الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 240
- بتاريخ: 07 - 02 - 1938
المرأة والأدب
قال لي صديق أديب:
إن من يقرأ الرسالة في مصر من الأَمصار النائية، أو في عصر من الإعصار الآتية، يحسبها تصدر أو كانت تصدر في بلد ليس فيه نساء. والرسالة كما نعتقد تسجل ظواهر النهضة المصرية، وتصور مظاهر العبقرية العربية؛ فهل خلوها من أثر المرأة معناه أن المرأة لا تزال بمعزل عن نهضة الفكر في مصر، وحركة الأدب في الشرق؟
وهذا السؤال نفسه ألقاه علي أكثر من تحدثوا إلي في الرسالة أو في المرأة أو في الأدب. والجواب عنه ميسور على من عرف كيف نربي البنت ونثقف الأم ونؤلف الأسرة. فنصفنا الجميل الشاعر كما يعبرون اليوم لا تزال كثرته الفاحشة على جهالة الأمية وسذاجة الفطرة. أما قِلَّته الضئيلة فبين طبقة علمتها المدارس المصرية تعليماً فجاً لا يمهد للعقل طرائق المعرفة، ولا يكشف للنفس آفاق الحياة، فعلمها محدود بالتعليم الأولي أو التمريض العملي، وأدبها واقف عند قراءة المجلة الخفيفة وكتابة الرسالة العادية؛ وبين طبقة ثقفتها المدارس الأجنبية فهي غزيرة الأدب صحيحة الفكر سليمة الذوق لطيفة الحديث، ولكنها لا تعلم من لغتها وأدبها غير القشور، ولا تعرف عن يدنها وتاريخها غير الشُّبه، ولا تجد في مكتبتها مؤلفاً شرقياً، ولا ترى على مكتبها ريشة عربية. وقد كتبت إلي آنسة من هذه الطبقة كتاباً بالفرنسية، فلمتها على أن تُقحم هذا اللسان الغريب بين لسانين عربيين، فردت عليّ بذلك اللسان نفسه تقول ما ترجمته:
(لو كنت كتبت إليك بعربيتي لحسبتني طفلة تجمجم بالكلام ولا تبين؛ ويكون من وراء ذلك أنك لا تفهمني ولا تفهم عني. فكتبت إليك بالفرنسية لأن الإنسان يميل بطبعه إلى جهة القدرة لا إلى جهة العجز، ويؤثر بغريزته جانب الكمال على جانب النقص. ولئن تعرضت بذلك إلى غضبك، لقد نجوت ولله الحمد من سخرك؛ وسخطك عليّ أحب إلى كرامتي من استخفافك بي)
فالطبقة الواقفة على الأعراف بين الجهل والعلم لا تستطيع بنصيبها الأخس من الثقافة أن تسُبر عقل الرجل ولا أن تصور قلب المرأة؛ فمثلها مثل الجمهور الأوسط من سواد الشعب يعلو على العامة بمتاع جسمه، ويسفل عن الخاصة بغباء ذهنه. والطبقة القائمة على البرزخ بين الشرق والغرب لا تستطيع كتلك أن تساهم في الأدب العربي بشعاع من الروح
ولا بنتاج من العقل، لأنها مصرية القلب أجنبية اللسان، تغرِّبُ بهذا وتَشرِّق بذاك، وتنام هنا وتحلم هناك، وتأكل وتشرب فيظهر أثرها في مصر، ثم تقرأ وتكتب فيظهر أثرها في الخارج. فسيداتنا العبقريات الحسان: سيزا نبراوي، ونعمت راشد، وقوت القلوب، وإيمي خير، لا يمكن أن يتصل تفكيرهن بالأدب العربي ما دمن يجهلن لغة القرآن، ويحتجن في إفهام قومهن إلى ترجمان
على أن في هاتين الطبقتين شواذ لا يستطعن لقتلهن أن يكنَّ طبقة ثالثة. وهل تستطيع أن تعد في أقطار العربية كلها أكثر من الدكتورة أسماء فهمي، والماجستيرة سهير القلماوي، والفضليات الكواتب ابنة الشاطئ وجميلة العلايلي وفلك طرزي ووداد سكاكيني؟
هؤلاء على تفاوت بينهن يُجدن التفكير والتعبير، ويعطرن من حين إلى حين وجوه الصحف وصدور المجالس بأنفاسهن العبقة وأحلامهن الجميلة؛ ولكن فحولة الأدب في أنوثة العاطفة لم نجدها في امرأة بعد (باحثة البادية) و (مي)؛ وباحثة البادية في ظلال الخلد، ومي وا أسفاه على سرير المرض!
تلك حال المرأة مع الأدب. وهي حال اقتضتها طريقة التعليم وطبيعة المجتمع وحداثة النهضة. فمن الطبيعي ألا يجد فيها الأدب رفداً من إنتاج، ولا الأديب مدداً من وحي. ومن البديهي ألا تحس أنت في الرسالة وفي سائر المجلات سحر المرأة فتشكو الاعتلال والنقص، وألا يجد صديقنا الحكيم في المجالس والأندية عطر المرأة فيشكو الجفاء والجدب. وما دامت المرأة غائبة عن الأدب وعن المجتمع فهيهات أن يبرءا من علل الجفاف والإسفاف والسآمة والفوضى
يريد صديقنا توفيق الحكيم أن يجرب في برجه العاجي أثر المرأة الفاتنة في مجلس جماعة من الأدباء سماهم. ولقد كتبت في العدد التاسع من (الرسالة) ما يصح أن يكون نتيجة لهذه التجربة قلت: (لاحِظْ مجلساً من مجالسنا اجتمعت فيه الرجال شباباُ وشيباً فماذا تجد؟ تجد الحركات العنيفة والأصوات الناشزة والمناقشات الفجَّة والأحاديث الجريئة والكلمات المندية والذوق العامي والإحساس البطيء؛ ثم لاحظْ هذا المجلس نفسه وقد حضرته امرأة، تجد الحركات تتزن والأصوات ترق والمناقشات تُنتج والأحاديث تحتشم والكلمات تُنتقى والذوق يسمو والإحساس يّدِق؛ ذلك لأن الرجل حريص بطبعه على أن يُجمل سَمْته في
عين المرأة، ويحسن صوته في أذن المرأة، ويسوغ رأيه في عقل المرأة؛ والأخلاق المكتسبة تبتدئ بالتطبع وتنتهي إلى الطبع) فمتى يُتاح للمرأة يا تُرى أن تُدرك خطرها في غير الحب، وأثرها في خارج البيت، فتؤدي أمانتها على الوجه الأكمل، وتُبلغ رسالتها على الطريق الأسد؟
أحمد حسن الزيات
في معرض الآراء
للأستاذ عباس محمود العقاد
كتب الأستاذ أديب عباسي في بعض الأعداد القريبة من الرسالة مقالاً سأل في عنوانه: (هل انتهت السياحات والكشوف الظاهرة في القرن السابع عشر أو بعده؟) ثم عاد سائلاً فيه: (أصحيح أن الكشوف الظاهرة أو الكشوف الجغرافية انتهت في القرن السابع عشر أو حواليه، ومن ثم بدأت الكشوف الباطنة للنفس كنتيجة لانصراف الذهن البشري عن الدراسات والسياحات الظاهرة إلى الدراسات والسياحات الباطنة؟! إنني أشك في صحة هذا الزعم، بل أكاد أنفيه قاطعاً)
ثم استطرد في جوابه قائلاً: (ليست السياحات الظاهرة وقفاً على الضرب في مجاهل الأرض واكتشاف كل رجأ من أرجائها؛ وليس الاستشراف للمجهول في خارج حدود النفس الإنسانية قاصراً على الحدود الجغرافية لقارات الكرة الأرضية؛ فهناك السماء بعوالمها الشاسعة، وأكوانها المبثوثة في رحاب الكون، وأسرارها المحيرة؛ وثمة الذرة بصفاتها العجيبة وسلوكها الغريب وأسرارها الدقيقة؛ وهناك أمواج الأثير من ضوء وحرارة وكهرباء وأشعة كونية. . .) إلى أن قال:
(من يستطيع أن يقول: إن الكشوف الظاهرة التي تمت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبداءة هذا القرن في عوالم الطبيعة والحياة تقل روعة وأسراً للخيال وشدْها للإنسان عن أروع المغامرات الجغرافية التي تمت في القرن السابع عشر أو بعده؟ ثم هذه الكشوف الجغرافية ذاتها هل انتهت حقاً في القرن السابع عشر؟ أين مغامرات سكوت وشاكلثون وبيرو وغيرهم. . .)
ومن طرائف المناقشات أن تأتي هذه المناقشة من الأستاذ أديب عباسي تعقيباً لما أسلفناه في مقال (الحدود الحاسمة) الذي قلنا فيه إننا قد نستغني في الحدود والتعريفات عن الإحصاء والاستقصاء لما هو معلوم غني عن البيانات من ضرورات الاستثناء في كل قاعدة. فإذا قال الإنسان إن النهار مضيء وإن الليل مظلم فليس من الواجب بعد ذلك أن يحصي أيام الغيم ولا الأغوار المحجوبة التي تظلم بالليل والنهار
فقد حدثت كشوف جغرافية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ولكنها كلها لا تخرج
عن (المتممات) التي تأتي بعد الفراغ من الأسس والأركان واستقرار البناء على نظامه الأخير. وكذلك نقول مثلاً إن القرن التاسع عشر كان قرن الانقلاب الصناعي ولا نمنع بذلك استمرار الاختراع في عالم الصناعة إلى القرن العشرين بل إلى هذه الساعة
فالأرض نفسها كانت مجهولة قبل الكشوف التي بلغت أوجها في القرن السابع عشر وما حواليه
والبنية الإنسانية نفسها كانت مجهولة قبل تلك الكشوف، فكان من الناس من ينازع في شكل الأرض وفي القرار الذي هي قائمة عليه؛ وكان منهم من يزعم أن الإنسان في بعض الأصقاع يشبه الكلاب أو يشبه الغيلان، ويجري التناسل بينه وبين فصائل شتى من الحيوان
فلما انتهت كشوف القرن السابع عشر انتهى الخلاف في أمر الأشكال والظواهر، وانفتح المجال للبحث في الحقائق والبواطن، أو لمعرفة الإنسان نفساً بعد أن عرفناه تركيباً ووضعناه في موضعه من عالم الأحياء الظاهرين
ولقد ذكر الأستاذ (أديب) كشوف الكواكب وكشوف الذرة وأمواج الأثير والأشعة الكونية، إلى أمثال هذه الكشوف العلمية التي حدثت بعد القرن السابع عشر ولا تزال تحدث في هذه الأيام
ولكن ما شأن هذه الكشوف وما نحن فيه؟ وأين هي من (الحاسة الاجتماعية) التي تتعلق بها القصص وأبطال الرواية وأبطال السياحات؟ أو التي تتعلق بها الديمقراطية وما لها من الأثر في وصف المجتمع وتحليل أفراده وطبقاته؟
فالسائح الذي يعود من الأقطار الأسيوية وقد روى لأبناء وطنه أنباء البذخ والفخامة ونوادر الذهب والفضة والجواهر والنفائس في أيدي الناس؛ يلهب أشواقهم ويعلق آمالهم وأحلامهم وأوهامهم أضعاف أضعاف ما يفعله كشف الذرة وما إليه من كشوف لا تتصل (بالحاسة الاجتماعية) إلا من بعيد
وألف كشف من كشوف (الذرة) لا يغير وصف الأبطال في القصص والروايات إلا أن يصل إلى اختراع طيارات أو سفن أو أسلحة أو ما شابه هذا من أمور تتصل (بالحاسة الاجتماعية) على نحو من الأنحاء
فالمعول فيما كنا نبحثه من اختلاف وصف الأبطال في القصص بين العصور القديمة والعصور الحديثة إنما هو على شعور الناس بها، أو تعلق (الحاسة الاجتماعية) بموضوعها، وليس المعول على حدوثها في عالم الواقع أو تسجيلها في دواوين العلماء
و (الذرة) بعد لا يكشفها إلا عالم أو مشتغل بعلم وصناعة؛ أما البقاع فيكشفها كل من شاء الرحلة من المغامرين، ويعني بها كل من قعد وراءهم من المتخلفين، ويشتغل بها من يراقب الجماهير ويدرس النفوس ويسجل أطوار الشعوب والأفراد. فهي لا تنعزل عن الحياة الاجتماعية ثم الحياة النفسية التي هي موضوع الروايات ومحور وصف الأبطال، وليست كذلك كشوف الكواكب أو كشوف الذرات
ولعل فيما تقدم توضيح ما التبس على الأستاذ (أديب) فهو غني عن المزيد من التوضيح
وقد كتب إلينا الأستاذ عبد الحميد العبادي يسأل عن كتاب الدكتور ويلكوكس وأسمه باللغة الإنجليزية، فذكرنا هذا الاسم في العدد الـ (236) من الرسالة، ووعدنا بالإجابة عما استوضحه الأستاذ من أثر الطريقة الزراعية الحديثة في أحوال العالم بأسره، وأنه ربما فاق في اتساعه وبعد مداه أثر الانقلاب الصناعي منذ قرن من الزمان
أما شرح الطريقة الزراعية العلمية التي تكفل لكل قطر من الأقطار أن يعيش على موارده الداخلية فليست الرسالة محله، ولسنا نحن أصحاب الاختصاص فيه
وأما الأثر الاجتماعي فيستطاع العلم به إذا عرفنا ما كان من أثر الانقلاب الصناعي في القرن الماضي، وعرفنا البواعث التي أفضت إلى ذلك الأثر ولا تزال تفضي إليه
إن الانقلاب الصناعي قد أحوج الدول إلى مستعمرات لجلب (الخامات) وبيع المصنوعات وتسخير الأيدي العاملة بأبخس الأجور
وإن الانقلاب الصناعي قد أخرج للأمم طبقات العمال وأثار بينهم وبين أصحاب الأموال ذلك الصراع الذي قوض ما قوض من دول، وأقام ما أقام من مذاهب في السياسة والدين والأخلاق
وإن الانقلاب الصناعي قد أذكى ضرام التنافس بين الحكومات، وأنشب ما أنشب من حروب وثورات
فكل هذا يتغير لا محالة إذا استغنت كل أمة عن الخامات واستغنت عن الأسواق
كل هذا يتغير إذا نجحت طريقة المجددين في الزراعة العلمية واستطاعت الأمم أن تعيش على مواردها الداخلية كما يقول الدكتور ويلكوكس في كتابه الذي أشرنا إليه
كل هذا يتغير، ويتغير معه تقسيم المجتمع وتقسيم الثروة وتقسيم عناصر الحكومة وتقسيم عوامل السياسة وما يتبعها من أهبة الحرب وأهبة الفتح وأهبة (التحالف) من جهة، والتعادى والتباغض من جهة أخرى
لا خامات في الخارج فلا مستعمرات، ولا أسواق في الخارج فلا منافسات، ولا احتكار فلا تكديس للثروة ولا نزاع بين العاملين وأصحاب رؤوس الأموال، ولا تسليح من ثم ولا توجيه للمصانع إلى غير المفيد من صناعات العمار والإنشاء دون التدمير والتقويض. وإذا احتاجت الأمم إلى بعض الخامات أو بعض الأسواق، فإنما يكون ذلك في أمان واستقرار وتعاون واشتراك على النحو الذي يجري به البيع والشراء بين الأفراد، أو على النحو الذي يجري به التبادل بين جماعات التعاون ولا سيما في بلاد الشمال ونعني بها بلاد الدنمرك والسويد والنرويج
ذلك مجمل الدعوة التي يبشر بها المجددون في علم الزراعة والمشفقون على بني الإنسان من أهوال الحروب
والمذهب معقول في أصوله وفروعه. ولو أنه مشكوك في مقدماته أو في نتائجه لكان مع ذلك جديراً بالبحث والمتابعة والجد في تحقيق ما يستطاع من خيراته وحسناته، لأن متابعة الأحلام قد تجوز إذا عظمت الغاية وعظم الخطر المرهوب. وأي غاية أعظم من اتقاء الحروب؟ وأي خطر أعظم من خطر الفجائع التي تطبق على الشعوب المسوقة إلى تلك الحروب؟
إن متابعة الأحلام قد تجوز في هذا المقام، فكيف بالبحوث العلمية وكيف بالوقائع والأرقام؟
عباس محمود العقاد
ليلى المريضة في العراق
للدكتور زكي مبارك
- 9 -
خرجت من عند ليلى وقد انتصف الليل، فما كدت أبلغ الجادة حتى لمحت إنسانة تعدو خلفي في الدربونة فالتفت فإذا هي ظمياء
- دكتور، متى أرجع إليك؟
- حين تشائين يا ظمياء، ولكن ما الموجب لهذا الاستعجال؟
- هل نسيت البقية من قصة ليلى مع عبد الحسيب؟
- ما نسيت. ارجعي إليّ مساء الغد يا ضمياء، ومعك ماعون من الكُبّة الموصلية
لا موجب للنفاق في هذه المذكرات. إن ظمياء فيما يظهر تتشهى أن تتكلم في عبد الحسيب؛ وأنا فيما يبدو أتشهى الكلام عن درية؛ وأكرر ما كتبته من قبل: (إني لا أعرف كيف يلذعني هذا الاسم) وربما كان هذا من جنون الشعراء، فأنا شاعر مقل، ولكن الإقلال لا يمنع من التشرف بجنون الشعراء. ولعل الإقلال أدل على الجنون؛ وإلا فما كان الذي يمنع من أن أفجع العالم بعدة دواوين ليصبح شعري حديث الأدباء في سائر البلاد؟
درية! درية! ما أعذب هذا الاسم! وما أشقاني في (استلطاف) الأسماء!
رجعت إلى المنزل وأنا أتشوق إلى اقتيات النعاس، فقد كنت انتشيت في حديث ليلى، والمنتشون يتشوقون إلى الهجود؛ كذلك سمعت. ولكني صادفت ما أطار النوم من رأسي، فقد وجدت جريدة الشباب بين البريد وفيها هذه الكلمات:
(فجع الأدب والعلم ونكبت الأخلاق الكريمة بوفاة الأديب الكبير المحقق والكاتب العبقري المنقطع النظير المرحوم الأستاذ محمد صادق عنبر المنشئ الشهير واللغوي المعروف، فقوبل الخبر بحزن شديد، وألم عميق، لما أشتهر عن المرحوم من واسع العلم والإطلاع وصدق الوداد ومكارم الأخلاق)
وقد هدني هذا الخبر المزعج، ونشر أمام عيني كثيراً من الصور والأطياف، فتذكرت أني رأيت صادق عنبر أول مرة سنة 1923 في جريدة الأخبار، فسألني عمن أفضل من الشعراء فقلت: شوقي. فقال: أسألك عن الشعراء الثلاثة. فقلت: من هم؟ فقال: أبو تمام
والبحتري والمتنبي. فقلت: أنا أفضل الشريف الرضي على هؤلاء الثلاثة. فاستغرب وقال: هذا كلام لم يقل به أحد سواك!
وتذكرت أني كنت أتلقى مجلة النهضة النسائية وأنا في باريس سنة 1927 وفيها رسائل وجدانية عنوانها: (الرسائل الضائعة) وهي رسائل نفيسة بقلم صادق عنبر، فلما لقيته بعد حين أثنيت عليها، فقال وهو يتوجع: ليتها كانت صحيحة، فهي خيالية! فقلت: ليتك تمضي في هذا النظام البديع!
وبعد رجوعي من باريس في سنة 1931 كان أول من سأل عني، فمررت عليه في قلم المطبوعات فحبسني ساعتين ليمتع أذنيّ برسائله:(رسائل الحب بين قيس وليلى) فقلت: أهي أيضاً رسائل خيالية؟ فتنهد وقال: لو كانت تنبئ عن وجد دفين لما كان جسمي أضخم جسم في هذه البلاد؟ فنصحته بتكلف العشق ليخف وزنه فيمسي وهو فتى رشيق؟
وتذكرت أني أردت مداعبته في جريدة البلاغ سنة 1935 فذهب إلى صديقي الأستاذ كامل كيلاني وقال له: قل للدكتور زكي مبارك: إن صادق عنبر لن يقرأ البلاغ ولن يعرف ماذا يقول؛ فليثق حضرته بأن الأرض لن تُزلزل تحت قدميّ، ولن يتقوض ماضي صادق عنبر لأن زكي مبارك يهجم عليه في جريدة البلاغ!
وتذكرت والدمع يملأ عيني أن الأستاذ محمد علي الطاهر أراد أن يحتفل بسفري إلى العراق فدعاني إلى الغداء عند العجاتي مع جماعة من أهل الأدب والعلم والبيان، كان فيهم الأستاذ صادق عنبر، ولكنه يومئذ لم يشترك في أطايب الحديث، فهل كان انتهى من دنياه؟
يرحمك الله يا صديقي، ويرحم عهدك في جريدة اللواء، يوم كان أكثر كتاب اليوم أطفالاً يلعبون!
الشجي يبعث الشجي!
هل أستطيع أن أنتهز هذه الفرصة فأدون في هذه المذكرات حادثة عجزت عن تدوينها منذ أشهر طوال؟ هل أستطيع أن أقول بصراحة إنني كنت من أشد الناس ارتياحاً إلى اصطخاب الجدل السياسي في مصر؟ لقد آن لقلبي أن يفصح عن بلائه المكنون. إن الجدل السياسي في مصر كان نعمة وارفة الظلال لأنه استطاع أن يشغل صديقي الأستاذ عباس الجمل عن أفدح نكبة أصيب بها في دنياه، وهي اختصار الغصن المطلول الذي أسمه
طاهر عباس الجمل الطالب بكلية الحقوق
آن أن أصرح بأن هذا الأديب المفقود كان يحفظ ديواني، وأنه تفضل فأسمعنيه قبل أن يذهب إلى دمياط بيوم واحد. آن أن أصرح بأن هذا الشاب كان يراني أكرم أصدقاء أبيه، وكان يرى من البر أن يحفظ أشعاري ويقتني مؤلفاتي. آن أن أبكي هذا الشاب النبيل الذي كان أطهر ضحية ظفرت بها الأمواج
لقد حضرت الذكرى الأخيرة من ذكريات سعد زغلول وكان مجلسي في السرادق يواجه مجلس النقراشي باشا فلم أسلم عليه؛ وظن بعض الحاضرين أنني خشيت أن يكون في السلام عليه ما ينقض مودتي للنحاس باشا. فهل أستطيع أن أنص في هذه المذكرات على أنني لم أخف يومئذ إلا أن يقع بصري على الأستاذ عباس الجمل فأذكره بتلك المصيبة التي تذيب لفائف القلوب؟
كان طاهر الجمل لا يلقاني في الطريق إلا دعاني إلى رؤية منزلهم الجديد في مصر الجديدة، وكان يغريني فيقول: إن لونه كالشليك!
ولكني لم أطعه ولم أر المنزل. وما أظنني سأراه في بقية حياتي، لأن جزعي على طاهر خليق بأن يقتلني إذا رأيت ما كان يهواه في دنياه
أخي الأستاذ صادق عنبر
أرأيت كيف كانت مصيبتي فيك باباً من البلاء!
إن طاهراً في نضارته كان مثلك في ذكائك؛ وعبقرية النضارة لا تقل روعة عن عبقرية الذكاء. وأنت قد تجد من يحبر الرسائل الطوال في الثناء عليك، ويقيم لك حفلات التأبين؛ أما طاهر الجمل فيستصغر ناس قدره، لأنه كان طالباً بالسنة الثالثة بكلية الحقوق، فلم يبق إلا أن أقف وحدي لبكاء تلك الزهرة النضيرة التي اقتطفها الموت في شاطئ دمياط
وما يؤذيني وأنا أكتب هذه الكلمات إلا أن تحمل نسائم الهواء إلى الأستاذ عباس الجمل أنني فكرت في طاهر، فيتذكر أنني ما عزيته فيه، فيتجدد عتبه على صديقه القديم، أو يؤذيه أن يتذكر ابنه بعد تناس؟ ولكن كيف يتناساه بعد أن نعم بوجهه وروحه سنين وسنين، وأنا ما نسيته مع أن بصري لم يقع على وجهه الجميل غير مرات؟
يا طاهر!
اذكرني عند ربك، وقل إن في سكان الأرض ناساً يحفظون الجميل!
وقضيت تلك الليلة وأنا مؤرق الجفون؛ وزاد في الغم والحزن أن الوهم خيل إليّ أن صادق عنبر قد يكون مات بسبب ليلى، مع أن ليلاه خيالية، فكيف يكون مصيري وليلاي امرأة رخيمة الصوت ساحرة العينين تقيم بشارع العباس بن الأحنف في بغداد؟!
وفكرت ثم فكرت، والشجون من جملة الأرزاق!
ولكن وقع حادث طريف خفف ذلك البلاء:
فقد صمم سعادة وكيل وزارة المعارف العراقية أن يزورني في منزلي ليؤدي واجب التحية لرجل هجر وطنه وأهله ليتشرف بخدمة الأدب العربي في العراق؛ وكانت زيارته في الليل، فراعه أن يرى الظلام يغمر السلالم والدهاليز، فاستشاط غضباً وقال: كيف يجوز لصاحب هذا المنزل وهو عضو بمجلس النواب أن يهمل الإضاءة الواجبة، وهو يعلم أن من سكان منزله صاحب النثر الفني؟ سأعرف كيف أحاسب ذلك النائب وكيف أقهره على تعميم النور في دهاليز ذلك البيت؟
فقلت وأنا أتخوف العواقب: أنا مطمئن إلى هذا الظلام يا سعادة الأستاذ!
فقال: وأنا أخشى أن تشكونا إلى مجلة الرسالة أو جريدة البلاغ ولم يمض يومان حتى نفذ النائب المحترم ما أراد سعادة الوكيل؛ ولكن ظمياء استرابت بهذه الأنوار ورفضت دخول البيت!
- ماذا تخافين يا ظمياء؟
- أخاف الأقاويل والأراجيف
- من المفهوم أنك وصيفة ليلى، وأني طبيب ليلى
- هذا كلام لا يصدقه غير المطلعين على ما جرى في هذا الشأن من المخابرات بين الحكومة العراقية والحكومة المصرية
- والجمهور؟
- أترى الجمهور يصدق حقيقة أنك جئت لمداواة ليلى المريضة في العراق؟
- خبر أسود!
- خبر أسود، خبر أبيض، خبر بنفسجي، خبر عنابي، خبر برتقالي، خبر بني، خبر
خمري، أنا لا أدخل هذا البيت في هذه الأنوار وكل سكانه يعرفون أنك رجل وحيد
- نعم، أنا رجل وحيد
- وحيد، أعني تعيش وحدك
- مفهوم، يا ألأم النساء في بغداد
- إيش لون؟
- لا شيء، أقول إنه لا موجب لهذا التخوف، فأنا طبيب ليلى وأنت وصيفة ليلى
- اسمع يا دكتور، أنا أثق بأمانتك، وليلى لم تنهني عن التودد إليك، ولكني لا أقبل أن أكون مضغة الألسنة في هذا الخان
- ومن الذي سيعرف مثلاً أنك ظمياء؟
- يجب أن تفهم أنك في بغداد!
- باسم الله الحفيظ!
- أسمع يا دكتور! يظهر أنك رجل طيب أكثر مما يجب. إن التعرض لأقوال الناس كالتعرض لأقوال الجرائد؛ وربما كان كلام الجرائد أسلم عاقبة من كلام الناس، لأنك تستطيع أن تكذب ما تنشر الجرائد من الباطل فتدفع ما تؤذيك به من بهتان؛ أما كلام الناس فلا سبيل إلى دفعه لأنه ينتقل من أذن إلى أذن ومن لسان إلى لسان، ثم لا تمضي غير أيام حتى يأكل لحمك المفترون، ويأثم بسببك الأبرياء
- وماذا أصنع يا ظمياء؟
- ارحل عن هذا البيت
- وكيف بعد أن تكلف صاحبه ما تكلف في تبديد الظلمات؟
- اختلق سبباً من الأسباب
- أختلق؟!
- الاختلاق مما يجوز في بعض الأحيان
وعندئذ تذكرت أن الأستاذ بهجة الأثري كان اقترح على صاحب البيت أن ينظم الحمام ولم يفعل؛ فطمأنْتُ ظمياء. ومضيت فقضيت معها السهرة في بيت أمها، وهو منزل صغير في درب ضيق لم أسأل عن أسمه، وهو درب يشبه ما يسمونه في مصر: شق الثعبان
وفي صباح اليوم التالي قابلت حضرة النائب المحترم وذكرته باقتراح حضرة الأستاذ بهجة الأثري، فأراد أن يتحلل من الوعد فتكلفت الغضب وقلت في سخرية مصطنعة: كذلك تكون وعود النواب!!
ولم تمض غير ساعات حتى انتقلت إلى منزل آخر في شارع السموءل
ولكن كيف انتقلت بهذه السرعة في يوم واحد؟
ذلك أمر كان يعجز عنه السنهوري والزيات وعزام
والواقع أني رجل خطر جداً، فقد أمسيت أعرف بغداد كما أعرف باريس؛ ومعرفتي بهاتين المدينتين تساوي جهلي بمدينة القاهرة التي لا أعرف منها غير ثلاثة أحياء. أما الإسكندرية فلا أعرف منها غير الشاطئ الذي تعطره أنفاس الملاح في الصيف
ولكن لماذا اخترت شارع السموءل؟
لأنه شارع البنك وجميع سكانه من أهل المال، وأهل المال في الأغلب لا يعتدون على الأعراض، وإنما يعتدون على الجيوب. فالشرطة في مثل هذا الشارع لا تفكر في الفجرة وإنما تفكر في اللصوص، وكذلك تعودني ظمياء بلا تهيب، لأن المآثم في هذه الجادة قليلة الخطورة بالبال، وذلك كل ما أتمناه للسلامة من أهل الفضول
وقد عز عليّ أن يتطاول بنو إسرائيل على اسم السموءل فيسموا به شارع البنك؛ وكان السموءل على يهوديته عربياً سخي اليدين، فما كان ضرهم لو نطقوا أسمه على طريقتهم فقالوا (صمويل). ثم تذكرت أن السموءل كان أقدم من عبر عن ضمائر البنوك حين قال:
وننكر إن شئنا على الناس قولهم
…
ولا ينكرون القول حين نقول
فالبنك هو الذي ينكر ما تقول، ولا تستطيع أن تنكر ما يقول، فهو الفيصل في التصحيح والتزييف
ولعل انتقالي إلى شارع السموءل يدخل على طباعي بعض التعديل. ولعلني أكتسب شيئاً من أخلاق بني إسرائيل، فان الحب يبدد ما اجمع من المال. أليس من السفه أن أراني مسئولاً عن طوائف من البيوت تُسدل ستائرها على طوائف من الوجوه الصِّباح؟ وهل رأى الناس حالاً أغرب من حالي وأنا أنفق على بيت في النمسا منذ سبع سنين لأن فيه فتاة جميلة كانت ترافقني في السوربون؟
أمري إلى الهوى!
تركت أول منزل سكنته في بغداد. ويا حسرة القلب على فراق ذلك المنزل الجميل! فقد كان صورة صحيحة للمنزل الذي كنت أسكن فيه حين كنت طالباً بالأزهر الشريف. كان صورة لربع يعقوب بالغورية، على أيامها السلام! وكانت جاراتي في ذلك الربع من الغيد الحسان، وكان فيهن اسرائيلية تأتمنني على كل شيء وتقول: الشيخ زكي مسلم ولكنه ابن حلال
وكنت حقاً ابن حلال. كنت مستقيماً أؤدي الفرائض وأقرأ الأوراد، وما تغير حالي إلا منذ استطعت أن أقول: بونجور مدموازيل! بونسوار مدام!
لم أفارق منزلي في شارع الرشيد بدون حسرة لاذعة، فقد أقمت فيه ثلاثة أشهر أنشأت فيها تسعمائة صفحة، واستقبلت فيه ظمياء تسع مرات، وهو يذكرني بمأواي القديم في ربع يعقوب الذي ألفت فيه كتاب الأخلاق عند الغزالي، واستقبلت فيه الشيخ الزنكلوني والشيخ عبد المطلب؛ ويذكرني بأول منزل سكنته في مصر الجديدة وهو الذي ألفت فيه كتاب التصوف الإسلامي، واستقبلت فيه الدكتور طه حسين والمسيو لالاند والمسيو ماسينيون؛ ويذكرني بغرفتي بشارع أراس في باريس، وهي الغرفة التي ألفت فيها كتاب النثر الفني، وسمعت فيها أنغام اللغة الفرنسية كما ينطقها بناتها، وكما يلحن بها الإنجليزيات والأسبانيات والنمسويات والألمانيات، ولا سيما الشقراء التي ما كانت تتكلم بغير الغناء:
هل الله عافٍ عن ذوب تسلَّفتْ
…
أم الله إن لم يَعْفُ عنها يعيدها؟
أمري إلى الهوى!!
لقد انزعج صاحب المنزل حين رأى الحمالين من الأكراد ينقلون أثقالي، وبالغ في التلطف ليردني إلى المنزل. ولكن هيهات، فأنا طبيب أفسده الأدب والطبيب الفاسد لا يطاق
أنا أعرف أني خاصمت نائباً، ولكن يعزيني أن نواب العراق لا يلتفتون إلى المسائل الشخصية، فلن ينالني شر من هذا النائب على الإطلاق. وسأرجو الأستاذ معروف الرصافي أن يصلح ما بيني وبينه إن رأيت ما يوجب ذلك. . . وهل من الكثير أن أخرج على أصول الأدب والذوق في سبيل ظمياء؟ إن هذه الوصيفة تعرف جميع أسرار ليلى، وهي أيضاً ستحدثني عن درية. ويا لوعة القلب من طيف درية! فهل يتلطف الحظ فيمتعني
بهوى امرأة تحمل هذا الاسم الجميل؟!
إن أحزاني لا تحملها الجبال، ولكن الله بعباده رؤوف رحيم؛ فهو يسوق إليّ موجبات الأبتسام، أنا الرجل الحزين الذي لم يعرف قلبه الفرح منذ سنين، وكيف أفرح وقد طلبني أبي يوم موته أكثر من خمسين مرة فلم أكد أصل إليه حتى بكته النائحات؟
انتظرت ظمياء في المنزل الجديد وأنا محزون، وأشهد أني مُكره على تأدية هذه الخدمة الوجدانية، فما أعرف كيف يصير حالي مع ليلى، ولعلها تُعافَى ويمرض الطبيب!
ودخلت ظمياء وهي تُرغي وتُزبد
- هل عرفت ما صنعت المرأة جميلة؟
- ماذا صنعت؟
- لقد مزقت قمصانك بعد أن غسلتها وكوتها
- عجيب! ولماذا؟
- لأنها قرأت في مجلة الرسالة أن أسمها جميلة، واسمها الحقيقي هو. . .
وعندئذ ضحكت ضحكة قوية كادت تمحو سطور الأحزان من القلب العميد
إن تلك المرأة لم تعرف إحساني إليها بتلك التسمية، فقد خلعت عليها اسماً أحبه أصدق الحب، ورحمتها من الاسم الذي كانت تحمله، لأنه يقربها من شيخ أبغضه أشد البغض، ويكفي أن يكون أسمها واسمه مبدوءين بحرف الحاء
تلك امرأة حمقاءّ! ولكني لن أنسى معروفها عندي، فقد كانت أول امرأة خدمتني في بغداد. ولو رآها الجاحظ لصاغ لها عقود الثناء
- ظمياء
- نعم يا مولاي
- لا أريد أن أسمع اسم هذه المرأة مرة ثانية، ولا أحب أن أراها بعد أن مزقت قمصاني
- وأنا أكره لسيدي الطبيب أن يتصل بهذه المرأة فقد بدأت تغتابه منذ يومين
- تغتابني؟ وما عساها أن تقول؟
- تقول إنك تحب ليلى
- أنا أحب ليلى؟ وهل جننت حتى أحب امرأة عليلة لا تملك من شواهد الحياة غير صوت
بَغوم وطرف يشيع فيه التكسر والنعاس؟
- إيش لون؟
- ما أدري يا ضمياء
- الأفضل أن نعود إلى قصة عبد الحسيب
- أو قصة درية
- قصة عبد الحسيب
- قصة درية، قصة درية
- وهل تكره قصة عبد الحسيب؟
- قصي على حديث الأخوين: درية وعبد الحسيب
- وأخذت ليلى تقلب الجرائد بحضور السيدة نجلاء فرأت في السياسة الأسبوعية مقالة في رثاء أستاذ مستشرق أسمه بول كازانوفا كتبها أستاذ مستغرب أسمه طه حسين. وتدخل الشيخ دّعاس ليشرح المراد من الاستغراب والاستشراق
(للحديث بقايا)
زكي مبارك
الأدب في العراق
كلمة تشخيصية أولى
للأديب السيد عبد الوهاب الأمين
- 1 -
الأدب بعد الحرب
دعي القرن العشرون قرن المدنية والنور؛ ولقد كانت مفاخر العصور السابقة من طراز آخر غير المدنية وغير النور، فمفهوم (المدنية) لا زال مقروناً بالحرب والدمار، ولا يزال النور مقصوراً على الماديات دون المعنويات. وقد قامت بعد الحرب العظمى هيجة صاخبة أيقظت جميع الشعوب، كان قوامها نهضة أدبية شاملة، لا تزال بقايا منها محتفظة بفعالية ظاهرة. وهانحن أولاء نرى في كل يوم دليلاً جدياً على هذه النهضة الأدبية الكبرى، فيما تستبق إليه المطابع العربية من نشر مؤلفات جديدة لشخصيات أدبية عالية من طراز لم تعهده البشرية قبل الحرب العظمى؛ فكان من الطبيعي أن يثار التسآل عن هذا الأدب وهذه النهضة الأدبية، وما محصولها وقوامها وجدواها؟ وهل الأدب لهو يزجي الإنسان به ساعات فراغه ليعتصم به من مفاسد الفراغ كما يقول الشاعر؟ أو هو ضرورة من ضرورات الحياة المدنية ودلالة على الحياة المعنوية المكتملة؟
إن كانت لهواً فالأدب كالحياة لهو لا مفر منه، وإن كان يفوقها بأنه لهو له جدواه ودلالته، وهي مقصورة الدلالة على أنها لا جدوى لها؛ وهو إحدى ضرورات الحياة الشاعرة المدركة ودلالاتها؛ وبغير فضيلتي الشعور والإدراك لا تبقى من معاني الحياة غير الناحية البهيمية التي يترفع البشر المدرك أن يقتصر عليها. والأدب - وهو وصف الحياة الصادق - مقرون بالحياة ومحمول عليها؛ فإن كانت حياة رفيعة فهناك أدب رفيع، وإن كانت منحطة فأدب منحط؛ وفي هذه الناحية يؤيدنا التاريخ تأييداً لا يستدعينا البرهان
ونعتصم بالتاريخ مرة أخرى فنراه يقول: (إن نهضة من النهضات في الشعوب العالمية لم تتم إلا بعد أن تقدمتها حركة أدبية). وقد سجل هذا التاريخ في صفحاته مجداً لفولتير ورسو كمجد نابليون وروبسبير؛ ولسنا نعني أن الأدب بصورة مجردة يتقدم ظهوره في نهضات
الشعوب، بل المقصود أن تقدم ظهوره في مثل هذه الحالات إنما هو دليل قاطع على نهضة تلك الشعوب وإنذار وبلاغ بنهضة مقبلة على الفور، وما نريد أن نعني بالأدب غير البلاغ والإنذار
هل الأدب ضرورة؟
ليس من شك في أن الأدب ضرورة
وهو ضرورة لا تشبه غيرها من ضرورات الحياة الكبرى، لأنها ضرورة شديدة الشبه بالحياة نفسها كما تقدم، وذلك لأنها حياة أخرى من دون لحم ودم. أو هي الحياة نفسها مخلدة على الورق، وفي بطون الكتب. وليس المقام مقام تمجيد للأدب ومغالبته في الحياة، وإنما هو مقام تعريف بقدره ومكانته بوجه عام، وما دمنا نريد لحياتنا العامة تقدماً واضطراداً. فأحرى بنا أن نوجه أنظارنا لتعرف آثار هذه النهضة المقبلة وما يجب أن يسبقها من البعث الأدبي
نظرتنا إلى الأدب ونتائجها
لذلك ينبغي أن نغير نظرتنا إلى الأدب، تلك النظرة السطحية التي تعودنا منذ عشرات السنين أن ننظرها إلى المحصول الأدبي وإلى أشخاص الأدباء، سواء الأحياء منهم والأموات. يجب أن نفهم أن الأدب ليس تزجية الفراغ، أو سمر العاطل، أو منادمة الميسور، أو ما يدخل في أمثال هذه المعاني مما درجنا على اعتقاده، فالأدب كما يفهم غيرنا قوة فعالة في الحياة اليومية والحياة العامة بصرف النظر عن مفهومه ودلالته
إن هناك خطراً خلقياً عظيم الأثر سنتعرض له، إذا استمرت نظرتنا إلى الأدب على ما هي عليه الآن من السطحية وقلة الشأن من جهة، ومن الخطأ الشائع في مفهومه وإدراكه من جهة أخرى. فالأديب في نظر الأكثرين منا هو الشخص الذي يعيش على هامش الحياة ولا يقيم وزناً لخارجياتها ومادياتها، ولا يسأل عما يقول أو يفعل، ويكفي أن يوصف الإنسان (بالأديب) لكي يفهم السامع أنه أمام شخص غريب الأطوار يعيش في عالم لا علاقة له بالحاضر ولا يطلب منه الاستعداد للمستقبل. وكذلك يتلقى أكثرنا كتابات الأدباء وقصائد الشعراء على أنها أقرب ما تكون إلى الآثار والعاديات
وقد كان لهاتين الحالتين نتيجتان أولاهما مادية والأخرى روحية، فالأولى أننا أصبحنا فقراء في أدبنا عالة على آداب غيرنا. فمنا من ينصرف إلى قراءة الأدب بإحدى اللغات الأجنبية إن كان يحسنها، والذين يجهلون تلك اللغات قد تعودوا القناعة بما تصدره مصر وسورية وبقية البلاد العربية من مطبوعات وكتب. والنتيجة الروحية هي هذه الحالة التي نوشك أن نحس بها جميعاً من القنوط من بعث أدبي لا نحس الحاجة إليه، ويقنعنا أن نكتفي بالتعيش على فيض مما تصدره جاراتنا العربيات من أدب يختص بهن، ولا يطمئن حاجاتنا الروحية أو يعبر تمام التعبير عن إحساسنا الفني
أدبنا كما ينبغي أن نفهمه
الأدب كما يفهمه هذا العصر لا ينحصر - كما يعتقد الكثيرون منا ممن اقتصرت ثقافتهم على نوع واحد من أنواعه - في القدرة على الأداء والتعبير الجميل، بل أصبح - بفضل الطباعة والصحافة - يضم إليه أشتاتاً أخرى من فنون لم تكن في العهد القديم تقرن به؛ وتطورت تسمياته فأصبحنا نسمع الآن (بأدب البحر) و (أدب الموسيقى) و (أدب الموقد) وما إلى ذلك من التسميات. وعهدنا نحن بالأدب أنه محصور في اللغة والبديع، والأمالي، والمقامات، وما إليها. ولكل من هذه الفنون - طبعاً - أصول ليس في مكنة الأديب أن يتعداها أو يغفل عنها؛ ومن هنا نتج الضيق فيما نسميه نحن أدباً ويسميه الغربيون عنا بينما هم يسمون الأدب باسم آخر
ولو أردنا أن نحصر مفهوم الأدب كما يذكره أيناه العصر الحاضر لما عجزنا عن ذلك فحسب، بل لكان عملنا - لو تم - ناقصاً في ذاته، بالغاً ما بلغ من كمال؛ ذلك لأن المفهوم عنه لن يقف عندما سوف نصل إلى تحديده وتعريفه، بل سيخلق وشيكاً غيره وغيره من فنون لا نستطيع منذ الآن أن نعطي فكرة عنها فنحن الآن مثلاً لا زلنا نعيش في أدب الترسل واجترار الكلام على الأصول القديمة؛ أما في العالم فقد حدثت بعد دورنا هذا آداب جديدة: كأدب المقالة، وأدب القصة، وأدب الرواية، وأدب الترجمة ولن يستطيع أي مفكر وأديب كبير أن يتنبأ عن أدب العصر المقبل: ما هو؟ وكيف سيكون؟ وماذا يفيد؟ وما أسلوبه؟
علم الأدب
إننا نفهم الأدب الآن فهماً غريباً لا هو بسبيل فهم الأقدمين له، ولا هو على شاكلة ما يعنيه الغربيون ويصطلحون عليه؛ فقد كان شأنه في القديم عظيماً، وكان شخص الأديب عنصراً فعالاً في الحياة العامة. وحسبنا دلالة على مفهوم الأدب وفعاليته في تلك العصور ومقام الأديب في الحياة الاجتماعية أن الأقدمين كانوا يعزون الأدب فيسمونه (علماً) وهم يقصدون بالعلم ما نقصد العلم به الآن بهذه التسمية فيقولون (علم الأدب)! ويصفون الأديب بأنه عالم في علم الأدب
تطور مفهوم الأدب والصحافة
والأدب في العصر الحاضر له مفهوم تطور وترقي حتى زاد في علوه على ما كان له من المكانة في العصور القديمة، وأصبح شأنه في الحياة العامة أعمق وأخطر مما كان عليه في العصور التي سبقت المدنية الحديثة، وأصبح الإنسان لا يستطيع أن يتصور بلداً متمدناً من دون صحف وطباعة. وقد حاول أحد الكتاب أن يستمر في خياله عن مدنية كهذه، فانتهى به الأمر أن وكل نتائجها إلى الجنون. فقد أصبحت الصحافة سلاحاً وكانت في بداية أمرها لا تزيد على وسيلة بسيطة لزيادة المعلومات العامة ونشر الأخبار؛ وصارت (القصة) الفنية الأدبية وسيلة العالم في الدعوة إلى نظرية من نظرياته، والفيلسوف إلى نشر فلسفته، والسياسي إلى الدفاع والدعاوة عن سياسته، وغدا شخص الأديب متمتعاً بأكثر مما كان يتمتع به شخص الأمير من التجلة والاحترام والتقدير والمهابة في العصور السابقة
الأدب كما نفهمه نحن
أما ما نفهمه نحن عن الأدب فأنه ينحط إلى أقل من اللهو والمجانة، وبعض أساليب اللهو عندنا تستدعينا شيئاً من الجد والهمة في إحضارها والاستعداد لها، أما الأدب فلا نكاد نعتبره من الملاهي التي نجد في الحصول عليها، فان حصل من تلقاء نفسه فانه لا يكاد يعنينا إلا أن نكون نحن في حالة لهو، أو نتلقاه على أنه صنيعة لاه غير مسؤول عما يقول، في ساعة لهو خالية من خير أو من جد أو من منفعة. وهذا نهاية ما يصل إليه سوء فهم الأدب، وسوء تأويله، وخطر حالة مثل هذه لا يقتصر على تشويه جمال الأدب نفسه، بل يتعدى ذلك إلى خلق شعور العجز والمحاكاة والتقليد الأعمى كما نرى جماع ذلك في حياتنا
الأدبية الحاضرة
لقد آن لنا أن ندرك حظ الأدب ومغالبته في الحياة العامة وتأثيره في إعداد الأجيال المقبلة الأعداد الذي يتفق مع ما سيحتاجون إليه من كفاءة وقدرة. ونحن مسؤولون أمام التاريخ عن إهمال الناحية الأدبية والفنية في حياتنا، كأفراد، كأمة، وكحكومة. وما دمنا نسعى إلى النهوض في جميع مناحي حياتنا العامة فأحرى بنا أن نضع نصب أعيننا ضرورة اعتبار الأدب بوجه عام من أهم ما ينبغي السعي على إحيائه والعمل على النهوض به. ولن يستدعينا العمل لهذه الغاية ما يستدعي الحياة المادية من تضحية في النفوس والأموال والكفاءات والجهود، بل كل ما نحتاجه في هذا المضمار هو تحسين نظرتنا إلى الأدب ومعناه وأثره واعتباره من الضرورات التي ينبغي أن نوحد الجهود في سبيل العناية بها في غمار ما نحن آخذون بسبيل السعي إليه من نواحي الحياة الأخرى، والكف عن اعتباره ألهية لا تستحق عنايتنا إلا بعد الإجهاد والنصب كما نتناول ألهيات الحياة وتفاهاتها. ولا نطمع في أن يصل تقديرنا هذا للأدب إلى أكثر مما وصل إليه فعلاً في أيام المتنبي وأبي نواس ومن عداهما وإن كان يحق لنا أن نحذو حذو أوربا والغرب في هذا المضمار وأن يكون تقديرنا له كتقديرهم له سواء بسواء
(للحديث بقية - بغداد)
عبد الوهاب الأمين
من برجنا العاجي
التجارب هي إحدى وسائل (العلم)، لعل ساعة (التجربة) هي أمتع لحظات (العالِم) خطر لي مرة أن أقوم بتجربة غريبة ممتعة: أن أضع امرأة فاتنة بين إخواني الأدباء الأفاضل: العقاد وطه والمازني وأحمد أمين والزيات والبشري؛ ثم أنظر بعد ذلك ما يكون. إني على ثقة أنهم لن يناموا ليلتهم قبل أن يسطر كل منهم على الورق أشياء قد تكون من أجل ما كتبوا. إن المرأة الجميلة في مجلس الأديب لها فعل السحر. تستطيع بغير عصا أن تخرج جواهر البيان من أفواه الأدباء؛ إنا لا نكاد نجد أدباً من الآداب العظيمة لم يرو لنا خبر المرأة في مجلس الأدب؛ فإذا راجعنا الأدب العربي القديم وجدنا ذكر الجواري اللواتي كالشموس، الضاربات بالعود، اللاعبات بالنرد، الراويات للشعر؛ وإذا نظرنا في آداب الغرب في كل عصر وجدنا أخبار (الصالونات) وما فيها من أقمار كلهن ذكاء وثقافة ودلال. نعم؛ وهل يمر يوم على أديب من أدباء الغرب لا يجلس فيه إلى مائدة تزينها باقات النساء الجميلات؟! فيلبث ساعة يتحدث إلى ملكين رقيقين عن يمينه ويساره يقطر الوحي من شفتيهما، ثم يعود إلى عزلته وكتبه وورقه ليمضي في إنتاجه الأدبي، وهذا الإنتاج الذي نراه بعد ذلك آية من آيات الإعجاز! أما نحن فلا عرب بلغنا ولا غرب، ولا شموس حولنا ولا أقمار؛ ولكننا أدباء كالعناكب ننسج في الظلام، ونعيش في الجدب والحرمان؛ ومع ذلك ننتج أحياناً، وهنا حقاً آية الإعجاز! إن أولئك الذين يتهمون أدبنا الحديث بالتقصير هم قوم ظالمون أو أغرار لا يبصرون. إن أدباءنا المعاصرين لجبابرة مستبسلون، ومجاهدون مستشهدون، لم يعرف مثلهم أدب من الآداب. فما من أدب في التاريخ استطاع أن يظهر في ظروف اجتمعت على خنقه كهذه الظروف. اللهم إنَّا شهداء! اللهم إنّا شهداء!
توفيق الحكيم
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 -
1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 23 -
الرافعي والعقاد
لقد مات الرافعي - يرحمه الله - فانقطع بموته ما كان بينه وبين خصومه من عداوات. وما أريد أن أوقظ فتنة نائمة يتناولني لهيبها أولَ ما يتناول، فما لي طاقة على حمل العداوة، ولا اصطبار على عنت الخصومة، ولا احتمال على مشقة الجدال؛ وإنما هو تاريخ إنسان له على العربية حق جحده الجاحدون فنهضت للوفاء به؛ فإن كنت أكتب عن أحد من خصومه أو أصحابه بما يؤلم أو يسئ فما ذلك أردت، ولا إليه قصدت، ولا به رضيت؛ ولكنها أمانة أحملها كارهاً، وأضطلع بعبئها مضطراً، لأؤديها إلى أهلها كما تأدت إليّ. وإني لأعلم أني بم اكتب من هذا التاريخ أضع نفسي بالموضع الذي أكره، وأتعرض بها لما لا أتوقع؛ ولكن حسبي خلوص النية، وبراءة الصدر، وشرف القصد؛ ولا عليّ بعد ذلك مما يكتب فلان، ولا مما يتوعد به فلان؛ فإن كان أحد يريد أن يصل بي ما كان بينه وبين الرافعي من عداوة فانقطعت، أو يربط بي رابطةً كانت بينه وبين فلان فانفصمت، أو يتخذ من الاعتراض عليّ زلفى إلى صديق يلتمس ودَّه، أو يجعل مما يكون بيني وبينه سبيلاً إلى غرض يرجو النفاذ إليه، أو وسيلة إلى هوى يسعى إليه - إن كان أحد يريد ذلك فلْيمضِ على إرادته، وإن لي نهجي الذي رسمْت، فلتفترق بنا الطريق أو تلتق على سواء، فليس هذا أو ذاك بما نعى من المضيَّ في سبيلي. ومن الله التوفيق!
وهذه خصومة أخرى من خصومات الرافعي، ومعركة جديدة من معاركه. وإني لأشعر حين أعرض لنبش الماضي فأذكر ما كان بين الرافعي والعقاد، أني كمن يدخل بين صديقين كان بينهما في سالف العمر شحناءُ ثم مسحت على قلبيهما الأيامُ فتصافيا، فإنه ليُذكِّر بما لا ينبغي أن يُذكر. والموت يحسم أسباب الخلاف بين كرام الناس؛ فإذا كان بين الرافعي والعقاد عداوةٌ في سالف الأيام فقد انقطعت أسبابها ودواعيها، فإن بينهما اليوم لبرزخاً لا تجتازه الأرواح إلى أُخراها إلا بعد أن تترك شهواتها وأحقادها وعواطفها البشرية. فهنا ناموس وهناك ناموس، ولكل عالم قوانينه وشريعته؛ فما تخلص ضوضاءُ الحياة إلى آذان من في القبر، ولا ينتهي إلى الأحياء من عواطف الموتى إلا ما خلفوا من الآثار في دنياهم
هنا رجل من الأحياء، وهناك رجل في التاريخ، وشتان بين هنا وهناك؛ فما أتحدث اليوم عن خصومة قائمة، ولكني أتحدث عن ماض بعيد. والرافعي الذي يحيا بذكراه اليوم بيننا غير الرافعي الذي كان، فما ينبغي أن تجدد ذكراه ماضيَ البغضاء، وهذا عذيرى فيما أذكر من الحديث. . .
لم يكن بين الرافعي والعقاد قبل إصدار الطبعة الملكية من إعجاز القرآن غير الصفاء والود؛ فلما صدر هذا الكتاب في طبعته الجديدة أحدث بينهما شيئاً كان هو أول الخصام. . .
حدثني الرافعي قال: (سعيت لدار المقتطف لأمر، فوافقت العقاد هناك، ولكنه لقيني بوجه غير الذي كان يلقاني به، فاعتذرت من ذلك إلى نفسي بما ألهمتني نفسي، وجلسنا نتحدث. وسألته الرأي في إعجاز القرآن، فكأنما ألقيت حجراً في ماء آسن. . . . . . ومضى يتحدث في حماسة وغضب وانفعال، كأن ثأراً بينه وبين إعجاز القرآن. ولو كان طعنه وتجريحه في الكتاب نفسه لهان عليّ، ولكن حديثه عن الكتاب جره إلى حديث آخر عن القرآن نفسه وعن إعجاز وإيمانه بهذا الإعجاز. . . . . . أَصدقك القولَ يا بني: لقد ثارتْ نفسي ساعتئذٍ ثورة عنيفة، فكدت أفعل شيئاً. إن القرآن لأكرم وأعز. . . ولكني آثرت الأناة. . .)
قال الرافعي: (وأخذت أناقشه الرأي وأبادله الحوار في هدوء وإن في صدري لمَرجلاً يتلهب؛ إذ كنت أخادع نفسي فأزعم لها أنه لم يتخذ لنفسه هذا الأسلوب في الهجوم على فكرة إعجاز القرآن إلا لأنه حريص على أن يعرف ما لا يعرف، وعلى أن يقتنع بما لم يكن مقتنعاً به؛ فأخذت معه في الحديث على هدوئي وثورة أعصابه. . . ولم أفهم إلا من بعدُ ما كان يدعوه إلى ما ذهب إليه. . .)
قال: (لقد كان العقاد كاتباً من أكبر كتاب الوفد، ينافح عنه ويدعو إليه بقلمه ولسانه عشر سنين، وإنه ليرى له عند (سعد) منزلة لا يراها لكاتب من الكتاب، أو أديب من الأدباء، وإن له على سعد حقاً؛ ولكن سعداً مع كل ذلك لم يكتب له عن كتاب من كتبه:(كأنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم) وكتبها للرافعي وليس له عليه حق مما عليه للعقاد. . .)
قال الرافعي: (. . . من هنا يا بني كانت ثورته. كانت ثورة الغيرة. . . لا ثورة الأديب الناقد الذي لم يقنع بما كتب الكتاب عن إعجاز القرآن فهو يلتمس المعرفة والاقتناع. وعرْفتُ ذلك من بعدُ، فما بدا عليّ ما في نفسي من الانفعال، ومضيت معه في الحديث في وجه جديد. قلت: أنت تجحد فضل كتابي فهل تراك أحسن رأياً من سعد؟)
قال الرافعي: (وفهم ما أعنيه فقال: وما سعد؟ وما رأي سعد؟)
قال الرافعي: (وطويت الورقة التي كان يكتب فيها حديثه فقبضت عليها يدي ثم قلت: أفتراك تصرح برأيك هذا في سعد لقرائك وإنك لتأكل الخبز في مدح سعد والتعلق بذكراه. . .؟ قال: فاكتب إليّ هذا السؤال في صحيفة من الصحف تقرأ جوابي كما عرفته الآن. . .!)
قال الرافعي: (وابتسمت لقوله ذاك وأجبته: يا سيدي، إن الرافعي ليس من الحماقة بحيث يسألك هذا السؤال في صحيفة من الصحف، فتنشر السؤال ولا ترد عليه، فيكون في سؤالي وفي صمتك تهمة لي، وتظل أنت عند قرائك حازماً أريباً بريئاً من التهمة مخلصاً لذكرى سعد!)
قال الرافعي: (وما قلتُ ذلك - وإن ورقته في يدي أشد عليها بأناملي - حتى تقبض وجهه، وتقلصت عضلاته، ثم قال في غيظ وحنق: ومع ذلك فما لك أنت ولسعد؟ إن سعداً لم يكتب هذا الخطاب، ولكنك أنت كاتبه ومزوره، ثم نحلته إياه لتصدر به كتابك فيروج عند الشعب!)
قال الرافعي: (وما أطقت الصبر بعد هذه التهمة الشنيعة، ولا ملكت سلطاني على نفسي، فهممت به. . فدخل بيننا الأستاذ صروف، فدعا العقاد أن يغادر المكان ليحسم العراك ويفض الثورة!)
هذه رواية الرافعي، حدثني بها غير مرة في غير مجلس، كما تحدث بها إلى غيري من أصدقائه وخاصته؛ فما لي فيها إلا الرواية والتصرف في بعض الكلام تأدباً مع الأستاذ العقاد وكرامة لذكرى الرافعي
على السفود
وفرغ الرافعي من مقالات عبد الله عفيفي التي كان ينشرها بعنوان (على السَّفُّود)؛ ثم ذهب
مرة لزيارة صديقه الأستاذ إسماعيل مظهر صاحب العصور، فسأله تتمة هذه السلسة في نقد الأستاذ عفيفي، فاعتذر الرافعي وقال: حسبي ما كتبت عنه وحسْبه. قال الأستاذ مظهر: فاكتب عن غيره من الشعراء. إن في هذه المقالات لمثالا يحتذيه الذين يريدون أن يحرروا بالنقد عقولهم من عبادة الأشخاص ووثنية الصحافة!
فتنبه الرافعي إلى شيء في نفسه، وجلس إلى مكتب في دار العصور فكتب مقاله الأول من كتاب على السفود؛ وتوالت مقالاته من بعد في أعداد المجلة متتابعة في كل شهر. فلما تمت هذه المقالات نشرها الأستاذ إسماعيل مظهر في كتاب قدم له بمقدمة بإمضائه يبين فيها ما دفعه إلى نشر هذا الكتاب الذي لم يكتب على غلافه اسم مؤلفه، ورمز إليه بكلمة (بقلم إمام من أئمة الأدب العربي)
وفي الأسبوع المقبل إن شاء الله حديثنا عن الكتاب ونهجه
(شبرا)
محمد سعيد العريان
مصر وفلسطين
لأستاذ جليل
سمع الناس في الخافقين منذ أشهر كلمة مصر الإسلامية العربية في (دار العصبة) في شأن فلسطين وذلك التقسيم المقطِّع الممزِّق، وتلوا في هذا اليوم كتاب رجال من (دار الندوة) ومجلس الشيوخ فيها إلى سفير الإنكليز، وفي الكتاب ما فيه. وهذه كلمة ذات زئير ونهيم قالتها مصر منذ قرون حين سأل الغرب مثل الذي يبغيه اليوم. وقد رواها (صبح الأعشى) من (التعريف بالمصطلح الشريف)، وإنها لتنادي مفصحة مبينة على أن مصر هي مصر في كل وقت، وأنها لن تنام عن مظاهرة أخ في الدين أو العربية مستطاعة. وفي رواية (التعريف) ألفاظ عامية لا تنحط بها قيمها بل تغليها؛ وإن كثيراً من الباحثين اليوم ليهتمون بالوقوف على مثلها. وهذه هي الطرفة التاريخية:
(قال في (التعريف): أما الرِّيد فَرَنسي فلم يرد له إلا رسول واحد أبرق وأرعد، وجاء يطلب بيت المقدس على أنه يفتح له ساحل قيسارية أو عسقلان، ويكون للإسلام بهما ولاة
مع ولاته، والبلاد مناصفة ومساجد المسلمين قائمة، وإدارات قومتها دارّة، على أنه يبذل مائتي ألف دينار تعجل وتحمل في (كل) سنة، نظير دخل (نصف) البلاد التي يتسلمها على معدل ثلاث سنين، ويطرف في كل سنة بغرائب التحف والهدايا. وحسّن هذا كُتّاب. . . . . . كانوا صاروا رءوساً في الدولة بعمائم بيض وسرائر سود، وهم أعداء زرق، يجرعون الموت الأحمر، وعملوا على تمشية هذا القصد وإن سرى في البدن هذا السم وتطلب له الدرياق فعز
وقالوا: هذا مال جليل معجل؛ ثم ماذا عسى أن يكون منهم وهم نقطة في بحر، وحصاة في دهناء؟
قال: وبلغ هذا أبي رحمه الله فآلى أن يجاهر في هذا، ويجاهد بما أمكنه، ويدافع بمهما قدر عليه، ولو لاوئ السلطان على رأيه أن أصغي إلى أولئك الأفكة، وقال لي: تقوم معي وتتكلم، ولو خضبت ثيابنا بالدم، وأرسلنا قاضي القضاة القزويني الخطيب، فأجاب وأجاد الأستعداد، فلما بكرنا إلى الخدمة وحضرنا بين يدي السلطان بدار العدل، حضرت الرسل وكان بعض أولئك الكتبة حاضراً، فاستعد لأن يتكلم، وكذلك استعدينا نحن: فما استتم كلامهم حتى غضب السلطان وحمى غضبه، وكاد يتضرم عليهم حطبه، ويتعجل لهم عطبه، وأسكت ذلك المنافق بخزيته، وسكتنا نحن اكتفاء بما بلغه السلطان مما رده بخيبته، فصد ذلك الشيطان وكفى الله المؤمنين القتال، وردت على راميها النضال؛ وكان الذي قاله السلطان: وَالْكم أنتم عرفتم ما لقيتم نوبة دمياط من عسكر الملك الصالح، وكانوا جماعة أكراد ملفقة مجمعة، وما كان بعد هؤلاء الترك، وما كان يشغلنا عنكم إلا قتال التتر، ونحن اليوم بحمد الله تعالى صلح (نحن وإياهم) من جنس واحد ما يتخلى بعضه عن بعض، وما كنا نريد إلا الابتداء؛ فأما الآن فتحصلوا وتعالوا وإن لم تجوا فنحن نجيكم لو أننا نخوض البحر بالخيل؛ وَالْكم صارت لكم ألسنة تذكرون بها القدس؛ والله ما ينال أحد منكم منه ترابة إلا ما تسفيه الرياح عليه وهو مصلوب! وصرخ فيهم صرخة زعزعت قواهم، وردهم أقبح رد، ولم يقرأ لهم كتاباً ولا رد عليهم سوى هذا جواباً)
(الإسكندرية)
(* * *)
فلسفة التربية
كما يراها فلاسفة الغرب
للأستاذ محمد حسن ظاظا
(ليست الجماعة مجرد علاقات، ولكنها في كل منا، ثم هي
ترتفع في أعظمنا إلى الدرجة القصوى)
(ماك إيفر)
(لو قد نشأ الفرد على المرونة والتجديد: لما استطاعت يد
الرجعية الآثمة أن تعوق سير الحضارة، وأن تعبث بجلال
الإنسانية)
(* * *)
(أليس في الطبيعة فرد مطلق غير الله تعالى، وما الفرد من
بني الإنسان إلا جزء من والديه ومن خلية الحياة الأولى بل
ومن الإنسانية ماضيها وحاضرها)
(برجسن)(وغيره)
الجماعة والفرد
رأيت فيما سبق بعض تطبيقات الديمقراطية، على الثقافة والمنهج، والمعلم والطالب، والمدرسة وطريقة التدريس، احب اليوم أن أكمل الناقص في ذلك، وأوضح الغامض، ولا سيما من ناحية الجماعة والفرد وما ينبغي أن يكون بينهما من علاقة ديمقراطية صحيحة تغرسها التربية الحديثة وتنميها
ما الجماعة وكيف نشأت؟ اختلف العلماء في ذلك وتباينوا؛ ومن اشهر نظرياتهم في ذلك دعوى (العقد الاجتماعي) التي قال بها (روسو) ومهما يكن من شيء فالجماعة الحق يسود
فيها التبادل كما يقول (نوفيكو)، كما أنها ليست مجرد علاقات أفراد بعضهم ببعض، ولكنها روح دافع غلاب في كل فرد كما يقول (ماك إيفر)، وها هو (هوبهوس) يقول إن الجماعة توجد في أفرادها، إن كل فرد فيها مركز اتصال، وإن هذا الاتصال يتوقف قوة وضعفاً على الفرد نفسه ويؤثر فيه، وإن الأفراد إنما يتحسن شأنهم ويرتقى باتصالهم بغيرهم
وقد يبدو للبعض أن الرجعية والبطء في التطور والتجديد طبيعة في الجماعة ثابتة، ولكن الراجح أن التربية العميقة هي المسئولة عن ذلك كله. ولذلك نرى التربية الديمقراطية تدعو إلى سعة الصدر وحرية الفكر ومرونة العادات، وتصرح قائلة على لسان (جون ستيوات مل):(ويل للزمن الذي لا يجرؤ على الشذوذ فيه إلا الأقلون)!
أما الفرد فهو أنت وأنا أيها القارئ العزيز! وكم أحُتقر وازدري في الدهورالغابرة، وحُرم حرية الفكر والحركة والحياة، وكم اعتز بشخصيته، وعلا وتكبر، واعتبر نفسه مقياساً للأشياء جميعاً من حق وباطل، وخير وشر، وجمال وقبح - في عهد السفسطائيين؛ ولو شئت الحقيقة في أمر هذا الفرد لعرفت أنه لا يستطيع أن يكون (مطلقاُ) بحال من الأحوال! وهل من مطلق في الطبيعة غير الله؟ سر إلى الصحراء إذا شئت وعش هناك وحيداً إذا استطعت، فلن تجد (الجماعة) إلا محيطة بك عن يمينك وعن شمالك ومن خلفك ومن قدامك، ألم ترث عنها ما قد ورثت عن آبائك وآجدادك؟ ألا تفكر بمنطقها؟ أو لا تهجس بلهجتها؟ ثم ألا تستفيد من تجاربها العملية في كل ما تتخذ من سلاح وغطاء ودثار؟
نحن إذاً مدينون للجماعة حاضرها وماضيها بكل شيء تقريباً وإذاً فلا أقل من أن نعطيها من أنفسنا بعض هذا الدين الذي لو عشنا دهوراً لما وفيناه؛ ولكن الجماعة مع ذلك مدينة لبعض الأفراد هي أيضاً؛ إلا يقول: (كارليل) ما تاريخ الإنسانية إلا تاريخ عظمائها؟ وإذا فلا أقل أيضاً من أن تحترم الجماعة الفرد وتشجعه على خدمتها، وتسمح له بإصلاح ما فيها من عيوب والسمو بها إلى مثله العليا. وإذ كان الجمال في الفن هو (كثرة) تسيطر عليها (وحدة) كما يرى الأستاذ (كوزن) في كتابه الفريد:(الخير والحق والجمال)، فإن (السير برسي نن) يرى أن تاريخ الإنسانية يتطور ويتقدم نحو (الفردية) المتزنة، وكلما قطع في تطوره شوطا كلما كانت الحياة أسمى وأهنأ وأرفع وأخصب
وإذا كان الأمر كذلك فماذا عسى أن تكون العلاقة الصالحة بين كل من الجماعة والفرد؟
يقول هوبهوس (يجب أن تنمو الجماعة وحدة متناسقة فلا يتضخم فيها (فرد) ويصير مارداً على حساب الجميع)
ويقول الأستاذان (ديوي وتفت) إن مقياس كل نظام اجتماعي هو: (هل يجعل قدرة الفرد حرة في زيادة الخير العام؟ وهل يسمح بمساواة الجميع في فرصة إظهار الكفايات؟) بل إن (ديوي) ليقف عند كل نظام سياسي أو غير سياسي ليرى أي دوافع يثيرها؟ وأي أثر له على من ينفذونه؟ أهو يحرر القوى؟ وإلى أي حد؟ وللجميع أو للأقلية؟ وهل تسير القوى التي يحررها في طريق معقول؟ وإذا كان النظام نظام تعليم نراه يسأل (هل يرهف الحواس ويدرب العقول؟ وهل يثير حب المعرفة في النفوس؟ وما هو نوع (حب المعرفة) هذا؟ أهو عرضي يطفو أم جوهري يغوص؟)، وهكذا دواليك. . .
بقي أن نتساءل وما (المصير)؟ إلى ما هو أحسن كما يقول المتفائلون؟ الواقع أن الجماعة في تطور دائب مستمر وإن كنا لا نستطيع أن نعتبر كل تطور نجاحاً. وبعد الوقوف على آراء - هوبهوس - وديوي - وفاجيه - وشو - ويود - ومل - وبيري - في ذلك الموضوع نستطيع أن نقول: إن (النجاح في الجماعة ليس أتوماتيكياً بل يعتمد على الإرادة والقصد، وإن الهرم في الأمة يمكن أن يجتنب تماماً بمرونة العادات، وإن مذهب (إمكان التحسين) خير من التفاؤل البحت أو التشاؤم البحت، لأنه وحده يبعث على الأمل والرجاء، ويمنع الغرور واليأس، وإن (حرية الفكر) هي أهم عامل في التطور نحو (الأحسن) وخصوصاً إذا اقترنت بنية بريئة فاضلة ونفوس حازمة عاقلة، وإن (انحطاط) العهود التاريخية المظلمة ليس غير حقارات أفراد، وطوائف، وأحزاب، وجماعات، أكثر مما هو حقارات أمم وشعوب. وإذاً فتقدم الإنسان بيده لا بيد الطبيعة الصماء، وذلك طبعاً أفضل له وأشرف. وهاهو ذا تقدم العلم يقول لنا أن ليست هناك غاية موضوعة، ولكن هناك ما يمكن أو ما يجب أن يكون
ولكن تُرى من يدفع الجماعة إلى هذا (المصير)؟ وكيف السبيل إلى ذلك الدفع؟ يرى (أرسطو) أن ذلك هو واجب الحكومة وسبيله التربية، ولكن (ديوي) يخشى إشراف الحكومة لأنه يعتبرها أكثر جموداً وتلكؤاً من المجتمع، ولذلك نراه يعتمد على (الهيئات الحرة) أكثر مما يعتمد عليها؛ وهاهي ذي الحكومات كثيراً ما تخطئ في الخطط وتجني
على الديموقراطية جناية نكراء، ألم تحول إيطاليا المدارس إلى ثكنات عسكرية يحرم فيها النشء من أشياء في الحياة كثيرة، ويساق سوقاً إلى نظام تعسفي مرذول فرضته سياسة خاصة قوامها الوطنية المتعصبة التي لا يضيرها احتراق بعض العالم ما دام في ذلك خير لها؟
وبعد فتلك هي الجماعة، وهذا هو الفرد كما تتصورهما الديمقراطية الحديثة، جماعة مرنة متجددة، وفرد حر خادم مطيع ثم تقدم يدفع بهما معاً نحو (الأحسن) قوامه الحرية والنية الفاضلة. . . ولما كانت التربية هي الوسيلة الوحيدة الفعالة الجديرة (بخلق) هذه الجماعة وذاك الفرد، فإنها يجب أن تكون بحيث تستطيع خلقهما خلقاً صحيحاً يقي الإنسانية آفات الرجعية والجمود، ويوفر عليها حقارات أولئك الذين يسودون صفحات التاريخ!. ومعنى هذا أن تكون المدرسة مجتمعاً صغيراً تتوافر فيه جميع الأسباب التي تحرر العقول، وتطهر النفوس، وتغرس التعاون والإيثار، وتمهد للمجتمع الفاضل المنشود. . . ويتطلب ذلك بالطبع اتباع طريقة في التدريس خاصة، والعناية بدراسة معينة، أو معاملة الطلبة على أساس ديموقراطي مرسوم؛ ولست تطمع من غير شك في أن أمر معك بكل التفاصيل. حسبك أن تعلم أن رياضة الغلبة والتعصب والأنانية والتنافس، لا تؤدي بنا إلى شيء من هذا كله، وأن حشو العقول لا يحررها ولكنه يشلها ويبلدها، وأن الاهتمام بالحروب والاطناب في سير أبطالها يبرر ما فيها من نهب وسفك وهدم وتدمير لدى الناشئ الساذج البريء، وأن الدروس الإلقائية التي لا تطبيق فيها ولا تعاون لا تعمل أكثر من تكوين أفراد (لأنفسهم) قبل أن يكونوا لغيرهم، وان إعطاء كل شيء للطالب وتوفير مجهود البحث والاطلاع عليه يجعله اتكاليّاً عديم الثقة بنفسه والاعتماد عليها.
وأن. . . وأن. . . وأن. . . مما قلت وما سأقول، وما تستطيع أن تدركه أنت دون ذكره أو الإشارة إليه! كل ذلك لا يخلق الجماعة الديموقراطية المرنة المتجددة، ولا يتمخض إلا عن عقول العصافير، وإلا عن نفوس يملكها الركرد والخمول، وعن طوائف العصبية والانخذال، ونزعات الرجعية والأنانية والشهوة والجمود. . . وها أنت ذا ترى العالم يمجد سياسة الحروب ويدعو إليها ويجد وا أسفاه من الشعوب جنوداً مثلهم الأعلى الإسكندر وهانيبال وقيصر ونابليون. . أفكان ذلك يتأتى لو درس الطفل تاريخ الإنسانية لا تاريخ
الوحوش؟
وحسبي اليوم ذلك وإلى اللقاء حيث نرى لوناً آخر من الكلام
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بمدرسة شبرا الثانوية الأميرية
المثل الأعلى للشاب المسلم
للأستاذ علي الطنطاوي
كلما أراد الشاعر الفرنسي الأشهر بول فاليري أن يحاضر بدأ بتعريف مدلول الكلمات التي يتألف منها عنوان المحاضرة. وهذه هي عادة أجدادنا، إذا أخذوا في الكلام على علم من العلوم أو بحث من المباحث، فليس عليَّ إذن من بأس إذا اتبعتها هذه الليلة، فبدأت محاضرتي بتعريف المثل الأعلى، والكلام على صفات الشباب الأساسية، وتلخيص القول في الإسلام. . .
إنه ليس فيكم أيها السادة من هو راض عن حالته، مطمئن إليها، وليس فيكم من لا يتصور حالة خيراً منها، فإن كان عالماً فكر فيمن هو أعلم منه، وإن كان غنياً تصور من هو أغنى. فإذا صار مثل من يتصوره من الأغنياء، أو يفكر فيه من العلماء، طمح إلى درجة أعلى، ومنزلة أسمى، لا يكاد يبلغها حتى يزهد فيها، ويطمع فيما وراءها. وإذا أنتم استعرضتم أعلم العلماء، واجمل الفتيات، وأبهى الرياض، وأبرع الصور، وأفخم البنى، لرأيتم الذهن البشري، يتخيل على أهون سبيل، عالماً أكبر، وفتاة أجمل، وروضة أبهى، وبنية أفخم، وصورة أبرع. . . ثم يبالغ في التخيل حتى يستقر على مرتبة، ويثبت في منزلة لا يرى فوقها منزلة، فتكون هي المثل الأعلى
فالمثل الأعلى إذن هو أسمى ما يتصوره العقل البشري. . والمُثُل تعدد بعدد الناس، فلكل مثله الأعلى في الحياة، وعدد الأشياء فلكل شيء صورته الكاملة، ولكنها تجتمع كلها على افتراقها، وتتحد على تعددها، في أشياء ثلاثة نبه إليها أفلاطون واخذ بها الناس في كل عصر ومصر، وأجمعوا على إجلالها، واتخاذها مثلهم العليا، وغاياتهم السامية؛ وهنّ: الحق والخير والجمال
هذا هو المثل الأعلى. أما الشباب، وهل أحتاج إلى تعريف الشباب؟
الشباب الحياة، والحياة الشباب، (روائح الجنة في الشباب)
خَلَقُ العيش في المشيب ولو كا
…
ن نظيراً وفي الشباب جديده
الشباب يا سادتي الواحة الفريدة في صحراء الحياة، هو الربيع في سنة العمر، هو البسمة الوامضة على ثغر الزمان القاطب. الشباب في الأمة قلبها الخافق، وعيونها الناظرة،
وأيديها العاملة
لست أعني هذا الشباب الغض الغريض، الحلو الناعم، الذي يجرح خديه لمس النسيم، ويدمى بنانه مسّ الحرير، والذي يرق حتى يسيل من العيون نظرات ساحرة مغرية، ويدق حتى يستحيل إلى فكرة تطير كالفراشة بين أزهار الجمال في روضة الحب، أو نسمة معطرة تهب من حراش فتاة فتانة، أو قبلة فيها خمر وعسل تجمع لذائذ الدنيا في رشفة مسكرة. . . لست أعني هذا الشباب الفاتن المتأنث الذي يسبي القلوب، ويسلب النفوس، ويعيش الهوى والأحلام، ويبدأ تاريخ حياته بالحاء (ح) فلا يتلبث أن ينتهي بالباء (ب). . .
إنما أعني الشباب الحي العامل القوي المتين، الذي وضع له غاية في العيش أبعد من العيش، ونظم نفسه حلقة في سلسلة شعبه، واتخذ له مطمحاً، ومثلاً عالياً، ثم عمل على بلوغه، وسعي إليه باندفاع الصواعق المنقضة، وقوة العواصف العاتية وثبات الطبيعة، وألقى في سفر حياته الراء بين الحاء والباء؛ وهل الحياة إلا حرب دائمة ونضال مستمر، فتنازع على البقاء، وتسابق إلى العلاء
لا يبقى غير الصالح، ولا يصلح غير القوي. . هذه هي الحقيقة الباهرة، هذا هو القانون المقدس الذي لا يلغيه برلمان، ولا يعبث به إنسان، ولا يخرج عليه إنس ولا جان ولا حيوان، لأنه من قوانين الله التي كتبها على صفحة الوجود يوم أخرجه من العدم، وقال له كن فكان
الجراد يأكل البعوض، والعصفور يفترس الجراد، والحية تصطاد العصافير، والقنفذ يقتل الحية، والثعلب يأكل القنفذ، والذئب يفترس الثعلب، والأسد يقتل الذئب، والإنسان يصطاد الأسد، والبعوض يميت الإنسان. . . هذه هي السلسلة الإلهية الخالدة لا تبديل لها ولا تغيير. إما أن تقتل الأسد، وإما أن يقتلك البعوض
فيا شباب! لا يغلبكم البعوض، ولكن اغلبوا الأسود!
الحق ثقيل، ولكن الحق أحق أن يقال. فأرجو إلا يغضب مَن ههنا من يحسبون أنفسهم شيوخاً إن خاطبت الشباب، وقلت إن المستقبل للشباب. ولكن من هم الشباب؟ يصف أندريه موروا الشباب بالرغبة الأكيدة في حياة العاطفة والحب، وحياة الحماسة والبطولة،
أي بالمجون والاستهتار، والميل إلى الإصلاح، والإخلاص للمبدأ والزعيم، والاندماج والفناء في المجموع (في الجمعية أو الحزب أو الأمة) وبأنهم أدنى إلى المثل العليا، وبأن شعارهم الإقدام والتعجل والسرعة وبعض الأناة والانتظار. الشباب بهذه الصفات، ليس الشباب بورقة النفوس وسجل الميلاد؛ فكل من مات قلبه، وانطفأت شعلة حماسته، وضاعت مثله العليا، وأحس بأنه قد بلغ مأمله فلم يُعدْ له أمل، فهو شيخ ولو كان في العشرين من سنه. وكل من كان له قلب، وكانت له آمال ومطامح، وكل متحمس مندفع شاب ولو شاب!
فلا تغضبوا يا سادتي الكهول إذا قلت إن المستقبل للشباب ورفعت من شأن الشباب، فإن فيكم شاباً ولو ابيضت لحاهم ورءوسهم، وانحنت ظهورهم، وتجعدت جباههم. هم شباب العزائم والقلوب! وهؤلاء الخاملون من الشباب هم الشيوخ. لا تعجبوا يا سادتي، فلقد كان شوقي شيخاً في مطلع شبابه يوم كان شاعر الأمير، ثم عاد شوقي شاباً في كهولته يوم صار شاعر الآمال والآلام، شاعر العروبة والإسلام. . .
بقي عليّ تعريف الإسلام، ولكن من العبث يا سادتي أن أعرّف الإسلام، وأنا أحاضر قوماً هم بحمد الله مسلمون، ولا يكون مسلماً من لا يعرف ما هو الإسلام، ولا صلة له بعلومه، ولا اطلاع له على أحكامه، ولا وقوف له على أمره ونهيه، وعند أمره ونهيه. إن من العبث أن أقول لكم إن ديننا إيمان وعقائد، وإسلام وعبادات، وإحسان وأخلاق، وسياسية وشريعة، وأن له في كل جانب من جوانب الحياة مصباحاً يضيء، ومناراً يهدى، وإنه لا يفارق المسلم أبداً، ولا يدعه لحظة. إن كان وحده، منفرداً بنفسه كان معه الإسلام يأمره بأن يحاسب نفسه، ويتوب من ذنبه، ويتأمل في بديع صنع الله في نفسه وفي العالم، ويستدل بالصنعة على الصانع، وبالأثر على المؤثر. (وفي أنفسكم) أكبر الدلائل، وأقوى الحجج، (أفلا تبصرون. . .؟) أو لا يتفكر هؤلاء الجاحدون (اخلقوا من غير شيء أم هم الخالقون؟). (أو لم يتفكروا في أنفسهم؟ ما خلق الله السموات والأرض إلا بالحق وأجل مسمى)، (أفلا تتفكرون). وإن كان المسلم في المجتمع كان معه الإسلام، يبين له سبيل الحكمة، ويدله على صراط الأخلاق المستقيم، ويأمره بأن يحسن استعمال هذه القوى التي وهبها له الله، فلا يتبع بها ما ليس له به علم، (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع
والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) ولكن يستعملها في سبيل العلم، العلم كله حتى الفلك والجيولوجيا وعلم الأجناس، هذه العلوم من آيات الله. ألم يأمر الله بهذه العلوم التي يمنعها بعض مشايخ العصر؟ قال تعالى:(ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين)، (إنما يخشى الله من عباده العلماء)
ينظم الإسلام العلاقة الاجتماعية خير تنظيم، ويبني الأمة أمتن بناء، يبدأ بإنشاء الأسرة فيجعل لها رأساً مسئولاً، له حق الطاعة لينتظم الأمر، وتتم المصلحة، وعليه واجب العدل والعمل، وجعل الرجل هو الرأس لطبيعة تكوينه وخلقته ونوع عمله وغايته (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) وجعل على النساء واجباً، ولكنه أعطاهنّ حقاً مثله (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف)، ورفع من شأن التربية، وجعل للمربين الأولين، للوالدين أرفع مقام، وجعل طاعتهما مقرونة بالتوحيد الذي هو رأس الدين وبيت قصيده ودعامة بيته. قال عزّ من قائل:(وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً) ووضع خير القواعد وأحكمها للزواج والطلاق والإرث، وينظم الإسلام أمور الأمة، ويقيمها على أساس من الفضيلة والعدل. (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق) ويشرع لها القوانين الثابتة المحكمة في معاملاتها، والقواعد الأخلاقية السامية في علاقاتها الخاصة، ويدعو إلى ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة والدليل الواضح والبرهان القاطع، لا بالإرهاب ولا بالترغيب. (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً) ودعا المخالفين إلى المحاجّة والمناظرة، وإقامة الأدلة (أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم)(أإله مع الله قل هاتوا برهانكم). وعاب الإسلام التقليد والجمود واتباع الآباء والأجداد، وإهمال العقل، ودفع الناس إلى التفكير، وإقامة البراهين العقلية والأدلة اليقينية، أي أنه دعا منذ (1400) سنة إلى الطريقة العلمية التي يفخر بها علماء اليوم ويظنونها من ابتكارهم وأثراً من آثار حضارتهم. قال تعالى يذم أهل الجمود وينعى عليهم (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله، قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون؟)
إنكم تعرفون هذا كله أيها السادة لأنكم مسلمون، وإن من العيب أن ألقيه عليكم فما جئت لأعرف الإسلام، ولا أرد تعريفه. ولكن أحببت أن أوجه أبصاركم إلى مسألتين مهمتين:
أما المسألة الأولى فهي أن ديناً يضع للعقل قواعد في التفكير، ويشرع للعلم طريق البحث، وينظم حياة الفرد وحياة الأسرة، ويكون هو القانون المدني والجزائي، والقانون الدولي، والأخلاق والفلسفة - إن ديناً هذا شأنه لا يصح أن يعدّ مع الأديان التي لا تتجاوز أحكامها عتبات معابدها، ولا يجوز أن نطلق عليه ما يطلقونه عليها من أحكام. فإذا قبلنا بمبدأ فصل الدين عن السياسة مثلاً وهو مبدأ محترم، فلا يصح أن نستنتج منه وجوب فصل الإسلام عن السياسة، لأن الإسلام ليس ديناً، ولكنه دين وسياسة. هل تستطيعون يا سادتي أن تحذفوا سورة براءة مثلاً من القرآن لأنها سياسة. .؟ وإن قبلنا مبدأ استقلال العلم عن الدين لأن الدين لا يستند إلى البحث العلمي ولا إلى العقل فلا يصح أن نسحب هذا الحكم على الإسلام لأن الإسلام ليس ديناً وسياسة فقط. ولكنه دين وسياسة ومنطق وعلم. . .
هذه يا سادتي حقيقة ظاهرة ظهور الشمس، ولكن أكثر شبابنا لا يرونها، خفيت عنهم، وغربت هذه الشمس من أفق تفكيرهم، فتخبطوا في ظلام ليل أليل، فلذلك ترونهم يأخذون كل ما يقوله الإفرنج عن دينهم فيطبقونه على الإسلام، على الاختلاف بينهما، والتباين بين طبيعتيهما. . .
ولعل من هذا الباب تسمية العلماء برجال الدين وإنها لتسمية باطلة فشت على ألسنة وعم بلاؤها ونسى المسلمون أنهم كلهم رجال الدين. دين الإسلام، دين المساواة والسمو والعمل، ليس فيه طبقات مميزات من طبقات، وليس أحد أحق به من أحد، وليس فيه جماعة هم وكلاء الله، يحلون ويحرمون، وهم أصحابه الأدنون وأهلوه الأقربون، وغيرهم الأبعدون، ولكن المسلمين كلهم (أبناء النبي وعترته والفارسيين والصينيين) وكل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله. . . لا فضل لأحد منهم على أحد إلا بالتقوى والعلم والقيمة الشخصية:(إن أكرمكم عند الله أتقاكم)(لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى). . . (يا فاطمة بنت محمد، لا أغنى عنك من الله شيئاً). .
فلا تقولوا للعلماء رجال الدين، ولا تحملوهم وحدهم واجبات الدين، فان رجال الدين هم كافة المسلمين. ليس عندنا إلا العلم والتقوى، فمن كان عالماً عظمناه وسألناه، ومن كان تقياً أجببناه وأجللناه، ومن أخطأ وحرف رددناه أو ردعناه كائناً من كان ذلك المخطئ وذلك الناقد. ليس الناقد بأقل من تلك العجوز، وليس المنقود بأجل من عمر!
هذه المسألة الأولى. أما المسألة الثانية التي أحب أن أوجه إليها أنظاركم، فهي أن الدين على ما يفهمه العلماء من أهل أوربا هو الذي ينظم علاقة الإنسان بالله، وبما خلق الله من المخلوقات المغيبات وراء المادة وبالعالم الآخر، فلا علاقة له بالحياة السياسية ولا الأوضاع الاجتماعية، ولا بالقوانين والنظم، ولا يصح أن تبنى عليه الجامعة الوطنية. هذا ما يقرره العلماء الذين بحثوا في هذه الجامعة وطبيعتها وقيمتها، وفي مقدمتهم (رينان) في محاضرته المشهورة التي ألقاها في السربون سنة 1882. وهذا صحيح في الأديان ولكنه ليس بصحيح في الإسلام، لأن الإسلام ذاته وطنية، ورابطة اجتماعية معنوية، ليست قائمة على لغة ولا على أرض. ولكن على ما يسميه (أرنست رينان) بالإرادة المشتركة ويجعله أساس الرابطة الوطنية. فليس وطن المسلم مكة ولا المدينة ولا البلد الذي ولد فيه، ولكن وطن المسلم المبادئ الإسلامية، فحيثما وجدت هذه المبادئ وحيثما كان أهل (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فثّم وطن المسلم. وعندي أن هذه الرابطة الإسلامية رابطة (إنما المؤمنون اخوة) معجزة من أعظم معجزات الإسلام لأنه أقر منذ أربعة عشر قرناً المبدأ الذي اهتدى إليه العقل البشري سنة 1882م وسار منذ أربعة عشر قرناً في الاتجاه الذي يسير فيه العالم اليوم. لقد سقط اليوم مبدأ القوميات الذي دعا إليه الرئيس ولسن بعد الحرب ونهضت المبادئ الفكرية الاقتصادية، فانقسم العالم كما ترون إلى جهات ثلاث: الديمقراطية والشيوعية والفاشية. وكما أن الشيوعي الفرنسي أخو الشيوعي الروسي ولو تناءت الديار وتباينت اللغات واختلفت الأجناس فكذلك المسلم أخو المسلم، أينما كان وكيفما كان. وكما أن الفاشيّ الإيطالي أقرب إلى الأسباني الفاشي من أخيه الأسباني الشيوعي فكذلك المسلم الهندي أقرب إلىّ من غير المسلم ولو كان عربياً هاشمياً قرشياً!
وليس هذا مجال البحث في الجامعة الإسلامية، وطريق تحقيقها، فإن لهذا البحث موطناً آخر وما أردت إلا لفت أنظاركم إلى هذه الناحية من الإسلام، لأقول بأن الشاب المسلم لا يستطيع أن يندمج في أي رابطة دولية تقوم على اخوّة غير الأخوة الإسلامية، ولا يقدر أن يدعو إلى أي رابطة قومية أو جنسية لأنه ليس من المسلمين من دعا بدعوة الجاهلية. . .
(البقية في العدد القادم)
علي الطنطاوي
نظر ونقد
شعراؤنا في موكب الزفاف
كان زفاف الفاروق حرسه الله بهجة غمرت جنبات مصر، وهزت شعور أبنائها على اختلاف طبقاتهم بالجذل والسرور، فنهضوا يتسابقون في إعلان جذلهم وسرورهم بشتى المظاهر والظواهر، فإذا مصر من ذلك في صورة رائعة من الواقع رجحت الخيال، وأصغرت ما لها من الأشباه والنظائر في التاريخ، وأزرت بما يمثله القصص الموضوع عن (الليالي الملاح) في ألوان الترف والنعيم، واشتمال الأنس والصفاء، ومهارة العقل فيما أبدع، وجمال الفن فيما نوّق؛ على أنه تنفرد في هذا كله بجلال الإخلاص، وصفاء الحب، وروعة التمجيد. وسيكون للتاريخ من ذلك صفحة وضاءة مشرقة، لم تكن له في الأيام الخالية، أخشى أن يطالعها الناس فيما بعد فيقولوا: إنها تلفيق الخيال، وصنيع الكذب، كما نقول نحن في ليالي ومحافل ألف ليلة وليلة وأشباهها من القصص المختلق
لقد شهد المصريون جميعاً ذلك اليوم، وامتلأت نفوسهم وقلوبهم بروعته
وجماله، واستطاع كل فرد وكل جماعة أن تعبر عن شعورها بذلك
أوضح تعبير وأجمله، فكان اليوم في كل مناحيه ومظاهره يوم
الشعراء؛ الشعر يبدو في مجاليه، والحسن يزهو في حواشيه. هو دنيا
تفيض بالجمال والجلال، وشمس تشع على الكون نور البهاء والرواء،
فأينما سرحت النظر وجدت حفزاً للشعور، وإرهافاً للإحساس، وتزكية
للعواطف؛ والشعراء كما نعلم أوفر الناس شعوراً، وأرهفهم إحساساً،
وأزكاهم عاطفة، تلك هي مواهبهم التي تميزهم عن سائر الناس،
وتطوّع لهم الصناعة الشعرية دون غيرهم، فكان لا بد أن تفيض
نفوسهم بما رأوا قوافيَ كلها الإحساس بالجمال والجلال، وأن يجري
شعرهم بما في نفوسهم أوزاناً صادقة منسجمة هي لحن الزمن الباقي
على الزمن، ونغمات الأجيال المتعاقبة على كر الدهور
على هذا الاعتبار كان الشعر سجلاً خالداً لحوادث التاريخ، وعظائم الدهر، وروائع الأيام؛ وعلى هذا الاعتبار اندفع الشعراء قديماً يتحدثون عن زفاف المأمون إلى بوران، وهو زفاف له في التاريخ خبر مشهور، وهو يشبه زفاف الفاروق في كثير من الأفراح والمعالم؛ وعلى هذا الاعتبار أيضاً انتظرنا وانتظر الناس ما وراء شعرائنا في اليوم الحافل، والزفاف الذي لم يعهد مثله في عصر من العصور، وقلنا: لعلهم يتركون في ذلك للأجيال المقبلة صفحة قوية بروعة التصوير وإبداع المعاني، وجمال الأسلوب، وانسجام الخيال، وسلامة الذوق
ولقد قال شعراؤنا في يوم الزفاف ما وسعهم القول، ففاضت أنهار الصحف بكثير من الكلام المقفى المجنح الأشطار مقدماً بالتقاريظ والتزكية، وأقيمت حفلات متعددة (أراق) فيها الشعراء على (مناضد) الشعر ما أعدوا لذلك من كل (خريدة عصماء) رسم حدودها الخيال وياله من خيال. . . ونسق وشيها الذوق وإنه لذوق. . . وأبدع معانيها العقل وأي عقل. . . وقد سمعنا الجمهور يهتز لكل ذلك طرباً، ويصفق من العجب تصفيقاً عالياً مُدوياً أدمي الأكف، وصك المسامع، واضجر الأعصاب. ولو كان الحكم الأدبي ومقاييس الشعر هي على ما يرى الجمهور وتقدّر الصحافة لكان شعراؤنا على ذلك قد بلغوا الذروة التي لا تطاول، ولكان شعرهم آية الإبداع والاختراع، فمن حقه البقاء والخلود والإجلال والتقديس، ومن الواجب علينا أن نعتز به ونفاخر، وأن نكتبه في (القباطي) ونعلقه بأستار. . . بأستار ما لا أعرف!!
ولكن الحكم الأدبي في تقدير الفن والأدب إنما هو للذي يستطيع تعليل حكمه كما يقول العقاد. فإذا عجز عن الحكم استطاع أن يعلل عجزه بكلام سائغ في الأفهام، ولا يكون ذلك إلا ناقد ذو ثقافة أدبية واسعة، وطبيعة فنية موهوبة، ونظر مميز فاحص. فهو الذي يمكنه أن يميز الجوهر من الخزف، والدر من الصدف؛ وهذا التمييز هو المعول عليه في التقدير الحق، وهو الحكم الأدبي الصحيح الذي يرمقه المعنيون بدراسة التواريخ الأدبية للأمم والأفراد، ثم هو الذي سيبقى على الزمن على حين تطير الفواقع والقواقع، وتموت التقاريظ الأدبية الرخيصة، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. وأنت
أبقاك الله تعلم حق العلم أن حكم الناقد إنما يكون له هذا المقام من الإجلال والإكبار والتقديس والتقدير إذا ما تجرد من الهوى والميل، وتنكب التدليس والتمويه، وارتفع عن الارتباطات الشخصية وعلاقات الصداقة، وكان القصد فيه الحق للحق، والفن للفن والأنصاف مجرداً عن كل غاية ومأرب، فان الأمور الشخصية والميل مع الهوى شر ما منيت به أعمال الخير في كل عصر ومصر، وشر ما منى به النقد الأدبي في مصر على الخصوص، وشر ما منى به الأدب في جميع نواحيه على تقدير صحافتنا سددها الله إلى الرشد، فكان من وراء هذا أن ساء ظن الناس في أهل الأدب والنقد، وأصبح وجود الناقد الحر في اعتقادهم كوجود الغول والعنقاء والخل الوفي!
ولقد انتوينا أن نتناول شعر الزفاف بالنظر والنقد على ما يتفق وحرمة النقد البريء، وكرامة الفن المهذب، ومهمة (الرسالة) الشريفة. سنقول للمحسن أحسنت، وللمسيء أسأت. سننظر إلى ما قيل لا إلى من قال، لا نخضع في ذلك إلا لوازع الضمير وسلطان الحق، ومعايير الفن. ويعلم الله لقد حفلنا لذلك ما وسع الجهد، فسبقنا إلى كل حفل، ونهضنا إلى كل جمع، واستمعنا وقرأنا كل ما قيل وما نشر حتى ما لا يستحق أن يسمع ولا أن يقرأ. ولعلنا بهذا العمل نكون قد سجلنا على صفحات الرسالة، وهي سجل الأدب الخالد، لوناً طريفاً من ألوان الأدب لا يخلقه إلا المناسبات الطيبة، والفرص السعيدة، وما أقلها في تاريخ الأمم، وما أندرها في حياة الأفراد
ولا أكتمك الحق إذا قلت لك إن شعراء الزفاف قد قصروا عن الشأو، وقعدوا دون الغاية، وخيبوا الأمل، وكان الأمل فيهم كبيراً، وخذلوا الشعر وكنا نرجو للشعر على أيديهم نصراً مبيناً!! الأمر الذي جعلنا نعتقد اعتقاداً صحيحاً أن الميدان قد خلا من بعد صاحب الشوقيات، وأن الشعر عند شعرائنا تلفيق وشعوذة وصناعة احتطاب على حد تعبير الرافعي يرحمه الله، فليس هناك إلا إحساس ضئيل أن دل على شيء فإنما يدل على أن في نفس صاحبه شاعرية كنبوة مسيلمة. . .
لقد كان يوم الزفاف حافلاً بمعالم الزينة والبهجة، يفيض كما قلنا بالجمال والجلال، والبهاء والرواء، فكان في كل منظر شعر، وفي كل مظهر سحر، وفي كل وضع فن، فلو فاز ذلك اليوم بشاعر كابن الرومي أو شوقي لربح الشعر والفن؛ ولكن كل هذا لم يكن له مع الأسف
أدنى أثر في إحساس شعرائنا، فطاروا بخيالهم إلى عنان السماء، يصفون النجوم وجمالها، والأفلاك ومداراتها، وراحوا يُنطقون الطيور بالسجع، والعنادل بالتغريد، وقفزوا إلى الربُى قد غطاها الزهر والنور وما في مصر شبه رابية من ذلك! واهتموا كثيراً بداوود ومزماره، وعنوا جميعاً أن يُذكرونا بيوم الحشر والنشر، وكأنهم لم يعرفوا من سجايا المليك إلا الذهاب إلى المساجد وصباحة الوجه فوقفوا عند هذا الحد وما زادوا!! ثم هم قد جروا على طريقة لا تُرضى في الأسلوب الشعري. يريد بعضهم أن يقوي فيتعجرف، ويروق لبعضهم أن يلين فيسخف؛ أما الإحساس بما كان من بهجة الزفاف، وروعة الزينة، واشتمال الصفة، وفرح الشعب، وتزاحم المواكب، وعرض الجيش؛ وأما الملك يبادل شعبه على هذا كله حباً بحب، وعطفاً بعطف، كل هذا لا نجد له ذكراً في شعر الزفاف. فكأن غاية القول عندنا أن نترسم السابقين في إحساسهم وخيالهم وأسلوبهم، لا أن نقول كما نحس وعلى ما نرى وبما نسمع!!
إن شعر الزفاف في الواقع قد جاء فاقداً للخصائص المميزة، وهي لاشك كل شيء في الشعر خصوصاً شعر الوصف والمديح. فمن السهل جداً أن يحول ذلك الشعر إلى حفل آخر، ومن السهل جداً على شعرائنا أن يقصدوا به إلى أي موقف. فلو وقفوا مثلاً في يوم عيد الميلاد الملكي المقبل ينشدون شعرهم هذا للجمهور لصفق لهم الجمهور وقرظتهم الصحافة. أليس من الزوال كما يقول المعري أن يقف أحد أولئك الشعراء فيلقي مطولة في حفل حافل وكلها تمجيد لجلالة الملك وإشادة بأخلاقه وليس فيها ذكر للزفاف ولا أي خبر عنه؟! ومن يدري لعل ذلك الشاعر كان قد قال قصيدته هذه في عظيم من قبل، ولعله ينوي أن يقولها في عظيم من بعد! وقديماً دخل أحدهم على سلم الخاسر فوجده يعمل قصائد بعضها في رثاء أم جعفر وأم جعفر باقية، وبعضها في مدح رجال لم تعين أسماؤهم بعد! فقال: ما هذا يا سلم؟ قال: وما أصنع يا أخي وقد تحدث الحوادث فجأة فيطلب إلينا القول ولا يرضي منا إلا بالجيد!!
ولكن ما عذر شاعرنا وزفاف الفاروق لم يكن فجأة وإنما كان حديث الناس منذ زمن طويل يتسع لكل شيء
نحن لا نتجنى على الحق، ولا نحب أن نلقي الكلام على عواهنه، ولكن نحب أن نشرح
ونعلل، وأن نقدم الأمثال والشواهد، ولذلك آثرنا أن نقف مع كل شاعر على حدة فنقرر ما له وما عليه، وموعدنا بذلك المقالات الآتية إن شاء الله
(م. ف. ع)
أناشيد صوفية
جيتانجالي
للشاعر الفيلسوف طاغور
بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب
- 97 -
سأزينك بالرايات والأكاليل علامة غلبتك علي؛ فما كان في قوتي أن أدفع عن نفسي الهزيمة
لا ريب، فكبريائي قد عُصف بها، وحياتي تصدعت عن آلام مبرحّة، وقلبي الخاوي تفجر عن لحن موسيقى كأنه اليراع المثقب، وهذه الأحجار الصماء ستحور عبرات
لا ريب في أن أوراق زهرة اللوتس لن تظل متماسكة أبد الدهر؛ وأن رحيقها المكنون سيبدو في وقت مّا
ومن خلال السماء الزرقاء ستحدق عين فيّ ثم تناديني في صمت، فأنفض عني كل شيء. . . كل ما أملك. . . ثم أتقبل القضاء المحتوم عند قدميك
- 98 -
حين ألقي بالدفة من يميني ألقي بها لأنه يكون قد آن لك أن تديرها أنت، وسيتم كل ما تريد في لحظات، وعبثاً هذا الجهاد
إذن ألق السَّلم - يا قلبي - وأصبر في صمت على ما مُنيت به من إخفاق، وثق بأنه من حسن حظك أن تستقر هادئاً في مكانك. . . مكانك الذي حللت
إن مصابيحي تنطفئ عند كل هبة نسيم، وإني لأنسى ذلك حين أنطلق أضيئها
غير أني سأكون - في هذه المرة - حازماً، فأظل في غسق الظلماء، أنشر فراشي على الأرض؛ وإذا طاب لك هذا - يا سيدي - فتعال إليّ في صمت، واتخذ لك مجلساً بازائي
- 99 -
لقد اندفعت إلى أعماق بحر الأشباح عليِّ أجد الدرة الكاملة التي لا شكل لها
لن أبحر - بعد - على قاربي المحطم من مرفأ إلى مرفأ؛ فما أطول الأيام حين أقضيها بين أمواج تتقاذفني!
والآن، فأنا أستشعر في نفسي الشوق إلى أن أغتمر في الخلود.
سأندفع إلى مجلس السمر، حيث اللجة ما لها من قرار، وحيث الموسيقى تتصاعد مختلطة في غير نغم. . . سأندفع إلى هناك وبين يديّ قيثار حياتي
سأوقع عليها ألحان الأبدية، وحين آتي على آخر لحن ألقي بها عند قدمي السكون
- 100 -
لقد أفنيت عمري أفتش عنك بأغانيّ. إنها هي التي قذفت بي من باب إلى باب، ومن خلال نبراتها لمست كل ما حولي، فانكشف أمام عينيّ العالم، فأحسست به
إنها أغانيّ هي التي علّمتني كل دروس الحياة، وهي التي كشفت لي عن مسالك غامضة، وحسرت لي عن كواكب تتألق في أفق قلبي
وهي قادتني إلى مفاوز في عالم من السرور والألم معاً؛ وأخيراً، ماذا عسى أن يكون باب هذا القصر الذي دفعتني هي إليه والليل ناشر أستاره، فوقفت بإزائه وقد تمت رحلتي؟
- 101 -
إنني أباهي صحابتي بمعرفتك، وهم يلمسون شعاعك في كل ما أعمل فيندفعون إليّ يسألون:(من عسى أن يكون؟) فما أدري بماذا أجيب. . . ثم أقول: (حقاً، إنني لا أستطيع قولاً) فيتهكمون عليّ بكلمات لذاعة ثم ينصرفون عني في ازدراء، وأنت جالس هناك تبسم
وصغتُ أحاديثي عنك في أناشيد يتدفق في ثناياها السر الدقيق من قلبي، فاندفعوا إليّ يسألون:(خبّرنا عن معاني حديثك) فما استطعت حديثاً. . . ثم قلت: (من عساه أن يعرف؟) فابتسموا في تهكم ثم انصرفوا عني في ازدراء جامح، وأنت جالس هناك تبسم
- 102 -
في تحية واحدة إليك - يا إلهي - دع كل حواسي تنطلق فتلمس هذا الكون عند قدميك
وكما تتعلق سحائب يوليه وقد أثقلتها القطرات المكفوفة، دع قلبي ينحن عند بابك في تحية واحدة إليك
واجعل أغانيّ تنتظم كل الألحان المتضاربة في تيار واحد ثم تتدفق إلى خضم السكون لتكون تحية واحدة إليك
وكما ينطلق سرب من الكراكي وقد أهمته الغربة. . . كما ينطلق في دأب ونشاط - صباح مساء - ليبلغ أعشاشه على قنن الجبال، دع حياتي تتخذ طريقها إلى مستقرها الأبدي لتكون تحية واحدة إليك
(تمت)
كامل محمود حبيب
من أدب العمد
بين ديكي وكلبي
للشيخ حسن عبد العزيز الدالي
ديكي العزيز!
بقروش فوق الستين اشتريتك يا ديكي العزيز، بعد بحث طويل عنك في الأسواق. وما أكثر الديكة من إخوانك أيها الديك، ولكن قليلاً منهم ما يشبهك. وأين من الديكة جمال ريشك، وطول عُرفك، وثقل وزنك، وخفة روحك؟ صفات ما اجتمعت قبلك في ديك. فأنت الذي كنت أبحث عنه في الأسواق بذاته وعينه وخصوصيته، حتى عثرت بك!
وعنيت بأمرك يا ديكي كل العناية؛ فأفردت لك جناحاً خاصاً تسرح فيه وتمرح، فتنفش ريشك الأخضر الجميل، وتخفق بجناحك الزاهي الممدود، وتدلي عرفك الأحمر الطويل، وتكركر بصوتك الموسيقي الصادح: كُر كُر كُرْ. . . . . . .
بيدي كنت أقدم إليك الطعام في الأطباق الصيني في وجبات منتظمة الميعاد، شهية المذاق، مغذية سائغة، استعداداً ليومك المعهود بعد ثلاثة أسابيع، يومَ تُزَفُّ في الصحفة الكبيرة، لتكون عشاء العروسين في ليلة الزفاف. أيّ شرف كنت أُعدّ لك أيها الديك؟ ولكن. . .
ليت شعري ماذا أصابك أيها الديك. . .؟ لقد كنت في زيارتك أمس بعد الغروب ورأيتك وأنت تقفز بخفتك ونشاطك إلى العريش الذي اتخذته لك بيتاً عندما يجن الظلام. . . ويلي منكم يا معشر الديكة! لا يفارقكم الزهو والخيلاء: ففي النهار كرٌّ وفرّ وعُجْبٌ وكبرياء، وفي الليل لا يرضيك أن يمس جنبيك التراب فتأبى إلا العلاء. . .؟ بَلَى، رأيتك أمس يا ديكي في خفتك ونشاطك، وعافيتك وصحتك، وحوصلتك مملوءة، وعرفك ريان؛ فماذا دهاك في الصباح يا ديك؟
يا أسفاه وقد غدوت عليك لأقدم إليك الفطور بيميني فإذا أنت جثة هامدة، ملقى على الأرض، معفر بالتراب، تحت السرير الذي ارتقيته أمس مزهواً أمام عيني!
لقد أحزنني مرآك يا ديك على هذه الحال، وبجوارك ذلك الكلب الصغير (بيتر) الذي أصفاك الود منذ حللت الدار!
ما بك من جرح أيها الديك يُظن أن صديقك الأمين قد أحدثه بك في ثورة طيش، وما بك
رضٌ يحتمل أن يكون من جراء سقوطك من مرقدك في غفوة حلم؛ وهذا مكانك دافئ لا إمكان لأن ينالك فيه برد. . . إذن فماذا. . .؟
لابد من تشريح الجثة لمعرفة سبب الوفاة. ليس في الأمر جريمة على ما أعتقد وأرى! أهي سكتة قلبية؟ أهي ذبحة صدرية؟ أهو تصلب في الشرايين. . . .؟ ليتني أعرف يا ديكي العزيز. . .!
يا للقدر! لقد كنا نأمل أن يكون تشريحك بين العروسين في ليلة الزفاف، فكيف يطاوعني قلبي أن أبدلك منهما مبضع الطبيب البيطري. . .!
هذا صديقك (بيتر) يهز ذيله في حيرة، وينكت الأرض برجليه في ألم، ويعوي من قلبه في صوت مبحوح. ماذا يريد يا ترى؟ أيطمع أن يرشدنا إلى القاتل وليس هناك جريمة؟ أم يريد أن يقوم هو بعملية التشريح وتمزيق اللحم بعد ما أصبح الديك لا يصلح للعروسين، أم. . . أم هو يبدي الحزن على صديقه الفقيد ويريد أن يحفر له قبره بيده. . .؟
من يدري أي سر يعتمل في صدر هذا الحيوان؟ لقد تركناه لحاله وما فهمنا قصده، واتجهنا إلى هذا الفقيد نفكر فيما نصنع به وأخيراً شيعناه بنظرة وداع، وعقدنا العزم على أن نجعله طعاماً لبيتر. ما أشد ظلم الإنسان للحيوان، حتى على الموت! لقد قطعنا فخذ الديك فنزعنا ما بها من ريش، ثم جعلناها وجبة الطعام لبيتر. . . ولكن. . . يا عجبا! إن بيتر يأبى أن يأكل من لحم صديقه الذي مات، على شهوته وجوعه. ها هو ذا يعمد إلى الريش المنزوع فيجمعه بفيه ثم يغطي به هذه الفخذ العارية. لقد قام الكلب بواجبه، فكفن صديقه في أثوابه وواراه التراب!
يا للوفاء! الكلب يأبى أن يأكل لحم صديقه ميتاً وإنه لا يعف عن طعام، والإنسان - ويلي على الإنسان! - والإنسان لا يتعفف أن يأكل لحم أخيه. . . إن في الكلاب لنُبلاً وشهامة. . .!
لله أنت يا بيتر، وفي ذمة الله يا ديكي!!
حسن عبد العزيز الدالي
عمدة كفر دميرة القديم
معاودة الذكرى
تحفة من الشعر الغنائي الرائع
للشاعر الراوية الأستاذ أحمد الزين
عاوَدَ القلبَ حنينُهْ
…
مَن على الشوق يعينُهْ
ويح قلبي من غرامٍ
…
هاج بالذِّكرى كَمينُهْ
يا لخّفاقٍ إذا ما
…
قَرَّ هزّته شُجونُهْ
واصلٌ مَن صَدّ عنه
…
صائنٌ من لا يصونه
خانه الصبر ولولا الص
…
دُّ ما كان يخونه
يا زمانا لم تكن إلاّ
…
هُنَيهاتٍ سِنينه
كنتَ رَوضاً حالياً بالو
…
صل قد رَفّت غصونه
حُلُمٌ إن يَمْحُه الده
…
رُ ففي الذكرى تصونه
كلَّما مَنَّاه ظنٌّ
…
عاد باليأس يقينه
آه لو تدرين ما بي
…
ضاق بالقَيْد سَجينه
إنّها تدري ولكن
…
لِصبا الغِيدِ فُتونه
أنتِ لي كلُّ شئوني
…
ويلَ من أنتِ شُئونه
كان لي دمعٌ فمالي
…
جَفَّ مِن دمعي مَعِيته
مَن لصَبٍ غَدَر الوا
…
فِي به حتّى جفونه
سكن الليلُ فما للِ
…
قلبِ يجفوه سُكونه
كلَّما ظَنَّ سُلُوّاً
…
كَذبتْ فيهِ ظنونه
لا أذُودُ الحبَّ عن قل
…
بي ولو شُقَّ وَتِينُه
كم فنونٍ ذاق في الح
…
بِّ وللحُبِّ فُنونه
فليَذُق ما شاء منه
…
ما رَعَى العهدَ أمينه
أيها اللائم دَعْهُ
…
فَلهُ في الحبِّ دِينهُ
أحمد الزين
الضياء
للأستاذ أمين نخله بك
هذه القصيدة أهديت يوم نظمت إلى (مدموازيل كلير) ومن المحزن كثيراً أن تكون (مدموازيل كلير) قد غرقت في - ضمير الفناء - في أرض فرنسا، على حين أن الأدب العربي يستقبل اليوم (الضياء) فيطرب لها ويتلألأ بها، وصاحبتها التي من أجلها ألفت قوافيها وجمعت لفظاتها غائبة عن الدنيا في عتمة عميقة
فلتكن هذه القصيدة، إذن، ألطف زهرة على ألطف تراب في أرياف (إيل دة فرانس) البعيدة. . . قال الأستاذ نخلة:
عاش لنا الصبحُ، ومات المساءْ
…
في الصبح ألقاكِ، وألقي الضياءْ!
كأنّ لطف الله، سبحانه
…
زحزح عند الصبح ذاك الغطاءْ
فالحمد لله على نعمةٍ
…
تشمل حتى لون خيط الهواء!
إن الظلام المرتمي لّجة
…
أعمق غوراً من ضمير الفناء. .
يبتلع الدنيا على رحبها
…
ويمسح الحسن، ويطوي الرواء
لولا الضياء السمح ما اخضوضرت
…
منابت العشب، ولا ازرقّ ماء!
في دورة الجدول حمدٌ له
…
وفي الأفانين عليه الثناء
ما العيشُ، لولا الضوء، ما لونه!؟
…
ما نضرةُ الرغد، وصفوُ الهناء؟!
يا ضوءُ شعشعْ، أنت عيدُ الضحى
…
عيدُ الشعاع الطلق، عيدُ الفضاء
يا ناسجَ السحبِ على نوله
…
أحسنتَ، فاسحبْ ذيلها ما تشاء
يا كاسيَ السنبلِ من عسجدٍ
…
اخلعْ على الكرمة هذا الكساء!
إن الدوالي، وعناقيدها
…
سخيّةٌ، فاسكبْ لها عن سخاء
يا ضوءُ، يا أنس المغاني، ويا
…
بشائر الخير ولمع الرجاء
لك الحبورُ الذهبيّ، الذي
…
راح على الوادي صباحاً وجاء!
رُبَّ شعاعٍ منكَ شكّ الدجى
…
فقام بالجرح، وفي الفجر ناء
خلِّ الدجى يبكي على ملكه
…
مقطّب الوجه، حوالي السماء!
من مبلغي من معمعان الهوى
…
دفقة ضوءٍ، لا يليه انطفاء
أُغرقُ في النور حبيبي، وفي
…
زواخر الوهج وسكب البهاء. .
أمين نخله
رسالة العلم
ما بعد الطبيعة
الحياة
للسيد محمد حسن البقاعي
- 2 -
إن الإنسان ليتساءل فيقول: ما هو أساس الحياة؟ تُرى هل هو نمو الحسِّ وحركاته وألمه وعضويته؟ فهذه المسألة لا يمكن الجواب عليها إلا بالاستعانة بالعلم والفلسفة. على أن البحث في الحياة ليس إلا التفتيش عن الحي هل هو ناشئ عن مادة أو هل الحياة الموجودة في الجسد مًحصِّلةٌ لأمور مادية أم خاضعة لمبدأ روحي عقلي؟
ولعمري إن الغوص في بحث الحياة وسبر غورها ليتطلب البحث في النظريات التي وضعها الفلاسفة من القرون الأولى حتى عصرنا الحاضر. وهذه النظريات على نوعين:
(1)
النظريات الآلية
(2)
النظريات الحركية
أما خلاصة ما يقوله واضعو النظريات الآلية فهي: إنه من الممكن تعليل الحياة بالخواص الموجودة في كل نوع من أنواع المادة، أي يمكن تعليل الحياة بالحركة التي تصحب المادة. فقد قال (فاندال):(ليس تشكل نبات أو حيوان أو تبلور إلا حادثة ميكانيكية لا تختلف عن قضايا الميكانيك الاعتيادية إلا أن العناصر فيها بسيطة جزئية) على أن كيفية الحركة مركبة، فهي تعلل كل شيء بالمادة، مثال ذلك: تركيب الماء من ليس هو إلا تركيباً مادياً ويدعمون نظريتهم هذه بسلسلة من الأدلة الطبيعية
الدليل الأول: إننا نستطيع إرجاع كل شيء من مظاهر المادة إلى حركة، فالحرارة والنور يرجعان إلى اهتزاز وحركات فَلِمَ لا نعتبر الحياة مثلها ونرجعها إلى الحركات؟
الدليل الثاني: إن مبدأ (لا فوازيه المشهور، والمعروف بمبدأ حصانة المادة وبقاؤها لخير دليل على أن الأجساد الحية لا يوجد فيها شيء غير المواد الكيميائية التي تنتج بتحليلها تحليلاً كيميائياً، إذ أننا لو وَزنَا المواد الحاصلة بعد التحليل الكيميائي ووزنا الجسم المحلل
قبل ذلك لوجدنا هناك تعادلاً
الدليل الثالث: كلنا يعلم أن التركيب الكيميائي يعطي مُركباتٍ ذات خواص لا توجد في العناصر المركبة، فتركيب كلور الصوديوم من الكلور والصوديوم يكسب المركب خواص مغايرة لخواص كل من عنصريه فَلِمَ لا تكون الحياة مركباً ناشئاً من مركبات مختلفة؟
الدليل الرابع: لقد سمحت لنا التجارب الحديثة بمشاهدة بعض المماثلات والمناسبات الغريبة بين بعض صور الموجودات الحية وبين صور بعض الأجسام البللورية؛ فمن هنا نرى أنه يمكن إيضاح الحياة ميكانيكياً مثلها
ولكن هذه الأدلة لم تسلم من الأعتراض؛ فقد اعترض عليهم بعض الفلاسفة فقالوا: (إن العلماء حتى اليوم لم يستطيعوا أن يركبوا الحياة) غير أن هذا الاعتراض يستند إلى أساس أو هي من بيت العنكبوت. وهذا الأساس ليس إلا تلك التجربة التي قام بها (باستور) وأثبت عدم إمكان التوالد العضوي. فإذا لم يوصلنا العلم حتى الآن إلى تركيب جسم حي فلا بد أننا في المستقبل نستطيع ذلك. على أن كلام باستور: (إن الحي لا يتولد إلا من الحي) لا يمكن أخذه كمبدأ أساسي ما دام العلم في ارتقاء وتقدم مستمرين، وها هو (ليبنيز يقول: إن كل شيء في العالم يحدث ميكانيكياً. ولكن يجب أن ترتقي إلى مبدأ أعلى، وهو المبدأ الميتافيزيكي ليتجلى لنا إيضاح الميكانيكية نفسها: على أن في الحياة نظاما واتساقا خاصا لا يمكن تعليله في الحياة الميكانيكية فقط؛ مع أننا لا ننكر أن كثيراً من الحوادث الحيوية يمكن تعليها بالحوادث الميكانيكية. فقد قال (كلود برنارد ليس تكوُّن الجسم الحيوي من مجموعات عناصر كيميائية هو كل ما نمتاز به، بل هو الحياة أي القوة الحيوية التي لا توجد في الكيمياء، كاتجاه أعضائنا كل منها إلى غاية كغاية القلب وغاية المعدة. . . فنحن في هذه النظرية في عالم الأفتراض؛ لذلك نقول: إن كلاٍّ من هاتين النظريتين: الميكانيكية والديناميكية تستطيع دحض الأخرى وتقويضها
ولقد اعترض (هنري برغسون على نظرية الميكانيكية فقال: الحياة كلها إبداعُ فهي مبدعة: أي أن تيار الحياة يأتي دائماً بالجديد. فالحوادث الحيوية فيها عدم تنبؤ ولا يمكننا أن نتنبأ بأن الأحفاد فيهم صفات الأجداد، وهذا ما يدعونا إلى عدم إيضاح الحياة
وزيادة على ذلك فإن الحوادث الحيوية الموجودة في الجنين لا يمكن إيضاحها بصورة ميكانيكية: فنرى أن الشبكة العينية عند ذوات الفقرات ناشئة عن اتساع القسم الدماغي في الرشيم الحديث بينما هي عند النواعم مشتقة من الأدَمة أي من الخارج بصورة مباشرة لا بواسطة الدماغ. ومن هنا نرى أن العضو الواحد في حيوانات مختلفة لا يتشكل من نفس العنصر. والسبب في ذلك لا يمكن تعليله بالعناصر الميكانيكية في الرشيم ولا بشروط الإقليم والبيئة الموجودة فيها الرشيم. فتجدنا مضطرين إلى افتراض مبدأ مسيطر أي غاية واتجاه. وإذا اعترضنا على الميكانيكية والحركية هل نصل إلى شاطئ الصواب؟ كلا! فلا يسعنا لحل هذه المسألة إلا الرجوع إلى نظريات غير الحركية والآلية علنا نقرع باب الحقيقة ونلمسها بأناملنا العشر. فلنبدأ بذكر النظرية الحيوية فنقول: إن أصحاب هذه النظرية هم لروه وبارتس وكافة أطباء مدرسة (مونبيليه) وهم يعتقدون أن الحياة لم تنشأ إلا عن مبدأ خاص لا روح ولا شيء آخر، بل هو مبدأ حيوي وسط بين الروح والجسد. . . وقد تتجلى للقارئ قيمة هذا التعليل بمجرد ذكره فهو بدلاً من أن يوصلنا إلى حل هذه المسألة؛ أوجد لنا معضلة أخرى لذلك فان الحيويين مثل (بروسن) و (كابانيس وغيرهما من مدرسة باريس غيروا رأيهم فقالوا: ليست الحياة ناشئة عن مبدأ مفارق للجسد والروح؛ ولا عن خواص المادة. بل هي ناشئة عن خواص معينة حيوية من نوع ثابت معين موجود في الجسد، أي أن المادة فيها خاصة الحياة عدا خواصها المعروفة. وإذا عَرَّجنا الآن على نظرية العضوية القائلة:(إن الحياة هي وجوه الأعضاء في الجسم على هذه الصورة فهذا الوضع هو الذي أكسبها خاصة الحياة) نجد أننا لم نزل في غياهب جهل بحقيقة الحياة؛ بل كدنا أن نرتبك أكثر مما كنا فيه. إذن فلنبحث الآن في النظرية النفسية وهي النظرية التي تقول: (النفس مبدأ الحياة الأساسي). فإن الحياة تفارق الجسد عندما تفارقه النفس، وهي مبدأ العقل أيضاً فإننا نجد علاقة صحيحة بين الحياة العاقلة والحياة المادية أي أن مبدأ العقل هو مبدأ الجسد. ويثبت أصحاب النظرية النفسية رأيهم هذا بوجود الوحدة في الجسد بالرغم من هذه الكثرة، فبما أن في النفس غاية واحدة فهي إذن المبدأ الأول للحياة
ولا يمكننا إيضاح هذه الوحدة وهذا التناسق إلا بهذه الغاية الموجهة، إلا وهي النفس. على أننا لا نعرف بأية صورة تؤثر الروح في الجسد؛ وهذا الأمر شغل كثيراً من علماء النفس
وعلماء الاجتماع والفيسيولوجين، ولم يستطيعوا التوصل إلى حل معقول. فنحن إذن لا نزال في عالم الفرضيات؛ أضف إلى ذلك ما يعرضه بعض الفلاسفة على أصحاب هذه النظرية من الأسئلة، فقد قالوا: إذا كانت النفس لها تلك القدرة التي يسندونها إليها - أي هي التي تحمي الجسد - فلماذا تتركه يفسد فيزول أو يمرض؟ وكيف توضح الحوادث التي تحدث في الجسد بعد مفارقة الروح له كأن يطول الظفر بعد الموت وينمو الشعر؟ وماذا نقول إذا علمنا أن بعض البوليب التي تعيش في المياه الحلوة إذا قطعت بصورة عرضية، أي إذا شطرت شطرين، يكون كل شطر منهما ذا حياة جديدة ويعيش؟ ألم يقرروا أن النفس لا تنقسم؟ إننا نجد هذه النظرية لا تخلو من الصعوبات أيضاً. ولقد وضع (داروين وكروسي) نظرية دعيت بالنظرية الروحية الكثيرة العناصر الحيوية فتقول:(الحياة ناشئة عن الروح والجسد معاً أي عن عنصرين. فلا يعتبر الجسم مادة عاطلة لا حياة فيها، بل هو مستعمرة لحجيرات كثيرة كل منها لها حياتها الخاصة؛ والنفس توجد هذه الحياة الكثيرة العناصر وتوجهها إلى جهة واحدة)
فهذه النظرية لم تكن أسعد حظاً من رفيقاتها السابقة، بل هي لا تختلف عن نظرية مدرسة مونبيليه من حيث توضيحها للحياة بالحياة نفسها
وفي ختام هذه البحث لا يمكننا إلا القول: الحياة هي قوة إلهية كامنة يبثها الله تعالى في الموضع الذي خصصه لها وهي كل جسم صالح للحياة. وقد تبين لنا أن العقل البشري منذ القرون الأولى إلى العصر الحاضر لم يكتشف كنهها، فهو إذن عاجز عن إدراك الحقيقة النهائية للحياة، ولعل الله يكشف لبعض الأدمغة الواسعة عنها فيخلص طائفة كبيرة من عناء التفكير فيها ويردعهم عن الوقوع في الزلات الجسيمة وارتكاب الأخطاء العظيمة
(انتهى بحث الحياة ويليه بحث الروح)
(دمشق)
محمد حسن البقاعي
القصص
أقصوصة حكيمة من جولد سمث
الجندي الأجذم
للأستاذ دريني خشبة
يجهل نصف الناس كيف يعيش نصفهم الآخر!!
تلك ملاحظة عامة شائعة؛ بل ليس فيما يلاحظ الناس أكثر منها شيوعاً. . . وهي مع ذاك ملاحظة صادقة؛ فهموم العظماء ما تلبث أن تفشو وتفشو، وتذيع أنباؤها حتى تصبح مِلء الأسماع، وملء الأفواه، وحتى تصبح حَبتها قبة، وحصرِ منها عِنَبَة؛ وذلك بما يمطها به الرواة، وما يُضْفون عليها من الزخرف الزائف، والبهرج العقيم. . . ويبتعث هذا في نفوس المهمومين طائفاً من الزهو فيلتذون همومهم، ما دامت تجعلهم أبطالاً في تقدير الأغرار
هذا، وليس فخراً أن نحتمل الرُّزْء في ثباتٍ وفي جلدٍ ليسا طبيعةً فينا، ولا أصلاً في جِبلتنا، بل هما صدىً للخُيَلاء التي يثيرها فينا إعجاب الناس بنا، واستعظامهم لنا
أما العظيم حقاً، فهو الذي ينزل بساحته الخطب فيصمد له، ولا يحفل به، في حين لا خِلٌ فيواسيه، ولا صديق فيشجعه. . . بل. . . ولا بارقة من أمل فتُسرى عنه. . . ذلك رجل ينبغي علينا احترامه، ويجب أن نتخذه لنا قدوة، مهما يكن. . . من السوقة هو. . . أو من عِلية الناس
يا ما أتعس حظ الفقير!!
إن الرجل الغني إذا أصابته ضرّاء، وقد لا تكون من الضرّاء في شيء، تناقل الناس ضرّاءه، فهولوا بها، وأفاضوا فيها، بَيْنَا يُرَزّأ الفقير بأضعاف ذلك فلا يلتفت إليه أحد، ولا يعتدّ به مخلوق. . . وإن مصيبةً واحدةً من مصائبه في سحابة يوم لترجح مصائب العصبة أولى الحول من السادة العظماء في حياتهم جميعا. ً. .
إن من أصغر جنودنا وبحارتنا العاديين مَنْ إن ينزل به الخطب لا تتصور فدحه عقولنا، فيصبر له في عظمةٍ وتسليم وإيمان، دون أن يشكو أو يتململ، أو يتسخط على قضاء الله،
ودون أن يُشهد الناس!. . . هذا. . . وقد تكون أيامه كلهن نوازل يأخذ بعضها برقاب بعض
لشد ما كنت أضيق ذَرْعا بأوفيد وشيشرون ورابوتين حينما كنت أقرأهم فأراهم يشكون ويبرمون ويتسخطون، ويندبون حظهم العاثر، وطالعهم النحس.،. ولماذا؟؟ لأن أحدهم لم تسعده المقادير بزيارة هذا المكان أو ذاك، مما وقر في باله أنه كان حرياً لو قطف ثمار السعادة فيه. . . وليس هذا الهم من الهموم إلا سعادة صرفة إذا قيست بما يجرعه البائسون من غصص الحياة كل يوم. . .
لقد كان أولئك يحيون في بُلهنية وسعة، يحف بهم حشمهم، ويسجد تحت أقدامهم خدمهم، لا يحملون هماً من هموم المادة، ولا يبالون كلفة من كلف الحياة. . . كل هذا بينما كان كثيرون من بني جلدَتهم يجوبون الآفاق في ظمأ ومسغبة، لا يكادون يجدون الكِنّ الذي يدرأ عنهم عاديات الجو وتقلباته. . .
كل هذه الخواطر دارت بِخَلَدي حينما لقيت فجأةً، ومنذ أيام خلت، رفيقاً بائساً كنت أعرفه إذا أنا صبي؛ يطوف في أزقة المدينة وهو يتكفف الناس، وقد جعل يقْزل برجلين إحداهما من لحم وعظم. . . والأخرى من خشب. . . ومن فوق كاهله سترة بحَّار بالية، يتوكأ بها على عُكازةٍ نابية
وهالني أن أراه قد آل إلى هذا المال. . . فلقد كنت أعرفه أميناً دائباً شديد الدؤوب إذ كان يعمل في الريف. . . فبعد أن دسست في يده ما هو حسْبُه، رغبت إليه في أن يقص علي قصة حياته، وطرفاً من أنباء مأساته. . . وأرسل صديقي الجندي الأجذم، وقد كان جندياً حقاً وإن بدا في ثياب بحار، أظافره تعيث في جلدة رأسه، ثم انكأ على عكازته، فعرفت أنه يجمع أشتات الذكريات التي تتألف من أسرابها قصته، والتي ساقها في حديث طويل طلى هكذا:
(لا أستطيع أيها السيد أن أدَّعي أن مصائبي قد فاقت مصائب سواي، أو أنني لقيت من العنت ما لم يلق غيري، إذ أنني، فيما عدا هذه الساق المبتورة، وتلك الأصابع المجذومة، وما اضطررت إليه من المسألة والتكفف، لا أجد والحمد لله ما أشتكي منه!! وإن هذا زميلي تِبْز الذي فقد ساقيه جميعاً، وإحدى عينيه، والذي أقعده كل ذلك عن السعي وراء رزقه. . .
فأين أنا مما آل إليه؟ شكراً لله!
ولقد ولُدت في شُبْشَيَر، ومات أبي - وكان من العمال - ولما أبلغ الخامسةَ بعد، فأرسلت إلى ملجأ إحدى الكنائس ذوات الضياع. . . ورفض القساوسة أن يبقوا عليّ لأنني لم أستطيع أن أنتسب لديهم، ولأنني لم أستطع أن أخبرهم أين وُلدت؛ ومن لي بهذا وأبي - وقاك الله! - كان رجلاً آفاقياً، لا ينتهي من تطواف إلا إلى تطواف! وقذفوا بي من أجل هذا إلى ضيعة كنيسة أخرى، فأرسلتني بدورها، ولنفس الأسباب، إلى ضيعة ثالثة، فرابعة، فخامسة، وهكذا دواليك، حتى حسبتني أقضي الحياة في هذا التشرد الطويل دون أن أستقر، لولا أن تغلبت مروءة الإنسانية آخر الأمر، فخلجت إحدى الكنائس أن تطردني من ضيعتها، فبقيت ثمة، وألحقت بكُتَّابها لأتعلم الهجاء، بيد أنني وا أسفاه لم ألبث به طويلاً، إذ آنس في مُعلم المصنع الملحق بالكنيسة جسماً يافعاً وذراعاً مفتولة لا أيسر عليها من حمل المدق والمطرقة فاختارني لمعاونته في عمله. . . وبقيت هناك خمس سنوات كانت أسعد فترة في حياتي لسهولة العمل، وطراوة العيش، وإقبال الزمان. . . ذلك أنني لم أكن أعمل كل يوم أكثر من عشر ساعات (!)، ومع ذلك فقد كنت أعطي نصيباً وافراً من اللحم والشراب يتناسب مع مجهودي الضئيل، ومع أنني كنت أشتهي لو قضيت حياتي كلها ثمة فانهم كانوا يحبسونني داخل الكنيسة، بحيث لم يسمحوا لي قط أن أعدو وصيد بابها، خشية أن أفر إلى ملجأ آخر. . ولا أدري لماذا كانوا يظنون مثل هذا الظن، والكنيسة كلها كانت حِلا ّلي، وحوشها الكبير أمرح فيه حيث أشاء. .
(ثم نقلت بعد أن شببت إلى مزرعة مجاورة لأعمل فيها من مطلع الفجر إلى غسق الليل، ثم أعود إلى الكنيسة لأنام، وكنت أحمد الله على أن يسر لي أمر طعامي وشرابي، وعلى أن حبب إلي عملي الذي كنت أقبل عليه في رضي وقناعة. . . ولما مات المعلم الذي لزمته طوال هذه المدة، كان طبيعياً أن أهجر الضيعة لأشق طريقي في الحياة بنفسي، ولأكدح في سبيل رزقي فرحت أزرع الأرض، وأنتقل من قرية إلى أخرى، وأشبع إذا لقيت ما أعمله فأوجر عليه، وأجوع إذا لم ألق عملاً حتى أوشك أن أقضي من الطَّوى
(ثم حدث أن كنت ماراً ذات يوم في طريق وسط مزرعة لحاكم الإقليم فلمحت أرنباً برياً يرتع ويلعب ويقضم العشب، فوسوس الشيطان في صدري أن أحذفه بعصاي. . . ففعلت.
وقصمت ظهره، ثم هرولت إليه فحملته وأنا فرح بهذا الصيد، وما كدت أمضي حتى لقيني الحاكم صاحب المزرعة نفسه وانطلق يسبني ويلعنني، ويرميني بكل موبقة، ويشتمني فيقول ويقول. . . ثم أمر بالقبض علي، وإحضاري أمامه لأثبت شخصيتي وليرى إن كنت متشرداً أو جَوّاب آفاق. . . وقد وقفت أقبل الأرض بين قدميه وأترضاه واستعطفه، ثم جعلت أسرد له ما أعرف من أرومتي ونشأتي وآبائي، حتى لم أبق شاردة ولا واردة إلا قصصتها. ولكنه وا أسفاه تجهم وقال: إني لم أستطع أن أثبت له شخصيتي. . ثم حوكمت بعد هذا - أعاذك الله - بتهمتين عجيبتين، أما إحداهما فخرق قوانين الدولة بما قصمت ظهر الأرنب، وأما الأخرى. . . فلأني فقير معدم. . . لا أمامي. . . ولا ورائي! وأرسلوني إلى نيوجيت بلندن لأنفى من أرض الوطن في زمرة المجرمين والمتبطلين
(وبالرغم مما يزعمه الناس عن الحياة في السجن، فلقد وجدته لطيفاً ظريفاً كما وجدت أي مكان غيره في العالم. . وماذا غير أن يأكل الإنسان ويشرب ملء بطنه، وينام ملء عينيه، دون أن يعمل عملاً ما. . .! لعمري لقد كنت أوثر أن أبقى هناك إلى الأبد، لو لم يأخذوني بعد خمسة أشهر إلى الميناء، حيث شُحنت أنا ومائتان غيري من ذوي البطالة في فُلك كبيرة، ما لبثت أن همت بنا في موج كالجبال إلى مزارع المستعمرات وراء البحار وقد تركونا لكثرتنا الهائلة ننام في ممر ضيق بين القمرات، فاختنق من اختنق، وعاش من عاش، وكانوا يقذفون بمن مات في اليم ليدفن في بطون السمك، وتالله لقد دفن فيها نصفنا أو يزيد. . . أما من نجا، فقد اعتل جسمه وخارت قواه، وهُزل هزالاً شديداً
(وبلغنا الشاطئ، وباعونا كالرقيق للمزارعين، وظللت أفلح الأرض مع العبيد، ولو قد تعلمت الهجاء لنجوت من حمارة الشمس الاستوائية، ولقمت بعمل أسهل. . . ولا أطيل عليك، فلقد لبثت في عملي المتصل سبع سنين سُرِّحنا بعدها وهفا القلب إلى الوطن. . . واشتاقت النفس إلى إنجلترا الأم التي أهواها من كل قلبي، وأخلص لها الحب من أعماقي، فلبثت أياماً أفكر في الأوبة وأعد ّلها عُدّتها، وحرصت على ألا أقع فيما وقعت فيه من قبل من تهمة البطالة والتشرد، فلم أذهب قط بعيداً عن حدود المدينة، بل رحت أذرعها مشرقاً ومغرباً وأنتظر يوم الرحيل. . واستعنت بأداء بعض الأعمال التافهة على التوقي من أعين
الشرطة
وكنت أشعر بسعادة عميقة أثناء هذه الفترة التي تسبق عودة النازح إلى أرض الوطن. . . ولكن. . . حدث ما لم يكن قط في حسباني، فبينما كنت عائداً أدراجي من بعض عملي إلى منزلي، إذا رجلان قويان يلكمانني لكماً كاد يحطم رأسي، وإذا بي أهوي إلى الأرض في غير وعي. . . حتى إذا أفقت إذا هما يأمرانني أن أنهض ثم إذا هما ينطلقان بي إلى الحاكم الذي يطلب إلى ما يثبت شخصيتي! حتى إذا عجزت هذه المرة كما عجزت في الأولى، تُرك لي أن أختار إحدى اثنتين لا ثالثة لهما، فإما أن أنطلق من فوري فأعمل بحاراً على ظهر مركب يوشك أن يبحر أو أن أنضوي إلى صفوف الجند فأحارب أعداء المملكة. . . ولم يكن بد من أن أختار الجندية التي شعرت فيها بكرامتي خصوصاً بعد أن حاربت في وقعتين كبيرتين هما معركة الفال الخالدة، ومعركة فونتنوي التي لن أنساها ما حييت. . . ولم يمسسني ضر في أي منهما، اللهم إلا جُرْح هنا. . . في هذا المكان الرحب من صدري، استطاع طبيب فرقتنا الحاذق النطاسي أن يشفيه سريعاً
(وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، ودخلنا في السلم كافة، سُرّح كثير من الجنود فكنت منهم. . . ولم استطع أن أضطلع بالأعمال الشاقة التي كنت احتملها من قبل، لأن جرحي كان يَنْغَل أحياناً فيؤلمني ويقعدني عن أي عمل. . . ثم انضممت إلى جيش شركة الهند الشرقية فحاربت الفرنسيين في ست معارك دامية، أبليت فيهن جميعاً بلاء حسناً، ولو كنت قد أسعدني الحظ فثقفت بالكتابة والقراءة لارتقيت إلى مرتبة (أونباشي). . . وشاء الجد العاثر أن يلم بي مرض يقعدني عن الحياة العسكرية المقاحمة، فيهيج في قلبي حنينه القديم، وفي نفسي توقها إلى الوطن؛ فأنتوى الأوبة من جديد، وإن في جيبي لأربعين جنيهاً حمراً رنانة. . . وكان ذلك في إبان الحرب الحاضرة؛ وكم كنت أحلم أحلاماً لذيذة سعيدة إذ أنا على ظهر الفلك، وأفكر في كيف أنفق هذا القدر غير القليل من الذهب الوهاج. . . . وكانت الحكومة في حاجة ماسة إلى الرجال، فلما أهابت بأبناء الوطن انضويت إلى الصفوف وأنا في عرض الحر، فعملت بحاراً في إحدى وحدات الأسطول، من غير أن تكون لي أية دراية بأعمال السفانة الحربية ولا غير الحربية. . . . وطالما اتهمني الربان بأني أعرف من الأعمال البحرية ما أنا مخفيه، إيثاراً للعمل الحربي في البر، فكان
يضربني ضرباً مبرحاً لم يكن يخفف من أوجاعه في نفسي إلا الأربعون جنيهاً التي ادخرتها واكتنزتها في جيبي، والتي كثرتها بما ضممت إليها مما كنت أقتصد بعد
وقد ضلت سفينتنا مرة، فأسَرتَنا وحدة بحرية فرنسية. . وبهذا - وا أسفاه - خسرت نقودي كلها. . . . . . ونزلنا إلى البر في ميناء برست، ولم يحتمل رفاقي الملاحون زهمة السجن وهواءه الخانق، فمات أكثرهم. . . أما أنا فقد بقيت فيمن بقي؛ ويبدو أن ما تعودته من الحياة في أشباه هذا السجن، قد جعلني أحتمل ما لم يحتمل زملائي
وبينما كنت نائماً على أرض السجن، وأنا ملتفع بغطائي الدافيء، إذا بي استيقظ على صوت الربان الذي جعل يلكزني لأصحو. . . وقال لي في صوت خافت، وهو يحمل مصباحاً أخفت من ضوئه:(جاك! جاك! هل لك في أن تحطم رأس (الديدبان) لنلوذ بالفرار يا صاحبي؟!) ولم يكن أحب إلي من أن أفعل. فوافقت على هذه المجازفة التي رغبها إلى كراهيتي للفرنسيين، الذين أعدهم أمة من العبيد. . . والذين لا يلبسون في أرجلهم إلا (القباقيب!)
ولم يكن معنا سلاح ما. . . بيد أننا كنا على ثقة دائماً من أن إنجليزيا واحداً يسعه أن ينتصر على عشرة من الفرنسيين. . . وهكذا انطلقنا إلى حيث انكمش الحارسان في ركن بعينه من البرد، فانقضضنا عليهما، وانتزعنا منهما سلاحيهما، ثم حطمنا رأسيهما، ولذنا بالفرار إلى الشاطئ. . . ولحق بنا تسعة ممن بقي من أسرانا، فركبنا زورقاً كبيراً، وأبحرنا من فورنا
(ولبثنا نصارع الموج ثلاثة أيام سوياً، حتى أضرّ بنا الجوع، وأوشك أن يهلكنا الظمأ. . . ثم اقتربنا من مركب كبير فحسبنا أن يد العناية قد أرسلته إلينا لتنشلنا مما نحن فيه. . . فإذا هو مركب من كراكب (قراصين) البحر، استطاع رجاله أَسرَنا. . . وكم كان فرحهم بنا عظيماً، لأننا أيد عاملة تنفعهم فيما هم بسبيله من أعمال القرصنة. . . وقد رضينا نحن بالعمل معهم، إذ كان لابد مما ليس منه بد. . . ولم يكن حظنا بساماً هذه المرة، فلقد شاء سوء الطالع أن نشتبك في قتال بيننا وبين الـ (بومبادور) القوية التي يملك قراصينها أربعين مدفعاً صالحة كلها للعمل، بينا لم نكن نملك أكثر من عشرين وثلاثة مدافع. . . ومع ذاك فقد قاومنا ما وسعنا أن نفعل، بل بدا لنا أننا نرى النصر قاب قوسين أو أدنى، في
نفس اللحظة التي تمت هزيمتنا فيها. . . وعلة ذلك كثرة من قتل من رجالنا، وقلة الأيدي التي لم يكن يسعها أن تُعمل المدافع كلها لنحوز النصر. . .
(وهكذا شاءت المقادير أن أكون مرة أخرى في قبضة الفرنسيين. . . ولشد ما فزعنا أن يرسى بنا ثانية في برست، إذن ما كان جزاؤنا إلا القتل هناك. . . ولكننا رسونا في ميناء أخرى، فنجونا. . . وقد نسيت أن أذكر لك أنني فقدت إحدى ساقيّ، وأربعاً من أصابعي، وأصبت بأربعة جروح كبيرة في هذا القتال الهائل. . . أواه يا سيدي؟! أواه لو أسعدني الحظ فكنت قد فقدت هذه الساق وتلك الأصابع فوق بارجة من بوارج الوطن. . .؟! إذن لكفلتني الحكومة، وحبست على معاشاً كاملاً طوال الحياة. . . ولكن. . .! ما حيلتي؟ إن من الناس من يولد وفي فمه ملعقة من فضة، وإن منهم من يولد وفي فمه مغرفة من خشب. . .!! على أنه مهما يكن من أمري، فأني أحمد الله القدير الذي حباني عافية وصحة، ووهبني النعيم والحرية ورزقني محبة بلادي. . . بلادي ذات المجد. . . إنجلترا. . . إنجلترا الأم. . . عاشت إنجلترا!)
ثم مضى عني، وغادرني في حيرة من رضاه بما هو فيه، وتسليمه الجميل لما صنع الله!! حقاً. . . إن التمرس بالبؤس يعلمنا كيف نستهين به، أضعاف ما تعلمنا ذلك الفلسفة!!
دريني خشبة
البريد الأدبي
مؤتمر المواصلات السلكية واللاسلكية
وهذا مؤتمر دولي آخر يعقد في القاهرة ويفتحه جلالة الملك (فاروق الأول)، هو المؤتمر الدولي للمواصلات السلكية واللاسلكية؛ وهو رابع مؤتمر دولي يعقد في القاهرة في هذا الفصل بعد مؤتمر الرمد الدولي، ومؤتمر توحيد قانون العقوبات، ومؤتمر القطن الدولي؛ وقد أشرنا إليها جميعاً في حينها. ويعتبر مؤتمر المواصلات السلكية واللاسلكية الذي عقد في أول فبراير الجاري من أعظم المؤتمرات التي عقدت في مصر في الأعوام الأخيرة إن لم يكن أعظمها جميعاً، فقد مثلت فيه ثلاث وستون دولة وهو أكبر عدد من الدول اجتمع في مصر في مؤتمر واحد. ويرجع ذلك إلى أهمية المسائل التي يعالجها المؤتمر، وإلى أهمية الدور الذي لمصر بفضل موقعها الجغرافي الفريد في المواصلات اللاسلكية. وقد كانت مصر في مقدمة الدول التي أدخلت فيها المواصلات الحديدية والتلغرافية، وهي اليوم في مقدمة الدول التي يحتم عليها موقعها الجغرافي بين قارات العالم القديم، وظروفها الدولية الخاصة، أن تكون من أعظم مراكز المواصلات اللاسلكية في العالم
وقد جرى جلالة الملك في افتتاح هذا المؤتمر على سنته المشكورة التي استنها، وهي افتتاح المؤتمرات الدولية التي تعقد في مصر باللغة العربية؛ وألقيت أيضاً خطبة الافتتاح الرسمية من وزير المواصلات بالعربية؛ وهذا تقدير كريم للغة البلاد وتشريف يبعثان إلى الغبطة والحمد
مؤتمر طبي عربي
يعقد في التاسع من فبراير الجاري بمدينة بغداد - كما ذكرنا من قبل - مؤتمر طبي عربي دعت إلى عقده في العاصمة العراقية الجمعية الطبية المصرية؛ وسيتفضل صاحب الجلالة ملك العراق بافتتاح هذا المؤتمر الذي سيعقد في قاعة الحفلات الكبرى بسراي أمانة العاصمة، ويستمر عقده أيام عيد الأضحى؛ وقد هرع إلى شهود هذا المؤتمر عدة من أكابر الأطباء المصريين وأساتذة كلية الطب، وفي مقدمتهم علي إبراهيم باشا وسليمان عزمي باشا؛ وكذلك بادر إلى شهوده جماعة كبيرة من أطباء الأقطار العربية الشقيقة، من فلسطين وسورية والحجاز
وسيكون عقد هذا المؤتمر العربي فرصة جديدة لتقوية أواصر الثقافة الطبية والاجتماعية بين مصر وشقيقاتها
في مملكة سبأ
أذاعت بعض الصحف الخارجية أخيراً بعض بيانات أفضى بها الرحالة المستشرق الإنكليزي المعروف المستر سنت جون فيلبي المعروف بالحاج عبد الله، والذي يقيم في جدة منذ أعوام طويلة، وتربطه بالملك ابن السعود صداقة متينة - عن اكتشافاته لآثار مملكة سبأ في (الربع الخالي). وكان قد حاول اختراق هذه المنطقة قبله رحالة فتى ألماني يدعى هانز هلفريس، ولكنه وقع في أيدي البدو، ثم بعث به إلى الشاطئ؛ ومع ذلك فقد استطاع أن يلتقط بعض صور فوتوغرافية مدهشة، منها صورة أطلال مدينة حصينة على رؤوس الجبال، وبها أبنية متهدمة عالية ترتفع عدة طبقات، وآثار أطلال ضخمة تضارع الأطلال الفرعونية في روعتها؛ فحفزت هذه الصور بعض العلماء المغامرين إلى محاولة اختراق (الربع الخالي)؛ وكان الحاج عبد الله فيلبي بمركزه في المملكة السعودية، واعتناقه الإسلام، ومعرفته الواسعة للغة العربية ولهجات القبائل، أسبقهم وأقدرهم على أداء هذه المهمة؛ فجهز في العام الماضي قافلتين إحداهما من السيارات والأخرى من الجمال، واخترق الصحراء الغربية من مكة إلى المكلا عاصمة حضرموت، ثم عاد غرباً نحو اليمن، واخترق اليمن من الجنوب إلى الشمال؛ واستطاع أثناء رحلته الشاقة أن يقوم باكتشافات أثرية هامة، وأن يحقق الأسباب التاريخية والجغرافية التي أدت إلى خراب مملكة سبأ، وفي رأيه أن هذا الخراب يرجع إلى عاصمة مملكة سبأ التي كانت تحيط بها سلسلة من البراكين الثائرة، وأن الزلازل هي التي قضت عليها منذ نحو ألفي عام، كما قضت على مدينة بومبياي الرومانية الزاهرة، وبذلك انمحت مملكة سبأ من صفحة التاريخ
وقد أثارت رحلة الحاج فيلبي واكتشافاته اهتماماً في جميع الأوساط العلمية والأثرية
رابطة دولية للكتاب
تألفت في لوزان جمعية أدبية كبيرة لحماية الكِتَاب وترويجه باسم (رابطة الكتاب)، وانتظم فيها عدد كبير من أكابر الكتاب والمفكرين مثل رومان رولان وجورج دوهامل واندري
جيد وغيرهم، وقد وصف دوهامل أغراض هذه الجمعية في مقال ذكر فيه (أنها تقوم بمهمة بديعة، لا في سبيل ترقية ذوق القراء لدى جمهور عظيم من الناس فحسب، ولكن أيضاً في سبيل إذكاء ثقافة إنسانية عالمية، ومن ثم فإنها غدت تضم صفوة المفكرين في أوربا)
وتعني رابطة الكتاب الدولية عناية خاصة بحماية الذوق الثقافي بعد أن جنت عليه جهود الراديو والسينما، والصحافة الأخبارية السطحية، وبعض الناشرين الذين يتجرون في الأدب الرخيص، وإعادة الكتاب القيم إلى مركزه الرفيع. وقد انضم إلى الرابطة جماعة من الناشرين المحترمين الذين يعنون بنشر الكتب القيمة، ووضع نظام لإخراج سلسلة من الكتب والمؤلفات الرفيعة في مختلف المواد، وروعي أن تكون في الغالب كتباً جديدة؛ وستقدمها الرابطة إلى القراء بأثمان تكاليفها دون أن تسعى إلى ربح، وقد أصدرت فعلاً عدة مؤلفات نفيسة من كتب راموز ومسترال ومكسيم جوركي وتولستوي وغيرهم
جيته بطل قصة مسرحية
مثلت أخيراً في المسارح الألمانية (كوميديا) جديدة عنوانها (مقابلة مع أولريخا) بقلم الكاتب المسرحي زجموندجراف وفيها وصف لفصل غرامي من حياة جيته شاعر ألمانيا الأكبر فيبدو الشاعر على المسرح وهو في شيخوخته عاشقاً لفتاة تدعى أولريخا ليفتوف كان قد قابلها أثناء استشفائه في مدينة مارينباد ورغب في زواجها، ولكن حالت دون رغبته ظروف خاصة، وهي واقعة حقيقية في حياة الشاعر الكبير، وقد لقيت القطعة من جراء ذلك نجاحاً عظيما
جوائز قومية ألمانية لتشجيع العلوم والآداب
في العام الماضي قررت الحكومة الألمانية أن تحرم على العلماء والكتاب والفنانين الألمان قبول أية جائزة دولية أو أجنبية للعلوم أو الآداب أو الفنون؛ وقررت من جانبها أن ترتب جوائز ألمانية قومية تمنح لأقطاب العلم والأدب الألمانيين، وتكون في أهمية جوائز نوبل من حيث قيمتها المادية والأدبية؛ ولذلك سبب قد يذكره القراء، وهو أن لجنة جامعة استوكهلم منحت في العام الماضي جائزة نوبل للسلم للكاتب الألماني كارل فون وسيتسكي، وكان لذلك صدى سيئ لدى الحكومة الألمانية لأنها تعتبر الكاتب المذكور من خصومها لأنه
ديموقراطي، وكان قبل قيام الحكومة النازية يدعو إلى السلام ونزع السلاح. فلما قام الهتلريون في الحكم قبض عليه ولبث في معتقله حتى منح جائزة نوبل للسلام؛ واعتبر الهر هتلر أن في منحه الجائزة على هذا النحو إساءة لألمانيا وتعريضاً بنظمها وسياستها، فأصدر قراره بتحريم الجوائز الدولية على جميع الألمان
وقد احتفل في 30 يناير الماضي، وهو يوم ذكرى قيام الحكومة النازية في الحكم بتوزيع الجوائز القومية الألمانية لأول مرة على مستحقيها؛ فمنحت جوائز في العلوم والآداب والفنون إلى كل من العلامة الرحالة الدكتور ولهلم فلشنر الذي عاد أخيراً من رحلته الطويلة في مجاهل آسيا الوسطى، والدكتور روزنبرج الكاتب النازي الشهير، والأستاذ الدكتور زاوربروخ الجراح الشهير، والأستاذ تروست الذي توفي أخيراً، والدكتور أوجست بير. وقد استقبل الزعيم هتلر المنعم عليهم بالجوائز في يوم 30 يناير وأثنى على علمهم وعبقريتهم، وقدم إليهم بنفسه براءات الجوائز المذكورة، وهي عبارة عن نجمة من الماس في وسطها رمز الإلهة منيرفا؛ هذا عدا الهبات المالية التي سيحصل عليها الفائزون وهي كبيرة
ديوان إسماعيل صبري باشا
يسرنا أن نزف إلى قراء العربية أمنية من أعز أمانيهم طالما تاقت نفوسهم إلى تحقيقها، وهي إعداد ديوان أستاذ الشعراء وحامل لواء الشعر الحديث المرحوم إسماعيل صبري باشا. وهذا الديون الحافل بطرائف شعره يطبع الآن في مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر بعد أن أتم حضرة الشاعر الرواية الأستاذ أحمد الزين ضبطه وشرحه وتصحيحه على أتم وجه وأحسنه. ولاشك في أن ظهور هذا الديوان الخالد يعد حادثاً أدبياً ذا بال في عالم الشعر، فهو بحق حلقة اتصال بين الجيل الماضي والجيل الحاضر
ويحسن بنا أن نشير إلى ما كان بين الأستاذ أحمد الزين وبين المرحوم صبري باشا من مودة وثيقة دامت سنين طويلة فلا عجب إذا تولى هو إخراج هذا الديوان وفاء لصديقه وقياماً بالواجب الأدبي نحو فنه. وقد وصل إلى علمنا أنه ستقام حفلة ذكرى للفقيد بعد إتمام طبع هذا الديوان، رحم الله صبري باشا وجعل في أثره الخالد عزاء عن فقده
مذكرات لورد بيرون
تحتفل الأندية الأدبية في إنجلترا وفي العالم بمضي 150 سنة على ميلاد الشاعر العظيم جورج جوردون بَيْرون المولود في سنة 1788 والمتوفى سنة 1824. . . وسيستفيد العالم من إحياء هذه الذكرى فائدة جليلة وذلك بما اعتزمه بعضهم من نشر مذكرات الشاعر النثرية التي كتبها بين سنتي 1819 و 1821 وهو مقيم إذ ذاك في إيطاليا والتي حال دون نشرها ما جاء فيها من تصريحات بيرون الشائنة فيما يتعلق بصلاته الغرامية والتي لا يسمح القانون الإنجليزي بتداولها في أيدي الناس لكونها من المحظورات التي يتنافى ذيوعها مع الأخلاق الإنجليزية المحافظة. . . والمفهوم أن إذاعة هذه المذكرات سيكون بموافقة الحكومة وبعد حذف الفقرات الصريحة الصارخة التي لم يبال اللورد أن يثبتها بقلمه فيها
والمعروف من تاريخ حياة بيرون أنه نشأ نشأة مستهترة لا تعرف للعرف حرمة ولا للشرائع سلطاناً. فمن هذا أنه صبا إلى أخته وافتتن بها، ثم أتصل بها اتصالاً يخجل القلم من تسجيله هنا. . . ومن ذاك أيضاً أنه ألف جماعة خمرية كان يحتسى أفرادها الخمر من جماجم الموتى التي كانوا يسرقونها من المقابر. . . وبحسب القارئ هذان المثالان عن شذوذ الشاعر العظيم الذي كان أديب الألمان جيته يعجب به ويقول فيه إنه يصدر في شعره عن أمواج البحر الدفاقة، وينفث فيها رقة الأثير.
وكان بيرون وثنياً شديد الولوع بالإغريق. . . ومن هنا عبادته للجمال وترديده أسماء آلهتهم في شعره. . . ومن هنا أيضاً دفاعه الحار عنهم في الحرب الاستقلالية التي لاقوا فيها الرعب من البطل المصري إبراهيم باشا. . . وقد حضر بيرون حصار مسولونجي ونظم فيه إحدى غرره، ولا ندري إن كان القائد المصري قد قابله أم لا. هذا وسنفرد له فصلاً خاصاً في عدد آخر
الأدب الكاريكاتوري
كان ظريفاً جداً هذا العمل الجليل الذي ساهم به الأستاذ توفيق الحكيم في مهرجان الأوبرا للزفاف الملكي والذي أظهر فيه أدباء العصر على خشبة المسرح في رواية تمثيلية. . . ونحن نضع لهذا اللون من الأدب اسماً فندعوه الأدب الكاريكاتوري، وهو غير الأدب
الهزلي أو (الكوميدي). وقد وضع أساس الأدب الكاريكاتوري الشاعر اليوناني أرسطو فان منذ أربعة وعشرين قرناً، وكان يتناول في (كاريكاتورياته) شخصيات عصره والعصر الذي سبق بالنقد والتسفيه و (التضحيك). وخص الشاعر يوربيبدز بكثير من هذه (الكاريكاتوريات)؛ ولم يستطع مع ذلك أن يقلل من قيمة مواطنه العظيم أو أن يخفض من قدره. وقد ألف شاعرنا الخالد أو العلاء كتابه (رسالة الغفران) على هذا النوح، فطاف بصاحبه ابن القارح في المحشر وفي دركات جهنم. . . وفي جنات عدن. . . وفعل مثل ذلك دانتي الليجيري في الكوميديا الإلهية
وقد كتب الأديب الكبير ولز آخر قصصه على النمط الكاريكاتوري. وقد صدرت هذه القصة في يناير الماضي واسمها (الأخوة) وهي نقد لاذع لطغاة العصر الحاضر وفي مقدمتهم هتلر وموسوليني وستالين، وبالطبع قد أطلق أسماء غير هذه على أبطاله
الإذاعة المدرسية في مصر وفي إنجلترا
في الوقت الذي تنطفئ فيه حماستنا في مصر للإذاعة المدرسية لنشتغل بالسفاسف السياسية التي استغرقت كل جهودنا ترتفع النسبة المئوية لهذه الإذاعة في إنجلترا وبلاد الغال (ويلز) فتزيد 27 % في خريف 1937 على ما كانت عليه في خريف 1936، ويرتفع عدد المدارس التي تنتفع بهذه الإذاعة هناك فتصبح (7280) مدرسة بين ابتدائية وثانوية. ويشجع هذا النجاح المطرد ولاة الأمور هنا فيفكرون في الوسيلة التي ينشرون بها الإذاعة في المدارس التحضيرية ورياض الأطفال؛ وقد انتفعت بطبيعة الحال مدراس إسكتلنده بهذه الإذاعة وإن لم يكلفها ذلك شيئاً. ويقدرون هذه المدارس الإسكتلندية بألف مدرسة أو زهائه. وكانت الموضوعات الطريفة التي أُلقيت كثيرة متنوعة، ولكن التلاميذ كانوا يصغون في الأكثر لموضوعات الأسفار والرحلة في البلدان الأجنبية، ثم تلي هذه الموضوعات المتعلقة بدراسة غرائب الطبيعة؛ وقد اجتمع للتلاميذ الإنجليز عاملان هامان في تثقيفهم الحديث، وذان هما التعليم بالسينما والتهذيب بالإذاعة المدرسية، وليس من هذا شيء عندنا
الطيران والخرائط الجغرافية
معظم الخرائط الجغرافية التي بأيدينا قديم غير مضبوط، ويرجع وضعه على هذا النحو
الذي نراه إلى مائة سنة على الأقل وقد أخذت صور لنهر النيل مثلاً من الجو أظهرت ما في خرائطنا القديمة البالية من الأخطاء الفاحشة التي لم يعد يخلق بنا أن نغضي عنها. وقد تنبهت لهذا أكثر الدول الأوربية ولا سيما ألمانيا، فعملت على تلافيه، وساعدها تقدم الطيران وانتشاره عندها على وضع خرائط متقنة تداركت بها ما فشا في خرائطها القديمة من أخطاء. ويقال إن في النية عقد مؤتمر عالمي لدراسة هذا الموضوع ولوضع خرائط جديدة للعالم بأسره من الجو. وحبذا لو تم هذا المشروع
مسرح روسي عجيب
من أنباء روسيا أن المخرج العظيم ماير هولد قد عصفت به ريح السياسة العاتية. . . وأن مسرحه الكبير قد أغلق. . ويذيع الشيوعيون أن ماير هولد قد وقع في فضيحة لم يذكروا لنا ما هي وهكذا تلطخ الشيوعية مجد الأبطال الروسيين الذين أدوا لأوطانهم وللعالم أجل الخدمات. . . ومن هذه الأنباء أيضاً أن مخرجاً جديداً يدعى أوخلوبكوف قد أسس على أنقاض مسرح ماير هولد مسرحاً غريباً لم يؤسسه على ما عرفه العالم من النظام الشائع لدور التمثيل، إذ يدخل المُشاهد صالة المسرح فلا يرى ستاراً وينظر هنا وهناك فلا يجد خشبة المسرح التي تمثل فوقها الرواية. . . وأغرب من هذا أنه يجد الكراسي غير مصفوفة في اتجاه خاص يدل على مكان المسرح. . . فإذا آن أوان التمثيل وجد الممثلين معه في الصالة، ووجدهم في الشرفات (البناوير) ووجدهم في كل مكان. . . حتى في السقف. . . ويقولون إن الروايات التي تمثل ثمة موضوعة خصيصاً لهذا المسرح، لتتفق وهذه الطريقة العجيبة من طرق الإخراج. . . ويبدو أن الروايات الأجنبية، بل الروسية نفسها، التي لم تؤلف لتؤدي على هذا النمط الحديث من فن الإخراج، تسقط سقوطاً فاحشاً حين تؤدي فيه. وقد كتب أحد النقاد الألمان فصلاً مضحكاً عما شاهده في هذا المسرح، وكان قد حضر تمثيل روايات حنة كرنينا لتولوستوي وحديقة الكراز لأنطون تشيخوف ودرامة عطيل. . . فسمى ما شاهده من تمثيلها (تهريجاً شيوعياً!!)
الكتب
إلى حياة روحية
2 -
في منزل الوحي
بقلم الدكتور محمد حسين هيكل بك
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
إلى حياة روحية تسمو بالنفس، وتضيء القلب، وتهذب العواطف، وتحد من النزعات والأهواء، وتصل أسبابنا بالسماء. . هذا هو ما يدعو إليه هيكل ويحبذه، بعد أن شهد ما شهد من مظاهر الحياة الروحية من آثار النبي العربي، ورأى كيف يفعل الإيمان الأعاجيب في مواطن لولاه ما كان للإنسان بها طاقة؛ ويعجب هيكل من الذين ينكرون الحياة الروحية ويتنكبون طريقها، ويسأل في تعجب واستنكار فيقول:(فما بال قوم في عصور وبلاد مختلفة جحدوا الحياة الروحية وكفروا بفضل الإيمان؟!) ثم يمضي هيكل ينعى على الماديين هذا الجحود لتلك الحياة، ويرده إلى خطأهم في فهم الحياة الروحية على حقيقتها، وتصويرهم لها تصويراً بعيداً عن الفهم والواقع، فهم يحسبونها خارجة على نطاق العقل، لا تخضع لقوانين العلم في تعليل الظواهر والمظاهر، مع أن سبيل الحياة الروحية الصميمة إنما هو الإحاطة بالعلم في أحدث ما وصل إليه، واتخاذه وسيلة للنظر في آيات الله وهي لا تنكر العقل إلا إذا قيد النظر وقُيد العقل معه، ومن ثم كان الجمود عدواً للحياة الروحية، ثم يلمع هيكل إلى الغاية من الحياة الروحية وصلتها بالنفوس فيقول:(والناس يستجيبون بطبيعتهم إلى الدعوة الروحية لأنهم يبغون الحق بفطرتهم، ولولا ما يمد لهم فيه دعاة المادة من أسباب الضلال إذ يغزونهم بمتع الحياة ولذاتها لانهارت فوراق كثيرة ليس يبقيها إلا هذا الضلال ولتقاربت الأمم بدل أن تتباعد، ولأخلصت القصد في سعيها إلى السلام بدل أن تجعل من نذر الحرب هياكل عبادتها، ولكانت خطا الإنسانية في سبيل التقدم ناحية الكمال أسرع وأهدى سبيلاً، ولو أن الناس لم يتنكبوا طريق الهدى لنعموا اليوم بما يلتمسونه من سعادة، ولعلهم تنكبوا هذا الطريق لأنهم بعد في جهالتهم، ولأن ما بلغوا من العلم لا يزال قاصراً دون هداهم والعلم الناقص داعية الضلال!)
وهيكل إذ يقول: (إن الناس يستجيبون بطبيعتهم إلى الحياة الروحية لأنهم يبتغون الحق بفطرتهم) يقرر حقيقة قد قررها لدين، وجاء بها الإسلام، ففي القرآن الكريم (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها) وفي الحديث الشريف (كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه)، وهيكل إذ يرى أنه لولا ما يمده دعاة المادة من أسباب الضلال، لانهارت فوارق كثيرة ولتقاربت الأمم بدل أن تتباعد. إنما يرى حقيقة لا تنكر، بل إنها حقيقة يقررها كثير من أهل الفكر والثقافة، ويرونها الملجأ الذي سيلجأ إليه العالم بعد أن يضنيه وينهكه ذلك النضال المادي العنيف، ولقد كان من حسن التوافق أن أقرأ هذا الكلام لهيكل وقد وافتني جريدة الأهرام وفيها نبأ من لندن يقول: إن اجتماعاً عقد في (هيكل) العاصمة تحت رعاية جمعية الأديان المتعددة، وقد أوضحت السيدة الناطقة باسم هذه الجمعية أن غرضها إيجاد وحدة عالمية بواسطة التفاهم الروحي
وقد تكلم إمام جامع ووكنج فقال: (إن الوقت قد حان لجميع الأديان كي تدفن أحقادها، وتتحد على مقاومة موجة الكفر المتعالية، والتمسك بالأمور المادية في العالم وإهمال الأمور الروحية، وقال: إن جميع الأديان تأمر بالمعروف، وتنهي عن المنكر، فهي تشترك في وحدة أساسية، وهي تتفق على الإيمان بوجود الله وعلى تجلى الله للإنسانية، فيجب علينا إذن أن نتفاهم
وليطمئن هيكل وليطمئن إمام جامع ووكنج. فإن ذلك الحلم اللذيذ لابد أن يتحقق، لا أقول سيحققه فرد من الأفراد أو جماعة من الجماعة، وإنما أقول سيحققه الزمن بسنته وطبيعته وأفاعيله، وغداً سنرى وإن كنت لا أعلم متى يكون ذلك الغد أفي القريب أم في البعيد، ولكني لست مع الدكتور هيكل إذ يعلل جحود الماديين للحياة الروحية بالجهل ونقص العلم، فإن في الماديين الجاحدين أساطين العلم، ومن هم في الذروة التي لا نطاول عقلاً وثقافة، وإنما يرجع هذا الجمود على ما نرى إلى اعتقاد يقوم في أذهان أولئك الناس، وهو أن العقل كل شيء في الحياة، لا قول إلا قوله، ولا منطق إلا منطقه، فمن الواجب أن نُخضع لمنطقه كل ما نرى من المظاهر والظواهر، حتى ما يتصل بميولنا وعواطفنا، وفاتهم أن هناك القلب، يجب أن نجعل له اعتباراً كبيراً في شؤون الحياة، إلى جانب العقل، ويجب أن نعتقد بأن له منطقاً كمنطق العقل إن لم يكن أجل وأدق، وهو وحده الذي يشعرنا في
رحلة الحياة الشاقة ببرد الراحة، ويقع من نفوسنا اللاغبة موقع الماء العذب من نفس الصادي في اليهماء القاحلة، ولا شك أننا لو طاوعنا هؤلاء الناس وجعلنا العقل كل شيء لصارت الحياة جحيما لا تطاق، ولفررنا من شقائها كما يفر الناس في هذه الأيام بالموت والأنتحار، بل ولتمردنا على كثير من النظم والأوضاع والشرائع الطيبة الصالحة التي تكفل السعادة للمجتمع، والتي لا يمكن أن يجحدها الماديون أنفسهم، وأنت أبقاك الله تأمل في نفسك ساعة وانظر فيما يحف بك من النظم الاجتماعية والقيود الثقيلة التي تربطك بالمجتمع الذي تعيش فيه، والسلاسل والأغلال التي تثقل جيدك وتنقض ظهرك من واجبات نحو الأسرة والأب والأم والزوجة والوطن والدين والتقاليد وفكرات الشرف والعرض وما إلى ذلك، واستسلم إلى العقل وحده وانزل على حكمه في تلك الأمور عامتها تجده يجيبك عليها جواباً لا يرضاه العقل نفسه، لأن الطبيعة قد خصت الإنسان بشيء يمتلك ناصية عقله ويتحكم فيه التحكم كله، شيء آت من الناحية الروحية القلبية التي هي مصدر العواطف والمشاعر والتي هي مسيطر عليها، وإذن فالعقل ليس كل شيء في الحياة كما يزعم الماديون، وعبثاً حاول بعض الفلاسفة أن يجعلوا العقل حد الدين، وأن يشرعوا للناس المذاهب الفلسفية النفعية، فنشروا كتباً (في دين الطبيعة) لتأييد مذهبهم، وموهوا على الناس إذ زعموا أن العلم ينافي الدين، فوقع الإنسان في مأزق من مآزق البعد عن الشريعة الأدبية كاد يتداعى معه أساس المدنية، حاول هؤلاء أن يجدوا في عقل الإنسان وحده هادياً ومرشداً أميناً بصفته فرداً صالحاً من مجموع إنساني، يختط له خطة من السلوك والأخلاق جديرة بأن تحفظ نظام الهيئة البشرية التي يجب أن تقوم على أساس من الإحساس الأدبي، أخفقوا سعياً وضلوا سبيلاً، لأن الطبيعة لم تحبُ الإنسان بشيء من هذا. رجع الناس بعد ذلك مؤمنين بأن وازع ما بعد العقلية، أول عنصر من عناصر المعتقد الديني بل نواته، وأنه الضابط الذي يضبط علاقة الفرد بالجماعة في كل حالة من الحالات
ولكن أي لون من ألوان هذه الحياة الروحية يجب أن يختار الشرق حتى يفوز بالغاية؟!
يرى بعض المفكرين في مصر أن لون الحياة الغربية هو اللون الصالح، فراحوا ينقلون للشرق آثار الغرب في ذلك ما وسعهم النقل؛ وقد كان هيكل على هذا الرأي من قبل، ولكنه خرج عليه إذ لمس فيه الخطأ الواضح، وهو يتحدث عن ذلك فيقول: (لقد خيل إلي زمناً -
كما لا يزال يخيل إلى أصحابي - أن نقل حياة الغرب العقلية والروحية سبيلنا إلى النهوض، وما أزال أشارك أصحابي في أنا ما نزال في حاجة إلى أن ننقل من حياة الغرب العقلية كل ما نستطيع نقله، لكني أصبحت أخالفهم في أمر الحياة الروحية، وأرى أن ما في الغرب منها غير صالح لأن ننقله، لأن تاريخنا الروحي غير تاريخ الغرب، وثقافتنا الروحية غير ثقافته) وبعد أن يكشف عن وجه الفرق في ذلك يدل على اللون الصالح للشرق من الحياة الروحية، وهو في كلامه يتحدث عن خبرة وتجربة فيقول: وقد حاولت أن أنقل لأبناء لغتي ثقافة الغرب المعنوية والروحية لنتخذهما هدى ونبراساً، لكنني أدركت بعد لأي أنني أضع البذر في غير منبته، ورأيت أن تاريخنا الإسلامي هو وحده البذر الذي ينبت ويثمر، ففيه حياة تحرك النفوس وتجعلها تهتز وتربو، ولأبناء الشرق في هذا الجيل نفوس قوية خصبة تنمو فيها الفكرة الصالحة لتؤتي ثمرها بعد حين
وهذا كلام أصاب فيه هيكل شاكلة الصواب، وشرحه شرحاً وافياً كافياً في منزل الوحي، فجاء كتابه صفحة روحية مشرقة، وفكرة صالحة يجب أن يطالعها أبناء الشرق لتنمو في نفوسهم، فتؤتى ثمرها الطيب
محمد فهمي عبد اللطيف
المسرح والسينما
في النقد
1 -
يحيا الحب
2 -
جاري كوبر في نيويورك
3 -
مدخل الممثلين
بقلم محمد علي ناصف
يحيا الحب
قصة هذا الفلم من النوع الكوميدي الشائع الآن في الأفلام الأمريكية وكثيراً ما تكون موضوعات هذه الأفلام تافهة، غير أنها تعوض هذا النقص بجمال الحوار وتعدد المفاجآت المبتكرة وبراعة التمثيل وحسن الإخراج. وقد جاء كذلك (يحيا الحب) من حيث فراغ الموضوع. . . فلننظر إلى نواحي الفلم الأخرى
كان لحوار ركيك الأسلوب خالياً من النكتة والمفاجأة القوية. وقد أثر هذا الضعف في عمل المؤلف، وفي عمل الممثل، وفي عمل المخرج
فمن ناحية التأليف رأينا البرتقال يجنى في الصيف، وموظفاً لا يعرف رئيسَه أصله حتى ولا من شهادة الميلاد
ومن ناحية التمثيل رأينا إحدى الشخصيات خليطاً بين أستاذ في العلوم ومهرج
وليس أدعى إلى إفساد عمل المخرج من أن يتعهد موضوعاً عادي التأليف ضعيف السيناريو مضطرب الشخصيات
ومآخذ الإخراج كثيرة في (يحيا الحب) أهمها في رأيي خلو الفيلم من الحركة
ولقد ذكرت أن قصة الفيلم من النوع الكوميدي ولكنها لم تعالج على هذا الأساس في كثير من الأحايين، لم يعالجها كريم في مشهد ذلك الحلم المبدد، ولم يعالجها رامي في أغانيه، ولم يعالجها عبد الوهاب في ألحانه وتمثيله، واحسب أن مشهد تكسير العود مثلا كان من المستطاع أن يكون من أجمل المشاهد الكوميدية لولا أنهم أخرجوه كأنه مشهد بطل
مصروع أو مدينة مخربة
والفلم على وجع عام فقير من ناحية التمثيل إذا استثنينا شخصية رضوان باشا التي مثلها عبد الوارث عسر، ولولا اضطراب شخصية مجاهد بك (أستاذ العلوم) لأعتبر أمين وهبه من المجيدين، ولم يكن عبد القدوس في أحسن حالاته
ولقد حاول عبد الوهاب كثيراً ولكنه لا يزال في حاجة إلى محاولات أخرى ليبدو ممثلاً، ولم يكن مستحسناً ظهوره تارة بالنظارة وأخرى بدونها. وما يقال عن عبد الوهاب من التمثيل يمكن قوله عن ليلى مراد، ولو أن هذا أول أفلامها. وتمتاز ليلى بوجه حسن وعود رشيق يصلحان للشاشة، وصوتها كذلك لا شك في جماله.
وأصلح ألحان الفلم كانت في الموسيقى المصاحبة للشريط وهي من وضع عزيز صادق
أما أغاني الفلم فإذا استثنينا أغنية (يا وابور قولي رايح على فين) وأغنية أخرى على الأكثر، فإن الأغاني الباقية غير مناسبة لطبيعة الفيلم، وقد ماثلتها الألحان كذلك فكانت مليئة باللوعة والتأسي والتفجع
والتصوير في (يحيا الحب) جميل أحياناً، وأحياناً أخرى على النقيض
وما نرجوه لأفلام عبد الوهاب هو أن نحس بتطورها من حسن إلى أحسن وقد أصبحت شركة قديمة غنية جديرة بالاهتمام والمحاسبة
جاري كوبر في نيويورك
لشركة كولومبيا من أحسن أفلام الموسم الماضي، وقد نال عنه مخرجه فرانك كابرا الجائزة الذهبية من أكاديمية الصور والفنون؛ وكانت جمهرة النقاد لا تشك في أن جائزة التمثيل من حق جاري كوبر لدوره في هذا الفيلم لو لم تذهب إلى بول ميوني في (حياة لويس باستير)، ولا يفضل عمل المخرج أو الممثل في هذا الفيلم عمل كاتبه الفذ روبرت ريسكين فالفيلم متعدد نواحي العظمة؛ ولذلك كان استديو مصر موفقاً في اختياره لعمل (دوبلاج) ينطقه بالعربية
وهذه فكرة طريفة قد تلاقي نجاحاً من الناحية المادية وخاصة وهي بداءتها، ولكني أحسب أن التقدير يختلف من الناحية الفنية، وخاصة إذا كان الفيلم قريباً من درجة الكمال كالذي نحن بصدده؛ فلو أن النقاد الذين حكموا له بالتفوق شهدوه كما يعرض الآن لتغير حتما
رأيهم؛ فجاري كوبر قد فقد جزءاً كبيراً من شخصيته بفقدان صوته مقابل صوت خال من التأثير وقوة التعبير؛ وروبرت ريسكين قد انحط أسلوبه وفترات نكتته؛ وفرانك كابرا قد أثرت هذه العوامل على مجهوده الكبير فقل شأنه
وقد يكون عمل الأستديو أقرب إلى الإجادة لو أنه بذل عناية أكبر بلغة الحوار وبتخير أصوات تلائم شخصيات الفيلم وتتمايز بعض أصواتها عن بعض، إذ أنه رغم تشابه الأصوات في الفيلم فإن أكثر من شخصية واحدة قد أنطقت بصوت واحد، وهذا اضطراب كان تلافيه من البدهيات
مدخل الممثلين
شهدنا منذ أسابيع قليلة فيلم وهو أول فيلم يمثل مدينة السينما على حقيقتها. وقد لقي بهذه الصفة - فضلاً عن استكمال صفات الفيلم الأخرى - نجاحاً مدوياً بأمريكا وأوروبا وقد أعقبه فليم عن حياة المسرح فصادف نفس النجاح إن لم يفقه في قوة الإخراج وجمال السيناريو
وهو منقول عن مسرحة ناجحة لأدنافيربر وجورج كوفمان مثلت طويلاً على مسارح برودواي. وأعدها للسينما موري ريسكيند وأنتوني فيلر وأخرجها لشركة راديو جريجوري لاكافا الذي لا تزال تذكر له (رجلي جودفري)
وقد بلغ كل من لغة الحوار والتمثيل والإخراج في هذا الفيلم مستوى رفيعاً سيظل أثره ماثلا في أذهاننا طويلا
محمد علي ناصف