المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 237 - بتاريخ: 17 - 01 - 1938 - مجلة الرسالة - جـ ٢٣٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 237

- بتاريخ: 17 - 01 - 1938

ص: -1

‌النشر في مصر

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

قرأت ما كتبه الأستاذ الدكتور عبد الوهاب عزام عن (التأليف والنشر في مصر). وقد روى فيه أن أحد أصحاب المعالي وزراء الدولة في الحكومة القائمة دعا إليه جماعة من الكتاب وحدثهم في تنشيط التأليف في مصر ومكافأة المؤلفين ووعد في هذا وعوداً حسنة.

وهذا صحيح، فقد روى لي مثله صديق من الكتاب، ولا علم لي بما ينوي وزير الدولة أن يصنع، وأحسبه لا يزال يستطلع الآراء ويستشير أهل الذكر في هذا، فلندع له بالتوفيق، ولنسأله تعالى ألا يشغله بما هو أهم وأولى بعناية وزراء الدولة، من شئون الدولة، ولو كنت مكانه لكان حسبي أن أستطيع تنظيم أمور النشر على وجه صالح ونحو عادل، ولتركت غيري من الوزراء يحملون الأعباء الأخر.

وخلاصة التجارب في هذا الباب أن الأدب في مصر لا يُعوَل عليه في أمور المعاش، وأن الأديب الذي ليست له صناعة أخرى يرتزق منها ويحيا بها خليق أن يموت جوعا. وقد كان المرحوم السباعي يقول على سبيل المزاح: إن الأديب ينبغي أن يكون أديباً وشيئاً آخر. . . طبالاً، أو زماراً، أو عواداً، أو غير ذلك مما يجري مجراه. والذي كان يقول هازلاً. هو الجد الصميم. ودع الطبل والزمر وما إلى هذا فما كان يريد إلا السخرية والنكتة، وكانت المرارة التي يحسها في نفسه تفيض على لسانه على هذا النحو. على أن الواقع مع ذلك أنه لا غنى للأديب في مصر عن مرتزق غير الأدب، يجعل معتمده بعد الله عليه. وما أعرف في هذا البلد أديباً وسعه أن يجتزئ بالأدب؛ ولو كان هذا مما يدخل في الطاقة عندنا لكنتُ من أحق الناس بالقدرة عليه.

وكلام فارغ كل ما يقال عن الحرفة وإدراكها للأديب، فما تفعل ذلك إلا في مثل بلادنا، وحتى أدباء العرب وشعراؤهم لم يدركهم شيء من الحرفة، وإنما كانوا هم المجانين، إلا إذا كان المقصود أن بلاء الحرفة من النفس؛ على أن هذا مبحث آخر، قد نعود إليه في فصل آخر.

وقد جربت كل وسائل النشر في مصر، وانتهيت إلى أن الأمر لا ينقصه سوى التنظيم. ففي مصر والبلاد العربية الأخرى عدد كاف من القراء يستطيع الكاتب أو الشاعر أن يعول

ص: 1

عليه وهو مطمئن إليه، ولكن من العبث والعنت أيضاً أن تجشم الأديب فوق عمله أن يقوم بأعباء الطبع والنشر، وأن تتوقع أن يجني من كل هذا العناء ربحاً عادلاً. وليس لهذا الخلط من نتيجة سوى الاضطراب وفقدان الحقوق. وقد جرب كل أديب في مصر أن يتولى هو هذه الأعباء جميعاً وأن ينهض وحده بها جملة، فأخفق. وليس الإخفاق ألا تجني شيئا، بل أن تجني كل شيء ولا تشعر أنك جنيت شيئا. ولا أذكر هنا ما جرب غيري، فبحسبي ما جربت، وقد نشرت كتباً توليت أنا أمر طبعها ونشرها، ونفدت في زمن معقول، ولكن أصحاب المكاتب يختلفون، ولا سبيل إلى الاستغناء عنهم، وفيهم الأمين ذو الذمة، وفيهم الطامع المنهوم الذي لا يشبع ولا يرضيه إلا أن يخطف كتبك بغير ثمن. ومع ذلك لا يسعني إلا أن أعترف بأني ربحت، وإن كنت لم أشعر بذلك ولم أر له أدنى أثر في حياتي. وإذا حسبت الحساب على الورق وأحصيت ما أنفقت وما حصلت كانت النتيجة أني جمعت مبلغاً من المال لا يستهان به، ولكنه مال على الورق، لأني أنفقت جنيهات رجعت ألي قروشاً مبعثرة ذهبت إلى الشيطان وجربت أن ينفق غيري على طبع كتبي ويتولى عني نشرها ثم نتحاسب، فوقع لي ما يضحك وما يبكي. وأحب أن أستثني طائفة من الجادين المخلصين، وأقول بعد ذلك إن بعضهم نشر لي كتاباً طبع منه أربعة آلاف نسخة نفدت كلها في عام، وشرع يطبع لي كتاباً ثانياً، فقلت أحاسبه، وطلبت منه نصيبي، فكان جوابه الظريف أن دع الكتاب الأول فما أعرف أين ذهب، ولعلهُ سُرق أو حرق، ولنقصر الحساب - في أوانه - على الكتاب الثاني إن شاء الله!

فقلت له: يا أخي غفر الله لك! هل حسبتني هاوياً؟ أم ظننتني أني بائع كوارع؟ إن هذه صناعتي وهي مرتزقي، فإذا لم آخذ حقي فكيف بالله أعيش؟

فابتسم وربت لي على كتفي ملاطفاً، وقال:(العفو! العفو يا أستاذ، لا تقل هذا الكلام! سبحان الله العظيم!).

يعني أنه لا ينبغي لي أن أقول إن هذه صناعتي ومرتزقي! ويظهر أنه كان صادقاً وكنت أنا المخدوع، فقد عشت من غير أن آخذ منه حقي - ولا نصف مليم واحد منه!

وينفد الكتاب - عدة آلاف من نسخه - ثم يتبين لك أن الإسكندرية أو طنطا أو المنيا تسمع به وأن ما بيع بيع معظمه في مدينة واحدة هي العاصمة، والباقي رص في الصناديق

ص: 2

وشحن على البواخر إلى الهند والعراق ومدغشقر الخ وتجيئك الكتب تترى بذلك، فتعلم أن النشر غير منظم، وأنه كان في وسعك أن تخرج للناس من كتابك أضعاف ما أخرجت لو أن هناك نظاماً.

والعلاج عندي ليس أن تعين الحكومة الأدباء، فإن هذا يفضي إلى الظلم والغبن، ولكل حكومة من تؤثرهم بعطفها وبرها؛ والأدب ينبغي أن يبقى حراً، وإلا فسد، وتعفن. ولو أن الحكومة أرادت الإنصاف وصدقت نيتها فيه، لوجدت أن الأمر يوشك أن يفشو عليها، والنتيجة المحققة على كل حال هي التمييز والغمط.

إنما العلاج الصحيح العملي أن تقوم شركة ذات راس مال كاف تتولى النشر، وتنظم أسواقه في البلدان العربية كلها، وترتب الأمر فيما بينها وبين الصحافة على نحو يكفل التنويه الوافي في أوانه، وقد استطاعت دور السينما أن تنظم علاقتها بالصحافة على وجه مرضي، فلن تعز عنه دار النشر. وبذلك يستريح الكتاب ويطمئنون على حقوقهم، ويثقون بسعة النشر ويوقنون من إمكان التعديل على ما يخرجون كما يفعل زملاؤهم في الغرب.

وفي هذه الحالة يتسنى ما لا يتسنى الآن: الطبع الجيد، والحجم الموافق، والربح المضمون، ومع ذلك انتظام عمل الأديب وإتاحة الفسحة الكافية من الوقت للتفكير والكتابة والإتقان.

هذه - فيما أعتقد - هي الوسيلة العملية؛ فإن الأسواق موجودة، والقراء يعدون بالآلاف في كل قطر، والصحافة أداة وافية: فالأمر لا ينقصه إلا التنظيم؛ وهذا لا يكون إلا بالمال الكافي، فهاتوا لي المال، ثم انظروا ماذا أصنع لكم يا إخوان! ولا تخافوا أن أبدده. نعم. ستحدثني نفسي بذلك وتحاول أن تحملني عليه، ولكني سأقاومها، وسأروض نفسي على هذه المقاومة من اليوم، فلا تخشوا شيئاً، ولا تقلقوا على مالكم، ومع ذلك فلأن أبدده أنا خير من أن تضيعوه أنتم. ومتى كنتم تحسنون الإنفاق؟

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 3

‌ليلى المريضة في العراق

للدكتور زكي مبارك

- 6 -

وما كانت ظمياء تفوه بالعبارة الأخيرة حتى ابتدأت أوقن بأني سأهتدي إلى سر ليلى. وقد عرفت أيضاً أنه لابد لي من التجمل والتوقر حتى يصل الحديث إلى مداه، فقد قضيت دهري وأنا أرعن أهوج لا أكاد أسمع الحديث عن الحب حتى يفتضح وقاري أشنع افتضاح. ولن أنسى ما حييت تلك الخسارة الفادحة التي قضت بأن يطوى عني إلى الأبد سر السيدة (ن) فقد كانت عرفت من صواحبها أن شفاءها عندي، وجاءت الشقية إلى عيادتي بشارع المدابغ، فلما فحصتها تبين أن العلة لها سبب مدفون، وكنت بحمد الله ولا أزال من أقدر الأطباء على تفرس المحجب من سرائر النفوس. . . انهدَّت تلك السيدة على المقعد، وبدأت أحاورها في ماضيها لأعرف سرَّ العلة، فما كادت تقرأ السطر الأول من صحيفة ذلك الماضي حتى طار صوابي، فوضعت يمناها على صدري، ولكن الشقية لم تمهلني وأفلت كالظبي المذعور. وبذلك طُوِي عني سرها إلى الأبد. وكانت تلك الحادثة سبباً في انتقالي من شارع المدابغ إلى شارع فؤاد.

وما احسب ظمياء إلا صورة من السيدة (ن) وربما كانت أفظع وأعنف فهي عراقية، والعراقيون تغلب عليهم سرعة الانفعال؛ والمرأة العراقية فيما سمعت ورأيت لا تسكن إليك إلا إن ضمنت حسن الأدب وكرم العفاف، وهي عندئذ لا تحتاج إلى من يستدرجها لمعسول الأحاديث، وإنما تنطلق كالبحر الثجاج، فإذا ارتابت في أدبك. . . لا أدري ما تصنع فإن الله رحمني من أمثال هذه المواقف منذ قدمت العراق، وهو عز شأنه قادر على أن يردني إلى وطني مُشرق الجبين.

وجملة القول أني تجلدت وتماسكت، فمضت ظمياء تتحدث، ومضى المطر يقرع النوافذ كأنه عذول، وبين القلب الخافق والسحاب الدافق صلات يعرفها من يؤمنون بوحدة الوجود.

- ثم ماذا يا ظمياء؟

- ثم وقف قطار المعرض، فلم تنزل ليلى ولم ينزل الفتى ذو العينين الخضراوين. ودار القطار دورة ثانية قطعتها في ذهول.

ص: 4

- وأنت أيضاً تحبين يا ظمياء؟

- ألست إنسانة، يا سيدي الطبيب؟

(وهنا رأيت من الحزم أن أعلن نزاهتي، فأفهمتها أني أنكر عليها هذه البدوات، لأن الذي يهمني هو الوقوف على سر ليلى، واشهد أني لم أجد صعوبة في اصطناع هذا النفاق، فقد مرنت عليه بفضل ما ابتليت بالمنافقين الذين تقدموا وتأخرت. ويكفي ما مر بي من التجارب، وأخشى أن تقنعني الأيام بأن النفاق سيد الأخلاق).

- أنت يا مولاي طلبت أن أقص الحديث كما وقع

- كما وقع لليلى، لا كما وقع لك يا ظمياء، فأنت في عافية وليلى هي المريضة، والحكومة المصرية لم تكلفني استقصاء أخبار المتيمين في العراق، وإنما كلفتني مداواة ليلى المريضة في العراق.

- فهمت يا سيدي فهمت.

- زين، زين، ثم ماذا؟

- ثم وقف القطار فتلاحظ العاشقان.

- عاشقان؟ وهل يتم العشق في لحظة؟ هل نحن في السينما يا ظمياء؟

- وقع التلاحظ بين ليلى وبين ذلك الفتى، والتعبير بالعشق من عندي.

- شيء جميل! في أية مدرسة تعلمت يا ظمياء؟

- في المدرسة التي تعلمت فيها ليلى، وهي المدرسة التي أنشأها حكمت سليمان في سنة 1911 بعد إعلان الدستور العثماني؛ وكان حكمت سليمان مدير المعارف في بغداد، وكان تعليم الفتاة في تلك الأيام من المسائل التي يختلف حولها المسلمون، فكانت ليلى أولى فتاة قُيد اسمها في تلك المدرسة.

(وهنا دونت في مذكرتي أن ليلى قديمة العهد بالثورة على مأثور التقاليد، وهذه نقطة مهمة سأعرضها على المؤتمر الطبي، ولعلها تكون السبب في كشف كثير من الأسرار، فالثورة على التقاليد تحدث رجة في المخ والأعصاب، كما حدثنا المسيو ديبويه وهو يحاضرنا بكلية الطب في باريس، وهو أستاذ فاضل كنت السبب فيما وقع بينه وبين زوجته من شقاق).

ص: 5

- وهل درتم بالقطار دورة ثالثة؟

- لا، يا سيدي، فقد خشيت ليلى أن تفطن إليها العيون فنزلت ونزل الفتى، ولكنه أقبل عليها يقول: هل أستطيع أن أرشد السيدة إلى محتويات المعرض؛ فأني أراها غريبة بهذه البلاد؟ ولكن ليلى لم تلتفت إليه، وانصرفنا ساكتين. وعرف الفتى أن سهمه أخطأ فمضى كاسف البال.

- وبعد ذلك؟

- مضينا بعد ذلك إلى البيت الذي نزلنا فيه بشارع قصر النيل، وكان الحديث على المائدة من أشهى ما يكون، فقد كانت الجرائد نشرت حديثاً لرجل مشهور اسمه سعد زغلول، وكانت ربة البيت تحب إمتاعنا بصور الجدل السياسي في مصر، فأحضرت نحو عشرين جريدة فيها الرفض والقبول لذلك الحديث، ثم أحضرت صورة كاريكاتورية نشرت في الكشكول لكاتب معمم اسمه عبد العزيز البشري فيما أتذكر، وصورة أخرى للشيخ بخيت وهو يعترض على دخول السيدات أروقة البرلمان، وكان الجو كله جو ضحك، ولكن ليلى لم تبتسم. ولعلها لم تعرف كيف كان الطعام في ذلك اليوم.

- مسكينة ليلى!

- نعم، يا سيدي، مسكينة، فقد قضت ليلة مؤرقة، ثم أزعجتني من نومي قُبيل الفجر لأستعد للعودة إلى المعرض.

- ورجعتما إلى المعرض؟

- رجعنا، رجعنا، وركبنا القطار عشرين مرة.

- عشرين مرة؟ ولماذا يا حمقاء؟

- لنرى الفتى ذا العينين الخضراوين!

- ورأيتماه؟

- ما رأيناه، وإنما رأينا أنضر منه وأصبح، رأينا فتياناً كاللؤلؤ المنثور هم الشاهد على أن مصر من الحقول التي تُنبت الجمال. وقد أمتعت عيني بمن رأيت، ولكن ليلى ظلت صريعة الهم والبلبال.

- مسكينة ليلى!

ص: 6

- هل تسمح لي أن ألطم يا سيدي؟

- تلطمين؟ إنك لبغدادية ظريفة يا ظمياء. ما يهمني أن تلطمي، وإنما يهمني أن أسمع بقية الحديث.

- لم تكن ليلى تقول إنها ترجع إلى المعرض لتبحث عن ذلك الفتى، وإنما كانت تدعي أنها تحب الوقوف على سر تقدم الزراعة والصناعة في الديار المصرية. وحملتها هذه الدعوى المزيفة على شراء عدة نماذج مما أنتجته حقول سملاي، وهي النماذج التي عرضها السيد محمد محمود.

- سمعت بمعروضات هذا السيد يا ظمياء.

- وكتبت ليلى مقالة في وصف المعرض نشرتها في جريدة (البلاغ).

- سبحان الله! لقد قرأت تلك المقالة في ذلك الحين وكنت أحسبها من إنشاء ليلى الصحيحة في حلوان.

- لا، يا سيدي، هي من إنشاء مولاتي، شفاها الله!

- آمين، ثم ماذا يا بلهاء؟

- قلت إن ليلى كانت تترد على المعرض بدعوى الاطلاع على أسباب تقدم مصر في الزراعة والصناعة، أما أنا فكنت أعرف ماذا تريد، وقد استمرت هذه الدعوى أسبوعين، ثم يئست ليلى مما تريد، فلم تذهب إلى المعرض بعد ذلك.

- وبهذا انتهت القصة؟

- لا يا سيدي، فقد زعمت ليلى أنها شبعت من المعرض، وشبعت من الأخبار الحديثة في القاهرة، وصرحت بأنها تحب أن ترى القاهرة المعزية، علها ترى ما يذكرها بأحياء بغداد؛ فصحبتنا ربة البيت إلى حي يسمى الغورية، فدخلنا الحمزاوي والفحامين، وشهدنا حارة اسمها وكالة (أبو زيد) وفيها تجارة السيد (. . . . . .) الذي يبيع أدوات السمنة للسيدات، فوقفت ليلى عنده لحظة، ثم انصرفت. وفي خان الخليلي رأينا سيدة ملفوفة كأنها من عقائل بغداد، فحيتنا على غير معرفة، فردّت ليلى التحية بلهفة واشتياق. وأحببت أن أعرف سر هذه الحماسة من ليلى، فنظرت إلي تلك السيدة فرأيت عينيها خضراوين!

- أعوذ بالله!

ص: 7

- تستعيذ بالله يا سيدي من ذلك؟

- نعم، أستعيذ بالله من شر العيون الخضر، فهي سبب بلائي في هذا الوجود. ثم ماذا يا ظمياء؟

- ثم عرضت تلك السيدة أن تصحبنا لزيارة معالم القاهرة وقالت إن زوجها أستاذ في الأزهر وأنه ينتظرها عند المعلم حسين الجريسي. ونظرت فرأيت ليلى تمشي وهي نَشوى من الانشراح كأنها تلمح من وراء الغيب أعلام الأمل المرموق.

وما هي إلا لحظات حتى كنا في حضرة شيخ جليل اسمه الشيخ دعّاس.

- الشيخ دعّاس؟

- نعم يا سيدي، الشيخ دعاس، وهو الذي أنجب أحمد وإبراهيم وجلبي وسيد ومحمود، وهم زينة الرجال في بلاد النيل.

رضي الله عنهم أجمعين، ثم ماذا؟

- ثم تعلل ذلك الشيخ بضيق الوقت، ودعانا إلى تناول القهوة في منزله، فركبنا سيارته ومضينا إلى داره في حيّ الزمالك. ولما دخلنا أبصرنا فتاة هي قيد العيون، بل قيد القلوب، اسمها درية، فسألنا عنها فعرفنا أنها ابنة الشيخ دعّاس، وابنة السيدة نجلاء، ونظرت ليلى إلى تلك الفتاة فلم ترى عينيها خضراوين، وإنما رأت عيونها عسلية، وهو اللون الغالب على عيون المصريات، وهو لون ينطق عن السحر الحرام والحلال.

- اتق الأدب يا ظمياء، فأنت في حضرة طبيب!

- الطبيب يسمع كل شيء!

- أمنت وصدقت!

- ومضت درية تباغم أمها باللغة الفرنسية. فسألت عنها فقيل إنها تلميذة بمعهد الليسيه.

(وهنا أجهدت ذاكرتي لأعرف من هي تلك التلميذة، ثم تذكرت أنني لم أتصل بمعهد الليسيه إلا في سنة 1928 والحمد لله على ذلك، فما يسرني أن تكون تلميذاتي محوراً لأمثال هذه الأحاديث).

- نعم يا ظمياء.

- وبدا لليلى أن تسأل عن السر في اختلاف ألوان العيون، فأجابت السيدة نجلاء بأن درية

ص: 8

صورة لأبيها الشيخ دعاس؛ أما ابنها فهو صورة أمه اللبنانية. فقالت ليلى: وهل اللبنانيون خضر العيون؟ فأجابت السيدة: أنا لبنانية الموطن، تركية الأصل. فقالت ليلى: ومعنى هذا أن لك ابناً أخضر العينين؟ فقالت السيدة: نعم، وهو المحروس عبد الحسيب، وهو طالب بمدرسة البوليس، وسيحضر بعد قليل.

(للحديث بقايا)

زكي مبارك

ص: 9

‌سفارة ألمانية

إلى بلاد قرطبة في عهد عبد الرحمن الناصر

للأستاذ محمد عبد الله عنان

في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) كانت أسبانيا المسلمة (الأندلس) قد بلغت ذروة قوتها؛ وكانت إلى جانب الدول النصرانية الثلاث: الدولة البيزنطية، ومملكة الفرنج، والإمبراطورية الألمانية، رابعة الدول الأوربية العظمى؛ بل ربما كانت يومئذ أعظم الدول بما اجتمع لها من عناصر الفتوة، ومنعة الجانب، وروعة الملك، ورفيع الحضارة. كانت حقبة زاهرة، تعاقب فيها في قيادة الغرب الإسلامي ثلاثة من أعظم قادة الإسلام وساسته، هم عبد الرحمن الناصر، فولده الحكم المستنصر، ثم الحاجب المنصور. وكان عهد الناصر بلا ريب أسطع هذه العهود وأعظمها، وفيه بلغت الأندلس ذروة القوة والازدهار، وفيه قامت الخلافة الأموية في الغرب قوية موطدة، بعد أن اختفت من الشرق قبل ذلك بمائة وثمانين عاماً. وكانت قرطبة في عهد الخلافة الأموية عاصمة الغرب الفكرية والاجتماعية؛ وكانت في الطرف الآخر من أوربا تبث أضواء حضارة جديدة لم تلبث أن لعبت دورها العظيم في تكوين الحضارة الأوربية.

وقد تبوأت أسبانيا المسامة مركزها الدولي في الغرب. كان بلاط قرطبة يرتبط مع معظم الدول الأوربية بعلائق دبلوماسية منظمة؛ وكان أخص هذه العلائق مع الدولة البيزنطية في الشرق، ومملكة الفرنج في الغرب. ومنذ عهد عبد الرحمن بن الحكم (عبد الرحمن الثاني أو الأوسط) نرى سفارات الدول النصرانية تتوالى على بلاد قرطبة؛ وكان أهم هذه السفارات يومئذ سفارة تيوفيلوس إمبراطور قسطنطينية في سنة 225هـ (836 م) ومقصدها أن تعتقد الدولة البيزنطية مع الدول الأموية تحالفاً على الدولة العباسية؛ ورد عبد الرحمن على هذه السفارة بأن أرسل وزيره يحيى الغزال سفيراً إلى الإمبراطور لينظم بينهما علائق الصداقة والتحالف. وتبادل عبد الرحمن بن الحكم أيضاً السفارة مع ملك النورمانيين عقب الغزوات التي قام بها النورمانيون في الأندلس، وانتهت بردهم وهزيمتهم.

وفي عهد عبد الرحمن الناصر توالت سفارات الدول النصرانية على بلاط قرطبة، وكان

ص: 10

أشهرها وأهمها سفارة قسطنطين السابع إمبراطور قسطنطينية في شهر صفر سنة 338هـ (950 م). وتقدم إلينا الرواية الإسلامية وصفاً شائقاً لتلك السفارة الشهيرة، وتصف لنا احتفال الناصر باستقبالهم في أروع المظاهر والرسوم، وتنقل إلينا أقوال الخطباء المسلمين في ذلك الحفل الباهر.

وفي سنة 344هـ (956 م) وفدت على الناصر سفارة من أوتو الكبير إمبراطور ألمانيا؛ وكان يومئذ أعظم أمراء النصرانية كما كان الناصر أعظم أمراء الإسلام. وكان بين الملكين العظيمين علائق ومراسلات منتظمة، بيد أنها لم تكن ودية دائماً. ولا تحدثنا الرواية الإسلامية عن سفارة أوتو (أو أوتون) إلى الناصر بأكثر من الإشارة إليها؛ بيد أنها كانت سفارة هامة، وكانت ذات غاية خاصة وذات مغزى خاص. وكان سفير الإمبراطور إلى الخليفة حبرا من أكابر الأحبار هو يوحنا أسقف جورتسي. وترك لنا يوحنا تفاصيل سفارته في ترجمة حياته وخلاصتها أنه سار إلى قرطبة ليسعى لدى الناصر في أمر المستعمرات والعصابات المسلمة التي انتشرت في أنحاء سافوا، وفي كثير من آكام الألب. وكانت غزواتها الناهبة تمتد حتى شمال سويسرا، وكان أمراء النصرانية التي تهدد هذه المستعمرات أملاكهم ورعاياهم قد فزعوا إلى الإمبراطور أوتو باعتباره زعيم النصرانية وأقوى أمرائها، وطلبوا منه أن يتوسط لدى خليفة المسلمين عبد الرحمن الناصر فيستعمل نفوذه السياسي والروحي لإجلاء هذه المستعمرات عن معاقلها أو على الأقل لوقف اعتدائها وعبثها. فنزل الإمبراطور عند تضرعهم وبعث سفيره إلى الناصر، فقصد يوحنا إلى قرطبة عن طريق فرنسا، ومعه طائفة من التحف والهدايا طبقاً لرسوم العصر. ولما وصل إلى دار الخلافة استقبل بحفاوة كبيرة، وأنزل في منزل خاص؛ ولكنه لم يقدم إلى الناصر في الحال، بل استبقي مدى حين في شبه اعتقال محوطا بالإكرام والرعاية؛ ويوضح لنا يوحنا بواعث هذا الاعتقال فيقول لنا: إن الخليفة كان يحقد على الإمبراطور لأنه كان قد تعرض للإسلام في بض كتبه إلى الناصر، واعتقل مدى حين سفيراً نصرانياً كان الناصر قد أوفده إلى بلاطه، فرأى أن يقابل تصرف الإمبراطور بمثله، ويعتقل سفيره أعني يوحنا حتى يتحقق من عواطفه ونياته. وبعث الناصر إلى الإمبراطور سفيراً، واختار لهذه السفارة قساً من رعاياه النصارى اتباعاً لتقليد جرى عليه الخلفاء في معظم سفاراتهم إلى القصور

ص: 11

النصرانية. وكان أوتو يومئذ مشتغلاً ببعض الحروب الداخلية، فأبدى تساهلاً في قبول وجهات نظر الخليفة، ولم يثر من المجادلات ما اعتاد أن يثيره، وأكد صداقته لخليفة المسلمين. وعاد السفير إلى قرطبة يحمل إلى الناصر تحيات أوتو وتأكيداته الودية، فارتاح الناصر لهذه النتيجة، وأذن باستقبال يوحنا سفير الإمبراطور. واستقبل يوحنا استقبالا فخماً ظهرت فيه عظمة البلاط الأموي، وتحدث إلى الناصر عن مهمته وغاية سفارته. ولسنا نعرف ماذا كانت نتائج هذه السفارة، لأن يوحنا لم يحدثنا عن ذلك في روايته؛ ولكن المرجح أن وجهة النظر التي أبدتها حكومة قرطبة هي أنها ليست لها أية علاقة بالمستعمرات العربية في غاليس وسويسرا، وأنها لا تتحمل تبعة أعمالها، ولا تستطيع أن تتدخل لديها. وهو استنتاج يؤيده صمت الرواية العربية عن ذكر أخبار هذه المستعمرات، مما يدل على أن حكومة قرطبة لم تكن تعني كثيراً بشأنها، وإن كانت بلا ريب تنظر إلى غزواتها في الأراضي النصرانية بعين العطف والتأييد.

على أن الرواية الكنسية من جهة أخرى تحدثنا عما أفضى به الناصر إلى يوحنا من الملاحظات السياسية والإدارية؛ فقد بسط ليوحنا خططه في السياسة العامة، وأنحى باللائمة على الإمبراطور أوتو لأنه يضع ثقته في أشرافه؛ ومثل هذه السياسة لا تزيد الأشراف إلا غروراً، ثم تنتهي بهم في أواخر الأمر إلى العصيان والثورة. ولهذه الملاحظة السياسية التي توردها الرواية الكنسية عن الناصر أهمية خاصة، وهي ليست إلى صدى لسياسة الخلافة الأموية وسياسة الناصر ذاته؛ ذلك أن الناصر كان يعتمد في تنفيذ سياسته على طبقة الموالي والصقالبة، ولا يثق بالأشراف وزعماء القبائل من العرب. وكان من آثار هذه السياسة أن جعل الناصر بطانته من الصقالبة المستعربين، ورفع كثيراً منهم إلى مناصب النفوذ والثقة في الحكومة وفي الجيش. وكان الناصر يخشى منافسة الرؤساء ذوي العصبية ويقصيهم عن كل نفوذ، ويخضعهم لهؤلاء الصقالبة الذين اتخذهم في يده آلات طائعة تعبر عن خططه ورغباته. وكان لهذه السياسة أثرها في توطيد سلطان العرش، والقضاء على سلطة الزعماء المحليين، وعلى مطامع الرؤساء المتطلعين، ولكنها كانت من جهة أخرى خطراً على العرش إذ عرضته لسخط الأشراف والزعماء العرب، وخطراً على الجيش إذ كان سواد ضباطه من العرب الذين يعتزون بعصبيتهم ويسوءهم أن تضار هذه العصبية

ص: 12

ويعتدى عليها. وظهر أثر هذه السياسة في أواخر حكم الناصر إذ ظهرت أعراض الوهن والانحلال في الجيش؛ ثم ظهر خطرها على العرش فيما بعد إذ غدا عرضة لمطامع المتغلبين والمتنافسين.

تلك هي قصة هذه السفارة الشهيرة التي وجهها الإمبراطور أوتو الكبير إلى عبد الرحمن الناصر، وتشير الرواية الإسلامية إليها في عبارات موجزة مما يدل على أنها لم تفطن إلى أهميتها السياسية والاجتماعية، ذلك لأنها كانت سفارة من نوع خاص ولم تكن متعلقة بالشؤون والعلائق الدبلوماسية العامة، ولم تكن الإمبراطورية الألمانية الناشئة مشهورة في بلاد قرطبة شهرة الدولة البيزنطية أو مملكة الفرنج، ولكن التفاصيل الشائقة التي تقدمها إلينا الرواية الكنسية تدلى بأهميتها وطرافتها، وأول ما تدل عليه ما كان لبلاط قرطبة في عهد الناصر من الهيبة والنفوذ حتى في دول كألمانيا لم تكن تربطها بالأندلس مصالح أو علائق دبلوماسية مباشرة؛ بيد أن أهم ما تدلي به هذه السفارة هو صفة الزعامة والإرشاد التي كان يبدو بها بلاط قرطبة، فقد رأينا الناصر يلقي درساً في السياسة والإدارة على الإمبراطور أوتو، وهي صفة كان في ظروف الأندلس يومئذ ما يبرر اتخاذها، فقد كانت الأندلس عندئذ في أوج قوتها وعظمتها، وكانت حكومة قرطبة في نظمها السياسية والإدارية والاجتماعية نموذجاً لأعظم وأرقى حكومات العصور الوسطى؛ وكانت الحضارة الأندلسية في سائر نواحي الحياة العامة والخاصة مضرب الأمثال في الروعة والبهاء؛ وكانت نبراسا تمتد أضواؤه إلى أقاصي أوربا؛ وكان للزهراء عاصمة الناصر وبلاطه في الأمم الشمالية شهرة سحرية، حتى أن الراهبة السكسونية هروسويتا تغنت بجمالهما وروعتهما في قصائدها اللاتينية وأسمتها (زينة الدنيا).

والخلاصة أن عظمة الأندلس يمكن أن تقرأ في هذه الصفحات المطوية من تاريخ العلائق الدبلوماسية بينها وبين الأمم الأوربية أكثر مما تقرأ في تاريخها الخاص: ففي هذه الصفحات نجد صوراً كثيرة مؤثرة من ذلك الإجلال الذي كانت تفرضه الأندلس إبان عظمتها على أمم الغرب والشمال.

محمد عبد الله عنان

ص: 13

‌الفهم الفلسفي للثورة على الأخلاق

للأستاذ عبد العزيز عزت

سيدي الأستاذ الزيات

قرأنا بإعجاب في الرسالة الغراء ما كتبتموه، وما سطره أساتذة الأدب العربي في الثورة على الأخلاق، فأكبرنا فيكم نزعتكم إلى تأييد الفضيلة بهذا الأسلوب. وقد لاحظت بجوار ذلك غياباً نسبياً للفهم الفلسفي في ذلك الحوار الأدبي، مع أن الموضوع يمت إلى صميم الفلسفة بصلة وصلات. لهذا دعاني الواجب الفلسفي أن أحرر هذه الكلمة لعلها تلقي بعض الضوء من هذه الناحية على هذا الموضوع:

فهم بعض الناس في مصر الثورة أنها النزاع بين وجهتي نظر متناقضتين؛ فهناك أنصار القديم، وهناك المجددون؛ وهناك رجال الدين، وهناك (المستغربون)؛ وهناك أصحاب الفضيلة، وهناك (المسترذلون). نزعة (التثنية) هذه في تصور الشيء وضده، هي نزعة (حربية) لا تليق بطبيعة التفكير جرتها علينا من بعيد الحضارة الفارسية التي يسودها مذهب زرادشت في كتابه الأفستا الذي يقول بتنازع قوة الشر (أهرمن) وقوة الخير (أهورا). وكذلك جرتها علينا - فيما أرجح - من قريب مبادئ الثورة الفرنسية في تصور معنى الحرية والاستقلال؛ فهناك ابن الوطن من ناحية، وهناك الملك من ناحية أخرى؛ ذلك لأن التفكير في ذاته وسيلة سلمية هادئة لخلق (التماسك) في عقلية الفرد، وخلق التماسك في عقلية المجتمع؛ وهذا التماسك هو الانتقال من حالة نوعية إلى حالة من نفس النوع يجوز لها التخصيص. فكل ثورة هي نهاية ظاهرة لحالة تطور هادئ سبقته، وتضمنت هذه الثورة؛ فهي إذاً حاضر لماضي سبق قد مهد لها، وهي حاضر كذلك لمستقبل يأتي، تمهد هي له الثورة في نظر الفيلسوف الألماني شيلنج لا يمكن أن تنفصل عن التطور وعناصره الثلاثة: الماضي، والحاضر، والمستقبل. (التطور هنا لا يقصد به نظرية داروين وسبنسر التي أثبت خطأها أستاذنا الفيلسوف لالاند في كتابه:(خداع التطور) وإنما التطور الذي نزل من فلسفة أفلاطون وقالت به المدرسة الألمانية الحديثة وخاصة هيجل وشيلنج وهو التطور المنطقي لمظاهر التاريخ عامة). فالثورة بهذا الفهم هي عنصر أكيد للسلام والتقدم.

ص: 14

ولنأخذ مثلاً ثورة أفلاطون في العهد القديم. هذه الثورة كما يحدثنا الفيلسوف الألماني زللر في كتابه (فلسفة أهل اليونان) الجزء الأول - جمعت بين الفلسفة الطبيعية التي سادت التفكير اليوناني إلى ما قبل سقراط، وجمعت الفلسفة المنطقية التي وجدت في عصره عند السوفسطائيين، وكذلك الفلسفة الأخلاقية التي قال بها سقراط، ففيها يلتئم عنصر الماضي وعنصر الحاضر وكذلك عنصر المستقبل، لأن فلسفة أفلاطون ضمنت الحياة للفلسفات المنطقية والأخلاقية من بعده، الأولى في تلميذه أرسطو والثانية في زعيم الرواقيين كريزيب ومن أخذ عن هذين الفيلسوفين إبان القرون الوسطى من عرب، ورومان، ومسيحيين. وهكذا بعد أن كانت الفلسفة المنطقية من قبل أفلاطون سبيلاً للشعوذة والسفسطة والثرثرة، أصبحت فلسفة محترمة تبغي إقامة العلم والبحث عن الحقيقة المجردة. كذلك بعد أن كانت الفلسفة الأخلاقية من قبله وسيلة لإخضاع الفرد في المجتمع اليوناني أو الدولة الحاكمة، أضحت سبيلاً لتحريره وتقوية إرادته.

ومثل آخر في العهد الحديث: ثورة كانت الألماني فهي قد جمعت بين تيار الماضي - بالنسبة إليه - وهو تيار فلسفة ديكارت حينما يتكلم عن ملكات العقل، وتيار الحاضر - بالنسبة إليه - وهو تيار الفلسفة الإنجليزية الممثل في فلسفة دافيد هيوم لأن (كانت) نفسه يقول أن هيوم (أيقضه من سباته الفكري). ونجد أثر هذا ظاهراً عندما يتكلم كانت في أثر الحواس في نظرية المعرفة؛ أما عنصر المستقبل فهو أن كانت كفل الحياة من بعده لفلسفات تنطق تارة باسم العلم مثل فلسفات أوجست كنت، وكورنوه وفلسفات تنطق باسم المنطق والإلهيات مثل فلسفة لاشلييه وفلسفة بوتروه (اقرأ كتاب أستاذنا العلامة الكبير لاسباكس أستاذ الفلسفة بجامعة كليرمون، ورئيس المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية، والسكرتير السابق للوزير بريان وعنوانه: (المنطق وتطور العالم).

وعليه فالثورة في التفكير هي عنصر للسلام أي التوفيق بين الماضي والحاضر الفكري، ومظهر للتقدم، أي يجب أن تكفل خلق تيارات جديدة للفكر في المستقبل.

أما الآن فلنتحدث عن الثورة (الأخلاقية). الثورة في مجال الأخلاق تتضمن الإقرار بوجود هذا المجال، وتمييزه في نفس الوقت عن المجالات الأخرى كمجال النفس والاجتماع والمنطق، والإقرار كذلك بأن له طبيعة خاصة وأصولاً للتفكير فيه، وإلا أصبح البحث

ص: 15

عبثاً، والجدال رغاء، وقلبت الأوضاع، وأنكر التاريخ، وجحدت المجهودات القائمة للفلاسفة. فنحن إذاً لا نوجه كلامنا إلى أصحاب الرذيلة الذين بخسوا الفضائل حقها. ولكنا نوجهه إلى الأساتذة أصحاب الفضيلة فنقول:

الثورة في مجال الأخلاق لا تبنى على إنكار الفضائل، وتجاهل أمر الثورات الأخلاقية في تطور التفكير البشري، ولكن على علاقة الفضيلة بالرذيلة أولا، وعلى استعراض التصور النوعي للفضيلة في الثورات الأخلاقية.

(1)

أما عن تحديد علاقة الفضيلة بالرذيلة فلا يمكن البحث عنها خارج فلسفة الرواقيين، لأنه أعظم مبدأ أخلاقي وجد إلى الآن في تطور التفكير الإنساني، وذلك لأنه قضى على مبادئ الأخلاق التي تقدمته بتعاليمه السامية. فبينما سقراط يجتهد أن يتخذ من الأخلاق سبيلاً لتقييد حرية الفرد وإخضاعه للدولة الحاكمة في المجتمع اليوناني، نرى أفلاطون يفترض السوء في طبيعة الإنسان ويجتهد بعد ذلك أن يرفعه إلى قداسة عالم المثل. كذلك أرسطو فهو يميز وبنوع بين خلق الله فيقر الرق والاستعباد، ويضع أخلاقه للسادة من الناس، والأرستقراطية التي قضت مباشرة على مبادئه وأضحى فكره ميتاً بعد حروبا الاسكندر الأكبر، لأن المجتمع اليوناني في ذلك الزمان أصبح في حاجة ماسة لمن يخاطبه بلغة قليلة التجريد - أقرب إلى الواقع منها إلى الخيال، يتحقق خلالها ذلك الفهم الواسع الذي أدركه اليونانيون باحتكاكهم بعد تلك الحروب بسائر الأمم الأخرى، لهذا لاقت تعاليم الرواقيين نجاحاً عظيماً وخاصة تعاليم كريزيب (اقرأ كتاب أستاذنا أميل برهييه وعنوانه كريزيب في مجموعة أَلكان لكبار الفلاسفة) لأنها ألغت الرق، وجعلت الناس سواسية كأسنان المشط أمام القانون الأخلاقي، وافترضت الخير في طبيعة الإنسان. وأهمية هذا المذهب لا تقف عند هذا الحد لأنه ساد بعد ذلك كل العالم الروماني، وعالم القرون الوسطى في أوربا خلال آباء الكنيسة. والأهم من ذلك أخيراً أن زعماء الفكر الحديث عندما كتبوا في الأخلاق تأثروا بالرواقيين، فمثلاً ديكارت في خطاباته مع البرنسيس اليزابيث، وسبينوزا في كتاب (الأخلاق) وكانت في كتابه عن الأخلاق.

فالرواقيون آباء الأخلاق لم ينكروا في ثورتهم الفضائل ولم يبخسوا كذلك الرذائل حقها وما لها من أهمية في الحياة؛ غير أنه يستحيل في نظرهم فصل الاثنين عن بعضهما، لأن

ص: 16

الإنسان مركب من روح وجسم وهي البداهة كلها فله شهوات تدعو إلى الرذيلة، وله غايات روحية سامية يريد تحقيقها؛ غير أن الشهوات والميل إلى الرذيلة ليست بطبيعية في الإنسان، فالإنسان كأساس خَير بطبعه، ولكن الحياة الخارجية المادية ومغرياتها هي التي تفسد عليه داخليته ونفسه الطاهرة. ولما كان أغلب الناس لا يمكنهم التضحية بمغريات الحياة الخارجية؛ أضطر الرواقيون ألا يتجاهلوا أمر الرذيلة وأثرها في التخلق فحسبوا لها حساباً بل جعلوا منها ضرورة لازمة للفضيلة؛ ويقدمون لذلك ثلاث حجج، (يجدها القارئ في كتاب أستاذنا برهييه والأستاذ بيفان

أولَا - حجة بالمقارنة؛ فالرذيلة تابعة للفضيلة وشرط أساسي لها؛ ويضربون لذلك مثلاً جمال رأس الإنسان الذي يتضمن في نفس الوقت نوعاً من الضعف هو رقة عظامه وتعرضه في أي لحظة للأخطار الطارئة، فإذن ليس هناك جمال خالص من ضعف أو قبح يشوبه، كذلك. ، ليس هناك فضيلة خالصة ولا بد للرذيلة أن تلازمها فهي ضرورية لها.

ثانياً - حجة منطقية: تتلخص في أن النقيضين متضامنان؛ فالخير يتضمن الشر في تصوره، والحسن يتضمن القبيح في إدراكه، والفضيلة تتضمن الرذيلة وهلم جرّاً. . .

ثالثاً - حجة أخلاقية: يقول الرواقيون: الرذيلة ليست من طبيعة مغايرة للفضيلة، فكلاهما من نوع واحد. وليست الرذيلة هي حرباً على الفضيلة، وإنما هي فضيلة ضالة، والعقل في تصورها وفعلها خاطئ، ومهمة الأخلاق هي العودة بما ضل إلى الطبيعة الخيرة الأولى.

هذا الفهم للعلاقة بين الفضيلة والرذيلة اضطر الرواقيين إلى تصوير نوعين من الأخلاق: أخلاق لا يصح أن نسميها (خارجية) نجدها في كتاب (الواجبات) لشيشرون، وهي تختص بمغريات الحياة الجارية وتنبني على ما يجب فعله وما لا يجب أن يفعله الإنسان في يومه، والتحقير من أهمية الماديات لتغير قيمتها بتغير الأشخاص والأزمان والأصقاع، فهي أشياء عارضة، وينبغي الزهد فيها، والإعراض عنها، فهي أخلاق تهتم بتخفيف وطأة الرذيلة.

وأخلاق نسميها (داخلية) تبنى على رياضة الإرادة، أساسها ضبط النفس وغرضها الوصول إلى الخير المطلق، ونجدها في كتاب شيشرون المسمى وهي ما يصح تسميتها كذلك بلغة العلم الحديث (أخلاق نظرية) ترمي إلى خلق الانسجام بين إرادة الوجود في الفرد، وإرادة الوجود في العالم، وإرادة الوجود في المجتمع.

ص: 17

كذلك الاستعراض النوعي للفضائل في ثورات الأخلاق، يدل دلالة واضحة على أن هذه الثورات لم تكن حرباً على الفضيلة ولم تكن للحط من قيمة الإنسان إلى قدر هو أرفع منه؛ وإنما كانت برداً وسلاماً عليها، ترسم سبل الوصول إليها وإمكان تحقيقها: فالثورة اليونانية الأخلاقية كما يذكر الفيلسوف بوتروه في كتابه (مسائل في الأخلاق والتربية) كانت ترمي إلى رفع الإنسان إلى القداسة العقلية بحيث يصبح العالم بيتاً للإنسان والآلهة (أنظر كذلك شيشرون (طبيعة الآلهة)). ويتحقق حلم الرواقيين في خلق مدينة العقلاء فيسود السلام على الإنسانية، بإحسان كل إنسان إلى أخيه فلا يبقى هناك فضل (ليوناني) على أجنبي.

والثورة الدينية في الأخلاق: إبان القرون الوسطى ويمثلها فيلون الإسكندري في اليهودية، والغزالي في الإسلام، والقديس أوغسطين في المسيحية، تتلخص كلها في تلك النزعة القديمة الشرقية التي أختص بها الجنس السامي وهي فكرة الخطيئة الأولى وما تتطلبه من التحلي بالفضائل كوسيلة لإنفاذ خلق الله من وصمتهم والعود بهم إلى جنات الخلد والنعيم (أنظر كتاب مُنك (في الفلسفة العربية اليهودية)، وكذلك كتاب أستاذنا العلامة جلسن بالكليج دي فرانس وعنوانه:(المسيحية والفلسفة)).

ثم جاءت بعد ذلك الثورة الحديثة في الأخلاق تقيم الفضائل وتناصرها ولكنها تفهمها بشكل آخر جديد، فبينما نجد القداسة العقلية عند اليونان، والقداسة الربانية عند اليهود والمسلمين والنصارى، نجد القداسة العملية النفعية عند الإنجليز في شخص هبز ومدرسة بنتام وميل وسبنسر (أنظر عند الإنجليز وأيضاً سبنسر التطور والأخلاق.

أصبحت الأخلاق عندهم تهتم بالحياة الجارية وتتأثر بالفهم الرياضي فأضحت (حساباً للذات) من وجهات الكم والكيف، والبقاء، والزوال؛ وأصبح الفرد وأنانيته محوراً للأخلاق. ظهرت ثورة أخلاقية جديدة في ألمانيا هي ثورة كانت تذكرنا بآراء الرواقيين في العهد القديم لأنها ترتكز على فكرة الواجب ' المجرد عن الغايات النفعية والأغراض العارضة، وأن الإنسان في تخلقه يجب أن ينظر إلى ثلاثة أفكار: أولاً: أن يكون التخلق واحداً لكل الناس. ثانياً: أن يحترم الإنسانية في شخصه. ثالثاً: أن يتخلق وأن يملي على نفسه تخلقه دون أن يخضع في ذلك إلى مؤثر ما. لهذا كانت نهاية مبدئه الإرادة الحرة (انظر دلبوس فلسفة كانت

ص: 18

ونحن بعد هذا لا نريد أن نعدد الأمثلة أكثر من ذلك لنثبت أن للأخلاق والثورة عليها أو فيها طبائع وأصولاً ومبادئ لا تبرر مطلقاً ما ذهب أليه الثائرون. لهذا غضبت النفوس الكريمة وناصرت الفضائل التي هي السبيل الوحيد لوجود الضرر كمنكر، لأن ديكارت لا يفصل التخلق عن المعرفة والسبيل الوحيد كذلك لوجود الفرد اجتماعياً، لأن دور كيم لا يؤمن بقيمة الفرد إلا إذا آمنت الناس من حوله بما ينطق ويفكر. فما كتبه الأستاذ الزيات، وعزام، والخولي هو لسان المجتمع في هذا الموضوع المعبر الصادق عن المشاعر الخفية التي تكنها نفوس المصريين أجمعين من حولهم، فليكفر إذا هؤلاء الثائرون - اعتباطاً - عن آرائهم، فالرجوع إلى الحق فضيلة.

عبد العزيز عزت

خريج جامعات القاهرة وباريس، وكليرمون

عضو بعثة الجامعة المصرية لدكتوراه الدولة

ص: 19

‌فلسفة التربية كما يراها فلاسفة الغرب

للأستاذ محمد حسن ظاظا

- 7 -

(إذا أمسك الله تعالى بالحق في يمينه، وبالدافع الدائم إليه في يساره، ثم أمرني بالاختيار: لسقطت على يده اليسرى وقلت أعطني هذا أيها الأب الأقدس، لأن الحق الخالص ليس إلا لك).

ليسنغ

(. . . وثقافة الإنسان لا تقدر بمقدار ما قرأ من الكتب وما تعلم من العلوم والآداب، ولكن بمقدار ما أفاده العلم، وبمقدار علو المستوى الذي يشرف منه على العالم، وبمقدار ما أوحت إليه الفنون من سمو في الشعور وتذوق للجمال).

أحمد أمين

المنهج والطريقة

رأيت في المقال السابق كيف تمتد يد (الديمقراطية) إلى (المعلم) و (المدرسة) و (الطالب) لتصلح من شأن التربية ما قد أفسدته النظم البالية والتقاليد الرثة، وسترى اليوم ما ينبغي أن يكون عليه المنهج وطريقة تدريسه حتى لا يكون الأمر مجرد (إنهاك عصبي) لا أكثر ولا أقل. . .!

يقسم الأستاذ (هورن) العلوم إلى خمس طوائف: فنية، وتشمل: العمارة والحفر والتصوير والموسيقى والأدب والدين؛ وإرادية وتشمل: النظم والأخلاق والقوانين؛ وعلمية عقلية وتشمل: المنطق والميتافيزيقا والجمال واللغة والأخلاق النظرية؛ وعلمية مادية غير عضوية وتشمل: الطبيعة والجيولوجيا والجغرافيا والفسيوجرافيا والفلك والمعادن والكيمياء؛ وعلمية مادية عضوية وتشمل: الحياة والنبات والحيوان والفسيولوجيا والتشريح وتاريخ الإنسان والاجتماع والاقتصاد.

وأنت ترى أن كلاً من هذه العلوم يعالج إحدى نواحي الكون معالجة خاصة، وأنها جميعاً ذات قيمة (ذاتية) كما يقول (هربارت) ولكنا في ناحية (الثقافة العامة) على الخصوص

ص: 20

مضطرون إلى التفريق بينها في الدرجة والضرورة فلا نفضل منها إلا ما يتفق وغايتنا. ومن هنا كان ذلك الخلاف الهائل في آراء علماء التربية وأساليبهم؛ (فهربارت) يطالب بقيمة المادة (الذاتية) بصرف النظر عن نتائجها وآثارها، و (ديوي) يصر على اختيار المواد (النفعية) وفقاً لمذهبه العملي، و (ريدجر القائل بفكرة الملائمة مع البيئة يعطينا قِيمَاً آلية وأخرى ثقافية. فالأولى منها التحضيري كمواد القراءة والكتابة، ومنها العملي كمواد اللعب، ومنها (الاجتماعي) كمواد الأجناس والأديان والأخلاق والتاريخ والأدب، ومنها (التقليدي) كالخطابة والجدل؛ أما الثانية - الثقافية - وهي أرقى القيم جميعاً، فتدخل فيها المواد التي تحرر العقل وتهذب العواطف وترقى بالشعور، كالفلسفة الخالصة والأدب المجرد.

هذا وقد رتب الفيلسوف (سبنسر) المواد تبعاً لأهميتها وضرورتها فجعل علوم (الصحة) على رأسها، وتليها علوم (التربية) ثم علوم (السياسة والاجتماع) ثم علوم (الفراغ) أي (الفنون). . .!

أما (رسل) فقد فضل المواد التي (تُبقي وتحفظ قوة الخلق والتضلع والحيوية في الفرد، وتعينه على التمتع بالحياة ذاتها.

وأما الأستاذ (أمير بقطر) فيقول بانتخاب المواد التي تفتح على الطالب أكثر من باب واحد.

ولقد أدلى الأستاذ (أحمد أمين) برأيه في الموضوع فقال (إذا كانت قيمة الثقافة الذاتية هي أبداً في مقدار ما ترفعه في المثقف من وجهة النظر إلى الأشياء وتقويمها قيماً جديدة أقرب إلى الصحة، أسلمنا ذلك إلى نتائج خطيرة، فدين خير من دين بمقدار ما تحاول تعاليمه من رفع مستوى النظر إلى الله وإلى الحياة، وعلم خير من علم باعتبار ما يؤدي إليه من نظر راق صحيح. وثقافة الإنسان لا تقدر بمقدار ما قرأ من الكتب وما تعلم من العلوم والآداب، ولكن بمقدار ما أفاده العلم وبمقدار علو المستوى الذي يشرف منه على العالم، وبمقدار ما أوحت إليه الفنون من سمو في الشعور وتذوق للجمال.

وأنت ترى معي أن تلك النظرة من الأستاذ حصيفة كل الحصافة وبعيدة الغور وسامية المنطق، وأن نظرة (ديوي) مشوبة بالنفع العملي الذي يشوه فلسفته الخاصة، وأن ترتيب (سبنسر) يقلل من شأن تلك المتعة (العقلية والفنية) التي جعلها (هورن) جوهر الثقافة

ص: 21

الحقيقية.

ومهما يكن من شيء فما دامت غاية التربية هي خلق الحياة الاجتماعية المثلى. وأعني بها تلك الحياة (التي يستطيع الفرد أن يجد فيها مجالاً لتحقيق مستلزمات حياته الأدبية والعقلية والروحية والمادية على أتم وجه بحيث يتسنى له أن ينمو ويتقدم أخلاقياً وروحياً ومادياً وعقلياً نمواً تتطلبه طبيعته وتستطيع أن تحققه الظروف مع البيئة) أقول ما دامت تلك هي غاية التربية فبجب أن نحاول تطبيق ذلك على مواد المنهج وطريقة تدريسها.

فالمادة يجب أن تكون تامة الوفاء بما تتطلبه (المرحلة) البدنية والنفسية من نمو، ويجب أن تكون محبوبة للطفل شائقة لديه لا هي بالسهلة ولا هي بالصعبة، ويجب أن تكون مستمدة من الحياة ومرنة تلائم الاختلاف بين عقول الأفراد، ويجب أن تظهر للطفل كأنها مادته الضرورية الخاصة، ويجب أخيراً أن تكون (بحيث ترتفع به إلى مستوى أرقى في العمل والشعور لا مجرد إنهاك عصبي).

وإذا كان الناقد الألماني (ليسنغ) يقول إنه يفضل (الدافع الدائم للحق) ما دام الحق الخالص ليس لغيره سبحانه وتعالى، فإننا يجب أن نتجنب حشو المنهج بالمواد ونكتفي بإثارة حب البحث في الطالب ناظرين دائماً إلى الكيف لا إلى الكم حتى يكون المتعلم دائماً ذا عقل خصب لا يهرم بكبر السن، ولا ينوء تحت أثقال معلومات مهوشة، ولا يني يبحث ويطلع بعد الدراسة محتفظاً بربيع الحياة.

وما دامت دراسة (الطبيعة) ذاتها وسيلة للاحتفاظ بالحياة وللمتعة فيها والرفاهية، فلا تعارض إذاً بين الدراسات الطبيعية العلمية والدراسات النفسية الفنية، وإذاً فليكن في المنهج ثقافة عامة توسع الإدراك وتدقق الفهم، وتاريخ وجغرافيا يزيدان في معنى التجارب الإنسانية وثروتها، وعلوم طبيعية تفتح مجالاً للعقل وتؤدي به إلى الصيغ والقوانين الكلية، ولعب يجعل الدراسة شائقة وينفس عن الغرائز، وفلسفة خلقية وميتافيزيكية واجتماعية توطد من مركز الناشئ في المجتمع والكون وتفهمه علاقة الأرض بالسماء. . .!

أما الطريقة فلا تكاد تقل خطورة عن المادة، بل أن المستحدثات في التربية لتنصب عليها بوجه خاص، ذلك أن دراسة علم النفس للطفل وقواه قد كشفت عن أصول أساسية ينبغي أن يتبعها (المعلم) في تدريسه، ومن هذه الأصول ألا تكون الطريقة (قياسية) إلا في آخر

ص: 22

مراحل التدريب؛ أعني أنها يجب أن تكون استقرائية قائمة على المشاهدة بحيث تجعل الطفل في حالة (اختبار) حقيقية يرغب فيها لذاتها، وتنبه فكره إلى المسائل التي يعالجها، وتتيح له القدرة على تدبير هذه المسائل بمعرفته وملاحظته، وتجعله مسئولاً عن حل الحلول التي تعرض له بطريقة منظمة، وتعطيه أخيراً الفرصة التي يختبر بها صحة فروضه ويتأكد من صحتها.

هذا إلى وجوب تفهيم الطفل قيمة ما يدرس ومدى نفعه في الحياة العملية والمعنوية ليزداد جهده فيه وإقباله عليه، وليكون قلبه معه دائماً في عمله، وإلى وجوب وقوف المدرس بين بين فلا يترك الطفل يمضى إلى إشباع ميوله دون رقابة، ولا يملي عليه ما يريد إملاء قسرياً، بل يتبين ما يتحفز فيه من غرائز وميول ويقدم له ما يساعده على ما يريد.

ولما كانت الطريقة هي ترتيب المادة بحيث تكون أكثر فاعلية في الاستعمال فإنها لا تكاد تخالف المادة قط. أليس من (يأكل) يتناول طعاماً هو (الأكل) نفسه؟

وقد نجم من فصل الطريقة عن المادة قلة فرص التجاريب أمام الطفل، وسوء فهم النظام والشوق، والعناية المقيتة بالحفظ وحده، وجعل عملية التعليم ميكانيكية عديمة الروح، فأدى الأمر إلى تخشب آلي (بسبب الفصل بين العقل والنشاط الذي له من خلفه غرض يدفعه).

أفرأيت هذا كله؟ أفلاحظت ما فيه من قوة ونفع وسمو؟ إنهم هكذا يفكرون في أمريكا وكذلك يطبقون. . .

(يتبع)

محمد حسن ظاظا

مدرس الفلسفة بالمدارس الثانوية

ص: 23

‌بين القاهرة واستنبول

للدكتور عبد الوهاب عزام

- 5 -

متاحف طوب قبوسراي

يا أخي صاحب الرسالة

سلام عليك

وقفت بك في الرسالة السابقة على عرش الشاه إسماعيل الصفدي. وجدير أن نطيل الوقوف عند هذا العرش الذي بذلت الصناعة وسعها في هندسته وتذهيبه وترصيعه وتلوينه، ولاءمت فيه يد الإتقان بين الذهب والمينا والزمرد والياقوت، وألفت بين ألوانها تأليفاً متآلفاً مرضياً، وقد أرى فيه الذكر تتلألأ تلألؤ الجوهر.

وقفت عند هذا العرش أذكر الشاه إسماعيل هذا الملك الجبار الذي نشأ في زلازل الحادثات حتى ملك أزمة دولة مبتدأة وهو لم يبلغ الحلم؛ وما لبث أن مد سلطانه ما بين العراق إلى الهند، ثم أورث أبناءه دولة لا تزال آثارها شاهدة بمآثرهم، ناطقة بعظمة ملكهم، مذكرة بما طوى الدهر من سلطانهم.

هذا العرش ما خطبه، ما باله وخزائن سلاطين آل عثمان؟ هنالك ذكرت جلاد سليم وإسماعيل، وذكرت موقعة جالدران الموقعة التي كادت تذهب بدولة إسماعيل الناشئة؛ لولا أن عاقت سليماً العوائق. وجالدران وأرمديد وشمالي أذربيجان اصطفت فيه جنود سليم وجنود إسماعيل سنة 925 من الهجرة. قسم سليم جنوده، وجعل الانكشارية في القلب واتخذ مكانه خلفهم، وجعل المدافع وراء الجناحين وشد بعضها إلى بعض بالسلاسل. وصف إسماعيل جنوده، وتولى قيادة الجناح الأيمن مائة وخمسون ألف جندي صمدت لمثلها؛ فانظر هذه الحرب المتأججة يضرمها ثلاثمائة ألف!

ويحمل إسماعيل الفتى الشجاع، معتزاً بجنده، مفتخراً بنسبه العلوي، مصمماً أن ينتصر أو يقتل، ويشق جناح العثمانيين الأيسر ويحسب أن النصر مقبل عليه.

وتظاهر جناح العثمانيين الأيمن بالهزيمة وانقسم، فتحمل ميسرة إسماعيل وترمي بنفسها

ص: 24

في الفرجة بين القسمين فإذا هي أمام المدافع، وإذا النيران تأخذها من كل جانب. لا تتبدل الحال ويواتي العثمانيين الظفر.

ويسقط إسماعيل عن جواده جريحاً وينجيه من الأسر القريب الفرار إلى تبريز

وبادر سليم يجمع الغنائم، ويزهى بما نال من ظفر على عدوه الجبار.

وسليم يدخل تبريز بعد ثلاثة عشر يوماً دون حرب، وكانت تبريز يومئذ دار الملك وبها خزانة إسماعيل قد جمع فيها ما أخذ من التيموريين وغيرهم من الأمراء الذين غلبوا على ممالكهم. وبينما يدبر للاستيلاء على ملك إسماعيل كله يرى بين جنوده إمارات العصيان فيرجع أدراجه قانعاً بما أحرز من نصر وما ملك من بلاده. ثم لم يقم في تبريز إلا ثمانية عشر يوماً.

هذا العرش مما غنم سليم في هذه الحرب الضروس.

وذكرت حينئذ الرجل الكبير قانصوه الغوري الذي خشي صولة سليم فمالأ الشاه إسماعيل فأفسد ما بينه وبين العثمانيين. وتتابعت الأحداث حتى كانت وقعة مرج دابق في رجب سنة 922 قبل وقعة جالدران بسنين ثلاث. وتصورت سليماً يحرز نصراً بعد آخر ويطوي مملكة بعد مملكة بجنده وعدده، ولا سيما هذه المدافع التي لم يتسلح بها محاربوه.

وعدت أتذكر ما أعقبت عداوة سليم وإسماعيل من عداوة بين المسلمين، وما أثارا من ضغينة بين أهل السنة والشيعة، وما كان القتال إلا على السلطان والجاه وإنما كانت المذاهب تعلة.

ثم تمادت الفكر وتوالت الذكر فأخذت أقيس الرجال الثلاثة واحداً بآخر، وأتذكر ما كان منهم في السياسة والعلم والأدب. وقلت: هؤلاء الثلاثة الذين سيطروا على وسط البلاد الإسلامية كانوا يمثلون ثقافة الأمراء المسلمين. وفيما أثر عن ثلاثتهم من شعر نماذج من أدب أمرائنا في القرن العاشر الهجري. وهممت أن أكتب إليك في هذا يا صاحب الرسالة ثم تذكرت أني أصف آثاراً في متحف، وأن الكلام على قانصوه وإسماعيل وسليم جدير أن يستأثر بمقال أو أكثر. ولعلي أجد فرصة بعد.

عبد الوهاب عزام

ص: 25

‌من برجنا العاجي

للأستاذ توفيق الحكيم

ما أطول حديثنا الصامت في برجنا العاجي! هذا البرج الذي يحرسه (تنين) الوحدة! وما أكثر تلك الخواطر التي تمر برؤوسنا أحياناً كالطيور العابرة دون أن نقتنص منها شيئاً! هنا داخل هذا الإطار وبين هذا السياج سأحبس ما يقع منها تحت ذاكرتي. وإن خواطري لكثيرة، لأن أوقات عزلتي طويلة؛ وليس لي علم بلعب النرد ولا غيره من وسائل قتل الوقت، فالوقت عندي هو الذي يقتلني لأني لا أعرف كيف أقتله. ولقد حاولوا كثيراً في صباي أن يعلموني تلك الألعاب التي تلهي الناس عن أنفسهم في أوقات الفراغ، ولكني كنت أنسى دائماً في المساء ما علموني إياه في الصباح؛ ولم ينفع في أمري تعليم ولا تفهيم. وخرجت من عهود الصبا دون أن أحذق لعبة أو أحجية. شيء واحد كان يلهيني ويسرني، وقد كان عندي بمثابة النرد والأحاجي: ذلك هو الجدل حول فكرة من الأفكار. ولكم أتعبت كثيراً من أولئك الذين كانوا يلعبون معي هذا الضرب من الشطرنج في وقت من الأوقات! لقد كنت أضيع عليهم نهاراً بأكمله دون أن أمل؛ وإن رؤوسهم لتكل فما أرحمهم ولا أرحم نفسي. إن حب التفكير لنقمة. آه لو علم الناس كيف يعيش الأدباء ورجال الفكر؟! إذن فليعلموا أن القدر يوم دفع الأدباء إلى الوجود صاح فيهم ساخراً: (اذهبوا فإن لكم الفكر، ولكن. . .) ولم يتم كلامه وابتسم ابتسامة هي أبلغ من التعبير.

نعم. ما من أديب أو مفكر إلا أدرك أخيراً بعد أن قطع شوطاً من الحياة أن شيئاً آخر ربما كان أجدى عليه من الفكر قد سُلب منه إلى الأبد! إنا نحسد أحياناً بقية الناس. وإني لأتصور القدر وهو يشيع الآخرين إلى باب الوجود فيقول لهم: (اذهبوا فإن لكم الحياة. . . ولكن. . .).

أجل إنه يبتسم لهم كذلك عين ابتسامته الساخرة، ولكن هؤلاء الناس لا يفهمون مطلقاً أن القدر قد سلبهم شيئاً. وهنا الفرق بيننا وبين بقية الناس: إننا نحن رجال الفكر ندرك تمام الإدراك ما سُرق منا وما فقدناه؛ أما الآخرون فلا يعلمون. وهذا سر عذابنا نحن.

والآن وقد تكشفت لنا حياتنا الفكرية عن برج مرتفع لا خروج لنا منه؛ برج يملؤه السكون ولا نسمع فيه غير صدى أصواتنا الضائعة؛ فلنتكلم إذن بين تلك الجدران. فإن رجع

ص: 26

الصدى يؤنس على الأقل وحشتنا.

توفيق الحكيم

ص: 27

‌أناشيد صوفية

جيتانجالي

للشاعر الفيلسوف طاغور

بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب

- 72 -

إنني أبرأ من الاستسلام، وأنا أستشعر الحرية تحوطني في لذة وطرب.

وأنت - دائماً - تفرغ في كأسي من رحيقك العطر ذي الألوان رشفةً سائغة، فتفعم هذا الإناء الأرضي.

إن دنياي ستشعل من نورك مصابيحها العديدة، وتضعها أمام محراب معبدك.

لا، لن أغلق أبواب حواسي، فإن لذاذات البصر والسمع واللمس تحمل في ثناياها نشوة منك.

نعم، إن أوهامي ستتحرّق في شعلة من مرح، وإن رغباتي ستتفتح عن ثمرة من حب.

- 73 -

لقد خبا ضوء النهار وانتشرت عتمة الغسق على الأرض، وآن لي أن أنطلق إلى الغدير لأملأ جرّتي.

ونسمات الليل تشجيها موسيقا الموج الحزينة. آه، إنها تناديني لأندفع في أضعاف الظلماء، وما في الطريق الموحش من عابر سبيل، والريح تزف زفيفاً، وصوت خرير الموج يتصاعد هائجاً من جوف النهر.

لست أدري إذا كنت سأعود إلى الدار؛ ولست أدري من عساي أن ألقى على الطريق. إن هناك في القارب الذي يرسو في الناحية الضحلة من النهر، رجلاً مجهولاً يعزف على قيثاره.

- 74 -

إن آلاءك تفيض علينا فتسد مآربنا، ثم ترتد إليك وما نقصت شيئاً.

ص: 28

فالنهر يجد كل يوم عملاً، وهو يندفع إلى الغاية بين الحقول والقرى، ولكن مجراه المستمر يهفو نحو قدميك ليغسلهما.

والزهر يتأرّج فيملأ الهواء عطراً شذيّاً، غير أن غايته إن يقدم نفسه إليك.

إن الاندفاع في عبادتك لن يجدب العالم.

ومن نفثات الشعراء خذ ما يحلو لهم، ولكنك ما تزال غرضهم الاسمي الذي إليه يشيرون.

- 75 -

وعلى مر الأيام، أفتسمح لي - يا إله الحياة - أن أقف بازائك وجهاً لوجه؟ وفي خضوعي وذلتي، أفأقف بازائك - يا إله الكون - وجهاً لوجه؟

وتحت سمائك العظيمة، في وجدتي وسكوني وذلة قلبي، أفأقف بازائك وجهاً لوجه؟

وفي دنياك الصاخبة وهي تضطرب بالكد والتناحر، وبين الزمر المتدافعة، أفأقف بازائك وجهاً لوجه؟

وحين ينتهي عملي في هذه الدنيا أفأقف - يا ملك الملوك - وحيداً صامتاً وجهاً لوجه؟

- 76 -

لقد عرفتك إلهاً لي ثم تنحيت جانباً. . . فأنا لم أعرفك أخاً فأندفع إليك، ولا أباً فأنحني أمام قدميك، ولا صديقاً فأشد على يديك.

ولم أقف حيث أراك تهبط فتهدي نفسك إلي، فأضمك إلى صدري وأتخذك رفيقاً.

إنك أخ بين أخوتي غير أني لا أعيرهم انتباهاً، فأنا لا أقسم بينكم حبي، ولكني أخصك بجميع قلبي.

في حالي نعيمي وبؤسي لا أسكن إلى رجل بل أعتمد عليك أنت. إنني لأنزوي وفي نفسي أن أنزع عني ثوب الحياة لأنني لا أريد أن أغتمر في خضمها.

- 77 -

في بدء الكون، والكواكب تسطع - أول ما سطعت - في تألق، اجتمع الآلهة في السماء، وانطلقوا يغنون (أوه، ما أجمل صورة الكمال! ما ألذ الطرب المحض!).

وعلى حين فجأة دوّى صوت من بينهم (إنه ليخيل إليّ أن هناك نقصاً. إن إحدى حلقات

ص: 29

الضوء مفقودة؛ إن كوكباً قد ضاع!).

فانقطع وتر القيثارة الذهبي، وأمسكوا جميعاً عن الغناء؛ ثم صاحوا في فزع (نعم، إن الكوكب المفقود أشد الكواكب لمعاناً، لقد كان زينة السماء!).

وراحوا - منذ ذلك الحين - يفتشون عنه في دأب ونشاط، وغمرتهم الصيحة، ففقدت الدنيا - في ثناياها - بهجتها الوحيدة!

وفي هدأة الليل وسكونه تبادلت الكواكب الابتسامات والهمسات (عبثاً تفتشون! إن الكمال التام فوق كل شيء!).

- 78 -

ليست غاية جهدي أن ألقاك على الأرض، فإذا أريد أن أستشعر - دائماً - فقد النظر إليك. . . ولكن لا تمح ذكراك من قلبي لحظة واحدة، ثم ذرني أحمل آلام الحزن لفقدك في غفلتي وفي يقظتي.

وحين أقضي أيامي بين الحشد في سوق الحياة فتمتلئ يداي بالكسب، استلبني من نشوة الربح؛ ولا تمح ذكراك من قلبي لحظة واحدة، ثم ذرني أحمل آلام الحزن لفقدك في غفلتي وفي يقظتي.

وحين أجلس على جانب الطريق أستجم من أثر الأين والبُهر، فأنشر فراشي على الثرى؛ ألقِ في روعي أن رحلتي ما تزال طويلة؛ ولا تمح ذكراك من قلبي لحظة واحدة، ثم ذرني أحمل آلام الحزن لفقدك في غفلتي وفي يقظتي.

وحين تتزيّن حجراتي وتتصاعد أنغام القيثارة وترتفع رنات الضحك، دعني أشعر كأنني لم أدعك إلى داري. . . ولا تمح ذكراك من قلبي لحظة واحدة، ثم ذرني أحمل آلام الحزن لفقدك في غفلتي وفي يقظتي.

- 79 -

أنا كأنني نُثار سحابة خريف تضطرب عبثاً في أرجاء السماء؛ آه، إن شمسي دائماً تتألق! إن لمساتك لم تحولني إلى بخار فأكون شعاعاً منك يحصي عدد الشهور والسنين التي تنفصل عنك.

ص: 30

وإذا كانت تلك إرادتك، وهذه هي غايتك، فاجذب إليك حطامي المنقض، واصبغه بالألوان وزينه بالذهب، ثم أرسله بين هوج الرياح ليبدو في فنون أخَّاذة.

وإذا كانت مشيئتك أن تنتهي من عملك والليل ساج، فسأذوب وأتلاشى بين أضعاف الظلام، أو في بسمة الصباح اللامع. . . في الصفاء والنقاوة.

- 80 -

في أوقات الفراغ آسى أنا على أيامي الضائعة، ولكنها - يا إلهي - لم تضع، فأنت قد بسطت يديك على كل ساعة منها.

إنك تستقر في أعماق كل شيء، فأنت تنفث في الحبة فتصبح نبتة، وتنفخ في الكِم فبتفتح عن زهرة، وتنضج الزهرة فتحور ثمرة.

لقد كنت أستشعر الجهد والضنى فاستلقيت على فراشي وفي خيالي أن كل عمل في العالم قد وقف، وعند الصباح انطلقت إلى حديقتي فألفيتها تموج بالزهر الغض.

- 81 -

إن الزمان لا نهائي بين يديك يا سيدي، وليس هنا من يستطيع أن يحصي عدد اللحظات.

الليل والنهار يتعاقبان، والدهر يتفتح ويذوي كأنه زهرة، وأنت وحدك تعرف كيف تبقى، والقرون يتلو بعضها بعضاً، تدفع زهرة برِّية صغيرة إلى الكمال.

لم يبق من وقت نضيعه فلنتدافع نحو الفرصة السانحة، فنحن فقراء يؤذينا الكسل.

وهكذا تصرم الزمن وأنا أحبو منه كل شاكٍ يعتفي، فأقفر محرابك من القرابين.

وعند الغروب انطلقت أشتد نحو بابك خيفة أن يغلق علي، غير أني وجدت أنه ما يزال في الوقت بقية.

كامل محمود حبيب

ص: 31

‌أبو إسحاق الصابي

للأستاذ عبد العظيم علي قناوي

- 3 -

لا بد للكاتب الحريص أن يتحرى النواحي التاريخية التي تتصل بالحياة الأدبية عندما يعرض حياة رجل كأبي إسحاق الصابي خبّ في السياسة ووضع، وارتفع بأسبابها ووقع؛ ليتبين هل كان بؤس ذلك الرجل طوال عمره أثر سرف في خطته، ونتيجة سفه في مسلكه؟ أم أن جيله الذي نشأ فيه هو رأس نكباته، وأس ويلاته، حتى صار البؤس على وجهه كتاباً مسطورا، والشقاء في حياته طريقاً مرسوما؛ لذلك أرى وصف الحالة السياسية في العصر الذي عاش فيه موجِزا.

ولد أبو إسحاق في أوائل القرن الرابع الهجري، والخلافة مزعزعة الأركان، واهية البنيان، يتبارى في تقويض دعائمها وتهوين رواسخها أمراء متعددون، وقواد متحفزون، شغلتهم نفوسهم عن دولتهم، فهم يبغون لشخوصهم ملكاً عضودا، ولذواتهم نهوضاً وسعودا، لا يبالون أن يبنوا ذلك على أنقاض منعة الإسلام، أو على انتهاك حرمة السلام؛ وكان المتألبون أجناساً شتى؛ فللترك طوراً القدح المعلى والنصيب الأعلى، وللديلم حيناً القوة والبطش، والمنعة والبأس، والأمة حيال أولئك وهؤلاء كأسراب القطا تتخاطفها البزاة الجارحة، أو كقطعان الحملان تتناهبها الذئاب الضارية.

وفي الثلث الثاني من هذا القرن استتب الأمر قليلاً لآل بويه واطمأن إليهم الملك، فاستولى معز الدولة بن بويه على بغداد بعد أن انتشر فيها الفساد، وطغت عليها الفاقة، واجتاحتها المخمصة؛ حتى هجرها أهلها إلى المدائن والقرى يستمطرون الرحمة، ويبحثون عن الطمأنينة والدعة، وبعد مدة خلع معز الدولة الخليفة المستكفي بالله؛ لاتهامه إياه بدسائس يحوكها ضده، وتدبيرات ينسجها في الخفاء له، وولى بعده أبن عمه المطيع لله، وكان هذا كرة صولجانها معز الدولة، وخلة سيفها آل بويه؛ يأمرون فيأتمر، ويشيرون فيصنع، ويشاءون فينفذ، أما أن يكون له من الأمر شيء، فذلك مالا سبيل إليه. وظل ذلك شأن معز الدولة يدير شئون الأمة متفرداً، ويقضي في سياستها متوحداً، حتى أدركه المنون في منتصف القرن الرابع. فتولى الملك بعده ابنه بختيار، وتلقب بعز الدولة، وقد أشرف على

ص: 32

الخلافة أحد عشراً عاماً، وهو لاهٍ عن أمر وَليَه، وملك سَلبَه حتى سُلبه؛ لها بالغواني الكواعب والمغنيات الكواكب، فبرز له منافس قوي أوتي نبلاً وبعد همة ونباهة ذكر وحسن أحدوثة هو عضد الدولة، فدخل بغداد فاتحاً، وقبض على محمد بن بَقية وزير عز الدولة وصلبه على رأس الجسر، وهو المرثي بالقصيدة الخالدة لأبي الحسين الأنباري وأولها:

علو في الحياة وفي الممات

لحق تلك إحدى المعجزات

في هذا العصر أهلّ أبو إسحاق ودرج، وشب واكتهل، وشاب وهرم، فلا بدع أن يناله ما ناله، ولكن البدع أن يخرج من هذا المعترك لا عليه ولا له، إذ معنى هذا أنه كان في الأدباء من النكرات، وفي رجال الدولة من الإمعات، وأن حياته لتنبئ عن غير هذا، فقد اعتقل في عصر معز الدولة عندما أناب عن الوزير المهلبي على ديوان الوزارة والرسائل لخروج الوزير إلى الشام مقاتلاً، فقتل بعمان، وقبض على عماله جميعاً وعلى رأسهم أبو إسحاق ومن قوله وهو معتقل:

يا أيها الرؤساء دعوة خادم

أوفت رسائله على التعديد

أيجوز في حكم المروءة عندكم

حبسي وطول تهددي ووعيدي؟

قلدت ديوان الرسائل فانظروا

أعدوت في لفظي عن التسديد؟

أعليَّ رفع حسام ما أنشأته

فأقيم فيه أدلتي وشهودي

ولما فك اعتقاله خدم عضد الدولة وهو بفارس، بالشعر والكتابة يفيض عليه المدح ويضفي الثناء حتى صار الصابي من جملة خاصته، وموضع ثقته ومحبته، ومحل رفده ورضيخته؛ وحتى همَّ بالنزوح معه إلى فارس بعد حلف عقد بينه وبين عز الدولة بختيار خوف سطوته، وخشية بطشه وفتكه؛ لتوثق علاقته بعضد الدولة، ولكنه - وهو من عرفنا رعاية لأهله، وحدباً على ولده - خاف أن يأخذ عز الدولة البريء بالمذنب، والمحسن بالمسيء، فينال أهله منه سوء لا يجد لرده دفعاً، ويصيبهم منه شر لا يعرف له درءا، فيكون كمن يفدي نفسه بولده، ويستخلص دمه بدماء ذوي قرابته، وما عرفنا فيه خيانة للجار الجنب، فكيف به يسلم بنيه وذويه، ويخرج مع البازي عليه سواد؟ عرف عضد الدولة ما يعتلج في نفسه، وما يضطرب به فكره، فجعل أمنه في سربه جزءاً من الحلف، وسلامته في ولده شرط من شروط العقد، فنص فيه على حراسته في نفسه وماله، وترك تتبعه في شيء من

ص: 33

أحواله. وبعد مزايلة عضد الدولة بغداد استخفى خائفاً، واستتر متوجساً شراً، حتى توسل أحد أصدقائه إلى عز الدولة وإلى وزيره ابن بقية أن يهبا له أمناً، ويبذلا له عوناً، فقبلا التوسل وتركاه طليقاً، وما لبثا أن قيداه سجيناً بإغراء ابن السراج لهما به، وفي هذا يقول ياقوت في معجمه (وجرت له في هذه النكبة خطوب أشفى فيها على ذهاب النفس، ثم كفاه الله بأن فسد أمر ابن السراج مع ابن بقية بما عامله بالعلة التي عرضت له، فقبض عليه، ونقل القيد من رجل أبي إسحاق إلى رجله) وفي محبسه هذا كتب إلى ابن بقية يستعطفه ويستميحه:

ألا يا نصير الدين والدولة الذي

رددت إليها العز إذ فات رده

أيعجزك استخلاص عبدك بعدما

تخلصت مولاك الذي أنت عبده؟

وصفا له الجو، وهدأت عواصف الشر، فاستخدمه عز الدولة فأخلص، واصطفاه فكان نعم المصطفى، وكتب له كتباً كانت مثار حنق عضد الدولة، ومدار إحنه، ولشد ما غضب عندما أنشأ كتاباً عن الخليفة الطائع لله يشيد فيه بعز الدولة، ومنه (وقد جدد أمير المؤمنين له (أي لعز الدولة) مع هذه المساعي السوابق، والمعالي السوامق، التي يلزم كل دان وقاص، وعام وخاص، أن يعرف له حق ما كرّم به منها، ويتزحزح له عن رتبة المماثلة فيها) فقد أحفظه هذا التعريض أعظم حفيظة، واضطغن عليه أشد ضغينة، فلما ملك بغداد سنة سبع وستين وثلاثمائة هجرية أمره أن يؤلف كتاباً في مناقبه، وفي آثار الدولة الديلمية، وذكر فتوحها، فأطاع. وبينا هو في تأليفه وتصنيفه، وتسويده وتطريسه زاره في داره عدو في ثياب صديق، وسأله عما يعمل، فزعم عنه أنه قال: أباطيل أنمقها، وأكاذيب الفقها، فحركت القالة المزعومة في عضد الدولة كوامن غيظه، وأثارت منه عوامل ضغنه، فأمر بإلقائه تحت أرجل الفيلة، ولولا أن استشفع فيه من أصدقائه نصر بن هارون، ومطهر بن عبد الله، وعبد العزيز بن يوسف، لكان في ذلك اليوم من الهالكين؛ فقد أقبلوا على الأرض يقبلونها بين يدي ملكهم ضارعين مستشفعين راجين متوسلين؛ حتى صدر أمره باستحيائه مع اعتقاله، واستصفاء أمواله، فبقى في معتقله هذا ثلاث سنوات وسبعة أشهر وأياماً، وإن جاء ذكرها في شعره أربعاً على سبيل التجوز في قصيدة يسترحم بها عضد الدولة، وقد خرج لزيارة مشهد أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأولها:

ص: 34

توجهت نحو المشهد العلم الفرد

على اليمن والتوفيق والطائر السعد

تزور أمير المؤمنين فيا له

ويالك من مجد منيخ على مجد

فلم يُر فوق الأرض مثلك زائراً

ولا تحتها مثل المزور إلى اللحد

وفيها يقول:

أمولاي: مولاك الذي أنت ربه

إليك على جور النوائب يستعدي

وهذي يدي مدت إليك بقصة

أعيذك فيها من إباء ورد

أتاني شتاء ليس عندي دثاره

سوى لوعة في الصدر مشبوبة الوقد

فلو أن برد الجلد عاد إلى الحشا

وفار الحشا الحران مني على الجلد

أزيحت لنفسي علتاها فأعرضت

عن البث والشكوى إلى الشكر والحمد

وداويت داءي النقيضين ذا بذا

أعدل إفراطاً من الضد للضد

ومنها:

فلا تبعدني عنك من أجل عثرة

فإن جياد الخيل تعثر إذ تخدى

ولو كنت تنفي كل من جاء مخطئاً

إذن لعممت الناس بالنفي والطرد

ومن زلّ يوماً زلة فاستقالها

فذاك حقيق بالهداية والرشد

توالت شني أربع ومدامعي

لها أربع كالسلك سل من العقد

أحوم إلى رؤياك كيما أنالها

حيام العطاش الناظرات إلى الورد

ويبدو لي أنه أفرج عنه عقب هذه القصيدة، ولكنه ما سلم حتى ودَّع، وما هنئ حتى ووسى؛ إذ قبض عليه مرة أخرى عندما فتح بغداد للمرة الثانية بعد أن استشفع لديه قبل وصوله إليها بأبي سعد بهرام بن أردشير، وسأله أن يذكره لدى عضد الدولة، ويقيم له عذره، ويوضح له أمره؛ فكان جواب عضد الدولة العفو والمغفرة في كتاب طويل منه:(ومن كانت به حاجة إلى إقامة معذرة، واستقالة من عثرة، أو الاستظهار في مثل هذه الأحوال بوثيقة، فأنت مستغن عن ذلك بسابقتك في الخدمة ومنزلتك من الثقة، وموقعك لدينا من الخصوص والزلفة). ومنه: (فاسكن إلى ذلك واعتمده، ولك علينا - الوفاء به - عهد الله وميثاقه، وقد حملنا أبا سعد - أعزه الله - في هذا الباب ما يذكره لك. والله نستعين على النية فيه وهو حسبنا).

ص: 35

ودخل عضد الدولة بغداد وهو عنه راض، وبرحها إلى الموصل وهو إلى ولاء الصابي مطمئن، ولكن الوشاة - وما أكثرهم - نبشوا الدفائن، وأخرجوا كتباً من عز الدولة إلى أحد عماله بخط الصابي، وفي بعضها قدح في عضد الدولة، ورفعوها إليه، فكتب من الموصل بالقبض عليه، ولعل حديثه هو عن نفسه أدق من حديثنا عنه، فهو يقول:

(كنت جالساً بحضرة أبي القاسم المطهر بن عبد الله وزير عضد الدولة في يوم القبض عليَّ إذ وردت النوبة، ففضت بين يديه وبدأ منها بقراءة كتاب عضد الدولة، فلما انتهى إلى فصل منه وجم وجوماً بان في وجهه، فقال لي أبو العلاء صاعد بن ثابت: أظن في هذا الكتاب ما ضاق صدراً به، وقمت من مجلسه لأنصرف، فتبعني بعض حجابه، وعدل بي إلى بيت من داره؛ ووكل بي، وأرسل يقول لي: لعلك قد عرفت مني الانزعاج عند الوقوف على الكتاب الوارد من الحضرة اليوم، وكان ذلك لما تضمن من القبض عليك، وأخذ مائة ألف درهم منك، وينبغي أن تكتب خطك بهذا المال، ولا تراجع فيه؛ فوالله لا تركت ممكناً في معونتك وتخليصك إلا بذلته. وقد جعلت اعتقالك في دار ضيافتي، فطب نفساً بقولي، وثق بما يتبعه من فعلي) كما قبض على ولديه أبي على الحسن، وأبي سعيد سنان؛ وقد وفى الوزير أبو القاسم بما وعد، فسأل عضد الدولة إطلاقه واستخلافه لقيام أبي القاسم على رأس جند لقتال صاحب البطيحة فقال له:

أما العفو فقد شفعناك فيه، وينبغي أن تعرفه ذلك وتقول له إننا قد غفرنا لك عن ذنب، لم نعف عما دونه لأهلنا يعني: عز الدولة والديلم، ولأولادنا بيتنا - يعني: أبا الحسن محمد بن عمر وأبا أحمد الموسوي، ولكنا وهبنا إساءتك لخدمتك وعلينا المحافظة فيك على الحفيظة منك، وأما استخلافك إياه بحضرتنا فكيف يجوز أن ننقله من السخط والنكبة إلى النظر في الوزارة ولنا في أمره تدبير، وبالعاجل، فتحمل إليه من عندك ثياباً ونفقة وتطلق ولديه، وتقدم إليه عنا بعمل كتاب في مفاخرنا. فحمل إليه المطهر ما أمر به الملك وأطلق ولديه، ورسم له تأليف الكتاب وبقى الصابي في محبسه يؤلف حتى أتم المؤلف، فلم يفرج عنه لوقته بل قيل: إنه أخر الإفراج عنه سنة، فلما رفع إليه إحدى قصائده يطلب فيها الصفح عنه والإفراج، قرأت عليه ولديه بعض أصدقاء أبي إسحاق ومنهم أبو الريان حامد بن محمد وعبد الله بن سعدان فقبلا الأرض وقال أحدهما: إن من أعظم حقوقه علينا وذرائعه

ص: 36

عندنا أن عرفناه في خدمتك، وخالطناه في أيامك. قال: فإذا كان رأيكما فيه، فأنفذا وأفرجا عنه، وتقدما إليه بملازمة داره إلى أن يرسم له ما يليق بمثله، فأفرج عنه قبل وفاة عضد الدولة بأيام، وقيل بل بقي في السجن حتى أفرج عنه ابن عضد الدولة أبو الحسين تاج الدولة.

وإني أرجو غير فاخر أن أكون قد وفقت في سرد وقائع هذا الجزء من حياته، وقربت بين الروايات المتضاربة عن اعتقالاته مستنداً في ذلك الترتيب على التاريخ السياسي للدولة البويهية، وفي المقال التالي نتحدث عن كتابته.

عبد العظيم علي قناوي

ص: 37

‌علاقة الدين بين العرب والصين

بقلم بدر الدين الصيني

معتقدات الصين القديمة

كان للصينيين دين قبل وصول الديانات الأجنبية إليهم مبني على الأوهام والخرافات، كما كان الشأن في كل أمة من الأمم في الأزمان الغابرة؛ واتخذوا الأجرام السماوية والظواهر الطبيعية معبودات لهم غير معتقدين بخالق جبار يخضع لتصرفه كل شيء من الموجودات والكائنات، فكثرت فيهم الآلهة وتنوعت طرق عبادتهم.

فالحكماء الذين ظهروا في أرض الصين بعد زمن الخرافات وطلوع فجر التاريخ الصحيح، في شخصيات (لوتس و (كانفوشيوس و (مونشيوس و (مائي تس لم يأتي واحد منهم بنظام ديني يسير عليه الصينيون كافة. إلا أنهم جميعاً يعتقدون بما وراء الطبيعة، فمثلاً (الطريقة) عند (لوتس) هي شيء ليس بصورة ولا صوت يبقى دائماً، لا يفنى أبداً، ووجود قبل كل كائن مصدر لجميع الموجودات وروح تحيا بها. فهذا التعريف لطريقة (لوتس) يوافق ما نعتقد بصفات الله. وأما (السماء) في عقائد كانفوشيوس فهو صاحب السلطة الأخير الذي إذا أغاظه الإنسان بارتكاب الكبائر فلا سبيل له إلى النجاة، فلذلك يقول:(أين الدعاء من إغاظة السماء؟).

لا فرق بين (سماء) كانفوشيوس و (سماء) مونشيوس لأن الثاني تلميذ الأول، فهو يحذو حذوه في التفكير والبحث الفلسفي؛ وأما (مائي تس) فدينه دين المحبة والمؤاخاة، يحب الصلاح والسلام ويكره الفساد والقتال؛ ومبادئ حبه تشابه مبادئ الدين المسيحي، وأصول أخوته تماثل أصول أخوة الإسلام؛ لكنه لم يضع نظاماً لإظهار هذا الحب وهذه الاخوة فالكف عن القتال والنهب والامتناع عن السرقة والحسد في اعتقاده من دواعي التحاب ومقويات التآخي، وغير ذلك.

هذه الديانات كلها تخالف الإسلام في مسألة الحشر والنشر والحياة بعد الموت من جهة الاعتقاد، وفي مظاهر العبادات من حيث العمل - لأن أهلها لا يعتقدون بالحشر والنشر، ولم يأتوا بنظام خاص للعبادات - لعل هذا هو السر الذي يبقي أهل الصين في معتقداتهم القديمة مع أن أغلبهم دانوا بالديانة البوذية التي أصلها من الهند، وهذا التدين لم يحدث في

ص: 38

اعتقاداتهم شيئاً من التغير، مع أن الديانة البوذية قد أثرت في أدبيات الصين وفلسفتها تأثيراً بيناً. فرجل الدين من أهل الصين يدين بمجموع عقائد ومبادئ هذه الديانات المذكورة، فلذلك ترونهم يتعبدون على مبادئ كانفوشيوس حيناً وعلى (طريقة لوتس) حيناً آخر، مع أنهم يتعصبون للبوذية إن دانوا بها، أو للمسيحيين إن كانوا مسيحيين. هكذا شأنهم في أمر الدين حتى الآن.

دخول الديانات الأجنبية إلى الصين

معتقدات الصين القديمة التي ذكرتها آنفاً، بطبيعتها ومبادئ لا تنافي الديانات الأجنبية التي كانت سائدة في آسيا أوسطها وأدناها، فسهل على البوذية أن تتسرب إلى الصين عن طريق تركستان في القرن الثاني للميلاد، وامتزجت بمعتقدات الصين، فصارت الآن ديناً شبه دين الدولة في الشرق الأقصى؛ مع أن مذهب كانفوشيوس أو (طريقة لوتس) أجدر بهذا الاحترام ولها نفوذ في كل ناحية من نواحي حياة الشعب الصيني يظل باقياً حتى يغلبه أثر الإسلام إن قدر الله للإسلام نهضة جديدة في تلك الديار في المستقبل.

من الديانات الأجنبية التي تسربت إلى الصين قبل الإسلام المانوية والمجوسية والنسطورية؛ فدخول المانوية الصين كان في القرن السابع للميلاد جاء إليها من تركستان لأن أغلب أهلها قد اعتنقوا هذا الدين قبل ظهور الإسلام، فانتشروا رويداً رويداً إلى شمال الصين وغربها حتى أسس المعابد لمعتنقيه في الشطر الأول من القرن الثامن للميلاد في بعض المدن الشهيرة، ولهم هياكل كثيرة في ولايات (هانان و (شانسي وكثرة أصحاب هذا الدين يمكن أن نعرفها من الواقعة التي وقعت في عهد (ووشونك)(841 - 846م). وكان هذا الإمبراطور متشبثاً (بطريقة لوتس) ومتعصباً لها، فاضطهد أهل الديانات الأخرى وهدم كثيراً من معابد المانوية والمجوسية والنسطورية. فقتل في عاصمة الصين وحدها 72 نسمة من راهبات المانوية ففنيت هذه الديانة من الصين بعدئذ.

أما المجوسية، كما أشار إليها سليمان السيرافي والسعودي وغيرهم من كتاب العرب، فدخلت الصين قبل الإسلام على الأقل بقرن، ولكنها لم تنتشر إلا في دائرة محدودة. فلما فتح العرب إيران وقضوا على دولة كسرى فَر يزدجرد إلى الشرق ولجأ إلى عاصمة الصين، فأنشأ فيها معبداً للمجوسيين، وكان معه جماعة من علماء المجوسية فبثوا دعايتهم

ص: 39

في شمال الصين، لكن هذه الديانة غير مقبولة عند الصينيين. فالذين دخلوا فيها قليلون جداً. وقد محيت آثارها في سنة 846م كما أسلفنا.

وأما الديانة النسطورية فوصلت إلى الصين في سنة 635م، وذلك بناء على ما ثبت في كتابة تاريخية وجدت بمدينة تشانغ أن - وأول من جاء إلى الصين للدعاية إلى النسطورية كان رجلاً يدعى أولوبن ويظهر من تاريخ الصين أنه استوطن تشانغ، وأنه بنى معبداً للنسطوريين يسكن فيه واحد وعشرون راهباً؛ وكان أولوبن رئيسهم؛ ثم انتشرت هذه الديانة في بعض العواصم وأنشئوا معابد فيها، فنقشوا أعمالهم في الألواح الحجرية ونصبوها في المعابد تذكيراً وتخليداً، فالعبارات التي نقشت في هذه الألواح مدونة الآن في تاريخ الصين العام.

وبعض الكتب العربية يذكر أيضاً ذهاب النسطوريين إلى الصين. مثل أبن النديم، فانه روى في الفهرست أن الجاثليق قد بعث ستة من علماء النساطرة إلى الصين للإرشاد والدعاية فمات منهم خمسة ورجع سادس وهو من أهل نجران إلى الروم بعد الإقامة بالصين نحو ست سنين في سنة 377 هـ.

وكان لهذه الديانة قدم ثابتة في نفوس الصينيين، ولعلها تؤثر في حياتهم إلى حد ما إذا طال أمدها في الصين، لكن مشيئة الله لم ترد انتشار هذه الديانة في الشرق الأقصى فطرد مبشروها، وهدمت معابدها في أواخر القرن التاسع للميلاد، وحكاية الراهب النجراني أيضاً تشير إلى ذلك.

الأغلاط التاريخية فيما يتعلق بدخول الإسلام إلى الصين

لقد أطلت في ذكر هذه الديانات الأجنبية مع أن محور بحثي في هذا الموضوع هو دخول الإسلام، وإني مضطر إلى أن أفعل هذا لأن الأغلاط التاريخية التي تتعلق بدخول الإسلام لا يمكن أن تستدرك إلا بمعرفة تواريخ هذه الديانات ودخولها إلى الصين. لقد قيل أن الإسلام قد وصل إلى الصين في عهد (كائي وانغ - من (أسرة هوي - ومعنى ذلك أن دخول الإسلام الصين قد وقع بين سنتي 589 و605 م، وهذا مستحيل لأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبعث بالرسالة إلى العالم كافة إلا في سنة 610 م.

ومن رأي أن القائل بهذا القول قد أخطأ في هذه النقطة فحسب المجوسية التي دخلت

ص: 40

الصين في أواخر القرن السادس للميلاد دين الإسلام الذي دعا إليه صاحب الرسالة بعد نبوته، مغالطاً في دليله إذ قال إنها ديانة جاءت من (الغرب) بالغين ففهم من (الغرب)(العرب) ووقع خطأ فاضح دون أن يشعر أن الإسلام لم يكن له وجود في جزيرة العرب قبل سنة 610 من تاريخ الميلاد. فظهر من هذا الاستقراء أن الدين الذي وصل إلى الصين في عهد (كائي وانغ) كان في الحقيقة المجوسية لا الإسلام. وعندنا شهادة نقلية في الكتب الصينية غير تلك الدلائل العقلية التي أشرت إليها آنفاً، ونعرف أن بعض المجوسيين قد وصلوا إلى (تشانغ آن) في أول عهد (كائي وانغ) وأنشئوا المعابد وكانوا يغنون في صلواتهم فيها. ومن أناشيدهم الدينية نوع يقال له (موفوش) يوجد ذكره في (ديوان أغاني الصين) وفسر صاحب الديوان هذه الكلمة بأنها نوع من الأغاني الدينية للمجوسيين الذين وردوا إلى الصين في عهد (كائي وانغ) وهذا دليل قاطع يرد على من يدعي دخول الإسلام في هذا العهد.

أما اتصال الإسلام بالصين فكان عن طريقين: طريق البر وطريق البحر. كان قتيبة ابن مسلم الباهلي الذي فتح كاشغر في سنة 96 هـ، هو الأول الذي بعث وفداً من العرب بطريق البر إلى إمبراطور الصين أواخر تلك السنة فعرضوا عليه أحد الأمور الثلاثة: الإسلام والجزية والمحاربة. ولابن الأثير في هذا الوفد أقوال طريفة توجد في تاريخ الكامل، وللقارئ أن يرجع إليه في هذا الصدد، وأما وصول الإسلام إلى الصين بحراً ففيه اختلاف بين المؤرخين في سنة الوصول وفيمن هو أول من جاء بالإسلام إلى أقرب مرافئ الصين (كانتون).

(لها بقية)

بدر الدين الصيني

عضو من البعثات الصينية بالأزهر الشريف

ص: 41

‌هكذا قال زرادشت

للفيلسوف الألماني فرديك نيتشة

ترجمة الأستاذ فليكس فارس

الغبطة القاسرة

وسار زارا يقطع أبعاد البحر تساوره مثل هذه الهموم، وتدور به مثل هذه الأسرار، حتى إذا تخطى مجال أربعة أيام عن الجزر السعيدة وما ترك عليها من صحبه، اشتدت عزيمته فتغلب على آلامه، وثبّت قدميه في موقفه متجهاً إلى مقدراته مناجياً سريرته وقد عاد إليها مرحها وسرورها قائلاً:

لقد فزعت إلى عزلتي لأنني تقت إليها، فأنا الآن منفرد أمام صفاء السماء ومدى البحار، وقد خطا النهار إلى عصره وما التقيت بأصحابي للمرة الأولى إلا في وقت العصر، وفي مثل هذا اليوم اجتمعت بهم للمرة الثانية. والعصر هو الساعة التي يهدأ فيها اضطراب الأنوار جميعها لأن السعادة الذاهبة بدداً منشورة على مسالكها بين السماء والأرض تتجه إلى الاستقرار في روح الضياء. وها أن السعادة تحول اضطراب النور إلى سكون.

فيا لعصر حياتي! إن سعادتي هي أيضاً قد انحدرت يوماً إلى الوادي تطلب مستقراً فلقيت هذه الأرواح النيرة تفتح لها الملجأ الأمين.

يا لعصر حياتي! لكم تخليت عن أشياء في الحياة توصلاً إلى مغارس أفكاري الحية وإلى أنوار الصباح تدور في ذراتها أسمى أماني وآمالي.

لقد طلب المبدع يوماً رفاقاً له وفتش عن أبناء آماله فأدرك أنه لن يجد إذا هو لم يخلقهم خلقاً.

لقد أتممت نصف مهمتي باتجاهي نحو أبنائي وبعودتي إليهم، وقد وجب على زارا أن يبلغ نفسه الكمال من أجل هؤلاء الأبناء. وما يحب الإنسان من صميم قلبه إلا ابنه ونتيجة جهوده، وحيث يتجلى الحب الأشد فهنالك تكمن القوة المولدة؛ ذلك ما أدركته بتفكيري.

إن أزهار أبنائي لا تزال تتفتق في الربيع والريح تهب على صفوفهم فتهزها؛ فأبنائي أشجار حديقتي ونبت خير أراضي.

ص: 42

إن هذه الأشجار متراصة في منابتها على الجزر السعيدة، ولسوف أقتلعها واحدة فواحدة لأغرسها متفرقة فتتعلم احتمال العزلة وتنشأ فيها الأنفة والحزم لينتصب كل منها تجاه البحر وقد تعدب جزعها وتعقدت أغصانها كمنائر حية للبقاء القاهر.

على كل شجرة أن تشخص في مهب العواصف المترامية إلى البحر حيث يتدافع الغمر إلى قاعدة الجبل فلا تغفل ليلاً ونهاراً عن تفحص سرائرها. عليها أن تتحمل التجارب ليعلم أنها من سلالتي وأنها تحدرت من أصلي تعززها الإرادة المجالدة فتبدو صامتة حتى عندما تتكلم، وإذا ما استسلمت تبدو معطية وهي آخذة. وهكذا يتحول من يمشي على أثر زارا بإضرابه وبإبداعه إلى شخصية تحفر شريعتي على ألواحي فيكتمل بذلك كل شيء.

وهاأنذا من أجل هذه الشخصية وأمثالها أسعى إلى تكوين شخصيتي فأمتنع عن ورود السعادة مقتحماً كل شقاء في آخر تجربة أتحملها لأدرك سريرتي.

لقد آن الأوان لرحيلي وقد نبهني إلى وجوب الرحيل خيال المسافر وأطول الأزمان وأعمق الساعات صمتاً إذ نفخ الريح في فتحة القفل فتراجعت درفة الباب قائلة: هيا.

ولكنني كنت مقيداً بحبي لأبنائي يأسرني تشوقي إلى هذا الحب لأصبح فريسة لهؤلاء الأبناء فأضحى من أجلهم نفسي؛ وما الشوق عندي إلا صورة ظاهرة لحقيقة فنائي. إن أبنائي لي وفي هذا التملك يجب أن يضمحل كل شوق مستحيلاً إلى عقيدة مكينة.

وكان رأسي يلتهب بشمس محبتي فأتحرق بحرارة دمي فرأيت أشباح الشكوك تدور بي من كل جهة فتمنيت أن يلفحني قر الشتاء حتى تصطك أسناني من رعشة الصقيع، وما عتم أن اكتسح نفسي ضباب الجليد، فشق الماضي لحوده وبعثت منه الآلام التي دفنت وهي حية فيها، وما تناولها الفناء لأنها كانت نائمة طي أكفانها.

وكان كل شيء يشير إلي بأن قد حان زمن الرحيل ولكنني كنت لا أنتبه إلى هذه الدعوة حتى تحركت أعماقي ولسعتني ثائرات أفكاري. ويا ليت لي القوة للتغلب على ارتعاشي عندما أشعر بقوة التفكير في أغواري تحاول أن تخترق لها منفذاً، فإنني لا أزال أحس باختلاج قلبي عندما أتنصت لدبيب أفكاري وهي تحاول الانجلاء لي. إن في صمتك نفسه أيتها الفكرة ما يشد على عنقي وأنت أشد صمتاً من أغواري. ولكم حاولت أن أستخرجك من الأعماق أيتها الفكرة فخانني العزم واكتفيت بإضماري إياك في ذاتي. إنني لم أتصل

ص: 43

بعد إلى جرأة الأسد وإلى منتهى إقدامه.

إنك لجد ثقيلة في أغواري أيتها الفكرة ولسوف أجد يوماً قوة الأسد وأتخذ لصوتي زئيره فأرفعك من الغور إلى المنبسط، حتى إذا ما تغلبت بذلك على نفسي تدرجت إلى انتصار أعظم أختم به أعمالي. وإلى أن أبلغ هذا الظفر سأبقى تائهاً على بحار لا أعرف لها ساحلاً تداعبني خطرات الأحداث فأتلفت إلى ما ورائي وإلى ما أمامي ولا أعلم أين المنتهى.

ألم تحن بعد ساعة جهادي الأخير أم هي ماثلة أمامي الآن؟ والحق أن البحر والحياة يحيطان بي بجمالهما الفتان ويعلقان أبصارهما علي.

فيا لعصر حياتي، يا للسعادة تتقدم ساعة المساء، يا للمرسى في وسط العباب، يا للسكون في قلب الارتياب، إنني أحاذركنّ ولا أثق بكنّ جميعاً.

أما والحق إنني أخشى جمالكن الغدار كما يخشى العاشق ابتسامة تجاوزت حد التلطف في افترارها. إنني أرفع عني ساعة السعادة كالغيور يصد عن محبوبته ولما يزل العطف يتجلى في قسوته وجفائه.

بُعداً لك أيتها الساعة السعيدة! فقد اجتاحتني بحلولك غبطة قاسرة وأنا أتوقع أعمق الأحزان. لقد جئتني في غير الأوان.

بُعداً لك أيتها الساعة السعيدة! اذهبي واطلبي لك ملجأ هنالك في مقر أبنائي، سارعي إليهم وباركيهم قبل حلول المساء وأنيليهم سعادتي.

لقد اقترب الغسق وجنحت الشمس إلى الغروب فتوارت عني سعادتي.

هكذا تكلم زارا. . .

وبات يتوقع نزول شقائه به طوال ليله، غير أنه انتظر عبثاً إذ بقى الليل منيراً ساكناً واستمرت السعادة تخطو مع الساعات مقتربة إليه. وما لاح الفجر حتى بدا زارا يتضاحك قائلاً:

إن السعادة تتأثرني لأنني لا أتأثر النساء، وهل السعادة إلا امرأة؟

قبل بزوغ الشمس

أيتها السماء الرافعة قبابها فوق رأسي نقية صافية، أيتها السماء السحيقة وقد غادرت في أبعادك الأنوار، إنني أشخص إليك فتمتلكني رعشة الأشواق الإلهية.

ص: 44

أنا لا أسبر أغواري إلا إذا سموت إلى عليائك، ولا أشعر بطهارتي إلا حين يجللني صفاؤك.

إنك تحجبين نجومك كما يتلفع الإله بسنائه. أنت صامتة وبصمتك تذيعين لي حكمتك.

لقد تجليت لي اليوم في سكونك على زبد الآفاق فأعلنت لروحي المزبدة ما فيك من حب وعفاف. جئت إلي جميلة مقنعة بجمالك تخاطبيني بلا كلام وتعلنين حكمتك وما كنت أعلم ما في روحك من عفاف. أتيت إلي قبل بزوغ الشمس أنا المنفرد في عزلتي.

أنا وأنت صديقان منذ الأزل فأحزاننا واحدة كارتياعنا، وعمق أغوارنا وشمسنا واحدة أيضاً. وما نتناجى إلا لوفرة ما نعلم ثم يسودنا الصمت فنتبادل ما أعرف وما تعرفين بلغة البسمات. أفما بعثت أنوارك من مكمن أنواري أفليست فكرتك أختاً لفكرتي؟

لقد تعلمنا كل شيء سوية وتدربنا سوية على الاعتلاء فوق ذاتنا متجهين إلى صميمها مبتسمين بافترار لا تعكره الغيوم. وبلفتات صافية نغرقها في سحيق الأبعاد في حين تتدافع كالأمطار تحتنا النزعات المكبوتة وأهداف الأخطاء.

إلى مَ كانت تتوق نفسي عندما كنت أذهب في الليل شارداً على مسالك الضلال؟ وماذا كنت أطلب في تسلقي الجبال نحو قممها؟ أفما كنت أنت مقصدي أيتها السماء. وهل كانت أسفاري جميعها إلا ذهاباً مع حافز التدرب؟ وهل كان لإرادتي من هدف غير التحليق في الأجواء؟ وهل أبغضت شيئاً بغضي الغمام وكل نقاب يلفع الضياء؟ لقد كرهت بغضي نفسه لأنه يعكر صفاءك أيتها السماء.

إنني أنفر من هذه الغيوم تمر كأنها قطط برية تزحف زحفاً لأنها تختلس مني ومنك أيتها السماء الحقيقة الإيجابية الثابتة في كل شيء؛ فأنا وأنت ننفر من هذه الدخيلات المعكرات من هذه الغيوم الكاسحات، فما هي إلا كائنات مختلطة في نوعها يسودها التردد فلا تعرف أن تلعن بإخلاص ولا أن تبارك بإخلاص. وخير لي أن ألجأ إلى مغارة أو أسقط في هاوية من أن أقف أمامك يا سماء الضياء وقد عكرت صفاءك الغيوم الكاسحات. ولكم وددت لو أنني أسمر أردانها على آفاقك بسهام البروق الذهبية ثم أنزل عليها الرعود تهوى قاصفة على مراجل أحشائها. إنني أود قرعها بعصا الغيظ لأنها تحجب عني حقائقك أيتها السماء الممتدة بأغوار أنوارها فوق رأسي كما تحجب حقيقتي عنك.

ص: 45

لخير لي أن أسمع هزيم الرعود وولولة العواصف من أن أتنصت إلى مواء هذه الهررة الزحافة المترددة. ففي المجتمع أمثال لهذه الغيوم يسيرون مترددين بخطوات الذئاب وقد وقفت أشد بغضي عليهم.

(على من لا يعرف أن يمنح البركة أن يتعلم إنزال اللعنات) ذلك ما ألهمتنيه السماء الصافية مبدأ ينير سمائي كالكواكب في أشد الليالي قتاماً.

ما دمت فوقي أيتها السماء الصافية المتألقة بالأنوار فإنني لا أنقطع عن منح البركة وإيراد بياني إيجاباً وتأكيداً لأنير بعقيدتي جميع الأغوار المظلمة.

لقد جاهدت طويلاً حتى أصبحت مبارِكاً ومؤكِداً. وما ناضلت إلا لأحرر ذراعي فأبسطهما للبركة؛ وتقوم بركتي على الاعتلاء فوق كل شيء كما تعتلي السماء والسقوف المكورة وقباب الأجراس والغبطة الدائمة. فطوبى لمن يبارك هكذا. لأن كل الأشياء قد تعمدت من ينبوع الأبدية وما وراء الخير والشر؛ وما الخير والشر إلا خيالات عابرة وأحزان بليلة وغيوم متراكضة إلى الفناء.

والحق أن من البركة لا من اللعنة أن نعلم بأن فوق كل شيء تمتد سماء الصدفة وسماء البراءة وسماء الحيرة وسماء الاضطراب.

إن كلمة الصدفة لأقدم ما في العالم من نسب للأشياء؛ وقد أرجعت كل الأشياء إلى هذا النسب النبيل فأنقذتها من عبودية المقصد والهدف. وهكذا رفعت الحرية والغبطة السماوية عالياً ونصبتها كالقباب فوق جميع الأشياء إذ علمت أن ليس من إرادة أبدية تعلو بها لتبسط مقاصدها فوقها.

لقد وضعت حداً لهذه الإرادة بل لهذا الجنون وهذا الاضطراب عندما علمت أن الوقوف عند الحقيقة كان مستحيلاً وسيبقى مستحيلاً. فما هناك إلا قليل من التعقل وذرات من الحكمة تتلقفها الكواكب لخميرة امتزجت بالأشياء جميعها ولولا الجنون لما امتزجت بها.

ليس للإنسان أن يعطي من الحكمة إلا قليلاً. غير أنني وجدت في كل مكان عقيدة لها سعادتها وهي تفضيل الرقص على أرجل الصدفة العمياء.

فيا أيتها السماء الممتدة فوق رأسي، أيتها السماء الصافية المتعالية، لقد أصبح كل صفاء فيك قائماً على اعتقادي بأن ليس في الكون عنكبة خالدة، وليس فيه من الحكمة ما تنسجه

ص: 46

العناكب. فلتكن مجالاتك أيتها السماء مسرحاً لخطرات الصدف الإلهية، أو فلتكن خواناً يدحرج عليه الآلهة نردهم، فعلام يعلو أديم وجهك الاحمرار؟ أترى جاء بياني مبهماً أم وردت بركتي لك لعنة عليك؟ أم أخجلك أن أنفرد بك فأردت أن أتوارى وأكف عن الكلام لأن الفجر قد لاح على الآفاق؟

إن في العالم من الأغوار ما لا يدركه النهار، ومن الأشياء ما يجب كتمانها أمامه، وقد باغتنا النهار، فلنفترق.

أيتها السماء الممتدة فوق رأسي بطهرها واضطرامها. أيتها الغبطة المتجلية قبل بزوغ الشمس، لقد باغتنا النهار فلنفترق.

هكذا تكلم زارا. . . . . .

(يتبع)

ص: 47

‌عروس الماء

للأستاذ إبراهيم العريض

لذتُ خلف الغصون في

عزلةٍ لا أملّها

وحواليَّ خضرة

بَلَّها ما يبلها

من نُهير زها على

جانبيه محلها

فإِذا راقت السما

ءُ بدا فيها ظلها

وزهور يلوح كال

قُرط في الأذن طَلُّها

جادها الماءُ قبلةً

ومضى يستقلها

وانبرى البلبل الود

يع لها يستغلها

فكأن الحياة ثمَّ

تَ للحب. . . كلها

أنا في نشوة أحدّ

ث نفسي بما أراه

وأرى ملء ناظر

يّ حياة - هي الحياة

تحت ظل يكاد يش

تعلُ الزهر في مداه

وسكونٍ يمدُّه

بلبلٌ بالذي شداه

وكأنَّ الوجودَ يب

سم حولي بما حواه

وإذا بي أحسُّ خل

في حراكاً على المياه

فتلفتُّ مستري

باً إلى النهر. . . من أتاه

آه. . . ماذا شعرتُ في ال

إثر تحت الضلوع. . . آه

وتواريتُ في الصخو

ر وجانبتُ حدَّها

وسددتُ الصدوع حو

لي ما استطعتُ سدها

حذراً أن تنمّ بي

قبلَ أن أستجِدها

نظرةً كالوميضِ تب

تدرُ العينُ ردها

لا تسلني بمن رأي

تُ فأضمرتُ ودها

إذ تمثَّلتْ كالشعا

عِ على الموج قدها

يتهادى منعَّماً

فترى الماَء ضدها

ص: 48

كلّما دافعتَهُ جلَّ

لَ بالشعرِ خدها

فتمنَّيتُ لو دنت

لي قريباً كما هيه

فأرى شعرَها يبلّ

لها وهي عاريه

وأرى طرفَها تصّ

دُّ به صدَّ عافيه

وأرى في تورَّدِ الخ

دِّ أَشياَء ثانيه

وأرى حُقَّتين وسَطَ

هما بعضُ غاليه

تستمرّانِ في النهو

ضِ وإن تَحْنُ جاثيه

وأرى الماَء قد كسا

ها على المتن حاشيه

فغدت من مهابةِ ال

حسنِ تبدو ككاسيه

وانثنت نحو ناتئٍ

فانثنى الموجُ صفَّها

ترتمي فوقَ صدرِه

بيدٍ. . . ما أخفها

فاستوت عنده بحي

ثُ ترى العينُ نصفَها

فأمرّت على السوا

لفِ بالرفقِِ كفها

تنقضُ القطرَ عن غزي

رٍ من الشعرِ لفها

ثم قامت فطوَّقَ ال

ماءُ كالرَيْطِ خلفها

غير أنّي غضضتُ طر

فيَ عن أن يشِفها

هي حوريَّةٌ من ال

إِنسِ. . . والماءُ زفها

وتخيّلتُ أنني

قائمٌ في جِوارها

حينَ تنسابُ بالحري

رِ - وإن لم يُوارها

حولَ ساقَين عاطِلي

ن - يد في سوارها

ثم تحنو لترتدي

ما نضت من وقارها

فإِذا عادلت به

سرَّةً في مدارها

أرسلت ظُلمةَ القمي

صِ على ضوءِ نارها

وإذا ما مشت تموَّ

جَ ما في صدارها

فتثنَّى عليهما

فضَلةً من خمارها

ص: 49

واكتست. . . ثم أبصرتْ

بي عندَ انحدارها

فاستَفزَّت. . . كأنها

صُورةٌ في إطارها

(البحرين)

إبراهيم العريض

ص: 50

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

335 -

سبحان الله!

في (بغية الوعاة): الشيخ ضياء الدين القرمي العفيفي العلامة المتفنن كان إماما عالماً بالتفسير والرواية والمعاني والبيان والفقه، وكانت لحيته طويلة بحيث تصل إلى قدميه، ولا ينام إلا وهي في كيس، وإذا ركب تتفرق فرقتين. وكان عوام مصر إذا رأوه يقولون: سبحان الله! فكان يقول: عوام مصر مؤمنون حقاً لأنهم يستدلون بالصنعة على الصانع. . .

336 -

ألم نسمع بفتكة جساس؟

أبو بكر بن جزي في طبيب يهودي:

ورُبّ يهوديّ أتى متطبباً

ليأخذ ثارات اليهود من الناس

إذا جسّ نبضَ المرء أودى بنفسه

سريعاً، ألمْ تسمعْ بفتكة جسّاس؟

337 -

كنت أكون أذن أحمقين

في (ألف با) لأبي الحجاج البلوي: دخل جحا ذات يوم دار الرحا فجعل يأخذ من قمح الناس ويجعله في قفته فقيل له: لأي شيء تضع هذا؟ فقال: لأني أحمق. فقيل له: فلم لا تجعل شيئاً من قمحك في قفاف الناس؟ فقال: كنت أكون أذن أحمقين. . .

338 -

أقمته مقام هزؤ

في (سرح العيون) لابن نباتة المصري: يروى أن المأمون كان قد أنحرف عن سهل بن هارون إلى أن دخل عليه يوماً فقال: يا أمير المؤمنين، إنك ظلمتني وظلمت فلاناً الكاتب. فقال: ويلك وكيف؟! قال: رفعته فوق قدره، ووضعتني دون قدري، إلا أنك في ذلك اشد ظلماً. قال كيف؟ قال: لأنك أقمته مقام هزؤ، وأقمتني مقام رحمة. فضحك المأمون وقال: قاتلك الله ما أهجاك! ورضى عنه.

339 -

ولكن سليقي أقول فأعرب

في (تاريخ اليمن) لنجم الدين عمارة اليمني: جبلا عكاد فوق مدينة الزرايب وأهلها باقون

ص: 51

على اللغة العربية من الجاهلية إلى اليوم، لم تتغير لغتهم بحكم أنهم لم يختلطوا قط بأحد من أهل الحاضرة في مناكحتهم ولا مساكنتهم. وهم أهل قرار لا يضعنون عنه. ولقد أذكر أني دخلت زبيد في سنة (520) أطلب الفقه دون العشرين فكان الفقهاء في جميع المدارس يتعجبون من كوني لا ألحن في شيء من الكلام، فأقسم الفقيه نصر الله بن سالم الحضرمي بالله لقد قرأ هذا الصبي في النحو قراءة كثيرة. فلما طالت المدة والخلطة بيني وبينه صرت إذا لقيته يقول: مرحباً بمن حنثت في يميني لأجله. ولما زارني والدي وسبعة من إخواني في زبيد أحضرت الفقهاء فتحدثوا معهم فلا والله ما لحن أحد منهم إلا لحنة واحدة نقموها عليه.

340 -

ما يقول هذا؟

في (خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر) للمحبي: مر بعض الظرفاء بغلام جميل فعثرت فرس في طين أصاب وجه الغلام منه نزر فقال الظريف: (يا ليتني كنت تراباً!).

فقال بعض المارين للغلام: ما يقول هذا؟

فقال: (ويقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا). . .

341 -

يعشق مطلق الجمال

في (شذرات الذهب ونفح الطيب): كان ابن الفارض عشاقاً يعشق مطلق الجِمال حتى أنه عشق بعض الجِمال وولع به فكان يستأجره من صاحبه ليتأنس به، فقيل له: لو اشتريته فقال: المحبوب لا يُملك. وزعم بعض الكبار أنه عشق بَرنية بدكان عطار.

وذكر القوصي في (الوحيد) أنه كان للشيخ جوار بالبهنسا يذهب إليهن فيغنين له بالدف والشبابة وهو يرقص ويتواجد. وكان أيام النيل يتردد إلى المسجد المعروف بالمشتهى في الروضة ويحب مشاهدة البحر مساء، فتوجه إليه يوماً فسمع قصاراً يقصر ويقول:

قطع قلبي هذا المقطّع

لا هو يصفو أَو يتقطع

فصرخ وسقط مغمى عليه فصار يفيق ويردد ذلك ويضطرب ثم يغمى عليه وهكذا.

342 -

الأمن، الصحة، الغنى، الشباب

في (العقد): قال الحجاج بن يوسف لخريم الناعم: ما النعمة؟

ص: 52

قال: الأمن، فإني رأيت الخائف لا ينتفع بعيش.

قال له: زدني.

قال: فالصحة، فإني رأيت المريض لا ينتفع بعيش.

قال له: زدني.

قال: الغنى، فإني رأيت الفقير لا ينتفع بعيش.

قال له: زدني.

قال: فالشباب، فأني رأيت الشيخ لا ينتفع بعيش.

قال له: زدني. قال: ما أجد مزيداً.

343 -

. . . ما سمعناه في كتاب الأغاني

مسعود الدولة النحوي مقدم الشعراء في أيام الأفضل أحمد بن بدر الجمالي أمير الجيوش المصرية:

ما أطاقوا تأمّل الجيش حتى

كحلت كل مقلة بسنان

غنّت البيض في طُلاهم غناء

ما سمعناه في (كتاب الأغاني)!

344 -

خلعت ما لا تملك على من لا يقبل

حكي عن الشريف المرتضى أنه كان جالساً في عِلِية له تشرف على الطريق، فمر تحته ابن المطرزي الشاعر يجر نعلاً له بالية وهي تثير الغبار، فأمر بإحضاره، فلما حضر قال له: أنشدني أبياتك التي تقول فيها:

إذا لم تبلغني إليكم ركائبي

فلا وردت ماء ولا رعت العشبا

فأنشده إياها، فلما انتهى إلى هذا البيت أشار الشريف إلى نعله البالية وقال: أهذه كانت من ركائبك. . .؟

فأطرق المطرزي ساعة ثم قال له: لما عادت هبات سيدنا الشريف (أيده الله) إلى مثل قوله:

وخذا النوم من جفوني فإني

قد خلعت الكرى على العشاق

عادت ركائبي إلى مثل ما ترى لأنك خلعت ما لا تملك على من لا يقبل. . .

ص: 53

‌رسالة العلم

ما بعد الطبيعة

للأستاذ محمد حسن البقاعي

كان علم ما بعد الطبيعة يعرف في القرون الأولى باسم (الفلسفة الأولى) وأول من أطلق عليه هذا الاسم هو أرسطو. أما مخترع كلمة (ميتافيزيك) فهو (آندرونيكوس من جزيرة رودوس. والسبب الذي دعاه إلى تسمية هذا العلم بما بعد الطبيعة هو أن الفلسفة الأولى جاءت في كتب أرسطو بعد الطبيعيات، فأطلق عليها اسم ما بعد الطبيعة.

أما موضوع ما بعد الطبيعة فهو درس الموجود من حيث هو موجود؛ فهي تتعمق في الأسباب وتبحث فيها أكثر من كل العلوم، أي هي تبحث في العلل الكافية لنفسها بنفسها والتي تنشأ عن كل المعلولات. ولقد حدد الفلاسفة موضوع ما بعد الطبيعة فقالوا: علم ما بعد الطبيعة يدرس الوجود المطلق وهذا الوجود يظهر لنا بصورتين:

1 -

الصورة الطبيعية المادية 2

- الصورة المعنوية

فعلم ما بعد الطبيعة يدرس الطبيعة والنفس ومباحث الفكر والعالم الخارجي والداخلي وهو على نوعين:

1 -

الكونيات العقلية وهو علم ما بعد الطبيعة الذي يدرس الطبيعة والمادة والحياة، فهو يبحث إذن في الطبيعة المادية.

2 -

النفسيات العقلية وهو علم ما بعد الطبيعة الذي يدرس مسألة الفكر وطبيعته، والروح وماهيتها. فهناك إذن مسألتان: مسألة المادة ومسألة النفس؛ وهذان المبدءان يحتاجان إلى مبدأ يكون علة لهما وهو الإله جلّ شأنه. فعلم ما بعد الطبيعة يبحث في غاية الغايات وهو الله تعالى. ولنبدأ الآن بالبحث في المادة التي هي من الكونيات العقلية فنقول:

1 -

المادة

كثيراً ما بحث الفلاسفة في المادة من القرون الأولى إلى العصر الحاضر، ويتلخص بحثها

ص: 55

في نقطتين أساسيتين:

1 -

الوصول إلى معرفة الأسباب التي تجعلنا نعتقد بوجود المادة.

2 -

الوصول إلى معرفة حقيقة المادة بعد أن نقبل وجودها.

أما وجود المادة ففيه مذهبان: مذهب الرأي العام والحس السليم، ومذهب الفلاسفة. فالرأي العام يقبل وجودها لأنه كوجودنا، ولأن الحياة العملية تسمح لنا بالاتجاه في العالم الخارجي دون أن تخولنا حق الشك في وجوده. ففكرة المادة وطبيعتها لا يصعب على الرأي العام والحس السليم بيانهما بياناً واضحاً؛ فإننا نجدها مركبة من معان مألوفة. وكلنا نعتقد أن المادة هي جوهر دائم وراء الأعراض يتغير من صورة إلى أخرى دون أن ينعدم أو يزول. وإذا رجعنا إلى دستور العالم الكيميائي الفرنسي (لافوازين المسمى بمبدأ بقاء المادة القائل:(لا خلق ولا فناء في هذا العالم بل الكل في تحول) علمنا أن المادة تتحول من شكل إلى آخر؛ فالخشب مثلاً يتحول إلى رماد وغاز، ثم تتكاثف الغازات. . . وهكذا. فالمادة على كل حال موجودة لا تتلاشى. ونحن نعتقد أيضاً أن المادة غبر متجانسة، فهي تتصف بصفات مختلفة باختلاف الأجسام التي تتركب منها؛ فكل جسم له مادة لا تشابه مادة الجسم الآخر؛ فمادة الكبريت غير مادة الصوديوم، ومادة الصوديوم غير مادة النحاس، وهكذا. وهذه المادة عاطلة فهي لا تتحرك من نفسها لأنها غير قادرة على تبديل حالة سكونها بحركة، أو تغيير شكل حركتها التي هي خاضعة لها.

وأما الفلاسفة فقد ذهبوا في وجود المادة مذاهب شتى، حتى أن (زينون ده ليه ' أحد الفلاسفة الخياليين في القرون الأولى بحث في إثبات وجودها (وكأن ذلك يحتاج إلى إثبات) فقال: إن فكرة المادة لو حللناها لوجدناها مجموعة متناقضات لأن العناصر التي يتركب منها جوهر المادة كالزمان والمكان والحركة كلها متناقضة. فالحركة كلها تناقض وعلى ذلك فلا وجود للمادة أصلاً. وهو ينكر وجود الحركة كما ينكر معنى الزمان بالمعنى المعروف ومعنى المكان بالمعنى المألوف. وأدلته على إنكار الحركة كثيرة، منها أن الأرنب إذا لحق أرنباً آخر وكان بينهما مسافة وكانت سرعة الخلفي نصف سرعة الأمامي فإنه لا يلحقه أبداً، لأنه بحسب الحساب الرياضي يلحقه في اللانهاية؛ وهما لا يستطيعان أن يذهبا إلى اللانهاية. فترى أن بحثه أوصله في النهاية إلى إنكار وجود المادة. وكان (ديوجين)

ص: 56

يعترض على زينون فيمشي ويقول: يا أستاذ؛ هاأنذا أمشي فلم تنكر الحركة؟

وقد بقيت هذه الأدلة إلى زمان (ليبنيز و (ديكارت على بساط البحث، ولكن (هنري برغسون رد عليه ردوداً كثيرة؛ كما أن حساب ليبنيز (النهاية الصغرى) ليس هو إلا رداً على زينون وأدلته الفاشلة. هذا وإن فيثاغورس وأفلاطون وتلاميذه يقررون أيضاً أن الوجود الحقيقي ليس وجود الأشياء المحسوسة بل هو وجود المعقولات فقط؛ لذلك فإن رجال الكهف (كهف أفلاطون) أي الناس كافة لا يرون إلا خيالات حقيقية. فقيمة العالم الخارجي في نظر أفلاطون الذي يعد في طليعة الخياليين هو هذه الخيالات. وقد أعطى أفلاطون للمعقولات وجوداً بالنسبة للعالم الخارجي المحسوس. لذلك فإنه يسمى خيالياً وجودياً.

أما في العصر الحاضر فقد ظهر أناس دافعوا عن الخيالية أمثال فيخته وهيكل. ولكن (بركليس) أخذ مذهب الخياليين وقال بعدم وجود العالم الخارجي مستنداً في تحليله إلى المعرفة التي توجد عندنا عن العالم الخارجي، ولكننا نعلم أن هذه المعرفة الموجودة فينا ناشئة عن الإحساس؛ وقديماً قال أرسطو: الإحساس أول العلم. فهذه الاحساسات التي هي أول العلم وأساسه هي شخصية وكيفية؛ ومجموع صفات الأجسام يمكن أن يرجع بالنسبة إلينا إلى هذه الاحساسات التي لولا وجودها عندنا لما استطعنا أن نطلع على الأجسام. فالجسم إذن هو مجموع احساسات إذا حذفت لا يبقى من الجسم شيء. يقول (بركليس) إنني لا أعرف الجوهر ولكني أعرف العرض. وهل ندرك الأعراض إلا بالاحساسات. فالاحساسات هي تغيرات نفسية تتأثر من الجوهر وتجعلنا ندرك الأعراض الناشئة عنها.

وقد قسم (بركليس) الأخوال الناشئة في الذهن والصفات الموجودة في الأجسام إلى قسمين: (1) الصفات الثابتة كالحرارة والطعم والنور (2) الصفات الأولى كالامتداد والمقاومة اللذين لا تدركهما إلا مصحوبين بصفات ثابتة مثل الحرارة والنور والطعم. فالأجسام كلها تستحيل إلى هذه الصفات الأولى والثابتة. ونحن لا ندركهما إلا بالاحساسات - كما تقدم - فكثير من معلولات النفس يبين لنا أن الإدراك والوهم متعاونان في الطبيعة وأنه لا يمكننا تمييز إحداهما عن الآخر. أضف إلى ذلك أننا عندما ندرك العالم الخارجي لا نستطيع في محاكمتنا أن يحصل عندنا منه إلا فكرة، والفكرة هنا كل الحقيقة. لذلك فأننا لا نمتزج في

ص: 57

نفوسنا في كل إدراكاتنا. وهذا هو نفس دستور بركليس القائل ، ' - أي الوجود هو الإدراك. فهل العالم الخارجي موجود لأننا ندركه أم ندركه لأنه موجود؟ فبحسب دستور بركليس موجود لأننا ندركه.

ويمكننا في مناقشة أدلة بركليس أن نقتصر على ذكر الاعتراضات التي وجهها الوجوديون على هذه الأدلة؛ فقالوا إن احساساتنا ناشئة عن الأشياء الخارجية وهي منتظمة، ومتفقة لأننا نرى ما يراه غيرنا، فنحن إذن متفقون بالأشياء التي نراها. فالقوانين التي تخضع لها احساساتنا تجعلها معقولة في نظرنا. وهذا ما كان يدعو (ليبنيز) إلى القول:(إن إدراكاتنا ليست إلا عبارة عن أحلام مرتبط بعضها ببعض، بل هي أحلام ذات إحساس. أي أنها منبعثة من وجود خارجي) فالوجوديون رفضوا بذلك نظرية الخياليين وقالوا إن العالم الخارجي موجود. . .

أما البحث في طبيعة المادة فتناول الفرضيات التي دافع عنها العلماء فيما يتعلق بماهيتها وذلك يتخلص في نظريتين عامتين:

1 -

نظرية الميكانيكية

2 -

نظرية الحركة

فالميكانيكية تستدل في دراسة الجسم الاعتباري الكيفي بالاعتبار الكمي. فكل التبدلات في الأجسام يمكن أن نرجعها إلى الميكانيكية وهي تتبدل بحسب تقدم العلم؛ وأول شكل للميكانيكية هو ما نجده عند ديموقريطس الذي يقول: إن العناصر الأولى في الجسم هي الجوهر الفرد (أتوم) وهو لا يُرى ولا يتناهى الجواهر الفردة من طبيعة واحدة ولكن لها أشكالاً مختلفة؛ ويتعدد هذا الجوهر الذي هو متين صلب لا يتبدل حاله ولا وزن له. فتتكون الأجسام، ولا يوجد في هذه الجواهر حرارة ولا لون ولا صوت. فهو يؤكد أنه لا يوجد شيء محسوس في هذه الحقيقة الوجودية التي سماها جوهر أفرد. لذلك قال: إن الجواهر لا كيفية فيها بل هي كمية؛ فهو يقربها من صفة حسية. ويمكن اعتبار نظريته هذه كتجربة أولى علمية لتوضيح الأشكال بصورة أولى ميكانيكية. ومن أشهر الفلاسفة الذين طبعوا على غرار ديموقريطس هو (أبيقور) فقد نسج في ذلك على منواله وزاد عليه بإعطائه الجوهر الفرد قوة الانحناء أي جعله يستطيع أن يغير الجهة التي يتحرك فيها إذ

ص: 58

جعل فيه قوة خاصة.

والشكل الآخر للميكانيكية هو نظرية (ديكارت، وسبينوزا) اللذين يعتقدان أن جميع خواص الأجسام يمكن إرجاعها إلى الحركة. ومن هنا نشأت جملة ديكارت المشهورة (أعطني حركة وامتداداً وأنا أكوِّن العالم). ولكن هذا القول يحتاج إلى برهان بل إلى براهين. فديكارت يعتقد أن الحركة والامتداد هما العنصران الفعالان في تكوين هذا العالم؛ وقد أنكر بذلك قدرة الإله وأثبت الفاعلية لأحد مخلوقاته الذي لا يستطيع أن يغير حالة سكونه بدون قوة إلهية تسيطر على الامتداد وتهيمن على الحركة فتبعث فيهما الحياة. ويظهر لنا أن رأي ديكارت فاسد، وإن كان قصده بالامتداد العاري عن كل صفة حسية كالحرارة واللون أي هو الحيز الهندسي الذي لا يوجد فيه آتوم حسي بل هو الفراغ اللانهائي.

ولقد تطورت الميكانيكية بعد ديكارت تطوراً هاماً؛ ففي العصر الحاضر، ليس الجوهر الفرد كما كان عند ديموقريطس وأبيقور بسيطاً لا يتجزأ بل هو مختلف عن رأيهما كل الاختلاف. فمبدأ الاحتفاظ بالقوة وتناقض القدرة وخاصة تشعع الراديوم هو الذي جعلهم يعتبرون الآتوم مركباً من الإلكترونات السالبة التي تدور حول عقدة مركزية موجبة ومسافاتها كنسبة بعد الأرض عن الشمس. . . فإنهم يكادون يرجعون كل الأجسام إلى عنصر واحد، حتى أن (غوستاف لوبون) قال: إن هذه الآتومات تسبح في أثير سيَّال غير مادي تتكون منه جواهر الأشياء.

يستند أصحاب هذه النظرية إلى الإحساس، فقد قال أحدهم (هلمولتز) إن الإحساس نسبي؛ فكثيراً ما يكون المؤثر واحداً وتختلف الحساسية ويختلف الإحساس وبالعكس. فالاختلافات الظاهرة في العالم الحسي ناتجة إذن عن اختلافات الحس الموجود. لذلك قيل: إن عنصر الأشياء هو واحد؛ ولهم أدلة أخرى يصلون بها إلى إثبات وصف الحادث وهي التجارب التي قام بها (هوبكنس) و (دوفريل) و (آراغو) وهي مسألة الاهتزاز والانتشار للنور. ولكنه ظهر أخيراً أن النور يكون بالتموج.

وعندما ظهرت هذه الأدلة قبلها العلماء في بادئ الأمر ظناً منهم أنها منتجة. ثم انتقدها كثيرون وأثبتوا بُعْدَها عن كنه الحقيقة. فدليلهم الذي يعلنون به أن القدرة في العالم لها كمية ثابتة لا يسمح لنا بإرجاع كل القدرة إلى قدرة واحدة. وأول شيء يجعلنا نحجم عن قبول

ص: 59

رأي الميكانيكية هو وجود بعض الحوادث التي لا يمكن أن تنعكس، فلو كانت ميكانيكية لانعكست. فالشمس مثلاً تشرق من الشرق وتغرب في الغرب فهذه لا يمكن أن تنعكس؛ وهذا دليل واضح على وجود قوة تحركها في هذا الاتجاه. وقد انتقد (ليبينز) رأي ديكارت فقال: إذا قبلنا أن الامتداد يجوز أن يكون فيه حركة أو سكون، فلو فرضنا جسماً مثل (ج) تحرك في هذا الامتداد وصادف جسماً آخر (ب) في حالة السكون، فهذا الأخير لا يبقى ثابتاً بل يتحرك، ولكن حركته ليست نفس حركة (ج) بل يقاومه بكتلة، وهذه الكتلة تنقص من سرعة الجسم (ج). نستنتج من ذلك أن الامتداد والحركة ليسا كافيين، ولو كانا كافيين لما كان يجب أن ينقص من سرعة (ج) وحركته.

إذن يوجد في المادة شيء غير الحركة والامتداد وهو القدرة المدخرة التي هي عبارة عن قوة تتصف بها الأجسام ولا يمكن الاستغناء عنها فهي قوة كامنة تسمى (الموناد فهي جوهر روحي تتكون من الأجسام وبواسطته يمكن تعليل المقاومة.

أما كل من دافع عن نظرية القدرة فإنه يستبدل أجزاء الآتوم بالقدرة وهي الحقيقة الجوهرية الكامنة في قلب كل الأشياء. فقد قال (أوسفالد): عندما نصاب بعصا فبماذا نشعر، أبا العصا أم بالقدرة؟ بالطبع نشعر بالقدرة التي هي الشيء الإيجابي الثابت الموجود في كل الأشياء. وهي ليست واحدة في جميع الأجسام؛ بل تتصف بأشياء مختلفة متناسبة مع شخصياتها وخواصها النوعية. والصعوبة في ذلك هي أن قوة تصدر هذه القدرة هل هي مركبة من عناصر بسيطة بقوة الإرادة كما يظن (هوكسلي على أن القدرة الفعالة لا يمكن أن تعتبر إلا كحالة شعورية فقط؛ وهذا يمكن أن يظهر غريباً. ولكن إذا حاول الإنسان أن يهتم بما يفهمه عن القوى المتجهة الواحدة منها نحو الأخرى يرى أنه يدركهما كأنهما يتحركان الواحد نحو الآخر بسرعة ما. وعند ذلك لا يتصور إلا الحركة تاركاً القوة جانباً. وأما أن يتصور كل جزء كأنه مصحوب بشيء يشابه حالته كحالة الإرادة وهو يعلم هذه الجهة. ونحن نشك أن صعوبة التفكير بالقوة شيء غير مقابل بالإرادة. فليبيز إذن يقترب من الحلول الأخيرة عن طبيعة المادة.

(انتهى بحث المادة)

دمشق

ص: 60

محمد حسن البقاعي

ص: 61

‌القصص

أقصوصة من هـ. ستاكبول

أحلام فضية

للأستاذ دريني خشبة

من نجوة (بون بك) يشرف الناظر على مرأى عجيب من رؤوس الأيك النائم في الغابة، والحياة الدائبة الصاخبة في الوادي، وأبراج (تور) المنطبعة في أديم الأفق، والشعاب الملتوية بين الدوح الجبار. . . ثم. . . هذه الرقائق من الفضة تنساح في مجرى اللوار، راقصة على رنين النواقيس من فيروفلاي، مضطربة تحت أقدام أرليان، متلاشية في لا نهائية البعد مما يلي المنبع. . . في شعاف السِّفِنْ.

ومع ذاك، فلم يكن فوق بون بك غير سنديانات أربع، منهن دوحة جدة، عظيمة الجذع ذاهبة الأفنان، وإن يكن قد نخزها الزمان، ونامت قرونه في الكهف الكبير الذي احتقرته في أصلها. . . ثم شجيرات حفيدات تينع في الربيع، وتنضر في الصيف، وتتجرد فيما سوى ذلك من فصول السنة. ولم تغير الثورة شيئاً من معالم هذا الغاب، على كثرة ما غيرت من معالم فرنسا، فهذا هو العم العجوز المتداعي (جين كابوش) ما يزال يقطع الخشب من الغابة ويُحمّله إلى شاتود نيفر، وما يزال يعالج الشجر ويصيد الأرانب، ويؤدي الأعمال التي كان يؤديها أبوه وجده من قبل، والتي كان يؤديها آباؤه الأولون. . . وإن له لآباء أولين يتلاشون في لا نهائية الأزل، كما يتلاشى اللوار في ظلام السِّفِن. . . فإذا قدر لك مرة أن تلقاه في أحد شعاب الغابة، لقيت رجلاً من القرون الغابرة لا يعرف عن زماننا شيئاً، ولا تربطه بالعصر الحديث رابطة؛ وكذلك تلقى بنته الجميلة الساذجة العذراء ماري، التي إن حدثتها حدثت قطعة من الغابة لا تدري ما وراءها. . . على أنها مع ذاك تصبيك وتفتنك، وتسحرك بجمالها العميق الملغوز، وتتأرج في نفسك وقلبك كما تتأرج البنفسجة الفيحاء، لا تدري من أين يسبيك جمالها.

أما أبوها - العم جان - فقروي - لا، بل ريفي قح، يحسبه من يلقاه نابي الذوق، جافي الطبع، لأنه لا يعرف قوانين التقاليد التي تفرضها حياة المدن على سكانها، ومن هنا عدم

ص: 62

تمييزه بين طبقات الناس، فهم جميعاً سواء عنده، حتى رئيس الجمهورية الذي كان يجوب غاب فيروفلاي مرة، فلقيه فحياه؛ وكان جان يحتسي كأساً من الخمر، فلم يلتفت للحاكم الأعلى حتى أتى على النُّطف الأخر في الكأس، وبعد أن مسح فمه بكمه، وتجشأ وتمتّق، قال للرئيس:(أجل، أعرف أنك الرجل الذي يختاره الفرنسيون ليمثل دور الملك في باريس!). وماذا تنتظر من جَمّاع أحطاب وإنسان غاب أن يقول غير هذا؟

وربما كان للأسطورة التي تناقلها آل كابوش أباً عن أب، وجداً عن جد، في طويل الأزمان والآباد، أثر في هذه العنجهية التي تبدو أحياناً في أخلاقهم. ذلك أنهم كانوا دائماً يفخرون أن ملك الغابات في الزمن القديم كان رئيس قبيلتهم. . . فإذا كلم جان رئيس الجمهورية بهذه اللهجة، فأحجى بالرئيس أن يشكر الله، لأنه فرد عادي جداً إذا قيس بجان سليل ملوك الغاب!!

ما كان أجمل الأصيل فوق البون بك وقد جلست ماري الساذجة فوق العشب الحلو، تحت السنديانة الكبيرة، تعمل بإبرتيها في جورب الصوف الخشن الذي كانت تبيع ما تصنع منه في نهاية كل شهر لبازين العجوز تاجر الملابس في بورجه! لقد كانت تتحدث إلى عنْزِها المربوطة في جذع السنديانة كلما ضجرت من العمل، كما كانت تغنى بصوتها الرنان الجميل فتغمر الغابة المنتشية بألحانها، وتمتلئ أجواء الوادي الساكن بأغنياتها الطورينية الحبيبة، التي لم تعرف النوتة، ولم تأخذ طريقها إلى البيان، بل احتفظت بريفيتها المقدسة لتخرج من فم ماري، كما تخرج موسيقى الملائكة من قدس السماء!

ما كان أجمل الأصيل فوق البون بك حين جلست ماري فوق عشبه، وقد أخذ الخريف يواسي الناس بأنفاسه الربيعية، وقد راحت مارجوت - العنز السعيدة - تقضم الحشيش الحلو مرة، وتصغي إلى غناء ماري أخرى. . . وماري، فيما بين هذا وذاك تعمل أناملها في الجورب الذي أوشك أن يتم، لتتم به الاثنا عشر جورباً، ولتنطلق بها فتاة البون بك إلى التاجر بازين فتتسلم منه ثمنها، وتعود بالحلوى والفطيرة فتملأ فم مارجوت!

لقد جلست ماري تعمل وتغني، بينما كان السادة الباريسيون أصحاب الفيروفلاي، وأصحاب قصرها المنيف المنيع الذي تأخذه العين في أفق الغابة فترى منه أبراجه الشواهق، يصيدون الأرانب في المتائه والمسارب، ويطلقون بنادقهم على القنافذ والثعالب، فتتردد

ص: 63

طلقاتها في أذن ماري، وتثير في قلبها الصغير شتى الهواجس والأفكار. . .

(الإبرتان الشقيتان!!) هكذا كانت الفتاة تفكر. . . (لا بأس، صبراً يا بازين صبراً، هاقد أوشكت أفرغ من هذا العناء الذي تشتريه مني بفرنكات معدودة لا تكاد تكفي ثمناً لمسح حذاء واحد من سادتنا. . . أوه! يالك من عقدة خبيثة! اذهبي إلى الشيطان! ألا ما أصعب إصلاح العقدة المختلطة! إنها كاللغز الذي لا يمكن حله! ما هذه الطلقات النارية يا سادة!! ارحموا الثعالب والأرانب، وارحموا أبي جان المسكين! ماذا يصيد هو إن لم تبقوا على أرنب واحد! هذا بلاء والله! أوه! وا رحمتاه لك يا أبي! إن صيد أرنب أو أرنبين أيسر عليك من قطع عسلوج واحد مع فرق ما بين الأجرين! الأغنياء! الثروة التي لا يحصيها عد!. . . . . . الخ. . .).

وسمعت الفتاة صوت بوق يُدَوّي في آفاق الغابة شغلها عن إبرتيها، وعن غنائها، وعن مارجوت. . . وعن كل شيء. . . حتى عن هذه السلسلة غير المنتظمة من الأفكار الفضولية التي كثيراً ما تزدحم بها رؤوس الناس، لأتفه ما يثيرها من الأسباب.

وأرسلت عينيها في شعاب الغابة مرة، وفي مسايل اللوار أخرى، فرأت السادة الأغنياء قد فرغوا من صيدهم، وقد حمل خدمهم أحمال القنص على خيول ضخمة، وانطلق الجميع يعدون نحو القصر المنيف، كما تعدو السمادير أمام العين العشواء، وكما تنطلق أحلام النائم في كل صوب. . . حتى غابوا عن بصرها.

وعادت ماري إلى إبرتيها بعد إذ ثابت إلى نفسها. . . وبدأت تعمل وتغني من جديد! ولم تكد تفعل حتى سمعت صوتاً حنوناً يهتف بها، فأرسلت عينيها في كل حدب، ولكنها لم تر أحداً. . . وارتبكت هذه المرة، وحاولت أن تعمل، ولكن العقد اختلطت أكثر من ذي قبل، وعاد الصوت الحنون يهتف وينادي. . . ونظرت ماري، وبحثت بعينها في كل مكان، فإذا بنبيل من السادة الصيادين يناديها في السفح البعيد، ويشير إليها بيده الآمرة أن تذهب غليه.

لم تتحرك ماري، بل ظلت ساكنة صامتة. . . وكأنما غيظ النبيل من سكونها، فغمز حصانه الكبيرة غمزة فأنطلق يطوي النجوة صعداً في غير مبالاة، كأن الدنيا بأسرها ملك له ولأجداده الخيول من عهد عاد! حتى الخيل تعرف الصفاقة أضعاف ما يعرف النبلاء!

لقد كان رجلاً عملاقاً له مهابة وفي عينيه نُبْل، وله لحية خفيفة فوق صدغيه قد وخطها

ص: 64

الشيب فجعلها سنجابية حائلة كلون السحب في أوائل الخريف. . . وكان عريض المنكبين بارز الصدر واسعه، عظيم القامة، يشغل الناظر إليه عما يلبس من غريب الثياب التي تتخذ للصيد في غاب فرنسا. . . فلا خافية النسر التي راح النسيم يداعبها فوق مفرقه، ولا الجوارب الجلدية وما فوقها من أخفاف، ولا هذه السراويل الفضفاضة التي تغطي ظهر الجواد، ولا تلك القفازات اللامعة التي تحجب يديه، ولا هذه النياشين التي تتوهج فوق صدره، والقلائد الذهبية التي تتحوى حول عنقه. . . لا شيء من هذا أو ذاك قد بهر عيني ماري كما بهرها هذا الجسد الهرقلي، وذاك الوجه الصارم، والرجل العملاق!

واقترب الجواد بمن عليه. . .

وتبسم النبيل وكأنما كانت الدنيا كلها تبتسم معه، وحيَّا ماري، ثم قال:

- (قصر فيروفلاي يا جميلتي! قصر فيروفلاي! أتستطعين أن تدليني عليه، أو تعلميني الطريق التي أسلكها لأبلغه؟ لقد ضاعت سبيلي في شعاب غابتكم المضلة، فهل لك في أن تصحبيني، يا غادة؟).

لقد نظر النبيل إلى ماري فحمد الله والصدف أن ضلت سبيله، ليلقى هذه الجنّية الريفية الحسناء في هذا الأصيل الجميل من أصائل الخريف، وفوق هذه النجوة الناضرة المطلة على الغابة الشاسعة جميعاً. . . ولقد كان يبلع ريقه مرة بعد أخرى وهو يكلمها، وكان يكلمها بعينيه الجائعتين، أكثر مما كان يكلمها بلسانه اللاهث الظامئ، وكان يحس قلبه وهو يخفق ويخفق، كأنما يبتغي أن يثب إلى عينيه ليشبع من مرأى ماري هو الآخر!! يا لسحر الجمال! لقد عجب النبيل كيف عاش عمره الطويل المفعم بلا حب، وفي الدنيا العريضة مثل هذه الفتاة التي تسجد تحت قدميها القلوب!! لقد جعل جسمه يرتجف فوق الجواد، وجعل يقلب عينيه في الفتاة التي انعكست على وجهها آراد الشمس الغاربة فصبغته بالذهب، وتركت في جبينها وخديها سَفْعاً من اللهب يشبه الشفق، يزيده فمها الصغير الخبيث اشتعالاً!

- (أوه يا سيدي! إنه هناك وراء هذا الدوح، وهو قريب جداً من هنا. . . أنظر. . . هاهي ذي أبراجه تلوح وراء الغصون العارية. . . ثم هاهي ذي الطريق واضحة بينة!).

وكانت ماري قد نهضت من مكانها وهي تقول ما تقول. وتشير بيديها، فينحسر الكُمَّان عن

ص: 65

مرمر الذراعين اللدنتين، وطرف الثوب عن جزء من الساقين الجميلتين، فيجن جنون النبيل الجليل!

وفي الحق. . . لقد خفق قلب ماري هو الآخر، لأنه أحس بما ينبعث من عيني الرجل من الصبوة والشغف. . . وما كان يسيل في ألفاظه من الرقة والضراعة، وإن لم يعبر عنهما إلا بهذا الروح الذي يفهم من غير أن يرسم!!

ووثب الرجل من فوق جواده، ووقف قريباً من ماري، ثم راح ينظر في الأفق ويتعاشى ويقول:

- (أجل. . . هاهي ذي أبراجه! ولكن أنى لي أن أهتدي إليه في غابتكم المضلة. . . تعالي يا صغيرتي فدليني عليه. . . إني أخشى أن أبيت ليلي في الغابة مع أرانبكم وثعالبكم!

- (بكل سرور يا سيدي. . . لا أحب إلى من أن أفعل. . . هلم!

- وهذه العنزة؟ أتتركينها هنا؟

- (أوه! إن مارجوت ستنتظرني هنا يا سيدي! وأين تذهب ما لم أعد إليها. . . ثم هي مربوطة مع ذاك!

- (إذن هلمي!

وانطلقا نحو السفح، ثم مضيا في طريقهما. . . هي إلى جانبه، أو في ظله! وهو، وحصانه من ورائه، ينظر صامتاً. . . ساكناً.

وفكرت ماري في اللهجة التي كان يكلمها بها فشاع فيها نوع من الزهو، ثم اتسع خيالها فوثقت أنه أحبها، بل هو يكاد يعبدها، وكان هذا الإحساس يملأ الدنيا في عينيها سعادة، وفي قلبها بهجة. . . وعرفت من ثيابه ومن منطقه أنه ليس من هذه الجهة من جهات فرنسا. . . قد يكون ضيفاً على آل فيروفلاي. . . على كل حال هو ليس من هذا الإقليم. . .

وأخذ الرجل يخلق الأحاديث ليسمع صوت ماري. . . هذا الصوت الموسيقي العذب الذي كان يملأ سمعيه وينفذ إلى أعماق قلبه كأنه رنين القُبل! وكانت هي تجيب في ظرف وتيه وأدب، فتخلب لب الرجل، وتذيب نفسه الوامقة بما تكسر من مخارج الكلمات، وما توشي في أواخر الجمل، كأنها الربيع الفينان ينثر وروده ورياحينه في أكناف الحديقة!!

ص: 66

ولقد كان القصر على بعد فرسخ أو نحوه من النجوة، ولقد كان قصراً عتيقاً من عهد شارل التاسع، ولكن الغابة كانت مع ذاك أقدم منه عهداً. . . بل كانت هي هي الغابة منذ كانت هناك غابات في جنبات فرنسا، ومنذ كان جد ماري ملكاً عليها في بطن الأزل!!

وذكرت ماري هذا الجد الملك، فسرى في أعطافها الكبر القديم الذي ما يفتأ يسري في أعطاف آبائها وأهلها. . . وللحال آمنت أنها جديرة بقلب هذا النبيل، وأنه سيكون فخوراً بها!!

ونظر النبيل إلى جنبات الغابة فتغيرت في عينيه صورتها الجافة الخريفية التي انطبعت فيهما منذ الصباح، وصارت جنةً فيحاء آهلة بالحور العين أمثال اللؤلؤ المكنون، منضورة بالورد عبقة بأريج الرياحين كهذه الجنة التي وعد المتقون! لماذا؟ لم يدر الرجل. . . لكنه كان يؤول كل ذلك بوجود ماري الجميلة إلى جانبه. . . ماري، التي غيرت نظرته إلى الحياة، فجعلتها مشرقة باسمة، بعد أن كانت قمطريراً كالحة، لا تصلح لهذا العبث الذي كان يقرأ عنه في الكتب، والذي سماه الشعراء بالحب. . .

ولم تزل ماري تسلك بالرجل في هذا المنعرج وذاك المنعرج، ولم تسير به في متائه كثيرة، وتخطو به في فجاج كلهن مصائد وفخاخ نصبها أبوها للأرانب، حتى وقفا آخر الأمر لدى بوابة عتيقة. . . هي من غبر شك أعتق من القصر الذي تؤدي إليه وأذهب منه في البلى.

وكانت البوابة صغيرة واطئة، فصاحت ماري فجأة وهي تقول:(أوه يا سيدي! لن يستطيع حصانك أن يدخل من هنا. . . أوه! لقد نسيت، ليتني ذهبت بك إلى باب القصر!).

فتضاحك النبيل ثم قال: (ليس هذا شيئاً. . . إني سأربطه هنا، وهو ينتظرني كما تنتظرك. . . ما. . . ما. . . ما اسم عنزك؟).

- مارجوت يا سيدي.

- مارجوت! إي والله مارجوت. . . ولكن ما سنُّك يا عزيزتي؟

قال ذلك وقد أرسل أصابعه المرتعشة تربت تحت ذقنها الجميل وعينيه المشوقتين تسبحان في جمالها الريان!

- أنا؟ سني ست عشر سنة!

- ما شاء الله! سن فينانة! واسمك إذن!؟

ص: 67

وقال ذلك أيضاً بعد أن صعد آهة عميقة كادت تحرق بحرها صدره.

- ماري. . . ماري يا سيدي!

- ماري! ماري! وحسب!؟

- ماري كابوش يا سيدي!

- ماري كابوش. . . حسن جداً! ماري كابوش اسم جميل ظريف، بيد أنني سأطلق عليك من الآن اسم (زهرة الغابة!).

ثم تقدم فأخذ رأسها الصغير في يديه المتخاذلتين، وطبع على جبينها قبلة عميقة حارة، استودعها كل أماني حبه، ثم دس يده في جيبه وقال:

- (والآن. . . تقبلي مني هذا القليل. . . من. . . الذهب. . . للذكرى. . . لا للفائدة!) ولما نظر في حافظته لم يجد بها إلا قطعة فضية واحدة. . . وحدجته ماري بعينين جريئتين ثم صاحت في رقة وحب: (أوه يا سيدي! ليست بي حاجة إلى نقود فأذكرك بها. . . إني سأذكرك إلى الأبد. . . لن أنساك!) وامتلأت عيناها بالدموع فجأة. . . وأحست بقلبها يرتعد ويخفق. . . وودت لو استطاعت فهربت في شعاب الغابة، لولا أنها نظرت إلى الرجل فوجدته مثلها ممتلئ العينين بالدموع. . . وصدره يعلو ويهبط، آية على ما فيه من مثل ما في قلبها!

- ليس في حافظتي إلا هذه. . . لتكن تذكاراً مني على كل حال!

- تذكار أحتفظ به إلى آخر رمق في حياتي يا سيدي!

- (أوه! دائماُ يا سيدي يا سيدي! ناديني باسمي المجرد يا ماري! أنا أُدعى هنري. . .! ليت لي مثل سنك يا ماري! ليت لي مثل سنك!).

- حسبك قلب مثل قلبي يا. . . هـ. . . هـ. . .

- هنري. . .! ماري. . . ماذا بك. . .

وجعلت الفتاة تبحث الأرض بعينيها مرة. . . وتحدق بهما في وجه هنري مرة أخرى. . . ثم تناول الرأس الصغير مرة ثانية فطبع عليه قبلتين حملتا سر قلبه، وودعها وهو يقول لها:

- هنا يا ماري يجب أن نلتقي الليلة بعد أن يشرق القمر! وأومأت ماري برأسها الصغير.

ص: 68

وانطلقت تعدو كالمجنونة في ظلام الغابة. . .

ولم تفتأ ماري تستعيد الذكريات الحبيبة التي لم تمضي عليها هنيهات. . . ولم تفتأ تردد هذه النداءات الجميلة (يا جميلتي. . . يا صغيرتي. . . أوه شيري!! يا عزيزتي. . . إلى هذه المترادفات التي يمتلئ بها قاموس الحب، وألواح الغزل الإلهية المقدسة. . .

هل هو حلم؟!

نبيل من أماثل نبلاء فرنسا يحب هذه الريفية الساذجة التي لا قيمة لها إلا مسحة من الجمال؟ هذا النبيل العظيم الذي يملك أن تكون له جنة من حسان باريس، تشغفه هذه القروية من بنات الغاب؟ بل هو حلم. . . بل هو حلم!

وعادت إلى البون بك ففكت رباط مارجوت، وحملت سلة أشغالها، وعادت أدراجها إلى كوخ أبيها مصدعة القلب، واجمة الروح، كاسفة البال، لا تفكر إلا في هذه اللحظة التاعسة التي لقيت فيها هذا النبيل. . أولم تلقه. . لأنها ظنت أنها كانت تحلم!

وأقبل أبوها فأعدت له عشاءه فالتهمه، ثم انبطح على فراشه الخشن فلم يلبث أن نام، وراح يغط في سبات عميق.

وجلست هي في غرفتها تجتر أحلامها، وتصور الحادث الأكبر الذي زعمته حدث لها. . . ولكن رنين القبل على. . . جبينها. .! كان ما يزال يرن ويطن. . والنداءات الغزلية كانت ما تزال تتردد في مسمعيها. . .

وانهزم الظلام فجأة فهبت إلى النافذة فرأت القمر ينبثق من الأفق الشرقي، ويكسو بنوره الأحمر البركاني جوانب السماء الرهبة. ثم ارتفع مليك الليل رويداً فابيض نوره، وجعل كلما ارتفع ينشر في الوجود أضواء ولآلئه. . . فاعتزمت ماري أن تخرج إلى موعدها. . . ولو كان حلماً حقاً. . .

وانسرقت الفتاة في ظلام الكوخ الذي كان يملأه شخير أبيها النائم رهبة ثم انفتلت إلى الغابة. . . الغابة الفضية الصامتة التي كانت حينذاك أشبه بمعابد الهنود، فجعلت تنسرب في شعابها وكلما تحرك غصن أو برز أرنب وجلت المسكينة وجلاً شديداً، وهي كانت تحرس الغابة في الليالي المظلمة من الذؤبان والسباع. ثم لم تزل تسير في هرولة. . . ولم يزل قلبها يخفق ويدق. . . ولم يزل خيالها يمتلئ بالمخاوف. . . حتى كانت عند البوابة

ص: 69

القديمة!

وا أسفاه! تبدد الحلم الفضي. . . إن هنري ليس عندها! وتلبثت ماري تتنسم أثر هنري. . . لكنها لم تجد شيئاً. . . فعادت محطمة ذاهلة موهونة. . . واخترقت الغابة وهي لا تخشى من أشباحها شيئاً. . . إذ ما يهمها أن يفترسها الذئب أو يحرقها العفريت؟! لا يهم. . .

ورأت أنواراً ساطعة تنبعث من الكوخ. . . وسمعت فيه ضجة. . . فخشيت أن تدخل. . . وظنت أن أباها افتقدها فلم يجدها فولت هاربة.

ولكن هنري كان قد لمحها من نافذة كوخ أبيها، فانطلق في إثرها. . . ثم عاد معها إلى الكوخ لتعانق أباها الذي يقول لها:

- (هنيئاً لك يا ماري. . . هنيئاً لك يا هنري. . . لك أكبر الشرف يا بني أن تكون سليلة ملوك الغاب زوجتك!).

وهكذا تحقق الحلم الفضي!

دريني خشبة

ص: 70

‌البريد الأدبي

العربية والإنكليزية

كنت كاتب في جريدة (الأجبشيان جازيت) عن تعلم المصرين اللغة الإنكليزية يقول إن المصرين في مقدمة الشعوب التي تتقن التكلم والنطق بالإنكليزية، ولكنهم لا يصلون في ذلك إلى براعة السويديين والهولنديين وإن كانوا يفوقون الألمان والفرنسيين في ذلك بمراحل؛ ويرجع ذلك إلى أن الطلبة المصريين يتلقون اللغة الإنكليزية في مراحل الدراسة الأولى من الأساتذة الإنكليز أنفسهم، ويخصصون لدراستها في الأسبوع عدة ساعات، وبذلك تتاح لهم فرصة ملائمة لتلقي نطقها ولهجتها من أبنائها الأصليين، وبذلك ينجون من اللهجات الغريبة التي تخالطها أحياناً البلاد الأخرى.

وفي قول الكاتب كثير من الصحة، ولكنا نستطيع أن نزيد على قوله أن الطلبة المصرين لم يبلغوا في تحصيل اللغة الإنكليزية ما كان حقيقاً بهم أن يبلغوه في مثل هذه الظروف والفرص الملائمة، فالحصص التي تخصص لتدريس الإنكليزية في مدارسنا الثانوية تكاد تعادل الحصص التي تخصص للعربية، ومع ذلك فقد لوحظ أن الطلبة يلاقون في تعلمها صعاباً شديدة، وأنهم ما زالوا في تعلمها في مستوى لا يبعث على الرضى. وقد كان لهذه المسالة ضجة في العام الماضي اهتم لها رجال التعليم والمسئولون من رجال وزارة المعارف.

على أن الذي نريد أن ننوه به هنا هو أنه إذا كان للمصرين حظ من إتقان اللغة الإنكليزية سواء في التحدث أو الكتابة بها فإنه من بواعث الأسف أن يجيء هذا الإتقان في أحوال كثيرة على حساب اللغة العربية. وإذا كان ضعف الطلبة في اللغة الإنكليزية قد لفت نظر المسئولين من رجال التربية، فأن ضعفهم في اللغة العربية كان أيضاً باعثاً إلى الاهتمام والنظر.

وفي رأينا أن اللغة العربية ما زالت مغبونة الحق في مدارسنا الثانوية، وقد كان طغيان الإنكليزية والفرنسية على مناهج التعليم في الماضي مفهوماً، وكانت لذلك ظروفه وبواعثه. ومن الحق أن نقول إن هذا الافتئات عل حقوق العربية في الماضي كانت له آثار سيئة في تكوين الأسس التي قام عليها التعليم القومي في العهد المنقضي؛ ولكنا لا نفهم لماذا يبقى

ص: 71

هذا الافتئات باقياً إلى اليوم بعد أن تحررت برامج التعليم من القيود التي كانت تحول في الماضي دون تقديم العربية على سواها.

إن تعليم اللغات الأجنبية الحية من العناصر الجوهرية في تكوين الثقافات الحديثة؛ ولا شك أن الإنكليزية والفرنسية من أهم اللغات الثقافية، ولكن الذي نرجوه هو ألا يبقى هذا العنصر الأجنبي كما كان في الماضي أداة للغزو الثقافي والمعنوي على حساب اللغة القومية، وأن يقتصر الأمر فيه على الاغتراف من مناهل الثقافة والعرفان.

هل كانت الفيوم منزل شعب في العصر الحجري

عثر المنقبون أخيراً في بقعة أثرية على مقربة من بحيرة قارون بمديرية الفيوم على جمجمة بشرية قديمة جداً. وقد عرضت هذه الجمجمة على العلامة الدكتور دري أستاذ التشريح بكلية الطب المصرية، فقرر بعد الفحص أنها لرجل بالغ، ويغلب علي الظن أنه كان ضعيف العقل نظراً لصغر حجمها عن الطبيعي. على أن هذا الفحص التشريحي ليس أهم ما في الموضوع، وإنما هو القيمة الأثرية؛ فقد عرفت هذه البقعة المجاورة لبحيرة قارون بأنها كانت وطن شعب مصري قديم يرجع إلى آلاف السنين قبل الميلاد. ووجد فيها العلماء المنقبون ولا سيما العلامة الألماني يونكر كثيراً من الآثار التي تدل على أن هذه البقعة قد عرفت العصر الحجري. ودلّ فحص الجمجمة المشار إليها من الوجهة الأثرية على أنها لإنسان عاش منذ نحو ثمانية آلاف عام. فإذا صح ذلك فأن علم الآثار المصرية يخطو خطوة جديدة نحو معرفة التاريخ المصري القديم. ذلك لأن قدم الوثائق الفرعونية التي عثر علها ترجع إلى نحو ثلاثة آلاف عام قبل المسيح أي إلى خمسة آلاف عام؛ ولكن هذه اللقطة الجديدة إذا عززت ببعض آثار أخرى توجد في نفس المنطقة وتماثلها في القدم، قد توجه أنظار الباحثين إلى مرحلة أقدم جداً من تاريخ مصر الفرعونية.

هذا وقد أحال الدكتور دري هذه المسألة إلى العلامة في الأجناس الدكتور تيودور منود مدير متحف التاريخ الطبيعي بباريس، فأجاب بأن خواص الفلين في الجمجمة المشار إليها توجد الآن عند كثير من فصائل الزنوج في أفريقية الشمالية، وفي الصحراء الكبرى. وتاريخ هذا الإنسان مجهول، ويوجد بين القبائل المغربية قبائل تحمل جماجمها بعض هذه الخواص.

ص: 72

وإذن فالمسألة ما تزال موضع البحث والتحقيق.

جائزة فاروق الأول

استقر الرأي على أن يطلق على الجوائز التي أقترحها الدكتور حافظ عفيفي باشا لتشجيع الحركة الأدبية والعلمية: جوائز فاروق الأول في الأدب وفي غيره من الفروع والفنون التي يستحق صاحبها من أجلها تلك الجائزة. ورأت اللجنة جعل الموضوعات التي تدخل في نطاق الجائزة ستة تتصل بالحياة المصرية في الأدب والقصص والاجتماع والتشريع والتعليم والزراعة.

وتقرر أن تكون قيمة كل جائزة خمسمائة جنيه وأن يكون التقدم إليها مرة في كل عامين. ورأت اللجنة توثيقاً لأواصر اللغة وتوحيداً للثقافة بين أبناء الأمم الشرقية إباحة دخول المسابقة في جوائز الأدب والقصص والاجتماع للشرقيين من أبناء العربية.

ودرست اللجنة طريقة اختيار المؤلفات، وهل ينحى فيها نحو (جائزة نوبل) أو يكتفي بأن يتقدم الكتاب والمؤلفون بكتبهم وتآليفهم مطبوعة طبعاً جيداً. وقد استقر الرأي على الأخذ بالطريقة الأخيرة.

وعند إقرار المبدأ تؤلف اللجان الفنية المختصة كل عامين لبحث ما يتجمع لديها في هذا الصدد. وقد لوحظ في جعل المدة سنتين أن تتاح الفرصة الكافية لكبار المؤلفين لإجادة ما يكتبون وما يؤلفون.

لجنة تنظيم الصحافة

يشتغل صاحب المعالي الدكتور محمد حسين هيكل بك وزير الدولة، ببحث المسائل التي درستها اللجنة الحكومية (لتنظيم جمعية الصحافة وترقية شؤونها).

وقد استقر الرأي على أن يضم إلى اللجنة أعضاء جدد من كبار الموظفين وأصحاب الصحف.

وسيرأس اجتماعها القادم صاحب الدولة رئيس الوزراء.

ص: 73

‌مهرجان الأدب في الزفاف الملكي

فكر جماعة من قادة الفكر وزعماء الدولتين الشعر والنثر في اشتراك الأدب في ابتهاج البلاد بالزفاف الملكي، وقد اجتمع فريق منهم في مكتب حضرة صاحب العزة محمد العشماوي بك وكيل وزارة المعارف وتدارسوا هذه الفكرة ثم اقروها واتفقوا على تأليف لجنة فرعية من بينهم لوضع برنامج المهرجان والاتصال باللجنة الرئيسية المعهود إليها تنظيم حفلات الزواج الملكي. وستجتمع اللجنة الرئيسية على أثر فراغ اللجنة الفرعية من مهمتها لتضع البرنامج النهائي للمهرجان.

المؤتمر الدولي السابع لتوحيد قانون العقوبات

في يوم الأربعاء الماضي تفضل حضرة صاحب الجلالة الملك فأناب عنه من افتتح المؤتمر الدولي السابع لتوحيد قانون العقوبات رسمياً في دار الأوبرا الملكية، وفيما يلي بيان موجز عن تاريخه

تألفت بعد الحرب العظمى أول هيئة اهتمت بتوحيد قانون العقوبات وهي الجمعية الدولية لتوحيد قانون العقوبات. ولما كثر عدد المشتركين فيها فكر مسيو بيلا سكرتير الجمعية العام ومندوب رومانيا الدائم لدى عصبة الأمم في عقد مؤتمرات لبحث الموضوعات التي تهتم بها الجمعية، وكان أن أنشأ المكتب الدولي لتوحيد قانون العقوبات. وقد جاء في المادة الأولى من قانونه الأساسي أن غايته دراسة اقتراحات الدول والهيئات التابعة لمجلس عصبة الأمم والهيئات الخاصة الأخرى المؤدية إلى توحيد قانون العقوبات والقيام بالأعمال التمهيدية لتحديد المسائل التي يمكن الاتفاق على توحيد القانون فيها، والسعي لعقد مؤتمرات دولية والعمل على دوام الصلة بين أعمال المؤتمرات التي تعقد. وأخذ الاهتمام بأعمال المكتب يزداد ونفوذه ينمو حتى أصبح لأكثر الدول مندوبون فيه.

وقد عقدت ستة مؤتمرات في بروكسل وباريس وفارسوفيا وروما ومدريد وفي كوينهاجن على التوالي. وأولها مؤتمر بروكسل وقد عقد في سنة 1937.

معهد التعاون الفكري وشعبيته في مصر

كانت وزارة المعارف قد عهدت إلى عميد كلية الآداب زيارة المعهد الدولي للتعاون الفكري في خلال الصيف الماضي ووضع تقرير عنه، وقد رأى أن يبحث الأمر مع صاحب

ص: 74

السعادة علي الشمسي باشا ممثل مصر في جامعة الأمم قبل وضع تقريره.

ومتى تم وضع هذا التقرير بدأت الشعبة المصرية عملها. وقد صدر قرار وزاري بتأليفها من حضرات أصحاب السعادة والعزة وكيل وزارة المعارف، ووكيل الخارجية، ووكيل الحقانية، ومدير الجامعة المصرية، وعمداء كليات الجامعات، ورئيس المجمع اللغوي، وناظر معهد التربية للبنين، وناظر دار العلوم، ومدير مصلحة الآثار المصرية، ومدير دار الآثار العربية، وأمين المتحف القبطي، ومدير دار الكتب المصرية، ورئيس لجنة التأليف والترجمة والنشر، ورئيس الجمعية الجغرافية الملكية، ورئيس الجمعية الملكية للاقتصاد والتشريع، ورئيس الجمعية الطبية المصرية، ورئيس الجمعية الرمدية، ورئيس المجمع العلمي المصري، ورئيس المجمع المصري للثقافة العلمية، ورئيس جمعية محبي الفنون الجميلة، ورئيس جمعية علم أوراق البردي، ورئيس الجمعية الصحية المصرية.

وقد ترك للأساتذة أعضاء الهيئة اختيار الرئيس والسكرتير الفني لها من بينهم. وسيكون أول عمل تقوم به وضع اللائحة الداخلية لتنظيم الأعمال حتى يصدر بها قرار وزاري من معالي وزير المعارف.

حول جائزة جونكور

لاحظ بعض الأدباء كما لاحظت المكشوف أننا ذكرنا في باب البريد الأدبي في عدد سابق أن الكاتب البلجيكي ش. بليسينيه نال جائزة جونكور في العام الماضي عن كتابه (أزوجة) مع أنه نالها عن كتابه (جوازات مزورة). وهذا الخبر نقلناه عن ملحق الأحد الأدبي لجريدة النمساوية لمراسلها الباريسي. وهو صحيح ولكنه ناقصو. وبيان ذلك أن بليسينيه رشح منذ العام الماضي لنيل الجائزة بروايته الأزوجة ولكن ترشيحه أرجئ يومئذ لاعتبارات تتعلق بجنسيته لأنه غير فرنسي. وفي هذا العام قدم روايته الجديدة وانتهت أكاديمية جونكور إلى مبدأ جديد في مسألة الجنسية، وقررت أن تمنح بليسينيه الجائزة عن روايتيه المذكورتين. وهذا هو ما صرح به رئيس الأكاديمية مسيو روزني نفسه في خطابه يومئذ.

ص: 75

‌المسرح والسينما

السينما والأدب

بقلم محمد علي ناصف

في عامي 1932، 33 كان الفلم البوليسي أكثر أنواع الأفلام شيوعاً وأوفرها غلة على أصحاب الشركات.

وفي عام 1934 اختص بمرتبة النجاح الأولى الفلم الموسيقي، وجاء دور الفلم التاريخي في الموسم التالي.

ثم كان الطابع المميز لإنتاج الموسم الماضي إقدام الشركات على إخراج الأعمال الأدبية الكبرى؛ فشهدنا (حلم منتصف ليلة صيف) و (روميو وجوليت) لشكسبير و (البعث) و (أنا كارنينا) لتولستوي و (دافيد كوبرفيلد) و (قصة مدينتين) لديكنز و (مونت كريستو) و (الفرسان الثلاثة) لاسكندر دوماس الأب، و (غادة الكاميليا) لدوماس الابن. و (جحيم دانتي) وغير ذلك من الأفلام التي لم تعرض للآن في بلادنا مثل (الجريمة والعقاب) لدستويفسكي و (كما تشتهي) لشكسبير.

إذا تتبع القارئ هذا البيان المجمل تبين حقيقة ناصعة: تلك أن السينما تتطور من حين لآخر، وأنها تأخذ في تطورها اتجاهاً ثقافياً يقرب إلينا معنى السينما وما تستطيع أن تحققه من آمال كبار.

لقد كان كثير من الأدباء والفنانين في أول عهود السينما يترفعون عن العمل من أجلها ويحسبونها سلعة ذات بهرج لا صلة لها بالفن، حتى صرح بعض كبار الكتاب ومنهم الكاتب الإنكليزي جورج برناردشو بأنهم لم يسمحوا بإخراج كتبهم على الشاشة. وقد كتب لويجي بيرانديللو مقالاً في إحدى المجلات الأدبية عام 1927 يحاول فيه الإقناع بفشل الفلم الناطق.

واليوم يتهافت كل كاتب وفنان على السينما، ولا نستثني أشدهم غلواً في المحافظة والاتزان. فبرنارد شو نفسه لا يشغله الآن شاغل أكثر من إعداد مسرحيتيه (جان دارك) و (بيجماليون) للسينما. فإذا علمت أنه قد أُخرج له قبل ذلك مؤلفان ولم يلقيا نجاحاً يذكر، إذا علمت ذلك، أدركت قوة إيمان الكاتب الساخر بما كان يسخر منه.

ص: 76

ولقد يعجب القارئ كذلك لو علم أن برنارد شو قد ظهر في فلم طويل مع زميله جون درنكوتر وسير أوستن تشمبرلن لمناسبة حفلات تتويج ملك الإنجليز.

ولقد أذيع أخيراً أن مستر ونستن تشرشل قد كلفه ألكسندر كوردا بعمل سيناريو عن حياة لورنس المعروف باتصاله بقضية العرب.

ويُعد هـ. ج. ولز الكاتب الإنجليزي المبتدع في طليعة الكتاب اهتماماً بالسينما؛ فقد أخرج له ثلاثة كتب في العامين الأخيرين كتب هو بقلمه سيناريو أحدهما

ومثله نويل كوارد وإن كان هذا الأخير قد انفرد بتمثيل دور البطولة في فلم أمريكي لم يعرض إلى الآن كل من الفيلم وممثله نجاحاً كبيراً.

ولقد شاهدنا أخيراً الموسيقار ليو بولدستكوفسكي وأوركستراه الشهير في أحد الأفلام، كما أن شركات السينما لا تدع جهداً في سبيل التعاقد مع كل فنان يصلح مادة للسينما. وقلما يظهر في عالم الفن كتاب أو مسرحية ناجحة دون أن تلقى اهتماماً من أحد الرواد. حتى لقد قيل إن إحدى الشركات راقها عنوان مسرحية فدفعت من أجل العنوان أربعة آلاف جنيه ولم تحفل بالموضوع.

ولا أنسى في هذا المجال الكاتب الفرنسي مارسيل بانيول صاحب (توباز) الذي ألف شركة سينمائية لإخراج كتبه.

كل هذه أمثلة أسوقها للتدليل على أن السينما قد أخذت تمتزج بالأدب وتتصل به اتصالاً وثيقاً وإنها كانت متعة الجماهير، فهي كذلك متعة للخاصة لا يعدلها شئ.

والسؤال الذي قد يتردد هنا: (ما مصير المسرح الآن؟).

محمد علي ناصف

ص: 77