المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 24 - بتاريخ: 18 - 12 - 1933 - مجلة الرسالة - جـ ٢٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 24

- بتاريخ: 18 - 12 - 1933

ص: -1

‌من لغو الصيف إلى جد الشتاء

للدكتور طه حسين

كنا نلغو أثناء الصيف، فلنجدَّ أثناء الشتاء، وماذا كان يمنعنا من اللغو أثناء الصيف، وفي الصيف تهدأ الحياة ويأخذها الكسل من جميع أطرافها فتوشك أن تنام ولا تسير إلا على مهل يشبه الوقوف، وفي أناة تضيق بها النفوس. كل أسباب النشاط مؤجلة إلى حين، غرف الاستقبال مقفلة، وملاعب التمثيل مغلقة أو كالمغلقة، ولا تذكر الموسيقى والغناء، فمن للموسيقيين أو المغنين بهذا الجو القوي الحي الذي يبعث النشاط والخفة والمرح في النفوس والقلوب، وفي الألسنة والأيدي، جو ثقيل يستتبع فتوراً ثقيلاً، يضطر الناس إلى أن يغدوا على أعمالهم فاترين، ويروحوا إلى بيوتهم مثقلين، لا يكادون ينظرون إلى المائدة حتى ينصرفوا عنها، تنازعهم نفوسهم إلى النوم، وتنازعهم أجسامهم إلى أمهم الأرض، فلا يكادون ينظرون إلى سرير أو شيء يشبه السرير حتى يسرعوا اليه، ويلقوا بانفسهم عليه، وإذا هم يتصلون به ويتصل بهم، وإذا هم يمتزجون به ويمتزج بهم، وإذا هم يصبحون مثله شيئاً جامداً خامداً لا حركة فيه ولا حياة، إلا هذه اليقظة الفاترة البطيئة الثقيلة السمجة التي تلم بهم من حين إلى حين، حين يثقل عليهم الحر، ويشتد عليهم القيظ، فيفيقون أو يهمون بالأفاقة، ثم يغرقون في النوم ليفيقوا، ثم ليعودوا إلى الغرق فيه. ثم ينحسر النهار عن الأرض بشمسه المحرقة الملتهبة، ويقبل الليل متثائباً، يبعث في الجو أنفاساً حارة، كأنها أنفاس العاشق الولهان المحروم قد أوقد الحب الخائب في قلبه ناراً مضطرمة قوية اللظى فلا تكاد أطراف هذا الليل الكسلان تمس الأرض حتى تبعث في الناس نشاطاً كسِلا يدفعهم إلى حركات متخاذلة، فيخرجون من بيوتهم متثاقلين قد ضاقوا بالدنيا وضاقت بهم. فهم يهيمون إن حملتهم أقدامهم يلتمسون مكاناً نضراً لعلهم يجدون فيه فضلاً من نسيم قد صافح الماء، وأطال عشرته بعض الوقت، فيحمل إلى وجوههم وإلى قلوبهم شيئا من هذا البرد الخفيف اللطيف الذي يردهم إلى شيء من الدعة والهدوء.

هنالك يريدون أن يخرجوا من أنفسهم وأن ينسوا أشخاصهم، فيعمدون إلى اللغو يقبلون عليه كما يقبل المريض على الطعام، لا يكادون يذوقونه إلا على كره وفي مضض، ولعل الجو أن يعتدل، ولعل الجو أن يرق، ولعل هذه الأشربة الباردة المثلوجة أن تخفف بعض

ص: 1

هذا اللظى الذي يجدونه في نفوسهم وفي أجسامهم فتنطلق الألسنة من عقلها بعض الشيء، وتستطيع النفوس أن تحرك أجنحتها قليلاً وأن تصعِّد في الجو بعض التصعيد ويستطيع المرح الهادئ أن يبعث في القلوب شيئاً من الراحة والابتهاج. ثم يتقدم الليل ويذكر الناس أن الصبح سيشرق بعد حين ومعه الأعمال والأثقال، والتكاليف والحر والضيق، وإذا هم مضطرون إلى أن يعودوا إلى بيوتهم ويسعوا إلى مضاجعهم كارهين.

كذلك نقضي الصيف في بلادنا إن لم نكن من المترفين الذين لا يكادون يحسون الصيف حتى ليعبروا البحر إلى حيث يحيون حياة اخرى، أو لا يكادون يحسبون الصيف حتى يسرعوا إلى ساحل البحر، فيحيون حياة خير منها ما نحن فيه من كسل وفتور، ومن تقصير وقصور، فلغو الصيف شيء طبيعي ملائم أشد الملاءمة لحياة الصيف. أما الشتاء فشيء آخر كله فرح ومرح، وكله حركة ونشاط، وكله حياة خصبة عذبة منتجة، تجد فيه النفوس أقصى لذاتها، وتجد فيه الأجسام أقصى قدرتها على الاستمتاع. أكل كثير، وشرب كثير، واضطراب في الأرض كثير، وإقبال على العمل. ونسيان الكسل، وحياة مملوءة إلى حافتها، تفيض أو تكاد تفيض بما يفعمها من الآمال والأعمال. ثم ضيق بالحياة، لأن الحياة تضيق بما نريد. وتعجز عن أن تسع كل ما تسعه آمالنا ورغباتنا وشهواتنا، وقد كدت أنسى واجباتنا. وهل للواجبات مكان في حياة الشتاء هذه التي يفعمها الجنون؟ مسكينة هذه الواجبات! يطاردها فتور الصيف ويطاردها نشاط الشتاء فحظها من عنايتنا قليل دائماً. ولعمري إنّا لمعذورون، أما عذرنا في الصيف، فلا يقبل جدالاً ولا مراء، ومن ذا الذي يستطيع أن يكلف الناس أن يعملوا وهم عاجزون عن العمل، أو يكدوا وهم مصروفون عن الكد. والله عز وجل لا يكلف النفوس إلا وسعها، ولا يحمل الناس ما لا طاقة لهم به، واما في الشتاء فعذرنا أبلغ منه في الصيف، وكيف تريدنا على أن نفرغ للعمل، ونخلص للإنتاج، ونؤدي واجباتنا مشغوفين بها، مقبلين عليها، وحولنا من المغريات ما لا تقاومه إلا نفس سقراط أو أشباه سقراط،. ومن يدري لعل سقراط لو عاش في أيامنا، واضطراب في بيئتنا، لكان رجلاً مثلنا تصرفه المغريات عن أن يعرف نفسه بنفسه، وعن أن يولد نفوس محاوريه ويخرج منها كل ما احتوت من حقائق العلم والحكمة، وفنون المعرفة وألوان الخير.

ص: 2

وقد زعموا أن امرأة سقراط كانت مسلطة عليه، وانه كان يخافها خوفاً شديداً، ويشفق منها إشفاقاً لا حد له، فلو عاشت امرأة سقراط في مدينة القاهرة وفي القرن العشرين لاتخذت لها يوماً في كل اسبوع، تستقبل فيه الزائرين والزائرات، فلا تكاد تطلع الشمس حتى تهيئ وتضطر زوجها إلى أن يهيئ معها غرف البيت لاستقبال الزائرين والزائرات، وحتى تسعى وتضطر زوجها إلى أن يسعى معها إلى حيث تشتري ألوان الحلوى وفنون الزهر وصنوف الفاكهة، حتى إذا تقدم النهار ودنت الساعة الرابعة قامت واضطر زوجها إلى أن يقوم معها لاستقبال الأصدقاء وغير الأصدقاء، من هؤلاء الذين يغشون غرف الاستقبال لأنهم يَكلَفٌون بغشيانها، أو لانهم يكرهون غشيانها. تكرههم عليه امرأة سقراط وأمثالها، لان امرأة سقراط لا تغفر لفلان وفلان من العلماء والأدباء وأصحاب الفن أن يهملوها، أو ينصرفوا عن غرفة استقبالها، وهي تصر أشد الإصرار على أن يظهروا في بيتها مرة في كل اسبوع، حتى لا يقول صديقاتها أن غرفتها ليست حافلة بأعلام الفن وأفذاذ الأدب، ورجال المال والأعمال، فإذا فرغت امرأة سقراط وفرغ زوجها من الاستقبال وما فيه من حديث مختلف مؤتلف، معوج مستقيم، واضح غامض، خصب جدب، خطر بريء، فلم تنته امرأة سقراط ولم ينته سقراط من كل شيء، وانما ابتدأ شيئاً لا سبيل إلى أن ينتهي، فهؤلاء الزائرون والزائرات لابد أن ترد لهم الزيارات، لأنهم كسقراط وامرأة سقراط مضطرون إلى أن يستقبلوا كما كانوا مضطرين إلى أن يزوروا، وكذلك تقضي امرأة سقراط ويقضي معها سقراط مساء كل يوم متنقلين من دار إلى دار، ومن غرفة استقبال، يقولان كلاماً، ويسمعان كلاماً، يصدِّقان ويكذِبان، وويل لسقراط إن أدركه الكسل أو أصابه الملل أو شغلته الفلسفة أو صرفه عن زيارة من هذه الزيارات حوار مهما تكن قيمته، ومهما يكن المحاورون، فأفلاطون وكسنوفون، وفيدون، وفيدر، كل هؤلاء يستطيعون أن يلقوه في داره يوم استقباله. أو في دار من هذه الدور التي تستقبل من الساعة الرابعة والثامنة من كل يوم، وإذا لم يكن بد من الحوار في الطبيعة أو في أي شيء من هذه الأشياء التي تنجم من الأرض، أو تهبط من السماء، فليدبر لهم سقراط وقتاً من هذه الأوقات التي يمكن فيها اللقاء دون أن تصرفه عن واجباته الاجتماعية وتعرضه للغضب، وأي غضب؟ غضب السيدات!

فإذا فرغت امرأة سقراط وفرغ معها سقراط من الاستقبال والزيارة وأقبل الليل، فالويل كل

ص: 3

الويل للفيلسوف العظيم إن دعته نفسه إلى أن يعرفها، أو يحقق ما كان مكتوباً على معبد دلف (اعرف نفسك بنفسك) وأين يجد سقراط الوقت الذي يخلو فيه إلى نفسه إذا جنه الليل؟ فالليل لا يلقي على الأرض أستاره المظلمة ليأوي الناس إلى بيوتهم بل ليخرجوا منها، وكيف تريد، أن يأوي سقراط إلى بيته أو يخلو سقراط إلى نفسه، وهذه الأوبرا قد فتحت أبوابها، ومدت أسبابها، وأقبل عليها الممثلون والمغنون يعرضون بدائع التمثيل وآيات الغناء.

وهذه دور السينما تعرض في كل يوم جديداً، وهذه قاعة (يورت) يوقع فيها فلان، وقاعة (الليسيه) يوقع فيها فلان، وقد يجمع سقراط شجاعته كلها ويقول بقلب متردد ولسان متلعثم انه لا يحب ما يمثل الليلة، أو ما يوقع، أو ما يغنى، وأنه يؤثر الراحة أو الانقطاع لبعض العمل، ولكن ويل لسقراط من هذه المقالة! فمن زعم له انه سيشهد التمثيل أو يسمع الغناء لأنه يحب أو لا يحب، ولأنه متعب أو مستريح، انما يشهد التمثيل ويسمع الغناء ويختلف إلى دور السينما لأن الناس يجب أن يروه في هذه المشاهد كلها، وإلا فليس هو من أهل القاهرة، ولا من ذوي المكانة فيها، وقد تظن أن سقراط حين يذهب إلى الملعب أو إلى دار من دور السينما أو إلى قاعة من قاعات الغناء يستطيع أن يفرغ للفن أو يستمتع به، فاطرد عن نفسك هذا الظن، واذكر أن هناك (الانتراكت) ومقابلات الانتراكت، وأحاديث النظارة والمستمعين عما رأوا وما سمعوا ويا لها من أحاديث تبغض الفن إلى أحب الناس للفن، يجب أن يكون لكل واحد من هؤلاء النظارة والمستمعين رأي يراه، وكلمة يقولها فيما رأى وما سمع، وقد يكون هذا الرأي سخفاً، وقد تكون هذه الكلمة جهلاً، وهما كذلك في أكثر الأوقات، ولكن سقراط مضطر إلى أن يسمعهما ويقرهما، أو يجادل فيهما مجادلة المقر الذي لا ينكر. وهناك ما هو أثقل من ذلك، فيجب أن يكون لسقراط رأي يقوله وكلمة يقولها وإن لم ير شيئاً، وإن لم يرد أن يقول شيئاً ذلك أنه إذا لم يقل كلمته اتهم بالجهل، أو وصف بالكبرياء، وكلاهما لا يليق بالحيوان الاجتماعي الذي ذكره ارستطاليس في كتاب السياسة، والذي يتألف منه ومن أمثاله سكان مدينة القاهرة، كما يتألف منه ومن أمثاله سكان باريس.

حتى إذا تقدم الليل عاد سقراط إلى بيته متعباً مكدوداً فأوى إلى مضجعه ولم يلبث أن يأسره النوم. ولعلك تظن أن تكاليف سقراط تقف عند هذا الحد، فما أشد إغراقك في الوهم! وأين

ص: 4

أنت من المحاضرات؟ وما أدراك ما المحاضرات؟ محاضرات الجمعية الجغرافية، وأخرى في الجمعية الاقتصادية، وأخرى في قاعة يورت التذكارية، وأخرى عند جروبي، وأخرى في الكونتننتال، ولا بد لأسرة سقراط من أن تشهد هذه المحاضرات لتكون ظريفة متلطفة، مجاملة للمحاضرين والمحاضرات، ثم لتظهر أيضاً، أو لتظهر قبل كل شيء. والمحاضرون قوم قساة لا يحفلون بالناس ولا يحفلون بانفسهم، وانما يحفلون بالمحاضرات، فهم يحاضرون في غير رفق، وهم يحاضرون في غير حساب، وهم يتنافسون في المحاضرات وقيمتها وحظها من الجودة، بل في عدد المحاضرات وعدد المستمعين. والإعلان في الصحف؛ وقد تسوء الحال فيلقي محاضران محاضرتيهما في وقت واحد وفي مكانين مختلفين طبعاً، ويومئذ يضطر سقراط إلى أن يشهد إحداهما، وتضطر امرأته إلى أن تشهد الأخرى، فلا بد من ظهور أسرة سقراط في المحاضرتين جميعاً فإذا انتهى كل من المحاضرين تقدم اليه نصف الأسرة فهنأه وحياه واعتذر له عن النصف الأخر لأنه مشغول بمحاضرة فلان. يا لهذا الفصل: فصل الشتاء! انه يشغل الوقت، ويصرف الناس حتى عن الحياة، وقد تعطف الظروف على سقراط وتؤئره الأيام بخير ما عندها من اللذات والمتاع. وإذا هو مضطر إلى أن يستمتع رغم أنفه بتناول الشاي عند فلان، ثم بالاستماع لمحاضرة يلقيها فلان في الساعة السادسة، وأخرى يلقيها فلان في الساعة السابعة، ثم يخطف عشاءه خطفاً، ويلقي ملابس النهار ويتخذ ملابس الليل ليسرع إلى الأوبرا، ويل لسقراط إن لم يكن من أصحاب السيارات! وويل للسيارة وسائقها ان كانت لسقراط سيارة، من هذه الأيام العذاب الكذاب أيام الشتاء، ثم حدثني بعد ذلك كيف يستطيع سقراط أن يفرغ لفلسفته ومعرفة نفسه وحوار تلاميذه إذا كان الصباح، وأين له القوة التي تمكنه من أن يفلسف أو يفتش عن نفسه أو يحاور أصدقاءه بعد هذا الجهد العنيف الذي أنفقه أو الذي احتمله منذ أقبل المساء إلى أن انقضى الليل أو كاد ينقضي، ومع ذلك فلا بد لسقراط من أن يعنى بفلسفته، ويبحث عن نفسه، ويجاور أصدقاءه، لأنه بذلك يعيش، ولذلك يعيش، زمن ذلك يعيش؟ أرأيت أن سقراط لم تظلمه الأيام حين جعلت حياته في القرن الخامس قبل المسيح في ذلك الوقت الذي لم تنشأ فيه الصالونات، ولم تكثر فيه المحاضرات، ولم تتعدد فيه ملاعب التمثيل وقاعات الغناء، ولم تظهر فيه دور السينما، لقد كان سقراط سعيداً حقاً، كان

ص: 5

يشهد التمثيل أياماً في العام، مرة في الربيع حين يكون فصل التراجيديا، ومرة في الخريف حين يكون فصل الكوميديا. وكان يختلف إلى بعض الدور: إلى دار بيركليس مثلاً، ليسمع بعض السفسطائية، وليحاور أو ليستمتع بجوار هذه المرأة الجميلة زوج بيركليس. وكان ينفق ما تبقى من وقته، وهو أكثره من غير شك، متنقلا بفلسفته في شوارع أثينا، أو باحثاً عن نفسه في حمام أثينا وملاعب الرياضة فيها. وأنا واثق بان سقراط لو خير بين حياتنا الحلوة العذبة، وبين سجنه الثقيل وما تناول فيه من السم لآثر السجن والسم على هذه اللذات الطوال الثقال التي نتحملها نحن في فصل الشتاء.

أرأيت أن الصيف هو الفصل الذي يحسن فيه اللغو، وأن الشتاء هو الفصل الذي لا يحسن فيه إلا الجد، ولايمكن فيه إلا الجد، ولعلك تظن ان ما حدثتك به هو كل ما في الشتاء من جد، فُذد عن نفسك هذا الوهم، ففي الشتاء جد آخر مر كله، لا حلاوة فيه، فأنت توافقني على أن الزيارة والاستقبال، والاختلاف إلى المحاضرات، وشهود التمثيل والاستماع للمغنين والموقعين، كل ذلك يحتاج إلى نفقات، فثياب الشاي غير ثياب التمثيل، ولكن ماذا أريد أن أقول؟ ومالي أدخل بك في هذا الحديث الذي لا فكاهة فيه ولا متاع؟ أهذا كل ما يحمل إلينا الشتاء من الجد؟ كلا ففي الشتاء جد آخر، جد خصب حقاً، جد نافع حقاً، جد نعيش منه، ونلهو به، ولا يجني منه أصحابه إلا حياة كلها خشونة وشظف وحرمان، هو جد هؤلاء الفلاحين الذين يعملون في الأرض، لا يحفلون بالبرد ولا يحفل بهم البرد، وفي الشتاء جد آخر، جد يمزق القلوب، ويعذب النفوس، ويبعث اللوعة والأسى في أفئدة الذين يعرفون الرحمة واللين، ويذكرون حين يلهون إن في الأرض قوماً آخرين يعذبهم الجوع، ويلح عليهم البرد، فيقضون ليالي خير منها ظلمة القبور، في الشتاء هذا الجو المظلم القاتم، المرهق المحرق الذي تصوره اجمل تصوير وابلغه تلك الأغنية المشهورة أغنية الإحسان التي ما استطعت أن استقبل الشتاء منذ عرفتها دون أن اسمعها مرة ومرة:

هذا الشتاء يقبل، ومعه حاشيته الحزينة، إن الأشقياء ليألمون كثيراً في الشتاء، إن من الحق علينا أن نحميهم من هذا الشقاء، إن البرد لشديد في دورهم المقفرة!

ص: 6

‌كيف يرقى الأدب

للأستاذ احمد أمين

أشرت في مقال سابق إلى العلاقة بين الذوق العام ورقي الأدب، ووعدت القراء أن أعود إلى هذه العلاقة، أزيدها بسطاً وايضاحاً، وذلك ما أحاوله في هذا المقال.

يذهب بعض المفكرين إلى أن الفنون (ومنها الأدب) ترتقي وتنحط، وتعلو وتسفل، وتتقدم وتتأخر، في الأمم اعتباطاً من غير أن يكون لذلك أسباب. أو على الأقل أسباب ظاهرة، فالناظر لتاريخ الفنون في العالم يرى أن أمة في عصر من العصور قد ترقى في فن من الفنون، كالموسيقى أو الحفر أو التصوير أو الشعر، على حين أن أمة أخرى ترقى في فن آخر من هذه الفنون، ثم بعد رقي عظيم تنحط الأمة في هذا الفن ويحل محل الفن فن آخر. أو لا يحل محله شيء، وتتبادل الأمم ذلك من غير أن يكون لهذا التقدم وهذا التأخر علة مفهومة، وشأن الفنون شأن النابغين، فقد ينبغ النابغ في أمة ولا نعرف لم نبغ وكيف نبغ، وتحاول الأمة أن تخلق نابغين فلا ينخلقوا. بل ترى الأمر عجباً، فقد يوجد النابغة والأمة على أسوأ ما يكون من ضعف في الخلق، وضعف في العقل، ثم ترقى الأمة عقلاً وترتقي خلقاً، وكان مقتضى هذا أن يكثر عدد النابغين فيها ويزدادوا نبوغاً بازدياد الأمة رقياً فينعكس الأمر حتى لتجد الأمة وأعضاؤها قوية ولا رأس، بينما كان لها في حال ضعفها رأس قوي ولا أعضاء، ما ذاك إلا لأن النابغة يوهب ولا يخلق. وقد قال هؤلاء إن الفنون في ذلك ليست كالعلوم، فالرقي في العلوم سبيله ميسور ممهد، وتستطيع الأمة أن تضع لها خطة تسير عليها لترقى في الطبيعة أو الكيمياء أو الرياضة. فإذا هي جدت في ذلك وصلت إلى درجة من الرقي تناسب جدَّها واستعدادها، ولكنها لا تستطيع أن تضع خطة تسير عليها للرقي في الشعر والموسيقى والتصوير، لأن ذلك نوع من الإلهام، والإلهام بيد الله يمنحه من يشاء كيف شاء متى شاء. ولعل الكاتب يشعر بهذا تمام الشعور في نوع ما يكتب، فهو إذا أراد أن يكتب بحثاً علمياً أو يحقق لفظاً لغوياً أو يحرر حادثاً تاريخياً، فهو في اكثر أوقاته مستعد لذلك، ما لم يكن مريضاً أو مهموماً، ولكنه وإذا شاء أن يكتب قطعة فنية أدبية إنشائية لا يستطيع ذلك إلا في حالة نفسية صافية، ومزاج يتناسب والقطعة الفنية التي ينشئها، من حزن أو سرور، وحلم أو غضب، ويصادفه وقت هو كما يسميه الصوفية

ص: 7

- وقت تجلٍّ، يجيد فيه ويغزر ويسمو فيه ويصفو، ويعجب كيف أجاد وكيف غزر، ثم هو يحاول بعد مراراً أن يخلق مثل هذا التجلي، فيفشل ثم يفشل، ويحار في تعليل ذلك، وتعليلها هو ما قاله علماء الكلام (ولم تكن نبوة مكتسبة) هو في العلم مالك وقته يصرفه كما يشاء وهو في الأدب ينتظر الإلهام.

وقالوا إن رقي الأمة في الأدب لا يرتبط بدرجة ثقافتها، ولا برقيها العقلي، ولا بأي سبب من الأسباب، فالأمة المصرية قديما رقيت في فنون النحت والنقش والبناء رقياً بديعاً جعلها من أساتذة العالم في هذا الباب، وخلّفت على مر الأزمان ثروة لا تقوّم، ولا تزال قبلة الفنانين تستخرج إعجابهم وتلهم أذواقهم، والمصريون الآن ليسوا أساتذة في الفن، حتى ولا تلامذة، مع أن أحداً لا يستطيع أن يقول أن المصريين القدماء كانوا أرقى منا عقلاً وأعلى ثقافة. وكذلك يشكو كثير من الأوروبيين من أن الفن (ما عدا الموسيقى) أخذ يتدهور من القرن السادس عشر مع أن انواع العلوم في رقي مستمر. وعقليات الأمم في تقدم دائم، ولو كان الأمر بالعلل والأسباب المنطقية لوجب أن يكون المصريون اليوم أعلى فناً وأكثر نبوغاً، ولكان الفن الأوربي الآن أسمى وأتم منه في القرون الوسطى، فأما وقد عجز المنطق عن تقديم مقدمات ونتائج صحيحة فليس إلا الإلهام، وليس للأمة إلا أن تنتظر ما يأتي به القدر.

هكذا قالوا، أو حالوا أن يقولوا، وبهذا احتجوا، أو حاولوا أن يحتجوا ولكن هل هذا صحيح؟ إن في هذا الرأي غلواً مفرطاً، انه يخرج الأدب عن دائرة الإرادة ويجعله مجرد انتظار للوحي والإلهام، ومن الحق أن للأدب خطة تنتهج كمنهج العلم، وأن من نعده للأدب يجب أن تثقفه ثقافة خاصة كالذي نعده للعلم، ولكن من الحق أيضاً إننا لا نخلق الأديب ببرنامجنا، بل لابد أن تكون قد هيأته الطبيعة ومنحته استعدادات خاصة وكفايات ممتازة، وتهيؤا لقبول الإلهام، ولكنه في كل ذلك كالعاِلم، فبرنامج العلم لا يخلق نابغة في العلم انما يعده، والعالم لابد أن يكون مهيأ للإلهام كالأديب، واكثر المخترعات والمستكشفات في العالم كانت نتيجة الهام اكثر منها نتيجة لمقدمات منطقية وتجارب عملية، وانما التجارب تهيئ للإلهام وتحقق ما يأتي به، وتبين صحيحه من فاسدة وتسمى هذه الإلهامات فروضاً.

ويظهر أن اتجاه هؤلاء الباحثين هذا الاتجاه سببه عقيدة سادت بين علماء الفن وعلماء

ص: 8

الجمال عهداً طويلاً وهي (ان الذوق لا يعلّل) فالناظر ينظر إلى الصورة فيستجملها أو يستقبحها، فإن أنت سألته لم أستجملها أو لم استقبحها لم يحر جواباً، وإذا أجاب أجاب بكلمات منمقة ولكنها جوفاء لا تحوي علة ولا توضح سبباً، وانما هي نفس الدعوى بألفاظ رشيقة جميلة، وإذا رأيت طاقة من الزهر قلت ما أجملها ولكن إن سئلت لم كانت جميلة قلت انها منسقة، انها بديعة الألوان، أن نفسي لترتاح إلى رؤيتها، انها لتسر النظر، وتبهر العقل، وأنت غنى بعدُ عن أن أقول لك إن هذه الألفاظ وجمل قد ترضي البلاغة ولكن لا ترضي المنطق وقد تعرض صورة أو يظهر إنسان امام جمع من النظارة فهذا يستحسنه وذاك يستقبحه، وثالث لا يستحسنه ولا يستقبحه، فإذا سألت من استحسن لم استحسن ومن استهجن لم استهجن، ومن حايد لم حايد، كانت الإجابات مثاراً للعجب وموضعاً للضحك، وقد ترى إنساناً كل عضو من أعضائه على انفراد جميل، ولكنه ليس جميلاً ككل، فما الذي كوّنه هذا التكوين؟ وما الذي وضعه هذا الوضع؟ ولم استحسنته مفرقاً ولم تستحسنه جملة؟ لا شيء في الحقيقة إلا الذوق الذي لا يعلل، وهذا هو الشأن في الأدب، وأظهر مثل لذلك ما فعله عبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة ودلائل الأعجاز، فماذا صنع؟ انه يأتي بالبيت الجميل ثم يقف ويتساءل فيم كان جماله، فما هو إلا أن يصوغ لك جملاً رشيقة فيقول: إن هذا اللفظ يروقك ويؤنسك، وغيره يثقل عليك ويوحشك، وهذا الوضع يبهرك جماله، وهذا النظم يأخذ بلبك ما فيه من نسج وصياغة، ووشي وتحبير، ويعلل سبب ذلك أحياناً بالتقديم والتأخير، وأحياناً بالفصل والوصل ، وكلها علل لا تصلح، فأنا كفيل بأن آتيك بتقديم يحسن، وتقديم مثله يقبح، وفصل يروعك وفصل مثله يسوءك وقد حاول أن تفرق بينهما فلا تستطيع، ثم تسلم سلاحك وتكتفي بأن تقول هذا جميل، وهذا قبيح، وهذا يحسن في ذوقي وهذا لا يحسن، وبذلك تكون قد قطعت شوطاً بعيداً، ثم في آخر الأمر عدت إلى النقطة التي بدأت منها سيرك، وما علوم البلاغة كلها إلا محاولة لتعليل الذوق الأدبي، ولكن هل أفلحت في التعليل؟ إنا لنخشى أن تكون قد دارت حول نفسها، ولم تأت بشيء (لأن الذوق لا يعلل).

وإذا كان الذوق لا يعلل فكل ما ترتب عليه لا يعلل، وإذا كان الفن وليد الذوق فالفن لا يعلل، ولا يعلل كيف ظهر وكيف قوى وكيف ضعف.

ص: 9

هكذا ايضاً قالوا أو يصح أن يقولوا. وهذه الآراء وإن كان فيها شية من الحق ليست حقاً كلها، وليست حقاً في أساسها، وقد بذل بعض العلماء المحدثين مجهوداً حميداً في بيان ما فيها من حق وباطل وحاولوا أن يفلسفوا الذوق، ويفلسفوا الجمال ووضعوا للذوق والجمال علماً وعدوه فرعاً من فروع الفلسفة، وحاربوا الفكرة السائدة:(إن الذوق لا يعلل)، ووضعوا قواعد لتعليله نجحوا فيها أحياناً وفشلوا أحياناً، ولا يزال مجال البحث أمامهم فسيحاً، وكان لهذا الاتجاه الجديد في عالم الجمال أثر كبير في خلق نظريات في الأدب، ووضع أسس جديدة للبلاغة والنقد الأدبي مما ليس هذا موضعه.

والذي أميل اليه أن الفن نتيجة الذوق لا محالة، وأن الذوق يمكن تربيته وترقيته، فالطفل إذا لفتَ نظره إلى الأزهار وجمالها تكوّن فيه الميل إلى حبها والاستمتاع بها، فإذا كان يعدُ أديباً اتصلت حياته الأدبية بها، وظهر في نتاجه الفني هذا الحب وهذا التقدير.

والذوق العام للأمة في قوته وانحطاطه، ليس يظهر فجأة ولا نتيجة المصادفة البحتة، انما هو نتيجة لكل ما يحيط بالأمة من ظروف وأحداث، هو نتيجة النظم السياسية، والحياة الاقتصادية والاجتماعية، والثقافة العقلية وغير ذلك، وإن شئت فقل أن ذوق الأمة هو تعبيرها عما تُقوِّم، فالأمة إذا قَوّمت المناظر الطبيعية تذوقتها، وإذا قومت جمال الأزهار تذوقته، وإذا لم تقوم نظام المجتمعات لم تتذوقه ولم يجرح ذوقها تهويش على محاضر أو مغن أو ممثل والفنان ليس إلا معبراً عن ذوق الأمة، والأديب ليس إلا الموقع للأصوات التي تستلذها الأمة.

ومن أهم الأسباب ضعف الأدب العربي مسألتان تتصلان بهذه الحقيقة: الأولى أن الأدب العربي لا يتصل بالذوق العام للأمة اتصالاً وثيقاً، لأنه يصاغ بلغة غير لغة الشعوب، ولا يتصل إلا بذوق خاص وهو ذوق محترفي الأدب، ومن تكون ذوقهم تكّوناً كلاسيكياً ، ولا أمل في نجاحه إلا أن نعمل بأي شكل كان على ان نصل الأدب أو أكثره بالذوق العام، والثانية تتصل بالأولى. وهي أن الآداب في أكثر الأمم كانت أرستقراطية النزعة يوم كانت القوة في يد الأرستقراطيين، فلما انتشرت الديمقراطية تبعها الأدب، فأصبح ديمقراطي الموضوع، ديمقراطي النزعة، أما الأدب العربي فقد أصبح أرستقراطيا منذ العهد الأموي، وأصبح أهم انواع الأدب إنما ينشأ حول قصور الأمراء والأغنياء، وفي الموضوعات التي

ص: 10

تناسبهم من مديح لهم وهجاء لاعدائهم، فلما عمت النزعة الديمقراطية العالم لم تؤثر في الأدب العربي أثرها في غيره من الأداب، بل ظل محتفظاً إلى حد ما بأرستقراطيته، وهذا قلل من غير شك اتصاله بالذوق العام للأمة. وقد نعود إلى توضيح ديمقراطية الأدب في مقال تال.

على كل حال لا وسيلة لترقية الفن ومنه الأدب إلا بترقية الذوق، وربط الفن به، ولذلك وسائل:

من أهمها التأذين في الناس بصوت عال يهزهم هزاً عنيفاً حتى يشعروا بأن أذواقهم مريضة، لا يشعرون بالجمال كما ينبغي ولا يهيمون بالحسن كما يجب، ولست اعني جمال الوجوه وحدها، ولكن جمال الأزهار، وجمال الطبيعة، وجمال الموسيقى، وجمال الحركة، وجال النظام، وجمال النظافة، وجمال المعاني، ويجب أن لا يقتصر دعاة الفن على الدعوة لجمال الكرنك وأنس الوجود والمساجد الأثرية بل يجمعون إلى الدعوة لجمال الماضي وجمال الحاضر. وهذا أكثر وضوحاً في الأدب فدعوة الأدباء دائماً وقول الأدباء دائماً انما هو إلى الماضي وفي الماضي، وهذا حسن لدرجة ما ولكن يجب أن يقرن به الدعوة القوية أيضاً إلى النظر إلى أنفسنا والقول في أنفسنا.

يجب أن نغير تسعيرة الأشياء، ونضع تسعيرة جديدة لما يدور حولنا، ونضع أمام ناشئتنا قيماً جديدة لما يقع عليه نظرهم، فإذا كانت بيوتنا تعنى بكمية الأكل وتعطيها أكبر قيمة، وجب أن نرفع قيمة الكيفية فنضع قيمة كبرى للأزهار على المائدة ولجمال الترتيب والنظام ولجمال الحديث.

يجب أن نوجه إرادتنا في ترقية الذوق كما نوجه إرادتنا لترقية العلم وترقية النظام السياسي، ونضع للذوق برامج كالتي نضع لبرامج التعليم.

إنا إن فعلنا ذلك تمخض المجتمع عن فنان ماهر، وأديب قادر.

ص: 11

‌حب العرب في مناجم الذهب

للعلامة الشيخ عبد القادر المغربي. عضو مجمع اللغة العربية الملكي

(دَرَى) الصيد يدريه إذا توارى عنه وما زال به حتى أمسكه. فدَرَى هذه بمعنى خَتَل. ولها أخت مشهورة بيننا: وهي (دَرَى المسألة) بمعنى علِمها وأدركها. وبعضهم جعل (دَرَى) هذه من بابة (دَرَى) الصيد، فاشترط في دراية المسألة الوصول اليها بضربٍ من الحيلة.

ولم لا أقول في (أدرك) كما قالوه في (دَرَى)؟ فيكون إدراك المسألة وتعقلها بعد سعيٍ وجهد. كما أن إدراك الصيد واعتقاله بعد جريٍ وجهد.

ولا تقل أيها القارئ أن (دَرَى) بمعنى (خَتَل) لا عهد لنا بها. بلى! فإننا نستعمل حتى في لغتنا تخاطبنا أختاً لها: وهي كلمة (دَارى) من (المفاعلة) ونريد بها أن يُلين الشخص القولَ لآخر، ويسارع إلى هواه، ويتجنب سخطه، فنستعملها بمعنى المجاملة، وإن كان اشتقاقها في الأصل يدل على معنى الخديعة والختل.

اما شاهد (دَرَى) الصيد بمعنى ختله فهو قول الشاعر:

فإن كنتُ لا أدري الظباء فأنني

أدُّس لها تحت التراب الدواهيا

فالشاعر يريد بقوله (أدري الظباء) أنه يختلها ختلاً إذا أراد اصطيادها، حتى إذا عجز عن ختلها وإمساكها باليد، فانه يصيدها بالفخاخ والحبائل يدسّها لها تحت التراب. فالدواهي إنما أراد بها هذه الفخاخ؛ كما أن المراد بالظباء ظباء الوحش. ويبعد أن يكون أراد بها ظباء الأنس: أعني الحسان من النساء بدليل الرواية الأخرى وهي (أدسُّ لها تحت العِضاه المكاويا) و (العِضاه) شجر عظام في البادية، تأوي اليها الظباء عند اشتداد الهجير فتقيل تحتها، وتعطُو إلى أوراقها و (المكاويا) جمع مكواة: آلة الكي المعروفة، وأراد بها هنا الفخاخ نفسها.

ولكلمتي (دَرَى) و (دارى) أختان هما (ادَّرى) الصيد من الافتعال. و (تَدَرَّى) الصيد من (التفّعل) وكلتاهما بمعنى (خَتَل) أيضاً.

أما شاهد (ادَّرى) بتشديد الدال، فبيتٌ من الشعر كلنا ينشده هكذا:

وماذا يبتغي الشعراء مني

وقد جاوزتُ حدَّ الأربعين

وهو لسُحَيْم بن وثيل الرياحي. وصواب الرواية:

ص: 12

وماذا يدَّري الشعراء مني الخ

(يدَّرى) بتشديد الدال من (ادَّرَى) الصيد ختله حتى اصطاده. أي لا يظن الشعراء أنهم قادرون على ختلي وخديعتي بعد أن بلغت سن الكمال والأستحصاف.

هذا شاهد (ادَّرى). أما فعل (تَدَّرى) بتشديد الراء (من التفعُّل) فله شاهد عجب، من أنباء حب العرب، في معادن الذهب. وهو قول شاعرهم:

كيف تراني أذَّرى وادَّرى

ِغرّات (جُملٍ) وَتَدرَّى غِرِرَى

على أن هذا البيت شاهد لكل من الفعلين: (ادَّرى)(من الأفتعال) و (تَدَّرى)(من التفُّعل).

أما (اذَّرى) بالذال المعجمة فليست من معنى الختل في شيء. وإنما هي من تذرية الَحِب ونحوه في الهواء، فيذهب القشر والتراب، ويبقى الحب واللباب.

وأصل (اذَّرى)(اذترى) من الأفتعال. كما أن اصل (اذَّكر) أي تذكر (إذتكر)، وثلاثيه ناقص وأو: يقال ذَرَا فلان حَبّ بيدره. و (ذَرَّاه) من التفعيل، فاذَّرى في بيت الشعر المذكور هو بهذا المعنى.

والفعلان الأخران (ادَّرى) و (تَدَّرى) بالدالين المهملتين هما بمعنى خَتَل الصيد.

وقائل البيت لم يرد أنه ادَّرى وختل ظبيةً من ظباء الوحش وإنما كان غرضه أن يختل ظبيةً من ظباء الأنس وهي (جُمل) الحسناء. فهو يقول: قد كنت أنا و (جُمل) نعمل في تحصيل الذهب وتنقيته من التراب، وكنت أعمل أنا في تذريته وتعريضه لهبوب الريح فيتطاير التراب والشوائب هنا وهناك، وتقع ذرَّات الذهب وقطعه الصغيرة على الأرض.

أما (جُمل) فلها وظيفة غير وظيفتي: وظيفتها (التحصيل). فأنا (المذرِّى) وهي (المحصِّلة).

قال ابن فارس: أصل معنى التحصيل استخراج الذهب من حجر المعدن.

وقال علماء اللغة: (المحصَّلة) كمحدِّثة المرأة التي تحصّل تراب الذهب أو تراب المعدن. ومعنى تحصيله تخليص الذهب منه. والتحصيل في الذهب كالتصويل في الحنطة ونحوها.

وقال ابن بّري: المحصَّلة هي التي تميز الذهب من الفضة.

وجميع أرباب المعاجم لم يذكروا (اسم فاعل) التحصيل إلا بصيغة المؤنث (المحصَّلة) ولا يكادون يقولون (المحّصل) بالتذكير، إلا على سبيل بيان الاشتقاق القياسي. أما (المحصلة) الأنثى فقد أصبح وصفاً غالباً على امرأة ذات عمل خاص بها هو تحصيل الذهب وتنقيته.

ص: 13

ومما يحسن التنبيه اليه أن فعل (اذّرى) التي هي بمعنى التذرية في قول الشاعر المذكور لم يقل أحد من علماء اللغة أن المراد بها تذرية حب الحنطة مثلاً، بل أجمعوا على أن مراد الشاعر تذرية الذهب وتنقيته من التراب فيظهر أن البيت من قصيدة حكى فيها الشاعر حادثة جرت له مع الحسناء (جُمل) وهما يعملان في معدن (حِلِّيت) على وزان (سِكّيت) في بلاد نجد أو غيره من مناجم جزيرة العرب التي كثر التحدث عنها في الآونة الأخيرة.

وكما استفدنا من علماء اللغة أن (المحِّصلات) هن المشتغلات في المعادن، وأن (التحصيل) من أعمال النساء الخاصة بهن أو الغالبة عليهن، استفدنا ذلك ايضاً من شعراء العرب. فقد قال أحدهم:

اإلا رجل جزاه الله خيراً

يدلُّ على محِّصلةٍ تبيت؟

وهذه الدلالة في مغزاها تشبه الدلالة في قول الأخر:

يا من يدلُّ عَزَباً على عَزَبِ

وإذا كانت وظيفة المرأة العربية في معادن الذهب ما ذكرنا، فتكون الحسناء (جُمل) بينا هي منهمكة في تحصيل الذهب وتخليص شذراته، كان الشاعر الذي قال:(كيف تراني أذَّرى وأدَّرى الخ) كان يدَّرى تراب الذهب ويلاعب المذراة أو المنسف بيديه، أما عيناه فكانتا تلاعبان عيني (جُمل)؛ فكان يختل (غرَّاتها) جمع (غرَّة) أي غفلتها، فإذا غَفلت رنا اليها. فيكون بذلك قد ختلها، أي خدعها مذ أوهمها أنه لا ينظر اليها مع أنه ينظر. ولم تكن (جُمل) بأقل كلفاً وحرصاً على مسارقته النظر، فكانت هي في نوبتها أو في دورها (كما يقولون)(تَدَرَّاه) أي تختله وتخدعه فتوهمه أنها لا تنظر اليه، ثم تتحَّين (غِرَره) جمع (غِرة) أيضاً أي غفلته حتى إذا سنحت لها غرة من غرره نظرت اليه معجبةً أو متفرّسة إن كان يصلح لها بعلاً أو لا.

ومحصّل القول أنه كان للعرب معادن ذهب يجتمعون نساء ورجالاً، أحراراً في عملهم، أو مأجورين لصاحب (رأس المال) رومي أو فارسي يشغلهم على حسابهم. وإن النساء كان عملهن التحصيل، أي تنقية ذرّات الذهب وشذراته، بينما الرجال الأشداء كانوا يقومون بأعمال أخرى أشق من أعمالهن كالتذرية وتفتيت الصخور بالمعاول ونحو ذلك.

ويظهر من لهج شعرائهم بذكر (المحصّلات) أنه كان لهن من تجمعهن في ذهابهن إلى

ص: 14

المعدن وإيابهن، أو من زيّهن وشكل لبوسهن، أو من حديثهن ونوع تظّرفهن، كان لهن من ذلك حالة خاصّة لفتت عيون الشبان إاليهن، وحملتهم على ذكرهن وتمني معاشرتهن.

وهذا كما هو الحال في نساء المعامل وفتيات المخازن في أوربا اليوم.

ص: 15

‌الحركة القومية الارلندية منذ نشأتها إلى اليوم

للأستاذ محمد عبد الله عنان.

- 1 -

المسألة الارلندية من أخطر واعقد مشاكل الإمبراطورية البريطانية. وخطورتها اليوم تبدو بنوع خاص، حيث تتأهب ارلنده لتحقيق الغاية التي تعمل لها منذ أحقاب. وهي التحرر من كل فروض التبعية البريطانية وإعلان نفسها جمهورية حرة موحدة، وأيرلندة اليوم من الوجهة الدولية دولة مستقلة ذات سيادة، ونعتها الدولي هو:(دولة ارلنده الحرة) ولكنها ما زالت طبق نصوص المعاهدة التي أنشأتها دولة حرة، تدين ببعض فروض الولاء والتبعية لبريطانيا العظمى.

وإذا كانت ارلنده تعتبر من الوجهة الجغرافية إحدى الجزر البريطانية، وتجاور إنكلترا واسكتلنده مجاورة قوية، فهي مع ذلك وحدة جنسية وتاريخية مستقلة. فالشعب الارلندي لا يمت بنسب أو صلة للشعب الإنكليزي، بل يرجع إلى أصول جنسية أخرى، وله خواصه ومميزاته وتقاليده الخاصة. وله أيضاً لغته الخاصة الجايلقية أو الارلندية القديمة التي غدت لغة رسمية لدولة ارلنده الحرة، وعاطفة الاستقلال قديمة راسخة في الشعب الارلندي. فمنذ القرن الحادي عشر كانت ارلنده مملكة مستقلة قوية تهدد جيرانها بالغزو والسيادة ولكن إنكلترا أدركت منذ البداية خطر استقلال ارلنده وقوتها على استقلالها وكيانها، وعملت الملكية الإنكليزية منذ أواخر القرن الثاني عشر على فتح هذه الجزيرة القوية واستعمارها، فغزاها هنري الثاني وافتتحها (1172م) وبدأ الإنكليز باستعمارها؛ وتوالت حملات ملوك إنكلترا على الجزيرة الثائرة لاستقلالها. ولكن ارلنده لم تهدأ لها من ذلك الحين ثائرة. وتاريخ ارلنده حافل منذ القرن السادس عشر بأخبار هذه الثورات القومية العديدة التي كان الشعب الارلندي يضرم لظاها من آن لآخر طلباً لحريته واستقلاله، والتي كانت إنكلترا تسحقها دائماً بمنتهى الشدة والقسوة. وكانت إنكلترا تحكم ارلنده طوال هذه القرون بيد من حديد، ولكن لم تفلح قط في كسب محبة الشعب الارلندي أو التأثير في عواطفه الوطنية وصرفه عن طلب استقلاله.

ولما رأت السياسة الإنكليزية بعد عدة قرون أن وسائل الشدة فشلت نهائياً في حكم هذا

ص: 16

الشعب العريق في وطنيته واستقلاله جنحت إلى نوع من اللين والمودة. وفي سنة 1800، أصدرت الحكومة البريطانية قانون الاتحاد الارلندي، وبمقتضاه اعتبرت ارلنده جزءاً من (المملكة المتحدة)(بريطانيا العظمى) تمثل في البرلمان البريطاني بثمانية وعشرين عيناً وأربعة أساقفة، ومائة عضو في مجلس العموم. وتدفع ارلنده للخزينة البريطانية مبلغاً معيناً. ولها حرية التجارة، وحرية الاحتفاظ بنظمها القضائية والتنفيذية الخاصة. وكان لهذه الخطوة أثرها في تهدئة الشعب الارلندي. ولكن الحركة الاستقلالية لبثت قوية تتحين فرص العمل. ولم يصف قط كدر العلائق بين بريطانيا وارلنده. على أن حركة قومية جديدة معتدلة ظهرت: قوامها المطالبة بالحكم الذاتي أو الحكم الداخلي لارلنده وقويت هذه الحركة في أواخر القرن التاسع عشر بقيادة الزعيم الوطني بارنل، وغلب هذا الاتجاه في الحركة الوطنية الارلندية حيناً. وحاول حزب الأحرار أن ينتهز هذه الفرصة المعتدلة لتحقيق الأماني الارلندية وكسب صداقة الشعب الارلندي، فقدم غلادستون رئيس الحكومة يومئذ إلى البرلمان مشروع الحكم الذاتي الارلندي، ولكنه رفض مرتين (سنة 1886 و 93)، وعاد الأحرار لاستئناف السعي قبيل الحرب، فقدم مستر اسكويث رئيس الوزارة مشروع الحكم الذاتي الارلندي وصودق عليه سنة 1914. ولكن نشوب الحرب الكبرى حال دون تنفيذه. وهنا تبدأ مرحلة جديدة في حركة الاستقلال الارلندية.

- 2 -

وفي بداية الحرب بذل الزعماء الارلنديون وعلى رأسهم (جون ردموند) كل جهد لمعاونة بريطانيا العظمى، وتطوع كثير من الارلنديين في الجيش البريطاني. ولكن الأحقاد القومية القديمة ما لبثت أن اضطرمت، ووثبت الحركة الاستقلالية مرة أخرى، وقامت ثورة أيرلندية جديدة في سنة 1916 كان مدبرها حزب (السين فين) الجمهوري الذي أسس قبل ذلك بقليل ليعمل على استقلال ارلنده، فأخمدها الإنكليز بشدة، وفي نهاية الحرب توفي جون ردموند، فزادت علائق البلدين سوءاً واضطراباً، وقامت الجمعيات السرية الاستقلالية في جميع أنحاء ارلنده، وبرز حزب السين فين في الطليعة.

وهنا نقف قليلاً للتعريف بحزب السين فين هذا الذي غدا روح الحركة القومية الأرلندية، وكتب لنفسه في سير الجهاد الوطني صحفاً خالدة. ففي سنة 1915 أسس فريق من

ص: 17

الزعماء الارلنديين حزباً أو هيئة وطنية جمهورية باسم (السين فين) ومعناها (نحن فقط)؛ وغايتها تحرير ارلنده تحريراً مطلقاً، وفصلها عن بريطانيا العظمى فصلاً تاما. وكان شعار هذه الحركة منذ البداية الجرأة، والتضحية. فأعلن (السين فين) انهم (الحكومة المؤقتة للجمهورية الارلندية) وانشئوا قوة وطنية أطلق عليها (المتطوعة الارلنديون) ونظموا ثورة سنة 1916. ولبث (السين فين) أثناء الحرب يناصبون بريطانيا العداء. ولكن إنكلترا استمرت أثناء الحرب تحكم ارلنده بمنتهى الشدة، وتطارد الحركة القومية بمنتهى العنف. ولكن دعوة (السين فين) ما زالت تزداد قوة وانتشاراً حتى عمت سواد الشعب الارلندي. وظهرت قوة الحركة في انتخابات سنة 1918 إذ سقط معظم الزعماء القدماء أنصار فكرة التوفيق والحكم الذاتي؛ وفاز السين فين فوزاً باهراً. ورأت السياسة البريطانية نفسها في مأزق حرج لأن السين فين رفضوا مشروع الحكم الذاتي بقوة وتمسكوا بالاستقلال التام، وانشئوا (حكومة الجمهورية الارلندية) والبرلمان الارلندي الوطني.

وهنا تدخل المسألة الارلندية في طور جديد، وتضطر السياسة الإنكليزية مرة اخرى للبحث عن سبيل لإرضاء ارلنده، أو بعبارة أخرى لتخدير حركتها القومية. وكان الحكم يومئذ ما يزال في يد الأحرار، وهم الذين سعوا إلى حل المسألة الارلندية بمنح الحكم الذاتي لارلنده. ففي سنة 1920 اتخذت الحكومة البريطانية برآسة لويد جورج في المسألة الارلندية خطوتها الجديدة فأصدرت (قانون الحكومة الارلندية) بمنح الاستقلال الذاتي لارلنده الجنوبية واستثنيت ألصتر أو ارلنده الشمالية لاختيارها البقاء مع بريطانيا العظمى.

ولكن السين فين رفضوا هذا القانون ورفضه البرلمان الارلندي الوطني (الديل ايران) بقوة واضطرمت ارلنده بثورة جديدة، وشهر السين فين على إنكلترا حرباً عنيفة، ونظموا العصابات المسلحة في أنحاء ارلنده، وتوالت حوادث الفتك والاغتيال على كبار الإنكليز والموالين لهم في ارلنده، وأبدى رجال السين فين بسالة وتضحية نادرتين. وقابل الإنكليز الاعتداء بمثله وارتكبت حوادث قسوة عديدة، وهلك من الفريقين في تلك الحوادث عدد من الزعماء والرجال البارزين. ولم تبد الحركة الارلندية قط بمثل هذا العنف، ورأت الحكومة البريطانية رجالها وجندها يسقطون تباعاً في ارلنده، ورأى فريق من الزعماء الارلنديين

ص: 18

ان العنف صائر بالبلاد إلى الخراب والدمار، فاتفق الفريقان بعد نحو عام من تلك الحرب المضطرمة على عقد هدنة يحاولان خلالها التفاهم والمفاوضة، فهدأت البلاد حيناً، وعقدت عدة مؤتمرات للمفاوضة بين ممثلي السين فين وممثلي إنكلترا، وانتهت في ديسمبر سنة 1921 بعقد معاهدة عرفت بمعاهدة لندن؛ وبمقتضاها اعترفت إنكلترا باستقلال ارلنده الجنوبية ومنحها نظام الدومنيون (الأملاك المستقلة) مع احتفاظ بريطانيا ببعض رسوم السيادة على ارلنده: كفرض يمين الطاعة للعرش، وجعل استئناف الأحكام النهائي امام مجلس الملك الخاص، وتعيين حاكم يمثل التاج. ووافق البرلمان الارلندي (الديل) على المعاهدة في يناير سنة 1922، ولكنها لم تصادف قبولاً من الجناح الجمهوري المتطرف الذي يقوده الزعيم دي فاليرا، فرفض المعاهدة واستقال دي فاليرا من رآسة البرلمان احتجاجاً عليها، فخلفه آرثر جريفث في رآسة البرلمان وأتم مع زميله ميخائيل كولنس المفاوضات مع إنكلترا. وعلى اثر عقد المعاهدة انسحبت القوات البريطانية من ارلنده الجنوبية، وأقيمت حكومة مؤقتة برآسة ميخائيل كولنس، وقامت دولة ارلنده الحرة طبقاً لنصوص المعاهدة. وأجريت في يونيه انتخابات جاءت بأغلبية في صف المعاهدة، ولكن الجناح الجمهوري المتطرف لبث على موقفه يعارض المعاهدة بكل شدة، ودب الخلاف في صفوف (السين فين)، واخذ كل فريق يرمي الأخر بالمروق والخيانة، واستعملت الحكومة الجديدة العنف في قمع خصومها، فرد هؤلاء بالعنف والعدوان، واغتيل كولنس في أغسطس وتوفي جريفيث قبله بأيام، فتولى الزعيم كوزجريف رآسة الجمهورية، وشدد على الجمهوريين ووضع الدستور الارلندي الجديد في دائرة معاهدة لندن، ونص على أن الشعب الارلندي هو مصدر جميع السلطات، وعلى أن البرلمان قوامه الملك ومجلسان هما (الديل) ومجلس الشيوخ، وعلى أن اللغة الارلندية (الجايلقية) هي لغة الدولة. وأنشئ جيش ايرلندي وطني. وعين الزعيم الارلندي هيلي حاكماً عاماً (ثم خلفه الزعيم ماكنيل) ليمثل حقوق التاج.

- 3 -

استطاعت السياسة البريطانية ان تجعل من المعاهدة الارلندية أداة لتمزيق الحركة القومية الارلندية، وشطر السين فين إلى فريقين خصيمين وفق ما قدمنا، ولبث فريق الأغلبية وهو

ص: 19

الجناح الذي قبل المعاهدة وعمل لتنفيذها قابضاً على ناصية الحكم بزعامة مستر كوزجريف رئيس الحكومة الارلندية مدى أعوام، ولبث فريق الأقلية بزعامة مستر دي فاليرا موضع الاضطهاد والمطاردة، وسارت دولة ارلنده الحرة في الطريق الذي رسمته معاهدة لندن، والتحقت بعصبة الأمم منذ عام 1923. ولكن حزب السين فين الجمهوري لم يفتر عزمه ولم يتحول عن سياسته، وكان الاضطهاد الذي يلاقيه من عوامل تقويته وازدياد أنصاره، وجاءت الانتخابات سنة 1927 مؤيدة لقوته ونفوذه، فنالت الحكومة فيها أقلية، ونال الجمهوريون أغلبية، ولكن الرئيس كوزجريف استطاع ببعض التدابير السياسية والبرلمانية أن يحتفظ بالحكم أعواما أخر. وفي فبراير سنة 1932 حصل الجمهوريون على أغلبية جديدة، فانسحب كوزجريف، واستولى الجمهوريون بزعامة دي فاليرا على الحكم؛ وبدأ عهد جديد من النضال الرسمي بين إنكلترا وارلنده هو الذي نشهده اليوم.

ويجب أن نذكر كلمة عن دي فاليرا زعيم ارلنده الحالي. فقد ولد ايمون دي فاليرا سنة 1882 في نيويورك من أب إسباني وأم أيرلندية، ودرس في معاهد ارلنده، وتخصص في العلوم الرياضية ونال عدة إجازات جامعية، وتولى التدريس حيناً، ثم انتظم في الحركة الوطنية وخاض غمار السياسة، وانضم إلى حزب السين فين، وظهر في زعامته بسرعة، وكان من زعماء ثورة سنة 1916، فأسر وقضي عليه بالإعدام وخفف الحكم إلى الأشغال الشاقة المؤبدة. ثم أفرج عنه عند صدور العفو العام في سنة 1917 وعاد فتزعم حركة السين فين وأصبح قائدها ورأسها المدبر، وانتخب رئيساً (لجمهورية ارلنده) فاعتقل ثانية، ثم فر في سنة 1919 إلى أمريكا وعاد بعد عامين إلى ارلنده، واشترك في مفاوضات معاهدة لندن، ولكنه لم يقبل النتائج التي انتهت اليها؛ وشهر الخصومة على المعاهدة منذ عقدها؛ وأعلن الثورة على دولة ارلنده، فقبض عليه في أغسطس سنة 1923، وافرج عنه بعد عام، فعاد إلى النضال السياسي، ودخل البرلمان سنة 1927 على رأس كتلة جمهورية قوية، وتولى رياسة الحكومة الارلندية منذ أوائل سنة 1932.

وأبدى دي فاليرا مذ قبض على ناصية الحكم عزمه على تنفيذ البرنامج القومي الجمهوري، وخلاصته العمل على تحقيق الاستقلال التام لارلنده الموحدة في ظل النظام الجمهوري؛ وإلغاء كل ما فرض عليها من رسوم التبعية البريطانية. ذلك لأن معاهدة لندن شطرت ارلنده

ص: 20

إلى شطرين: ارلنده الشمالية أو ألصتر وأعمالها، وقد بقيت في حوزة بريطانيا العظمى؛ ويبلغ سكانها مليون وربع نسمة؛ وتشمل أغنى بقاع ارلنده وبها أهم المراكز الصناعية وهي بروتستانتية المذهب. وارلنده الجنوبية وهي التي تناولتها المعاهدة وجعلتها دولة حرة؛ ويبلغ سكانها ثلاثة ملايين؛ وهي بلد زراعي؛ وتسودها الكثلكة. فمعاهدة لندن تمزق الوحدة الارلندية في الواقع. ولكن يرد على ذلك أن ارلنده الشمالية قد استعمرها الإنكليز منذ بعيد وهي تود البقاء كجزء من المملكة المتحدة، وهذا ما لا يسلم به الشعب الارلندي.

واما فروض التبعية البريطانية التي يراد إلغاؤها فهي: (1) يمين الولاء والطاعة للتاج البريطاني (وقد ألغي، بالفعل بقانون أصدرته حكومة دي فاليرا) و (2) استئناف أحكام المحكمة الارلندية العليا إلى مجلس الملك الخاص و (3) حق الحاكم العام في تحديد الأبواب التي تنفق فيها الأموال العامة، وحق التصديق على القوانين. وأخيراً يراد إلغاء الديون الزراعية التي تلزم ارلنده بأدائها لإنكلترا، وتراها ارلنده ظالمة مرهقة ولا يحق أداؤها لأن الأراضي التي تؤدى عنها ملك للشعب الارلندي.

وقد شهدنا الفصل الأول من هذا النضال الذي تشهره اليوم ارلنده على بريطانيا العظمى حينما قدم دي فاليرا قانون إلغاء يمين الطاعة إلى البرلمان الأرلندي، وامتنع عن أداء الأقساط الزراعية وقام بين البلدين من جراء ذلك جدل سياسي عنيف، واتخذت بريطانيا اجراءات اقتصادية شديدة ضد ارلنده؛ وعمد دي فاليرا إلى المثل. واليوم نشهد فصلاً آخر؛ فان دي فاليرا يريد إعلان الجمهورية في ارلنده؛ وقد وجه بالفعل مذكرة رسمية بذلك إلى الحكومة البريطانية يطلب فيها إيضاح موقفها فيما لو تم هذا الأجراء، فردت عليه الحكومة البريطانية بأنها لا ترى إبداء الرأي في احتمالات لم تقع وتستبعد وقوعها لأنها تكون خرقا للمعاهدة المعهودة.

ولكن دي فاليرا ماض في طريقه، مصر على سياسته، وإن كان يجد معارضة لهذه السياسة من فريق كوزجريف، وفريق الجنرال (أو دوفي)(القمصان الزرقاء) اذ يخشيان عواقب هذا العنف على مصير ارلنده ومصالحها الأقتصادية، وهذه المصالح أشد ما تكون ارتباطاً ببريطانيا العظمى وتوقفاً عليها.

فهل ينجح دي فاليرا في تحقيق برنامجه القومي المتطرف، وإنشاء ارلنده الجديدة مطلقة

ص: 21

الاستقلال والحرية في ظل النظام الجمهوري؟

هذا ما سيكشف المستقبل القريب عنه.

ص: 22

‌ذات القميص الأزرق أو فتاة الريف

عيني على رمانتي صدر!

أو مهجتي يا عين لا أدري

يا للبروز أدق ما وجبا

يا للحجاب أرق ما حجبا!

أفذاك غصن أثمر العجبا؟

أم أنت يا قرويةٌ تسري

مثل النسيم على قرى مصر

هذا جمالك صنعه اللهِ

آهٍ لفتنة سحره آهِ!

يا سمرةً في وجهك الباهي!

سحرت عيون البيض والسمر

وهفا الجميع للونكِ (الخمري)

هذا قوامكِ يا أبنة الريف

أخزى قدود الخرَّد الهيف

في إسكندرية أو بني سويفِ

أو في (الزمالك) أو على الجسر

والنيل تحت عيوننا يجري

هذا قميصك ساذج حال

لون السماء بلونه الغالي

عند الضحى أو في الدجى الخالي

بنت الطبيعة أنت والدهر

والشمس والجنات والنهر

أغرى قميصك فنَّ (مختار)

فبرزت فيه بثوبك العاري

يمناكِ توقظ ذلك الضاري

بو الهول كان كمُغرَق البحر

فإذا بكفك طلسم السحر

ما عبقرية حسنك البادي!

شبه المهاة وأنت في واد

تصحين قبل الطائر الشادي

وعلى ضفاف الترعة الخُضر

تردين بين عرائس الفجر

لو تعلمين لكدت تلقينا

شغفاً بنفسك بين أيدينا

كالورد يعتنق الرياحينا

والأختُ عند مغيب القبر

ألقت بروعة ذلك الصدر

لكننا نهفو اليك هوى

لا الطرفُ زاغ ولا الفؤاد غوى

يا للجوى إن كان ذاك جوى!

أو يا لصَون الطرف عن عهر!

حاشا لنا وحيائك العذري

ص: 23

يا بنت (قاسم) حيثما كنتِ

أنت الوحيدة بنته أنتِ

ما عز قط سواكِ من بنتِ

لم تسفرين وأنت كالبدر؟!

علّمت حتى ربة الخِدر

ماذا أصابك حين أسفرت؟

جارت عليك الأرض أم جرتِ

أم من سفورك قد تأخرت؟

أم أخرتك طبيعة الخير؟

وغريزة في العيش كالطير

يا أختَ أين شعاعك الماضي؟

وحمية خلقت لإنهاض؟

لم يبقى منها غير أنقاض

من أطفأ اللهب الذي يسري

في الليل مثل محلِّق النسر؟

أيزيس أنتِ وأنتِ نفريتي

لكِ في ذرى التاريخ ما شيتِ

يا جذوةً من غير كبريتِ

دفنوكِ تحت ركائم الغمر

حتى نسينا حمرة الجمر

يا أختَ هبّي فانفضي عنك

رَجَماً أحالك حالة الضنكِ

سيبث في أرواحنا منكِ

فإذا أعيدت شعلة الصدر

فهناك حقَتَ ليلة القدر

كوني فتاة الغاب والأسدِ

يا بنت مصر الروح والجسدِ

وتضرمي فينا إلى الأبدِ

شعلاً تفك سلاسل الأسر

وتنير فوق الكوخ والقصرِ

قليوب. ابراهيم ابراهيم علي المحامي

ص: 24

‌أمريكا بين الحظر والإباحة

في اليوم الخامس من هذا الشهر ختمت في أمريكا تلك المحاولة الخطيرة التي أطلقوا عليها بحق (التجربة النبيلة): أي محاولة تحريم الخمور في جميع الولايات المتحدة بأمريكا، والأن ونحن نشهد ختام هذه التجربة يجمل بنا أن نقف لحظة لنفكر في أمرها، كيف بدأت وكيف انتهت، فإننا ونحن نعيش في أقطار إسلامية يحرم دينها شرب الخمر ويحظر بيعها وشراءها، لا يجوز لنا أن نمر بهذا النبأ الخطير كأنه أحد الأنباء العادية. بل يجمل بنا أن ننعم النظر فيه قليلا.

ليست الولايات المتحدة دولة كسائر الدول، بل يميزها أمور عديدة:

منها حجمها الهائل، فانها تكاد تعدل أوربا في المساحة. وهي وحدها

عالم قائم بذاته. ثم سكانها، وهم يربون على مائة وعشرين مليونا من

الناس، أكثرهم يمت إلى أصل سكسوني، ولكن بينهم جماعات كبيرة

من الاسكندنافيين واللاتين والسلاف وخليط من شعوب الأرض جميعاً،

هذا عدا الزنوج الذين يزيدون على عشرة الملايين، وقد جيء بهم فيما

مضى عبيداً لكي يعملوا في الحقول، ثم أصبحوا اليوم (أحراراً) لهم من

الوجهة النظرية، ما لغيرهم من الحقوق.

ثم هنالك أمر آخر يميز نظام الحكم في الولايات المتحدة، وهو أن لكل من الثماني والأربعين ولاية التي تتألف منها الدولة نصيباً كبيراً من الاستقلال الداخلي، ولهذا كانت في الولايات المتحدة دائماً سلطتان: السلطة المحلية ومركزها عاصمة كل ولاية، والسلطة الاتحادية ومركزها واشنطون. وهي التي تدير الأمور التي تهم الدولة كلها. ونظراً لحرص كل ولاية من الولايات على حقوقها واستقلالها، فان دستور أمريكا يوضح تماماً ما هو داخل في اختصاص الحكومات المحلية، وما هو داخل في اختصاص الحكومة الاتحادية كل هذا لابد لنا من تذكره كي نستطيع أن ندرك الصعوبة التي كابدتها حكومة أمريكا من أجل تنفيذ قانون التحريم. فان هذا القانون بقي حبراً على ورق، لأن معاقبة المجرمين من أجل جرائم التهريب والاتجار في الأشياء المحرمة كان من اختصاص كل ولاية وليس من

ص: 25

اختصاص الدولة. وهذا يفسر لنا أن مجرما خطيرا مثل آل كابوني لم تستطع الدولة أن تحاكمه من أجل الجرائم العديدة التي ارتكبها في سبيل تجارة الخمور المحرمة، بل حاكمته من أجل تقصيره في دفع ضريبة الدخل. اذ كان من اختصاص الدولة أن تحاكمه من أجل هذا الجرم الخفيف نسبياً، لا من أجل الجرائم الكبرى التي هي من اختصاص الولاية.

ولابد لنا أن نتساءل عن المؤثرات والقوة التي دفعت بالولايات المتحدة نحو التحريم، اذ ليس من السهل أن نفهم هذا الانقلاب الهائل في الرأي العام، فان الأمة التي نادت بالحظر الشديد في سنة 1919 هي بعينها التي تنادي اليوم بالإباحة. إن هذا القانون لم يفرضه الحكام على الناس فرضا، بل لقد فرضته الأمة على نفسها بعد انعام النظر وطول التجربة. وقد كانت في الولايات المتحدة قوى كثيرة تعمل بنشاط لتحريك الرأي العام وتحويله نحو التحريم. وهذه القوى كانت موجودة دائماً تنتظر الفرصة الملائمة، وكان لها تأثيرها قبل سنة 1919. ونرى هذا واضحاً في أن اكثر من الثلاثين ولاية قد حرمت الخمر من تلقاء نفسها قبل سنة 1919. ولكن هناك فرق كبير بين أن يحرم الشيء في كل ولاية على حدة، وبين أن يحرم بقانون من الدولة؛ ففي الحالة الأولى تراعي كل ولاية مصلحتها الخاصة ويسهل عليها تعديل وإلغاء الأحكام، ويمكن لمن لا يرضيه قانون أن ينزح إلى ولاية مجاورة (وهذا هو الحال مثلاً فيما يتعلق بقانون الطلاق). أما قانون الدولة فيفرض على جميع الولايات بمجرد موافقة ثلثيها. فيفرض على الراغبين والكارهين على حد سواء، ويصبح كل فرد ولا مفر له من الإذعان أو العصيان، ثم تجرد جميع قوى الدولة لتنفيذ هذا القانون بكل ما تقدر عليه الدولة من الشدة والصرامة.

ولهذا كله فان تحريم ثلاثين ولاية للخمور لم يكن له تأثير ذو شأن، ولكن التحريم في الدولة كلها كان حادثاً ذا شأن خطير.

كان اهم الراغبين في التحريم رجال الصناعة في الشمال، ورجال الزراعة في الجنوب. فالأولون (ويمثلهم المستر هنري فورد) قد رأوا أن الخمر تذهب بقوى العمال وتضعف صحتهم وتقلل من جهودهم، فلا يستطيع صاحب المعمل أن يحصل من عماله على الجهود التي يرجوها في مقابل الأجور التي يدفعها. أما أصحاب الزراعة في الجنوب فيعتمدون في زراعتهم على الزنوج، وهؤلاء كانت تذهب الخمر بألبابهم وتقعدهم عن العمل، وتتركهم

ص: 26

في حالة زرية. والزنجي أقل قدرة على ضبط نفسه والوقوف في الشراب عند حد. وكان هناك غير هؤلاء جماعات من محبي الخير الذين يكرهون الخمر لذاتها، ويريدون أن يخلصوا الناس من شرورها، مؤمنين بأن في هذا رفعاً لشأن بلادهم، وإعلاء لكلمتها، ويمثل هذه الجماعة المستر جون ركفلر الصغير وزمرته. وقد انتشر في الولايات المتحدة قبل التحريم نوع من الحانات أطلقوا عليها اسم الصالون قد أصبح على مضى الزمن بؤرة فساد وموبقات. وقد كبر بغض الناس لهذه الصالونات حتى دفعهم إلى المطالبة بالتحريم. مع أن إبطال هذه الأماكن قد لا يستدعي هذا العلاج الصارم.

بذلت هذه الجماعات كلها جهوداً جبارة ومالأ كثيرا من أجل استمالة الرأي العام. وساعدتهم الحرب العامة التي استدعت تحريم الخمر في بعض الولايات، والتقليل من شربها في البعض. وتم لهم النصر في يناير سنة 1919 حين حرمت الخمر في جميع الولايات بإجماع 46 ولاية من الثماني والأربعين التي تتألف منها الدولة، وحرم بيعها وصنعها والاتجار بها واستحضارها من الخارج. وجهزت الدولة جيشا هائلا وأسطولاً قوياً لتنفيذ هذا القانون. الذي أعطى شكل تعديل في الدستور وأطلق عليه اسم التعديل الثامن عشر، ومن الغريب أن دستور الولايات المتحدة لم يعدل يوما بمثل هذا الإجماع وهذا الاقتناع وتلك الأكثريات الساحقة.

لقد وصفت الولايات المتحدة بأنها معمل هائل للتجارب الاجتماعية، ولكن لا يعرف في تاريخ العالم كله تجربة اجتماعية ضخمة كهذه التي أقدمت عليها أمريكا في تلك السنة. فان المعمل الذي أجريت فيه هذه التجربة ليست بلدا صغيرا كفنلنده، بل دولة مساحتها تزيد على ثلاثة الملايين من الأميال، وسكانها يربون على المائة والعشرين مليوناً مختلفي الجنس والثقافة والميول. وان البلاد الإسلامية نفسها هي أولى من أي بلد في العالم بإجراء مثل هذه التجربة لم يعرف عنها يوماً أنها حاولت بذل مثل هذا الجهد في أي عصر من العصور من أجل تنفيذ أحكام الشريعة.

ولهذا دهش العلم كله يوم أقدمت الولايات المتحدة (حرة مختارة) على هذه التجربة الخطيرة. وإننا اليوم (وقد أصبحنا عقلاء بعد أن وقعت الواقعة) نستطيع أن نقول أنه كان الأفضل أن تترك مسألة الإباحة والتحريم إلى كل ولاية تتصرف فيها بما تشاء بدلا من أن

ص: 27

تصبح مسألة الدولة بأجمعها، ولكن في سنة 1919 لم يكن من شك في أن أكثرية الأمة في جانب التحريم. وقد أقدم نحو ثلاث وثلاثين ولاية على تحريم الخمر.

على كل حال سارت التجربة في طريقها أول الأمر، وأنظار العالم كله تتطلع إلى أكبر دولة في العالم، وهي تحاول اكبر تجربة اجتماعية في التاريخ. وكان الكثير من الناس يبدي عطفهم على أمريكا وكأنما الكل واثق من نجاح التجربة في النهاية برغم ما قد تلاقيه من الصعوبات، وجعل بعض المصلحين يحلمون بان سنّّة التحريم ستنتشر من الولايات المتحدة إلى سائر الأقطار.

ولكن كانت هنالك قوى تعمل للشر، وإن لم يتوقع احد أن سيكون لها كل هذا الخطر، فنهضت هذه القوى الشريرة لتنظيم الاتجار بالخمور بكافة انواعها؛ مما قد يصنع خلسة في داخل البلاد أو يستورد من الخارج. وسرعان ما أنشئت أساطيل لا عمل لها غير هذه التجارة المحرمة؛ واتسع نفوذ هذه الجماعات حتى أصبح لها نفوذ كبير (بل أحياناً النفوذ الأكبر) في كل ولاية، حتى كانت لها الكلمة النافذة في تنصيب رجال الحكم. وانتشر الأجرام بين هذه العصابات ومن يعترضها في أعمالها، وكذلك فيما بين العصابات المتنافسة نفسها؛ وأصبح أمرها حديث النوادي والصحف وموضوعاً للصور السينمائية؛ وبطريق العدوى تجاوز الأجرام دائرة تجارة الخمور، إلى الأجرام في نواح أخرى كالاختطاف والسلب والنهب وما إلى ذلك.

بات من الواضح للعالم كله أن تلك التجربة الهائلة قد فشلت فشلاً تاماً. فأن الحصول على الخمر برغم التحريم كان أمرا في غاية السهولة. ولئن كانت الحانات القديمة (الصالونات) قد أغلقت، فقد نشأ مكانها حانات خفيفة اشد خطرا واكثر وزرا. وهذه أطلقوا عليها اسماً غريباً وهو ويؤكد أكثر الكتاب أن شرب الخمر في زمن التحريم كان أوسع انتشاراً مما كان عليه قبل التحريم.

وبرغم فشل التجربة الذي كان واضحاً لكل ذي عينين، بقي في الولايات المتحدة جماعات كثيرة تنادي باستمرار التحريم، وبتجديد المراقبة والضرب على أيدي المجرمين. غير أن هذه الجماعات أخذت تضعف على مضي الزمن. حينما انتشرت في طول البلاد وعرضها جرائم منكرة من نوع اختطاف طفل لندبرج، فأيقن الناس أن التحريم قد أوقع البلاد في

ص: 28

حال من الفوضى والاختلال هي شر من الخمر التي أريد تحريمها.

ومن أكبر مظاهر التحول في الرأي العام ذلك الخطاب الشهير الذي كتبه المستر جون ركفلر الصغير في صيف سنة 1932 يبدي فيه أسفه الشديد لأنه (وهو من اكبر دعاة التحريم) مضطر إلى الاعتراف بان التجربة النبيلة قد فشلت فشلاً محزناً.

وهكذا أخذ الرأي العام يتحول حتى استطاع المستر فرانكلين روزفلت أن يستميل الأمة إلى صفه، حينما أعلن في شجاعة وصراحة أن من مبادئه إلغاء التحريم. ومنذ انتخب للرآسة في أوائل هذا العام وهو يسير بالبلاد نحو الإلغاء حتى تم له في أول هذا الشهر ما أراد، بأن حصل على موافقة ست وثلاثين ولاية على إلغاء التعديل الثامن عشر.

والأن وقد انتهى التحريم، فما عسى أن يكون المستقبل؟

إن الذين نادوا بإلغاء التحريم، لم يفعلوا ذلك برغبتهم في شرب الخمر وحبهم لها؛ بل أن أكثرهم قد فعل ذلك أملاً في أن الإباحة تقضي على تلك الشرور التي ولدها التحريم. فتنتهي بانتهائه. ولكن من الصعب أن يتنبأ المرء بشيء. فأن بضع عشرة سنة تقضيها عصابات الأجرام في نشر الأجرام والفساد في جميع أنحاء البلاد، لا يتصور أن تنتهي آثارها في عشية أو ضحاها. ومما لاشك فيه أن البلاد اليوم في حال انتقال شديد الخطورة فقد تفيق بسرعة من تأثير هذه السنين العصيبة، وقد تبقى تحت ظلها القاتم زمناً طويلاً، خصوصاً إذا ذكرنا أن عدد الذين يشربون الخمر قد ازداد ولم ينقص أثناء التحريم. وأن الإباحة الجديدة لابد ان تؤدي زمنا ما إلى الإسراف في أمر محبوب كان ممنوعا فاصبح مباحا. ومن غير شك أن الحكومة تعزي نفسها بانها ستجني من الإباحة ضرائب تقدر بنحو خمس مائة مليون دولار. (أي نحو مائة مليون جنيه).

على كل حال لا يستطيع المرء أن يملك نفسه من الأسف الشديد على فشل هذه التجربة الشريفة التي لم تكن ترمي إلا إلى اشرف المقاصد واسماها وهو إعلاء شأن الإنسان وإسعاده.

م. ع. م

ص: 29

‌وحدة الوجود.

. .

كثير من المناحي الفكرية، والمذاهب العقلية، والطرائق الرياضية، ترمي إلى (وحدة الوجود) وكلها تتباين في طرق التفكير، ونهج الفلسفة، ولكنها متفقة مجمعة على حقيقة واحدة، تلك الحقيقة هي أنه بين غير المتناهي والمتناهي علاقة يتأدى بها إلى اتحاد الطرفين.

وكما اتفقت تلك الفرق في اختلافها على هذه الحقيقة، اتفقت في وجهة النظر التي سارت بهم على ضوء المقدمات حتى انتهت بهم إلى هذه النتيجة، فهم متحدون في المصدر والمورد مختلفون في الطريق الذي بينهما.

فالكثرة الغالبة من فلاسفة الصوفيين في الإسلام يعتبرون أن الحق موجود قبل كل موجود (وهذا صحيح) ثم يقولون وقد وجدت الكائنات بعد أن لم تكن، ولما كان غير معقول أن يوجد شيء من لا شيء لزم بالبداهة أن يكون الوجود هو عين الموجود، وأن ليس وجود إلا وجود الحق يصور أحوال ما هي عليه الكائنات، فالله ظاهر في المظاهر، والمظاهر هو على ما هي عليه.

وهذا بعينه هو ما انتهى اليه (هيراكلت) الفيلسوف اليوناني إذ استنتج أن الكائن الإلهي يتخلل صور الأشياء المتناهية، والمتناهي نفسه لا يوجد إلا في الله.

وتكاد تكون عين ما وصل اليه (تولاند) أول من أطلق اسم الاتحاد في أوربا. حيث زعم أن العالم ليس منفصلاً عن الله الأ في وهمنا فقط.

وقديما تساءل الناس من اين جاءت الروح، ومم نشأ الجسم؟ ثم قالوا إذا كان واجب الوجود غير متناه وجب إلا يوجد شيء خارجاً عنه، لأن غير المتناهي يستغرق كل موجود.

وإذا تقرر أن الأرض وما تتبع ليست إلا مجموعة صغيرة حقيرة من مجاميع لا عدد لها تسير بقانون في فضاء لا يتناهى.

إذا تقرر هذا جاء العقل فقال إن شيئين غير متناهيين لا يوجدان معا، فإذا كانت الكائنات غير متناهية، والخالق غير متناه، وجب أن أحدهما هو الأخر.

وعلى ضوء هذا الفكر مشى العقل طفلاً يحبو إلى الاتحاد، فلما أن شب واستطاع أن يمشي على ساقي الاعتقاد بافتراض الشك جرى إلى المذهب ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

سرى هذا المذهب إلى الإسلام في القرن الثالث، ومشت به الفلسفة ممثلة في أساطين

ص: 30

الفكر، وكبار الصوفيين، وإذ كانت الفكرة جديدة، وكل جديد (في الغالب الأعم) منظور اليه بنظرات الخوف والحذر، إذ كانت الفكرة كذلك لقى أصحابها الشيء الكثير من الإيذاء فقتل البعض، ومثّل به، وربما حرقت جثث البعض وهرب البعض إما من وجوه أولئك المتفقهين، وإما من النظرية ذاتها، وعمد البعض إلى الرمز في الكتابة يعبر به عما يريد في عبارة مشكلة مطاطة تلين مع التأويل والتخريج، فخرجت في تأليفهم كثير من المعميات، يقول بعضهم: جلست عن ابن سبعين من وجه النهار إلى آخره، فجعل يتكلم بكلام تعقل مفرداته، ولا تعقل مركباته. . .

وغلبت هذه الدندنة في كتبهم الكبيرة، فأنت إذا قرأت الفتوحات لابن عربي أو الفصوص مشيت في سهل وحزن، ومرت بك مأمن ومجاهل، ومثل هذين فيما قلنا كثير من كتب رجالات التصوف القدامى.

وتبدو هذه الظاهرة قوية في أشعارهم، لأن النثر يبنى على البسط والإيضاح الذي لا يقبله كله الشعر، ولهذا عمدوا إلى النظم فألقوا فيه بآرائهم ملفوفة رمزية لتقبل التأويل كلما حزبهم من المتفقهة حازب.

لم نستطع ان نتعرف بالضبط متى نشأت (وحدة الوجود) إطلاقا، ولا أين، أما الكيفية فمنطق الصوفيين فيها أبلج. وقديماً كان لوحدة الوجود أثر كبير في الأديان القديمة (غالبها) فمست خرافات الهند القديمة أطرافها مساً رفيقا وشديدا على اختلاف الأساطير بعدا عنها وقربا منها، وذهب بعض اليونانيين القدماء إلى أن اصل العالم يجب أن يكون مادة لا وصف لها، ولا تقبل الفناء، وأشرنا إلى قولهم أن غير المتناهي يستغرق كل موجود.

وتلك هي بعينها فكرة ابن سبعين ومنطقه القائل: أن واجب الوجود كلي وممكنة جزئي، ولا وجود للجزئي إلا في كلي، كما لا يتحقق وجود الكلي إلا بجزئياته.

ولابن عربي في الباب تسع وعشرين ومائة في ترك المراقبة؛

لا تراقب فليس في الكون إلا

واحد العين، فهو عين الوجود

ويسمى في حالة بالَه

ويكنى في حالة بالبعيد.

وشعر الصوفية طافح بالوحدة الوجودية منغمس فيها في تلميح أو تصريح، ومازال القوم يرددون قول الغزالي، أو ما قيل انه قاله (ليس في الإمكان أبدع مما كان) وقالوا بعيداً عن

ص: 31

التأويل نعم. لأن المخلوق صورة الخالق وليس أكمل منه تعالى.

ووقف لهم جماعة بالمرصاد توفروا على تفنيد أقوالهم، ومناقشة آرائهم، ثم التشهير بهم، والنيل منهم، وهذا ابن تيمية يعلن عليهم في الفتاوى حربا شعواء، وقديما قال، ما أظن الله بغفل عن المأمون لأباحته الفلسفة (!!).

عرج قوم بالفلسفة في أيام العباسيين على الدين وحاولوا أن يوفقوا بينهما، فرجعوا يحملون عبء الهزيمة ثقيلا، ومشت وراءهم الحكمة القائلة (سلم وأنت أعمى) تلوح لهم ظافرة بهم، ظاهرة عليهم.

وجاء صاحب جلاء العين فكان كابن تيمية فيما أراد وقال، ثم جاء صالح المقبلي في كتابه العلم الشامخ فسخر بهم، وفسق كلامهم، وعراه من الحقيقة، وامتدت كلماته إليهم فأصابت منهم مقاتل.

أعيا المتصوفون أمرهم فقام الجيلي يقول: (صح لنا هذا كشفاً فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر).

وبدهي ان دعوة الجيلي هذه كاذبة، وإلا فما هذا المنطق يقدمونه بين يدي كل قضية؟ وما هذه المقدمات التي تتكئ عليها النتائج؟

على أنهم لم يعدموا نصراء يدافعون عنهم ويدفعون، وهذا القزويني يعقد في كتابه (درر الفرائد) باباً في ذكر مصطلحات القوم. قال: أتطمعون في فهم كلامهم وهو انما يعرف بالذوق لا بالمنطق؟ (من ذاق طعم شراب القوم يعرفه. .) ثم أخذ يفسر رموزهم، ويستدل عليها فناقض نفسه.

ويقول غلاة المنتصرين: إذا ظهر كلام الصوفية خارجا عن ظاهر الشريعة فهو مقول في حال سكرهم، والسكران سكرا مباحاً غير مؤاخذ، فان لم يكن كذلك فلابد أن يكون له تأويل ظاهر، فان لم يكن فله تأويل باطن لا يعلمه إلا الله والراسخون.

فأنت ترى أنهم يريدون أن يبرئوهم (إذا كان هناك جرماً) على أي حال، ومهما كانوا، ولنا عليهم أن نقول لو كان كلام الصوفيين موافقا للشريعة الظاهرة ففيم الرمز وفيم الإبهام؟

وبعد، فهذا مذهب وحدة الوجود في اظهر مناحيه، ولعلي مستطيع أن أعود اليه فيما بعد؟

طاهر محمد أبو فاشا

ص: 32

‌الشافعي واضع علم أصول الفقه

للأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرزاق. أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية

الآداب

- 2 -

والمروي عن الشافعي: انه قال: انه حمل إلى مكة وهو ابن سنتين من غزة أو عسقلان.

وفي كتاب (معجم الأدباء) لياقوت: وفي رواية أن الشافعي قال: ولدت باليمن فخافت أمي على الضيعة فحملتني إلى مكة وأنا يومئذ ابن عشر أو شبيه ذلك. وتأول بعضهم قوله (باليمن) بأرض أهلها وسكانها قبائل اليمن، وبلاد غزة وعسقلان كلها من قبائل اليمن وبطونها.

قلت: وهذا عندي تأويل حسن إن صحت الرواية وإلا فلاشك انه ولد بغزة وانتقل إلى عسقلان إلى أن ترعرع، ج6ص318.

ويقول ابن حجر في توالي التأسيس ص49: (والذي يجمع الأقوال أنه ولد بغزة عسقلان، ولما بلغ سنتين حولته أمه إلى الحجاز ودخلت به إلى قومها وهم من أهل اليمن، لأنها كانت أزدية، فنزلت عندهم، فلما بلغ عشراً خافت على نسبه الشريف أن ينسى ويضيع فحولته إلى مكة).

وليس من رأيي التوفيق بين الروايات المتضاربة قويها وضعيفها على هذا الوجه، فتلك طريقة ليست من التمحيص التاريخي في شيء، بل يجب تخير الروايات الصحيحة السند التي يرجحها ما يحف بها من القرائن والذي تدل عليه الروايات الراجحة أن الشافعي ولد بغزة ومات فيها أبوه كما مات بها من قبل هاشم جد النبي عليه السلام. ثم حملته أمه إلى عسقلان وهي من غزة على فرسخين أو أقل. وكان يرابط بها المسلمون لحراسة الثغر منها. وكان يقال لها (عروس الشام) وفي كتاب (أحسن التقاسيم) للمقدسي المعروف بالبشاري:(أن خيرها دافق، والعيش بها رافق).

وكل هذه الاعتبارات جديرة بأن تجعل الأيم الفقيرة تختارها سكنا لها ولطفلها اليتيم الغريب.

فلما بلغ الطفل سنتين وترعرع وأصبح يحتمل السفر حملته أمه إلى مكة لينشأ بين قومه

ص: 34

من قريش، ولعلها كانت تريد أن تستعين على تكاليف العيش بما ينال الطفل من سهم ذوي القربى باعتباره مطلبياً.

على أن حظ الطفل من خمس الغنائم لم يكن ليرفه من عيشه فنشأ في قلة من العيش وضيق حال. قال الرازي:

(وذكروا أن الشافعي رضي الله عنه كان في أول الزمان فقيرا، ولما سلموه إلى المكتب ما كانوا يجدون أجرة المعلم، وكان المعلم يقصر في التعليم إلا أن المعلم كلما علم صبيا شيئا كان الشافعي رضي الله عنه يتلقف ذلك الكلام، ثم إذا قام المعلم من مكانه أخذ الشافعي رضي الله عنه يعلم الصبيان تلك الأشياء، فنظر المعلم فرأى الشافعيرضي الله عنه يكفيه من أمر الصبيان أكثر من الأجرة التي يطمع بها منه، فترك طلب الأجرة واستمرت هذه الأحوال حتى تعلم القرآن كله لسبع سنين) ص15و16.

ويروى عن الشافعي: انه كان يحدث عن طفولته فيقول: (وكانت نهمتي في شيئين؛ في الرمي، وطلب العلم. فنلت من الرمي حتى كنت أصيب من عشرة عشرة. وفي رواية من عشرة تسعة، وسكت عن العلم، فقال عن بعض من كان يستمع اليه: أنت والله في العلم أكثر منك في الرمي).

ويروى عنه أيضا: أنه قال: كنت ألزم الرمي حتى كان الطبيب يقول لي: (أخاف أن يصيبك السل من كثرة وقوفك في الحر) تاريخ بغداد ج6 ص59، 60.

ويظهر: أن حب الرماية لم ينزعه من بين جوانب الشافعي جلال السن وجلال الإمامة.

(عن المزني قال: كنت عند الشافعي فمر يهدف، فإذا رجل يرمي بقوس عربية، فوقف عليه الشافعي وكان حسن الرمي فأصاب سهاما، فقال له الشافعي: أحسنت، وبرك عليه، قال لي: ما معك؟ فقلت: ثلاثة دنانير، فقال: أعطه إياها واعذرني إذ لم يحضرني غيرها (توالي التأسيس) ص67.

قال الشافعي: (لما ختمت القرآن دخلت المسجد أجالس العلماء وأحفظ الحديث والمسألة، وكان منزلنا بمكة في شعب الخيف، وكنت فقيرا بحيث ما أملك ما أشتري به القراطيس، فكنت آخذ العظم أكتب فيه وأستوهب الظهور من أهل الديوان وأكتب فيها) - الرازي ص16.

ص: 35

‌أبيات للمنفلوطي

كان المرحوم السيد مصطفى لطفي المنفلوطي يجلس في جمع من أصدقائه منهم: المرحوم حافظ إبراهيم وإمام العبد والشيخ الكاظمي والشيخ منصور، وكان هذا الشيخ من أشهر لاعبي الشطرنج لا يكاد يبزه أحد وكان مجلسهم في مقهى (كتكوت)(بحي الحسين).

فحدث يوما أن تغلب غلام في الرابعة عشرة من عمره على الشيخ منصور فكانت هذه الحادثة موضوع تنادر الجماعة مدة طويلة وقد قال كل منهم فيها شعراً فمما قاله المنفلوطي هذه الأبيات:

وظبيٍ سقيم الطرف حلوٍ مهفهفٍ

تُميت وتُحيي كيفما شاَء عيناهُ

يداعب في الشِّطرنج كلَّ ملاعب

فلا ينثني إلا وقد قتل الشاهُ

فو الله ما يدرى الحروبَ وإنما

رماه بسهمي مقلتيهِ فأرداهُ

ص: 37

‌في الأدب العربي

الطبيعة في شعر ابن خفاجة

- 3 -

وصف الآلات والأدوات: - كان علينا أن ننتقل بك في هذا الفصل إلى وصف الخمر ووصف مجالسها في شعر ابن خفاجة، وأن نريك الطبيعة الماثلة في ذلك النوع من الشعر؛ ولكنا رأينا أن نذكر شيئا عن تشبيهه الآلات والأدوات، ووصفه للخيل والذئاب، قبل أن نذكر لك شيئا من أقواله في الخمر، ومن تشبيهه إياها، خوفا عليك من أن تنتشي وتطرب فلا تعود تصغي إلينا.

وهو في وصفه السيف والرمح والقوس والكأس والزورق، وفي وصفه للفرس الأشقر، والكلب والأرنب، لا يخرج في كل هذا عن الطبيعة في شيء، ولا يشبه تلك الأدوات إلا بما يماثلها في الطبيعة. فيقول في السيف:

ومرهف كلسان النار منصلت

يشفى من الثار أو ينفى من العار

فهو يشبهه بلسان النار الملتمع. ثم يقول:

تخال شعلة نار منه طائرة

في عارض من عجاج الخيل موار

يمضي فيهوى وراء النقع ملتهباً

كما تصوَّب يجري كوكب سار

وهو يشبه قول بشار:

كأن مثار النقع فوق رءوسنا

وأسيافنا ليل تهاوي كواكبه

ويقول أيضاً في وصف كأس أهديت اليه:

ومثلك مد يمين الندى

بعلق يطيل عنان النظر

بأزرق سالت به صفرة

كما طرز البرق ثوب السحر

يقول إنه كأس ازرق قد سالت به صفرة فبدا كسماء أبرقت في ليل مظلم.

ويقول كذلك في الرمح:

وأسمر يلحظ عن ازرق

كأنه كوكب رجم وقد

يعتمد العين اعتماد الكرى

وينتحي القلب انتحاء الكمد

فان السمرة والزرقة وكواكب الرجم المتوقدة والكرى والكمد كلها صور لأشياء طبيعية،

ص: 38

شبه بها عود الرمح الأسمر، وسنانه الأزرق، ولمعانه وقت الطعن.

وأجمل ما قاله في وصف الإله وصفه القوس فهو يقول:

عوجاء تعطف ثم ترسل تارة

فكأنما هي حية تنساب

وإذا انحنت والهم منها خارج

فهي الهلال أنقض منه شهاب

فلم يخرج في تشبيهها ووصفها عن حيوان الطبيعة وعن أفلاكها.

ويقول في صفة كلب وأرنب:

وأطلس ملء جانحتيه خوف

لأشوس ملء شدقيه سلاح

فهو يشبه الأرنب الهاربة امام الكلب بالذئب للتشابه الموجود بين لونيهما، وللتشابه الموجود بين حاليهما، لأن الذئب يهرب من وجه الكلب، ويعبر عن الكلب بالأشوس، وهي حال ضم الجفنين للتحديق والنظر، ويشبه انيابه التي كشر عنها بالأسلحة التي يحملها الصياد.

ويقول في صفة فرس أشقر عليه حلى لآلئه:

بسام ثغر الحَلْي تحسب أنه

كأس أثار بها المزاج حبابا

فهو يشبهه بكأس من الخمر قد مزجت بالماء فبدت صفراء اللون وطفا عليها حباب ابيض.

واقرأ هذه المقطوعة في وصف نزهة ركب اليها زورقا:

وانساب بي نهر يعب وزروق

فتحملتني عقرب وحباب

نجلو من الدنيا عروساً بيننا

حسناء ترشف والمدام رُضاب

ثم ارتحلت وللسماء ذؤابة

شهباء تخضب والظلام خضاب

تلوى معاطفي الصبابة والصبا

والليل دون الكاشحين حجاب

حيث استقل الجسر فوق زوارق

نسقت كما تتراكب الأحباب

لم تستبق وكأنها مصطفةً

دُعم تنازعك السباق عِراب

فقد شبه أولاً الزورق الأدهم بالعقرب لانحناء مقدمه إلى الأعلى، وانحناء متوسطه إلى الأسفل، وشبه ماء النهر الثائر المائج المزبد بالحباب. ثم شبه ثانية اصطفاف الزوارق باصطفاف الخيل العراب للسباق.

إلى هنا انتهى كلامنا عن وصف ابن خفاجة للآلات والأدوات، وقد أريناك تشبيهاته وأوصافه التي أتى بها ولم يخرج فيها عن حبيبته الطبيعة التي يرى بها كل ما موجود،

ص: 39

وكأنه لا يرى في الحياة إلا الطبيعة، فلا يتكلم إلا عنها ولا يشبه إلا بها.

فان كان البحتري قد أثر فيه حب علوة الحلبية فقال الشعر الغنائي الرقيق، ورسم الصور الشعرية الجميلة، وأخذ في كل هذا على نفسه ألا يبوح باسمها.

وسميتها من خشية الناس زينباً

وكم سترت حباً عن الناس زينب

فان ابن خفاجة أثرت فيه الطبيعة فهام بها وأحبها حتى كان يذكرها في شعره واصفاً أو متغزلاً، صاحياً أو نشوان.

وكأنه وهو نشوان أقدر على وصف الطبيعة والتشبيه بها، أو كأن حبه لها يهيج فيه قريحته الشعرية حين يجلس إلى الشراب ثم لا يرى بداً من ذكرها لأنه مفتون بجمالها مسحور بمناظرها.

أقواله في الخمر: - يصف ابن خفاجة الخمر ويصف كؤوسها ويشبهها فيتفنن في التشبيه والوصف، فإذا أردنا أن نقايس بينه وبين أبي نواس في وصفها، فهو بلا شك دون منزلة أبي نواس. لأن أبي نواس يقصد إلى الخمر قصداً، فينشئ القصيدة على ذكرها ويجعلها موضوعاً من الموضوعات الشعرية، ولكن ابن خفاجة في مقطوعاته التي يذكر فيها الخمر يجعلها أحد المواضيع التي ينشئ فيها المقطوعة. فأكثر مقطوعاته الخمرية ينشئها على ذكر نزهة جميلة مع إخوان صدق في ظلال الأدواح يشربون ويسمرون، أو على ذكر مجلس إخوان وأصدقاء يقرضون الشعر ويصفون فيه مجلسهم واعتكافهم على الخمر، أو يصف الخمر أثناء تغزله، وفي كل مقطوعة من مقطوعاته التي فيها للخمر ذكر لا نرى الأ البيت والبيتين. قال من وصف يوم أنس وفكاهة:

وجاء بها حمراء أما زجاجها

فماء، وأما ملؤه فلهيب

فهو يقول: انها خمرة حمراء كأنها لهيب النار المتوقدة في كأس كأنه الماء صفاء وشفافية:

ويصف الخمر بيد حبيب له فيقول:

مشمولة بينا ترى في كفه

ماء، ترى في خده الهوبا

فهو يقول: انها باردة الطعم لهبوب الشمال عليها كأنها الماء صفاء، وانه محمر الخدين كأنهما لهيب نار مستعرة، وقال ايضاً:

فجاءت بحمراء وقادة

تلهب في كأسها كوكبا

ص: 40

فقد شبهها بالكوكب المتوقد وهو يشبه قول ابي نواس:

إذا عب فيها شارب القوم خلته

يقبل في داج من الليل كوكبا

ويشبهها بالفرس الأشقر فيقول:

وقد جاء من كاس السلافة أشقر

يسابقه من جدول الماء أشهب

ويقول في وصفها أيضاً وهو يتغزل:

حيا بها ونسيمها كنسيمه

فشربتها من كفه في دره

منساغة، فكأنها من ريقه

محمرة، فكأنها من خده

إلى هنا لا نرى في وصف ابن خفاجة الخمر وفي تشبيهه إياها شيئاً يخرج عن الطبيعة؛ فقد شبهها بلهيب النار المشتعلة وشبه كأسها بالماء الصافي الرائق، ثم شبهها بالكوكب المتوقد، ثم شبهها بالفرس الأشقر للونها الأشقر، ثم شبهها وقال انها منساغة فكأنها من ريق الحبيب الخصر العذب، وإنها حمراء كأنما قد عصرت من خده الوردي.

واقرأ هذه المقطوعة يداعب بها الساقي الأسود، وانظر كيف يصف الخمر الحمراء والكؤوس البيضاء، ثم ينبري فيصف لنا المكان الذي جلسوا به، والوقت الذي شربوا فيه، ولاحظ إذا شئت تشبيهاته وأوصافه التي لا يخرج بها عن مناظر الطبيعة وعن أوصافها:

رب ابن ليل سقانا

والشمس تطلع غره

فظل يسود لونا

والكأس تسطع حمره

كأنه كيس فحم

قد أوقدت فيه جمره

إلى أن يقول:

فظلت آخذ ياقو

تة واصرف دره

حتى تثنيت غصنا

واصفرت الشمس نقره

وارتد للشمس طرف

به من السقم حسره

يجول للغيم كحل

فيه وللقطر عبره

فهو يقول: إن عبداً اسود يسقينا منذ طلوع الشمس، وكأنه وهو يدير علينا الخمر في كؤوسها الحمراء كيس من فحم قد أوقدت فيه جمرة ملتهبة، وظللت على هذه الحال أتناول الكأس مملوءة حمراء كالياقوتة وأعيدها فارغة بيضاء كالدرة، حتى تثنيت من شدة السكر

ص: 41

كالغصن تثنيه الرياح، وحتى اصفر لون الشمس وارتد طرفها إلى الغروب كما يرتد طرف الناعس من النعاس، وكانت الغمامة دكناء كأن بها كحل كاحل، وكانت ممطرة كأنها عين باك مستعبر.

وقال أيضا يصف متفرجا. ويصف في أثناء ذلك الخمر:

ومجر ذيل غمامة قد نمقت

وشى الربيع به يد الأنواء

ألقيت أرحلنا هناك بقبة

مضروبة من سرحة غناء

وقسَمت طرف العين بين رباوة

مخضرة وقرارة زرقاء

وشربتها عذراء تحسب أنها

معصورة من وجنتي عذراء

حمراء صافية تطيب بنفسها

وغنائها وخلائق الندماء

أدلب. عبد الرحمن جبير

ص: 42

‌من طرائف الشعر

وداع

للشاعر الوجداني الرقيق أحمد رامي

أيها الفُلك على وشك الرحيل

إن لي في ركبك الساري خليل

رقرقت عيناي لمّا

قال لي حان الوداع

وبكى قلبي ممّا

ذاع في الكون وشاع

غابت الشمس وراء الأفقِِ

ثم ذابت في مسيل الشفق

لهف نفسي! كاد يخبو رمقي

حين حيانّي حبيبي

وتبادلنا الوداع

وانطوى منه نصيبي

عند تصفيق الشراع

أيها الفلك على وشك المغيب

قف، تمهل! إن لي فيك حبيب

لا أذوق النوم حتى نلتقي

والضحى يغمر وجه المشرق

فأحييه بقلب شيّق

شارحاً وجدي شاكياً

سهدي في الدجى وحدي

وأناجيه بحبّي

بين ضمٍّ واعتناق

ناسياً الأم قلبي

طول أيام الفراق

ص: 43

‌الشعر والشاعر

للدكتور عبد الوهاب عزام

سيدي صاحب الرسالة:

خطرت لي خطرة من الشعر في احدى الليالي منذ سبع سنين فأخذت القلم وكتبت الأبيات الآتية، ثم ألقيتها بين أوراقي. وكنت أقلب أوراقا منسية منذ أيام فعثرت عليها، وتذكرت اذ ذاك قوله تعالى:(وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت.) فأردت أن أحمل صاحب الرسالة تبعتها فأرسلتها اليه، وله الخيار أن يئدها كما كانت، أو ينشرها:

هو وحيٌ في شعاع القمر

يملأ القلب ضياء وسلاما

أو حديثُ في حفيف الشجر

أفشت الريح له سرّاً فهاما

أو بكاء في حنين الوتر

ملأ الأنفس وجداً وغراما

هو طل الفجر فوق الزَهر

يملأ الروض دموعا وابتساما

ثم يبدو مثل قَدحْ الشرر

بين خفق القلب والهّمِ صداما

أو تراه كالوصايا العشر

بين ومض البرق والرعد كلاما

ذلك الشعر إذا ما تَرجما

عن خفايا وحيه اللفظُ المبين

رب شعر وحيه قد كُتما

أبلغ الأشعار ما لا يستبين

يخلق الشاعر خلقاً آخراً

من خيال حائر فيه المدى

يجعل الليل غراباً طائراً

خاف نسر الصبح لما أن غدا

ويرى النجم شريداً حائراً

هام يبغي في الدياجي موردا

ويفيق الناس عنه ثائراً

فيرى القصة خلقاً مسعِداً

يبرأ الأبطالَ فيها ساحراً

فتراهم في البرايا خُلَّدا

مثلا في البِرِّ يبقى سائراً

أو حليف اللعن يبقى أبدا

كم هدى الشاعر قبلا أمما

وحدا فيها إلى العز المكين

وبنى للمجد فيهم سلّما

فاستقاموا للمعالي صاعدين

وجه من يهواه روض ناضر

أٌلِّفتْ فيه من السحر معاني

ومن الطرة ليلٌ كافر

ضُلِّلَتَ فيه دموع وأماني

ص: 44

دولة الحسن، عليها ساهر

نابل من طرفه والحاجبان

ومن البحر جحيم ساجر

ومن الوصل فراديس الجنان

غضبة الشاعر ليل زافر

جلل الأرض بنار ودخان

ورضا الشاعر صبح سافر

ملأ الأرض بنور وأمان

يصبغ العالم ما شاء كما

لعبت باللون أيدي الراسمين

فإذا شاء أراه مأتما

وإذا شاء فعُرس الفرِحين

ويلف السحب من نيرانها

في إهاب الغيظ والحقد المكين

ويسل البرق من أجفانها

سيف ثأر مٌصلتاً للظالمين

ويقود المزن من أرسانها

بيد الريح شمالا أو يمين

ويعد الرعد من تحنانها

حين يروي الأرض بالغيث الهتون

أو يرى فيه صدى طغيانها

ردّدته رهبة للسامعين

ويقيم الطير في أفنانها

شاديات باكيات كل حين

ويرى النهر دموعا ودما

من عراك الدهر والقلب الحزين

أو يرى الصفحة سرا محكما

نسجته الريح بين الناسجين

ويرى الورد ضحوكا طًربا

إذ تُحليه من الطل درر

فإذا الورد ذوى واكتأبا

وإذا الطل هو الدمع انتثر

ويرى البانة قدّا معجبا

ماس في الروض دلالاً وخطر

ويرى الجدولِ صّلا هاربا

في ظلال الأيك أعياه الوزَر

ويظن الريح دارت لعبا

في ذرى الأشجار تلهو بالطرر

ويخال الطير غنّى مطربا

يقرأ الحسن بصفحات الزهر

ضاق هذا العيش إلا حلما

راق في الأهوال نومَ الكادحين

تضحك الآمال فيه كلما

أبكت الآلام عيش البائسين

صاح والشاعر في نظراته

يخرق الستر إلى سر الضمير

فيرى الآمال في طياته

ودبيب الحزن فيه والسرور

يكشف المحزون في أنّاته

اذ يراه الناس في ثوب الحبور

ص: 45

ويجلي الخبِّ من سوءاته

وجميع الناس منه في غرور

ويرى المحسن في هيئاته

حين يُخفى فضله كل كفور

فشعاع الشعر في وهجاته

كاشف للناس عن ذات الصدور

يقرأ الشاعر ما قد أبهما

في ضمير الدهر آلاف السنين

ويرى الغائب مشهودا كما

يَصُر الهدهد بالماء المعين

أو تراه مثل باز مدمر

ملأ الدَّوح صياحا وصيالا

يجهد الشاعر طول العُمر

فيرى الآمال يأسا ومحالا

فتراه مثل ليث هيصر

عض في الأسر قيودا وحبالا

أو تراه كحمام هَدِر

رتّل الحزن نشيدا فأطالا

ثم يلهو بجمال الزهَر

فَكأنْ في الصدر غما ووبالا

فتراه عَنْدَليبَ الشجر

واصفا في الروض حسنا وجمالا

صاح ما الشعر سبيلا، إنما

هو صهر القلب في نار الشجون

صاح ما الشعر كلاما، انما

هو ذوب النفس أو ماء العيون

ص: 46

‌في سينما الحياة

للأستاذ الشيخ إبراهيم الدباغ

// ليس المعين على بغى بمشكور

ولا القوي على ظلم بمنصور

قل للألى ضربوا من حكمة مثلا

للقوم والقوم عند الأفك والزور

تغاير الناس في سعي لمهلكة

وما لهم من حذار عند تحذير

إني أراهم وقد أنذرتهم طمسوا

نهج الهدى أين أنذاري وتبشيري؟

أنا الرشيد ولي في كل مملكة

أمرأ جرد فيه سيف مسرور

يبقي على الخير من قول ومن عمل

حر فيمحق فيها كل شرير

وأنشر العدل أعلاما إذا خفقت

أمنت من كل مطوي ومنشور

واجعل الدين والأخلاق لي هدفا

الدين ديني والدستور دستوري

يا سائلي عن هوى نفسي وبغيتها

من الحياة وقد غصت بتكدير

هواي تحرير أهل الأرض من ملأ

من الهداة وأقطاب الدساتير

فكل نفس لها من سعيها أمل

ولن تنال مناها دون تحرير

هل تمنع النفس من آمالها جدة

لغيرها وهي منه دون تقدير

يا ثاني الغصن دع للغصن نضرته

وخل قامته من ذام تكسير

وخل للروض والأغصان زينتها

وغادها بين مشموم ومنظور

كم وردة جرحت جان بشوكتها

وزهرة مزقت أحشاء هيصور

روض الحياة وروض الموت أجدره

بالحر ما كان بيتا غير مهجور

ورد الحياة ابتدر من صفوها خلسا

البؤس في السوق والآلام في الدور

والأرض شر مقيل للنسور إذا

طغت وأشقى مراحا للزرازير

تضرى الذئاب وتبدو في مصاولة

في مسك شاة توارت خلف تحضير

ينام حارسها عنها فينذره

موت، ودنياه منها أجر ناطور

وللحياة نوال من سلامتها

لو انها لم تشب صفوا بتكدير

تحلو وتبنى بها اللذات ما هدمت

منها وتدرك تدميرا بتدمير

في سينماها خيال من حقيقتها

فردية حولها شتى التصاوير

ص: 47

طلاسم تحت ارقام يفسرها

عيث الخرافة في لوح الفوازير

فيا حقول (ابيقور) وشيعته

لا ضقت ذرعا بقطعان الخنازير

ص: 48

‌في الأدب الغربي

مارسلين أو (مدام ديسبور دفالمور) 1786 - 1895

للأستاذ خليل هنداوي

في الحياة أزاهير تقضي أعمارها منثورة هنا وهنالك، لا يكاد يشعر إنسان لها بوجود، متواضعة في أرضها، منعزلة عن الأعشاب الطويلة والأزهار المنتصبة. تعطر الفضاء بانفاسها، فهو أنم عليها من الصبح!

وهنالك شعراء يعيشون في أجواء عواطفهم في عزلة نائية عن الناس، إذا ترنموا فإنما ليطربوا أنفسهم، وإن بكوا فإنما يبكون لتصيب أدمعهم زهرات أمانيهم، كما تصيب الروضة قطرات الطل، هؤلاء لا يعرفهم الناس لأنهم ما شاؤا أن يعرفوهم، فهم (وأنفسهم تسكب الألحان) كالأزاهير المنسية، وقد ملأت الفضاء أريجا.

ومن هؤلاء الشعراء صاحبة هذه الترجمة وهذا الشعر الوجداني، من شاءت ان تقضي حياتها هامسة بأنغام نفسها، ليس في قلبها وبين الوجود إلأ ترجمان الحس والعاطفة:

هذه هي مارسلين. . .

ولدت في (دواى) في بيت تسود جوه روح الفاقة، ويغلب على قلوب أصحابه شيء من الأيمان الذي يضحي بكل شيء إلا بنفسه، فيبعث هذا الأيمان في صدورهم من الراحة والطمأنينة والرضا ما لا تبعثه مظاهر الثروة الضخمة، على أن (أمها) جربت أن تنقذ الأسرة من مرارة الفقر، فركبت وابنتها إلى (بوردو) حيث تنتظرها ثروة قريبة. فاتخذت مارسلين الصعود إلى المسرح مهنة، ترضى بأجرها اليسير، ولكن الحظ أبى إلا أن يسود الصفحة الأخيرة، لأن هذه الثروة الموهومة قد تدهور أمرها قبل أن يدركا قريبتها، فأصابت أمها (حمى صفراء) أودت بحياتها، فآبت الابنة على الأثر، وعوامل اليأس والخيبة تطغي عليها.

الحياة!! كيف تعمل على تأمين أسبابها؟ فتذرعت (بالخياطة) مهنتها الأولى، وامتزجت مع الممثلين والممثلات، تقف عليهم صناعتها، فجدد هذا الاختلاط رغبتها الباطنية في العودة إلى المسرح، فعادت اليه ونالت كثيرا من مظاهر الاستحسان والتصفيق على مسرح الفنون في (روان) ولكن ما عسى تجديها هذه المظاهر؟ وهي التي كتبت في مذكراتها (ما أكثر ما

ص: 49

تنهمر عليّ باقات المعجبين بي؟ وأنا أكاد أموت جوعا دون أن أصارح أحداً بأمري).

ثم كفلها أحد اصحابها، فألحقها بمسرح جديد، لا يتجأوز أجرها فيه الثمانين (فرنكا) طيلة الشهر. وفي عام (1817) شاهدها عارفوها في (بروكسل) متأبطة ذراع الممثل (فرانسوا بروسير) مرتبطين برابطة الزواج، وما حل عام (1823) حتى كفت مارسلين عن الحياة المسرحية، وسعت وراء نفسها مستلهمة ما توحيه اليها، بعد أن تلمست شيئاً غير قليل من الظفر الشعري في ديوانها الأول (أغاني ومراثي) ولكن حياتها ظلت (برغم عوامل المدح الطافية عليها) طافحة بالكآبة، وقد أصابها الدهر بابنتيها خلال حياتها، ثم غزاها سرطان داخلي لم يمهلها كثيرا. ومارسلين على رغم هذه البواعث على الياس والقنوط لبثت صامتة راضية بأحكام القدر، لا تلوث ديوانها بشيء من الهجو لمعاصريها وأصدقائها، وذلك ما دعا (أناتول فرانس) إلى القول عنها أنها حقاً امرأة قديسة.

اما مارسلين فقد كان وجهها المشرب بشيء من الصفرة جميلاً جذابا، ونفسها مشبوبة العواطف، متعددة اللواعج، وحيثما قلبت في ديوانها تبد لك آثار هذه النفس المشتعلة التي تذوقت الحب، ورضيت به مرهقا للروح، ومنهكا للقوى. لأن الحب عندها هو ربيع الحياة. . وقد حار النقاد في العاشق الذي ظلت مارسلين تلهج باسمه وبصفاته في قصائدها حتى أدركها الموت، وطبيعي أن يجر خلاف النقاد إلى اعتبارنا هذا الاسم المتردد اسما شعرياً ترمز به صاحبته إلى اسم حقيقي.

اما موقف معاصريها من نقاد وأدباء فقد اعترف أكثرهم بما يثور في صدر مارسلين من عاطفة متقدة يؤول اليها سر براعتها الشعرية. (ولسانت بوف) فصول درس بها فن الشاعرة. رفعت كثيراً من قدرها وبراعتها، أضف إليها فضولًا ومقاطيع متعددة لكبار الأدباء يرفعون بها شهرتها: وهذا (شيرر) يقول (ان مجد مارسلين شيء لا جدال فيه لأنه مجد كثير الإحساس) وهذا (اميل مونتيكو) يكتب في (معرض العالمين) ان مكان الشعر العطفي يقاس بمقياس العاطفة الشخصية، فان مارسلين هي اكبر شعراء العاطفة على الإطلاق.

والشاعر (ملارمي) كانت تستخفه اسباب الطرب عند ما يتلو على أصدقائه قصيدة مارسلين الخالدة (حياة اليمام وموته) وأي قلب (أوتى الحاسة الفنية) يسعه الأ يحس هذه

ص: 50

العاطفة التي يتغلغل فيها معنى الشعر الحقيقي، ورحم الله (اناتول فرانس) فقد كان يستظهر قصيدتها الإكليل المنثور ويقول عنها انها من قصائد العبقرية النادرة.

وديوان مارسلين يطفح بروح المرأة المحبة التي يخرجها الحب عن نفسها، وهو أثر واضح لدرس نفس المرأة وترددها وضعفها حين تطغي عليها عاطفة الحب، لأن مارسلين لم تتقيد بالتقاليد التي لو لم تعمل على قتل عاطفتها لخففت من عوامل بؤسها وحدتها، وجدير بأدبنا أن يطلع على مثل هذا الشعر، وعلى مثل هذا الحب، وعلى مثل هذه العاطفة.

ص: 51

‌العلوم

حقيقة التطور

للأستاذ السر آرثر طمسن

ترجمة بشير الياس اللوس

يرى علماء التطور ان الأصناف المختلفة للنباتات والحيوانات الوحشية انحدرت في أسلاف أبسط تركيبا وأعم صفات، وقد جرت عملية التطور هذه في وقت طويل جدا وبتأثير عوامل مشابهة للعوامل المؤثرة في الوقت الحاضر، ونشأت خلال تلك العملية تنوعات جديدة تدرجت في سلم الارتقاء، فعاش منها من استطاع ان يكيف نفسه للمحيط، وانقرض الأخر الذي لم يستطع ذلك.

نظرية التطور في الوجهة المنطقية

وهنا ينشأ هذا السؤال: ما هو نصيب نظرية التطور العامة من الإثبات المنطقي إذا لم نبحث الآن في العوامل التي لعبت دورا مهما في هذه العملية؟ وقبل الإجابة على هذا السؤال يجب ان نعترف أن هذه النظرية لايمكن إثباتها تجريبيا كنظرية الجذب، ولا نستطيع البرهنة عليها كي نبرهن على صحة نظرية حفظ الطاقة فهي تتناول الماضي السحيق، ويمكن وضعها من الوجهة المنطقية في صعيد واحد مع الفرضية السريمية التي تخبرنا عن تكوين الشمس وسياراتها. لا يستطيع أحد أن يعكس الشريط الكوني ليرينا عن كثب الحوادث التي جرت في سالف العصور، ومع ذلك يجب ان نتذكر ان في السماء سدماً تسلك نفس السبيل الذي يظن الفلكيون أن السديم العظيم سلكه في العصور القديمة فولد نظامنا الشمسي الحاضر. وهكذا نعثر في التطور العضوي على عمليات جارية تمثل ما حدث في القديم كنشوء الطيور في أرومة الزحافات، أو نشوء البرمائيات في الأسماك.

كيف نشأ عالم الحياة

أن الجواب العلمي الوحيد لهذا السؤال يستمد عناصره من التطور الذي يقرر اساليب التغيير والتطوير. نشأت جميع افراد المملكة الحيوانية بطريقة مماثلة لنشوء أنسال الحمام الداجن المعروفة من حمام الصخور - الذي لا يزال يعشش على الجروف حول بريطانيا

ص: 52

العظمى، وكذلك نشأت افراد المملكة النباتية بطريقة مشابهة لنشوء كرنب الحدائق والقرنبيط والخضراوات من الكرنب الوحشي النابت في السواحل البحرية. وهكذا تتضمن فكرة التطور العضوي العامة نوعا من البرهان يستند على المقابلة والمشابهة. إذن فتلك الحالات القليلة التي يعلمها الإنسان عن نشوء حيواناته ونباتاته الداجنة تنير له طرائق العلم بحدوث النشوءات العظيمة خلال العصور السحيقة في القدم.

لذلك لا نرى مسوغا لما يطلب من الأدلة على التطور ما دام يمكن اتخاذ كل حقيقة من حقائق علوم التشريح والفسلجة والمتحجرات والأجنة دليلاً قويا على التطور إذا ألممنا بشيء كاف منها. وكل ما في الأمر أنه يجب أن نفتش عن حجة تمهد لنا سبيل الاهتداء إلى كيفية استعمال حقيقة التطور لفهم جميع المغلقات والألغاز التي نجابهها في درس البيولوجيا.

أثر الإنسان في التطور

كان لدارون ولع شديد بدرس مساعي الإنسان لتدجين الحيوانات والنباتات وتربيتها على السواء، وغير خاف علينا ما وصلت اليه جهود الإنسان في الحصول على ضروب متعددة من الحمام الداجن وذلك مهد لدارون أن يضع فكرته على النمط الأتي: لما كان في وسع الإنسان أن ينشئ في زمن قصير أنسالاً عديدة قويمة التهذيب فلماذا لا يعقل أن الطبيعة قامت بذلك العمل نفسه في زمن طويل جداً؟ وكيف يقوم الإنسان بتلك العملية؟ لاشك أنه ينتقي الأنواع التي تروقه أو تلائم حاجاته ويدعها تتزاوج مع بعضها على قدر الإمكان ويستأصل من النسل الجديد الأفراد التي لا يرغب فيها ومن ثم يقوم بتهذيب وتربية الأفراد التي يريد الاحتفاظ بها، فعمليته تقوم على أمرين مهمين: الاستئصال والتوليد. فيستأصل الرديء ويولد الجيد. وبسعيه المتواصل في (عملية الانتخاب الصناعي) هذه وصل الإنسان إلى نتائج مدهشة، فكان له ضروب عديدة من الخيول والمواشي والكلاب والحمام والدجاج الخ، وضروب كثيرة من النباتات كالحنطة واللفت والبطاطا والورد والبانسيه الخ. . . ومن السهل أن تذهب إلى المعارض الزراعية لتحصل على أمثلة واضحة من التطور لا تزال تعمل بقوة.

لاشك أن هناك أمثلة عديدة أكثر تعقيداً من نشوء الحمام لأنه يصعب علينا عندئذ تحديد

ص: 53

الأسلاف الوحشية كمعرفة أصل الكلاب مثلا. ولكن ذلك لا يقلل شيئا من قوة الحجة القائلة إذا تمكن الإنسان من إيجاد ضروب عديدة من الحيوان والنبات في وقت قصير فكيف لا تستطيع الطبيعة ذلك في وقت طويل جداً؟. . . والآن يجب إلا نغفل عن أمرين مهمين: أولهما أن الإنسان لا يبتدع الضروب الجديدة بل ينتظر ظهورها، وثانيهما أن القوى المؤثرة في الطبيعة التي تماثل عمل الإنسان في الاستئصال والتهذيب هي التناحر على البقاء ونزوع المخلوق إلى الحياة.

مصدر القوة

عندما يمضي العالم الطبيعي في تمحيص انواع مختلفة من الحيوانات القريبة من بعضها حسب الظاهر يجد تغايرات مدهشة جداً، وسرعان ما يلاحظ أن بعض العضويات وحتى بعض الأعضاء هي أكثر عرضة للتغاير من البعض الأخر. وتدلنا جميع الحقائق المستقرأة بالمشاهدة على أن قابلية التغيير هي من أميز صفات الكائنات الحية. والواقع إننا لا نستطيع ان نجد طائرين يتشابهان تشابها تاما بحيث يعسر علينا تفريق أحدهما عن الأخر. فالأخوان يختلفان عن بعضهما بالرغم من تولدهما من أرومة واحدة. ويذكر لنل البروفسور لوتسي انه رأى في متحف (ليدن) نحوا من 200 ضرب من طيور الباز لا يوجد بين اثنين منها تشابه تام. وكذلك نعرف عن بعض المرجان المركب أن بنية الأفراد فيها تختلف باختلاف الأغصان في المستعمرة الواحدة. على أن مصدر التغيير كائن في الماكينة العضوية دفين بين تضاعيفها. ويجب على الباحث ان يميز الفروق الخارجية التي يمكن إرجاعها إلى خصائص المحيط أو الغذاء عن الفروق الداخلية أو الموروثة التي يظهر انها تتقدم من الباطن، ويطلق على الأخيرة فقط تعبير (التغايرات) أو (التغيرات الفجائية) إذا نشأت بصورة فجائية.

ارتقاء الحياة

من المحتمل أن كائنات حية كانت تعيش على اليابسة وفي المياه إلى مدة تزيد على المائة مليون سنة، ولكنها لم ترتق في ذلك الوقت كثيرا لأسباب ترجع أولاً إلى المحيط. إن تقدم الحياة مشهد بليغ وصفه لوتز وهو احد علماء الحياة ايضا، بقوله (انه كالنغمة المطربة

ص: 54

التي يعلو صوتها كلما تقدمت واقتربت من السامع).

لم توجد خلال عصور عديدة حيوانات عظمية أو فقرية بل أن جميع الحيوانات التي كانت عائشة آنئذ كانت رخوة لا عظمية أو لا فقرية. ولكن الأسماك كانت موجودة في البحار السيليورية ومرت عصور عديدة ظهرت خلال أحدهما وهو العصر الرملي الأحمر القديم البرمائيات بعد أن اجتازت خطوات من التطور عظيمة كاكتساب الأصابع والرئتين الحقيقيتين والأوتار الصوتية واللسان المتحرك والقلب الثلاثي المخادع الخ. . كان هذا التقدم واضحا ولو ان هذه الحيوانات ظلت ضفدعية الخواص حتى عندما وصلت عصرها الذهبي في العصر الفحمي

وبعد مضي عصور أخذت الزواحف الملونة تظهر في العصر البرمي والتي نرى فيها التغاير والتنوع والتقدم بمقاييس كبيرة. فبعضها كانت بحرية وبعضها برية وبعضها هوائية والبعض الأخر يعيش بين الأشجار. وكان بعضها عظميا هائلا والبعض الأخر صغيرا دقيقاً. وهكذا حصلت تنوعات كثيرة بين الزحافات القديمة. على انها جميعا لم تكن قد وصلت إلى درجة تامة في النمو العقلي بل كان فيها استعداد عظيم لذلك. ويظهر ان كثيرا منها اصبح في منتهى الاختصاص كالتنين الطائر أو البتيرودكتل لأنها انقرضت بدون أن ترقى أكثر من ذلك.

ان بعض الزحافات القديمة لا تزال متمثلة بالتماسيح والضبياب وفصائل اخرى موجودة في الوقت الحاضر، ولكن البعض الأخر أصبحت أنسالاً منقرضة وأفضت غيرها إلى نشوء الطيور واللبائن وهما الصنفان اللذان نستطيع إرجاعهما إلى الأجداد الداينوسورية ولكن الحقيقة التي نعتقدها هي أنه في خلال العصور ظهرت صنوف تدرجت في سلم الارتقاء حتى وصلت إلى الإنسان وهو أرقى الحيوانات في الوقت الحاضر. يضاف إلى هذه الحقيقة العظيمة جميع السلالات النسبية المحفوظة بين الصخور كسلالات الخيول والفيلة والجمال والتماسيح. ومن ينقب يقرأ سجلات التطور بين ثنايا الصخور.

ص: 55

‌هل للعلم قيود ترفضها الأخلاق؟

للدكتور هنسن أسقف درهام بإنجلترا

ترجمها بتصرف الدكتور أحمد زكي

(بدا شيء من القلق في منطوقات رجالات العلم ارتاع له الناس. وكيف لا يرتاع الرجل العادي وقد أنذر رؤساء ثلاثة لرابطة العلوم البريطانية في سنوات ثلاث متعاقبة بالخطر الذي يحيق بالمجتمع المتدين من جراء التقدم السريع الجاري. أن رجل العلم في العصر الحالي كساحر للقرون الخوالي يبعث الشياطين فلا يلبث أن تفلت من قبضته، وتتحرر من سلطته، فتعبث في الكون إفسادا وتخريباً) من خطبة قريبة.

العقل العلمي

كلنا متفق على أن العقل العلمي يجب أن يكون خلوا من كل غرض، بعيدا عن كل شهوة، إن هَوِى صاحبه فلن يتأثر بهواه، وإن أبغض فلن يتأثر ببغضه، فهو عقل يطلب الحقيقة للحقيقة وحدها، وهو يطلبها في هدوء وثقة واتِّزان ورجاحة، لا يزعجه اصطخاب تثيره التقاليد حوله، ولا يهزه اضطراب يبعثه العرف السائد من جراء ما تكشفه له، وهو يطلبها في قناعة وعفة ونبل، فلا تحدثه نفسه بما قد تؤدي له الحقيقة المكشوفة من نفع، وما قد تدر عليه من مال، وهو يطلبها لحاجة شديدة في نفسه تدفعه دفعا إلى علم ما لم يعلم، كما يندفع الهالك الظمآن إلى الرِّي والماء، وهو لا يفرق بين الحقيقة الصغيرة الحقيرة، والحقيقة الكبيرة الهامة، ولا بين الحقيقة تأتيه هوناً، وبين الحقيقة يأتي بها الجهد الجهيد، فلكل مكانه من الخريطة العامة، وهي لا تتم إلا بتمام أجزائها، وهو لا يجد لنفسه عوضاً كافياً من هذه الجهود، ولا جزاء وفاقاً على متاعب البحث ومصابرة التنقيب، كالعلم الذي تحصله تلك الجهود والأبحاث. وبعد فليس بمستغرب أن من يطلب العلم لذاته دون مراعاة شيء غيره ولا مجاملة أحد سواه يصطدم بكل سلطان قوي الدعائم قديمها، ومن ذلك سلطان الدين.

العلم والدين

وقد اشتبك الدين والعلم في معارك بدأت في أواخر العصور الوسطى وامتدت إلى وقتنا

ص: 56

هذا. ولاشك أن من أكثر اسباب هذا العراك سوء فهم للدين، وعدم التمييز بينه وبين علم اللاهوت التقليدي الموروث. وقد خلف لنا هذا العراك سجلات عديدة من مساجلات ومناظرات امتلأت بها رفوف عديدة بدور الكتب، ولكنها لا تجد الآن قارئا إلا دارسا متشوقاً يأتي اليها الفينة بعد الفينة، مناظرات لم تولد غير كراهات غاشمة أفسدت الأذهان وأساءت إلى التفكير الخالص في كلا المعسكرين على السواء، نظر فيها رجال الدين بأعينهم إلى الوراء، إلى السنوات الزاهرة الذاهبة حين المجد للدين وحده، والجبروت للعقيدة وحدها، والسلطان الذي لا يدافع لرجال الكنيسة وحدهم بلا منازع ولا متحدٍّ، فعز عليهم أن يسلموا كل هذا وان يعترفوا للعلم بكثير أو قليل.

على أن الخصام الذي بين العلم والدين قل في العصور الحديثة، أو على الأقل هدأت حدته، وذلك أن أهل اللاهوت تعلموا ولو في كثير من التباطؤ، وأذعنوا ولو في كثير من التلكؤ، واهتدوا أخيراً إلى التوفيق بين تعاليمهم وتعاليم العلوم الطبيعية من فلك وجيولوجيا حتى علم الحياة وكان أصعبها توفيقاً.

العلم والأخلاق

وما دام العلم يشتغل بملاحظة حقائق الوجود عن كثب، وبتدوين أحداث العالم المادي في أمانة ودقة، وما دام يخرِّج النتائج من الفروض تخريجاً صحيحاً، فقد جاز أن يصطدم بعقائد المسيحية التقليدية، وقد أصطدم فعلاً. وليس من الضروري (ما حبس نفسه في هذه الحدود) أن يصطدم بالأخلاق ما توجبه وما ترتضيه. ولكن عندما يبدأ العلم يطبق طرائقه التطبيقية على جسم الإنسان وبدنه فانه بذلك يخرج عن حدوده الأولى، ويبدأ يمس رأي الناس في أنفسهم وأعمالهم، وبدل أن يكون الخصام بين العلم والدين، يصبح خصاماً بين العلم وقانون الأخلاق العام وهو قانون يشد أجزاء المجتمع بعضها إلى بعض، كما يشد الملاط آجرَّ البناء، وعند ذلك يصبح قانونا مزعزع الأساس مشكوكا في سلطانه، ويصبح قضاؤه غير مبرم. ثم يتقاصر ظله ويتقاصر حتى يصبح عبداً للعلم خاضعا لنتائجه، مأموراً بعد ان كان آمراً؛ وعندئذ ينظر الإنسان بعين جديدة إلى الطبيعة البشرية، ويصبح الواجب البشري ذا سيطرة، ولكنها محدودة مشروطة.

وهُنا يتساءل: هل يكون للمعمل فتأوي أخلاقية خاصة يتحلل بها أصحابه من القانون

ص: 57

الأخلاقي العام الذي يتبعون أوامره ونواهيه عن طيب خاطر حيثما ساروا في الدنيا الوسيعة حتى إذا هم دخلوا المعمل أغفلوها جميعا؟ أيجوز استخدام التجربة، ذلك السلاح الرهيب دون مراعاة صالح غير صالح المعرفة للمعرفة ذاتها؟ إلا ينقلب رفض العلم لمراعاة اعتبارات الحياة الأخرى سببا إلى اقتراف كثير من الأثام؟ وجملة الأمر هل تتقيد الطريقة العلمية بقيود خلقية أم تترك طليقة؟ وإذا هي تقيدت فما هي تلك القيود؟

قال هكسلي: (إن كل الفلسفات وكل الأديان تقريبا متفقة على أن الحقيقة والجمال والخير غايات ثلاث يطلبها الإنسان لذاتها دون ما عداها؛ أو على الأقل تتفق الفلسفة والأديان على ذلك نظريا، أما عند التنفيذ فتظهر اختلافات وتلوح مصاعب).

ومع ذلك فهكسلي لا يتنازل عن شيء للتنفيذ، ولا يجود بشيء مما يتطلبه العمل من الضرورات. فهو يقول: كثيرا ما يقال إن من الأشياء ما يعلو على الفحص والتمحيص لقداسته، ولكن الرغبة الشديدة في المعرفة الخالصة إذا ملأت رأس الإنسان لم تجز له تمحيص كل شيء فحسب، بل تحتم عليه ان يتتبع مباحثه غير آبه لأي المواضع قادته، غافلا عن كل صفات الأجسام المبحوثة ما دامت قابلة للبحث والفهم، فأن العقل الممحص لا يرى أن بحث الشيء يمنع منه قدسيته، وفضلا عن هذا فان التجربة دلت على أن المعرفة التي تنال من أجل نفسها عن هذا الطريق، تقع من النفس منزلة لا تنزلها هي نفسها لو أنها أصيبت عن طريق غير هذا.

قال هكسلي ذلك وهو يعرض للدين أكثر من عرضه للخلق، ولكن كلامه يمكن تمديده حتى يسع الأخلاق. وهكذا يصبح السؤال: هل يصح لنا أن نفترض أن (الغايات الثلاث التي يطلبها الإنسان لذاتها دون ما عداها) متوافقة في جوهرها كل التوافق حتى أن من يطلب الواحدة يحصل في النهاية على الجميع. يقول عميد كاتدرائية سانت بول: (يجب علينا إلا نفارق بين القيم الثلاث أو نخاصم بينها. فكلنا نتسلق الجبل في طريقنا إلى الله. ولكن من طرق ثلاث تؤدي كلها إلى قمة الجبل. ومن المحتمل أن نجد من هذه الطرق واحدة هي أيسرها في الصعود).

أنا لا أعُنى الآن بالنهاية التي تؤدي اليها القيم الثلاث، ولكن عنايتي الحاضرة بالنتائج العملية التي تنشأ عنها. أن استعارة العميد نفسها تتضمن انفصال الثلاث في سبيلها من

ص: 58

الجبل، وهذا الانفصال هو بيت القصيد. فلنسلم جدلاً بأن النزاع القديم بين الفن الجميل والأخلاق أكثره سوء في فهم هذا، أو فهم ذلك، أو فهمهما كليهما، ولكن السؤال: هل للفنان أن يغمض بحق عينه عن الاعتبارات الخلقية وهو يعمل في دار فنه؟ هل دراسة الفن للفن قضية رصينة مقنعة؟. . .

شرائط العلم ثلاث

أنا أقول إن الطريقة العلمية مشروطة بشرائط ثلاثة، أولها الواجب الذي تفرضه الأخلاق على دارس العلم بحكم رجولته، ذلك الواجب الذي لا يستطيع أن ينسخه أي مأرب من مآرب العلم مهما كان. وثانيهما قيود لا بد من تقيد الطريقة العلمية بها، تحتمها حقوق أولئك الذين تؤثر فيهم تلك الطريقة، وثالثهما قيود يفرضها نوع النتاج المقصود من التجربة.

ص: 59

‌القصص

من غير عنوان

للقصصي الروسي تشيكوف

كانت الشمس في القرن الخامس عشر تشرق كل صباح وتغرب كل مساء كما هي اليوم. وحينما تقبل أشعتها الأولى ندى الأرض تنفض هذه عنها غبار الكرى، وتشيع في الدنيا البهجة وتحلو الأماني! وتعود الأرض في المساء إلى سكونها ثم تغوص في غياهب الليل. وقد ترى أحياناً سحابة راعدة تلوح، ويقصف الرعد وهو يزمجر، أو تهوى نجمة من شاهق وهي وسنانة، أو يقبل راهب حثيث الخطى شاحب اللون ليخبر رفاقه بأنه رأى نمراً قريبا من الدير. كان هذا كل شيء، ثم تعود ثانية الأيام تشابه الأيام، والليالي تحاكي الليالي.

كان الرهبان يصلون ويعملون: أما رئيس الدير فيعزف على الأرغن، ويقرض الشعر اللاتيني، ويؤلف النغم الموسيقى. وكان للكهل الحلو الوديع ذكاء نادر وسجايا حميدة. فهو يعزف على الأرغن ببراعة، حتى أن معظم الرهبان القدماء الذين يضعف سمعهم كلما قربت نهاية حياتهم ما كانوا يستطيعون أن يحبسوا دموعهم كلما هفا صوت أرغنه من صومعته. وعندما يتكلم ولو عن الشؤون العامة كالشجر والوحوش الضارية والبحر الخضم، لا يسمعه إنسان دون أن ترى دمعة تترقرق في عينيه، أو بسمة ترتسم على شفتيه، فيخيل اليك أن الأنغام التي تتجاوب في الأرغن هي بعينها التي تعتلج في نفسه. وحينما يهيجه غيظ متمكن، أو يأسره فرح شديد، أو يتحدث عن أشياء مروعة تأخذه نشوة قوية، ويتسايل الدمع من عينه اللامعة، وتضرج وجهه الحمرة، ويدوي صوته كالرعد. هنا يحس الرهبان المستمعون أن أرواحهمتذيبها عظمته وأنها تفنى فيه. لقد كانت قوته في هذه الدقائق العظيمة العجيبة لا تحد، فلو أمر شيوخ الدير أن يقذفوا بانفسهم في البحر لاستبقوا اليه مسرعين.

كان موسيقاه وصوته وشعره الذي يمدح به الله منبعاً لسرور الرهبان لا ينضب. ففي مدة حياتهم الرتيبة تنقلب الأشجار والأزهار والربيع والخريف إلى أشياء مملة، ثم يقلقهم هدير اليم الزاخر، ويصبح شدو الطير مملول النغم مرذول الجرس. ولكن سجايا رئيسهم كانت

ص: 60

لهم بمثابة القوت المحيي والقوة المجددة.

كرت السنون ومازالت الأيام تشابه الأيام، والليالي تحاكي الليالي وما دنا من الدير أحد اللهم إلا ضواري الوحش وجوارح الطير. وكانت أقرب المساكن الإنسانية بعيدة جداً. ولا تصل اليها من الدير أو تصل إلى الدير منها حتى تعبر صحراء ذرعها مائة ميل.

والذين يجرءون على القيام بهذا هم أولئك الذين لا يجعلون للحياة قيمة ولا يقيمون لها وزناً، والذين نبذوها وراءهم ظهرياً ونفضوا أيديهم منها جملة. يولون وجوههم شطر الدير وكأنهم يسيرون إلى القبر.

ولشد ما كانت دهشة الرهبان عند ما قرع بابهم في ليلة من الليالي رجل برهن لهم على أنه من سكان المدينة: وكان هذا الرجل أكثر الناس ارتكاباً للإثم وحبا للحياة. وقبل أن يصلي أو يرجو رئيس الدير أن يباركه طلب طعاما ونبيذا.

فلما سألوه عن سبب قدومه من المدينة إلى الصحراء قص عليهم قصة طويلة: خرج يطلب الصيد ومعه شراب كثير فضل الطريق، وعند ما أشاروا اليه أن الواجب عليه أن يمسي راهباً أجابهم في ابتسام:(لست لكم بصاحب!)

شرب واكل ملء بطنه، ثم رفع بصره إلى الرهبان الذين يقومون بخدمته وهز رأسه لائماً وقال:

(إنكم معشر الرهبان لا تعملون شيئا، كل ما تعنون به هو طعامكم وشرابكم، هل هذه هي الطريقة لخلاص أرواحكم؟ فكروا الآن! بينما أنتم تعيشون في هدوء هنا، تأكلون وتشربون وتحلمون بالخيرات والبركات إذا بإخوانكم هناك قد كتب عليهم عذاب الجحيم، انظروا ما الذي يحدث في المدينة! بينما بعض الناس يموتون جوعا، إذا بالآخرين لا يعرفون أين يبذرون الذهب، ينغمسون في الدعارة ويهلكون فيها كما يهلك الذباب في العسل، ثم لا صدق ولا إخلاص بين الناس. من الذي يجب عليه انتشالهم مما هم فيه؟ أأنا الذي أروح صريع الكأس من الصباح إلى المساء؟ هل أنعم الله عليكم بالخلاص، ومنَّ عليكم الحب، وحباكم بالقلوب الرحيمة، لتجلسوا هنا بين هذه الجدران الأربعة ولا تعملون شيئا؟!).

ومع أن كلام الرجل السكير كان ينطوي على الجرأة والقحة فقد أثر تأثيراً غريبا في رئيس الدير فنظر هو والرهبان بعضهم إلى بعض ثم قال رئيسهم بوجه شاحب (إخواني انه

ص: 61

محق. فصحيح أن الحماقة والضعف البشري جرفا الإنسانية التعيسة في تيار الجحود والإثم فأهلكاها وقضيا عليها. وها نحن أولاء لا نريم من هذا المكان كأن لا عمل لنا ولا واجب علينا. لماذا لا أذهب إليهم فاذكرهم بالمسيح الذي نسوه؟).

نالت كلمات رجل المدينة من نفس رئيس الدير، ففي اليوم التالي أمسك بعكازه وودع إخوانه، وركب الطريق إلى المدينة، فأمسى الرهبان لا ينعمون بموسيقاه ولا بحلو حديثه ولا برائع قريضه.

ترقبوه شهراً ثم شهرين فما عاد، وأخيرا في نهاية الشهر الثالث سمعوا نقر عصاه المألوف فخف الرهبان لملاقاته وأمطروه بالأسئلة، ولكنه بدلا من مشاركتهم في حبورهم بكى بكاء مراً وما نبس ببنت شفة. رأى الرهبان أنه أصبح نحيلاً وأن أعراض الكبر قد بدت على ملامح وجهه.

فما تمالك الرهبان وقد رأوا منه ذلك أن أجهشوا بالبكاء وسألوه عما يبكيه، فما أجابهم بكلمة وغادرهم موصدا عليه بابه ومكث في صومعته. لبث فيها خمسة أيام ما شرب فيها شرابا ولا طعم طعاما ولا عزف على الأرغن. ولما طرق الرهبان عليه بابه وألحوا عليه في الخروج ليشاركوه في أساه كان جوابه الصمت العميق.

خرج من معتكفه أخيرا وجمع حوله الرهبان وأخذ يقص عليهم ما حدث له خلال الشهور الثلاثة التي خلت والدمع ينضح وجهه والألم يأكل قلبه، ثم هدأت نفسه وتهللت أساريره حينما أخذ يصف لهم رحلته من الدير إلى المدينة. غنى الطير وخر الجدول على جوانب الطريق، وجاش صدره بالأماني الحلوة والآمال المعسولة. شعر بانه جندي يتهيأ لاقتحام الموقعة والوصول إلى النصر المحقق. سار حالما يقرض القصيد ويصوغ النشيد، وسرعان ما وجد نفسه في نهاية الرحلة. على أن عيونه أومضت باللهب، ونفسه جاشت بالغضب، وصوته ارتعش عندما بدأ يحدثهم عن المدينة والإنسانية. ما كان رأى ولا تخيل قبل اليوم كل ما رآه وأحصاه في قلب المدينة. رأى وفهم لأول مرة في حياته سلطان إبليس وسيادة الجور وضعف القلب الإنساني الخاوي. هنا خمسون أو ستون رجلا جيوبهم مترعة بالمال يقصفون ويشربون النبيذ دون حد. أخذوا وقد تملكتهم نشوة الراح يرفعون عقائرهم بالغناء الساقط، وينوهون في شجاعة بأشياء جارحة لا يجرؤ إنسان يخاف الله جل سلطانه أن

ص: 62

يشير اليها. فهم أحرار سعداء شجعان لا يخافون الله ولا يخشون الجحيم ولا يهابون الموت. يقولون ويفعلون ما يشاءون، ويذهبون إلى حيث تسوقهم رغباتهم الجامحة.

اما النبيذ فصاف صفاء الكهرمان! وهو أيضا ذكي الرائحة لذيذ الطعم، لأن كل من يعب منه يطفح وجهه بالبشر ويرغب في الشراب ثانية. وهو يجزى على ابتسام بابتسام، ويتهلل غبطة كأنه يعرف أي ضلال جهنمي يختبئ تحت حلاوته.

غلى مرجل غضبه، وبكى أحر البكاء وأشجاه. ثم استطرد يقص عليهم ما رأى:(وقفت امرأة نصف عارية على منضدة وسط القاصفين، ويصعب عليكم أن تتصوروا شيئا اكثر فتنة وسحرا منها، صبى ناصر زاهر، وشعر طويل جثل، وعيون سوداء لامعة، مكتنزة محمرة، ثم سفاهة وجرأة وقحة. هذه البهيمة تبتسم فتفترعن عن أسنان بيضاء كالبرد كأنها تقول: (انظروا إني جميلة، ومستهترة. . . .) وتتدلى من عاتقها الملابس الحريرية البديعة المشجرة. على أن جمالها لا تخبئه ملابس، لأنه بشره يفسح لنفسه الطريق بين طيات ثوبها. . . . كأنه الأعشاب الصغيرة وهي تشق لنفسها الطريق في الأرض زمن الربيع. وتشرب المرأة التي لا تستحي النبيذ، وتغني الأغاني، ثم تستسلم بعد ذلك للمعربدين. . . .).

لوح الرجل الكهل بذراعيه حانقا ثم استمر يصف لهم سباق الخيل، وصراع الثيران، والملاعب، وحوانيت الفنانين، حيث يعرض هيكل المرأة العارية مرسوما بالزيت أو منحوتا من الصلصال.

كان الرجل في حديثه لسِناً ملهماً جهوري الصوت حلو الجرس كأنه يعزف على آلة موسيقية لا تقع عليها العين. والرهبان ذاهلون عن أنفسهم غائبون عن رشدهم وقد أسرتهم كلماته وسحرهم بيانه، فهم يلهثون من فرط السرور. ولما فرغ من وصف إغواء إبليس وفتنة الفسوق وسحر المرأة لعن إبليس ثم غادر المكان واختفى وراء بابه.

فلما خرج من صومعته في صباح اليوم التالي لم يجد راهبا واحدا في الدير. فقد انطلقوا جميعاً مسرعين إلى المدينة!!

محمود البدوي

ص: 63

‌صديقها عشيقها

رواية مصرية عصرية في فصل واحد

للكاتب الروائي الأستاذ محمد خورشيد

أشخاص الرواية

فايد بك عمره 28 سنة. فتى راق وارث بيت مجيد وثروة واسعة

إحسان بك25 سنة. صديق فايد ذكي متهكم ماكر

مختار بك60 سنة. أعزب. صديق حكمت الصدوق

حكمت هانم27 سنة. أرملة رجب باشا. فتاة راقية غنية

سميرة هانم25 سنة. صديقة حكمت من عهد الدراسة

خادم فايد بك. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

غرفة المكتب بمنزل فايد بك يصلها في الصدر ببهو المنزل، وإلى اليسار باب آخر يفضي إلى باقي الغرف. إلى اليمين مكتب فاخر ومكتبة زاخرة بالكتب المجلدة تجليدا ثمينا، وأمامهما كنبة لثلاثة، وأمام هذه الكنبة منضدة عليها صندوق سجاير ومنفضة من الفضة، وحولها كراسي، جميع القطع من خشب (الموجنة) مكسوة بالقطيفة الحمراء. وفي وسط الغرفة سجادة، والطابع العام الأناقة واجتناب الكظة وحسن الجمع بين الألوان.

الوقت عصر.

المنظر الأول

(يرفع الستار عن مختار وإحسان واقفين في جهة اليمين بين الكراسي وفايد واقفا جهة اليسار قريبا من باب مفتوح قد وقف بعتبته خادم).

فايد: (يخاطب الخادم) ضع الملابس التي ذكرتها لك في الصندوق، ولما تصل إلى الأشياء الصغيرة: أربطة الرقبة والمناديل وما يشابهها، اخبرني لأجيء واختار منها ما أريد.

الخادم: سمعا وطاعة سيدي. (يخرج ويغلق الباب خلفه).

فايد: (وقد ذهب إلى حيث إحسان ومختار) أهلا مختار بك! مساء الخير! مساء الخير يا إحسان! تفضلا.

(يردان تحيته ثم يجلس ثلاثتهم. يقدم فايد صندوق السجاير فيأخذ كل منهما سيجارة

ص: 64

ويشعلها، ويأخذ هو سيجارة لنفسه ويشعلها.)

(يبدأ مختار الحديث فيقول:)

مختار: أخبرني إحسان بك أنك ستسافر هذا المساء إلى استامبول، فاستغربت، أولا لأنك كنت قد قررت إلا تسافر هذه السنة، وثانيا لأن فصل الصيف أوشك أن ينتهي. نحن الآن في أواخر شهر يوليه، خير إن شاء الله! ما الداعي للسفر بغتة؟

فايد: شعوري بضعف، وحاجتي إلى تبديل الهواء.

إحسان: لا ضعف هناك ولا خلافه. لابد أن هناك سبب تخفيه وأظنني أدركته.

فايد: (ينظر إلى إحسان نظرة عتاب ويقول:)

قد يعتقد مختار بك الآن ان لسفري سببا أخفيه، مع أن الحقيقة هي ما ذكرت. نعم كنت قررت إلا أسافر هذا العام، ولكن حر الصيف فوق المألوف فأضعفني وشعرت بضرورة الفرار منه، لذلك عزمت على السفر إلى استامبول لأمكث بها شهري أغسطس وسبتمبر، ثم أعود في أوائل أكتوبر حين يصبح جو القاهرة محتملا. وقد حجزت لي محلا بالباخرة التركية التي ستبرح الإسكندرية غدا. . .

مختار: ومنعك استعدادك للسفر عن الحضور ليلة أمس لقضاء السهرة بمنزل حكمت هانم، فسألتني عنك فأجبتها انك لابد حاضر، ولكنك كذبتني ولم تحضر.

فايد: أرجو المعذرة، كنت عازما على الحضور ولكن خانني الوقت. فلم أكد أفرغ من ترتيب أموري مع الكاتب والخدم أثناء غيابي عنكم حتى كان الليل قد انتصف.

مختار: كنت أظنك مغتبطا بصداقة حكمت هانم التي رحبت بك وخصتك بكثير من عطفها، وكانت دائما تدعوك إلى سهراتها البديعة البهيجة. كنت أظنك مثلي قد بلغ بك الإخلاص في الود إلى درجة لا تستطيع معها فراقها، ولكن يظهر أن قلبك لم يقدر صداقتها كما يقدرها قلبي، لذلك سمح لك أن تسافر وتحرم رؤيتها شهورا عدة، بينما لا يمكن لقلبي أن يسمح لي أن احرم منها يوما واحدا. ولكن لا بأس في ذلك، فلكل منا ميله وشعوره، وكل ما ألومك عليه أنك لم تحضر عندها ليلة أمس ولم تستأذن منها في السفر. لا تؤاخذني يا فايد بك. أنا الذي عرفتك بها وقدمتك اليها كولدي العزيز وأنت تعلم مكانتها عندي.

فايد: إني آسف اشد الأسف لأني لم أتمكن من الذهاب اليها ليلة أمس وتوديعها وشكرها

ص: 65

على ما غمرتني به من عطف، وسأمر اليوم في طريقي إلى المحطة وأترك لها بطاقة اذكر فيها أسفي وشكري ووداعي.

مختار: هذا حسن، ولكن الأحسن منه أن تذهب اليها بعد نصف ساعة. لأنها ستنتظرني للشاي في الساعة الخامسة والنصف والسعة الآن الخامسة: فتعال بعد نصف ساعة نشرب الشاي معها ثم تستأذنها في السفر وتنصرف. لديك من الوقت متسع، فان القطار الذي سيقلك إلى الإسكندرية يتحرك في تمام الساعة السابعة.

فايد: أسفي لا يقدر! لأني في انتظار من لابد لي من مقابلتهم قبل سفري. أرجو أن تشرح لها عذري، وان تحتفظ لي بصداقتها التي لها عندي أرفع منزلة. وإن وجدت بعد عودتي أن مكانتي عندها لم تتغير، أعدك إني حينئذ أبذل قصارى جهدي لأكسب عطفها ورضاها.

مختار: ليكن، سأجتهد في فعل ما تريد.

إحسان: تصريحك يا مختار بك بأن لابد لك أن تراها كل يوم يبرهن على أن لصداقتها مكانة رفيعة عندك.

مختار: صداقتها هي غاية حياتي، هي قوتي، هي هنائي. نتقابل كل يوم اما للغداء أو للشاي. هذا إذا لم أقض سهرتي في مجلسها السعيد.

إحسان: أقديمة معرفتك بها؟

مختار: عرفتها منذ خمسة أعوام عندما تزوج منها صديقي المرحوم رجب باشا، فاستولت على قلبي بصراحتها وسامي عواطفها. فلما توفي الباشا زوجها شاركتها في أحزانها، وبذلت جهدي في التخفيف من آلامها. ودأبت على خدمتها في خضوع وإخلاص حتى اتخذتني صديقا لها وكشفت لي عن قلبها فرأيت العفة والكمال والطيبة وحسن الخصال والعطف والحنان، والآن مضى على عامان وأنا سعيد بصداقتها واثق من إخلاصها ووفائها.

إحسان: إلا ترغب هي في الزواج؟

مختار: كلا. وقد صرحت لي انها ستبقى وفية لذكرى من أحبته وأحبها ولن يكون لها زوج غيره.

إحسان: إذن لابد لها من عشيق تهواه.

ص: 66

مختار: ما هذا الكلام؟! حكمت هانم يكون لها عشيق؟! هي مثال العفة والفضيلة؟!. . .

إحسان: لكنها يا بك في عنفوان الشباب وكمال الصحة. وللحب على الشباب نفوذ، كما أن للطبيعة على الصحة سلطانا.

مختار: الصداقة عندها قهرت الحب، والعفة تغلبت على الطبيعة.

فايد: إحسان يجهل قوة الصداقة وسلطانها على القلوب. أنه فتى مادي، فلا تتعب نفسك معه.

إحسان: على كل حال لا يستطيع مختار بك أن ينكر انها ذات دلال. وإني وإن لم أكن من أخصائها لي بها معرفة، وقد سبق أن زرتها ورأيت بعيني دلالها.

مختار: لا أنكر انها ذات دلال، ولكن دلالها حلو: دلال كله طيبة، دلال خلا من المكر والخداع. دلال النساء قوامه الدهاء عادة، دلال يخفي أغراضاً مقصودة، دلال أثيم، دلال مصطنع؛ اما دلال حكمت هانم فقوامه الصراحة، لا غرض له سوى ملاطفة الأخصاء. دلال بريء، دلال طبيعي. خلقت ذات دلال فلا يجوز لإنسان أن يلومها على دلالها، كما لا يجوز له أن يلوم وردة على عطرها.

إحسان: أن إعجابك بها لا حد له، لكن أصغ لي. كل فتاة في مثل جمالها ودلالها لابد أن يكون لها عشاق كثيرون، فكيف تعتقد انها بغير عاشق؟.

مختار: قد يكون لها عشاق، لكني واثق من انها لم تعشق أحداً منهم. الا تعلم يا إحسان بك أن ذوات الدلال لا يفرطن في عفتهن مطلقا. وأن كل واحدة منهن تسعى بدلالها وراء غرض واحد، هو أن تحوز الإعجاب وتستثير الرغبة. لذلك لا تجود حتى بقبلة واحدة لتبقى دائما موضع الإعجاب ومثار الرغبة.

إحسان: نظريتك غريبة أتحرم نفسها الحب لتبقى مرغوبا فيها؟

مختار: شاءت المقادير أن تتكلم ذوات الدلال على عتبة الحب والباب المغلق!

إحسان: وان فتح الباب؟

مختار: لا يفتح لهن أبدا!

إحسان: لنفرض انه فتح

مختار: تكون معجزة

ص: 67

إحسان: فلتكن. ألا تعلم يا مختار بك أن الحب قادر على هذه المعجزة؟ الحب هو الذي يشفيها من الدلال.

مختار: سبحان الله يا إحسان بك! قلتلك إنها لا تحب ولن تحب، وستبقى وفية لذكرى زوجها الذي أحبته، إني أكثر علما بها وبعواطفها منك ومن كل الناس. لقد استعاضت عن الحب بالصداقة، ووجدت خلا وفيا وصديقا صدوقا. يا للساعات السعيدة التي نقضيها معاً!! ساعات تتجلى فيها الصداقة بأعلى واجمل معانيها. ذكاؤها وسرعة خاطرها لا يعادلان جمالها ودلالها، حديثها ينم عن طيبة قلبها ووفائها، ولصوتها رنات عذبة هي أشبه بنغمات روحانية تبعث الأمل في الفؤاد. إذا تحاورنا تتم فكرتي بنفس الألفاظ التي تحوم حول شفتي، أو تجيبني بما يولد في نفسي طائفة من الأفكار الطريفة. نصف كلمة منها تنبئني أكثر من جملة من غيرها، لأننا تعودنا أن نفكر معا. تعلم كل ما يجيش بصدري من شعور. وأدرك كل ما يتخلل نفسها من إرادة. نحن مخلوقان يتمم كل منا الأخر.

إحسان: لا نزاع في ذلك. صداقتكما لا ينكرها إلا مكابر.

فايد: ولا نزاع في أن الصداقة عاطفة اثبت من الحب، لأنها ترتكز على أنقى ما في النفس على الجزء الروحاني منها.

مختار: (وقد نظر إلى ساعته): أزف الوقت. اسمح لي يا فايد بك. أريد أن اذهب إلى مكتبة سكر لاشتري كتابا طلبته مني حكمت هانم ثم آخذه معي اليها. سأحضر إلى المحطة هذا المساء لوداعك.

فايد: (وهو يشيعه إلى الباب). لا تكلف نفسك. أرجوك

مختار: لا. . . . هذا واجب.

إحسان: (وقد لحق بمختار ومد له يده). إلى الملتقى

مختار: (وقد اخذ يده) إلى الملتقى.

(ثم يحيي إحسان قائلا: إلى هذا المساء. . . (يخرج)

المنظر الثاني

فايد، إحسان

إحسان: يا له من غبي! غبي تماما سابح في خياله، غارق في أحلامه

ص: 68

فايد: ما لك وما له؟ دعه في اعتقاده. صداقة حكمت هي نبراس حياته. في سنه تلعب الصداقة دورا هاما.

إحسان: دورا يعمي! النهاية، دعنا منه. . بلغني انك غاضبتها. أصحيح؟

فايد: غاضبت من؟

إحسان: غاضبت الحبيبة المحبوبة، غاضبت حكمت هانم.

فايد: كيف علمت ذلك؟

إحسان: كل القاهرة تعلم ذلك. كل القاهرة إلا واحدا. . . سعادته. (وهو يشير إلى الباب الذي خرج منه مختار)

فايد: كل القاهرة؟ اشكرها على اهتمامها بشأني. آه! فهمت الآن لماذا أتيت. جئت تدرس نفسي لترى وقع الألم عليها. لكن يا عزيزي، صدقني إني لا أتألم. لا أتألم الآن. ربما تألمت غدا. وربما بعد ساعة، لكن الآن لا اشعر بأقل ألم. بلغ ذلك من فضلك كل القاهرة.

إحسان: يصل!. . .

فايد: بل إني أشعر بسعادة. نعم إني لسعيد الآن. حريتي ردت إلى. أصبحت طليقا اذهب حيث أشاء متى أشاء ومع من أشاء. أصبحت غير مضطر إلى تقديم بيان عن جميع حركاتي وسكناتي يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة غير مقيد بموعد لا يمكنني أن اخلفه ولا أن أتأخر عنه، لا. . . لا. . . كنت مستعبدا!. . .

إحسان: ضعفك أمامها هو الذي مهد لها سبيل التسلط عليك، أين ذهبت قوة إرادتك؟

فايد: ألمن يحب قوة ارادة؟ لابد انك أحببت يا إحسان وتعلم. . .

إحسان: أحببت مرة واحدة. كنت في الخامسة عشرة من عمري. والتي أحببتها كانت خادمة في بيتنا تدعى خضرة. عيناها الناعستان سحرتا فؤادي. خصرها النحيل أطار لبي، فأصبحت طوع أمرها، تسلطت علي ففقدت إرادتي. صدقت يا فايد! يستحيل على من أحب ان يعصي لحبيبته أمراً. لكني كنت في دور المراهقة، ومنذ أصبحت رجلا لم أحب مطلقا.

فايد: ذلك من حسن حظك.

إحسان: ربما! لكني على كل حال لست فارغا للحب. . . مثلك. إني اهتم كثيرا بالعلوم والفنون الجميلة.

ص: 69

فايد: الحب علم وفن وله فائدته وجماله.

إحسان: أبداً لا فائدة من الحب ولا جمال، اللهم إلا إذا اعتبرت الألم فائدة والمنكر جمالاً.

فايد: وماذا يدري عن الحب من تنحصر معرفته به في حبه لخادمة؟ مسكين يا إحسان! لم تحب فتاة راقية. لم تحب على الأخص فتاة تبادلك الحب. وإلا لعرفت أن الحب هو هبة النفس كلها. . . كلها. . . بلا ترو ولا تبصر. هو اندماج تام لنفسين. هو ائتلاف كامل لقلبين. هو صلة بديعة عذبة تمزج بين روحين وتشرق عليهما لا يفصلهما شيء مطلقا.

إحسان: كيف؟ والشرائع والعادات؟

فايد: الحب يثور على كل شيء. ينسف كل شيء كما يغفر كل شيء.

إحسان: والضمير والواجب؟

فايد: من أحب لا يعقل

إحسان: هذه فوضى.

فايد: هذا هو الحب (يدخل الخادم من الباب الذي إلى اليسار قائلا:)

الخادم: وضعت الملابس جميعها. ليتفضل سيدي فيختار أربطة الرقبة والمناديل ما شاء.

فايد: انتظرني من فضلك يا إحسان. سأعود اليك بعد قليل

إحسان: وهو كذلك.

(يخرج فايد من الباب الذي إلى اليسار ويتبعه الخادم)

ص: 70

‌العالم المسرحي والسينمائي

فلم (الوردة البيضاء)

لناقد (الرسالة) الفني

- 2 -

أفضنا في الأسبوع الماضي في الحديث عن موسيقى عبد الوهاب في فلمه الأول (الوردة البيضاء) لأنها العماد القوي الذي رفع هذا الصرح الشامخ عاليا وأناله هذه المكانة الرفيعة من النجاح والتقدير. وهذه الألوف التي تزاحمت لمشاهدة الفلم انما جذبتها موسيقى عبد الوهاب وألحانه القوية الفياضة التي يصوغها من روحه فتخرج ملؤها الحياة، تعمر جوانبها، وتفيض في نواحيها، وكأن عبد الوهاب يضع فيها من نفسه ومن حاسته، ويفرض عليك عند سماعها ألوانا شتى من العواطف والاحساسات لا قبل لك بدفعها أو الفرار منها، وانك لتسمع الحان هذا الشاب بقلبك وجوانحك قبل أن تسمعها بأذنك.

شغلتنا موسيقى عبد الوهاب إذن عن الحديث في النواحي الأخرى من الفلم، وما ينبغي أن نغمط الممثلين الأكفاء الذين اشتركوا في تمثيل هذا الفلم ما أبدوه من الكفاية في أدوارهم جميعا. ونبدأ بالأستاذ محمد عبد القدوس (خليل أفندي) وكيل الدائرة، فقد كان الممثل الكامل، وليس للناقد عليه من سبيل، إذ أدى دوره على أحسن ما يكون، في بساطة وسهولة ويسر، وفي كثير من الدقة والأمانة للشخصية التي يمثلها، وهو ما اشتهر به عبد القدوس في تمثيله السهل الممتنع. وعبد القدوس لا يمثل، ولكنه يعيش الدور الذي يقوم به. وهذا هو المثل الأعلى لفن التمثيل.

والأستاذ سليمان نجيب في دور (إسماعيل بك) والد رجاء كان كثير التوفيق في مشاهده المختلفة، غير أن نزعته المسرحية كانت تبدو واضحة في حركاته وإشاراته وحديثه. ولو حاول قليلا أن يتخلص منها لما كان ما نأخذه عليه. ويبدأ سليمان جملته قوية، في صوت مرتفع واضح، وما يزال يخافت بها حتى يتلاشى صوته في النهاية فلا نسمع الكلمات الأخيرة التي تخرج أشبه ما تكون بالهمس أو المناجاة. وهذا العيب لا يغتفر في المسرح فمن باب أولى في السينما. على أن مظهر سليمان نجيب بقامته المديدة، وطلعته الوضاحة،

ص: 71

وأناقته المعروفة، مما يكسبه دائما طابعا خاصا يجعله بارزا، ويكسب الشخصية التي يمثلها اهمية خاصة، ويحيطها بجو ملائم لها مما من الترف والنعيم. وسليمان يعد بحق في مرتبة الممثلين المجيدين بين الهواة والمحترفين على السواء. وكم كنت أود أن أراه في موقفه من جلال عندما يطلب منه قطع علاقاته بابنته رجاء، خيرا مما رأيته، وقد كان ذلك في وسعه.

وشخصية (شفيق بك) التي مثلها الأستاذ زكي رستم مضطربة بعض الشيء، وأنت لا تستطيع أن تفهمها من سياق القصة تمام الفهم، ويبدو التناقض في تصرفات هذا الشخص وفي أعماله طول الرواية، وتستطيع أن تقول عن شفيق بك انه رجل لا طعم له ولا لون، وهذه الشخصيات التي لا تجد لها معالم أساسية واضحة من الصعب أن تحاسب الممثل على أدائها حسابا دقيقا. على أن زكي رستم استطاع بجهده انه ينقذ بعض المشاهد. وليس الذنب ذنب الممثل إذا كان المؤلف لم يخرج الشخصية واضحة محدودة المعالم والمظاهر.

وقد أدى الأستاذ توفيق المردنلي دوره (ناظر العزبة) بتوفيق يغبط عليه، وكان فيه طبيعيا لا تلمح في مشاهده أثراً للتكلف، بل كان صورة صادقة للفلاح المصري الطيب القلب السليم الفطرة الصادق في خدمه مولاه، وبرغم قلة مشاهده استطاع أن يبرز شخصيته ويجعل منها مكانة واضحة.

مثلت الآنسة سميرة خلوصي دور (رجاء) وهي المرة الأولى للآنسة التي تظهر فيها على الشاشة، كما أنه لم يسبق لها مران على مهنة التمثيل، وإنها ولا شك خطوة جريئة أن تمثل دورا له هذه الأهمية في الفلم، ولا يكاد يخلو منه مشهد من مشاهده. ولذلك كان التقصير الذي يبدو من الآنسة انما يلام عليه المخرج، وهو في هذه الحالة المسئول الأول عن رجاء، لأنه هنا يعمل في عجينة لدنة يشكلها كيف شاء، ويدربها جهد ما تستطيعه مقدرته، وما تتحمله موهبتها واستعدادها. وقد استطاعت الآنسة سميرة أن تجتاز بعض مشاهد الفلم موفقة، كما بدت في مشاهد اخرى كالطفل الخائف الذي ينفذ أوامر بنصها خوفا من (العلقة) التي تنتظره إذا حاد عن هذه الأوامر قيد شعرة. ولذلك كانت تبدو حركاتها أحياناً وفيها بعض التكلف، وتحس باضطرابها تحت نظرات المخرج الواقف لها بالمرصاد في احدى الزوايا. وبرغم كل هذا نستطيع أن نقول انها نجحت في دورها ووفقت في اداء بعض

ص: 72

مشاهده توفيقا كبيرا. وفي صوت الآنسة رنة مستحبة، عذبة الوقع في الأذن، ساعدتها كثيرا على أن تجد لها مكانا رفيعا في قلوب النظارة، فكسبت بذلك عطفهم وإعجابهم، وبين الاثنين خطوة قصيرة المدى، وأريد أن أهنئها على ذوقها السليم في اختيار ملابسها التي ظهرت بها في الفلم: كلها أنيقة بديعة التنسيق تناسب جسمها وتلائمه.

قامت السيدة دولت بدور زوجة إسماعيل بك والد رجاء. وكان من سوء الحظ ان بدت ممتلئة الجسم إلى درجة كبيرة أضاعت عليها كثيرا من رشاقتها المعروفة، ولم يبذل المخرج جهدا في ملافاة هذا العيب. والسيدة دولت ممثلة معروفة، فلست بحاجة إلى الإفاضة في هذه الناحية، غير إني آخذ عليها أنها أسفت بشخصيتها كثيرا في المشهد الذي تشتم فيه (رجاء) فقد أتت فيه من الحركات ما لا يتفق والاحترام الذي نحمله لشخصية الدور، وما لا ترتجله سيدات الطبقة الراقية مهما كانت الظروف.

ولا أنسى الأستاذ ادمون تويما في مشهده القصير الذي قام فيه بتمثيل دور المستأجر الأصم، فقد كان من مشاهد الفلم الموفقة. أخطاء الإخراج كثيرة في الفلم، وعلى الأستاذ محمد كريم أن يتقبل نصيبه من اللوم بشجاعة وسعة صدر، فلا يزال إلى اليوم في خطاه الأولى، ونرجو له إذا تفرغ لدراسة هذا الفن، فن الإخراج السينمائي بنواحيه المختلفة وأبوابه المتعددة، أن يكون في المستقبل أكثر توفيقا وإلماما بعمله.

أول ما آخذه على المخرج أن مشاهد (جلال) وخصوصاً الغنائية منها لم تظهر في المستوى الفني الذي كان يجب أن تظهر فيه، وقد حد بذلك من حرية عبد الوهاب ولم يهيئ لبعض أغانيه الجو الذي يلائمها فيزيدها جلالاً وسحراً ويضاعف تأثيرها في النفوس، وشتان بين المشهد الختامي والمشهد الذي يغني فيه عبد الوهاب (جفنه علم الغزل) وبين مشاهد (يا وردة الحب) و (سبع سواقي) ومشهدي التخت.

وقطعة النيل كان في مقدور المخرج النابه أن يستفيد مما فيها من حركة وحوار ووصف، وكان يمكنه أن يخرج منها مشهداً رائعاً. فالنيل في ضوء القمر على مقربة من الأهرام، وبعض المراكب الشراعية تسير على مهل، ورجاء وجلال في قارب منها، وفي خلوة رقيقة بين أحضان الطبيعة، هذا وأنغام اللحن الشجي تنساب في مثل رقة النسيم وخرير الماء؛ فأية روعة كانت تكون لهذه القطعة؟ ولكن المخرج حبس جلالاً بين اربعة جدران

ص: 73

وهو يغني أنشودته الجميلة، ولم يحاول حتى أن يستفيد من وجود (رجاء) في الغرفة المجاورة، فقد كان في وسعه أن يتنقل بين الغرفتين، فنرى جلالاً يغني، ثم نرى (رجاء) مأخوذة بسحر صوته، وتبين على وجهها ملامح الانفعال والنشوة والطرب، مما يكسب القطعة حياة. وأي فارق بين هذا المشهد كما أخرجه كريم وبين أن نسمع هذا اللحن من الحاكي؟!

وفي مشهد (يا وردة الحب) اضطر عبد الوهاب أن يقف ويدور، ويجلس تارة على الكرسي، وتارة على المنضدة. وأن يتكلف في الجملة كثيراً من الإشارات والحركات حتى ينتهي من اللحن، كما أن إنشاده لقطعة (سبع سواقي) في مكتب العمل لم يكن طبيعيا مطلقا، وكان يمكن أن يهيأ الجو المناسب للقطعتين.

وإني لأعنى اكبر عناية بمشاهد الغناء في الفلم لانها الأساس فيه. ولذلك أطلت الحديث عنها عامدا. وكنت أود أن تكون عناية الأستاذ كريم بها اكبر، وتوفيقه في إبرازها أقوى واظهر. وقد كانت ميداناً صالحاً لإبراز الكفاية والموهبة والذوق الفني للمخرج.

ومما يعاب على الفلم القفزات التي فيه من ناحية الحوادث، والتي لم يمهد لها المخرج تمهيدا كافيا، ثم بساطة الإخراج في مجموعه مما يجعله اقرب إلى تسجيل الحوادث على طريقة مخبري الجرائد اليومية منه إلى الإبراز الفني الصحيح الذي يطبع الرواية بطابعه، ويجعل لها قيمة فنية تكسبها ذاتية خاصة. وكان في الوسع الاستغناء عن بعض مشاهد الفلم واختزال البعض الأخر. وكان يفيد ذلك في اضافة مشاهد جديدة تستقيم بها الحادثة، أو إطالة بعض المشاهد الموجودة التي تبدو كأنها مبتورة.

ومن المشاهد التي ضاعت تماما وكان يمكن أن تكون من المشاهد الفنية القوية التي لا ينساها المتفرج ابدا، مشهد إسماعيل بك عند زيارته لجلال يطلب منه كوالد قطع صلاته برجاء.

ولست أدري كيف غابت أهمية هذا المشهد عن المخرج، مع انه يكاد يكون أهم مشاهد الرواية، وهو نقطة التحول فيها. كان مشهدا فاتراً عليه مسحة التكلف وقد يكتفي مخرج نابه قدير بخلق موقف كهذا في سياق القصة ليبني عليه مجده وشهرته، وليضفي عليه من فنه حياة وقوة، لما فيه من أهمية الحادث وصراع العوامل المختلفة، مما يجد فيه المخرج

ص: 74

مجالاً لإبراز كفايته.

وكان يستطيع المخرج بفنه وبما يظهره في ثنايا المشهد من العراك القوي العنيف بين إسماعيل بك وجلال وما ينتاب كلا منهما من مختلف عوامل النفس، وشتى الانفعالات، واضطراب جلال وألمه الدفين، وقسوة إسماعيل بك وإلحاحه إلى غير ذلك من المواقف التمثيلية التي يخلقها المخرج، كان يستطيع بذلك أن يقوي نقطة الضعف في الرواية من قبول جلال للتضحية دون مسوغ أو مبرر، بل كان يمحوها محوا، ويخلق الرواية خلقا جديدا.

ولم يلاحظ المخرج التلاؤم بين الأضواء والأشخاص في بعض مناظر الفلم، كما فاته أن يلائم بين ملابس الممثلين وألوان المنظر والأثاث، كما أن ساعات الليل والنهار امتزجت امتزاجا كبيرا بحيث كان يصعب علينا أحياناً أن نحددها: فترى مثلا ضوء النهار، ثم مصباحا كهربائيا منارا في نفس الوقت.

وقس على ذلك كثيرا من الأخطاء المنثورة هنا وهناك، على أن هذا الفلم يعد خيرا من فلمي (زينب) و (أولاد الذوات) اللذين إخرجهما كريم من قبل فلنهنئه إذن.

ص: 75

‌الحركة المسرحية والسينمائية في الخارج

فينا

يعد ماكس رينهاردت من اشهر رجال المسرح في العالم اليوم، وقد عرف بنظرياته الحديثة في الفن والإخراج المسرحي. ووضع احد كبار النقاد كتابا عن فنه ومسرحه يقع في عدة اجزاء، ويعتبر من اهم المراجع في الفن المسرحي الحديث. وكان لرينهاردت مسرحه الخاص في ألمانيا وإلى جانبه مدرسته لتلقى أصول الفنون الجميلة، وشهرتها معروفة في العام اجمع، وقد اضطر إلى هجر عمله في ألمانيا عقب قيام الحركة الهتلرية الأخيرة التي ناصبت اليهود العداء.

ورينهاردت يهودي، وهو يقيم الآن في فينا وسيبرحها قريبا إلى باريس للإشراف على إخراج احدى المسرحيات المعروفة. ثم يقصد استكهلم فكوبنهاجن، وسيخرج في كل من المدينتين بعض الروايات المسرحية. وفي مارس القادم سيرجع إلى فينا للعمل في احد مسارحها الكبرى ثم يبرحها إلى أمريكا في رحلة يطوف فيها اشهر مدنها. وقد أرسل اليه السنيور موسوليني ليتفق معه على ان يتولى إخراج رواية (المائة يوم) في أمريكا. وهي الرواية التي كتبها السنيور موسوليني عن نابليون وظهرت في جميع عواصم أوروبا في الشتاء الماضي وتدور المفاوضات مع رينهاردت، على أن يتولى إخراج رواية (المحراث والنجوم) للكاتب المعروف سان أوكنزي في كوبنهاجن في موسم الشتاء الحالي.

ميلان

وضع رينالتو ليللي من الكتاب المعروفين في إيطاليا درامه غنائية، تدور حوادثها حول حياة ريشارد وجنر الموسيقار الشهير. وقد اقتبس لها كثيرا من الحان وجنر في أوبراته المعروفة.

دون كيشوت

تعد قصة (دون كيشوت) لسرفانتس الكاتب الأسباني الشهير من احسن القطع الأدبية المعروفة، ولها شهرتها ومكانتها في العالم اجمع، وقد ترجمت إلى جميع اللغات وأخرجت في العام الماضي على الستار الفضي، ومثل فيها شاليابين المغني الروسي الشهير (دون

ص: 76

كيشوت) وعمل من الفلم عدة نسخ بلغات مختلفة. ولقي نجاحا كبيرا عند عرضه في عواصم أوربا، غير ان النقاد في لندن اختلفوا في الحكم عليه، فناقد السنداي اكسبريس يرى ان الفلم ليست له قيمة فنية. ويقول سيدني كارول من النقاد المعروفين في سنداي تيمس انه ممل، وان المخرج فشل في اخراجه، بينما يعده ناقد نيوز كرونكل من احسن الأفلام العظيمة التي أخرجت على الشاشة. وقال بعض النقاد ان هذه القصة لا تصلح للعرض على الشاشة، لان قوتها وبلاغتها في اسلوب الكاتب وفي دقة وصفه، وهو ما لا تستطيع السينما ان تنجح في إخراجه.

لندن

تعمل الآن على مسرح (دوق أوف يورك) فرقة من الممثلين الألمان اليهود من اللذين طردوا من ألمانيا عقب قيام حركة هتلر الأخيرة، وتعرض الفرقة اشهر روايات شيلر وزدرمان المؤلفين الألمانيين الشهيرين، وقد اهتم النقاد الإنجليز بالكتابة عن هذه الفرقة وعن رواياتها. ونالت حفلاتها كثيرا من النجاح.

هوليود

يخرج الآن في هوليود فلم بطله الهر هتلر رئيس الحكومة الألمانية وزعيم حزب النازي. وقد أطلق على الفلم اسم (كلب أوربا المجنون) ويمثل دور البطل فيه شخص لم يسبق ظهوره على الشاشة الفضية ويشبه الهر هتلر تمام الشبه.

ص: 77

‌الكتب

على هامش السيرة

تأليف الدكتور طه حسين

للدكتور محمد عوض محمد

إذا ذكرت كلمة (السيرة) في هذه الأقطار الفسيحة التي يظلها الإسلام، فإنها لن تنصرف إلا إلى معنى واحد، إلى سيرة واحدة: هي سيرة محمد بن عبد الله. . وهيهات أن يكون في الدهر كله سيرة أطيب نشرا وأعذب ذكراً من سيرة هذا النبي الأمي، الذي نشأ وسط الصحراء المقفرة المظلمة فلم يلبث أن ملأ العالم خصبا ونورا.

وإني إذ اجلس لأقول كلمتي الضعيفة في هذا الكتاب الذي بين يدي تعود إلى خاطري ذكرى عهد بعيد، حين كنت اطلب العلم في مدرسة المعلمين، وكنت اكثر من الاختلاف إلى دار الكتب المصرية؛ حيث اعتكف على مطالعة الأسفار التي لها صلة بسيرة هذا النبي الكريم. وكنت اكثر على الخصوص، من مطالعة ما كتبه المستشرقون عن الإسلام، وعن الرسول عليه السلام. فكنت أحياناً أجد ما يطفئ الغلة، وتبرق له الأسارير، وينشرح له الصدر. فانطلق إلى الدار راضيا، تملأ قلبي الغبطة والسرور. وأحياناً كنت (يا للأسف!) أقرأ ما يبعث في القلب حنقا وكمدا، فانصرف إلى منزلي حزينا كئيبا مكلوم الفؤاد. ولست ادري تماما ما الذي كان يجذبني إلى كتب المستشرقين في تلك السنين، مع انها كتبت في لغة غير لغتي، وكنت أجد في مطالعتها عسرا ومشقة. . . لعلي كنت اقبل عليها اذ يشوقني الإنصات إلى شهادة غير المسلمين بفضل الإسلام، لكني كنت ارجح الآن هناك سبباً آخر أدق وأخفى، وهو إني كنت التمس سيرة محمد بن عبد الله في تلك الكتب غير العربية لان ما كتب فيها (على علاته) سهل التناول، منسق الوضع، ولهذا لم تنته أيام دراستي في ذلك العهد حتى طالعت، مثلا، مؤلفات السيد أمير علي الإنكليزية ولم استطع أن اقرأ جزءاً واحداً من سيرة ابن هشام. وكان اكبر ما ينفرني من هذه الكتب القديمة ذلك الإكثار من الأسانيد، وإدخال الحديث في الحديث، بحيث يختلط الكلام على غير من تعود مطالعة هذه الأسفار.

ص: 78

ولقد شكوت إلى الأستاذ طه حسين إني بت مضطرا، قبل ان ابدي رأياً في كتابه الجديد، إلى مطالعة هذه الأسفار القديمة وإني ساعياً بكل هذه الأسانيد الطويلة العريضة، وهذه الأخبار المتداخل بعضها في بعض. وما أظن دراستي القاصرة ستساعدني على تذوقها والاستمتاع بها.

فقال الأستاذ: إن ألذ شيء عندي في كل ما أطالع واقرأ هو هذه الأسانيد التي تنفر منها. وليس شيء احب إلي من أن أنصت إلى الخبر أو الحديث وأتتبعه من أول الرواية إلى أخرها.

فعجبت أولاً كيف يتسنى لإنسان ذي ذوق سليم أن تحلو له قراءة العنعنات التي لا تكاد تنتهي. لكني لم البث أن أفهمت أن المرء متى عرف الرواة جميعا وعلم من أمر كل منهم شيئاً، فان هذه الأسماء تصبح مجرد أسماء، بل أشخاصاً تعرفهم يتحدثون اليك، وتعلم أيهم تستطيع أن تركن إلى كلامه وروايته.

وبعد ان شرح لي الأستاذ هذا الأمر الذي أشكل علي، تبينت، أو على الأقل ثبت لدي ما كنت أتوهمه من أمره وما أكاد أثبته، ان ثقافة الدكتور طه حسين الحقيقية هي ثقافة أزهرية متينة قوية الأسس، ضخمة الدعائم، وطيدة الأركان. وان ليست ثقافته الغربية، التي نسمع عنها الشيء الكثير، إلا رواء وطلاء أن بهر العين منظره فانه لا يذهب إلى غور بعيد. وقديما قال نابليون في الروس: انك إذا حككت الروسي بدا لك التتري، وفي وسعنا أيضا ان نقول إذا حككت طه حسين، برفق، بدا لك الأزهري القح الصميم بكل ما تحمله هذه الكلمة من فضل وعلم.

وقد استطاع طه حسين (على غير عمد) ان يصرف الناس عن حقيقة أمره بحديثه عن اليونان والرومان والسكسون واللاتين، واثارته هذه الزوابع التي برع في إثارتها أثناء كلامه عن اشخاص مثل ديكارت وليبنتز وبودلير، وعن التجديد، وما أدراك ما التجديد. فلعل أصدقاء طه حسين ان يحمدوا للشخص الضعيف كاتب هذه السطور أن كشف لهم أمر صديقهم ما خفي طوال هذه السنين.

وبعد، فان بين يدي كتاباً ليس موضوعه جديداً على قراء هذه الصحيفة. فان الفصول الثلاثة الأولى قد ولدت مع الرسالة، وظهرت في إعدادها الأولى، واعرف ان الكثير من

ص: 79

قرائها قد راقهم من الموضوع جدته وطرافته، ولست اشك في ان يهم شوقا للاستزادة من تلك الفصول. فها هو قد أتمها اربعة عشر فصلا، وما ظن، وما أرجو، أن سيقف بها عند هذا الحد.

ان كتب الدكتور طه حسين من صنفين: الأول كتب أدبية بحتة والثاني كتب في نقد الأدب وفي تاريخه. وهو نفسه ينعت هذين النوعين بالأدب الإنشائي والأدب الوصفي، ويمثل الأول كاتب مثل شكسبير، ويمثل الثاني كاتب مثل سنت بوف. وأولى بنا أن ندعو النوع الأول بالأدب؛ والثاني بالنقد والضرب الأول هو الأسمى والأشرف، وكثير من الناس يستطيع أن يستحسن أو يستهجن وأن يبحث ويقرر. أما الابتداع فلم يتح إلا لقليل من الناس. ولقد حاول سنت بوف أن يكون شاعرا فلم يأت بعظيم، فانقلب إلى النقد ولسان حاله يقول: من استطاع فليكتب، ومن لم يستطع فلينتقد!

في هذه العبارات شيء من التحامل على الناقدين، وقد أوردناها على هذه الصورة عمدا لأننا نريد أن نتحامل على طه حسين الكاتب الناقد، وأن ننتصف منه لطه حسين المؤلف الأديب. فقد رأينا في الأستاذ أحياناً ولعاً بالانصراف إلى النقد وإلى المؤلفات النقدية مثل حديث الأربعاء وحافظ وشوقي والأدب الجاهلي. ولقد تعجبه هذه الضجة التي تبعثها كتاباته، ويغتبط بهذا العثير الذي يثيره في الفضاء ويملأ به الجو حيناً من الزمان. والحقيقة التي نرجو أن يدركها الأستاذ قبل فوات الأوان هي أن الصفحة الواحدة من كتاب (الأيام) أبقى على الزمن من كتاب الأدب الجاهلي كله.

ليس لطه حسين إذن في الأدب البحت سوى كتب ثلاثة: (الأيام) و (في الصيف) و (على هامش السيرة) الذي بين أيدينا.

ويمتاز هذا الكتاب الجديد من سابقيه بأن المؤلف لم يلجأ هنا إلى حوادث حياته الخاصة، بل انصرف إلى الأخبار القديمة، فالتمس وحيه بين صفحاتها. . والذي يدهش له القارئ أن يرجع إلى تلك الكتب القديمة ثم يعود إلى (هامش السيرة) فيرى امامه شيئا مبتدعا مخترعا، وجدة جذابة، وطراقة معجبة. ومع هذا كله لا يرى خروجا عن الأصول التي استوحاها المؤلف واستلهمها.

اعتمد طه حسين على الكتب القديمة كما اعتمد شكسبير على قصص فلوطرخوس وأمثاله،

ص: 80

وشتان بين السبيل التي سلكها شكسبير وبين الأصل الذي استرشد به. . وكذلك كان طه حسين يتناول الحادث الذي يمر به قارئ السيرة عجلا، دون ان يلفت نظره منه شيء، يتناوله ثم يأخذ في تصويره وتحليله وإبرازه وإظهاره وتقليبه على نواحيه، حتى يثب امام العين وثوبا، ويبدو ما في الحادث البسيط من حكمة وشعر، ومن قوة وسحر. واكبر شيء ساعد طه على تأليف كتابه هذا مقدرته على تبين الموقف الذي ينطوي على شيء كثير من الحكمة ومن الشعر، فيختار هذا الموقف ثم لا يزال به بصقله ويجلوه حتى يبديه للعين رائعا مجسما ملموسا. وقد خدمه التوفيق في الكتاب كله، فان الفصول، وان تفاوتت أحياناً، فإنها جميعا تشهد بحسن الاختيار، والإبداع في التصوير.

وقد أصبحت أشخاص هذا الحديث، وليست أسماء مجرة وألفاظاً مسطورة؛ بل كائنات حية بارزة نكاد ان نحسها ونراها تتحرك بين أي أيدينا: وقد أبدع طه أيما إبداع في وصف شخصية عبد لمطلب ووصف حياته منذ أن اخذ في حفر زمزم، إلى التقائه بابرهة الأشرم، إلى رقاده رقدة الموت بين الأبناء والأحفاد. يصف طه هذا كله فنرى الصور امام أعيننا ماثلة قوية لا لبس فيها ولا إيهام.

في الكتاب الشيء الكثير الذي يستثير الإعجاب ولكن اكبر ما يعجبنا فيه هذا الإبداع في تصوير الأشخاص عامة وشخص عبد المطلب خاصة، ثم هذه الحياة التي تنتظم المناظر والمواقف، بحيث يرى القارئ نفسه وقد نقل نقلا إلى ذلك الزمن وتلك الأمكنة.

وقف المؤلف في هذا الكتاب على (هامش) السيرة. لم يقف في وسطها ولا بعيدا عنها بل على هامشها. وقد كان من حسن التوفيق أن اختار هذا الموقف الذي مكنه من أن يبتعد عن السيرة أحياناً إذا دعا إلى ذلك داع: ثم يعود اليها بعد أن يطوف بالأفاق، معرجا على بلاد الروم والأحباش واليمن. وقد اضطر إلى أن يبتعد عن السيرة قليلا لكي يشرح لنا ماذا دعا ابرهة الأشرم إلى الإغارة على البيت الحرام في العام الذي قدر للعالم فيه أن يستقبل اكرم أبنائه وأشرفهم. فلقد جاء ابرهة من الحبشة إلى اليمن لكي يؤدب يهود اليمن على اضطهادهم للمسيحيين اللذين استوطنوا بعض جهاتها. . . وهذا كله اضطر المؤلف إلى أن يرينا كيف حلت اليهودية محل الوثنية، وكيف انتقلت اليهودية إلى بعض نواحي جزيرة العرب وكيف حملها (تبع) ملك اليمن وإلى صنعاء إلى اليمن. ثم كيف اخذت النصرانية

ص: 81

تنتشر وسط الاضطهاد والمذابح، في مختلف الأنحاء: في مصر وبلاد الحبشة وفي نجران من بلاد اليمن. وكيف قام يهود اليمن فذبحوا نصارى نجران. وجاء الأحباش إلى اليمن ليثأروا من اليهود. وكيف بقى ابرهة الحبشي حاكما على اليمن، ثم حاول أن ينشر النصرانية فيها وفيما جاورها من الأقطار. وهكذا اقبل على الحجاز بجيشه وفيلته. وأراد أن يدمر الكعبة فرده الله ودمره هو وجنوده. وفي تلك السنة ولد الصبي اليتيم محمد بن عبد الله.

كان لابد للمؤلف أن يبتعد عن السيرة قليلا، لكي يشرح لنا كل هذه الحوادث، واضطر لان يقوم بهذا الشرح في خمسة فصول (من السادس إلى العاشر)، تحس أثناء قراءتها أن المؤلف يكتب في شيء من السرعة والإيجاز، كأنما يخشى أن يطول غيابه عن مكة وأهلها، وعن السيرة وما يحيط بها. فهو يريد أن يسرع بالعودة اليها. وهو لهذا إلى أن مضطر يلخص الحوادث، على خطورتها (تلخيصا) ويكتفي في بعض المواضع بأن يلم بها إلماما. ولقد هممت بأن أؤاخذه على هذا لولا أني ذكرت أن المقام لا يحتمل الإطناب، وأن الإسراف في نقش الإطار يحجب جمال الصورة ويضعف تأثيرها.

برغم ذلك كله فأن في هذا الوصف العجل للحالة الروحية في الشرق قطعا هي آية في دقة الخيال والتصوير. وإن كان لابد من الاستشهاد فلنذكر للقارئ على سبيل التمثيل تلك القطعة التي يعرض علينا فيها آلهة اليونان فيرينا أوبولو والمريخ وأرتيمس وأثينا، وقد اجتمعوا لينظروا فيما عساهم يفعلون؛ فلم يلبثوا أن أجمعوا أمرهم على أن يرحلوا عن الديار التي سادوا فيها زمنا طويلا، وتحكموا في أهلها قرونا، وقد آن لهم أن يتراجعوا أمام هذه الآيات السماوية الجديدة التي محتهم ونسخت دينهم.

بمثل هذا الحوار الشعري الجميل يصف لنا المؤلف كيف زالت الوثنية اليونانية وحلت محلها اليهودية والنصرانية. وهذه القطعة وحدها تشهد بأن المؤلف قد رزق النصيب الأوفر من خصوبة الخيال، والمقدرة على إلباس الحادث العادي ثوباً شعرياً رائعاً.

وهناك فائدة أخرى استفادها المؤلف في موقفه (على الهامش) ذلك أنه استطاع إلا يتقيد بالترتيب الزمني للحوادث؛ فإذا بدا له أن يسهب في وصف شخصية راقته وأعجبته اندفع في وصفها إلى النهاية، لا يلفته عن ذلك حادث أو خطب. فقد اعجب، مثلا، وحق له ان

ص: 82

يعجب، بشخصية أم أوفى حاضنة النبي، فلم يزل يصف حياتها منذ ولادة محمد بن عبد الله إلى أن شهدت عهد أبي بكر وعمر وعثمان، ثم يعود بعد ذلك إلى حديث الرضاعة ووفاة عبد المطلب.

وهذه الخطة التي الزم بها المؤلف نفسه قد تبدو غريبة وربما اعترض عليها بانها تدفع بالقارئ من أول السيرة إلى عصر الخلفاء الراشدين ثم تعود به مرة اخرى إلى بدء السيرة. ولا تزال بالقارئ هكذا ذهابا وإياباً، ومع أن لهذا النقد وجاهته التي لاشك فيها، فان للمؤلف عذره بان الذي يريد ان يكتبه ليس حديث السيرة بالذات بل دراسات مستقل بعضها عن بعض، وفي وسع القارئ أحياناً أن يطالع الفصل متقطعا من الكتاب فلا يكاد يفتقر إلى ما سبقه.

بقيت كلمة لا بد منها عن أسلوب الكاتب، أي عن طريق الأداء عن المعاني والإبانة عما في صدر المؤلف.

ان لطه حسين من السيطرة على اللغة العربية التي لا تضارعها لغة في قوتها وفصاحتها، كما لا تضارعها لغة في شدتها ومنعتها، أن لطه حسين من السيطرة على هذه اللغة وعباراتها المتينة الرصينة ما لا يعرفه إلا اللذين عاشروه من كثب وراقبوه وهو يعمل في قوة ونشاط. ومتى وفق إلى اختيار الموضوع الذي يرضاه؛ وهداه خياله الواسع إلى طريقة معالجته، فقد هان الأمر وسهل كل شيء ومضى في الإملاء كما يتدفق النهر الجاري.

غير إننا إذا كنا نشكو شيئا فأنا نشكو هذه القوة بعينها. وهذه السيطرة التي تطغى أحياناً فتدفع بالكاتب إلى التعسف، وإلى الابتعاد عن الطريق التي يسلكها الناس جميعا، انظر اليه مثلا اذ يحدثك عن الدمع الذي يتساقط غزيرا من العينين فيقول لك أنها دموع غلاظ. ويكفي أن يعلم طه ان الناس جميعا يقولون دموع غزار، لكي يقول هو دموع غلاظ.

هذا الشيء، والقليل مثله مما قد يصادفنا في الكتاب، سنة من سنن القوة والسلطان رأيناها من قبل في مثل ابي تمام وابي الطيب المتنبي الذي كان يتعمد قول الشيء الغريب النافر ولأنه قوي ولأنه مدل بقوته، ولأنه لا يبالي بالأرض ومن عليها. وما احسن المثل العامي الشهير (العافية هبله!).

على أن المؤلف في هذا الكتاب قد أدى معانيه بلغة فيها بلاغة وإبداع يفوقان حتى الذي

ص: 83

ألفناه منه وتعودناه. والسبب في هذه الإجادة سهل إيضاحه: فأن الموضوع الذي يعالجه هنا موضوع عربي صميم، والبيئة عربية خالصة. والمتكلمون من قريش وغير قريش من الناطقين بالضاد. وهذا كله قد أتاح للمؤلف فرصة لأن يتدفق نهره العربي الفصيح الذي لا تشوبه عجمة اللاتين ولا التواء السكسون. فانطلقت سليقته العربية حرة طليقة واكبر الظن أنه هو ليس مدركا لهذا الأمر. ومع ذلك فأن في الكتاب قطعا قد بلغت في الأسلوب الشعري منزلة يصعب أن نجد لها ضريباً. حقيقة أن أمثال تلك القطع ليس في كل مكان من الكتاب، ولكنها في كثير من المواضع، بحيث يصبح من العبث أن نستشهد هنا بقطعة أو قطعتين. ولابد للقارئ من الرجوع إلى الكتاب كله. ولابد له من قراءته في تأمل وتمهل وتذوق لهذه الفصول الرائقة التي يسمو فيها النثر حتى يضاهي الشعر، ويؤثر في النفس تأثيراً شعريا خالصا.

وللمؤلف شغف بالوضوح والبيان، فهو لا يحاول أن يستر معنى ولا فكرة بستار أو غشاء. وما حاجة الوجه الجميل إلى الستر؟ فهو ليس من عشاق الغموض، بل انه ليسرف في حبه للوضوح والجلاء إسرافا، ولهذا نراه يكثر من هذا التكرار الذي يعرفه قراؤه دون أن يدركوا له سرا. بل ربما لم يدرك هو نفسه سر هذا التكرار. وقد يعده الناس من ضرورات النثر المنسجم ولهم في هذا بعض الحق؛ ولكن أكبر الحق في هذا أن الذي يدفعه إلى تكرار لفظ من آن لآن هو رغبته في أن يفهم عنه ما يقول من غير لبس ولا إبهام.

والآن، وقد أوشك هذا النقد أن يختم، يتردد في النفس سؤال: سؤال من ذلك الطراز الذي يدفعنا اليه الفضول الأدبي. وهو من أي انواع الأدب هذا الكتاب الذي بين أيدينا؟ اهو رواية قصصية تاريخية؟ اهو من نوع المقامات أم مجرد مقالات؟

ولست ادري ما ولع النقد بتصنيف كل شيء وتسمية كل أثر؟ ولئن كانت الفاكهة لذيذة شهية، فهل يضرنا أن نجهل اسمها؟ أن الفكر البشري ما برح مولعا بأن ينسج على غير منوال. لكن إذا اجتهدنا أن نجد لهذا المؤلف شبيها بين المؤلفات، فلعل اقرب شيء يشبهه هو تلك الملاحم التي تصف العصور الغابرة، وتجمع بين القوة والإعجاز.

ص: 84