يرون الفتوة عاراً لا تليق برجال الدين. . .؟ إنهم لأصح جسماً وأوفر نشاطاً وأقدر على مشقات الكشف والرحلة من هؤلاء الصغار، وإنهم ليعلمون علم اليقين أن دينهم هو دين البساطة التي يؤثرها الكشاف، ودين القوة التي يدعو لها الكشاف، ودين النجدة التي يعد لها نفسه الكشاف، فأين هي فرق الكشافة في الأزهر وروافده؟
إن لدي لكلاماً كثيراً أخشى أن أقوله فيغضب من لا أريد أن يغضب، فحسبي ما قدمت من قول وحسب الأزهريين، وليس حسبهم أن يكون فيهم كشاف واحد يشعر بوجود نفسه هو هذا الكشاف!
وبعد فهذه خواطر من وحي هذا الكتاب في نفسي، وما أريد أن أعرف عنه بأكثر من ذاك؛ ولكنه كتاب نافع على كل حلا: نافع للأزهريين عامة ليعرفوا به عن الكشافة ما قد يحببهم فيها فيكونون جنودها، ونافع للكشافين عامة ليبصرهم بكثير مما قد يغيب عنهم من واجبات الكشاف، ونافع لمعلمي فرق الكشافة في مختلف المدارس لعلهم يجدون فيه مادة يدرسونها،
ونافع لكل قارئ لأن فيه أبواباً من العلم والتاريخ والتسلية تلذ كل قارئ؛ وقد نفعني أنا أيضاً لأنه نبهني إلى ما قدمت من قول عن الرياضة والكشف والرحلات في برنامج دراسة الأزهريين. أترى مؤلفه قد انتفع به كما انتفع كل هؤلاء؟
بارك الله في هذا الكشاف البطل ونفع به
(س)