الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 238
- بتاريخ: 24 - 01 - 1938
الزواج الملكي السعيد
في صباح الخميس العشرين من يناير كانت مصر كلها نطاقاً من الولاء والدعاء والبشر حول قصر القبة العامر!
في هذا اليوم الموموق، وفي هذا القصر المرموق، وضعت مصر المجيدة الخالدة تاجها الثاني على جبين ملكتها الطاهر!
في الساعة الحادية عشرة من ضحى هذا النهار الضاحك كان مولانا الفاروق يتم نعمة الله عليه بالزواج الموفق الباكر!
هل رأيت قبل اليوم أمة بأسرها تحتشد هازجة في مهرجان؟ هل سمعت في غير مصر ستة عشر مليوناً يهتفون بالحب لإنسان؟ هل علمت قبل فاروق أن اتفق مثل هذا الحب لسلطان؟
المدافع المبشرة تقصف في كل ثكنة، والموسيقى المطربة تعزف في كل ساحة، والنواقيس المجاملة تجلجل في كل كنيسة، والمذياع الجهير يرسل الأناشيد في كل جو، وهتاف الشعب المبتهج يهزج في كل نسيم، وتصفيق الجماهير المحتشدة يُدوي في كل شارع، وزغاريد العقائل والأوانس تنطلق من كل شرفة، وأدعية الترفئة والتهنئة ترتفع من كل قلب، وصوت الإمام المراغي ينبعث بالصيغة الشرعية من الحجرة الملكية رهيباً كأمر الله، جليلاً كصوت الرسول، فيربط بالدين قلباً بقلب، ويصل بالدعاء ملكاً برب، ويقرن في الدنيا تاجاً بتاج
فهل رأيت بعين الحلُم ما رأت عيناك في هذا القران؟
وهل سمعت بتاجين صاغهما الله من حب وإيمان؟
وهل أجتمع الدين والدنيا لغير فاروق في هذا الزمان؟
عهدنا بنشوة العرس تبسط قلبي العروسين؛ فإن زادت أبهجت قلوب أسرتين: فإن زادت أنعشت نفوس قرية
ولكن عرس الفاروق بِدْعٌ من الأعراس لم يسجل مثله التاريخ. وإلا فمتى وأين كان العرس الذي يشعر كل مواطن أنه عرسه، في بيته فرحه وفي نفسه مرحه وفي قلبه أنسه؟ لقد تبدلت الحياة غير الحياة في ثلاثة أيام على ضفاف النيل المقدس. فالجهود المسخرة لأكلاف العيش تقف، والعداوات المسعرة لمطامع النفس تبوخ، والأقلام المتسافهة على وجوه
الصحف تكف، والقلوب المختلفة تأتلف على شعور واحد: هو أن وطنها مصر وملكها فاروق! فلا وساطة بين الملك وشعبه، ولا علاقة بين المرء وحزبه؛ كأنما أصبح الناس من وحدة الهوى أسرة في رقُعة أمة، وغدا الفاروق من شدة العطف أباً في عرش ملك!
قد يكون لعرس الفاروق أمثال تطاوله في الفخامة وتفاضله في السعة؛ ولكن مزيته الظاهرة أنه عرس قومي ساهم فيه كل امرئ بنبض من قلبه وفيض من جيبه. فلم يبق بلد في القطر، ولا أحد في الناس، لم يقدم إلى العريس الأعظم هدية فاخرة، أو تهنئة خالصة، أو دعوة مستجابة! وتسأل الملايين الوافدة من كل قرية، والأمواج الدافقة في كل طريق: أمصدر هذا البشر الذي يترقرق في جباهكم، ويتألق على شفاهكم، هو هذه الأَضواء الساطعة والزينات الرائعة والمباهج الخلابة؟ فيجيبونك إنما هو حب المليك الصالح وجد متنفسه في هذا الظرف السعيد فانقلب نشوة من نشوات السعادة يضيع في حمياها التدافع بالظهور، والتصادم بالصدور، والنوم على الأفاريز، والضلال في الشوارع. وهم في هذا المزدَحم الضاغط يتجهون إلى القصر ولا يذكرون غير الملك، كما يتجه الحجيج الحاشد إلى البيت ولا يذكر غير الله!
مولاي يا زين الشباب! لَنِعْمَ المثل العالي لناشئة الجيل أنت! إن في برك بشعبك، وفي إيمانك بربك، وفي إحصانك في بكور السن، وفي إقدامك على عزم الأمور، وفي ثباتك على تقلب الحوادث، لدستوراً من الخلق العظيم تصح عليه القلوب المريضة، وتنتعش به الآمال المهيضة، وتشتد به العزائم الرخوة، ويزكو عليه ثرى الوادي الحبيب الخصيب فيعود فينبت تلك الأدواح الشم التي فاء إلى ظلها وأكلها العالمَ القديم فاغتذى واسترْفه
مولاي يا أمير المؤمنين! لنعم الإمام العادل لدولة الإسلام أنت! إن في رفعك منار العدل، وفي إيثارك جانب الحق، وفي إعزازك كلمة الدين، وفي تجديدك ما رث من أسباب الخلق، وفي إحيائك ما عفا من سنن السلف، وفي أخذك نفسك الملكية الشابة بسْمت الرسالة وسيرة الإمامة، لومضةً من ومضات الروح الإلهي تبعث الحياة في هذا الهيكل العظيم الرميم فتعيده قوياً كما نشأ، عظيماً كما شب، حرياً بأن يبسط على الخافقين جناحه، ويستأنف في المشرقين دعوته وإصلاحه
مولاي يا وريث الفراعين! لنعم الملك الصالح لمصر العريقة أنت! إن في جمعك إلى
مزاياك الخاصة رأيَ البعقري محمد علي في العُدة والقوة، وحب العزيز إسماعيل للحضارة والفن، وميلَ العظيم فؤاد إلى الثقافة والعلم، لضماناً لمصر الناهضة أن تساهم في بناء المدينة من جديد، وأن تصل حاضرها الطريف بماضيها التليد!
نضَّر اللهُ بالملكة السعيدة عهدك، وثَبَّتَ الله على المملكة الرشيدة مجدك، وأدام الله على الأمة المجيدة سعدك، فإنك يا مولاي لدولتك ورعيتك ومِلّتك نعم المولى ونعم النصير
أحمد حسن الزيات
زواج ملكي
للأستاذ عباس محمود العقاد
لورنس هوسمان أديب شاعر رسام إنجليزي أشتهر بمسرحياته الصغيرة التي كتبها عن حياة الملكة فكتوريا ونشرها أخيراً (نادي اليمين) الذي يعارض جماعة الشمال من أصحاب المبادئ الاشتراكية والدعوات الانقلابية. وإحدى هذه المسرحيات مقصورة على المناقشة بين اللورد ملبورن والملكة فكتوريا عن مسألة الزواج الملكي وقد دار فيها بينهما هذا الحوار:
فكتوريا - إنني لم أفكر في أحد ما على التخصيص. . . أعني أنني لم أتخذ بعد قراراً حاسماً
ملبورن - يفرج عني أن أسمع هذا يا مولاتي، وأفهم منه إذن أن صاحبة الجلالة لا تزال طليقة الرأي. . .
فكتوريا - طليقة الرأي؟ نعم. نعم، لاشك أنني صاحبة الخيار في الأمر يا لورد ملبورن
ملبورن - وكيف لا؟ هذا ما أعنيه طبعاً ولا أشير بغيره لحظة
فكتوريا - لكن هناك أموراً قد عقدت النية عليها وبتتُّ فيها
ملبورن - مثل ماذا؟
فكتوريا - أن يكون زواجي يا لورد ملبورن زواج عاطفة
ملبورن - ذلك ما يستطاع تدبيره فيما أعتقد يا مولاتي بغير مشقة
فكتوريا - أعني أنني أريد إنساناً أجل خلائقه، وأستطيع أن أحبه وأن أرتفع إليه
ملبورن - ترتفعين إليه؟!
فكتوريا - نعم يا لورد ملبورن. وربما استغربت ما تسمع؛ إلا أنني أريد زوجاً أتطلع إليه حقاً بعد أن تكمل له الدربة على المرتبة التي سيشغلها
ملبورن - آه. هو كذلك، هو كذلك. إنني واثق من إمكان وجوده. وإذ كانت صاحبة الجلال قد أعربت عن طلاقة رأيها في هذا الصدد فعندي الساعة بيان بالأسماء المحتملة
فكتوريا - آه. لورد ملبورن، ما أعجب هذا! كم عددها؟
ملبورن - حسناً مولاتي. هم في الوقت الحاضر خمسة وحسب، ولكننا ننتظر آخرين. . .
فكتوريا - تنتظرون؟!
ملبورن - أريد أن أقول إننا نستخبر خبرهم
فكتوريا - وكيف تستخبرون؟
ملبورن - عن كل شيء يا مولاتي، وهو واجبنا المفروض علينا، فليس من شأني أن أعرض على صاحبة الجلالة أحداً يتجه إليه اعتراض على وجه من الوجوه
فكتوريا - وقد وجدت منهم خمسة حتى الساعة. . . ما أبرعك يا لورد ملبورن!
ملبورن - تحدثت يا مولاتي عن (المحتملين). . . ولا يزال الاستخبار جارياً عن الآخرين، وأنا قائم بالبحث الآن، ولعله لا يبقى منهم بعد مراجعة صاحبة الجلالة غير واحد
فكتوريا - أود أن ألقي نظرة على بيانك يا لورد ملبورن
ملبورن - إن أذنت مولاتي فبعد تمهيد وجيز عن الملاحظات التي تهديني في بحثي أعرض بياني لنظر مولاتي، ولموافقتها فيما أرجو
فكتوريا - لا يسعني أن أوافق على خمسة!
ملبورن - على سبيل المراجعة الأولى لم لا يا مولاتي؟ من خمسة يجرون تختارين السابق
فكتوريا - يجوز ألا أختار أحداً إلى زمن طويل، ولكن على كل حال هات ما عندك. إنني مصغية ومهتمة
ملبورن - إن المزايا التي يمتاز بها قرين يليق بصاحبة الجلالة هي ولا ريب مزايا فريدة أو مزايا خاصة. ولعلي لا أعدو وصفها الصحيح إن قلت غريبة. فمن الواجب أولاً أن يكون من سلالة ملكية، ومع هذا يجب ألا يكون وارثاً مباشراً أو مرجحاً لعرش من عروش الملك أو الإمارة
فكتوريا - ولم لا يا لورد ملبورن؟
ملبورن - لأن وراثته ربما جرت يا مولاتي إلى بعض المشكلات السياسية. إن تاج هانوفر قد تجاوزك إلى غيرك لأن قانون الوراثة يقصر ولاية الملك على الذكور، وتلك مناسبة سعيدة فيما أحسب، فنحن لا نحب مزيداً من تيجان هانوفر، وإن البلاد لأحسن حالاً بغير تلك التيجان
ولنعد إلى المزايا المطلوبة يا مولاتي. فالقرين اللائق بصاحبة الجلالة ينبغي فوق عراقته
الملكية وبعده عن وراثة العرش أن يكون أميراً من بيت لا هو بالصغير المفرط في الصغر ولا هو بالخطير المفرط في العظم. إذ لا مناص لنا من اجتناب المحالفات المعقدة. وينبغي بعد هذا أن يدين بالعقيدة البروتستانتية
فكتوريا - أجل. أجل. فليس في مقدوري أن أتزوج برجل (بابوي)
ملبورن - نعم يا مولاتي ليس في مقدورك. إن قانون الولاية يمنع ذلك. ثم ينبغي أيضاً أن يكون شاباً كي يصبح قرين حياة لصاحبة الجلالة؛ وينبغي أن يعرف أو يتعلم اللغة الإنجليزية، وأن يكون صالحاً لاقتباس العادات والتقاليد القومية. وإن هذه المزية الأخيرة لأصعبها جميعاً لما هو معروف من تحرج الإنجليز مع الأجانب
فكتوريا - لكني يا لورد أحسب ما تقول سيجعل الأمر مستحيلاً
ملبورن - حاشا يا مولاتي. غاية ما هنالك أنه سيضيق نطاق الاختيار. ولابد من العثور على أحد قادر بعد الاصطباغ بالصيغة الإنجليزية أن يقتبس عاداتها ومشاربها. وقد حدث هذا فإن أبن عمك الأمير جورج أوف كامبردج مثلاً يتخذ على عجب صورة الإنجليزي المطبوع، ولا تمضي سنوات خمس أو نحو ذلك حتى يتعود أن يجفو الأجانب كما نجفوهم
فكتوريا - لكن أتراك تجفو الأجانب يا لورد ملبورن؟
ملبورن - كلا يا مولاتي! كلا! وإنما أصطنع جفاءهم بعض الأحايين لأسباب سياسية
فكتوريا - حسن. وماذا بعد ما تقدم؟
ملبورن - يجمل به فوق ما تقدم يا مولاتي أن يملك بعض الثروة وإن لم تكن عظيمة؛ فإن البرلمان سوف يتكفل بما هو لازم؛ ويجمل به أن يكون صاحب سمت لائق بمقامه، وأن يكون على جانب من العقل لكن على غير جانب عظيم منه!!! إذ لا يحق له أن يتعرض لشؤون السياسة
فكتوريا - هذا حق، ولن أسمح له بالتعرض لتلك الشؤون
ملبورن - ثم ينبغي أن يكون صحيح الجسم سليم التكوين، منحدراً من (أصل أصيل). . . وهذا أصعب ما عانيناه في المسألة إذ كان (الأصل الأصيل) في الأسر الأوربية المالكة من أندر الصفات
فكتوريا - وضح من فضلك، فإني لا أكاد أفهم. ويخيل إلى أن كلمة (الأصل الأصيل)
تنصرف إلى الماشية
ملبورن - هي كذلك يا مولاتي في بعض معانيها؛ بيد أنها تعني أيضاً ما ينحدر من الوالد إلى الوالد. ونحن نجدها في الوصية الثانية حيث تنبئنا أن خطايا الآباء تنصب على الأبناء؛ وكذلك الفضائل. ففي بعض السلالات الملكية قد امتزجت الخطايا والفضائل حتى لنخشى المزيد من امتزاجها والخلط بينها. ولهذا كان القران بين الأمراء الأقارب غير محمود المشورة
فكتوريا - أوه!
ملبورن - أعني على الجملة لا على التقصي. وفيما يرجع إلى بعض الفروع من شجرة أسرتكم يا مولاتي ينطبق هذا لسوء الحظ أشد انطباق. ومن ثم لم أضمن بياني أسمي أثنين من أبناء عمومتك على الرغم من ذكرهما لي، وإنهما لولا ذلك لكانا من أصلح المرشحين لتلك المكانة، وهما صاحبا السمو الأمير إرنست والأمير ألبرت من ساكس كوبرج جوثا
فكتوريا - ومع هذا كانا يلوحان لي على أتم صحة وقوة عندما رأيتهما منذ سنتين
ملبورن - في الظاهر يا مولاتي، والظواهر طالما تخدع. والمسألة بعدُ دقيقة، بل مؤلمة، غير أني لم أضمن أسميهما - اتباعاً لما عندي من الأنباء الطبية - في البيان الذي أتشرف الآن بعرضه على صحابة الجلالة (وينهض ويقدم إليها البيان فتعبره بلمحة واحدة)
فكتوريا - أوه. ولكن هل تراني أعرف أحداً منهم؟
ملبورن - جلالتك تعرفين أحدهم حق المعرفة
فكتوريا - أوه. لا أحسب. أتعني الأمير جورج؟ إنه أبن عمي أيضاً
ملبورن - في فرع آخر يا مولاتي، وليس على هذا الفرع اعتراض من ذاك القبيل
فكتوريا - أوه، لكنني لا أستطيع أن أقبل أبن عمي جورج. . . إنه. . . إنه
ملبورن - ليس من يريد أن يمس حق جلالتك في اختيارك. . . هناك غيره
فكتوريا - إلا أنني كما قلت لا أعرف أحداً منهم
ملبورن - يسهل إصلاح ذلك يا مولاتي. تدعينهم إلى البلاط واحداً واحداً ولا تقولين شيئاً، ثم تصرفينهم ولا تقولين شيئاً. أو تقولين ما بدا لك، ويبقى، أو يعود كرة أخرى
فكتوريا - لكنني أنا التي أختار. أليس كذلك؟
ملبورن - نعم أنت التي تختارين يا صاحبة الجلالة، ولا ضرورة تلجئك إلى الزواج إن أبيت
فكتوريا - أوه، لكن لابد من الزواج. هكذا كانت أمي تقول في كل حين
ملبورن - وهكذا سمعت. على أن مسألة لها مثل هذه الخطورة قلما يسمح فيها لولاء البنوة أن يؤثر في اختيار صاحب الجلالة. وإنما أقول يا مولاتي إنه على فرض أن هناك محاولة من محاولات التأثير على اختيارك في وجهة من الوجهات فالواجب يقضي على لما قدمت من أسباب أن أعارض
فكتوريا - لورد ملبورن، إنني لن أقبل معارضة ما في أمر من الأمور التي على هذا النحو. إنها لن تؤثر في رأيي لحظة
ملبورن - لا؟
فكتوريا - علي التحقيق، وربما أثرت على النقيض في وجهة أخرى
ملبورن - فهمت يا مولاتي، وأنا أشاطرك شعورك، ولا أقول كلمة أخرى، وإنما أكل المسألة إلى حسن رأيك، وإلى ضميرك
فكتوريا - أوه. ما أكرمك معي يا لورد ملبورن! وكم ذا أتعلم منك!
ملبورن - بل كم ذا أتعلم أنا من مولاتي. لقد خدمت ملكين أسن من صاحبة الجلالة، إلا أنني لم أخدم أحداً يصغي إلى المشورة بما تبدين من حكمة وحسن إصغاء
فكتوريا - (ناهضة) أستودعك إذن يا لورد ملبورن. أتبقي معك البيان أم تتركه هنا؟
ملبورن - بأذنك يا مولاتي. اذكري ما قلته أو تفضلي بنسيانه. . . فالاختيار لك وحدك وليس لأحد غيرك
فكتوريا - نعم، ولكنك لم تُرِني بعدُ صورة من الصور
ملبورن - صوراً يا مولاتي، ولماذا الصور؟
فكتوريا - لا يسعني أن أختار أحداً حتى أرى ملامح وجهه، فليس هذا بالإنصاف لهم ولا هو بالإنصاف لي
ملبورن - تستطيعين أن تأمري بدعوتهم.
فكتوريا - كلا! لا أنوي أن أدعو أحداً إن لم يعجبني مرآه
ملبورن - إن الصور لخادعة في بعض الأحيان يا مولاتي
فكتوريا - هذا صحيح. وقد رأيت منذ أيام صورة لأبن عمي الأمير جورج أوف كمبردج؛ فإذا به يلوح فيها وهو جميل
ملبورن - أستطيع أن أحصل على صورهم جميعاً يا مولاتي حسب مشيئتك، ولكن المصورين في البلاط - مثلهم كمثل رؤساء الوزارات - يعرفون واجباتهم، ولا يعملون إلا ما هو منظور منهم أن يعملوه، فإن لم يقدروا على عمله فعليهم أن يذهبوا
فكتوريا - (وهي ذاهبة إلى المائدة). . . هذه صورة أرسلت إلى والدتي منذ أيام: صورة ابن عمي الأمير ألبرت
ملبورن - (وقد تبعها إلى المائدة). . . أوه. . آه. نعم
فكتوريا - لا شك أنه نشأ جميلاً. ليس في استطاعة مصور بلاط أن يتخيل صورة على هذا المثال
ملبورن - من يدري يا مولاتي؟ من يدري؟ إن الخيال ليجمح. . . فأما وقد استغنينا عن بيان الأسماء فهل أمضي الآن في جمع الصور لصاحبة الجلالة؟
فكتوريا - أوه. كلا! يا لورد ملبورن. لم أكن جادة حين ذكرت هذا
ملبورن - ولا أنا يا مولاتي. إلا أنني أتوسل إلى صاحبة الجلالة أن تفكر في هذا الأمر جادة. . . إن مصير هذه البلاد لفي هذه اليد الصغيرة (وينحني على يد الملكة مقبلاً)
هذا الحوار طريف شائق مفيد من جوانب كثيرة، لأنه يرينا نمطاً من أدب الحديث بين الملوك والوزراء في بلاط الإنجليز، ويرينا نمطاً من الشروط السياسية التي تلاحظ في زواج الملوك الأوربيين والملكات الأوربيات، ويرينا نمطاً من اللياقة التي يتذرع بها الساسة هناك إلى تصريف المسائل الدقيقة. ويحسن الإطلاع عليه، والأمة المصرية تبتهج بزفاف المليك الفاروق حفظه الله وأدام ايامه، ليتم الإطلاع على الفارق بين تقاليدنا وتقاليد الغربيين في هذه الشؤون؛ فقد فرض العرف القديم وفرضت المواقف السياسية قيوداً على ملوك الغرب لا محل لها من العادات الإسلامية والشرقية. ومن ثم كان زواج الملوك المصريين أقرب إلى الديمقراطية وإلى الحرية وإلى المعاني الإنسانية مما يكون بين الأمم الغربية، وهي فيما توحيه الظواهر مهد الحرية في مسائل الزواج.
عباس محمود العقاد
الملك الشاب رمز الأماني الجديدة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
من أعجب الحقائق التي تقوم عليها الحياة في الجماعات الإنسانية أن جملة آرائها وعقائدها وغاياتها، هي آراء موتاها وعقائدهم وغاياتهم، وكل أمة تعرف ضرباً من تحكم الموتى في حياة الأحياء. ومن أمثلة ذلك: الوصية التي يتركها الذين يرحلون عن هذا العالم الفاني، ويخلفون بها ما لهم لهذا أو ذاك، بلا شرط أو بشرط يحتمون على الوارث التزامه. ومن أمثلته عندنا الوقف الذي تبقى شروطه نافذة جيلاً بعد جيل، ولا يكاد أحد يملك تغييراً لها، أو يعرف له حيلة فيها إلا النزول على حكمها. وكل من يعرف شيئاً من التاريخ لا يسعه إلا أن يفطن إلى سيطرة الماضي على الحاضر، وإلى أن عقول الذاهبين هي التي تسير الأحياء، أو تقيدهم كما يقيد الواقف ورثته ويحدّ من تصرفهم فيما يخلّف لهم. وأضرب مثلاً قريباً لهذا ما نزال نقرأه في الصحف ونسمعه من أفواه الناس، من قولهم:(مبادئ سعد). وقد أنتقل (سعد) إلى رحمة ربه ونفض يده من شئونها، وخلا قلبه من همومها وآمالها، ولكن يده لا تنفك تمتد من ظلمة القبر، وتدير الرؤوس إلى هنا وههنا. وليس من همي في هذه الكلمة أن أستقصي كل مظاهر هذه الحقيقة الثابتة، فان حسبي أيسر الإشارة إليها، وفي مقدور كل قارئ أن يتوسع كما يشاء في رد حاضر الجماعة إلى ماضيها القريب والبعيد. وكل ما أريد أن أقوله هو أن كل ما تنطوي عليه الجماعة من آراء سياسية أو اجتماعية، وما لها من عادات وخصائص، له تاريخ طويل، وان كل جيل يجيء يتلقى هذا الميراث عن سلفه، وأن التغيير الذي يقع لا يكون في العادة إلا بطيئاً. وكثيراً ما يخفي أمره حتى على الذين يكونون أداة له، ولكنه يتفق أحياناً أن يقع للجماعة حادث أو حوادث ترج كيانها وتزلزل قواعد حياتها وتفكك الإطار الذي يحيط بصورتها الثابتة، وتبث صلتها - إلى حد ما - بماضيها الطويل، وتغريها بالتماس طابع آخر غير الذي درجت عليه، وتدفعها في اتجاه جديد، بروح جديدة، وخصائص لا تطابق كل المطابقة ما كان مألوفاً ومعهوداً فيها.
وقد حدث هذا في مصر مرتين فيما أعلم، فأما في المرة الأولى فكانت الرجة التي أحدثت الانقلاب السياسي والاجتماعي سببها الثورة التي قامت في سبيل الاستقلال، وهو انقلاب بعيد المدى ما على من يشك فيه إلا أن يرجع البصر إلى ما كانت عليه حياتنا معشر
المصريين قبل هذه الثورة، وما صارت إليه بعدها؛ وقد تناول كل وجه من وجوه حياتنا السياسية والاجتماعية، ولم يسلم منه شيء. وقد كان من الممكن أن يقع هذا التحول بغير حاجة إلى زلزلة الثورة ورجاتها العنيفة، ولكنه كان خليقاً أن يكون بطيئاً جداً، وغير محسوس، وعلى أجيال طويلة؛ غير أن الثورة القومية عجلت به، من حيث نشعر ولا نشعر، فأصبحنا فإذا نحن أمة أخرى، لها في الحياة آراء جديدة، وعزمات لم تكن معهودة، وآمال وهموم ومساع لا نكران أنها كانت تدور في نفوس البعض، ولكن السواد الأعظم كان ذاهلاً عنها، وقد لا تكون هذه الثورة التي انطلقت من عقالها في سنة 1919 سوى موجة صغيرة من ذلك البحر الأعظم الذي أزخرت الحرب تياراته ما فتئنا نرى فعلها وأثرها في أمم أخرى كثيرة غيرنا، ولكن هذه الموجة الصغيرة كانت حسبنا، وقد جاءت بالاستقلال آخر الأمر، ولكنها جاءت بشيء اخر، فكانت ختام عهد في حياة الأمة، وبداية عهد غيره له طابع مختلف جداً.
وهنا موضع الكلام في المرة الثانية، وبها يتم التحول الذي بدأته الثورة.
كانت قيادة الأمة في الثورة التي استعرت في سنة 1919 للشيوخ، وكان الزمام في أيديهم، وكان العبء السياسي في كواهلهم، وكانوا ولاشك يمثلون آراء البلاد واتجاه النفوس فيها، وقد فازوا لأمتهم بما كانوا ينشدون لها، والذي جادوا به هو الذي قدروا عليه، ولو كان في الوسع مزيد لزادوا، ولكنهم تولوا أمراً لا يسعهم فيه اكثر مما وقفوا إليه. وقد أصبحنا بذلك أمة مستقلة، ولكنا أصبحنا بهذا أيضاً أمة محتاجة إلى مثل عليا جديدة، ومساع غير تلك التي بلغتنا هذه القاصية - قاصية الاستقلال - وقد كنا خلقاء أن نشعر بالحيرة والارتباك لو لم يقع ذلك الحادث الجديد الضخم في حياتنا، وهو ارتقاء الملك الشاب فاروق الأول عرش البلاد. ذلك أن شيوخ الأمة لا يستطيعون أن يمثلوا اكثر مما مثلوا، ولا يسعهم في العهد الجديد أن يكونوا رمز الآمال الجديدة التي أنشأها تغير كياننا السياسي
لقد صرنا أمة حديثة، كأنما أفاض عليها الاستقلال ثوباً من الشباب النضير، فهي أحس بفيض الحياة وقوتها منها بما خلعت ونضت من الهلاهيل التي كان الاستعباد يكسوها، وما صدعت من القيود العارقة التي كانت تقعد بها عن السعي وتلزمها سكون الوهن وعجز الشيخوخة. والأمم في مثل هذه الحالة يقل صبرها على حكم الأيدي التي تمتد من وراء
القيود، ويكون همها ما أمامها من حياة لا ما خلعته عنها من أكفان المذلة والهوان، ويكون مطلبها رمزاً تتعلق به آمالها وترحب به آفاقها
وقد قيض الله لها ذلك الرمز، فولى أمورها ملكاً غض الشباب، شامت الخير كله من لمحاته، وآنست الرشد أجمعه من حركاته وسكناته، فافتتنت به، ولها العذر واضحاً، والحق صريحاً فما يمثل آمال الشباب إلا الشباب، وهذا هو بعض السر في السحر الذي لملكنا: إنه شاب فياض الحيوية زاخر الآمال عظيم لثقة بأمته ومستقبلها، شديد الإيمان بالله وبالمجد الذي كتبه تعالى لها، وإنه قام على العرش قبل أن تدرك الحيرة شعور الشباب في الأمة؛ وقد كان المغفور له الملك فؤاد يدرك ذلك، ولهذا أعده للعهد الجديد خير إعداد
ومن فضل الله على الأمة أنه ملك سمح عظيم مروءة النفس، ومتواضع كريم، ورقيق حليم، ووثاب بعيد مرامي الهمة، وصادق العزم صارم الإرادة، وعالي المنزع شديد الطموح، يحب الأمة ويثق بها فإذا كان قد سحر الأمة فلا عجب. بل العجب العاجب ألا يسحرها.
ومن هنا فرحة الأمة به، وبكل ما يفرحه
وأمر آخر يجعل الأمة أعمق حباً له، وأشد تعلقاً به، ذلك أنه ليس مديناً بعرشه إلا لله جل جلاله، فقد ورث عرشه بحقه الصريح فيه، فهو لا يمكن أن يشعر بغير فضل الله عليه، وهو لهذا أول ملك حر في مطلع عهد الحرية، والأمة تدرك هذا حق الإدراك، ولهذا يفيض قلبها بالحنو والحب كلما رأت مظاهر توجه الصادق إلى الله تعالى
ويشاء الله أن يجعله موفقاً في كل عمل، فقد أسر قلوب الشعب يوم خطب لنفسه من بنات رعاياه، وقد صارت اليوم ملكتنا بسنة الله الرضية. ولو أنها كانت بنت أعرق الملوك لما كانت احب إلى هذه الأمة، ولا أندى على قلوبها، ولا أجل في عيونها، ولا أسمى فيما تحس نفوسها
لقد خلط الملك نفسه بنفوس أمته، فهي تشعر أنها منه وإليه. وتحس أنه ملكها بأدق ما تفيده هذه الإضافة من معنى
بارك الله في الملكين، وهنيئاً لهما وللأمة
إبراهيم عبد القادر المازني
مهرجان المليك
للأستاذ محمود الخفيف
بَكَرَت تُفْصِحُ عن وجدانها
…
أُمَّةٌ حُبُّكَ من إيمانها
طَرِبَ اللْيلُ على أوضاحها
…
وانْجَلَى الصُّبْحُ على ألحانها
وصحا الشرقُ على موكِبِهَا
…
وسِمَاتِ العيد في أوطانها
شَاعَتِ الرَّوعَةُ في أفراحها
…
وتَجَلَّى الصِّدْقُ في بُرْهانها
أعْلَنَتْ بْعضَ الذي تُضْمِرُهُ
…
من مَعَانٍ هن في إمكانها
أبَداً لم تَطْلُع الشَّمْسُ على
…
مِثلِ ما تُبدِيه في إعلانها
مَرَحٌ في كلِّ نَادٍ ومُنىً
…
تعجز الألسُنُ عن تبيانها
وأحاديث كأنفاسِ الربى
…
تَنْهَلُ الأنفسُ من ريحانها
وأغاريدُ كما شاء الهوى
…
رَنَّةُ الإخلاص في تحنانها
وَقْعُها في القَلبِ أحلى نَغْمَةً
…
من هتاف الورْق في أفنانها
اسُمكَ الميموُنُ في مَطلعِها
…
والولَاءُ الحقُّ من أوزانها
مِهْرْجَانُ العُرْسِ لم يسلف به
…
زمَنٌ في الغُرِّ من أزْمَانها
لا ولا الشَّرْقُ رأت آفاقُهُ
…
مِثلَ هذا السحرِ في أركانها
عَزَّ في الهندِ على أقيالها
…
وعَزِيزُ الدُّرِّ في تيجانها
وعلى هرون في أفراحه
…
وليالي الأنس من بغَدانها
وأنو شروان في دولَته
…
والملوك الصِّيدِ من ساسانها
مِهْرَجَانٌ تشخَصُ الدنيا له
…
ومعاني البَهْرِ في أجفانها
طاوَلَ الشمسَ سناءً وسنىً
…
وارتدى ما جَلَّ عن عِقْيانها
لَبِسَ الوُدَّ على زينتِهِ
…
ومعاني الحب في رَيعْاَنها
زهَرَاتٌ لم تُقَلِّبْها يَدٌ
…
أين غالي الدُّرِّ من أثمانها
لم تَشُبْهُ خُدَعُ الدنيا ولا
…
سَطوَة الزائِف من سلطانها
صَفْحَةُ الوادي عليها رَوْنَقٌ
…
يَمْلِكُ الحُسنَ على شُطْئانها
أخذتْ زُخْرُفَها وازَّيّنّتْ
…
بِبَديعِ الوَشيِ من ألوانِها
وانْحَنى النَّهْرُ عَلَيْهَا مُعْجَباً
…
يَغْبِطُ الفُلْكَ عَلَى رُبَّانها
هَزَّتِ الواديَ من أركانه
…
فَرْحَةٌ وأتَتْهُ في إبَّانِها
ها هنا وَرْدٌ، وَرَيْحَانٌ هنا
…
ورموزٌ زِيدَ في إتقانها
وطُيُوفٌ حُوَّمٌ خافِقَةٌ
…
أرسلتها الخُلْدُ عن ولدانها
وجُمُوعٌ تلتقي مَزهُوَّةً
…
بضُروب اللَّهْوِ في ميدانها
فَرْحَةٌ في الكوخ والقصر مَعاً
…
في قرى مِصْرَ وفي بلدانها
في صَعِيدِ الأرض، في أبْطَحِها
…
في ربوع النيل من سودانها
يَلْتَقي الناسُ عليها عُصْبَةً
…
شيبُها والغُرُّ من شبانها
زُمْرَةُ المحرَاب من أشياخها
…
ورُعاةُ الدَّيْرِ من رهُبانها
صاحِبُ الجاه على تُرْبَتِها
…
وَمُجيلُ الفَأس في غيطانها
رّدَّها في العَيْنِ أبهى مَنْظراً
…
قُرَّةُ الأعْيُنِ من غِلمانها
أقْبَلَت والحسنُ في غُرَّتها
…
تُبْهجُ النظَّارَ من ضِيفَانها
دَلَّهَتْ مِصرَ وفاضَتْ فَسَرَتْ
…
هِزَّةٌ منها إلى جيرانها
مَلِكَ النيل تَلاقَتْ أمّةٌ
…
أفْصَحَتْ بالبِشْرِ عن شُكْرَانها
شَكَرَت بَعْضَ الذي أسْدَيتهُ
…
فَتَهَانيها صدى عِرْفانها
لكَ في الخير يدٌ هَطَّالَةٌ
…
لا تَنِي تُغْدِقُ من إحسانها
وسَجَايَا قد تَفَرَّدْتَ بها
…
أَجْمَع الشَّعْبُ على استحسانها
قد حَمَلْتَ العِبَْء فيها يافِعاً
…
فَشَأَوْتَ الشمْسَ في مِيزانِها
إن دجا الرأيُ عليها والتوى
…
فَسَنا رأُيكَ من فُرْقانها
عَشِقَتْ فِيكَ شَباَباً ناضراً
…
دبَّ مثْلَ الروح في جثمانها
تُقبلُ الدنيا فلا تُزْهى بها
…
وتُطيع اللهَ في عصيانها
زدْت بالتقوى جَلَالاً وهُدىً
…
وأوَتْ مِنكَ إلى عُنْوانها
أنْبَتَ المجدُ بِمصْرٍ دَوحَةً
…
أنت أزكى الشُمِّ من عيدانها
يا مليكا باهت الدنيا به
…
أمةٌ تُغُليكَ عن رُعْيانها
أنت يا فاروق في مقلتها
…
وهْيَ كالمقْلَةٍ من إنسانها
الخفيف
من الأعراس الإسلامية الشهيرة
زواج قطر الندى الطولونية بالخليفة المعتضد بالله
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كانت الدولة الطولونية أولى الدول الإسلامية المستقلة بمصر وكانت أقصرها حياة، ولكنها لم تكن أقلها قوة وبهاء، فهي لم تعمر سوى سبعة وثلاثين عاماً (254 - 292)، ولكنها سطعت خلال حياتها القصيرة كما تسطع الدول العظيمة. ثم انهارت فجأة كأنها صرح أسس على الرمال، ذلك لأنها تدين بوجودها وقوتها لمؤسسها العظيم أحمد بن طولون؛ فلما توفي احمد في سنة 270هـ، وخلفه ولده خُمارويه، لبثت الدولة مدى حين تحتفظ بلونها الزاهر؛ ولكن عوامل الانحلال السريع كانت تعمل لتقويض دعائمها التي لم تكن قد رسخت بعد. وكان خمارويه أميراً مترفاً ينثر حوله ما استطاع من ألوان الفخامة والبهاء، فعنى بتوسيع القطائع وتجميلها عناية فائقة، وزاد في قصر أبيه زيادات كبيرة، وأنشأ له قصراً خاصاً بذل فيه من صنوف البهاء والبذخ آيات عجيبة، وجعل فيه بركة من الزئبق الخالص، وديواناً ملوكياً فخماً عليه قبة عظيمة، وداراً للسباع، ومسارح للطيور وغيرها. وكانت هذه الألوان الزاهرة تسبغ على الدولة الطولونية مظهراً بارزاً من القوة والعظمة، ولكن النضال المستمر الذي اضطرت إلى خوضه كان يستغرق قواها ومواردها، ويعرضها لتلك الزعازع والمفاجآت التي تنذر الدول الناشئة بالفناء الكامل
وكانت الدولة الطولونية تستظل منذ قيامها بلواء الخلافة الإسمي؛ ولم يشأ مؤسسها النابه أن يخرج على هذه السلطة الروحية التي يستمد منها شرعية حكمه واستقلاله. وحذا ولده خمارويه حذوه، فدعا للمعتمد العباسي، ثم دعا من بعده للمعتضد. على أن هذا الاستظلال الإسمي بلواء الخلافة لم يحل دون تعرض الدولة الطولونية لهجمات عمال الخلافة وأوليائها الآخرين. واضطر خمارويه، كما اضطر أبوه من قبل أن يخوض غمار معارك دفاعية متصلة؛ ولما ولي المعتضد الخلافة في أواخر سنة 279هـ، بعث إليه خمارويه بالهدايا الملوكية المعتادة، فبعث إليه المعتضد بكتاب الولاية والخلع التقليدية، وانتظمت العلائق الودية بين الخلافة والدولة المصرية، بشروط وعهود معينة. ورأى خمارويه من جهة أخرى أن يوثق هذه العلائق بمشروع معاهدة اقترحه على الخليفة، وهو أن يزوج
ابنته أسماء الملقبة بقطر الندى لولده وولي عهده المكتفي بالله؛ فوافقه المعتضد على هذا المشروع على أن يتزوج هو قطر الندى. واغتبط خمارويه بعقد هذه الصلة الوثيقة بينه وبين الخلافة، وبعث الخليفة مندوبه وصديقه الحسن بن عبد الله الجوهري المعروف بابن الخصاص إلى مصر ليتولى إحضار العروس إلى بغداد، وليشرف من قبله على أهبات القران الخلافي.
وكان زواج المعتضد بقطر الندى من أعظم الحوادث الاجتماعية في التاريخ الإسلامي، وكانت هذه الأميرة المصرية النابهة من أجمل نساء عصرها وأكملهن في العقل والخلال؛ وكانت وقت خطبتها صبية في نحو الخامسة عشرة؛ وكان أبوها خمارويه يعبدها حباً؛ فلما وقع الاتفاق على زواجها من المعتضد أحيط عقدها وزفافها بأورع ما يتصور الإنسان من مظاهر الفخامة والبهاء. وكان صداقها ألف ألف درهم، ولكن خمارويه أنفق في تجهيزها أضعاف أضعاف هذا القدر. وكان جهازها مضرب الأمثال في البذخ الطائل الذي تكاد تحسبه من مناظر ألف ليلة وليلة. وقد نقلت إلينا الرواية بعض تفاصيل مدهشة عن جهاز قطر الندى وزفافها؛ فذكرت لنا أن خمارويه قدم لابنته فيما قدم دكة أربع قطع من ذهب وعليها قبة من ذهب مشبك في كل عين من التشبيك قرط معلق فيه حبة جوهر لا تقدر، ومائة هون من ذهب؛ ومن الحلي والثياب روائع يعجز عنها الوصف، حتى قيل إن من بينها ألف تكة من الحرير قيمة الواحدة منها عشرة دنانير؛ وهي واقعة ينوه بها المقريزي ويتخذها دليلاً على بذخ هذا العصر الطائل، ويقول لنا إن أسواق القاهرة في عصره أعني في أوائل القرن التاسع كانت تعجز عن أن تقدم تكة واحدة بهذه القيمة؛ ويقول لنا القضاعي إن ابن الخصاص، وقد تولى إعداد الجهاز والإشراف على النفقة تحقيقاً لرغبة خمارويه، حينما قدم إليه ثبت النفقة ذكر له أنه لم يبق منها للتسوية سوى (كسر) قدره أربعمائة ألف دينار، وإذن فما بالك بالنفقة كلها إذا كان هذا كسراً منها فقط!
وفي أواخر سنة 281هـ، تم تجهيز قطر الندى، واتخذت الأهبة لإرسالها إلى الخليفة. وهنا أيضاً يحب أن نرجع الذهن إلى قصص ألف ليلة وليلة، لكي نتصور ما أحيطت به رحلتها من مصر إلى بغداد من مظاهر النعماء والفخامة والترف. فقد شاء خمارويه أن يجعل لابنته من تلك الرحلة الشاقة نزهة بديعة، فأمر أن يقام على طول الطريق من مصر
إلى الشام ثم إلى بغداد في نهاية كل مرحلة منزل وثير تنزل فيه قطر الندى وحاشيتها، وتتمتع فيه بجميع وسائل الراحة. وأنفقت في هذه الرحلة مبالغ طائلة؛ وخرجت قطر الندى من القطائع في ركب ملكي عظيم يشرف عليه ابن الخصاص مندوب الخليفة وجماعة من الأعيان، ومعها عمها شيبان بن أحمد بن طولون؛ وصحبتها عمتها العباسة إلى آخر حدود مصر من جهة الشام؛ (وكانوا يسيرون بها سير الطفل في المهد، فإذا وافت المنزل وجدت قصراً قد فرش، فيه جميع ما يحتاج إليه، وعلقت فيه الستور، وأعد فيه كل ما يصلح لمثلها في حال الإقامة، فكانت في مسيرها من مصر إلى بغداد على بعد الشقة كأنها في قصر أبيها تنتقل من مجلس إلى مجلس)
ووصل ركب قطر الندى إلى بغداد في فاتحة المحرم سنة 282هـ فأنزلت في دار صاعد. وكان المعتضد غائباً بالموصل، فلما علم بمقدمها عاد إلى بغداد، وزفت إليه في الخامس من شهر ربيع الأول في حفلات عظيمة باذخة أسبغت على بغداد مدى أيام حللاً ساطعة من البهاء والبهجة. وسحرت قطر الندى الخليفة بجمالها وخلالها البارعة، وتفوقت في حظوتها لديه على سائر خطاياه. ومما يروي أن المعتضد خلا بها ذات يوم في مجلس أنس، فلما ثقل رأسه من الشراب وضع رأسه على حجرها، فلما استغرق في النوم، وضعت رأسه على وسادة وغادرت المجلس؛ فلما استيقظ ولم يجدها استشاط غضباً وناداها وعنفها على تصرفها، فأجابته:(يا أمير المؤمنين ما جهلت قدر ما أنعمت به عليّ، ولكن فيما أدبني به أبي أن قال: لا تنامي مع الجلوس، ولا تجلسي مع النيام)
محمد عبد الله عنان
من برجنا العاجي
(كل شيء يزدهر في مملكة تمتزج فيها مصلحة الشعب بمصلحة الملك) تلك كلمة قالها (لابروبير) في كتابه (الأخلاق) تقابلها كلمة أخرى في كتاب للهند عن رجل دخل على مليكه فقال له: (أيها الملك إن بقاءنا موصول ببقائك، وأنفسنا متعلقة بنفسك. .)
وضعتني هذه الأقوال لحظة موضع التأمل وقلت في نفسي إن هذه النظرة إلى (الملك) لا يمكن أن تكون وليدة الأوضاع الاجتماعية وحدها أو المبادئ السياسية أو العقائد الدينية. فالشرق والغرب لا يتفقان هكذا إلا على شيء يخرج من نبع طبيعتنا الإنسانية. إن الشعوب منذ فجر حياتها كانت دائماً ترى الأمة هي الجسم والملك هو (الرأس) بمعناهما الطبيعي (الفسيولوجي). هذا صحيح لا ريب فيه، والملك هو الحاكم المطلق في نظام الملوكية المطلقة. أما والأمة في النظم الديمقراطية هي التي تتولى الحكم فمن الحق أن نتساءل عن صحة تلك النظرة القديمة. قليل من التأمل يهدينا إلى هذه النتيجة: إن الأمم في شبابها كالفتى، تستهوي عقله كل مظاهر القوة، وتسيطر على رأسه كل أحلام الفتوة؛ فهي تجمع كل السلطة لتعطيها ذلك الحاكم المطلق الذي يدير كيانها ويحرك جسمها ويهز عضلاتها، إلى أن تمضي أيام الصبا وفورة الشباب وتدخل الأمة في طور الرجولة والاستقرار، فتحزم أمورها المادية بنفسها، وتترك مليكها يشغل بما يشغل به الرأس الحقيقي من شئون الفكر ومسائل الثقافة. وهنا نرى الملك في الشعوب الديمقراطية قد انصرف عن وظيفة الحكم المادي إلى وظيفة أخرى تشبه وظيفة الرأس في جسم الإنسان المفكر، فينقطع هو إلى التوجيه الفكري لأمته وتشجيع العلوم والآداب والفنون، وختم كل مظاهر النشاط الأدبي والمادي في الدولة بطابع الحضارة. فالملك في كل زمان ومكان هو الرأس دائماً؛ على أنه في الأمة الفتية رأس فتي، وفي الأمة العريقة رأس رجل.
توفيق الحكيم
زفاف ملكة القلوب ويلهلمينا الهولندية
للأستاذ محمد لطفي جمعة
أخي الأستاذ صاحب الرسالة:
تفضلت فطلبت إلي أن أكتب فصلاً يتصل بزفاف أحد ملوك الغرب بمناسبة الأفراح الفذة النادرة التي تقام في القاهرة لقران الملك الصالح السعيد فاروق الأول، فصادف تفضلك هوى في نفسي لأنني أشعر نحو شخص جلالته بحب وتقدير لا يعدلهما إلا ولائي لعرشه واستبشاري وتفاؤلي بعهده. وأعتقد أن عاطفتك نحو جلالته إن لم تزد على عاطفتي في هذا المضمار فهي تساويها لأن هذا الملك الشاب أثر أول ما أثر في قلوب المثقفين المهذبين أمثالك، ولذا رأيتَ أن تقف عدداً من رسالتك أو معظمه على مشاركة الأسرة والأمة أفراحهما، ونعمت الفكرة الملهمة التي ستلقى قبولاً ورضى من قرائك كافة في سائر أنحاء العالم العربي.
وأول ما خطر ببالي زفاف ملكة هولندا ويلهلمينا وزوجها الأمير ألبرت وقد شهدته بنفسي إذ كنت في سياحة في تلك البلاد العجيبة التي هي أقرب إلى القطر المصري بوديانها وخضرتها ومزارعها الناضرة وأخلاق أهلها الوادعين، وكانت الأميرة ويلهلمينا نفسها تدعى (ملكة القلوب) لما حباها الله من الجمال والجلال ورقة الحاشية، فكانت محبوبة من شعبها وإن نسب الحاسدون إليها شيئاً من الكبر والخيلاء وزعموا أنهما زالا مع الزمن بعد أن أحسنت القيام على حكومتها في رفق ولطف سياسة، وأصبحت بصيرة بوجوه التدبير والإدارة، خبيرة بتصريف الأمور، حتى كتب (فان كيكم) أحد وزرائها عقيب زفافها يقول:(إن ملكتنا أعقل أهل المملكة) ووافقه على ذلك من رفاقه الوزراء من كان لا يزال يرقب الملكة عن كثب ويدرس أحوالها وينظر إلى مستقبلها في إسطرلاب الحوادث المغيبة.
كان البرنس ألبرت خطيب الملكة من صفوة أشراف الطراز الأقدم، وكان قد ورث ثروة طائلة عن آبائه واتخذ لنفسه معلمين من الإنجليز بعد أن نال إجازات من جامعتي برلين وأكسفورد، وآوى إلى ضياعه التي يملكها في هولندا فغرس بستاناً على نمط جديد، وابتنى لنفسه قصراً على خطة من بنات فكره؛ وجعل ينفق في سبيل العناية بالمثوى وتعهد البستان وتنظيمه ما شاء الجمال وحسن الذوق، حتى استنبت أزهاراً نابغة من الخزامى والورد الأزرق
وكان يعلم أن الملكة الشابة تحبهما وتختارهما وتفضلهما على غيرهما من الأزهار فأهدى إلى جلالتها كل ما أخرجه البستان من الورد الأزرق الغض والخُزَامَى، فأصبح من أقرب
الأمراء إلى البلاط، وقبلت الملكة ووالدتها دعوته إلى حفلة شاي أنيقة أقامها في عيد ميلادها في قصره، وكانت الملكة الوالدة قد آمت من زوجها وكسرت شبابها على تربية ابنتها (ويلهلمينا) وتثقيفها وإعدادها للعرش إذ كانت ولية العهد والوارثة الوحيدة بعد أبيها وفي تلك الحفلة ظهر البرنس ألبرت أجمل مظهر وأبدعه وأروعه وكان فتى رشيق القد ممشوق القامة يختال في حُلة عسكرية فائقة. ولما علم بدنو موكب الملكتين (الوالدة والجالسة على العرش وهي التي زفت إليه بعد قليل) امتطى صهوة جواد سابح ينهب الأرض وراح يستقبل موكب المركبة الملكية، ولم تكن السيارات قد ملأت العالم كما هي الآن، فوقع من قلب الملكة الشابة خير موقع، ورنت إليه بعين الرضى والسرور حتى أنه أثناء الحفلة أوعز لأمه الأميرة بياتريس أن تلمح إلى الملكة الوالدة لتجس نبضها في الخِطبة فانتهزت الأميرة فرصة الرضى وفاتحتها، فابتسمت وقالت:(إن في أمور الدولة ما يشغلنا عن استعجال المتوقع، وفي انتظار الفرص ما يصرفنا عن استدراج البعيد) ثم أسرت لابنتها ما أسرت، فتهلل وجه الملكة الشابة التي ما زالت ترنو إلى الأمير وتخالسه النظر في إعجاب وحياء. وفي الواقع أن الأمير كان خير من يصلح للملكة على الرغم من إقبال الأميرات الأجنبيات عليه ومبالغتهن في إظهار ميولهن وأمانيهن بأن تكون واحدة منهن عروساً له. ولكنه كان عنهن منصرفاً لا يكاد يكترث لهن، فأولن ذلك بأنه لابد أن تكون لقلبه سيدة استأثرت باحتلاله وامتلاكه والتربع على عرشه. وكن في حديثهن صادقات
وكذلك كانت فئة كبيرة من الأمراء يعللون أنفسهم بحظوة القرب من الملكة الشابة والارتباط ببيتها المالك برابطة المصاهرة والنسب، ولكن والدتها ووزراءها والقيمين عليها كانوا يفضلون أميراً من خلاصة الشعب وسلالته كما فعل جلالة مليكنا المحبوب أعزه الله
وكانت ويلهلمينا الملكة الشابة في السابعة عشرة من عمرها. كان يضيء محياها الجميل عينان زرقاوان براقتان كأنهما نبعان من ينابيع ماء الحياة، ومن العجب أن ترى جذوة النار في زرقة البحر! ولها من شعرها الأصفر البراق ضفائر يضل النظر في استحسان دقتها وغزارتها، وقد صدق من وصفها بأنها تمثال فاتن من صنع الإغريق بقي مكنوناً في صميم صدر الدهر حتى كشفت عنه الطبيعة المنعمة، وأظهرته العناية الملهمة، فبدا ملكة على
الأفئدة قبل أن تكون صاحبته ملكة على العرش!! وكانت وحيدة أمها، وولية العهد، وصاحبة التاج المرموق، الذي يهيمن على ستين مليوناً من البشر في شرق آسيا الجنوبي، غير خمسة ملايين من أهل بلادها الأصلاء وهي على جانب عظيم من الثقافة والغنى ومكارم الأخلاق وكرم النفس والوداعة والرحمة، على عكس ما قال الحاسدون، فكانت أمها وأقاربها ورجال حكومتها وأهل البلاط يبالغون في ترفيهها وتدليلها. وكان ينتظر من وراء ذلك وبسببه أن يكون لها على أهلها وحاشيتها وخدمها، وكل من لابسها وجالسها، فرط جرأة وتسحب؛ ولكن الأمر كان على العكس فقد كانت وادعة متواضعة، شديدة الحياء والإيمان والتوقير لكل كبير، جمة الحنين لذكرى أبيها الذي مات وتركها في المهد صبية، وكان يتمنى أن يسهر على تنشئتها فيشهد زفافها، ولكن توفاه الموت قبل أن يدرك غايته. وقد اختلفوا في البائنة التي قبضها (البرنس كونسورت) أي الصهر الملكي الذي أسعده الحظ بزواجها، فقيل مليون كورون ذهباً، وقيل مليونان. ولكن الصحيح أنه قبض ثلاثة ملايين وتسلم زمام إحدى الجزائر المملوكة للتاج بغير شريك وهي تدر خيرات كبرى من الزرع والضرع والكنوز
وبعد قليل من تلك المقابلة صار الأمير بمكانة الزوج المنتظر ولم تمض بضعة أشهر حتى تم الزفاف في مدينة لاهاي (ذي هاج) عاصمة هولندا. وكان ذلك في صيف عام 1906. وقد قضى العروسان شهر العسل على شاطئ سكفيننجن وهي ضاحية الاستحمام والاستجمام تبعد عن العاصمة بضعة أميال. وكان عقد الزواج في هيكل القصر. ومن أبدع مظاهر زينته أولئك الفتيات القرويات ذوات الفتنة الضاحكة والسذاجة المستملحة وسحر البساطة المستعذبة اللواتي اشتهرن في أنحاء أوربا بجمالهن وعفافهن وميلهن للمداعبة البريئة. وقد رغبت الملكة الشابة أن يشتركن في زفافها، لشدة حبها لشعبها وعطفها على رعاياها ولا سيما من كان منهن في سنها ومن جنسها اللطيف
فكنت ترى بجانب جورج الخامس (وكان ولي عهد بريطانيا لأن الملك إدوارد السابع ورث العرش عن والدته الملكة فكتوريا) بثيابه الرسمية المرصعة بالجواهر والأوسمة الرفيعة، والسيف المحلى بالذهب والحجارة الكريمة، والحمائل العسجدية من المخمل الثمين وقد وضع على رأسه خوذة من الذهب الخالص وزانت وجهه لحية شقراء، وليوبولد الثاني
وهو الآخر شيخ هم أبيض الشعر وردي الوجنتين أزرق العينين، وقد أبى إلا أن يلبس ثياباً هولندية مبالغة منه في التقرب الذي يقتضيه حسن الجوار وانفرد بين الملاك بهدية من تحف الكونجو، وهي تماثيل من الأبنوس والعاج مُنزلة بالذهب تمثل آلهة وفرساناً وغزلاناً وأيائل وفيلة وطيوراً من أجمل وأروع ما وقعت عليه العين. وكان ليوبولد الثاني يملك ولاية الكونجو الحرة ملك السيد المطلق لا تشاركه فيها حكومة
وكان ليوبولد الثاني بقدر قسوته على رعاياه الإفريقيين ذا حنان وشفقة على رعاياه الأوربيين، وكان يعطف على جارته ملكة هولندا لشبابها، ويرى أن يفرط في مجاملتها والحلول في نظرها محل والدها الذي كان من أصدقائه الحميمين
وكانت من المدعوات الإمبراطورة أوجيني بجلالة قدرها وعبرة شيخوختها، أتت من لندن مستندة إلى ذراع دوق كونت وقد اتشحت ثياباً بيضاء موشاة (بدنتلة) بروكسيل، قدرت ببضعة ملايين من الفرنكات، ووضعت على رأسها تويجاً من الزمرد الأخضر المتلألئ على شعر جبينها الأبيض، وزينت صدرها (بمنياتير) صورة مصغرة لولدها الأوحد (نابليون الرابع) الذي اغتاله المقاتلون في زولولاند وهو يحارب متطوعاً تحت راية الإنجليز بعد أن فقد ووالداه عرش فرنسا عقيب حرب السبعين
وقد أهدت الإمبراطورة إلى العروس حلياً وعقوداً من خزانة كنوزها، وإلى العُرْس (برنس ألبرت) سيفاً من سيوف نابليون بونابرت. وأرسلت جمهورية فرنسا هيئة شرف حربية ومدنية من الوزراء والسفراء والنواب وقد لبسوا الثياب الملكية وشارة الجمهورية (شريط مثلث الألوان) وحملوا على صدورهم نياشين الجمهورية ووسام (زايدرزي) وهو أرفع وسام هولندي، وأرسلت مستعمرات هولندا في الشرق الأقصى (جزيرة جاوي وأندنوسيا) وفوداً من سلاطينها وأمرائها، وقد زانوا الاحتفال بثيابهم الشرقية الفضفاضة وعمائمهم المرصعة بالجواهر، وكان أجملهم وأظهرهم غنى ووقاراً السلطان محمود بن تبني حليف هولندا وصاحب عرش جزيرة بيهالو - هوى، وكان حاكماً شرقياً مسلماً شديد الشكيمة واسع الحيلة، لم تستطع واحدة من دول الاستعمار إخضاعه، فحالفته محالفة الند للند؛ وكان يزين نحره وصدره بجواهر لا تقدر بمال، وأهدى إلى العروسين تحفاً قيمة منها سيوف هندية ولوحات منقوشة ومرصعة، وأقداح من الذهب للشاي وصناديق من العاج لصيانة
الحلي
وكان هذا السلطان الشرقي يسير في مكان ظاهر من الموكب وحوله بقية الأمراء من وطنه. وكفاهم فضلاً أنهم سافروا في البر والبحر أربعين يوماً ليشتركوا في المهرجان قبل اختراع الطائرات.
وكانت تحمل أذيال الملكة العروس، وهي من الفراء الموشاة بالذهب والدر المنضد، فتيات وأطفال كاللؤلؤ المنثور، نشأوا في الهواء الطلق تحت ظلال أشجار البلوط ورضعن ألبان أمهات صحيحات الأبدان قويات البنية فكانوا وكن زينة الموكب. ولا مراء في أن لكل أميرة أو قرينة وزير أو عقيلة سياسي مشاركة في الاحتفال أن تبتسم من سلامة الفطرة التي كانت متجلية في وجوه الهولنديات، لأن العزلة والحرية والصحة الشاملة استنبتت ونَمت قبل الأوان في قلوبهن عواطف ونزعات وأهواء وشهوات لا تحسها ولا تدركها فتيات أوروبا الغربية. فكنت ترى بعض الأميرات والوصيفات وسيدات الشرف يضحكن في خفر ضحكاً بريئاً لا يؤثر في بساطة الجمال الهولندي وجليل محامده التي لولاها ما ظهر في تاريخ تلك البلاد (منذ الاحتلال في عهد فيليب الثاني) مثقال ذرة من العظمة الإنسانية
ولما كانت الملكة احتجاجية المذهب (بروتستنت) وكان الأمير كاثوليكياً، فقد عقد المعقد مرتين. وألقى خطبة الزواج بالهولندية والإنجليزية والألمانية والفرنسية فان كروب متزنجر كبير أساقفة لاهاي أمام الهيكل الذي شهد زواج والدة الملكة وجدتها وحفلة إعلان استقلال (نيذرلاندز أوبيباس - (الأرض الواطئة) من حكم إسبانيا الذميم
وقد ذرفت الملكة الوالدة دمعتين من دموع الفرح والذكرى لفراق زوجها وهو والد العروس، وكانت تتمنى أن يكون على قيد الحياة ليقدمها لعرسها، وقد حل محله الملك الشيخ ليوبولد الثاني لأن له من الحظوة والزلفى والدالة والوجاهة عند ملوك أوروبا منزلة رفيعة وشأناً عظيماً. وكان الأمراء الشرقيون على غاية السرور، ولم يحسوا شيئاً من التجانف والتجافي اللذين يلقونهما في بلاد الشرق من الحكام الهولنديين والإنجليز، ما عدا السلطان محمود فقد كان آية في الجد والوقار كأنه لا يخلو من التفكير والشجون على فرط اكتراث الملوك واحتفالهم بشأنه، ولكنه ممن لا تفتنهم مظاهر الأبهة ولا تأخذ بألبابهم فخفخة
الحياة الدنيا
وكان الشعب مشاركاً في الأفراح ليلاً ونهاراً، ولم تبق شيخة أو كهلة أو فتاة في بيتها، وكن يلهجن بذكر العروسين ويفضن في شرح حالهما وأمرهما حتى أصبحا مجال البحث وموضع الحديث في كل شارع وطريق وزقاق ومحفل
ومن أساطير ذلك الزفاف الملكي أن الملكة العروس دست على خطيبها فتاة ذات حسن رائع من وصيفاتها وقالت لها: (اذهبي وانظري ألبرت خطيبي وافحصيه فحصاً ثم عودي فخبريني أي امرئ هو، وصفيه لي وانعتي خلاله ومزاياه وشمائله وسجاياه)
ونسى واضع الأسطورة أو واضعتها أن الملكة إنما خطبت عُرْسها على عينها وتخيرته بنفسها وأحبته للوهلة الأولى، ولكن ما الحيلة في أخلاق الشعوب وخصوبة أخيلة النساء وثرثرتهن حتى فيما ليس لهن به من علم؟ وحتى لو كن من أهل الشمال الأوربي البعيدات القاصيات النائيات عن الشرق وأساطيره. ولكن المرأة هي المرأة في كل زمان ومكان من شمال القطب حيث يقطن الإسكيمو إلى جنوب أرض النار (تيراد يلفويجو)!
وما أنس لا أنس الزينات التي قامت على قدم وساق في البر والبحر، فقد أمرت الملكة ألا يخرج صائد ولا باحث عن رزقه بين الأمواج خلال أسبوع الزفاف، وأجرت على الفقراء والعائلين أرزاقاً أغنتهم عن خوض غمار البحار في سبيل القوت والصيد فحشدوا سفائنهم ومراكبهم وزوارقهم وزينوها بالأعلام والمصابيح، وأقاموا مراقص شعبية تسمى بالهولندية كيرمس أو (دعكة) يشربون فيها الجعة والجين اللاذع، ويختالون في سراويلات ملونة ويحتذون أحذية من الخشب المنحوت، وهم بين كهل وفتى يراقصون الفتيات على أنغام الموسيقى الهادئة ذات الحنين المشجي؛ ولا يدري مقدار ما يُجمل أولئك الفتيات البحريات من أهل ساحل هولندا من فتنة السذاجة المستملحة وسحر البساطة المستعذبة إلا من رآهن رأي العين. وقد كان هذا الزفاف في عرفهن طارئاً عظيماً وحادثاً جليلاً، وقد اتخذن من التحلي والتزين له واقعة وتاريخاً وذكرى خالدة. وقد صورت الصحف مناظر الموكب والأفراح والمراقص، وما أزال أذكر صورة بالألوان البهيجة تمثل امرأة عانساً في الأربعين من العمر دهنت وجهها وزججت حاجبيها لترقص مع شيخ بحار من صائدي الحيتان وقد اصطنع لنفسه لحية تحيط بذقنه وعارضيه دون أن تدنو شعرة واحدة من شفتيه
ووجنتيه، واتخذ على رأسه قلنسوة خضراء ذات صنع عجيب ووضع أعجب، وفي فمه غليون ضخم قصبته من خشب القرو، وخزانة الطباق فيه ويسمونها (الفرن) من القيشاني
أما الشوارع في يوم الزفاف وليلته فكانت تعج بمئات الألوف من أهل البلاد والسائحين والمصورين والصحفيين وأقاموا متاحف ومعارض لمتاجر البلاد ومنتجاتها من خيرات البر والبحر. ومن متاحف تلك الفترة مجموعة فريدة من تصاوير رمبراندت الهولندي ومؤسس تلك المدرسة العريقة في إتقان الألوان ومحاكاة الطبيعة في درس علم التشريح، وقد يبلغ ثمن بعضها مئات الألوف من الجنيهات
(من ذكريات قديمة)
محمد لطفي جمعه
زفاف فاروق
للأستاذ محمود غنيم
طربت لعُرسكَ مصرُ يا ابن فؤادِ
…
فكأنَّ عُرسك ملتقى الأعيادِ
بالفطر والأضحى الكنانة تحتفي
…
فيه، وبالنيروز والميلادِ
في كل قلب مِهرجانٌ قائم
…
وبكل أُذْن قام يهتفُ شادِ
ملِك قد اقترن السرورُ بعهده
…
فكأنما كانا على ميعادِ
أو ما ترى قلبَ الدجى متوهجاً
…
يبدو كقلب الصبِّ يومَ بعادِ
نُقِشَتْ حواشي الِليل نقش صحيفةٍ
…
بالنور لا بيراعةٍ ومدادٍِ
لم تبدُ أنجمُهُ لترسل ضوَءها
…
لكن لتشهده مع الشهَّادِ
غنَّوْا لفاروقٍ فألفيتُ اسمه
…
أشجى صدىً من رنَّة الأعوادِ
وزهت ثُريَّات ٌ حلفتُ بأنها
…
ليست كنور جبينه في النادي
قذفوا (النيازك) في الفضاء فخلتُها
…
مشبوبةً من عزمه الوقَّادِ
أغنته عن باق الزهور خلائقٌ
…
نفاحةٌ مثلُ الزهور نوادِ
ماذا أقول عن البدور وعُرسِها؟
…
عرسُ البدور يجلُّ عن إنشادي
خَلِّ الشبابَ الغضَّ في ريْعانه
…
وعراقَةَ الآباء والأجدادِ
ودع العلا والمجدَ ويحك جانباً
…
في الصمت ما يغني عن التَّعدادِ
نثروا الزهور وقمت أنثر بينهم
…
شعري، وشعري طارفي وتلادي
إن الزهور قصيرةٌ أعمارُها
…
وقصائدي تبقى على الآبادِ
شعرٌ تودُّ الحورُ عند سماعه
…
لو صغنَ منه قلائد الأجيادِ
قل للشبابِ أصبْتَ أيةَ قُدوةٍ
…
في شخص فاروقٍ وأكبرَ هادِ
لما رأى ولَعَ الشباب بكل ما
…
في الغرب صاح بهم وقال: بلادي
وبنى بها ريحانةً مصريةً
…
معصومة من هُجنة الأولادِ
عذراءُ نضرت الكنانةُ عودَها
…
من أهل بيت ناطقٍ بالضادِ
رَشَفَتْ من النيل العتيد رحيقهُ
…
وتفيأت منه ظلالَ الوادي
ولو ابتغى شمس الضحى عِرْساً له
…
لرأيتها هَبَطَت من الآراد
قل للغريب بقلبه وغرامه
…
ما أَقفرت مصرٌ من الأغيادِ
لا تَبْنِ بامرأةٍ وتهدمَ منزلاً
…
خيرُ الزواج تزاوجُ الأندادِ
لستم بمصريين حتى تؤثروا
…
مصراً بكل محبةٍ وودادِ
كم فوق شطِّ النيل أهيف شادنٌ
…
فتن الغصونَ بقدِّه الميَّادِ
يرنو بلحظ فاتنٍ بل فاتكٍ
…
فتكَ السيوف وهنَّ في الأغمادِ
من عهد (فاتنة القياصر) لم تزل
…
مصرٌ مَراحَ نواعِم الأَجسادِ
فاروقٌ كم لك آيةٌ شعبيةٌ
…
كبرى تمسُّ شِغاف كلِّ فؤادِ
أحصنتَ في شرخ الشباب وطالما
…
ألقى الشبابُ إلى الهوى بقيادِ
قالوا: كبحت النفس. قلنا فارسٌ
…
يعتاد منذ صباه كبحَ جيادِ
ومن الشبيبة حكمةٌ ورجولةٌ
…
لا تُحْسَبُ الأعمارُ بالأعدادِ
هات المسرةَ واسق شعبك إنه
…
شعبٌ إلى كأس المسرةِ صادِ
لم يستظلَّ بمثل عهدك مذ هوى
…
عن عرشه فرعونُ ذو الأَوتادِ
دَرَجَت قرونٌ وهو عانٍ مرهَقٌ
…
يكفيه ما عاناه من إجهادِ
بعد السهاد يطيبُ للعين الكرى
…
والنصرُ يُدرك بعد طول جهادِ
وطنٌ عتيدٌ من شبيبتك اكتسى
…
حُلَلَ الشباب قشيبة الأَبرادِ
حتى سألت: أمصرُ في شرخ الصبا
…
أم مصرُ أقدم من ثمودَ وعادِ
طوقْتَ أعناق البلاد بطول ما
…
أسديت من مِنَنٍ وبيض أَيادِ
فعجبتُ كيف أسرت مصراً بعد ما
…
حررتها من رقِّ الاستعبادِ
يا ثالثَ العُمَريْنِ أنت أريتنا
…
بالعين ما يُروى عن الزهَّادِ
قد جئتَ في جيل يصلِّي جاهداً
…
ويصوم لا لله بل للزادِ
حَرَصوا على الدنيا. وكل جديدةٍ
…
تبلى وكلُّ ذخيرةٍ لنفادِ
فلعلَّ أنفسَهم بهديك تهتدي
…
فتروجَ سوقُ الروح بعد كسادِ
وهي الحنيفةُ دينُ كلِّ حضارةٍ
…
وعدالةٍ وهدايةٍ ورشادِ
شاء المهيمنُ أن تكون عمادَها
…
هيهات يتركُها بغير عمادِ
اختلْتَ في رُد الزفاف وفي غد
…
تختال في بُرد النبيِّ الهادي
إن الخلافةَ كلما ذكر اسمُها
…
شخصت إليك حواضرٌ وبوادِ
يا رُبَّ يومٍ فيه قد وفدت على
…
مصرٍ، ومصرُ كثيرةُ الوفَّادِ
إنَّا أويناها غداة تشرَّدتْ
…
وَعدت على دار السلام عَوَاد
أوَمَا استعارَ التركُ منا تاجها
…
لجبين (محمود) ورأس (مراد)
منذا سواكَ يعيدُ عهدَ أُمَيَّةٍ
…
بدمَشْقَ والعباس في بغدادِ
أصميتَ بالتقوى صُدورَ معاشرٍ
…
مسخوا محيَّا الدين بالإلحادِ
لله إذ تَردُ المصلى خاشعاً
…
تسعى إليه بخطوط المتهادي
وكأنَّ ركبَكَ لا يسير على الثرى
…
وكأن جبريلاً لركبك حادِ
ملك يتوِّجُ مَفرِقيْه بالتقى
…
نورُ الصلاح عليه أبلجُ بادِ
عجباً له يخشى الزمانُ نزالَه
…
وعليه تبدو خشيةُ العبَّادِ
إنا عجمنا عودَه فإِذا له
…
وجهُ البدور وصولةُ الآسادِ
حلوٌ مريرٌ صارمٌ متسامحٌ
…
أرأيت كيف تقابلُ الأضدادِ؟
ما عيدُه إلا غداةَ تعُدُّه
…
في شعبه فرداً من الأفرادِ
عرشٌ على الدستور قام أساسُه
…
فإذا به أرسى من الأطوادِ
بُوِّئْتَ يا فاروقُ عرشاً كان في
…
أيدي فراعنة بمصرَ شِدادِ
هم شاركوا الأرباب في مَلكُوتها
…
كم صاح صائحهم وقال: عبادي
ضِمنوا بقاء رسومِهم وجسومِهم
…
والحادثات روائحٌ وغَوادِ
قم سائل الأهرامَ عن تاريخهم
…
ما فصَّل التاريخَ مثلُ جمادِ
هُنَّ الثقاتُ من الرواةِ برئْنَ من
…
عصبية وسَلِمْنَ من أحقادِ
فأعِدْ لنا عهدَ الجدود وهات ما
…
تركوا لمن تركوا من الأحفادِ
هَات الذخائرَ والسلاحَ لأمةٍ
…
عزلَاء واستكثرْ من الأجنادِ
هذا الزمانُ مسلحُ لا يحتفي
…
بعهود سِلْمٍ أو صكُوكِ حيادِ
أوما رأيت الطامعين بخيلهم
…
حول الحمى يقفون بالمرصادِ
فاجعلهُ إن ذاقوه سمَّا ناقعاً
…
واجعله إن مَسُّوه شوك قتادِ
فاروقُ دم واسلم لشعب مخلصٍ
…
بنفيسه وبنفسه لك فادِ
سل كل قلب في الكنانة نابضٍ
…
عما يريد يجبكَ أنتَ مرادي
كوم حمادة
محمود غنيم
زواج أمير عربي بأميرة هندية
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 1 -
ماذا يخط القلم في هذا الفرح المتلألئ، والسرور المزدهر، والقلوب الخافقة، والأيدي الصافقة، والزينات الساحرة، والأضواء الباهرة؟ ماذا يخط القلم في أمة بل أمم خفقت قلوبها حباً، وانطلقت ألسنها دعاء، وتوجهت إلى هذا الوجه الأغر، والطلعة المباركة، إلى الملك الشاب الصالح جلالة الملك فاروق؟ ماذا يخط القلم إلا أن يشارك العيون متعتها والنفوس بهجتها، والقلوب أدعيتها، فيجول في مجال واسع من الفرح الحاضر، أو يقلب صفحات التاريخ عن صفحة من الجمال والسرور لألاءة، أو يطمح في المستقبل إلى حقب من المجد وضاءة تظللها السعادة واليسر، والصفاء والبشر.
قلبت صفحات التاريخ فعبرت من عرس إلى عرس حتى وقفت على عرس كان في الهند في القرن الثامن الهجري، ورأيت من غرابته وطرافته ما يؤهله لأن يعرض على قراء الرسالة قي هذا الأسبوع المبارك.
- 2 -
كان السلطان محمد بن غياث الدين تُغلُق شاه يملك دهلى وما يتصل بها وبلاد الدكن، في الربع الثاني من القرن الثامن الهجري (725 - 752هـ)؛ وكان ملكاً ذكياً سخياً عظيم البطش، جبار السطوة.
وكان يحتفي بالغرباء الوافدين عليه ولاسيما العرب وخاصة من انتمى منهم إلى بيت النبوة؛ كان يبذل لهم من ماله، ويوطئ لهم من كنفه، ويبلغ لهم من إكرامهم وإجلالهم ما يملأ النفس عجباً.
- 3 -
وكان آل ربيعة من طيء أمراء على قبيل عظيم من العرب في أطراف الشام؛ في عهد الدولة الأيوبية ودولة المماليك؛ كان ملوك مصر يستنجدونهم في اللزبات، ويفوضون إليهم الرياسة على القبائل، ويبالغون في إكرامهم إذا وفدوا عليهم؛ وقد قدم منهم فرج ابن حية
على المعز أيبك فأنزله بدار الضيافة أياماً وأنفق على ضيافته وهداياه ستة وثلاثين ألف دينار.
وكان من أمرائهم في القرن السابع والثامن إلى آل مهَنى ابن عيسى. (وكلهم رؤساء أكابر، وسادات العرب ووجوهها؛ ولهم عند السلاطين حرمة كبيرة، وصيت عظيم، إلى رونق في بيوتهم ومنازلهم
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم
…
مثل النجوم التي يسري بها الساري)
- 4 -
قدم الأمير سيف الدين غدا بن هبة الله بن مُهَنَّى على السلطان محمد فأكرم وفادته وأنزله بقصر في دهلي يسمى: (كُشكِ لعل) أي القصر الأحمر، وأغدق عليه العطايا وأكثر الهدايا، ثم زوجه أخته الأميرة فيروز
وكان الرحالة ابن بطوطة إذ ذاك مقيماً بدهلي في كنف هذا السلطان، فشهد العرس العظيم، وتولى بعض شؤونه، ووصف زفاف الأمير سيف الله والأميرة فيروز. فانظر كيف وصف:
(ولما أمر السلطان بتزويج أخته للأمير غداً عين للقيام بشأن الوليمة ونفقاتها الملك فتح الله، وعينني لملازمة الأمير غداً، والكون معه في تلك الأيام. فأتى الملك فتح الله بالصيوانات فظلل بها المشورتين بالقصر الأحمر المذكور وضرب في كل واحد منهما قبة ضخمة جداً وفرش ذلك بالفُرُش الحسان
وأتى شمس الدين التبريزي أمير المطربين ومعه الرجال المغنون والنساء المغنيات والرواقص، وكلهن مماليك السلطان
وأحضر الطباخين والخبازين والشوائين والحلوانيين، والشربدارية والتنبول داران وذبحت الأنعام والطيور وأقاموا يطعمون الناس خمسة عشر يوماً، ويحضر الأمراء الكبار والأعزة ليلاً ونهاراً
فلما كان قبل ليلة الزفاف بليلتين جاء الخواتين من دار السلطان ليلاً إلى هذا القصر فزينه وفرشنه بأحسن الفُرُش واستحضر الأمير سيف الدين، وكان عربياً غريباً لا قرابة له، فحففن به، وأجلسنه على مرتبة معينة له - وكان السلطان قد أمر أن تكون أم أخيه مبارك
خان مقام أم الأمير غداً، وأن تكون امرأة أخرى من الخواتين مقام أخته، وأخرى مقام عمته وأخرى مقام خالته، حتى يكون كأنه بين أهله - ولما أجلسنه على المرتبة جعلن له الحناء في يديه ورجليه، وأقام باقيهن على رأسه يغنين ويرقصن وانصرفن إلى قصر الزفاف. وأقام هو مع خواص أصحابه
وعين السلطان جماعة من الأمراء تكون من جهته (الأمير) وجماعة يكونون من جهة الزوجة، وعادتهم أن تقف الجماعة التي من جهة الزوجة على باب الموضع الذي تكون به جَلْوتها على زوجها، ويأتي الزوج بجماعة فلا يدخلون إلا أن يغلبوا أصحاب الزوجة، أو يعطونهم آلاف الدنانير إن لم يقدروا عليهم
ولما كان بعد المغرب أتي إليه بخلعة حرير زرقاء مزركشة مرصعة، قد غلبت الجواهر عليها فلا يظهر لونها مما عليها من الجواهر وبشاشية مثل ذلك. ولم أر قط خلعة أجمل من هذه الخلعة؛ وقد رأيت ما خلعه السلطان على سائر أصهاره مثل ابن ملك الملوك عماد الدين السمناني، وابن ملك العلماء، وابن شيخ الإسلام، وابن صدر جهان البخاري، فلم يكن فيها مثل هذه
ثم ركب الأمير سيف الدين في أصحابه وعبيده، وفي يد كل منهم عصا قد أعدها، وصفوا شبه إكليل من الياسمين والنسرين وله رفرف يغطي وجه المتكلل به وصدره؛ وأتوا به الأمير ليجعله على رأسه. فأبى من ذلك، وكان من عرب البادية لا عهد له بأمور الملك والحضر، فحاولته وحلفت عليه حتى جعله على رأسه
وأتى باب الصرف ويسمونه باب الحرم، وعليه جماعة الزوجة فحمل عليهم بأصحابه حملة عربية وصرعوا كل من عارضهم فغلبوا عليهم ولم يكن لجماعة الزوجة من ثبات. وبلغ ذلك السلطان فأعجبه فعله
ودخل إلى المشور وقد جعلت العروس فوق منبر عال مزين بالديباج، مرصع بالجوهر، والمشور ملآن بالنساء والمطربات قد أحضرن أنواع الآلات المطربة، وكلهن وقوف على قدم إجلالاً له وتعظيماً. فدخل بفرسه حتى قرب من المنبر، فنزل وخدم عند أول درجة منه. وقامت العروس حتى صعد فأعطته التنبول بيدها. فأخذه وجلس تحت الدرجة التي وقفت بها. ونثرت دنانير الذهب على رؤوس الحاضرين من أصحابه، ولقطتها النساء،
والمغنيات يغنين حينئذ، والأطبال والأبواق والأنقار تضرب خارج الباب
ثم قام الأمير واخذ بيد زوجته، ونزل وهي تتبعه. فركب فرسه يطأ به الفُرُش والُبُسط. ونُثرت الدنانير عليه وعلى أصحابه وجُعلت العروس في محفة، وحملها العبيد على أعناقهم إلى قصره والخواتين بين يديها راكبات، وغيرهن من النساء ماشيات. وإذا مروا بدار أمير أو كبير خرج إليهم، ونَثر عليهم الدنانير والدراهم على قدر همته حتى أوصلوها إلى قصره
ولما كان الغد بعثت العروس إلى جميع أصحاب زوْجها الثياب والدنانير والدراهم. وأعطى السلطان لكل واحد منهم فرساً مسرجاً مُلجماً، وبدرة دراهم من ألف دينار إلى مائتي دينار وأعطى الملك فتح الله للخواتين ثياب الحرير المنوعة والبدر؛ وكذلك لأهل الطرب - وعادتهم ببلاد الهند ألا يعطي أحد شيئاً لأهل الطرب. إنما يعطيهم صاحب العرس. وأطعم الناس جميعاً ذلك اليوم. وانفض العرس
وأمر السلطان أن يعطى للأمير غداً بلاد المالوة والجزات وكنباية ونهر والة وخيل فتح الله المذكور نائباً عنه عليها، وعظمه تعظيماً شديداً.
ا. هـ
عبد الوهاب عزام
بالرفاء يا فاروق
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
في الروضة الشريفة المطهرة، وإلى جانب المنبر النبوي الكريم، أخذ القوم مجلسهم كما تعودوا أن يجلسوا كل يوم؛ يجلس علي وعثمان وطلحة والزبير، وسعد وابن عوف وإخوانهم من المهاجرين في سبيل الله، يتباحثون فيما يتصل بشؤونهم، ويتحدثون بما يهم المسلمين وينفعهم؛ وكان لابد أن يوافيهم عمر في مجلسهم، وينقل إليهم ما انتهى إليه من أخبار الأمصار وسير الولاة في الناس، ويستشيرهم فيما حمل إليه من الآفاق، فيشيرون عليه، ولكن عمر لم يحضر اليوم كعادته، ولقد انتظره القوم أكثر مما يجب فما وافى إليهم، قال قائل منهم: ترى ما الذي تأخر بابن الخطاب عن مجلسنا، وأنا أعلم عنه صحة البدن وتمام العافية، وما أعرف أن عنده من رجال العرب أو أن هناك ما يشغله عنا، ويحمله على الخلف والتخلف؛ فلعله قد نسي مجلسنا اليوم، وما أحسبه قد نسيه من قبل!
قال عثمان: رفقاً يا قوم بابن الخطاب، فقد ألقيتم عليه أعباءكم كلها فنهض بها صبوراً أميناً لا يألو جهداً في تدبير أموركم، ولا يدخر وسعاً في سبيل راحتكم وراحة المسلمين كلهم. ولقد وسوس الناس منذ أيام فيما بينهم بأن عمر يريد أن يعرس لنفسه، وهو جاد في اختيار الزوجة الصالحة ليفرغ لأمور الحكم بكل جوارحه، وأحسب أن الله قد وفقه لما يحبه هو لنفسه، وما يحبه له المخلصون من صلاح الحال، وسعادة البيت، فقد انتهى إلى سمعي أنه اختار لنفسه أم كلثوم بنت أبي بكر، ومن كبنت الصديق حسباً ونسباً، وصلاحاً وجمالاً؟ فإن كان عمر قد تأخر عنا اليوم، فلعله قد تأخر لهذا الأمر ليتمه على نفسه، وليفرغ منه إلى غيره، فما بالكم تلومون الرجل على فترة انتهزها لنفسه، واغتنمها لتدبير بيته؟ على أنه قد وقف عليكم كل وقته، ومنحكم جميع تدبيره. . .
قال طلحة: ولكني أعرف يا ابن عفان أن عمر قد رُد في خطبة بنت أبي بكر، وقد كان من خبر ذلك أنه لما كشف عن رغبته لعائشة أجابته إلى طلبه ووعدته بتحقيق رغبته، وقالت له: إن الأمر كله لك ونحن طوع أمرك، فأنت أمير المؤمنين وصاحب الرسول، وخليفة أبي بكر، ولكنها إذ ذكرت الخبر لأم كلثوم رغبت عنه، وقالت: إن عمر رجلٌ خشن العيش ولا طاقة لي باحتماله، فتحيرت عائشة وأرسلت إلى المغيرة بن شعبة لعله يحتال في رد
عمر بالخير، فالتقى به المغيرة وقال له: بلغني يا أمير المؤمنين أنك خطبت لنفسك أم كلثوم بنت أبي بكر، وهذا أمر أعيذك بالله منه، وأرى من الخير لك ولها ألا يتم، وما أقول هذا رغبة بك عنها أو رغبة بها عنك، ولكني أقوله يا عمر لأني أحبك وأبغي لك سعادة البيت، فأنت تعلم ويعلم الناس جميعاً أن بنت الصديق قد نشأت في كنف أبيها، وقد كان رحمه الله لين الجانب، طويل الأناة، رحب الصدر، كبير الرفق، فتعودت ابنته ألا تعامل إلا بلين الجانب وطول الأناة ورحابة الصدر وحسن الرفق. فلما انتقل أبو بكر إلى جوار ربه انتقلت ابنته إلى جناب عائشة، وعائشة كما تعلم امرأة، عندها من العطف واللين والرفق أكثر مما كان في نفس أبي بكر. وأنت يا عمر رجل شديد المراس، قوي الشكيمة، تأخذ الناس بالشدة والعنف، وأنت على النساء أشد، وفي معاملتهن أعنف، ونحن نهابك وما نقدر أن نردك عن خلق من أخلاقك، فكيف بها إن خالفتك في شيء فسطوت بها؟ لا جرم كنت قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحق عليك، وأبو بكر مكانته في المسلمين كبيرة، وحرمته عندنا واجبة، فليس من صواب الرأي وسداده أن تكون لك ابنته على ما تعودت في حياتها ونشأت في تربيتها، وعلى ما أنت عليه من ميول وأخلاق شديدة. وإذا كنت قد كلمت عائشة، فأنا أكفيك أمر عائشة؛ وإذا كنت ترغب في الزوجة الصالحة، فأنا لك بأم كلثوم بنت علي من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولقد انتهى الأمر على هذا التدبير يا ابن عفان، وقد علمت أن مسعى المغيرة قد ارتاحت له عائشة، واطمأن إليه عمر، وطابت به نفس ابنة الصديق
قال ابن عوف: ألا تقصرون من حديث عمر؛ فها هو ذا مقبل علينا يقتصد في مشيته، وإني لألمحه منبسط الأسارير مفتر الثغر، فلا بد أن يكون وراءه بشرى حميدة، تطيب لها القلوب وتطمئن بها النفوس، وما أتوقع من ذلك إلا الخبر فيما تتحدثون به، فانتظروا. . . وأقبل عمر على القوم بالسلام وأخذ مجلسه بينهم وهو يقول: رفئوني يا أصحاب الرسول، رفئوني يا أبناء العشيرة. قالوا جميعاً: قد رفئناك ولكن بمن يا أمير المؤمنين؟ فما انتهى إلينا في أمرك خبر قاطع، ولا صح عندنا نبأ صادع
قال عمر: إنه لخير وبركة إن شاء الله، فقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: كل نسب وسبب منقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي، وأنا والحمد لله قد وصلت به السبب ما
استطعت، فصحبته على الجهاد في سبيل الله، باذلاً في ذلك وسع الجهد وطاقة النفس. وقد أحببت أيضاً أن أتصل بنسبه فأتصل به من الجهتين وأجمع إلى نفسي الفضيلتين، وأوثق رباطي بعروته التي لا انفصام لها، وقد رأيت أن تكون وصلتي في ذلك ورباطي أم كلثوم بنت علي ابن أبي طالب، فأبوها ابن عم النبي وصاحبه، وأمها فاطمة ابنته الحبيبة، فلعلي أكون قد وفقت إلى ما أردت، ولعل الله بفضله وكرمه يجعلها لنا خيراً وعلينا بركة
قال قائل: نعم ما اخترت يا أمير المؤمنين، وحبذا ما رأيت فإنه الرأي الجميل، وأم كلثوم من الحسب والنسب في المقام الكريم، والمكان الرفيع، ولكنا نعلم أن علياً قد حبس بناته على بني جعفر، وإنه ليشتد في ذلك ما وسعته الشدة، فهل أجابك إلى خطبتك، وحقق لك رغبتك، ووصلك بنسب النبي كما تحب؟
قل عمر: إن لذلك قصة يا أخي، لو تعلمونها جميعاً لقلتم معي حيا الله ابن أبي طالب وجزاه خير ما يجزي به الرجل الكريم، والعبد الصالح، فإني إذا مددت له اليد في ذلك قال: يا أمير المؤمنين نعم إني حبست بناتي على بني جعفر، ولكني لا أعدل بك آل جعفر جميعاً، وأنت ما أنت في صحبة النبي ونصرة الإسلام والجهاد للحق؛ غير أن أم كلثوم صبية حدثة، أحسبها لا تقوم لك بحق الزوج، ولا تستطيع أن تصبر على شدتك، وربما تحملت من ذلك فوق طاقتها. قلت: هون عليك يا ابن أبي طالب، فوالله ما على ظهر الأرض رجل يرصد من حسن صحابتها ما أرصد، وأنا إن نقلتها من كنف أبيها فسأنقلها إلى كنف ألين وأرحب. ألا تعلم أني سأرعى فيها حق الله، وحق جدها الرسول، وحق أمها فاطمة، وحقك أنت يا علي؟ وإذا صح لي أن أستهين بحقك أو حق فاطمة، فما يصح لي أن أسخط الله وأغضب الرسول
ومع هذا كله فقد انطلق عني علي وما أجابني إلى شيء، ولا وقفني على نهاية يصح أن أنتهي إليها. وانقضت فترات قضيتها في تقليب الرأي وتدبير الأمر، والحدْس بما سيكون من أمر ابن أبي طالب معي، وإذا بأم كلثوم تحضر عندي، وإذا هي واقفة بين يدي على يدها بُرد مطوي، تقول: إن أبي يقرئك السلام، ويقول لك: إن رضيت البرد فأمسكه، وإن سخطته فرده عليه. قلت لها: بارك الله فيك وفي أبيك يا سليلة الرسول، أبلغيه أنا قد رضينا بالبرد غاية الرضا، فإن رأى أن يسبغه علينا فله الفضل. ثم انطلقت عني وقد علمتُ أن
أباها قد قبل خطبتي، وحقق رغبتي، ثم مال عليّ علي - وكان إلى جانبه - وقال: أليس كذلك يا ابن أبي طالب؟
قال علي: هو كذلك يا أمير المؤمنين، فبارك الله لك فيها، وبارك لها فيك. واعلم يا ابن الخطاب أنه إذا كانت الرغبة منك دعتك إلينا، فإن الرغبة فيك أجابتك منا، وقد أحسن بك ظناً من أودعك كريمته، واختارك ولم يختر عليك، وقد زوجتك ابنتي على كتاب الله، إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد جعل الأصهار صلة للأرحام المتقطعة والأنساب المتفرقة، فابتهل إليه أن يزيدنا بهذا الإصهار تمكينا وصلة على ما يحبه ويرضاه.
قال عمر: وأنا قد أمهرتها أربعين ألفاً. . . وإني لأقول ما قال النبي في ذلك: اللهم بارك لي في أهلي وبارك لأهلي فيّ، وارزقني منها وارزقها مني، واجمع بيننا ما جمعت في خير، وإذا فرقت بيننا ففرق في خير، اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتني
قال الجالسون جميعاً: وإذن فبالرفاء والسعد يا أمير المؤمنين، وبالرفاء والسعد يا فاروق
محمد فهمي عبد اللطيف
زفاف بوران إلى المأمون
للأستاذ محمد طه الحاجري
سرى الخبر في بغداد أن أمير المؤمنين المأمون قد أزمع البناء على بوران بنت الحسن بن سهل. ولقد طالما كان البغداديون يتنظرون هذا الخبر، ويستشرفون له، ويمنون أنفسهم بمظاهر الفرح الشامل، والطرب الكامل، تغمر الجو من حولهم، ويتجردون فيها من همومهم، ويمسحون بها على ما بقي من آثار الفتن الماضية في ذكرياتهم. فما إن انبعث ذلك الخبر حتى سرى في بغداد كلها، وأصبح حديث القوم الشهي إلى أنفسهم، الحظي عند أخيلتهم، وانتشر في المدينة جو من السعادة والغبطة جدير ببغداد الطروب
ثم علم القوم أن أمير المؤمنين قد أجمع على أن يتم على الحسن تكرمته، ويبالغ في ملاطفته، فيجعل الزفاف في بيته؛ وأنه منحدر في دجلة إلى ضيعته في (فم الصِّلح) حيث يقيم؛ فتهيأت بذلك الفرصة السعيدة لنفوسهم المرحة، فأخذ كثير من فتيان بغداد وسرواتها يعدون العدة للخروج في موكب الخليفة. فما جاء موعد الخروج حتى كانت دجلة تموج بالسفائن والزوارق من شتى الأشكال، وقد ركبها ألفاف من الناس من مختلف الطبقات: فهؤلاء من أهل اليسار والنعمة، قد نضدت لهم الفرُش، ووفرت لهم أسباب الترف، ووسائل الطرب، من قيان مثقفات، ودفوف وعيدان، وما إلى ذلك. وأولئك من أهل الحرفة، فهم يلتمسون النجعة، ويرجون التوسعة، ويأملون أن ينا لهم من ذلك الفيض الفياض ما تثلج له صدورهمثم نزل المأمون من قصر الخلافة، وحوله أصفياؤه وأصحابه إلى السفينة المعدة له، واتخذ مكانه فيها. وسارت السفينة جنوباً تتهادى في سيرها، ومن ورائها تلك السفن والزوارق، تنطلق منها نغمات العيدان، وأصوات القيان، حتى امتلأ جو دجلة مرحاً ونشوة
وكان يسير بازاء ذلك الموكب النهري الجميل الذي يمثل النزعة الفنية البغدادية، موكب رائع رهيب يمثل القوة العسكرية العباسية، يتألف من قواد الدولة وأجنادها، وقد ركبوا خيلهم وأخذوا سلاحهم وارتدوا أروع ثيابهم؛ وسار على رأسهم العباس ابن المأمون؛ وهكذا أخذ الخليفة طريقه إلى دار صهره.
وكان الحسن بن سهل قد ترك بغداد فراراً بأعصابه الرقيقة من زحمتها العنيفة، وأبعد في جنوبها حيث يطيب الهواء ويسود الهدوء؛ فأتخذ له قصراً ومعسكراً في بقعة هادئة جميلة،
عند (فم الصِّلح) إلى شرقي دجلة: يشرف عليه الجبل من شرقيه، وتجري دجلة إلى غربيه، وينساب نهر الصِّلح في شماله، وتضطرد من حوله الكروم والبساتين، وتنفح عليه الأزهار والرياحين.
ولما علم الرجل أن أمير المؤمنين قد أزمع تشريفه في داره للبناء على ابنته استطار فرحاً؛ ثم ما لبث ذلك الفرح أن أخذ يعبر عن نفسه تعبيرات فنية رائعة تجلت في قصره الذي أخذ يتأنق في تزيينه، حتى صار فتنة للناظرين، ويبالغ في تأثيثه، ليكون جديراً باستقبال الخليفة فيه. وكان مزاجه الشعري يملي عليه بعض الصور الشعرية الرائعة التي كان يخترعها الخيال الفارسي المترف، والتي كانت موضع الإعجاب في ذلك العصر، فيسرف في تمثيلها، ويتأنق في تصويرها، كتلك الصورة التي اخترعها الحسن بن هانئ، وافتتن بها أهل عصره:
كأن صغرى وكبرى من فواقعها
…
حصباء در على أرض من الذهب
فلم يأل في ذلك جهداً؛ ففرش القاعة الكبرى التي أعدها لاستقبال المأمون ببساط نسيجه من خيوط الذهب، وقد تناثرت فوقه حبات اللؤلؤ؛ وهو يتألق ويمج الأشعة في أضواء الشموع، وأي شموع! إنها شموع مصنوعة من العنبر، تسطع بالنور وتنفح بالعطر؛ فجعل كل ذلك يبعث في القاعة جواً سحرياً أخاذاً، تسبح به الروح في أحلامها، وكأنما نرى فيه صورة من الجنة وأخيلتها.
وأما الطريق ما بين القصر ودجلة فقد مهد وحف بماء شاء الخيال المترف أن يحف به من زينة أخاذة. وقد أقام الحسن في طرفه على شاطئ النهر جوسقاً جميلاً، نضدت فيه الفرش، وأعد لاستقبال العباس بن أمير المؤمنين. وكان الحسن في ذلك اليوم الموعود جالساً في ذلك الجوسق ينتظر، حتى وصل الموكب العسكري يقدم موكب الخليفة، فاستقبله الحسن وإن وجهه ليطفح بشراً، ثم مضى به إلى القصر، ولم يمض قليل حتى وقفت سفينة الخليفة على باب الحسن في نهر الصلح، فقام إليه الرجل وهو لا يكاد يكاتم سروره بما أفاء عليه الخليفة من شرف يقصر عنه كل شرف، بزواجه ابنته، وتشريفه بيته
وأمضى المأمون ليلته في سمر وطرب، وكانت (فم الصِّلح) تموج بالوافدين عليها من أهل الدساكر والقرى ممن جاءوا يشهدون المهرجان العظيم، فضلاً عمن كانوا في موكب الخليفة
من البغداديين بين أصوات المزاهر والقيان تشق أجواز الجو، وتملؤه بأسمى مظاهر البهجة والهناءة. وقد شاء المأمون أن يمد في أسباب الفرح لهذه الأسرة، وأن يربط بين القلوب فيها، فأمضى في الليلة التالية زواج محمد بن الحسن بن سهل بابنة عمه العباسة بنت الفضل
فلما كانت الليلة الثالثة كان زفاف بوران إلى المأمون. وكان زفافاً اقترن بمظاهر النبل العربي والترف الفارسي؛ واجتمعت لديه عظمة المأمون وكرم الحسن، وكان مبعث بركة على الأسرة العباسية وعلى رجالات الدولة، وعلى أهل الحرفة، وذوي البؤس والمسكنة
فقد ذكروا أن المأمون أذن في هذه الليلة للسيدة زبيدة أن تؤدي حجها، وكانت ممنوعة منه، وكان هذا المنع أثراً من آثار الفتنة التي كانت قائمة بين المأمون وابنها الأمين
كما عفا عن إبراهيم بن المهدي، وكان أسيراً لديه، بعد الثورة التي ثارها عليه، محاولاً انتزاع الخلافة لنفسه؛ ثم خلع عليه، وقلده سيفه، ورد إليه ماله ورفع مكانه، وأتاح للأدب العربي أن يظفر بأمتع ما قاله شاعر في الشكر العميق والاعتراف بالجميل
وهكذا مسح على قلوب أسرته فشفى جراحها، واستل ما كان قد بقي عليه من حفائظ فيها. وما أمجده عملاً إنسانياً كان ذلك الزواج الإنساني النبيل مثاره ومبعث خيره
وأما الحسن فقد كان مضرب المثل في الحفاوة والترف فقد بالغ في ذلك مبالغة الرجل يرى كل شيء من ذلك قليلاً في جانب ما يشعر به، وما يحسب أنه قد ناله؛ فاستوقف أنظار الناس بإسرافه، حتى أصبح موضع أحاديثهم، ومثار عجبهم وتعجيبهم، ومن صور ذلك الإسراف شمعة عنبر أوقدها ليلة الزفاف، تزن أربعين مناً، أي ثمانين رطلاً أو تزيد، وقد أقامها في (تَوْر) من الذهب، مبالغة في السرف، حتى لم يفت المأمون فيما قالوا أن يلاحظ هذا ويأخذه عليهم. وحسبك هذا المثل وما تقدم لتتصور مقدار ما بلغ إليه الترف في هذا الزفاف البديع
كما أقام الولائم الفخمة لكل من كان هنالك من قواده وعساكره، ورجال المأمون وحاشيته، ثم تلك الجموع الحاشدة التي اجتمعت للمشاركة في الفرح، والتي يكفي للدلالة عليها أن نذكر أن طائفة الملاحين فيها كانت تبلغ نيفاً وثلاثين ألفاً، وقد ظل كل يوم يجددها ويفتن فيها، وقد أحاطها بكل مظاهر الجمال والفرح، كما كان لا يفتأ يخلع على القوم شتى الخلع،
حتى عاد المأمون إلى بغداد بعد أن قضى هنالك سبعة عشر يوماً، كان مبلغ ما أنفق فيها على ما يقول الطبري وابن الطقطقي وغيرهما خمسين مليوناً من الدراهم
أما هباته في تلك المناسبة السعيدة، على القواد ومن إليهم من أمراء الهاشميين، فقد كانت بدعاً في أسلوبها ومقاديرها، غاية في الكرم والأريحية، تضمن لأصحابها الثراء الدائم، فقد كتب رقاعاً بأسماء طائفة من ضياعه، ثم وضعها في بطاطيخ من العنبر، ونثرها عليهم، فكل من وقعت في يده رقعة باسم ضيعة بعث فتسلمها، ملكاً خالصاً له، وتذكاراً بليغ الأثر في حياته لذلك الزواج الميمون
وحين أزمع المأمون المسير بزوجه إلى بغداد بعث إليه بعشرة ملايين درهم، فما حملت إليه حتى ثارت به أريحيته فأخذ يغدقها في قواده وأصحابه، وخدمه وحشمه، ثم مضى مع الخليفة يشيعه وعاد بعدها إلى داره قرير العين مطمئن الضمير
وأما بوران فقد مضت مع زوجها العظيم ونزلت دار الملك والخلافة، فكانت درته اللامعة، بجمالها الفتان، وذوقها المرهف وذكائها الوقاد، ومعرفتها الواسعة، وأدبها العظيم
ولقد ظل زواج المأمون ببوران غرة في التاريخ الإسلامي، بما قام عليه من أشرف معاني الوفاء والرعاية، وما اقترن به من أعظم مظاهر النبل، وأبهر دلائل الكرم والأريحية
محمد طه الحاجري
آيات القران الملكي
للأستاذ عبد العظيم علي قناوي
تيهي واثني أعطافك يا مصر، وميسي وجري أطراف الفخر، وازهي واهنئي بأطياف البشر ترفرف فوق قصور ربك، وتخفق على دور أهلك أبد الدهر؛ فهذا فاروق المحبوب المفدى، وفرقدك المشرق سؤدداً ومجداً، وسناك المعرق نبلاً وخلداً، يضم إلى آيات جلاله آية فريدة تتطامن لها العظمة، ويلبس من الطهر حلة وحيدة يختال بها فتهتف له الجلالة ويحصن دينه القويم؛ ومن غير المليك للدين حصناً، بالشمس طلعة والشرف ملكة، ويزين التاج بأنصع جوهرة في جيد المملكة، فتهفو لاسميهما المحبوبين أفئدة الأمة، وتقر بقرانهما السعيد السيادة والمعزة
وما تلك الزينات الموضونة، والأقواس المنضودة، والأعلام المرفوعة، والثرييات المؤتلفة المتلألئة، والكواكب المؤتلفة المتعانقة، إلا غيض من فيض شعور هذا الشعب المجيد بولائه السعيد بوفائه، وذرة من طود استبشاره الأشم، وغبطته بهذا القران الموسوم باليمن، المعقود بناصيته السعد. وإن دلت الاحتفالات على شيء فإنما تدل على أن الأمة لا يرضيها أن تعلن عن تعلقها بشخص فاروق العظيم، وولائها لعرشه المجيد، بالكلم الطيب ترتله، والدعاء الصالح ترفعه، والأهازيج تنشدها، والأغاني تنظمها، فحسب - بل بالبشر يفيض على كل محيا، والانشراح يفعم كل فؤاد، والسرور يملأ كل نفس، والزينات والثرييات يباهي بها كل بيت كواكب السماء ونجومها. ولو أتيح للشعب أن يعلن عن زهوه بمعقد مجده، وعن فخره بمناط سعده، وعن حدبه على موئل عزه بكل ما يشاء، لاستبدل بتلك الثرييات أفئدة وضاءة متألقة، يقرأ فيها رب التاج سطوراً من الحب المبين، ولجعل من أكباده مواطئ لقدميه؛ فالطنافس والبسط والخز والديباج، أدنى من أن تكون للمليك في ذلك اليوم الأغر موطئاً، ولصاغ للملكة الفريدة من أحداق العيون قلائد تزهو بها على خرائد الماس والجوهر؛ ولكن حسب الشعب نعماء أن مليكه يشعر بما يضفيه عليه من الولاء
ولا يقف بنا الفرح الزاخر والسرور الساحر عن استخلاص بعض آيات القران الباهرة، وبيناته الواضحة الرائعة، التي ستخلعها على الأخلاق فترى فيها مجداً، وتضفيها على الدين فيستعيد عزة وسعداً
مثل عليٌّ جميل، يضربه زين الشباب لشباب الجيل، حفاظاً على سَنن الدين القويم، وإحياء لسُنن الرسول الكريم، ومن أولى من جلالة المليك التقي بآثار النبي تخليداً، ومن سوى جلالته يتخذ الشبان سنته تقليداً؟ فدونكم فتيان النيل وشبابه زهرات مصر اقطفوها في تقوى وإيمان، لا في طيش وعدوان، فذلكم هو المثل الأعلى للطهر فاسلكوه، والمهيع الواضح للنبل فانهجوه، والخطة المثلى للأخلاق فاحتذوها، فإنكم تحتذون بأسمى جناب، وأحب الأحباب، وحينئذ ترفعون ركن الخلق والدين، وهما لسيادة الأمم الحصن الحصين.
وفي تبكير مولانا الفاروق بالقران - في عصر طغت فيه الإباحية باسم المدنية، وجرفت فيه المادة كل معنى سام شريف، واضمحل وازع العقل واستشرى داء العاطفة - معنى عال جليل، فقد رمى - حفظه الله - إلى أن يبقى ثوبه عفاً لا تعلق به ريبة، ومحيطه طاهراً لا تحوم حوله ظنة، ودينه قويماً لا ترقى إليه شبهة، فأملك في تلك السن، لأن في ذلك كمال الإيمان، فلقد أملك رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وسنه إحدى وعشرون سنة (على ما أرجحه من الآراء)، وفي حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام ما يدل على توفيق رب التاج في دينه ودنياه، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:(يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء) فمليكنا المحبوب الصالح ينفذ دعوة الرسول الأمين، ويدعو من يرى في جلالته نبراسه، وكل مصري يراه كذلك، إلى ذلك النهج القويم
وتخير الفاروق - أعزه الله - بصادق فطرته، وصائب إرادته، وسامي حكمته، نجيبة نبيلة، هي سليلة الطهر والشرف وربيبة العز والمجد، وتليدة الحسب والنسب، فحباها قلبه، وأولاها لبه، ووقف عليها حبه، فأعز باختياره شعبه، إذ اصطفاها من صميمه، ليمتزج دماء الملك في جلاله وصفائه، بدم الشعب في وداعته وإبائه. سنة كريمة سنها من قبله والده العظيم، فوهب الله لمصر فاروقها المجيد؛ له من خلق الملوك سناؤه وسموه، ونبله وعلوه، ومن خلال الشعب تواضعه وسجاحته، وديمقراطيته وسماحته، فَمَلكَ بشيمه قلوب أمته، وتطلعت إلى جلالته الشعوب الإسلامية ترى فيه مجدد شباب الإسلام بفتوته، ومعيد مجد الفراعنة بحكمته، وعرف له سامي عراقته ملوك الغرب، فأحبوه مليكاً نبيلاً، وعظموه صديقاً خليلاً. ثم إن المليكة الفريدة في المرحلة الأولى من حياتها مُهجرة مثقفة، متعلمة
مهذبة، متصلة اتصالاً روحياً وثيقاً بالمُلكِ وتقاليده، فهي قد جمعت كل مؤهلات الملكة العظيمة؛ فكأن القدر والله مدبره، والدهر ورب الخلق يسيره، كان يعدها في نشأتها الأولى لهذا المستقبل العظيم ينتظرها ببشر غامر، ويمن وافر، فتتبوأ عرش الفراعنة تكلؤها عين رحيمة، ويرعاها حدب جميل. فجلالته البر الرحيم، والندب الكريم، فنشأت محبة للعلم مقبلة على دروسه لم تشغلها بحبوحة الثراء، ولا رفاهية السراة العظماء، عن أن تبذ قريناتها في رشف العلوم، وتبهر أترابها بفطنة تستشف بها المعارف، وتبعث الخشية في نفوس صويحباتها بما ترتل من آي القرآن الكريم، فكأنها كانت تعلم أن ستزف لناصر الدين والعلم والمعارف فهي تعمل لتقر عينه بما تتحلى به من أفانين العلم.
أليس كل هذا من علائم التوفيق واليمن، ومن بشائر الخير والسعد؟ وإنه لقران مبارك نتوسم أن يؤتي - إن شاء الله - أحسن الأثمار وأنضر الأزهار، وأن تعقبه أيام خالدات في جبين مصر تملأ عطف المصري تيهاً، وآلاء سنيات للإسلام ترفع له مناراً، وأياد على الوطن سخيات تعلى له شعاراً، فتنال الأمة في عهد الفاروق المفدى الحسنيين، ويبلغ مجد مصر الخافقين، وترفل فريدة في ظل رب العرش قريرة العين بخير من تظل السماء، منشرحة الصدر بالثجب من الأمراء، بسامة الثغر بما تراه من الحب والولاء، حينما تسمع القلوب والأفواه ترفع إلى الله خير الدعاء: يحيا الملك! تحيا الملكة
عبد العظيم علي قناوي
الجلوة الملكية
للأستاذ إبراهيم مأمون
أي مجد حيال مجدك يُذكر؟
…
هذه الشمسُ في رحابك تُنثَرهْ
وابنُها البدرُ من رآك على العر
…
ش تجلّيت، للوراء تأخّرْ
ونجومُ السماء تنتظم الأف
…
قَ توشّيه من سناك المنضَّرْ
والنهار الضحوك يبتدر الشم
…
س بوجه على الأريكة أنورْ
والنسيم الحفيّ يستاف ريا
…
كَ، ومن فوحه أريج وعبهر
والرياحين في الرياض تواثب
…
ن يُضمّخن من شَذاك المعطّرُ
والصِّبا الغضُّ: في المواكب ينسا
…
ب انسياب الجمال في الروض أزهر
والكهولات زايلت كل كهل
…
في مدَى يزحم النفوس ويبهرْ
والأغانيّ رَنّحت أذنَ الده
…
ر فوافى لدى زفافك يسمُر
هذه هذه أغاريد مصر؟
…
أم هو الكون بين نايٍ ومزهر؟
ضَجَّ في سمعه الهتاف ودوّى
…
منطق النيل في البلاد وزمجر
لَهوات الطيور تبتدع الشد
…
ووتوليه صوت مصر المطهر
سال لحناً على شفاه مجالي
…
ها، ومن نَفحة السماء تحدّر
في أغانٍ عُهِدن في شدْو (داو
…
د)، ومن لحن بُوقه تتفجّر
وهتاف جرى على قصب الخل
…
د، فغنت به ضفاف الكوثر
سرتُ والشعرَ في زفافك يا فا
…
روق أحدو البيان غير مؤخر
وأناديه: إيه شعري، فهذا
…
هو مجلاك، والكنانة مِنبر!
هات يا شعرُ من رصين القوافي
…
هات بكرَ الخيال غير مُزَوَّر
لا تطف بي على عوانس ماضي
…
ك. ومِل بي إلى البيان تمصّر
فاستوى يرسلُ المعانِيَ أبكا
…
راً، ويُضفي الخيال لا يتعثر
ومضى بي كما أردت إلى العر
…
ش، ومن دوننا جلالةُ عبقر
فإذا الساح والمواكب فيها
…
حاشدات تسبي النفوس وتسحر
وإذا الشعر لا يشاء مضياً
…
وإذا بي عن المدى أتأخر!!
وإذا الحشد لا يطيق سكوتاً
…
شهد العرشَ والمليكَ فكبرَّ
وإذا مصر بالهتاف تدوّي
…
ذاك ركب الفاروق، الله أكبر!
عجزت ريشة المصور وارت
…
دّ يراع الأديب غير مؤزَّر
وانتبذتُ القرطاس والقلم الفخ
…
مَ، وأنكرت كل ما كان يُسْطر
وتسللت في الرياض لعلّي
…
بجلال الرياض أحظى وأظفر
فإذا الصمت يحتوينيَ حيرا
…
نَ، وشعري هناك غير مُيسَّرْ
ورأتني بلابل النيل أسْعى
…
فتساءلن: ما لذاك تحيَّرْ؟
قلت: أرجو الإلهام من نفحة الر
…
وض أحيّ به الزفاف الموقر
فتهامسنَ: ما لذاك؟ وعن أيّ
…
ة حالٍ يرى المحاكِيَ عبَّر؟
أم عن العرش في الجلالة يبدو
…
ضاحيَ الوجه، باسم الثغر، أحور؟
أم عن المُلك بات ينتظم الشع
…
ب، كأن العباد للبعث تحشر؟
أم عن الليل بات يستبق الصب
…
ح بوجهٍ من المواكب أقمر؟
أم عن الضوء في ائتلاق من البي
…
ت يريك النهار أو هو أبهر؟
أم عن الغِيد يحتشدن جماعا
…
ت وفي ركبها العفاف يُنَضَّرْ؟
أم عن الزهر في فروع العذارى
…
يتهادين كالغصون تؤطَّر؟
أم عن الجَلوة المهيبة تسعى
…
في احتشادٍ به الكمال تخفر؟
أم عن الدين في المحاريب يجثو
…
بالدعاء المجاب للعرش يجْأر؟
أم عن الجحفل العرمرم في السا
…
حة يهتزّ لِلوّاء المظفرْ
أم عن الخيل في رحابك يَرقصْ
…
ن وفي موطن المنى تتبخترْ؟
أم عن الحائمات هَزَّمْن في الج
…
وّ ومن نشوة العلا تتهدّر؟
أفحمْتني، فقلت: ويحك ماذا
…
صُغْتهِ أنت؟ فانتحتْ تتفكر!
قلت. إيه بلابل النيل شدوا
…
إن وصف البيان في الحق قَصّر!
فتناجين - والحقيقة تهفو -
…
هكذا الوصف، نحن في الأمر نُعذر
قلت: إيه بلابل النيل إيهٍ
…
إن جُهد المُقلِّ في الحفل يشكرْ
هل أتاك الحديث من شفةِ الوا
…
دي بيوم على الزمان مُشهَّرْ
أو رأيت الرحاب عادت سماء
…
بسوى وجهك المضيء المدنّرْ
مهرجانٌ على المشارق ضافٍ
…
يحشد الدهر رائعاً يتجمْهرْ
هذه مصر تحتفي بيفاع
…
ساس بالحكمة الشئون ودبّر
يافعٌ، أروعُ الفؤاد، مُزكيَّ
…
طيبُ النفس بالحنيف تَدَثّر
بلغَ الرشدَ يوم نُزِّيَ في المه
…
د، وما كان في الأمور بإِمَّر
من وفاء البلاد إكليله السمْ
…
حُ ومن حبها المؤكد يُضْفَرْ
وله الشمس وهي تاج المعالي
…
تاج عِزٍّ، على سواه تكبر!
لم يُتح قبلُ للعياهِل في الأر
…
ض ولم يُتخذْ لهامةِ قيصَرْ
رامه الشعب للمُمَلَّك رمسي
…
س، وللفاطميِّ رجّاه جوهَرْ
يا مليك البلاد: ذلك يومٌ
…
في حَشيد الأيام لَن يتنكّرْ
خفّ في قدسه فراعنة الوا
…
دي نشاوى الخطا تُدِل وتفخَرْ
وكأن الوفود من (عين شمس)
…
ومن (الكرنك) المخلد تخطرْ
وكأنّ الزفاف في (طيْبة) المج
…
د وحشد الجموع حول (الأقصُر)
ههنا الصِّيد من فراعنة الوا
…
دي يرون البلاد في العُرس تزخر
ذاك (وادي الملوك) ينتظم الني
…
ل جلالاً على السفائن تمخُرْ
فانظر النيل والمواخر فيه
…
تلْق دنيا من الزمان تُنشَّرْ
تلق عرش البلاد من (آل خوفو)
…
ضاحيَ الحشد بين جند وعسكر
وترى (أحمسَ) الجريَء يزجّي
…
سفن المجد تستزيد وتكثرْ
وانظر السُّفْنَ في الوشائع نشوى
…
إن فيها (تحتْمسَ) النيل يَزْأرْ
أمِنتْ مصْرُ مِنْ عَوادي اللّيالي
…
وزمان الفاروق بالعدل أسفر
إبراهيم مأمون
المدرس بمدرسة فؤاد الثانوية بالزقازيق
عروس صاحب الجلالة فرعون الصغير
للأستاذ دريني خشبة
استيقظ أهل طيبة في هَدْأَة الفجر الأول من أيام الربيع على أصوات طبول فرعون التي أخذت تدوي في الأفق، وترن في ظلال المعابد، وتنسكب مع الشفق الوردي في أذني أمون رع وترف فوق مسلات الكرنك مع هُورس الكريم
واستيقظت الآلهة كلها تبارك الجيش، وتحرس صاحب الجلالة وتغسل الأعلام المصرية المنشرة بدموع الندى. . . تلك الدموع العطرية التي كانت تترقرق من أعين الربيع مما هزّه من فرح، وما سوى فيه من شباب فرعون
واهتز حابي العظيم تحت الأسطول اللّجِب الذي صدحت موسيقاه لتمتزج بموسيقى الجيش، فتتدفق في قلوب الشعب المزدحم فوق العدوتين ألحاناً من الحماسة، ونورانية من الحب، وقدسيةً من الولاء، تنعقد فوق هامة المليك هالةً من إعزاز رعاياه، وإكليلاً من وفاء الأمة النبيلة صاحبة المجد. . .
ويل للحثيين!!
لقد أغراهم بمصر أن رأوا على عرشها الملك الشاب تحتمس فغرتهم الأماني، وهاجت في قلوبهم الأحقاد القديمة، ووسوست لهم شياطينهم أنها الفرصة النادرة التي يدركون بها ما لم يدركوه في عهد آبائه، فتألبوا، وثاروا، وجمعوا الجموع لغزو مصر
ولكن. . . طاشت أحلامهم. . . ففوق عرش النيل ملك، وفي مصر أمة، وملء الوجهين قلوب فياضة بحب فرعون يوجهها أنى يشاء. . . وهاهو ذا الجيش تنتظم صفوفه كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، وهاهو ذا الأسطول يتهادى على أعراف الموج في النيل نحو الشمال. . . وهاهي مصر كلها تحملق مُغضَبة نحو المشرق، ساخرة مستهزئة بأعدائها الكلاب الذين طالما حطمتهم في ديارهم، وألبستهم لباس الذل والخوف، فلما صفحت عنهم إذا هم ينْفِرُون!
واستيقظت حَتَاسُّو، عروس فرعون، وفتحت نافذتها لتشهد المنظر الرائع، ولترى إلى زوجها الشاب يستعرض الجيش وقد استوى فوق جواده الأبيض المختال، وراح يتهادى بين صفوف الجند، كأنما يرسل من عينيه المصريتين سحراً في قلوب المحاربين، ومن
فوق رأسه تاج المملكة المتحدة يشع سناه في غبشة الصبح، فكأنما يملأ الآفاق ذَهَباً
لقد كانت ليلة طويلة دجوجية، تلك الليلة التي قضتها حتاسُّو بين وصيفتيها النائمتين الحالمتين، تفكر في مليكها الذي أقبل في المساء يودعها ويتزود منها لرحلة الغد إلى بلاد الحثيين. . . لقد كانت تراه ما يزال جالساً إليها يحدثها ويسامرها، ويرسل عينيه الحبيتين في عينيها المذعورتين، ويرسل معهما روحه فتعانق روحها، وقلبه فيتحسس قلبها، وشعوره الفائر، فيتحد بشعورها. . . ثم تذكر رنين صوته العذب الموسيقي يترقرق في أذنيها فيملؤهما بالأحلام، ورنين قبلاته الحارة الطاهرة تهمهم على فمها الشتيت الحلو فتحمل إليه سِرّ الخمر الإلهية التي لا غَوْل فيها ولا تأثيم. . . فتبكي. . .! ولم لا. . .؟ أليس من البكاء بكاء تحمل دموعُه رسالة الروح فتذهب بها إلى الله اللطيف العلي، فتكون عنده صلاةً ليس مثلها صلاة!! ذلك بكاء المحبين. . .
ورحل فرعون الشاب بأساطيله وجنده
ولكن طيبة العظيمة لم يدم لها هذا الصفو الجميل الذي ودعت تحت بنوده ملكها. . . ذلك أن أم العروس المصون شوهدت في فجر اليوم الثاني راكعة في المعبد الكبير أمام المذبح، بين يدي أمون رع، تبكي وتصلي، وتتوجع وتتصدع وتشكو إلى الله بثها الذي لم يعرف أحد سببه
وقد وقف الكهنة حولها في ذهول وخشوع، ولم يجسر أحد منهم أن يسألها عما ألم بها؛ بيد أن رئيس المعبد تقدم إليها آخر الأمر في أدب وضراعة، وربت قليلاً على كتفها، ثم مد يده الواهية المعروقة إلى يدها المرتجفة المحزونة، فنهضت وهي لا تكاد تعي مما يعصف بها من هم وشجو. . .
وسار الكاهن الأكبر بين يديها إلى صومعته؛ وكان الكهنة يتلون أوْراد الفجر وأناشيد الصباح فتهتز جوانب المعبد بحسن إنشادهم وروعة ترتيلاتهم، فتنهمر دموع الأم، وتقف أمام هذه الصورة، وبين ذلك التمثال باسطة ذراعيها، وداعية الآلهة، متمتمة بكلام خفي غير مفهوم. . .
- ماذا يا ابنتي! فيم مجيئك في هذه الساعة من الفجر؟ وفيم هذا البكاء وتلك الصلوات. . .؟ تكلمي. . .! ألست أباك؟
- تباركت أيها الأب. . . ولكن ليحضر نائب صاحب الجلالة، فالخطب جلل. . . وتكاد نفسي تتصدع. . .
- نائب صاحب الجلالة؟ أي خطب جلل يا أربابي؟! أمون رع!! لطفك يا ربي المقدس!
وأرسل الكاهن الأكبر رسوله إلى نائب الملك فجاء مهرولاً في ثياب النوم، وجعل يلهث من الفزع والتعب، ويسأل الكاهن فيم أرسل إليه، وماذا أصاب والدة الملكة. . . فأشار الكاهن إلى الأم الباكية، فالتفتت إليه مذهولة وقالت:
- ابنتي! ابنتي يا نائب صاحب الجلالة!
- الملكة!
- بل العروس!
- ماذا؟ ماذا أصابها؟
- لا أدري. . .! إنها ليست في القصر! لا هي، ولا وصيفتاها!
- هل فتشت الغرف؟
- كلها!
- والحديقة؟
- وطيبة جميعاً. . .
- جريمة! إن في الأمر جريمة. . . لا بد من تبليغ مولاي! وكاد النائب المسبوه يرسل صيحة ذعره في المعبد، لولا أن أشار إليه رئيس الكهنة، فصمت. . . وقال فتاح الكاهن الأكبر:
- أتحسب أن من الخير أن نحمل هذا النبأ المروّع إلى ملكٍ ذهب أمس، وأمس فقط، على رأس جنوده ليؤدب أعداءه؟ لا، لا، ليس هذا عندي برأي. . . إنها أول حربٍ يشنها الملك، فكيف نُثنيه بمثل هذا عن عزمه؟!
- فما الرأي إذن؟
- اهدأ يا نائب صاحب الجلالة، فنحن بين يَديْ أمون، ويوشك رَعْ أن يهدينا بِسَنا نوره ولألاء حكمته
ويرى الكاهن الأكبر أول شعاعة من شعاع الشمس تدخل من كوة الشرق في الصومعة،
فيأمر المؤذن فيؤذن بصلاة جامعة، لرع. . . رب المشرقين!
وينتظم الكهنة صفوفاً أمام المذبح الكبير، ويبدأ رئيسهم إنشاده، فيأخذون في ترتيل جميل، وتركع (تي)، ويركع آنبو، ويصليان مع الكهنة. . . حتى إذا فرغ الجميع من صلاتهم خلا رئيس المعبد إلى آلهته، ثم أقبل على نائب الملك وأقبل على تي بوجه مشرق متهلل وهو يًسِّبح ويقول:(بخير. . .)
(بخير؟! وأي خير في أن تختفي عروس فرعون، فإذا آب من حرْبه لم يجدها؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يلقاه حين يصل إلى طيبة فلا تكون عروسه أول من تلقاه بها حاملةً له باقةً ناضرةً من أزهار اللوتس المقدسة؟ واأسفاه عليك يا ابنتي؟ وواأسفاه على الأحلام الضائعة!)
وهكذا راحت تي تندب حظها، وتذرف الدمع من أجل ابنتها، وكلما زارها كبير الكهنة فواساها لم تلق بالها إليه، حتى اساقطت نفسها أنفساً، وحتى براها الحزن، وشفها الوجد، وأوهاها طول البكاء
وكتموا الخبر حتى لا يصل إلى فرعون فيفت في عضده، ويوهي من جَلَده، ويكون سبباً فيما لا يوده له إلا عدوه
ثم أرسل تحتمس رسالة إلى عروسه أخذتها أمها، فلما فَضتها، انهمرت عيناها بالدموع الحِرار من أجل حتاسو، التي أرسل الملك يخبرها أنه اجتاز حدود مصر إلى بلاد الأعداد، وأنه يقبلها على هذا البعد الشاسع بينهما، ويسألها أن تصلي له وتركع بين يدي آمون رع من أجله. . . ومن أجل مصر. . . التي يفتديها الجميع، ويعيش من أجلها الجميع، ويموت في سبيلها الجميع
واضطرت الأم المحزونة أن تزور رسالة تبعث بها إلى صاحب الجلالة على لسان عروسه تشكره فيها وتتمنى له الخير والنصر؟ وكانت الرسالة جافة خالية من روح الحب الذي يملي على صاحبه ويوحي إليه، ويُنضر طِرْسه بألوان الورد، ويعطره بأنفاسه. . . فلما قرأها تحتمس هاجت الوساوس في قلبه، وإن يكن قد تجلد وصبر
ولقي فرعون أعداءه. . .
وكانت جيوشهم تغمر السهل والجبل، وقنابلهم تزحم البر والبحر، وهم على كثرتهم سابغون
في دروعهم مُقَنعون في حديدهم، تصهل خيلهم فتتجاوب أصداؤها في جنبات الوادي وترغى فتشق عنان السماء. . . وقد آنس الملك ضعفاً وقلة في ميسرتهم فانقض عليها بميمنته، واستطاع بعد عناء أن يزحزحها، لكن المدد الذي وصل من وراء المجثبتين أفسد على فرعون خطته، فتقهقر قليلاً ليأمن التفاف الأعداء، الذين غرهم نكوص ميمنة مصر، فهجموا بجموعهم كلها؛ وحمى وطيس القتال في القلب والميسرة والميمنة. . . وثار النقع. . . وارتفع أنين القتلى في كل مكان. . . وانطلق عزيز النيل يصيح في جنوده ويحرضهم ويثبت أقدامهم، ويذكرهم بمجد بلادهم. . . وكانت كلماته تثير فيهم الحمية، وتلهب صدورهم بنار الوطنية، فيهجمون غير مبالين، وينقضون على أعدائهم غير هيابين، حتى زلزلوهم عن مراكزهم. وزادهم حماسة أن رأوا قلب الحثيين ينتقض على قادته، ويولي بعض عساكره الأدبار، فاقتحموا وراءهم الحلبة وأوقعوا فيهم حتى أثخنوهم. . . وأبصرت ميمنة الحثيين وميسرتهم ما حل بالقلب فبهتوا، وخارت عزائمهم، وساعد ذلك المصريين فانقضوا عليهم كالصواعق من كل مكان. . .
وظن المصريون أنهم ظهروا على أعدائهم فجعلوا يتصايحون ويهتفون، ويهنئ بعضهم بعضاً، والعدو ما يزال صامداً في مكانه. وفطن قائد الحثيين إلى ذلك فبدا أن يذهب له في كوكبة من أشجع فرسانه فيلتف بمركز القيادة في صفوف المصريين الخلفية وسرعان ما أنفذ الفكرة
وكادت حيلة القائد تنجح، لولا أن فطن إلى ذلك أحد فرسان المصريين فصاح ببعض ضباط الجيش قائلاً:(أيها الجنود دافعوا عن ملككم. . . الحثيون يوشكون أن يحدقوا به). وتلفت الضباط فرأوا كوكبة الحيثيين مسرعة إلى مركز القيادة
فصاحوا بجنودهم، وانطلقوا في أثر الفارس الذي نبههم فاشتبكوا مع الأعداء في ملحمة هائلة، أبلى فيها بلاءً حسناً. . . وهرب الحثيون. . . ولكن الفارس المسكين سقط جريحاً، وانبطح من فوق جواده بين القتلى العديدين. . . وتقدم إليه فارسان شجاعان فحملاه إلى المعسكر حيث ضمدا جراحه وجلسا عند سريره يواسيانه
وانتصر فرعون مصر، وطهر الأرض من رجس الحثيين! وعاد إلى معسكره فمنح الفارس الجريح أسمى ألقاب الجيش ورفعه إلى مرتبة قائد، ثم ذهب إليه بنفسه فأبدى له إعجابه
بشجاعته وحسن بلائه
وذاعت أنباء النصر في مصر فغمر الفرح رعايا فرعون، وراح الجميع يقيمون معالم الزينة على مساكنهم ومتاجرهم، وانطلقت زرافات الكهنة ترتل أورادها في شوارع المدن، وبدت طيبة في أبهى حللها، ورفرفت الأعلام على الهياكل ودور الحكومة، وتدفق حابي بالبركات في أرجاء البلاد
وذهب نائب الملك في معيته كبير الكهنة للقاء صاحب الجلالة على حدود البلاد، وليجنباه الخبر المفزع الهائل. . . خبر اختفاء عروسه. . . أو ليكونا على الأقل معينين له على تحمل الصدمة. . .
وقد سألهما جلالته عنها حين لقيهما فكتما عنه الأمر، لتتم للبلاد أفراحها؛ واعتزما ألا يقولا له شيئاً حتى يستقر في عاصمة ملكه
وكم حدّث عزيز مصر نفسه أنه كان أحجى بحتاسُّو لو خرجت إلى الحدود للقائه، كما خرج نائبه وكبير الكهنة وكبراء الدولة. . . . . .
لكنه مع ذاك تجلد واصطبر. . .
ووصل إلى طيبه. . . ولكن حتاسو لم تسرع للقائه، فماذا جرى؟! وبدلاً من أن تذهب حتاسو إلى قصر الملك لتهنئه، فقد ذهبت أمها الواهية المتداعية. فما إن وقعت عيناه عليها حتى سألها:
- ماذا؟ أين حتاسو؟؟
فتبسمت الأم المذهولة وقالت:
- في سريرها يا مولاي!
- في سريرها؟ أهي مريضة؟
- أجل يا مولاي
ونظر نائب الملك إلى كبير الكهنة ثم راح يسر إليه: (يا للآلهة! إن تي وفية للملك مخلصة. . . إنها تأبى أن تكون أول من يبلغ الملك نبأ اختفاء عروسه!!)
قال الملك:
- إذن نمضي نحن فنراها
ودخل صاحب الجلالة غرفة حتاسو، فوجدها طريحة الفراش، وقد ربطت فخذها وذراعها بأربطة وضمادات. . . وكانت تغط في سبات عميق، وكان وجهها مع ذلك مشرقاً جميلاً ساحراً كعادته. . . ولم يملك تحتمس إلا أن ينحني فيطبع قبلة اللقاء على فم عروسه. . .
وانتفضت حتاسو من سحر القبلة العزيزة، ولما فتحت عينيها، رأت صاحب الجلالة منحنياً فوق وجهها، ودمعة غالية تترقرق في مقلتيه. . . فهبت من سريرها باسمة سعيدة، وأنشأت تقول:
- أهنئ مولاي بالنصر الحاسم
وتحدرت الدموع من عيني الملك، ثم قال لعروسه:
- ماذا بك يا حتاسو!؟
فقالت له:
- لا شيء! جروح هينة من معركة مَجِدُّو!!
- معركة مجدُّو؟
- إي يا مولاي. . . مجدُّو. . . مجدُّو! ألا تعرف الفارس أحميس الذي رفعته إلى رتبة قائد؟ هو أنا! وهاتان صاحباي:
وبعد شهر واحد لبست البلاد زخرفها وازينت واحتفلت بزفاف صاحبي الجلالة.
دريني خشبة
ليلى المريضة في العراق
للدكتور زكي مبارك
- 7 -
وعند هذا الحد من الحديث تذكرت ليلى
تذكرت العبارة البغدادية الطريفة التي طلت بها قلبي منذ أول زيارة، فقد قالت حين رأتني أهم بالرواح:
(فراقك صعب، سيدي)
ورأيت من الخير أن أصرف ظمياء. وكانت لي سياسة أوحاها الشيطان، فقد رأيت الفتاة تقص أحاديث الشيخ دعاس وزوجته نجلاء بحماسة سحرية، ورأيتها تطنب في وصف ابنتهما الجميلة، تلك الفتاة التي اسمها درية، وهو اسم لا أدري كيف يلذع قلبي، ولكن لا موجب للمضي في سماع ما تقول ظمياء في وصف درية، فليس من الحزم أن تقول ظمياء كل ما عندها في ليلة واحدة. وهل أضمن رؤيتها بعد ذلك إن تم هذا الحديث؟ من الخير أن أصرف هذه الفتاة وهي في نشوة الحديث فلا أتعب في رَجْعها إلى منزلي حين أشاء
ولكن كيف أصرفها وقد استأنست كل الاستئناس؟
يجب أن أصرفها بعلة طبية لتتهيأ للمرض، فقد أمسيت أشعر بوجوب أن تصبح هذه الفتاة من مرضاي؛ ولا بد للطبيب من مريض؛ وستعافى ليلى بإذن الله، فلتكن لي ذخيرة ألتمس بها البقاء في بغداد. وكذلك صوبت بصري إلى الفتاة وقلت:
ما هذا الذي أرى بوجهك يا ظمياء؟
فانزعجت الفتاة وقالت بصوت مقتول: إيش بي يا عمي؟
فقلت وأنا أتكلف الحزن: سأخبرك يا بنيتي حين أجيء لعيادة ليلى. فاذهبي الآن واستريحي، وتجنبي التعرض للتيارات الوجدانية
فخرجت الفتاة مذعورة لا تُلوى على شيء. والجمال الساذج يفتن القلوب حين يكرثه الانزعاج
فراقك صعب، سيدي
كذلك قالت ليلى
فراقك صعب. . .
أي والله، فراقي صعب، يا ليلى، وفراقك أصعب. فمتى يكون اللقاء؟
وأويت إلى فراشي في ليلة باردة لم يدفئها غير الذكريات. ثم خرجت مبكراً في الصباح فرأيت بغداد تموج بالحديث عن ليلى والدكتور زكي مبارك وانتخاب مجلس النواب
أعوذ بالله!
ثم سألت فعلمت أن مجلة الرسالة نشرت كلمة عن ليلى المريضة في العراق، فتذكرت الخطاب الخاص الذي أرسلته إلى الأستاذ الزيات منذ أسابيع. وما أتهم هذا الصديق بسوء النية في نشر ذلك الخطاب، فهو رجل عاش سنين في بغداد ولم ير ليلى بعينيه، فهو يحب أن يراها مع قرائه بأذنيه، تأسياً بقول الشريف الرضي:
فاتني أن أرى الديار بطرفي
…
فلعلي أرى الديار بسمعي
ومضى يوم، ويوم، وأيام، وأنا طعمة الألسنة والعيون في كل مكان
وكانت فرصة تذكرت فيها ما جنيت على نفسي في السنين الخوالي، فقد كنت عدو نفسي من حيث لا أريد. أنا الطبيب الذي أضاعه الأدب فلم يبق أمامه غير احتراف الصحافة والتعليم. ولولا جناية الأدب لكنت اليوم عميد كلية الطب بالجامعة المصرية، وأنا عند المنصفين أعرف بالطب من العميد المعروف
تذكرت وتذكرت. . .
تذكرت العيادة التي أقمتها في الزمالك مع زميلي الدكتور أديب نشوان، وهي عيادة كان يُرجَى أن تكون مضرب المثل في عالم الطب، ولكن مقالاتي في جريدة البلاغ جنت علي فلم يعد أحد يصدق أنني طبيب
وتذكرت مجلة (طبيب القلوب) وكانت والله مجلة لطيفة، ولكني تفلسفت في الدراسات النفسية، ثم ما زلت أوغل في التفلسف حتى حسبني القراء من العابثين؛ وعطلت المجلة، ولا تزال إلى اليوم في نزاع حول ما تراكم عليها من ديون
وقد نجا زميلي بجلده، وكيف لا ينجو وهو جبان! وبقيت أنا أضع الدينار بجانب الدينار لأتخلص مما جناه قلمي البليغ!
يرحمك الله يا أبي! فكم نصحتني ولم أنتصح! كم قلت إن الطبيب لا يليق به أن يتحدث في
أشعاره عن الخدود والعيون والنحور والثغور، ولا ينبغي له أن يتفجع على مواسم الروح في مصر الجديدة والزمالك. ولكني أحسنت الظن بالناس فانطلقت أشدو وأترنم، فكان جزائي أن أعيش عيش المشردين بين القاهرة وباريس وبغداد
تذكرت وتذكرت لو تنفع الذكرى!
تذكرت العيادة الجميلة التي أقمتها في شارع فؤاد بعد أن خُرِّبت عيادتي بشارع المدابغ بسبب السيدة (ن)، وكانت عيادتي بشارع فؤاد تبشر بمستقبل رائع، فقد كانت مجهزة على أحدث طراز، وكان فيها ممرضة جميلة تخلب عقول النساء قبل أن تخلب عقول الرجال؛ ولكن الله ابتلاني بطائفتين من الناس كانوا السبب في خراب تلك العيادة الفيحاء: الطائفة الأولى جماعة الأصدقاء الذين يرون من حقوق الصداقة أن أداويهم بالمجان. أما الطائفة الثانية فهم الأدباء الذين جعلوا عيادتي سامراً يلتقون فيه كل مساء. وفي تلك العيادة تألفت رابطة الأدب القديم وجمعية عطارد وأصدقاء أفروديت. وفي تلك العيادة قامت المعارك بين القديم والجديد، وفيها نظم أول مؤتمر لكليات الجامعة المصرية، وفيها أسست نقابة المحبين
وما لي أكتم حقائق التاريخ؟ إن هذه المذكرات لن تنشر في حياتي، ولن يراها الزيات ولا غير الزيات. فلأدون فيها كل شيء وليقل الناس بعدي ما شاءوا؛ فسأكون في شغل عنهم بما أعد الله للأشقياء من نعيم الفراديس. وهل يُرضي الله في كرمه أن نشقى في الدارين؟
كانت عيادتي بشارع فؤاد هي الملاذ لكل أديب لا يجد في جيبه خمسة قروش يجلس بها جلسة لطيفة في مشرب. . . أو مشرب. . . أو مشرب. . . ولا موجب لذكر أسماء هذه المشارب فأصحابها لئام لا يستحقون الإعلان، وأخشى أن يعيشوا بعد أن أموت. أليس فيهم الرجل اللئيم الذي استقبل في حانته صديقي. . فلما انصرف سألني عن اسمه فطويته عنه. وكان اللئيم يريد أن يعرف ما هو اسم ذلك الشاب الذي يخاصر تلك الشقراء؟ وكان ذلك الصديق من كبار الموظفين بوزارة. . .
إن القاهرة ليس فيها مشرب أمين يلقى فيه الرجل حبيبته وهو في أمان من عيون الرقباء
وهذا الكلام الذي أدونه في مذكراتي هو السبب في خرابي، فأنا طبيب دقيق الإحساس، ودقة الإحساس في زماننا من أشنع العيوب. ومن حسن الحظ أن هذا الكلام سيُطوى إلى حين، لأني سأدفن مذكراتي بالمكتبة العامة في بغداد، ولن يطلبها مجلس كلية الآداب
بالجامعة المصرية إلا بعد مئات من السنين. وستكون لكلية الآداب جهود مشكورة في درس النثر الفني في الأدب الطبي!
ألا فليعلم الجمهور الذي يخلفنا بعد مئات السنين أن الأدب أضاع ثلاثة من الأطباء كانوا يعيشون في مصر، وهم محجوب ثابت، وأحمد أبو شادي، وزكي مبارك
ولكن هل ضاع محجوب ثابت؟ وكيف؟ لقد اشتغل بالتمثيل السينمائي فنجح أعظم نجاح. وقد تفضل سعادة الأستاذ طه الراوي وكيل وزارة المعارف العراقية فدعانا منذ ليال لتناول طعام العشاء. وعلى المائدة تحدث الأستاذ منير القاضي فأشاد بنبوغ محجوب ثابت في التمثيل وجزم بأنه أبرع من الممثل زكي طليمات. وعندئذ أحسست الغيرة تلهب أحشائي، فهذا زميل أضاعه الأدب وحفظه التمثيل
وأبو شادي أحيته المعامل البكتريولوجية، فهو يفحص (عينات) الجراثيم ثم يخلد أصنافها بالشعر البليغ. أما زكي مبارك فقد أضاعه الأدب جملة واحدة. وإني لأخشى ألا يستمع إليه أحد إن وصف لمريض شربة زيت؛ ومع أنه ظفر بألقاب كلية الطب وكلية الآداب فقد ضاع في الكليتين، فهو عند كلية الآداب رجل طبيب، وعند كلية الطب رجل أديب، وعند الله جزائي!
ومما زاد البلاء أنني صرحت بأن ليلى تقيم في شارع العباس ابن الأحنف، وهو شارع معروف في بغداد، فما الذي كان يمنع من اختراع أسم موهوم أضلل به أهل الفضول؟ كذلك أمسيت في حيرة وارتباك، فما توجهت إلى ليلى إلا رأيت الشارع يعج بالمتطلعين. ويحسن النص على أن المدنية الحديثة جنت على بغداد أعظم جناية، فليس فيها شارع ولا حارة ولا درب ولا عطفة إلا وهو مضاء بالكهرباء، وبذلك ضاع علينا الحظ الذي كان يتمتع به المتنبي إذ يقول:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي
…
وأنثني وبياض الصبح يغري بي
وفي بغداد شرطة لا تعرف التغافل الظريف الذي تصطنعه شرطة باريس. وليلى نفسها لا تخلو من عنجهية البدويات، وأنا نفسي لا أحسن الصبر وهو أقل ما يتخلق به الأطباء
وفي معمعة هذا الكرب وقع حادث ظريف، فقد تلقيت صكاً من مجلة الهلال على بنك إيسترن في بغداد، تلقيته في ساعة ضيق، فمضت إلى البنك لأتقاضاه وأنفق محصوله على
نفسي وعلى بعض مرضاي من الملاح.
ولكن إدارة البنك رفضت تسليم المبلغ الميمون وقالت: هات جواز السفر، أو أحضر رجلاً يعرفك. فقلت: أما جواز السفر فلا سبيل إليه لأن المطر ينهمر والطريق كله أوحال. وأما البحث عن رجل يعرفني فهو سهل، ولكنه لا يتم بدون فضيحة البنك. فقال فريق من الموظفين: وكيف؟ فقلت: لأن مما يفضح بنك إيسترن أن يجهل زكي مبارك وهو رجل يشار إليه بالبنان في كل أرض، وفي صدره ودائع أغلى وأنفس مما تحفظ أقوى الخزائن في أعظم البنوك. وعندئذ ضج موظفو البنك بالضحك والقهقهة الساخرة؛ ولكن أحدهم ترفق وقال: أنت الطبيب الذي جاء يفتش عن ليلى والذي ينشر نتائج بحثه بمجلة الرسالة المصرية؟
فقلت: نعم!
فالتفت ذلك الموظف إلى زملائه وقال: يا جماعة. هذا هو الطبيب الذي جاء يفتش عن ليلى!
وما كاد يفوه بهذه الكلمات حتى أقبل الموظفون لمصافحتي. وفي لحظة واحدة تسامع مَن في البنك بقصتي، وقد استظرفوني جداً، بالرغم من أني أحمل أنفاً أعظم من أنف ابن حرب، كما قال الأستاذ حسن فهمي الدجاني، زميلي في أيام البؤس، يوم كنت تلميذ الشيخ سيد المرصفي بالأزهر الشريف. وصحبني ذلك الموظف إلي مكتب المدير فشربت عنده كأساً من قهوة أبي الفضل لا قهوة أبي نواس. ولم يفتني أن أسأل عن اسم ذلك الموظف الأديب الذي يقرأ مجلة الرسالة وهو في البنك - وتلك إحدى الأعاجيب - فعرفت أنه يسمى ألبرت داود يعقوب، فمضيت وأنا أرتل الآية الكريمة:(يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين)
فقد نفعني الأدب في بنك إيسترن، فهل ينفعني عن ليلى؟
وهل نفعني الأدب عند عروس دمياط حتى ينفعني عند عروس بغداد؟
أمري إلى الهوى!
ظهر المقال الثاني في مجلة الرسالة وفيه كلام عن وزير المعارف ورئيس الوزراء، وقد صارحني الأستاذ عبد الجليل الراوي بأن لذلك عواقب. . .
فليكن هذان المقالان كل ما أرسل إلى الزيات، ولتكن هذه الحوادث بداية لرجوعي إلى العقل، فأنا لا أزال شاباً، ومن السهل أن أحسن سمعتي وأن أعيد تنظيم عيادتي في شارع فؤاد، فلولا جناية الأدب لكنت اليوم أغنى الأطباء
على أنه لا موجب للندم على المقالين اللذين نشرتهما الرسالة، فقد أصبح العراق جذوة وجدانية، وصار اسم ليلى بداية كل حديث ونهاية كل حديث في الأندية والمعاهد، بغض النظر عن الفتنة التي ثارت بسبب ليلى في الرستمية، وبغض النظر عن المشاجرة التي وقعت من أجلها في كلية الحقوق. . . وينبغي أن أسجل أن هذين المقالين جذبا الأنظار إلى المؤتمر الطبي، فقد حدثني الدكتور حسين كامل أن طلبات الاشتراك بلغت المئات في أسبوع واحد. والسبب لا يخفى على من سيقرءون مذكراتي في السنين المقبلات، فقد صار مفهوماً أن ليلى ستحضر جلسة الافتتاح، وإلى ذلك أشارت جريدة البلاد وجريدة العقاب وجريدة الرأي العام وجريدة الهدف، وأنكرت ذلك مجلة الكفاح وقالت: إنه لا يليق بأمة إسلامية أن تعرض امرأة لعيون الناظرين؛ وفات مجلة الكفاح أن المؤتمر لا يعقد هذه السنة في بغداد إلا بسبب النظر في أمر ليلى المريضة في العراق
ولكن هل أسمح بخروج ليلى؟ هل ضاقت الحيل حتى أمكن الناس من رؤية ليلى؟
رباه! لقد بدأت أشعر بالغيرة على ليلى، فهل تكون الغيرة نذيراً بهبوب عاصفة الحب؟
أمري إلى الهوى!
نشرت جريدة البلاد في أبرز مكان كلمة تحت عنوان: (أنشودة اللقاء)
ثم قالت إنها تلقت قصيدة موجهة إليّ بتوقيع (ليلى المريضة) وأنها حولت القصيدة إلى الدكتور زكي مبارك راجية أن يكون له فيها شيء من العزاء
وقد تلقيت القصيدة وتأملت الخط، فعرفت أنها من ليلى غير ليلاي
ونشرت جريدة العقاب كلمة قالت فيها إنني شرعت في تعلم الطب، وذلك دليل جديد على أن شهرتي الأدبية أضاعت منزلتي في عالم الطب، فمتى يشفيني الله من الغرام بالأدب وصحبة الأدباء!
آه! آه!
هذا خبر جديد، فقد أخبرني الدكتور حسين كامل أن الزيات سيحضر إلى بغداد لشهود
المؤتمر الطبي، وأنا أفهم جيداً ماذا يريد. وهل تجوز عليَّ الحَيلَ وأنا خِريج مونمارتر ومونبارناس؟ هيهات هيهات!
أترك هذا العبث في تدوين مذكراتي، وأمضي لعيادة ليلى، فقد طال الشوق إلى صوتها الرخيم و. . . عينيها الناعستين. أليست هي التي قالت: فراقك صعب، سيدي!
فراقي صعب؟ نعم، إن ليلى تقول ذلك، والقول ما قالت ليلى، ولو كره السفهاء من العذال
(للحديث بقية)
زكي مبارك
أناشيد صوفية
جيتانجالي
للشاعر الفيلسوف طاغور
بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب
- 82 -
يا أماه، سأنظم من عبراتي. . . عبرات الأسى. . . عقداً جميلاً أزين به جيدك
لقد أحسنت الكواكب صنعة الخلاخيل الضوئية لتزين بها قدميك، ولكن عقدي سيكون على صدرك
إن الثراء والشهرة هما بعض نفحاتكِ، وهما لك حين أمنح وحين أمنع؛ ولكن أشجاني هي لي وحدي، وحين أقدمها إليك تبدلينني بها عطفاً وحناناً
- 83 -
إنها غصة الانفصال هي التي تنتشر في أرجاء العالم فتحور في الفضاء اللانهائي أشكالاً وفنوناً عديدة
إنه أسى الانفصال هو الذي ينبعث - في صمت الليل - من نجم إلى نجم ثم يرتد إلى لحن بين حفيف الأوراق في حلوكة الليالي المطيرة من شهر يوليه
إنه الألم العميق الذي يهبط إلى قرار الحب والرغبة، إلى الآلام والأفراح في دور الناس. وإنه هو الذي يذوب دائماً فيفيض في قلبي الشاعر ألحاناً
- 84 -
حين يخرج الجند - لأول مرة - من فناء سيدهم، أين كانوا يخفون قوتهم؟ أين كانت دروعهم والسلاح؟
لقد كانوا يبدون مساكين لا حول لهم ولا جاه، وهم يحملون القِسي والسهام أول ما خرجوا من فناء سيدهم
وحين يرتدون إلى فناء سيدهم، أين يوارون قواتهم؟
لقد طرحوا السيف جانباً، وألقوا القوس والسهم، وعلى جباههم ترف نسمات السلام؛ غير أنهم خلفوا من ورائهم ثمار حياتهم حين ارتدوا إلى فناء سيدهم
- 85 -
إن الموت، وهو خادمك، يقف ببابي. لقد اجتاز البحر المجهول ليبلغني رسالتك
الليل داج، وقلبي ينتفض من أثر الرعب. . . ولكني سأحمل مصباحي، وأفتح بابي، وأرحب به، لأنه هو رسولك الذي يقف ببابي
سأتوسل إليه في ذلة وأسكب الدمع أمامه. سأتوسل إليه، وأضع كنز قلبي عند قدميه
سيرتد وقد أتم عمله ونشر ستاراً حالكاً على صباحي، ونفسي الضعيفة ما تنفعك في داري الموحشة لتكون قرباني الأخير إليك
- 86 -
وفي أمل اليائس انطلقت أفتش عنها في زوايا حجرتي فما وجدتها
إن داري صغيرة، وما فقد منها قل أن يعود ثانية
ولكن اللانهاية - يا سيدي - هي قصرك المشيد، وحين رحت أفتش عنها وقفت ببابك
وفي الليلة الظلماء وقفت تحت عرشك الذهبي. . . تحت سمائك ورفعت بصري إلى وجهك
جئت إلى حافة الأبدية حيث لا شيء يغني. . . لا الأمل ولا السعادة ولا وجهك وهو يتراءى من خلال العبرات
أوه، أغمس حياتي الخاوية في هذا الخضم، وأغمرها في أعماق الكمال ثم دعني استشعر - مرة واحدة - اللذة المفقودة في لمسة من لمسات خلود العالم
- 87 -
يا إله المعبد الخَرب! قد انقطعت أوتار القيثارة التي أوقع عليها لحن الثناء عليك، والنواقيس - في سكون الليل - لا تعلن عن ميعاد الصلاة لك؛ والهواء حواليك ساكن هادئ
لقد هبت نسمات الربيع في مسكنك الخالي وفي عطفيها سيل من الزهور. . . الزهور التي لا تقدم إلا في أوقات عبادتك
وعبدك، عابر السبيل؛ ما يزال يلحف، يطلب بعض رحمتك فما ينال شيئاً، وفي الغسق، حين تختلط النار والظلماء بما على الأرض من كآبة وعبوس، يرتد هو إلى معبدك الخَرب وفي قلبه الظمأ
يا إله المعبد الخرب! كم من عبد يقبل إليك في صمت! وكم من ليلة من ليالي التهجد تدبر وفي أضعافها سراج منطفئ!
وكم من صورة جميلة زوقتها يد الفن الخادع ثم هي تندفع في مجرى النسيان المقدس حين يأتي عليها الزمن
ولكن إله المعبد الخرب ما يبرح في منأى عن العبادة في إهمال مروع
- 88 -
لا صخب ولا صياح. . . تلك مشيئة سيدي؛ لذلك سأتحدث في همس، وسيكون صوت قلبي دندنة فيها نغم لحن
إن الناس يشتدون إلى سوق المِلك، وهناك البيعان؛ غير أني رجعت قبل أن يحين وقت الانصراف. . . غادرت السوق عند الظهر وهو ما يزال يموج بالناس
إذن دع الأزهار تتفتح في حديقتي وإن لم يكن قد آن أوانها، وأرسل النحل في الهاجرة يطن طنينه الضعيف
لقد قضيت ساعات طوالاً في صراع حاد بين الفضيلة والرذيلة؛ والآن هاهو رفيقي يريدني على أن ألقي بقلبي بين يديه؛ وأنا لا أدري، لعلما أراد أن يدفعني إلى ما لا خير فيه
كامل محمود حبيب
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
345 -
لعبة الدبوق
في (نثار الأزهار) لابن منظور: الدبوق كرة شعر ترمى في الهواء، ثم يتلقاها الغلام ضارباً لها تارة بصدر قدمه، وتارة بالصفح الأيمن من ساقه اليمنى، راداً إياها إلى العلو على الدوام. ومن بديع التشبيه قول الأرجاني في غلام يلعب بالدبوق:
يهتز مثل الصعدة السمراء
فقدُّه من شدة التواء
كالغصن تحت العاصف الهوجاء
تراه من تمدد الأعضاء
كأنه كواكب الجوزاء
346 -
إنما رغبتنا في العفاف
في (كنايات الأدباء) لأحمد بن الجرجاني الثقفي: من كناية العامة: إذا قال أحدهم: سلامتها خير من كل شيء. فقد ولدت امرأته اثنين في بطن. . .
وإذا قال: إنما رغبتنا في العفاف. فقد تزوج قبيحة فقيرة. . .
وإذا قال: لقمة البيت أطيب من كل شيء. فقد فاتته دعوة
وإذا قال: وما شهدنا إلا بما علمنا. فقد ردت شهادته في حق من شهد له. . .
وإذا قال: ما بحلال الله من بأس فقد تزوجت أمه. . .
347 -
الاقتصاد، البخل
في شرح النهج لابن أبي الحديد: الفرق بين الاقتصاد والبخل أن الاقتصاد تمسك الإنسان بما في يده خوفاً على حريته وجاهه من المسألة، فهو يضع الشيء موضعه، ويصبر عما لا تدعو ضرورة إليه، ويصل صغير بره بعظيم بشره، ولا يستكثر من المودات خوفاً من فرط الإجحاف به، والبخيل لا يكافئ على ما يسدي إليه، ويمنع أيضاً اليسير من استحق الكثير، ويصبر لصغير ما يجري عليه على كثير من الذلة
348 -
دع أيهما شئت وخذ الآخر
في (الأغاني): قال علي بن عبد الله الجعفري مرت بي امرأة في الطواف وأنا جالس أنشد صديقاً لي هذا البيت:
أهوى هوى الدين واللذات تعجبني
…
فكيف لي بهوى اللذات والدين؟
فالتفتت المرأة إليّ وقالت: دع أيهما شئت، وخذ الآخر. .
349 -
14 يوماً. . .!
في (شذرات الذهب): حكى غير واحد أنه وجد بخط الناصر (الأموي) أيام السرور التي صفت له دون تكدير يوم كذا من شهر كذا، من سنة كذا، ويوم كذا من كذا، وعدت تلك الأيام فكان فيها أربعة عشر يوماً. . .!
350 -
نسب بن حيطان
قال رجل لعبد الملك بن الزيات: أُمتُّ إليكم بجواري
فقال: نسب بن حيطان. . .
نظم ذلك بعضهم فقال:
أرى الجوار نسباً بين الجدر
والعطف والرقة حيناً والخور
طباع نسوان وصبيان غرر
351 -
ما الذي نستعمله مما تبيحه الشريعة
في (وفيات الأعيان): كان الأمير قرواش بن المقلّد (صاحب الموصل والكوفة والأنبار) كريماً وهاباً ذهاباً، جارياً على سنن العرب، نقل عنه انه جمع بين أختين في النكاح فلامته العرب على ذلك
فقال: خبروني ما الذي نستعمله مما تبيحه الشريعة؟. .
352 -
النرجس
لما قدم علي بن سعيد المغربي المؤرخ مصر المحروسة صنع له أدباؤها وليمة في بعض
منتزهاتها، وانتهوا إلى روض نرجس
فجعل أبو الحسين الجزار يطأ عيون النرجس برجليه، فأنشده ناصر الدين حسن بن النقيب:
يا واطئ النرجس، ما تستحي
…
أن تطأ الأعين بالأرجل
فتهافتوا على هذا البيت وراموا إجازته فقال ابن أبي الأصبع:
فقال: دعني لم أزل محنَقاً
…
على لحاظ الرشأ الأكحل
وكان أمثلَ ما حضرهم، ثم أبوا أن يجيزه غير ابن سعيد فقال:
قابل جفوناً بجفون ولا
…
تبتذل الأرفع بالأسفل
البريد الأدبي
جوائز فاروق الأول
من الطوالع السعيدة لعهد فاروق الأول - حفظه الله - أن تحظى دولة الأدب والتفكير بأول قسط مشكور من حقها في التشجيع والرعاية؛ فقد انتهت وزارة المعارف بعد طول البحث إلى إقرار مشروع خطير لتشجيع العلوم والآداب يتلخص في ترتيب ستة جوائز ثمينة للمتفوقين في مختلف نواحي التفكير؛ وقد أشارت الرسالة في عددها الماضي إلى قيم هذه الجوائز وأنواعها. وصاحب الفضل الأول في تقديم هذا المشروع هو سعادة الدكتور حافظ عفيفي باشا وزير الخارجية المصرية سابقاً وسفير مصر الحالي في لندن؛ وهو فوق كونه من رجالات مصر المعدودين مفكر وأديب بارع، وله مواقف مشهودة في تعضيد الحركة الفكرية، وهو الذي أنشأ (السياسة الأسبوعية) التي كانت قبل أعوام أعظم الصحف العربية الأدبية
ومما يذكر بالحمد لوزارة المعارف أنها لم تنس الأقطار العربية الشقيقة في ترتيب هذه الجوائز الأدبية الثمينة، فقد تقرر أن يسمح لأبناء العربية من الأقطار الأخرى بالتقدم إلى هذه المباريات في جوائز الأدب والقصص والاجتماع نظراً لما هنالك من وجوه التعميم في هذه الميادين، ورغبة في تشجيع الآداب العربية بصفة عامة، وتقوية للروابط الفكرية والثقافية بين مصر والأقطار العربية الشقيقة
ونحن نغتبط بهذه الخطوة الموفقة التي تتخذها وزارة المعارف لتشجيع الحركة الفكرية في مصر والأقطار العربية؛ ويزيدها توفيقاً ويمناً أن الجوائز الجديدة تحمل اسم صاحب الجلالة الملك (فاروق الأول)؛ بيد أننا نحب أن نرى فيها باكورة فقط، ونرجو أن توفق مصر إلى المزيد منها على يد هيئاتها ومعاهدها العلمية الكبيرة. فعلى الجامعة المصرية والجامع الأزهر أن يساهما في ذلك العمل الجليل، وأن يرتب كل منهما جوائزه الخاصة لتشجيع الحركة الأدبية والعلمية؛ وعلى جميع هيئاتنا العلمية الأخرى أن تقوم بواجبها في ذلك السبيل
المتحف الزراعي المصري
في يوم الاثنين 17 يناير الجاري افتتح صاحب الجلالة الملك فاروق الأول متحف فؤاد
الزراعي بالدقي بالجيزة؛ وهذا المتحف على حداثته يعتبر في رأي الخبيرين أعظم متحف في العالم من نوعه. والفضل في إنشائه يرجع إلى جلالة المغفور له الملك فؤاد الأول. وقد بدئ بإنشائه في سنة 1930، وأراد الملك الراحل أن يكون معهد ثقافة زراعية علمية، فحملت إليه النماذج الزراعية من كل ضرب، وعرضت فيه مجموعات بديعة من الأزهار والحبوب والأدوات المنزلية، وهياكل الحيوانات المصرية الأليفة ومومياتها وأنواع الأسماك المتوطنة في النيل منذ القدم وأدوات صيدها؛ وعرضت النباتات المصرية منذ عصر الفراعنة والعصور الإسلامية. وبالجملة فقد غدا المعرض على حداثته معهداً عظيماً للثقافة الزراعية والنباتية والحيوانية خلال العصور التي توالت على وادي النيل. وسيعمل المتحف في القريب العاجل على ضم جميع التحف والعاديات التي لها علاقة بالزراعة القديمة، ونماذج من أدوات الزراعة والفلاحة والصيد التي كانت تستعمل خلال العصور المختلفة
ويقدر ما أنفق على هذا المتحف المصري العظيم منذ إنشائه إلى اليوم بنحو ثلاثمائة ألف جنيه مصري، وهي قيمة يدل إنفاقها على ما وصل إليه المتحف من الضخامة وحسن الاستعداد لأداء مهمته
وقد تفضل جلالة الملك فتفقد أقسام المتحف المختلفة، وشاهد عرض فلم علمي زراعي يبين تربية النحل وحلج القطن
ومما يبعث على الغبطة أن مدير المتحف الحالي هو مصري من الأخصائيين في الشئون الزراعية، وقد كان إلى عهد قريب من الأجانب
فصل المؤتمرات الدولية بالقاهرة
أصبحت القاهرة من العواصم العالمية التي تتجه إليها أنظار المؤتمرات الدولية، وفيها يعقد كل عام في فصل الشتاء على الأخص عدة مؤتمرات دولية هامة، بدعوة سابقة من الحكومة المصرية وقد عقد بها في هذا الفصل إلى الآن مؤتمران دوليان كبيران هما مؤتمر الرمد الدولي، ومؤتمر توحيد قانون العقوبات الذي اختتمت اجتماعاته منذ أيام قلائل. وسيعقد في القريب العاجل مؤتمران دوليان آخران هما مؤتمر القطن الدولي، ويفتتح في 26 يناير الجاري، ومؤتمر اللاسلكي ويفتتح في أول فبراير؛ والأول من المؤتمرات الدولية التي
تعلق عليها مصر أهمية خاصة باعتبارها في مقدمة دول العالم التي تنتج القطن وتعتمد في مواردها على تصريف محصوله. وقد كانت مصر دائماً عضواً بارزاً في مؤتمرات القطن الدولية وكانت لها في هذه المؤتمرات جهود مشكورة في التنويه بأحوال الزراعة القطنية وتجاربها العلمية وآفاقها وتصنيف محاصيلها. ولا يقل مؤتمر اللاسلكي عن سابقه أهمية لأن مصر أصبحت بعد تقدم اللاسلكي من أهم المراكز العالمية للمواصلات الأثيرية، وتشترك معظم الدول الكبرى في كلا المؤتمرين
محاضرة عن فلوبير بالقاهرة
ألقى العلامة الفرنسي الأستاذ هنري جيلمان نزيل مصر الآن، بدعوة من كلية الآداب، في قاعة الجمعية الجغرافية الملكية، محاضرة شائقة عن الكاتب القصصي الفرنسي الكبير جوستاف فلوبير، قدم فيها عنه لسامعيه صورة مؤثرة؛ وذكر أن فلوبير إنما يدرس في كتابات شبابه وما خلفه منها بعد موته، وأنك تجد فلوبير في أطوار حياته شخصاً يبدو في ألوان مختلفة. وقد مرض فلوبير في حداثته مرضاً عصبياً خطيراً حول مجرى حياته إلى ناحية لم يكن يتوقعها، فلم يفكر في أن ينشئ له حياة أو مدرسة، ولكنه جنح إلى التفكير العميق، وانتهى إلى اعتناق المبادئ التي جعلت منه شخصية مدهشة. وخلاصتها احتقار الوصول إلى الغايات الشخصية ورفض استخدام المواهب لتحصيل الربح المادي، وتخصيص الحياة للفن (العقيم) ومجانبة هذا المجتمع وهذا العالم. ومن ثم كان فلوبير يصور في كتبه هذا العالم بطريقة يترك الحكم عليها لقارئه، ولا يتدخل هو للتأثير فيه
على أن فلوبير لم يستطع أن يحرص على هذا المثل دائماً، فقد خرقه في حياته مرتين: الأولى بسبب امرأة هي لويز كوليه، والثانية بسبب محاولة الحصول على النجاح. بيد أنه لم يكن محباً مستسلماً، ولم تملكه المرأة إلا ردحاً ضئيلاً وانتهى بينهما كل شيء في سنة 1755؛ ولم يمض طويل على ذلك حتى اضطر فلوبير أن يسعى إلى المال والشهرة لكي يتدارك النكبة المالية التي أصابت ابن أخته، فتقدم إلى المسرح بقطعته (المرشح) ولكنه لقي خيبة أمل؛ فارتد إلى عمله وكتاباته التي كانت تلخص كلها في وصف الحياة البشرية، وكانت (مدام بوفاري) و (التربية العاطفية) و (القلب الساذج) من أروع ما كتب في هذا الميدان
ونالت محاضرة الأستاذ جيلمان نجاحاً عظيماً؛ وكان الأستاذ يلقي محاضرته بذلاقة خلبت ألباب السامعين.
أسواق الأدب بين الركود والازدهار
خطب الروائي الإنكليزي الكبير السير هوج والبول في معرض للكتب أقيم أخيراً في جلاسجو، فقال انه توجد أزمة كتب في العالم البريطاني، وأهم أسبابها تخفيض أثمان الكتب إلى حد غير معقول. وقد ترتب على ذلك أن فقد كثير من الكتاب مورد أرزاقهم؛ ووقعت الأزمة بنوع خاص على الكتب القيمة لأنها اليوم ضحية منافسة شديدة من كتب تنشر بالملايين ولا يجد القارئ وقتاً للتحقق من قيمتها. ومن رأي الكاتب الكبير أن البؤس الذي تعانيه الحركة الأدبية من جراء هذه الحالة لا يقل عما كانت تعانيه منذ ثلاثين عاماً
وقد أنشئ في إنجلترا (مجلس قومي للكتب) مهمته أن يعمل على ترقية القراءة وترويج الكتب، وهو يسعى إلى هذه الغاية بمختلف الوسائل، ومن ذلك إقامة المعارض السنوية، وإقامة أسابيع خاصة لأصناف من الكتب المختلفة؛ وقد ساعدت هذه الوسائل على تخفيف الركود الذي أصاب حركة النشر في الأعوام الأخيرة
على أنه بينما يشكو العالم البريطاني من ركود الكتب وبؤس الحركة الأدبية إذا بسوق الأدب والكتب تزدهر في روسيا السوفيتية ازدهاراً شديداً. وقد نشر أخيراً إحصاء مدهش عما أخرجته دور الكتب الروسية التي تعمل تحت رقابة الحكومة من الكتب في عهد السوفييت، خلاصته أن هذه الدور كانت تخرج في سنة 1918 في اليوم 300 ألف مجلد؛ ولكنها أصبحت في سنتي 1936 و1937 تخرج في اليوم مليوناً وربع مليون مجلد. ومن هذه طبعات رخيصة من الآداب الروسية والعالمية. ومنذ سنة 1917 إلى اليوم أخرج من كتب مكسيم حوالي 32 مليون نسخة، و19 مليوناً من كتب الشاعر بوشكين، و14 مليوناً من كتب تولستوي، وأخرجت ملايين أخرى من كتب الكتاب الروس الآخرين. هذا عدا ما تخرجه دور النشر الروسية من الترجمات للكتاب الأجانب، وأشهرهم اليوم في روسيا سنكلير، وموباسان، وهوجو، وزولا، وبلزاك، وأناتول فرانس ودكنز؛ وفي ذلك ما يدل على التقدم الهائل الذي حققته روسيا السوفيتية في مكافحة الأمية وترقية التعليم
وفاة الأستاذ محمد صادق عنبر
يعز علينا أن ننعى لقراء الرسالة في بهجة الفرح وبهرة السرور بزفاف المليك أديباً من أعلام البيان العربي، هو الأستاذ صادق عنبر
كان الأستاذ طيب الله ثراه بقية خير من تلك الطائفة الرشيدة الصالحة التي غذت الناشئين وبصرتهم بالأساليب المشرقة منذ ثلث قرن، فكان من أنصار الديباجة القوية، والأسلوب البياني المستمد من بيان القرآن ونبعته. وكان أسلوبه يشبه أسلوب المرحوم الأستاذ الرافعي، فقد كان يعجب بفنه وطريقته، ويأخذ نفسه على الجري في حلبته. ولقد عمل في الصحافة مدة من الزمن، فاشتغل في اللواء ثم في الأخبار ثم في الأهرام، ولكنه ظل على سليقته الأدبية، وظل أسلوبه أسلوب الأديب له روعته ورونقه. وآخر ما أخرجه من الآثار جملة من الرسائل الغرامية وضعها على لسان ليلى وقيس، ونحا فيها منحى الرافعي في أوراق الورد، ثم (كلمات في كلمة) كان ينشرها منذ أيام وكان ينوي جمعها في كتاب. فلعل أصدقاءه يقومون له بحق الصداقة فيجمعوا من آثاره ما تناثر كما قام بحق الوفاء لصديقه المرحوم أمين الرافعي
تماثل النابغة مي
شق على نفس الأدباء كثيراً ما ألم بنابغة الأدب الآنسة مي من مرض لازمها نحو عامين، فحال بينها وبين القلم، وحجبها عن ميدان لها فيه جولات صادقة، وجهود موفقة، حتى برز اسمها بين الأعلام البارزين في الشرق العربي.
ولقد تناقلت الصحف العربية في مصر وسوريا ولبنان هذا الأسبوع الخبر بأن الآنسة النابغة قد تماثلت من مرضها، وقد أذن لها أطباؤها في الخروج من المستشفى الذي كانت تعالج فيه إلى منزل استأجرته في بيروت في مكان هادئ لائق، وستكون معها ممرضتها التي لازمتها مدة المرض
ونحن نرجو للآنسة الفاضلة تمام التماثل، ونسأل الله أن يسبغ عليها ثوب العافية، وأن يمد في حياتها العزيزة، فإنها ولا شك ثمرة ناضجة قلما يجود بها الزمن على الشرق الحديث
مجمع اللغة الملكي في مؤتمر بغداد الطبي
قرر مجمع اللغة العربية الملكي الاشتراك في المؤتمر الطبي العاشر المزمع عقده ببغداد في
الفترة القائمة بين التاسع والثالث عشر من فبراير. وقد ذكر المجمع في مذكرته إلى وزارة المالية أن الغاية من هذا الاشتراك هو تبادل الرأي في توحيد المصطلحات الطبية في اللغة العربية، واقترح ندب الأستاذين الشيخ أحمد علي الإسكندري وعلي الجارم بك لتمثيل المجمع في تلك الدورة وقد وافقت وزارة المالية على هذه المذكرة
كتاب شائق عن شعب غريب
صدرت أخيراً ترجمة فرنسية لمؤلف يمتاز بطرافته العلمية والتاريخية هو كتاب العلامة الدانمركي بركت سميث عن قبائل الإسكيمو، وعنوانه والعلامة بركت سميث هو مدير المتحف الوطني في كوبنهاجن، وهو أشهر حجة معاصر في أحوال هذا الشعب القطبي الغريب. وتسكن قبائل الإسكيمو كما هو معروف في أطراف الجزيرة الخضراء (جرينلند) وشمال ألاسكا وعلى أطراف بوغاز بيرنج وأطراف الأرض الجديدة الشمالية؛ وكان أول من عرفه بعض الملاحين من جزيرة (ايسلنده) في القرن التاسع الميلادي، ثم عرفه النورمانيون واحتلوا شواطئ الجزيرة الخضراء حيناً حتى أواخر القرن الخامس عشر؛ وجاء من بعدهم الرحالة الإنكليزي مارتن فروبشر فازدادت معرفة العالم المتمدن بقبائل الإسكيمو. وقام المكتشفون الروس والدنمركيون برحلات عديدة في هذه الأنحاء الثلجية النائية. ولما احتلت الدانمارك أطراف الجزيرة الخضراء قام علماؤها بمباحث كثيرة عن أصل الإسكيمو وأحوالهم؛ وأنشئ في كوبنهاجن متحف طبيعي للإسكيمو هو أعظم متحف من نوعه
وقد اختلفت آراء العلماء في أصل هذا الشعب الغريب الذي لا يزيد تعداده اليوم على أربعين ألف نسمة موزعة بين هذه الأنحاء الشاسعة، فذكر بعضهم أنه من سلالة (الفليولوتين) الذين يرجعون إلى العصر (المجدليني) ولكن الظاهر أن هذا الرأي لا يعتبر نهائياً من الوجهة العلمية. وما زال علماء الأجناس والبيولوجيا والأنثروبولوجيا يحاولون الوقوف على أصول هذا الشعب. ويمتاز الإسكيمو بقصر القامة وبسطة العظام؛ وهم ضعاف على الأغلب ويعيشون في ثلج دائم وينقرضون بسرعة. وقد رأت الأمم التي تهتم بمصير هذا الشعب والمحافظة على بقيته الباقية من الانقراض أن تعقد في شهر أغسطس الأتي مؤتمراً علمياً لمباحث الأجناس والأنثروبولوجيا، وسيكون للإسكيمو من مباحثه أكبر
شأن
ويستعرض الأستاذ بركت سميث في كتابه المشار إليه تاريخ الإسكيمو وأحوالهم الجنسية والاجتماعية، ويستند في معلوماته إلى الدرس والمشاهدة الشخصية لأنه عرف الأرض الخضراء منذ حداثته، وعاش بين الإسكيمو ردحاً من الزمن، ودرس لغتهم وعاش عيشتهم، ويصف لنا عقليتهم وأحوالهم النفسية والاجتماعية ببراعة، وكتابه كالقصة الشائقة ينتقل الإنسان فيه بين عجائب وغرائب مدهشة
ويهيب الأستاذ بركت في كتابه بالأمم الأوربية أن تعمل لصون هذا الشعب المسكين من الانقراض، وأن تبذل وسعها للمحافظة على هذه التحفة الإنسانية)
هل يشفي غبار الصحراء مرض السل
من أنباء ألمانيا الأخيرة أن حواراً علمياً هاماً يدور فيها حول اختراع طبي قام به العلامة الطبيعي الدكتور أرنست جيركي لشفاء مرض السل. وللدكتور جيركي رأي غريب في ذلك وهو أن السل يمكن شفاؤه باستنشاق غبار الصحراء، وقد انتهى إلى ذلك بعد تجارب طويلة، وأنشأ بالفعل لذلك جهازاً طبياً يعرف بجهاز جيركي يمكن للمريض أن يستنشق بواسطته غبار الصحراء المودع فيه بطريقة فنية، وتفيده المثابرة على ذلك فائدة كبيرة وتنتهي بتقوية الرئتين والسير نحو الشفاء. ويقول الدكتور جيركي أن ما يلاحظ من شفاء المرضى الذين يقيمون في أعالي الجبال إنما يرجع إلى استنشاق هذا الغبار بالذات وهو يهب من الصحراء في مواسم معينة حتى يصل إلى هذه الأنحاء، وأنه يمكن بواسطة جهازه أن يستغني المرضى عن الإقامة في المناطق الجبلية والسفر إلى مصر وغيرها من الأقاليم الصحرية
وقد أنكر بعض العلماء نظرية جيركي وحمل عليه بالأخص عالم طبيعي سويسري هو الدكتور ميركوفر، وقال إن نظريته لا ترجع إلى أصول علمية، وأنها مضاربة لا تزيد عن زعم أولئك الذين قالوا من قبل بأن السرطان يمكن أن يشفى بالأشعة وأمثالها؛ وأن غبار الصحراء لا يهب إلا على شواطئ البحر الأبيض المتوسط والجهات القريبة ولا أثر له في أعالي الجبال
وما زالت النظرية موضع الجدل الشديد في مختلف الأوساط العلمية.
مناهج التاريخ العام ورأي الحكومة المصرية
تلقت وزارة المعارف من القومسيون الدولي لعصبة الأمم كتاباً انتظم مشروع تصريح خاص بإعادة النظر في الكتب المدرسية. وقد جاء فيه أن العصبة ترغب في توطيد العلاقات وتوثيقها بين الأمم والممالك المختلفة، ومن أجل هذا ترغب ألا يقف الأمر في دراسة التاريخ في المدارس عند التاريخ القومي، بل يجب أن يتضمن المعلومات الوافية عن الأمم الأخرى
ورغبة في توكيد ارتباط المصالح بين الدول، فإن الرأي يتجه في تدريس التاريخ العام إلى استنباط العناصر التي تهيئ أسباب هذا التوكيد والارتباط
وترى العصبة أن يستبعد من الدراسات التاريخية في الكتب تقرير كل إيعاز أو إيحاء، وكل تفسير للأحداث التي تثير في الناشئين روح الحقد واالكراهية، والتي يكون من نتائجها تكوين رأي في أمة ضد أخرى
ونوه سكرتير العصبة العام في كتابه باقتراح يرمي إلى إنشاء هيئات محلية في كل دولة تتصل بالشعبة الدولية في جنيف، وأن يترك لها أمر الحلول التي تؤدي إلى الأغراض المتقدمة. ولهذا حرصت جامعة الأمم على توجيه هذه الآراء والأفكار إلى الممالك والدول المشتركة وغير المشتركة فيها
وقد أحالت وزارة المعارف هذا الموضوع إلى الأستاذ محمد قاسم بك ناظر دار العلوم، فدرس المشروع دراسة دقيقة ووضع تقريراً عنه، وقد أقرته الحكومة المصرية وتقرر رفعه إلى العصبة
وقد جاء في هذا التقرير أن المناهج المصرية الدراسية تتفق والأغراض المشار إليها، وذلك لعدة أسباب، منها ما يرجع إلى موقع البلاد الجغرافي وحكم مركزها القديم واتصالها بالشرق والغرب، فضلاً عن أن مناهج التاريخ ولا سيما في الدرجات الثانوية من التعليم بل والابتدائية لا تقتصر على الجانب القومي
وأما عن توكيد ارتباط المصالح بين الدول، وخاصة في العصور الحديثة، فان مفردات مواد التاريخ وضعت من الوجهة الفنية في مصر على قاعدة اشتراك المصالح بين الدول الأوربية المختلفة
وأشار التقرير إلى مسألة الإيعاز والإيحاء وتفسير الوقائع فقال إن الروح القومية المصرية السائدة في الكتب المصرية عامة هي روح الصداقة والود والتعاون بين أمم العالم قاطبة بغير استثناء. على أن هذا لا يمنع من تسرب بعض التعليقات التي تسيء إلى بعض الأمم في الكتب الدراسية من غير قصد، ومرجع هذا تأثر بعض المؤلفين بالمراجع الأجنبية التي يأخذون عنها فينقلون وهم حسنو النية بعض الآراء والتعليقات التي تسيء إلى بعض الدول وقد لا تتفق والواقع. وكثيراً ما يتأثر بعض المؤلفين بالبيئة التي يدرسون فيها والمراجع التي يرجعون إليها
ماني والمانوية
ما يزال العلماء الأجانب يعنون بفلاسفة المشرق عناية عجيبة، على حين لا نعني بهم نحن إلا عناية طفيفة تجيء مع تفاهتها ذيلاً لما يكتب غيرنا عنهم. . . وقد تصفحنا كتاباً بالإنجليزية عن ماني والمانوية وضعته الأديبة الفاضلة أ. س. دروور وطبعته جامعة أكسفورد على نفقتها الخاصة، وحسبك هذا دليلاً على قيمة الكتاب. وقد حدث أن عُين زوج المؤلفة الفاضلة مستشاراً قضائياً في العراق سنة 1922، فانتهزت هي هذه الفرصة وكانت تسكن في بغداد، فاختلطت بأحفاد المانوية الذين لا يتجاوز عددهم خمسة آلاف في كل العراق، وعرفت الكثير عن عقائدهم وعاداتهم وطقوسهم المذهبية وحفلاتهم الدينية، ثم عقدت أواصر الصداقة بينها وبين زعمائهم فاستطاعت أن تطلع على كتبهم القديمة النادرة التي لم يتيسر لأحد العلماء الاطلاع عليها من قبل لشدة حرص أصحابها عليها واحتفاظهم بها جيلاً بعد جيل. والفصول التي كتبتها المسز دروور عن المانوية قيمة حقاً، ولا نغالي إذا قلنا إنها نور جديد ألقته المؤلفة الفاضلة على هذا الدين القديم لا نكاد نجد مثله فيما كتبه ابن حزم أو الشهرستاني أو البيروني أو ابن نباتة أو اليعقوبي أو غيرهم من مؤرخي المسلمين - بل لا نغالي أيضاً إذا فضلناه على ما كتبه العلامة بيرون في كتابه عن المانوية - والكتاب خليق بأكثر من هذه الشذرة وسنعود إليه