الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 241
- بتاريخ: 14 - 02 - 1938
في القرية
من أحاديث العيد
أصبحت القرية الصغيرة غارقة في ضباب أمْشير البارد الأهوج كأنها قِطَع السحاب المركوم جثمت من ثقلها على الأرض. فالجو على قول (هوجو) كستار الغيب المسدول، والنسيم على قول (ابن المعتز) كذيل الغلالة المبلول، ووجه السماء كوجه الصحراء في يوم الدجن لا ترى فيه إلا تلولاً من الغمام الجون وسهولاً من السحاب الِهَفِّ. وكانت جدران المسجد تعج بالتكبير والتهليل، وأفنية الدور تنعم بالعناق والتقبيل، والطرقات من البيوت إلى الزاوية، ومن الزاوية إلى المقبرة، تزدان بالشباب القروي القوي العامل، وهو يطفر من مرح الصبي، ويخطر في زينة العيد، فيكسب الطبيعة العابسة المقرورة بشراً من طلاقة وجهه، وقيساً من حرارة قلبه
أخذت (المناظر) والمصاطب زخرفَها بالقوم بعد أن أقاموا الصلاة لله، وأدّوا الزيارة للموتى، وقدموا التهنئة للأهل، وانفضوا ثقالاً عن سماط العيد، ودارت عليهم أكواب القرفة وسكائر الطَّباق، وتشققت بينهم مقطَّات الحديث، فترامت إلى عيد الملة بحج البيت، وعيد الأمة بمولد الفاروق، وعيد الأسرة بيوم الأضحى. وكان اجتماع هذه الأعياد السنوية الثلاثة في يوم العيد الأسبوعي من مصادفات الدهر النادرة، وموافقات القدّر البعيدة، فتألقت في وجوههم أضواء مختلفة من السرور، وتدفقت في قلوبهم أحاسيس شتى من اللذة؛ منها المنبثق عن مشرق الإيمان بالله، ومنها الصادر عن منبع الإخلاص للمليك، ومنها المنبعث عن فيض النفس الراضية تفتحت في حرارة الحب كما تتفتح الأكمام في دفء الربيع
من الصعب أن تقيد الأحاديث المرسلة إذا جرت بين قوم لا يؤمنون بقواعد الجدل، ولا يحفلون بأمانة التاريخ، ولا يرون الحق للمتكلم أن يتم كلامه أو يشرح رأيه. وحديث الناس في القرية كشقشقة العصافير في الشجرة، تسمع كل عصفور يغرد، ولا ترى عصفوراً واحداً يسمع!
- كل عام وأنتم بخير. واللقاء في العام المقبل إن شاء الله على عرفات!
بهذه التحية وهذه الأمنية أبتدأ الحديث؛ وكأنما كان لفظ عرفات سبباً من الجذب الروحي حوَّل عواطف القوم وأمانيهم إلى مكة! فالذين حجوا أخذوا يذكرون وهم في غمرة الشوق
ونشوة الذكرى، تجلى الألوهية في مهابط الوحي، وإشراق النبوة في مطالع الرسالة، ويروون عن كل منسك حديثاً، ويقصون عن كل موقف حادثة. والذين لم يحجوا يصغون إلى صرف الحديث وهم من فعله الساحر في هيام غالب وطرب نزوع. ثم رجع الحديث مشرقَ الحواشي معطر الأطراف من الكعبة إلى عابدين، فأفاضوا في صلاح الملك الشاب وبره، إفاضة الخيال الشاعر في عدل عمر وفضل الرشيد. فهذا يقول إن جلالته يزور القرى متنكراً ليرى بنفسه منابت الشر ومواطن الفقر، فإذا كتب الله النعمة لبيت من البيوت عطفه إليه فدخله دخول الرحمة، وحل به حلول السعادة. ثم يروي الأعاجيب في هذا الباب مما تناقلته الأَفواه في الأسواق ورددته الأَلسنة في المجالس. وهذا يذكر أن الشيخ فلاناً رأى جلالته في المنام والنبي يقبله قبلة الرضى، ويقلده سيف الخلافة، ويِعَده نصر الله ما دام على النهج الواضح والعمِل الصالح والوحدة الجامعة. وذلك يقرر أن غضب الملك الصالح من غضب الله، إذا صُب على الباغي لا تعصمه منه قوة، ولا تدفعه عنه كثرة. لأن غضبه فوق الهوى والطمع، فلا يكون إلا للعدل في جوهره، وللشعب في صميم حقه
ثم انتقل الحديث من غضب الملك إلى حل مجلس النواب، فغاضت البشاشة من الوجوه وقالوا بلهجة الآسف الحزين: عدنا إلى الحرب الضروس، تفتك أسلحتها الأثيمة بالأموال والأنفس والأخلاق والقرابة. فالانتخاب بمآثمه ومغارمه هو المظهر الذي نحسه وتعرفه من مظاهر الدستور. وفترة الانتخاب هي الفرصة التي نرى فيها النائب طول الدورة البرلمانية. ومعركة الانتخاب بين الحكومة والأحزاب، وبين المرشحين والطلاب، هي التي تحمل أولياء الحكومة وأغنياء الأمة على أن يذكروا القرية، ويزوروا الفلاح، ويعطفوا على بؤس الأجير، ويمسحوا على رأس العامل، ويعدونا المواعيد، ويمنونا المنى، ويصوروا لنا البرلمان في صورة المسيح المنتظر؛ فلا ظلم وهو منعقد، ولا بؤس وهو قائم! فنقطع في رضاهم القرابة، وتنقض في سبيلهم الجوار، ونتحمل في نجاحهم العنت؛ حتى إذا فاز النائب، والتأم المجلس، وحكم الدستور، انصرف البرلمان إلى الأحزاب، واشتغلت الحكومة بالموظفين، واهتم النائب بنفسه! أما القرية والفلاح، وأما الدائرة والناخب، فمرآهم مقتحمَ العين، وشكواهم دْبرَ الأذن
ذلك بعض حديث القوم. وهو على سذاجته أو قل على تفاهته أخف على القلب وأندى على
الكبد من حديث يزوره كاتب يتعاطى الأَدب، أو خطيب يحترف السياسة
أحمد حسن الزيات
من مآسي التاريخ الإسلامي
فرار عبد الرحمن الداخل
للأستاذ محمد عبد الله عنان
ليس بين أمراء الدولة الأموية، سواء في الشام أو الأندلس، من تقدم إلينا حياته وسيرته تلك الصفحة المدهشة التي يقدمها إلينا عبد الرحمن بن معاوية المعروف بالداخل؛ فقد كان هذا الأمير بطل مأساة خارقة مؤثرة؛ ولم تكن روعة هذه الصفحة في أنه أقام من العدم ملكاً عظيماً فقط، وأقام لمجد أسرته الذاهب صرحاً شامخاً فحسب، ولكن روعتها تبدو بنوع خاص في معترك المحن الأليمة التي نشأ في غمارها هذا الأمير القوي النابه. وإذا كانت حياته السياسية لا تحمل على كثير من الحب، وتبدو لنا حياة مغامر يشق طريقه إلى السلطان بوسائل ليست دائماً مشروعة، فان المحنة التي طبعت بها حياته الخاصة، وما صقلت هذه المحنة من خلاله الباهرة، لمما يستثير منا أيما عطف وإعجاب
وقد لا نجد لحياة الداخل صورة أبلغ وأقوى من تلك التي رسمها لنا خصمه وعدو أسرته أبو جعفر المنصور العباسي إذ نعته بصقر قريش، ولخص لنا حياته المدهشة في قوله:(عبر القفر، ودخل بلداً أعجمياً منفرداً بنفسه، فمصر الأمصار، وجند الأجناد، ودون الدواوين، وأقام ملكاً عظيماً بعد انقطاعه بحسن تدبيره، وشدة شكيمته. إن معاوية نهض بمركب حمله عليه عمر وعثمان، وذلّلا له صعبه؛ وعبد الملك ببيعة أبرم عقدها؛ وأمير المؤمنين بطيب عترته واجتماع شيعته؛ وعبد الرحمن منفرد بنفسه، مؤيد برأيه، مستصحب لعزمه، وطد الخلافة بالأندلس، وافتتح الثغور، وقتل المارقين، وأذل الجبابرة الثائرين)
تلك هي حياة عبد الرحمن بن معاوية، حياة نشأت من العدم، وسلسلة حافلة بالمحن والصعاب الفادحة، تبدأ في المشرق بفرار عبد الرحمن أمام مطارديه وقتله أسرته ومغتصبي عرش آبائه وأجداده، وتنتهي في الغرب وبسائط الأندلس بالظفر والملك الموطد. ولقد كان هذا الفرار أول وأعجب فصل في هذه المأساة، وكان عنوان القدر المدهش يدبر من الحوادث الواقعة ما لا يخطر تصوره على الذهن المغرق في الخيال
كانت سنة 132هـ سنة حاسمة في تاريخ الإسلام والخلافة، ففيها أنهار صرح الدولة
الأموية تحت ضربات بني العباس، وقامت في المشرق خلافة جديدة هي الخلافة العباسية؛ ورأت العصبة العباسية الظافرة أن تتوج ظفرها بسحق الأسرة التي استولت على تراثها واجتثاث أصولها وفروعها، فنظمت مطاردتها الشهيرة لبني أمية، وتتبعتهم بالقتل الذريع في كل مكان، وقتلت منهم جماعة كبيرة من الأمراء والسادة ولم تبق حتى على النساء والأطفال؛ ولكن هذه المطاردة الدموية الشاملة لم تجتث الشجرة من أصلها، وشاء القدر أن يفلت بعض فروعها، وأن يزكوا ليستعيد أصله الراسخ في أرض أخرى؛ فكان ممن نجا من المذبحة الهائلة فتى من ولد هشام بن عبد الملك، اختاره القدر ليحمل مصاير الدولة الأموية إلى وجهة أخرى
هذا الفتى هو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام. وكان وقت أن حلت النكبة بأسرته يقيم مع أهله وإخوانه في قرية تعرف بدير يوحنا من أعمال قنسرين، وفيها كان مولده قبل ذلك بعشرين عاماً؛ وكان أبوه معاوية قد توفى شاباً في أيام أبيه هشام، فكفله واخوته جدهم هشام؛ ولما وقعت النكبة وأمعن الظافرون في مطاردة بني أمية فر عبد الرحمن بأهله وولده إلى ناحية الفرات وحل هنالك ببعض القرى، واختفى بها حيناً يدبر أمره؛ وكان يرقب الموت في كل لحظة، ولكنه كان في الوقت نفسه يتجه بذهنه إلى مستقبل بعيد غامض. وبينا هو في هذا الجزع القاتل يدبر أمره، وإذا بجند المسودة تطوق القرية، وتستقصي آثار بني أمية؛ وإذا بعيد الرحمن يرى شبح الموت أمامه فجأة، فيحاول اجتنابه بالفرار من مطارديه
وقد انتهت إلينا عن هذا الفرار قصة مؤثرة نقلها إلينا مؤرخ أندلسي مجهول عن لسان عبد الرحمن ذاته، ونقلها عنه بعد ذلك أبو حيان مؤرخ الأندلس وخلاصتها أن عبد الرحمن حينما علم أن القرية قد غصت بجند المسودة، بادر إلى شيء من المال فحمله، وفر مع أخيه الأصغر، وهو صبي في الثالثة عشرة من عمره، وقصدا إلى شاطئ النهر (الفرات) فدل عليه بعض الخونة فما شعر إلا والخيل في أثره، فألقى بنفسه في النهر مع أخيه وأخذا يقطعانه سباحة، واستطاع عبد الرحمن أن يصل إلى الضفة الأخرى؛ ولكن الغلام عجز عن قطعه، وآثر أن يعود إلى الضفة الأولى بعد أن وعده الجند المطاردون بالأمان؛ ولكنه ما كاد يقع في أيديهم حتى انقضوا عليه وقطعوا رأسه أمام عيني أخيه وقلبه يتفطر روعة
وأسى
ولما أمن عبد الرحمن خطر مطارديه سار مختفياً إلى الجنوب وقطع فلسطين ثم مصر، وهو يحمل حياته في كفه متأهباً للقاء الموت في كل لحظة. وكانت عيون العباسيين ترقبه وتشيعه خلال هذه الهضبات والفيافي الشاسعة، وتكاد تكشفه من آونة إلى أخرى؛ ولكن طالعه كان يهديه، فجاز مصر إلى برقة ناجياً بنفسه، والتجأ إلى أخواله بني نفرة، وهم بطن من بربر طرابلس وكانت أمه بربرية منهم تدعى راح، وأقام لديهم يرقب الفرص، وأنفذت إليه أخته أم الأصبغ مولييه بدراً وسالماً ومعهما شيء من المال والجوهر. والظاهر أن عبد الرحمن كان يتجه منذ الساعة الأولى ببصره إلى إفريقية، وأن نفسه كانت تحدثه بما قد يكون له في الأندلس من شأن. فلما هدأ روعه استأنف سيره، ونفذ إلى إفريقية يحاول اختراقها؛ وكان المتغلب عليها يومئذ عبد الرحمن ابن حبيب الفهري، وكان وقت أن دالت دولة بني أمية في المشرق قد دعا لبني العباس، وكان يخشى على سلطانه من ظهور بني أمية في إفريقية، فطارد اللاجئين إليها منهم، وقتل بعضهم واعتقل البعض الآخر وصادر أموالهم. ولما شعر بظهور عبد الرحمن بن معاوية حاول القبض عليه، ولكن عبد الرحمن استطاع أن يتجنب المطاردة، وأن ينجو مع صحبه إلى المغرب الأقصى
وهنا تتفتح آمال عبد الرحمن وأطماعه؛ فعلى مقربة منه في الضفة الأخرى من البحر بلد غني زاهر من تراث الدولة الأموية الذاهبة لم تمتد إليه يد المسودة، ولم تقتحمه دعوتهم، وفيه عصبة قوية من بني أمية وأنصارهم ومواليهم، وفيه يستطيع - إذا حالفه حسن الطالع - أن يعيد بناء الصرح الذي انهار في المشرق، ويستأنف لأسرته حياة جديدة في السلطان والملك. وكانت الأندلس في الواقع، منذ انجلت عنها يد السلطة المركزية، مهبط الطامعين والمتغلبين، وكان يحكمها ويقودها يومئذ يوسف ابن عبد الرحمن الفهري؛ وكان قد وليها قبل ذلك بنحو عشرة أعوام باتفاق الجماعة عقب معارك داخلية طاحنة، ولكن حكمه لم يتوج قط بالصبغة الشرعية؛ ولم تستكن الأندلس نهائياً إلى حكمه بل كانت تتطلع دائماً إلى مصيرها وترجو أن تظفر بالاستقرار السياسي في ظل أميرها الشرعي. وهكذا فإن عبد الرحمن الأموي حينما سبر غور أحوال الجزيرة على يد بعض رسله وموالي أسرته، آنس أملاً في العمل وفي النجاح؛ ثم عبر إلى الجزيرة، والتقى في أنصاره وعصبته بيوسف
وقواته في (المسارّة) على مقربة من قرطبة في أوائل ذي الحجة 137هـ (756م)؛ وكان النصر حليفه، إذ هُزم يوسف وحلفاؤه هزيمة شديدة، ودخل عبد الرحمن قرطبة في يوم الأضحى، واستقبلت الأندلس عهداً جديداً
على أن يوم المسارة كان بالنسبة لعبد الرحمن فاتحة الظفر لا غايته؛ فقد استطاع بعد أحداث وخطوب جمة أن يجوز إلى الأندلس، وأن يفتتح عاصمتها وينتزع إمارتها لنفسه؛ ولكنه ظفر بعرش لم يتوطد سلطانه؛ وكان ثمة بينه وبين ملك الأندلس الحقيقي مراحل شاقة؛ بيد أن هذا الفتى الذي شحذت المحنة والخطوب هممه، استقبل مهمته الفادحة بعزم مدهش، وقضى بقية حكمه وحياته ثلاثة وثلاثين عاماً يغالب صعاباً لا نهاية لها. وكانت الأندلس خلال هذه الفترة كالبركان الثائر، يضطرم كل يوم في ناحية، فلا تكاد الثورة تخمد في ناحية منها حتى تضطرم في ناحية أخرى. وكان عبد الرحمن في خططه وأساليبه طوال هذه المعركة مثال الجرأة والصرامة والقسوة، بيد أنها لم تكن شهوات طاغية ظامئ إلى الدم، بل كانت أساليب عنف يمليها العنف والخطر الداهم. كان عبد الرحمن يعيش من يوم إلى يوم في غمر الخلاف والثورة والخيانة، ولم يترك له الكفاح المضطرم المستمر فرصاً كثيرة لأعمال السلم، بيد أنه خرج ظافراً من المعركة، ظافراً بإعادة الصرح الأموي الذي تهدم في المشرق؛ وتوطيد دعائم الملك الذي غلب، وإنشاء أسرة أموية جديدة في الغرب، قدر لها أن تسير بالأندلس في سبيل العظمة والفخار أحقابا
بيد أن هذا الظفر الباهر كانت تغشاه دائماً آلام نفس معذبة ذلك أن المحنة طبعت نفس عبد الرحمن وروحه إلى الأبد بطابع الكآبة والشجن؛ وهو لم ينس قط أنه سليل دوحة تقصفت واجتثت أصولها الراسخة حيث كانت يانعة زاهرة، وأنها اجتثت في مناظر دموية مروعة كان من شهودها وكاد يغدو في ضحاياها؛ ومن ثم نراه حتى آخر حياته محزون النفس يتلهف على ماضيه، ويبكي مجد أسرته، ويتحسر على فراق وطنه، وعلى نفيه وغربته وقد انتهت إلينا من شعره أبيات مؤثرة تفصح عن آلامه المعنوية مثل قوله في التشوق إلى ربوع الشام:
أيهذا الركب الميمم أرضى
…
أقْر من بعضيَ السلام لبعضي
إن جسمي كما علمت بأرض
…
وفؤادي ومالكيه بأرض
قدر البين بيننا فافترقنا
…
وطوى البين عن جفوني غمضي
وقوله وقد رأى في الرصافة نخلة منفردة:
تبدت لنا وسط الرصافة نخلة
…
تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلت شبيهي في التغرب والنوى
…
وطول التنائي عن بنيّ وعن أهلي
نشأت بأرض أنت فيها غريبة
…
فمثلك في الاقصاء والمنتأي مثلي
تلك هي مأساة عبد الرحمن الداخل؛ ونقول مأساة لأن الظفر الذي اختتمت به لم ينزع عن هذه الحياة الشاقة لونها المؤسي. وقد كان الداخل بلا ريب من أعظم شخصيات التاريخ الأندلسي؛ بيد أنه في حياته الخاصة يبدو لنا دائماً ذلك الطريد تثير محنته وآلامه في النفس شجنا، قبل أن تثير أعماله الحافلة في النفس إعجاباً
محمد عبد الله عنان
ليلى المريضة في العراق
للدكتور زكي مبارك
- 10 -
أقف قليلاً حتى أستعد لتدوين ما سمعت من ظمياء. وأشهد أني سمعت بقية حديثها وأنا كاره، لأن أسم عبد الحسيب أصبح يزعجني، فهو الحبيب الأول، وأنا إن شاء الهوى سأكون الحبيب الثاني. وحماسة ظمياء في سرد القصة قد تنتهي بتذكير ليلى بماضيها فتنتكس وتضيع من يدي، لا قدّر الله ولا سمح. وهل أملك زمانها إلا إن وصلتُ بها إلى ساحل العافية؟ كتب الله لها السلامة، وشفى من أجلها جميع المرضى من الملاح!
ومن واجبي نحو نفسي أن أنص بصراحة على أني لست لئيماً كل اللؤم في هذه القضية - وما أبرئ نفسي، إن النفس أمارة بالسوء، إلا ما رحم ربي - فأنا أحب أن تُعافَي ليلى لأنفرد بهواها، ولكني مع ذلك أشعر في بعض الأحيان أني أخدمها بإخلاص، فانه يعز عليّ والله أن تُعطب سيدة لها مثل طرفها الساحر، وصوتها الرخيم. يعزّ عليّ أن تعطب مثل تلك الإنسانة وإن خلت منها يدي، وهذه فيما أظن أول مرة أشعر فيها بحلاوة الصدق، فقد مضت أعوام وأنا لا أداوي امرأة جميلة إلا هممت بخطفها من زوجها. وقد وقعت لي من ذلك حوادث سيطول عليها ندمي، حين أثب إلى رشُدي، أنا الطبيب الآثم الذي زعزع عروش السعادة في كثير من البيوت
أنا أشعر حقاً وصدقاً أن ليلى تهمني؛ وأشعر حقاً وصدقاُ أني مستعد للتضحية بنصيبي من هواها؛ ولكن ما الذي يمنع من الجمع بين المزيتين: عافيتها وسعادتي؟ يمكن بسهولة أن تصير محبوبتي بلا بغي ولا عُدوان، والخلاصة أني أريد أن يُنسى اسم عبد الحسيب، ولكن كيف؟ إن قصته تهمني جداً، لأنها ستعلمني كيف أسوس ليلى، وهذا بيت القصيد، فقد أصبح مفهوماً عندي أنه كان (عبيطاً) لا يعرف ما يأتي وما يدع. وكان مصيره أن يُحرم عطف ليلى، فيمرض هو في مصر، وتمرض هي في العراق، وما احب أن أكون ثالث المرضى!
يضاف إلى هذا أن ظمياء ستتكلم أيضاً عن درية أخت عبد الحسيب؛ وهذا الاسم يهمني جداً، ولا اعرف السبب في ذلك، ولعلي أعرف بعد حين، فقد تتذكر الإنسانة التي تحمل
هذا الاسم الجميل أن الفتى الذي كان يصارحها وتكاتمه لم ينس أن جسمها كان أخصب حسم تبختر واختال في شارع فؤاد. ولعلها تمرض هي أيضاً فيُدَعى لها الطبيب الذي يداوي ليلى المريضة في العراق
درية، متى تمرضين؟ إخص عليك! بل متى تتصنعين المرض لأراك - في غير ريبة - ممدَّدة على السرير؟ متى؟ متى؟ إن بلائي سيطول!
أنا أغار من اسم عبد الحسيب، فليؤجّل حديثه لحظات، ولأدوِّن بعض الوقائع المتصلة بهذه الأحاديث
1 -
بجوار دار المعلمين العالية رجل يجلس على الأرض و (يضرب الرمل) وهو معروف لسائر أهل بغداد، وهو يذكرني بأمثاله من الذين كنت أستخبرهم مصيري في الحب حين كنت أمشي بشارع الخليج. وما كنت أول محب استخبر الرمل، فزميلي البهاء زهير تنطق أشعاره بأنه كان يعرف جميع من (يضربون الرمل) بالقاهرة
أقول إني أقف دقائق كل صباح حول بساط هذا الرجل وأنا في طريقي إلى الدرس، والطلبة يمرون فلا ينتقدون أستاذهم، لأنهم سمعوا أنه أديب فيلسوف لا يهمه غير الوقوف على أحوال المجتمع. ولكن الواقع غير ذلك، الواقع أني بدأت أتخوف مصيري في هوى ليلى، وأصبحت كالطفل أصدّق كل شيء. ولكن كيف أستخبر الرمل والطلبة يغدون ويروحون وأكثرهم يحمل المصورات الشمسية، وفي مقدورهم أن يأخذوا صورتي على تلك الحال ويقدموها إلى الجرائد فأصبح محور السمر الساخر في الأندية والمعاهد؟
الحل سهل: أنتظر ذهاب الطلبة للغداء ثم أعرج على ضارب الرمل لأشوف بختي
كذلك فعلت
ويلاه! ماذا تصنع المقادير؟
أنا أجلس أمام أحد الدراويش في بغداد لأشوف بختي، وأنا الذي غلبت الساحر الهندي على شاطئ الإسكندرية في صيف سنة 1934؟
ليت أيامي تعود!
فما زلت أذكر كيف أعطاني ذلك الساحر الهندي عشرين ديناراً في سبيل أن أترك له التفرد بقراءة الكف لمن يحج ذلك الشاطئ من الظبيات
وخلاصة القصة أني ذهبت في ضحى يوم صائف إلى خليج ستانلي، ونزلت بثوب البحر إلى ملعب الغزلان، فرأيت فقيراً هندياً يقرأ الكف لفتاة ناهد تشبه أفروديت، أو تشبهها أفروديت، فجلست بجانبهما جلسة الباحث المتعقب، لا جلسة اللاهي اللاعب، وما هي إلا لحظات حتى قلت بصوت الواثق بصحة ما يقول: على رِسلك أيها الساحر، فأنت فيما يظهر قليل العلم بأسرار الكف، وما يجوز لك أن تشغل فتاة بمصيرها على غير هدى. أين تعلمت هذا العلم أيها الدرويش الجهول!
فانزعج الرجل انزعاجاً شديداً، وفقراء الهنود ضعاف العزائم والقلوب في أكثر الأحيان
ونظرت الفتاة في استغراب وقالت: وحضرتك تعرف علم الكف؟
فقلت، وأقسم ما قلت غير الصدق: نعم أعرف علم الكف وهو خير ما تعلمت في باريس!
فانعطفت الفتاة في تخاذل وقالت: تسمح تقرأ لي كفي!
فأخذت يدها ونظرت إلى صدرها مرة وعينيها مرتين، ثم شرعت أقص عليها أخبار المستقبل وما فيه من ابتسام وأنين
وما هي إلا دقائق حتى كنت ساحر الشاطئ
فهل تعود أيامي؟ هل تعود؟ أمري إلى الهوى!
وتخاذل الساحر الهندي وتضعضع وأقبل يسر في أذني: تتفضل بكلمة؟ فقلت: نعم. وانتحينا بعيداً عن أسماع الظباء فقال: أعرف أنه لا يفل الحديد إلا الحديد، وأعرف ثانياً أني أعلم منك بقراءة الكف، ولكني واثق بالهزيمة إذا ناضلتك، لأنك تحدث الفتياتِ بأحاديث أجهلها كل الجهل، ويغلب على ظني أنك لا تقرأ الكف، وإنما تقرأ العيون، ولا علم لي وحياة غاندي بلغة العيون
فقلت: وماذا تريد، أيها الشيخ؟
فقال: أرجو أن تبيعني هذا الميدان
(وعندئذ تذكرت أني موظف في الحكومة المصرية وأن من الممكن أن يتعقبني مندوب (آخر ساعة) أو مندوب (روزاليوسف) أو مندوب (الصباح)، وأن من العقل أن أقبض ما يمكن قبضه وأترك الميدان)
- وماذا تقدم يا شيخ؟
- أقدم عشرة دنانير
- أنا أترك لك هذا الميدان من أجل عشرة دنانير؟ هيهات!
- يا سيد، أنت في وطنك وأنا غريب
- ونحن لا نترك خيرات بلادنا للأجانب
- أنا لست أجنبياً بالمعنى البغيض لهذه الكلمة، فأنا مسلم مثلك وأتكلم اللغة العربية
- إنك رجل لبق يا شيخ، ولكني لا أترك هذا الميدان بعشرة دنانير
- أنا لم أغنم من هذا الموسم غير أربعين ديناراً
- أنت إذاً جهول! ولو كنت مكانك لجمعت ألف دينار في شهرين
- هذا ما وقع وأنت تعرف يا سيدي أن عمل السحر صار قليل المكاسب بفضل المقالات التي تكتب ضده كل يوم. وأنت يا زميلي تعرف ما جنت علينا حذلقة أصحاب الجرائد والمجلات
- إذن تدفع عشرين وتحفظ لنفسك عشرين
فقبل الرجل وقدم المبلغ، فأخذته وانصرفت
وقد علمت بعد ذلك أن عرائس الشاطئ شككن في قدرته على فهم أسرار الكف فبار سوقه وضاع
أما أنا فمضيت في دراسة هذا العلم النفيس حتى تفوقت فيه، ولكل مجتهد نصيب
أليس من الغريب أن يكون هذا حالي في العلم بمصاير القلوب ثم أجهل مصير قلبي؟
إن هذا لدليل على ضعف القدرة البشرية، إن كان ذلك ما يرتاب فيه الزنادقة والملحدون
جلست إلى الرمل أستلهمه وأستوحيه، والأمر للهوى
- يابا، يابا
- نعي يا عمي
- لك أعداء في الشام، وسينصرك الله عليهم
- طيب، طيب! (وماذا جنيت حتى يكون لي أعداء في الشام أو لبنان؟)
- ولك أعداء في مصر، وسينصرك الله عليهم، قل آمين
- آمين، آمين!
- ولك في العراق فرد عدو (يعني عدواً واحداً)
- طيب
- ويجيء إليك فرد مكتوب
- من وين يا عمي؟
- من بغداد
- خير، خير
- وأنت تحب فرد امرأة، وأكُو ناس يحسدونك
- أكو خوف يا عمي؟
- ماكو خوف، ولكن احترس
فنفحت الرجل درهما ومضيت
وبالقرب من جامع مرجان سمعت صوتاً يناديني فالتفت فإذا أحد سعاة البريد يقدم إليّ خطاباً فعجبت من أن تفضحني ليلى إلى هذا الحد، ونظرت فرأيت العنوان مكتوباً بهذه الصورة الطريفة:
(لحضرة الأستاذ الخفيف الروح الدكتور زكي مبارك
يسلم إليه أثناء تجواله في شوارع بغداد!!)
شيء ظريف حقاً! وأي ظرف أروع وأمتع من أن تصبح دار إقامتي موزعة بين شوارع بغداد، وأن ترى مصلحة البريد أنها مسئولة عن البحث عني في شوارع بغداد؟
إن مرسل هذا الخطاب لابد أن يكون أظرف الناس. وإذا كان العنوان بهذه الصورة من اللطف فسيكون الخطاب ولا ريب آية الآيات في خفة الظل ولطف النسيم
ولكني ما كدت أفض الظرف وأنظر الخطاب حتى انزعجت. فهو بغير إمضاء وكاتبه ينهاني عن عيادة ليلى، ويهددني بالقتل. . . أمري إلى الله لا إلى الهوى!
ورأيت أن أحتاط لنفسي فذهبت أستشير صديقاً بالمفوضية المصرية سبقني إلى العراق بسنتين؛ فكان من رأيه أن أبلغ الخطاب إلى الشرطة. وأكد لي أن العراقيين لا يعرفون المزاح في هذه الشؤون. وبعد ساعة من تسلم الخطاب كنت عند سعادة رئيس الشرطة، فكان أول كلامه بعد رد التحية أن قال:
- إيش لون ليلى؟
- أهدّد من أجلها بالقتل!
وقدمت إليه الخطاب فكان يقرأ والغضب ينقله من لون إلى لون، ثم ابتسم فجأة وقال:
- ولكنه صفح عنك!
- صفح عني؟ وكيف؟
- ألم تقرأ هذه الجملة؟
ونظرت فإذا في نهاية الخطاب (ولكني عدلت عن هذا الخاطر لأني إذا قتلتك قتلت معك علماً غزيراً في الطب، وذوقاً دقيقاً في الأدب) فعجبت أن تفوتني هذه الجملة، ولكن يظهر أن انزعاجي صرفني عن استيعاب الخطاب؛ والتهديد بالقتل يصنع أشنع من ذلك. عافى الله قراء هذه المذكرات من الأسواء
ولما اطمأننت إلى صفح غريمي في هوى ليلى تشجعت وقلت: ومع هذا فأنا لا أبالي أحداً، وقديماً قال جميل:
فليت رجالاً فيكِ قد نذروا دمي
…
وهَّموا بقتلي يابثين لقوني
إذا ما رأوني طالعاً من ثَّنية
…
يقولون من هذا وقد عرفوني
فقال رئيس الشرطة وهو يبتسم: يجب أن تثق يا دكتور أن العراقيين يفدون ضيوفهم بالأرواح، وهم لا يخافون عليك إلا عادية هواك
2 -
تفضل سكرتير محطة الإذاعة العراقية فدعاني لإلقاء محاضرة عن الحِكم العطائية؛ وأنا فيما يظهر رجل خدّاع، فقد ظن الأستاذ فؤاد جميل أني أصلح الناس للكلام عن حِكم ابن عطاء الله؛ ولعل حياتي في بغداد هي التي هدته إلى ذلك، فقد رآني أحفظ آداب الصيام، وأؤدي الفرائض والنوافل، فظنني رجلاً تقياً، ونسى هذا الأديب أن الغريب لا فضل له في التخلق بمكارم الأخلاق. وهل يستطيع رجل مثلي أن ينحرف عن الصراط المستقيم في بغداد؟ إن استقامتي في هذه المدينة ليست إلا ضرباً من الآداب الصناعية، ولن تكون لها قيمة إلا إذا عاملني الله عز شأنه بالمثل المأثور
(يؤجر المؤمن رغم أنفه)
وهنا أشعر بأن الله تباركت أسماؤه خصني بمزية قليلة الأمثال، فأنا أحاسب نفسي قبل أن
يحاسبني الناس، وأدوّن عيوبي قبل أن يدونها الكرام الكاتبون، وربما كنت الرجل الوحيد الذي يخفي حسناته - إن كانت له حسنات - حتى لا تزل قدمه في مز الق الرياء
أقول إني ألقيت محاضرة في محطة الإذاعة عن حِكم ابن عطاء الله، ولكني ما كدت أودع جمهور المستمعين حتى كان المذياع يجلجل:
يقولون ليلى في العراق مريضة
…
فيا ليتني كنت الطبيب المداويا
وكانت لحظة طرب لن أنساها ما حييت، فاسم ليلى يشوقني، وبفضل ليلى رأيت العراق. وبدا لي أن أسأل عن صاحب الفضل في إمتاعي بهذا الصوت، فعرفت أنه الأستاذ يونس بحري صاحب جريدة العُقاب. ويونس بحري أديب شرب ماء النيل، وذاق لذة الأسمار في القاهرة، وعرف كيف تطيب الأصائل والعشيات في مصر الجديدة والزمالك والمعادي وحلوان، وتمرغ على الرمل المقدس: رمل الإسكندرية وبور سعيد ودمياط، وقد شاء له وفاؤه لمصر أن يؤنسني بهذا الصوت، لأنه يعرف أني طبيب ليلى، ولأنه يعرف أن السيدة نادرة حضرت نادي الصحافة منذ سنين فلم تر إلا أن تجلس بجانبي عند اخذ الصورة التاريخية ليصح لها أن تقول إنها رسمت وبجانبها قلب خفّاق
وليس من التزيد أن أقول إن محاضراتي في الإذاعة ينتظرها الناس في جميع أرجاء العراق؛ وكذلك كان إلقاء ذلك الصوت بعد محاضرتي شاهداً على حلاه الدعابة العراقية التي خلدها أبو الفرج الأصفهاني على وجه الزمان
جلست بعد المحاضرة أستمع هذا الصوت، والرفاق يضجون من حولي بالضحك وفاتهم أني صرت كالذي قال:
بكيت عينيَ اليسرى فلما زجرتها
…
عن الحلم بعد الجهل أسبلتا معا
فقد كنت أعرف أن ليلى تسمع، وكنت أعرف أنها ستطرب لهذا الصوت الذي حبسه البغداديون عن أذنيها خمس سنين، وكنت أعرف أنها لو رأتني لقّبلتني. ولكن هل تقبّلني ليلى؟ ليت ثم ليت!
وخرجت من دار الإذاعة فعبرت دجلة من الكرخ إلى بغداد وأنا في ذهول، فحدثتني النفس بحلاوة الغرق في ذلك النهر الذي وعَى ما وعَى، وضيَّع ما ضيَّع، من أسرار القلوب. ثم تذكرت ديوني في القاهرة، ديوني للوجوه الصِّباح التي تعطّر بأنفاسها نسائم مصر الجديدة
والزمالك، وديوني لعرائس دمياط اللائى تفردن بنعومة الأجسام وعذوبة الأحاديث:
رباه صُغْتَ فؤادي
…
من الأسى والحنين
ولم تشأ لضلوعي
…
غير الجوى والشجون
فكيف تصفو حياتي
…
من الهوى والفُتُون
أم كيف تُرجى نجاتي
…
من ساجيات الجفون
وهل من الإثم في هوى ليلى أن أحنّ إلى هوايَ في القاهرة عروس الشرق؟
هل من الآثم في هوى ليلى أن أتذكر غَبُوقي بمصر الجديدة وصَبُوحي بالزمالك؟
هل من الآثم في هوى ليلى أن أقول إني أبذل دمي إن استطعت لأفضي ليلة واحدة في ضيافة ليلى الصحيحة في حلوان؟
متى تعود أيامي وأستأنف اختطاف القبلات في القطار بين المعادي وحلوان؟!
وما كنت أنتظر أن يخط قلمي أمثال هذه الاعترافات، ولكني أحب أن تغار الإنسانة التي سيخلِّد اسمها شارع العباس ابن الأحنف في بغداد، فإن غارت فهي ليلى بنت ليل وإلا فهي صخرة تغمرها الثلوج في أقاصي الشمال
وأقسم لئن لم تنته عن تغافلها البغيض لأحدثنها عن لياليّ وأيامي في فندق مينا هاوس بسفح الأهرام؛ ولئن فعلت لأصوّبنَ إلى صدرها سهماً مسموماً لا يُرجى منه شفاه
ليلى، يا بنت الفرات!
أمري وأمرك إلى الهوى، فإليه ترجع القلوب!
ألم يأن لي أن أعود إلى حديث الضابط عبد الحسيب؟
إن حديثه لن يصل إلى ليلى حتى أكون أنسيتُها كل من في الوجود. وهل أمكنَ يوماً أن يكون لي فيمن أحب شريك؟ فلتقص حديث ذلك الغريم بلا تهيب ولا إشفاق
قالت ظمياء (وما أعذب كلام ظمياء)
- وأفاض الشيخ دعاس في شرح الاستشراق والاستغراب ففهمنا أن المستشرق هو الذي يدّعي علم الشرق، والمستغرب هو الذي يدّعى علم الغرب. ثم تشعب الحديث من فن إلى فن، فانتقلنا من الأدب إلى السياسة؛ وليلى لم تشاطرنا الحديث، فقد كانت مشغولة البال بانتظار عبد الحسيب. وكانت ترجو أن يكون هو الفتى الذي رافقناه في قطار المعرض.
وبعد ساعات مرت على ليلى كأنها أعوام دخل شاب أخضر العينين، وكان هو يا مولاي، هو نفس الفتى الذي دارت معه ليلى في قطار المعرض دورتين
- وكيف كان التلاقي؟
- فرّت ليلى من وجهه فرار الظبية الضعيفة من القانص الظلوم، فانزوت في أحد أركان البيت. وألحت السيدة نجلاء في أن تتفضل ليلى بالسلام عليه، فاعتذرتْ بأن سلام الفتاة على الفتى وهي ليست من محارمه أدب تنكره حرائر العراق
(للحديث شجون)
زكي مبارك
فلسفة التربية
كما يراها فلاسفة الغرب
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 9 -
(يتفتح الطفل باللعب كما تتفتح الزهرة)
(فروبل)
(الفرق بين مخ أرقى قرد وأحط إنسان أكبر بكثير من الفرق
بين مخ أرقى إنسان وأحط إنسان)
(البيولوجيا)
الناحيتان البيولوجية والفسيولوجية
شرحنا في المقالات السالفة عملية التربية على ضوء الفلسفة وأشرنا إلى بعض (ما يجب أن يكون) وعلينا اليوم أن نرجع إلى (مجموعة العلوم) التي تتناول (الإنسان) بالدراسة والتحليل لنسمع كلمتها فيه، ولنتخذ من نتائجها المحتومة كل ما يفيدنا في تكوين (بطلنا المنشود)! وفي ذلك بالطبع من زيادة الشرح وتكميل النقص ما فيه
ستسأل: وما هذه (العلوم)؟ وسأجيبك بأن ما يهمنا منها هو علوم الحياة ووظائف الأعضاء والنفس والاجتماع؛ ثم ستسأل: وما علاقة ذلك بالفلسفة؟ وسأقول إن من خصائص الفلسفة الحديثة النظر في مبادئ العلوم ونتائجها، والخروج منها بوحدة متسقة منسجمة فيها من المعنى الجامع، والتفسير الشامل، والاتجاه العام، الشيء الكثير. وما دمنا في التربية حيال تلك القطعة الفذة من الخليقة (وأعني بها الإنسان) فلا بد لنا أولاً من أن نحاول فهمها وكشف خفاياها، حتى لا تكون أقوالنا عنها خيالية غير مجدية، وحتى نستطيع بعد حل لغزها بالعلوم المختلفة أن نسير بها إلى كل ما تتطلبه طبيعتها، وتحتمله قواها ويسمح به استعدادها. فترى ما هي كلمة البيولوجيا والفسيولوجيا في الإنسان؟ الجواب كما يلي:
الناحية البيولوجية
وقد أصبحت هذه الناحية هامة وجديرة بالاعتبار في التربية ولا سيما بعد أن ظهرت (نظرية التطور) ووضعت الإنسان في مكانه بين سائر المخلوقات. ولعلك تعرف أن محور البحث هنا يدور حول الكائن الحي من حيث ملاءمته بين نفسه وبين بيئته. ومع كل فلا يهمنا من ذلك في التربية إلا المخ، والطفولة، والعقل
(1)
فأما المخ فقد ثبت نهائياً أنه في (الإنسان) أكبر الأمخاخ بالنسبة للجسم، وأن الفرق بين مخ أرقى قرد وأحط إنسان أكبر بكثير من الفرق بين مخ أرقى إنسان. وقد لوحظ أن القابلية للتعلم والتهذيب تتمشى من كبر المخ تمشياً مطرداً، وإذن فمعنى كبر المخ في الإنسان هو القابلية العظمى للتربية، وقيام المخ ذاته مقام الانتخاب الطبيعي وجوهرية عملية التعليم ذاتها بالنسبة للإنسان والقدرة الكبيرة على التخلص من الغرائز أو تهذيبها ما دام المخ يستطيع أن يقوم مقامها.
(2)
وأما طفولة الإنسان فهي أطول طفولة معروفة، إذ بينا يصير فرخ الطير قادراً على الاستقلال بنفسه بعد أيام قليلة، لا يصير ابن الإنسان كذلك إلا في سن لا تقل عن العشرين في الشعوب الراقية على الخصوص. وإذن فالتربية السليمة هنا أداة لا مندوحة عنها لأحكام عملية النمو وتحقيق آمال الجماعة في أفرادها
(3)
بقي (العقل) وقد أثبتت جميع تجارب الباتولوجيا والتشريح والفصل الجزئي علاقته التامة بالمخ المشتمل على المراكز العليا التي تقوم بالعمل المُروي تاركة الأفعال العكسية واستجابات الغرائز للمراكز السفلى في العمود الفقري. وهذا (المخ) قابل للتربية كما يقول الأستاذ ولا سيما في سن الطفولة والشباب لأنه يكون حينذاك (مرناً) سريع التأثر، وإذاً فميسور تقوية نسيجه وقواه بتكوين عادات عصبية توفر الوقت وتترك للعقل فرصة للتفكير فيما هو أرقى من (الدفاع) الذي يبدو أنه الوظيفة الأساسية للجهاز العصبي عند الحيوانات جميعاً. والتربية هنا توقظ القوى النائمة، وتحفز المستيقظة، وتربط الرذيلة بالألم، والفضيلة باللذة؛ وتغرس العادات الحسنة التي قد تعادل الغرائز في قوتها. ويؤكد الأستاذ بعد هذا أن الجهاز العصبي في الأمم المتعلمة أقدر على قبول التربية منه في الأمم الأخرى. وإذاً فالفرق بين الوحشية والتمدن هو في الحقيقة فرق بين مخ يستجيب صاحبه للغرائز
الطبيعية استجابة الحيوان، ومخ يستجيب صاحبه لها استجابات حرة مهذبة معدلة فيها التسامي والتعويض، والكبت والتحوير!
ولكن هل ترمي التربية إلى جعل جميع أعمالنا آلية عديمة الشعور؟ الجواب كلا! ذلك أن العقل الآلي لا يصلح قط للظروف الاجتماعية الدائمة التغير والتشكل. وإذاً فهي ترمي إلى إدخال عنصر (الشعور) في الأعمال حتى يمكنها إحكام التصرف على ضوئه المنير، وحتى تستطيع أن تشرق به على (اللاشعور) فتضيء ظلمته، وعلى الزمن فتنبهنا إليه، وعلى (المثل الأعلى) فتطمح بنا نحوه. وهناك لا نكون مجرد (آلات) تذهب إلى العمل وتعود منه إلى البيت، ثم تخرج إلى المقهى، وهكذا دواليك على نحو أوتوماتيكي خاص؛ وإنما نكون في أعمالنا كائنات حساسة شاعرة تحيا حياة اجتماعية خصبة فيها التقليد النافع، والتضحية السامية، والمحبة النابضة، والمنافسة السليمة، والقابلية لإصلاح أنفسنا وعاداتنا كلما شعرنا بالنقص ورأينا الكمال
أما النظرة العامة التي نخرج بها من هذه الناحية البيولوجية فهي العيش أولاً ثم الكماليات، العيش ثم الفلسفة والفن؛ هذا إلى جعل (الطفل) موجباً يؤثر لا سالباً (يتأثر)، لأن المخلوقات الحية قد تشكلت بردود أفعالها أكثر مما تشكلت بالبيئة. ويقتضي بالطبع جعل المدارس دور (نشاط) نظري وعملي لا دور حشو واستماع، والنظر إلى التربية ذاتها كمعوض أساسي يسد للإنسان ذلك النقص الهائل الذي لا نجده في الحيوان، وكأسلوب من (المواءمة المثلى بين المرء وبيئته) كما يقول الأستاذ هورن
الناحية الفسيولوجية
أما هذه الناحية فتقول مع بعض مذاهب الفلسفة إن الحياة قد بدأت بالمادة ثم بالروح، وإن الجسم والعقل لم يتلاشى بعضهما في بعض بالرغم من شدة امتزاجهما، فهما يكونان وحدة متسقة ويؤثر بعضهما في بعض تأثيراً كبيراً. ألا تنمو قوى العقل بالحس والحركة؟ أو ليست الإرادة حركة مُروًّى فيها؟ أو ليس (الشعور) - بعد هذا - صدى للإرادة والمعرفة؟
ولذلك تنحصر مهمة التربية هنا في تسليح الجهاز العصبي بردود أفعال حرة منها الاعتيادي - عن طريق العمود الفقري - ومنها المروّي فيه - عن طريق المخ - وفي الاستفادة من نتائج التجارب القائلة بأن العمل ينهك المخ فلا يكون لعمله بعد أربع ساعات
قيمة ما، وبأن المخ يحتاج إلى غذاء خاص من الهواء النقي وغيره، وبأن القوى العقلية تمر في مراحل تمتاز أولاها بسيادة (الذاكرة)، وثانيتها بسيطرة (الخيال)، وثالثتها بحكم (الفكر)، وبأن التعب العقلي يمكن أن يجتنب إلى حد كبير بتنويع العمل على المراكز المخية المختلفة، وبأن صحة الجسم واجبة والعدل بين مجهود الجسم والعقل أوجب، وبأن وبأن مما يتسع المقام لذكره. . .
هذا إلى أنها - تمشياً مع الحقائق أيضاً - تنصح بإدخال (العمل اليدوي) و (اللعب) في عملية التدريس. ذلك أنها تعتبر الأول خير أداة للتعبير عن النفي، ولتنمية العقل وتدريب الحواس، وربط المواد، وتقوية الإرادة، واكتساب الذوق الجميل، وغرس القدرة على الإنتاج، وتعويد الدقة، وحب العمل واحترام العمال، وتقدير العاملين!. وأنا لثاني - وهو اللعب - فيقول عنه (فروبل) إنه يجعل الطفل يتفتح كالزهرة ويقول عنه شلر (إن الإنسان لا يكون إنساناً إلا به) ذلك أنه بعيد الغور في طبيعة الإنسان، حتى أن الشعوب نفسها لتلعب أحياناً وتلهو كالأطفال، وأنه ذو وظيفة أساسية في الحياة وإن اختلف العلماء في كنهها، وأنه إذا ما دخل في العمل الجدي جعله سهلاً مستساغاً وهيناً محبوباً. أليس الفن نفسه صدى للعب الخيال المنتج؟ وإذاً فلا مندوحة لنا من العناية به في المدرسة والتدريس، ولا مندوحة لنا من أخذ الجميع بالألعاب التي تقوي شخصيتهم، وتجمل أجسامهم، وتبث فيهم الروح الاجتماعية والجرأة والحرية والديمقراطية والإقدام وضبط النفس والإيثار. ولكن ليكن مبدؤنا دائماً في المباريات العامة والخاصة هو أن (الخسارة بحق خير من الفوز بباطل!)، ولنتجنب ما استطعنا ألعاب المنافسات الحقيرة والعصبيات التافهة والإنهاك الشديد؛ وبذلك تكون المدرسة فردوساً يحفه المرح ويسري فيه العمل الصحي بجميع نواحيه، وتكون التربية (مواءمة عليا بين المرء النامي الجسم وبين بيئته)
وإلى اللقاء حيث أحدثك عن الناحية النفسية فالناحية الاجتماعية
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بالمدارس الثانوية الأميرية
المثل الأعلى للشاب المسلم
للأستاذ علي الطنطاوي
تتمة ما نشر في العدد الماضي
لقد انتهينا من تعريف المثل الأعلى والشباب والإسلام، فلنشرع في الموضوع:
قلت إن أندريه موروا وصف الشباب بصفتين أساسيتين: هما الحب والبطولة. أما الحب فهو عماد الحياة وركنها وأساسها، لا معدي عنه، ولا منجى منه. وأحسب أن الشباب الحاضرين، بل وكثراً من الشيوخ يصفرون لي وينزلونني عن المنبر، إذا أنا قلت لهم:(لا تحبوا)، وكيف أقولها؟ أجننت حتى أقول:(حطموا القلوب)، ودوسوا العاطفة. وماذا يبقى لنا إذا خسرنا العاطفة؟ لقد خسر أدوار عرش بريطانيا العظمى، ولكنه ربح العاطفة فلم يخسر شيئاً. لقد أنسته عينا مدام سمبسون ملك إنكلترا، فهل كان ينسيه هذا الملك الضخم، وهذا التاج المرصع، عيني سمبسون لو أنه هجرها. . .؟
العاطفة هي التي تدير دولاب حياتنا، وتسّير أمورنا كلها، أما العقل فلا يصنع وحده شيئاُ. من يذكر منكم أنه مشى خطوة واحدة برأي العقل وحده؟ العقل يا سادتي فيلسوف أعمى، حكيم مقعد، ينادي بصوت خافت ضعيف. . . أما العاطفة فهي القوة، هي النشاط، هي الحياة. . .
أنا لا أقول اقتلوا العاطفة، لأن في موتها موتنا، ولكن أقول إن العاطفة تضيق حتى لا تشمل إلا شخصاً واحداً، وتنحط حتى تنزل من قلب هذا الشخص إلى ما تحت القلب، إلى ما تحت. . . السرّة! وتسمو حتى تحيط بالمثل الإنسانية العالية، وتعمّ حتى تشمل الأمة كلها، بل الإنسانية جمعاء. فاسموا بعواطفكم عن مواطن شهواتكم، واخرجوا بها من ذواتكم، وقفوها على أمتكم وبلادكم
أحبوا، فإن الذي لا يجب لا يكون إنساناً، واذكروا واحلموا وتألموا. . . ولكن افهموا الحب بمعناه الواسع الذي يشمل كل ما هو حق وخير وجميل. . . لا المعنى الضيق العقيم، الذي لا يتجاوز حدود جسم امرأة. . . أحبوا، ولكن ابقوا مسلمين. إن للمسلم قلباً، قال الله عز وجل:(إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد)، ولكن المسلمين يغضون عيونهم وقلوبهم وفروجهم (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير
ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون). أحبوا ولكن ابقوا رجالاً. إن الرجل إذا احب لم يبكِ ويتذلل ويأرق الليل، ولم يلق شفتيه على قدمي المرأة، كما كان يفعل لامارتين، ولكنه يقوم قائما على مشط رجله، ثم يقول لها، بعينيه النافذتين، وعضلاته الحجرية، وإرادته الماضية، ورجولته البادية:(تعالي!)
أحبوا ولكن ابقوا أفراداً من هذه المجموعة البشرية التي هي الأمة، لا يقطعكم الحب منها، ويُعِدْكم إلى الحياة الفردية الوحشية، فتنكروا كل شيء، وتنسوا الدنيا، وتتجاهلوا الحياة إلا إذا أشرقت عليها نظرة من المرأة وأضاءت في أرجائها كله منها. ولا تقيموا الدنيا وتقعدوها، وتغرقوا الأرض بالدموع لأن الحبيبة المحترمة لم تمنح قبلة وعدت بها، ولم تصل وقد لوحت بالوصل، تنظمون الأشعار في هذه الكارثة، وتنشئون فيها الفصول، تبكون وتستبكون، ثم تنامون آمنين مطمئنين، والنار من حولكم تأكل البلاد والعباد. . .
الشعر شعور، فأي شعور وأي حس فيمن يرى أمة كريمة مجيدة بقضها وقضيضها، ومفاخرها وتاريخها وحياتها وأمجادها تطرد من ديارها، وتخرج من بيتها - وهي أمته، وأفرادها اخوته - لتعطى مساكنها إلى أمة من أسقط الأمم: أمة ضربت عليها الذلة والمسكنة وباءت بغضب من الله، وغضب من الناس والحق والفضيلة والتاريخ، ويرى صدورها مفتحة للرصاص، وشيوخها مسوقين إلى حبال المشانق، وشبابها في شغاف الجبال وبطون الأودية يدفعون الظلم بالدم، وأطفالها ونساءها بين لصين: لص ديار، ولص أعراض، لص يحارب بالذهب، ولص يقاتل بالبارود - ثم لا يحس بهذا كله، ولا يدري به، ولا يفكر فيه، لماذا؟ لأن الشاعر المسكين مصاب متألم. . . ماله؟ ما مصابه؟ إن حبيبته لم تعطه خدها ليقبله. . .
إن العاطفة إذا بلغت هذا المبلغ كانت جريمة.
وما دمنا في حديث الحب فلنوف الحديث حقه. إن لي تعريفاً قديماً للحب، هو أنه المرقد (البنج) الذي وضعه الله لتمام عملية التناسل التي لابد منها لبقاء النوع البشري، والتي لا يصبر الإنسان على احتمال قذارتها وآلامها لولا هذا المخدر، فأول الحب إذن ووسطه وآخره الاجتماع الجنسي والسلام، أما الحب العذري الأفلاطوني العفيف فليس إلا إحدى الأكاذيب الجميلة، التي لا يصدق بها عاقل. من أجل ذلك يشك العقلاء في عفاف المرأة
المحبوبة، وينظر المسلمون إلى الحب نظر الريبة. . . إني لألحظ في وجوهكم معنى الاستنكار والاعتراض، وأرى فيها بوادر الثورة. . . لا يا سادتي. . . أنا لا أنتقد الحب، ولا أشك في جماله، ولكن أسألكم وارجوا أن تجيبوني بإنصاف: من هو الذي يسمح لي فيكم أن أحب زوجته أو أخته؟ لا تغضبوا يا سادتي. . . فما أردت إلا التمثيل فجاء المثل غليظاً نابياً، وإني ليسرني أن تستهجنوه، لأن هذا دليل على أنكم للحقيقة أشد استهجاناً. . .
فلنعلن إذن أن هذا الحب المعروف اليوم، ما يأباه الإسلام ويتنافى مع المثل الأعلى للشاب المسلم، ولكن ماذا يصنع الشباب؟
الجواب: يتزوجون. . .
نعم يتزوجون. إن حياة الغرب حياة خطرة على نفسه وعلى المجتمع. إنه صندوق ديناميت يوشك أن ينفجر في كل لحظة فيدمر سعادة أسرة من الأسر، وينقض دعامة من دعائم الوطن. إن حياة العزب حياة فارغة من كل شيء لأنها فارغة من الزوجة ولو امتلأت بكثير من النساء (غير الزوجات). إن أفكار العزب مهما اختلفت مناحيها وتعددت متوجهة إلى وجهة واحدة، تسعى إليها بشدة وعنف كما تسعى السيول من كل جهة إلى قعر الوادي، إنه لا يجتمع عزبان إلا نظما مؤامرة على الأخلاق والعفاف
لست أبالغ. . . أنا أيضاً شاب عزب! ولكني كسائر العزاب لا أحمل ذرة من اللوم، وليس عليّ شيء من الذنب. الذنب عليكم أيها الآباء. إنكم تبيعون بناتكم. إنكم تصاهرون المال والجاه والأرستقراطية الزائفة، إن حفلات العرس وحدها تخرب بيتي العروسين. . . فما قولكم في المهر والأثاث؟ وما قولكم في شاب مثلي في رأسه شيء، وليس في جيبه شيء من مال؟ كيف يتزوج؟
لا أحب يا سادتي أن أكون منحطاً إلى هذه الدركة من الاستئثار و (الأنانية) فأستغل اجتماعكم لسماع محاضرتي لأعلن عن نفسي، وأعرضها خاطباً مستجدياً. . . ولكني أحبّ أن تفكروا في هذا الأمر تفكيراً جدياً. إننا قد شبعنا من الخطب ومللنا من المقالات، فهل فيكم أب مسلم له بنات يكون قدوة طيبة للآباء المسلمين الطيبين، فليفتش عن شاب صالح جاد فيزوجه بما يستطيع من المهر والنفقات: بخمسين ليرة سورية بثلاثين لم لا؟ أهي تجارة؟ أتريد زوجاً لبنتك صالحاً تسعد به ويسعد بها، وينشئان أسرة شريفة مستورة سعيدة
أم تريد ذهباً تبيع به ابنتك؟
هذا دواء هذا المرض العضال. هذا حل المشكلة. فإذا لم تحلوها اليوم لا تنحل أبداً، إذا لم تداووا المرض اليوم يموت المريض. . .
فيا وجهاء هذا البلد، الوجاهة بالعمل النافع، وبالتقوى والإصلاح، لا بالمال ولا بالفخفخة الفارغة، ولا بالعظمة الجوفاء ولا بالمراتب العالية، فاعملوا أو فتنحوا عن أماكنكم لمن يعمل!
وإن من الحماقة التي ليس وراءها حماقة أن تبن الأسرة الثابتة على عاطفة متبدلة متحولة. من الحماقة أن يبنى الزواج على الحب. منذَ الذي يبني داره على كِثب من الملح في طريق السيل؟ الحب فراشة حلوة، فيها أجمل الألوان ولكنها لا تعيش إلا يوماً واحداً. الحب زهرة فوّاحة ليس لها في الروض مثيل، ولكنها تذبل عند أول لمسة. من رأيي في الحب أنه لا يكون إلا إذا كان أمل، وكان مع الأمل حرمان، كالكهرباء لا تضيء المصباح إذا التقى فيها القطبان المختلفان. أنت تحب المرأة لأنك لا تقدر عليها، فتسبغ عليها من خيالك ثوباً تراها فيه أجمل الناس، فإذا قدرت عليها، وخلعت هذا الثوب عنها، عادت امرأة كسائر النساء. انظروا إلى الزوجين الحبيبين في شهر العسل، وقد ذهبا يسيحان ينعمان بالخلوة الحلوة، في اجمل البقاع، أو أكبر المدن، تحسبوا أن السعادة قد جمعت لهما من أطرافها، ولكن اقتربوا منهما تروا أنها لا تمر إلا أيام حتى لا يجدا ما يتحدثان به، إلا حديث الأيام الأولى، يوم كان أمل وكان حرمان، ثم تمضي الليالي، وتبلى جدّة هذا الحديث، فلا يبقى بينهما كلام. . .
وماذا في لغة الحب، غير (أحبّكِ) و (أحبّكَ) رددها مائة مرة فإنكم تنامون. . .
فلنعلن إذاً أن بناء الزواج على الحب وحده لا يرضاه الإسلام، لأنه لا يرضاه العقل. . . فهل نعود إذن إلى طريقتنا الأولى: تخطب لي عمتي أو خالتي، وتنتقي لي الزوجة على رأيها، وأنزل أنا على حكمها، وأعلق مستقبلي بها، وأمضي العقد وأمشي إلى حفلة العرس، وأنا لا أعرف ما لون عين العروس وما شكل أنفها؟
هذه طريقة سقيمة عقيمة. . . فماذا نصنع إذن؟ ما هي الطريقة المثلى؟ هي يا سادتي طريقة الإسلام. إن الإسلام منح الخاطب (بعد أن يتم الرضا عنه، ويرجح جانب قبوله
صهراً) أن يرى وجه المرأة وكفيها، أن يجلس معها (بحضور وليها). . . هذه هي سنة الدين، ولكن الآباء جاهلون، يأبون أن يرى الخاطب الصالح وجه الفتاة، ثم يخرجونها إلى الأسواق، متبرجة متهتكة، يرى أكثر من وجهها وكفيها الفاسق والخبيث، وكل من كان في الطريق، حتى الحمار!
إننا تركنا قواعد الإسلام، فتركنا الفلاح والنجاح
(البقية في العدد القادم)
علي الطنطاوي
المدرس في كلية بيروت الشرعية
من برجنا العاجي
فكرة الضحية وإهراق الدم للمعبود لم تزل باقية إلى اليوم. فالوثنية قد خلفت تقاليد لم يكن محوها من اليسير. إن ذبح الخروف في العيد الكبير إن هو إلا ظل باهت لتلك العهود التي كان يُدفع فيها الآدمي للذبح عند أقدام الهياكل. ولكن الزمن غير الشكل ولم يغير المبدأ. إن الإنسانية في تطورها لا تمحو شيئاً غرس في طبيعة الإنسان من قديم. . . ولكنها تبدل في لونه وطلائه، وتعدل في ملامحه وتكسوه ثياباً أخرى، وتسميه اسماً جديداً يتفق مع روح العصر الجديد. فالإنسان لا يتغير. إنما يتطور. ولم يغب ذلك عن حكمة الأديان. فهي في تعاقبها لم تنسخ كل ما رسخ من عقائد الإنسان. ولكنها أخذت أكثر هذه العقائد بالرفق، فهذبت من وسائلها وغاياتها. فالضحية الآدمية جعلتها ضحية من الحيوان؛ والغاية منها، وقد كانت إرضاء المعبود وحده، حولتها إلى إرضاء الله بإرضاء الفقير في يوم العيد
هنالك شيء ينبغي أن نتدبره إذا أردنا إحداث انقلاب في حياة البشر. الحذر كل الحذر من أن نقتلع شيئاً من جذروه، فإن ما نبت في قلب البشرية لا يقتلع. إنما نحن نستطيع دائماً أن نهذب ذلك الغرس وأن نميل به إلى حيث تريد ريحنا. وأن نبدل بما نشتهي ألوان أزهاره وثماره، وأن نولد منه أقوى الأشجار. . . وهكذا نخرج للحياة مما كان وعلى أساس ما كان، ذلك الذي يقول فيه الناس إن عين الشمس لم تره. آه! ما أصدق تلك الكلمة: لا جديد تحت الشمس. نعم. إن يد (الطبيعة) لا تبرز جديداً ولا تميت قديماً، ولا تمحو من الوجود، ولكنها تعدل وتبدل في الموجود. فلنتذكر دائماً أن لا شيء ينعدم في الطبيعة. وليست (المادة) وحدها هي التي لا تنعدم، كما يقول الكيمائيون. كل شيء لا ينعدم في هذا الوجود. إن الطبيعة لا تعرف كلمة (العدم) ولكنها تعرف كلمة (التحول)
ذلك أسلوب الخالق الأزلي
توفيق الحكيم
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 -
1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 24 -
(. . . . إنه ليتفق لهذا الكاتب من أساليب البيان ما لا يتفق مثله لكاتب من كتاب العربية في صدر أيامها!)
عباس محمود العقاد
الرافعي والعقاد
ذلك كان رأي العقاد في الرافعي قبل بضع عشرة سنة من هذه الخصومة التي أروي خبرها. وشتان بين هذا الرأي يبديه العقاد سنة 1917 في مقال ينشره ليعرِّف بكتاب من كتب الرافعي أنشأه في ذلك العهد، وبين رأيه الأخير في المهذار الأصم مصطفى صادق الرافعي كما يسمه في سنة 1933!
إن هذه الخصومة العنيفة بين الرافعي والعقاد قد تجاوزت ميدانها الذي بدأت فيه، ومحورها الذي كانت تدور عليه، إلى ميادين أخرى جعلتْ كلاًّ من الأديبين الكبيرين ينسى مكانه ويغفل أدبه ليلغ في عرض صاحبه ويأكل لحمه من غير أن يتذمم أو يرى في ذلك معابة عليه. وكان البادئ بإعلان هذه الحرب هو الرافعي في مقالاته على السفود. .
هم ثلاثة أو أربعة من كتاب العربية في الجيل الحديث كانت لهم هذه الخلة المرذولة في النقد وفي أساليب الجدل. هذان اثنان منهم وكان للرافعي مع كل واحد من الاثنين الآخرين معركة. على أن أشد هذه المعارك عنفاً وأبعدها عن حدود الأدب اللائق هي المعركة بينه وبين العقاد!
وكان بدء هذه المعركة كما قدمت حديثاً خاصاً بين الرافعي والعقاد في دار المقتطف، حول حقيقة إعجاز القرآن، وكتاب إعجاز القرآن. وكان للعقاد فيهما رأي غير رأي الرافعي،
فكانت غضبة الرافعي الأولى لكرامة القرآن والعقادُ ينكر إعجازه؛ ولكتابه والعقادُ يجحد فضله؛ ثم كانت الغضبة الثانية للتهمة التي رماه بها العقاد حين جبهه بأنه افترى كتاب سعد ونحَلَه إياه في تقريظ إعجاز القرآن ليروج عند الشعب. . .
فثمة سبب عام أنشأ هذه الخصومة، هو إيمان الرافعي بإعجاز القرآن إيماناً لا يتناوله الشك؛ وسببان خاصان: هما رأي العقاد في كتاب الرافعي، ثم تهمته له بأنه مفتر كذاب. . .!
تُرى أي هذه الأسباب الثلاثة هو الذي أثار الرافعي فدفعه إلى الخروج عن الوقار والأدب الواجب فيما أنشأ من مقالات (على السفود). . .؟ الرافعي يقول: إنها غضبة لله وللقرآن، وللتاريخ رأي آخر سيقوله فيما بعد، لست أدري أيفارق الرأي الأول أو يلتقي وإياه على سواء. . .!
ولكن كتاب على السفود مع ذلك لا يتناول مسألة المسائل في هذا الخلاف؛ فلا يتحدث إلا عن شعر العقاد وديوان العقاد؛ ثم عن أشياء خاصة تعترض في فضول القول وحشو الكلام؛ فأين هذا مما دارت عليه المعركة من أسباب الخصام. . .؟ الرافعي يقول: هذا أسلوب من الردّ قصدْت به الكشف عن زيف هذا الأديب والزراية بأدبه؛ حتى إذا تقررت منزلته الحقيقية في الأدب عند قراء العربية، لا تراهم يستمعون لرأيه عندما يهم بالحديث عن إعجاز القرآن. وهل يحسن الحديث عن إعجاز القرآن من لا يستقيم منطق العربية في فكره، ولا يستقيم بيانها على لسانه؟. . . هكذا يقول الرافعي!. . .
ومن ثم بدأت المعركة على أعين القراء. . .
يقول الأستاذ إسماعيل مظهر في مقدمته لكتاب (على السفود):
(. . . أردنا بنشر السفود أن نرضي من أنفسنا نزعتَها إلى تحرير النقد من عبادة الأشخاص، ذلك الداء المستعصي الذي كان سبباً في تأخر الشرق عن لحاق الأمم الأخرى. . .)
(. . . ونقدم بهذه المقدمة تعريفاً لما قصدنا من إذاعة هذه المقالات الانتقادية التي أعتقد بأنه لم يُنسج على منوالها في الأدب حتى الآن!)
(وعسى أن يكون السفود (مدرسةَ) تهذيب لمن أخذتهم كبرياء الوهم، ومثالاً يحتذيه الذين
يريدون أن يحرروا بالنقد عقولهم من عبادة الأشخاص ووثنية الصحافة!)
أما أن تكون هذه المقالات الانتقادية لم يُنسج على منوالها في الأدب الحديث فَنَعم، وأما أن تكون مدرسة للتهذيب ومثالاً يحتذيه النَّقدةُ فلا. . فليس بنا من حاجة إلى أن يحتذي النقدةُ هذا المثال في أسلوب النقد والجدل فيزيدوا عيباً فاحشاً إلى عيوب النقد في العربية
والحق الذي أعتقده أن في هذا الكتاب - على ما فيه - نموذجاً في النقد يدل على نفاذ الفكر ودقة النظر وسعة الإحاطة وقوة البصر بالعربية وأساليبها. ولكن فيه مع ذلك شيئاً خليقاً بأن يطمس كل ما فيه من معالم الجمال فلا يبدو منه إلا أَدَمُّ الصور وأقبح الألوان، بما فيه من هُجْر القول ومر الهجاء؛ ولئن كان هذا مذهباً معروفاً في النقد للرافعي وخصمه واثنين آخرين من كتاب العربية في هذا الجيل - إننا لنريد للناقدين في العربية أن يكونوا أصحَّ أدباً وأعفَّ لساناً من ذاك. . .!
ذلك رأي قلته للرافعي - يرحمه الله - فما أنكره عليّ ولا اعتذر منه؛ فما يمنعني اليوم شيء أن أعلنه صريحاً إلى الأدباء. ولقد همّ الرافعي منذ سنوات ثلاث أن يجمع كل ما كتب في النقد بعد كتاب (المعركة) في كتاب واحد؛ فأبديت له الرأي أن يضم إلى هذا المجموع مقالات (على السفود) بعد أن يجردها مما يعيبها حرصاً على ما فيها من الفن؛ فارتاح لهذا الرأي واطمأن إليه، ولكنه لم يفعل، إذ حالت الحوائل دون تنفيذ فكرته
وإنها لخسارة أن ترى التمثال الفني البديع مغموراً في الوحل فلا تصل إليه إلا أن تخوض له الحمأة المنتنة وهيهات أن تُقبل عليها النفس؛ وإنها لخسارة على العربية أن ترى هذا الفن البديع في النقد يتكنفه هذا الكلام النازل من هجر القول ومر الهجاء
ولقد كان الرافعي نفسه يعترف بأن في الكتاب ما لم يكن ينبغي أن يقول، وبأن خصمه بما قال فيه كان يملك أن يسوقه إلى المحاكمة؛ ولكن الرافعي مع ذلك كان مطمئناً إلى شيء آخر. .
قال الرافعي: (. . . قال لي قائل: لقد قلت في العقاد ما كان حرياً أن يقفه وإياك أمام القضاء!. . . ولكني يا بني كنت على يقين بأن العقاد لن يفعلها؛ إنني كنت أهاجم العقاد بمثل أسلوبه في النقد، وإن معي لورقات بخطه لا يسره أن أجعلها دفاعي أمام المحكمة فيخسر أكثر مما يربح. ولقد قرأت من هذه الورقات على مستشار كبير فأيقن بما أنا موقن
وحكتْ لي محكمتُه. . .!)
ذلك حديث الرافعي. . . فهل كان هذا حسْبَه من العذر فيما كتب؟
على أن كثيراً من قراء على السفود لم يعرفوا كاتبه إلا بعد سنين؛ وكان في هذا خير للرافعي ولسمعته الأدبية ولمكانه من نفوس القراء؛ إذ كان العقاد يومئذ هو كاتب الوفد الأول، والوفدُ هو الأمة كلها، قراءها وعامتها وشيوخها وشبابها؛ فكان العقاد بذلك هو عند الشعب إمام الكتاب وأمير الشعراء، لا يعاديه إلا خراج على الأمة أو مارقٌ من الوطنية، ولو كانت عداوته في مسألة أدبية لا تتصل بالسياسة، ولو كانت مناقشته حول إعجاز القرآن. . .!
ثم كانت هُدْنةٌ بين الرافعي والعقاد، صمت فيها الخصمان طويلاً وكل منهما يتربص بخصمه ليضربه الضربة القاضية، فلما مات المرحوم شوقي بك في خريف سنة 1932، انتهز العقاد نهزة ليبدأ مع خصمه معركة جديدة لم تكن هي آخر العراك بينهما
(شبرا)
محمد سعيد العريان
أبو إسحاق الصابي
للأستاذ عبد العظيم علي قناوي
- 4 -
كان العصر الذي نشأ فيه أبو إسحاق الصابي عصراً زاخراً بالكتاب النابغين والشعراء المجيدين ممن خلفوا للغة ثروة ثمينة خالدة، وتركوا في الأدب روحاً فريدة صافية؛ إذ لم يعدْ الخيال وقفاً على الشعر، بل تعداه إلى الكتابة والنثر، فضرب الكتاب به في ضروب متنوعة لم تعهدها العربية، وساروا به في دروب متشعبة لم يألفها من قبلهم، وإن أعزم بها وسار على نمطها من جاء بعدهم. ولعلَّ من أعظم البواعث على رقي النثر والشعر في هذا العصر ذلك الاضطراب الذي انتظم جميع شئون الدولة؛ فهناك اضطراب ديني يدفع إلى الجدل والمنافحة، والنقد والمدافعة واضطراب سياسي، يسوق إلى المؤازرة والمعاضدة، والمنافسة والمعارضة، فكان ذلك الجو المضطرب جو صفاء للغة وآدابها، وهذا العصر المكهرب عصر ازدهار للنثر والشعر على السواء، فاتسع أمام هؤلاء وهؤلاء أفق الابتكار، ولمع مجال الابتداع، وأوحى إليهم ذلك المعترك المنطق الخلاب، والخيال الصافي والبيان الرائع والنسيج الساحر، فجاء نتاجهم عصارة أذهانهم، وذوب أفكارهم، وصفوة قرائحهم؛ تعمقاً في إبراز فكَرهم واضحة جلية، وتعملاً في تنسيق آرائهم ناصعة صفية؛ لتبدو للقارئ مصقولة مستساغة يرضاها عقله البريء؛ إذ لا يعتورها وهن ولا التواء، ولا يكتنفها غموض أو إبهام، وكثيراً ما كانت تدفعهم أحداث السياسة ودفع ما قد ينتظرهم من كوارث، وخوف ما ربما استقبلهم من حوادث، فيما لو تغير مجرى الأمور إلى الكتابة اللولبية، لا تكاد تتبين مرماها، ولا تعرف مأتاها أو مؤداها، إمعاناً في الإبهام، وإيغالاً في الإبهام. وناهيك بعصر نامت فيه السكينة وصحت الفتنة، وأشرقت الأسارير، وأظلمت السرائر؛ فملوكه متنافسون، وأمراؤه متنابزون، وقواده متحفزون، لا يخشى أحد هؤلاء قربى، ولا يأبه لزلفى، كلما جمعتهم جامعة فرقتهم شيعاً مآربُ، وإذا ألف بينهم حلف نقضته دوافع، وأولئك جميعاً يريدون الأدب للسياسة فرساً ذلولا يركضون متنه وسيفاً مسلولاً يشهرونه على ضغنهم، والويل أي ويل لمن تخلف عن الطاعة أو نكص دون تنفيذ الإرادة، إنه إذن لمن المنبوذين المبغضين، ينتظره الحيف ويترصد له الظلم كل مرصد. ومن هنا كان
البطش ببعض الكتاب والشعراء سنة مسنونة، فمن أمن اليوم فهو قليل الأمن والدعة غداً، ومن سعد فترات ترقبه النحس سنوات
ومن كتاب ذلك العصر الذي أسلفت وصفه الرئيس ابن العميد، والوزير ابن عباد، والكاتب أبو بكر الخوارزمي؛ ومن شعرائه أبو فراس الحمداني، وأبو الطيب المتنبي، والشريف الرضي. ولقد كان الصابئ مع معاصرته لأولئك الأفذاذ الذين قلما يجود الدهر بأمثالهم، أو يسمح بمن يجري على غرارهم جملة - مرموق الأثر، موموق الخبر؛ يجري أسمه على الألسنة في مراتع اللهو والأنس، أو مهامه اليأس والبؤس، وتتناقل أنباءه الأندية إن أصابته غبطة ونعماء، أو مسته مخمصة وضراء، وتعمر به المحافل والمجالس متى صفرت منه المعاقل والمحابس، وهكذا دواليك يظهره تاريخه حركة دائبة، لا تقفها نعمى تركن بها الدعة، ولا تفدحها بؤسي، فتستسلم للشدة، فهو كادح في الحالين، وأداة عاملة لا يعطل محركاتها ميسرة أو معسرة. ولكأني به يشحذه طول الضراب، ويستثير شعوره أمل الثواب، ويستحيي وجدانه توقع العقاب، فيأتي بما يلذ السامع سمعه، ويعجب القارئ وقعه، وسيبرز هذا الوصف واضحاً جلياً ما سأقدمه بين يدي الكتاب من كتاباته، وما أعرضه على الشعراء من فرائد أبياته، فسنرى أن أروع نثره وأقواه ما جاء في الشكوى؛ وأرق شعره وأرقاه ما جرى في العتبى، ولقد عرف له فضله حامدوه وحاسدوه، ونفس عليه أدبه شاكروه وكافروه، وحسبه ذلك فخراً
نعم إن الصابي كان في الشكوى والاستماح، والنصح والاستنصاح قوي الصوغ والنسج رائع التصوير والخيال بارع المنطق والبرهان، لا تعوزه الحجة، ولا تنأى دون غرضه المحجة. وإذا كان (خير الأدب ما انبعث عن عاطفة صحيحة لا مريضة) فشكوى الاعتقال وذم الحبس يصدران عن عاطفة صحيحة قوية لا سقيمة ضعيفة؛ ودعك من حبس الجسم والحد من حريته، فذلك أهون خطبه وأيسر أمره، وإنما مر الشكاة تصدر عن سجين العقل معتقل الفكر مرهف الحس، فذلك إذ ينثر أو يشعر يعبر تعبيراً قوياً جياشاً يستثير به العواطف الكامنة، ويستجيش المشاعر الهامدة، ليبعث فيها عواطف ثائرة للعطف عليه ولتستحيل المشاعر الخامدة مشاعر مشتعلة للبر به، ومن يطالب مثل ذلك بالصبر والسلوى والسكون إلى البلوى وعدم الشكوى، أو يعتبر إعلان ألمه خوراً في أدبه، أو استظهار
الناس إلى معرفته ضعفاً في خلقه، متطلب في النار جذوة نار، أو هو كما قيل:
ومن البلية أن يسام أخو الأسى
…
رعىَ التجلد، وهو غير جماد
ولو أن أبا أسحاق كان في سياسته كما كان في ديانته، يكتب عن إيمان، ويصدر عن عقيدة (مهما كانت حقيقتهما) لنجا بعض النجو من كثير مما أمضه، ولكنه كما يروي الثعالبي كان يكتب كما يؤمر، وكان كالمركب السهل يوجهه راكبه حينما شاء، فهو يتحدث بما يمليه عليه ربه، ويعبر عن أفكار مولاه، ومع هذا فإنه يأتي بالعجيب، فكيف به إذ يكتب عن عاطفة أو يشعر عن حافزة؟ إنه ليجمع بين اللفظ الرشيق والمعنى العميق، ومن ذلك الذي يبلغ به فنه الجمع بين لغة الألفاظ ولغة العواطف إلا الكاتب المالك عنان قلمه؟ (لأن الألفاظ (كما يقول الأستاذ أحمد أمين) لم توضع لنقل العواطف، وإنما وضعت لنقل المعاني، والألفاظ أعجز ما تكون عن نقل عاطفة الأديب إلى القارئ، فكيف أنقل إعجابي بالطبيعة، أو أنقل حباً ملأ جوانحي أو غضباً استفزني، أو رحمة ملكت مشاعري! لم توضع الألفاظ لشيء من ذلك، وإنما وضعت لنقل مقدمات ونتائج منطقية، ولكن ما حيلتنا وقد خلقنا عاجزين لم نمنح لغة العواطف، ولابد لنا من التعبير عنها ونقلها إلى قارئنا وسامعنا، لذلك استخدمنا لغة العقل مرغمين، وأردنا أن نكمل هذا العجز بضروب من الفن كموسيقى الشعر من وزن وقافية، وكالسجع وكل ضروب البديع، وليس القصد منها إلا أن نكمل نقص الألفاظ في أداء العواطف) إذا كان ذلك الرأي صحيحاً ولا أخاله غير ذلك، فقد بلغ الصابي أفقاً لم يبلغه كاتب سواه
ويجدر بنا إذ نتحدث عن نثر الصابي أن نقسمه أقساماً ثلاثة: النثر الديواني، والاخواني، والنثر العام غير المقيد بأحد هذين الوصفين
فأما كتابته الديوانية فكان يصورها باللون الذي يريده عليه سيده ويرسمها بالريشة التي يهبها له، فتارة تبرز سافرة واضحة هينة لينة، ناصعة الكلمات رقيقة الفقرات رفيعة اللمزات والغمزات، تبعث في نفس قارئها الرضا إن كان غاضباً، وتوليه العتبى إن كان عاتباً، والسكون إن كان عاصفاً، وربما لمحت في ثناياها الحكمة العابرة، والأمثال السائرة. فمن ذلك قوله يؤلف بين عز الدولة وابن عمه عضد الدولة على لسان أولهما:
(والله العالم أني مع ما عودنيه الله من الإظهار، وأوجدنيه من الاستظهار، ومنحنيه من
شرف المكان، وظل السلطان، وكثرة الأعوان - لأجزع في مناضلة عضد الدولة من أن أصيب الغرض منه، كما أجزع من أن يصيب الغرض مني، وأكره أن أظفر به، كما أكره أن يظفر بي، وأشفق من أن أطرف عيني بيدي، وأعض لحمي بنابي)
وأحسبه خشي أن يدور بخلد أحد أن عز الدولة يتهافت على مرضاة قرنه أو أنه يرهب مصاولته وضعفه، فبدأ الكتاب بأسلوب القوي الصارم، واستهله بلهجة الغالب الظافر، فذكر العز والمنعة، والقوى والمنة، والملك والسلطان، والجند والأعوان وتأييد الله له، والتفاف الأمة حوله، ثم ثنى بالغرض الذي إليه أراد، وهي فطنة وذكانة في جزالة ورصانة. ومن ذلك قوله أيضاً وفيه حكمة ومواعظ، وتبصره وذكرى، وإن أنكر عليه الحكمة إلا قليلاً الدكتور زكي مبارك في كتابه النثر الفني حيث يقول:(وقد تصفحنا رسائله غير مرة لنرى أثر الحكمة فيها فوجدناه ضئيلاً):
(إن انتثار النظام إذا بدا - والعياذ بالله تعالى - لم يقف عند الحد الذي يقدر فلان أن يقف عنده، ولم يخصص الجانب الذي يظن أنه يلحقه وحده، بل يدب دبيب النار في الهشيم، ويسري كما يسرى النغل في الأديم؛ وكثيراً ما تعدى الصحاح مبارك الجرْب، ويتخطى الأذى إلى المرتقى الصعب)
وتارة يشاء الموحي إليه صرامة وحزماً، فتقرأ له كتباً أقوى من كاتبها منة، وأرصن من منشئها قوة، تخالها إذ تقرؤها لرجل مارس الحروب، وخفقت فوق رأسه الألوية والبنود، وسبح فوق متون الجباد، وأوتي قوة وعزمة في القيادة والجلاد؛ فهو يتقمص روح مليكه، أو يستعيره قلبه الفتي عندما يهم بكتابة رسالة من هذا النوع. وكأني به يعصر فكره، ويقدح ذهنه، ويكد عقله، ليأتي بالمعاني الشاردة تتصدع لها القلوب، والألفاظ الصادعة تصك الآذان؛ فكل كلمة من كلماته وعيد ونذر، وكل فقراته نار يتطاير منها الشرر؛ وقد يخلطها أحياناً بالسخرية اللاذعة، والتهكم الساخر والهزء الممض، دون إفحاش في ذلك أو بذاءة. فمن ذلك ما كتبه على لسان عز الدولة إلى سبكتين الغزني:
(ليت شعري بأي قدم تواقفنا، وراياتنا خافقة فوق رأسك، ومماليكنا عن يمينك وشمالك، وخيولنا موسومة بأسمائنا تحتك، وثيابنا المنسوجة في طرزنا على جسدك، وسلاحنا المشحوذ على أعدائنا في يدك). ويقول له أيضاً:
(تناولتك الألسنة العاذلة، وتناقلت حديثك الأندية الحافلة، وقلدت نفسك عاراُ لا يرحضه الأعتذار، ولا يعفيه الليل والنهار). وتحدث عنه فقال:
(هو أرق ديناً وأمانة، وأخفض قدراً ومكانة، وأتم ذلاً ومهانة، وأظهر عجزاً وزمانة من أن تستقل به قدم مطاولتنا، أو تطمئن له ضلوع على منابذتنا، وهو في نشوزه عنا وطلبنا إياه كالضالة المنشودة، وفيما نرجوه من الظفر به كالظلامة المردودة)
ومن هذا الطرز قوله أيضاً:
(ولما بَعُد صيته بعد الخمول، وطلع سعده بعد الأفول، وجمعت عنده الأموال، ووطئت عقبه الرجال، وتضرمت بحسده جوانب الأكفاء، وتقطعت لمنافسته أنفاس النظراء، نزت به بطنته فأدركته شقوته، ونزع به شيطانه، وامتدت في الغي أشطانه)
وإنا لنجد في كتبه ورسائله محاولة قد تكون ناجحة في هدم الرجال وتخضيد شوكتهم وتعضيد قوتهم، تلك هي التهوين من شأنهم والحط من قيمهم، فيصمهم بوصمة الذل، ويسمهم بسمة الرق؛ وذلك أحز في النفس، وأعلق بالذهن، وأجرى على الألسن؛ وربما كان حديث تنادر، وطرف فكاهة. وهو يلم بالموضوع الذي يتناوله، فلا يترك فيه فرجة إلا سدها، ولو كوة إلا رقعها، وربما استخدم في سبيل ذلك الطب الذي تعلمه في يفعه استخداماً نافعاً؛ فقد عهد الخليفة إلى عالم بالقضاء فكتب إليه يوصيه، فكانت وصاته خليطاً من حكمة الأطباء، وطب الحكماء، فذكر بأن البطنة شر الأدواء، ونبهه على أنها تذهب الفطنة، ثم بصره عواقب البطر، وخوفه آثار الشره، وأنهما يفسدان عليه أمره، ويحطان من قدره، وإليك كتابه:
(وأمره أن يجلس للخصوم وقد نال من المطعم والمشرب طرفاً يقف به عند أول حده من الكفاية، ولا يبلغ منه إلى آخر النهاية، وأن يعرض نفسه على أسباب الحاجة كلها، وعوارض البشرية بأسرها، لئلا يلم به من ذلك ملم، ويطيف به طائف، فيحيلانه عن رشده، ويحولان بينه وبين سداده)
وهذه فقرات من رسالة يصف فيها حرباً نشبت بين المسلمين والروم، وكانت الغلبة للمسلمين، يصور فيها الحرب وقد حمي وطيسها، واشتعل أوارها، فتتخيل إذ تقرؤها أنه أحد قوادها وبطل من أبطالها؛ فإنه ليبعث النخوة في النفوس، ويثير الحمية في الرؤوس،
فكأنه يشرع الأسنة لا اليراع، ويشهر الرماح لا الأقلام؛ وإن القارئ ليحسب أن كاتب الرسالة رجل من صفوة المسلمين، وتقي من خلاصة المتقين، لا صابئ من الكفار الجاحدين، فهو يقول:
(فلما استعرت الملحمة، وعلت الغمغمة، ودارت رحى الحرب، واستحر الطعن والضرب، واشتجرت سمر الرماح، وتصافحت بيض الصفاح، تداعى الأولياء بشعار أمير المؤمنين المنصور، وتنادى الكفار بالويل والثبور، فنكصوا على أقدامهم مجدين في الهزيمة، واعتدوا الحشاشات لو سلمت لهم من أعظم الغنيمة، واستلحمتهم السيوف، واحتكمت فيهم الحتوف، وأخذ المسلمون منهم الثار، وعجل الله بأرواحهم إلى النار)
ورسائله الديوانية كثيرة، فلقد خدم عدة ملوك، وطال به العمر فاتصل بكثير من الولاة والأمراء. ولعل ما بين أيدينا من كتابته في هذا الباب قُل من كُثر، فقلما يعني المؤرخون بمثل هذه الرسائل، وإلا لكان له ولغيره ممن اتصلوا بالسلطان عن قرب أو بعد مجلدات يعيا بها العبء، فلنجاوز هذا الضرب من النثر، فقد عرضنا منه ما فيه الغناء؛ وسنتحدث مستقبلاً عن الضربين الآخرين إن شاء الله، ولن تقف بنا دورة الفلك
عبد العظيم علي قناوي
الترجمة خطرها وأثرها في الأمم المختلفة
للدكتور عبد العزيز عزت
1 -
عند الرومان
تمر على الأمم في تاريخها فترات تشعر خلالها بحاجة إلى رفع نفسها إلى مستوى من سبقها من الشعوب في مضمار التقدم الفكري، فيحدث إبان ذلك نوع من الهجرة الثقافية في أنواع المعارف المختلفة وخاصة في مجال الفلسفة، لأنها حتى منتصف القرن الثامن عشر، أي قبل أن تأخذ فلسفة كانْت شكلها الحاسم، كانت تفهم بأنها مجموع العلوم الإنسانية. ومن الطرق التي تمهد لهذه الهجرة الثقافية: الحروب تارة كما حدث إبان الحروب الصليبية من اشتباك التفكير المسيحي والتفكير الإسلامي، وتارة التجارة فهي بجوار ما تحمله من السلع تحمل على وجه خاص تفسيراً لها وشرحاً عقلياً. وأمر الفينيقيّين معروف في هذا الباب؛ ومنها الرحلات وأهميتها ظاهرة عند أفلاطون وتأثره بالتفكير المصري القديم كما يلاحظ ذلك عنده في مقدمة كتابه (طيماؤس) وكذلك عن ابن خلدون في (مقدمته)؛ ومنها البعثات العلمية في خارج البلاد كبعثات فرنسا في ألمانيا، فرافيسون يشيد بذكر أستاذ شلنج واستاذنا بوجليه يشيد بذكر أهرنج وكبعثات مصر في فرنسا، فهناك من ينطق باسم جوستاف لوبون وهناك من يبشر باسم ديكارت وغير ذلك. ولكن مهما يكن لهذه الطرق من الأهمية في هجرة الثقافة، فهي في نظري ناقصة لأنها لا تخلق إلا عرفاً ثقافياً.
ومن أصول العرف عامة إلا يستقر على قرار متين، لأنه يخضع لظاهرة التقليد في المجتمعات البشرية كما يؤكد ذلك العلامة تارد في كتابه (القوانين الاجتماعية). لهذا لوم خلق قانون وضعي للثقافة يحدد شرعتها واتجاهها ويضمن لها الاستقرار والإنتاج خلال نزعة معينة، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا بالترجمة فهي الأساس الأول الذي عليه يبنى (التماسك) الفكري في عقلية الفرد، والتماسك الفكري في عقلية المجتمع
وأهمية الترجمة تتلخص في أربعة أفكار نجدها عند زعيم الأدب الفرنسي وأستاذه السابق بمدرية المعلمين العليا بباريس العلامة لانسون في (مجلة التاريخ الأدبي لفرنسا) عام 1896
أولاً - تمهد الترجمة لخلق (فكرة عامة) عن الشعب المترجم عنه، لأن الشعب المترجم إليه
سيهتم في ذلك الحين بتعرف تاريخه في كل نواحيه، وحالته السياسية والاجتماعية الراهنة، وآدابه وفنونه، وسائر أنواع نشاطه التي تكوّن حضارته في مجموعها
ثانياً - الترجمة تحقق (الاستفادة المؤكدة) في موضوعات معينة، خلال تيارات محدودة للفكر، إبان زمن معين للشعب المترجم عنه، فهي استفادة مباشرة تفصيلية تشتق من مطالعة الكتب المترجمة ذاتها
ثالثاً - الترجمة تخلق موجة فكرية فتوجه الرأي في الشعب المترجم إلى غايات معينة، هذه الموجة هي موجة (تقليدية) فهي استفادة غير مباشرة، وذلك بأن يأخذ كتاب الشعب المترجم إليه نفس موضوعات التراجم ولكنهم يعالجونها من وجهة نظرهم الخاص بهم في بلادهم، أي الاستمرار بالاستفادة المباشرة من قراءة التراجم لمعالجة موضوعات تحل بروح وطنية على ضوء ما تحتويه التراجم من علم جديد، فهي تمهد الاستمرار الوطني الأهلي (بالاستفادة المؤكدة)
رابعاً - بعد هذا ينتج عن الترجمة نوع من الانسجام بين عقلية المترجم عنه والمترجم إليه، وهذا الانسجام هو تداخل عقليتهما، وظهور نوع من التشابه في ألوان تفكيرهما، فيحصل ضرب من الاتحاد في الذوق والتفكير والميول، ويكتسب نشاط الاثنين نفس الشكل، ويتجهان إلى نفس الغاية
لهذا عندما أحس الرومان أنهم أهل حروب وسفك دماء يفرضون استعباد السيف باسم القانون والتشريع على الهادئين المطمئنين من خلق الله - ذهبوا إلى اليونان القدماء ينشدون أصول العقل، واتزان الحس، ومنطق الجمال، ليقللوا من حدة طباعهم، وتنافر غرائزهم، ولينعموا - قليلاً - بما للإنسانية من معان سامية، وآيات قدسية، وأهم من يمثل حركة الترجمة عندهم هو بلا شك، شيشرون ولقد حاول دراسة هذا الرجل كل من العلامة فان هوسدو والعلامة بومهور الأول يبحث عن أثر أفلاطون في مؤلفاته والثاني عن أثر أرسطو فيها، وذهبا إلى طريقة عقيمة في ذلك تتلخص في مقارنة النصوص وتشابه معانيها، مع أن شيشرون أخذ العلم والفلسفة في بلاد مختلفة وليس في أثينا فقط مهبط المشائين من الفلاسفة، فهو قد ساهم في تأثره العقلي لمدارس فلسفية مختلفة، فدرس بجوار ذلك على فدروس الأبيقوري، وفيلون دي لاريس ومن ينتمي إلى تعاليم الأكاديمية
الجديدة كأنطيوخس ودرس على الخصوص على ديودوتس الروافي ومن ينتمي إلى هذه المدرسة كبسدونيس ثم إنهما لم يرجعا إلى الصفات الأساسية التي تميز العقلية الرومانية وأخصها كما يذكر العلامة - الجمع - ' فحقيقة نجد عنده أثراً لأفلاطون وأثراً لأرسطو وإنما كذلك (وقبل ذلك) هناك أثر الرواقيين والأكاديمية الجديدة، فهي التي سادت تربيته عندما رحل إلى بلاد اليونان، وهي التي سادت كذلك في كل مكان في زمانه وقبل زمانه، لأن حروب الأسكندر الأكبر عاقت انتشار مذاهب أفلاطون وأرسطو سواء في المجتمع اليوناني أن المجتمع الروماني - كما يؤكد العلامة جانيه فبعد هذه الحروب حدث كما يحدث عادة بعد انتهاء كل حرب من ضعف أخلاقي لهبوط قيمة الحياة في إفهام المحاربين والانغماس في اللذات كنتيجة للانتصارات، وكذلك ضياع الفهم السياسي وأهمية الفرد في المجتمع، وكذلك انعدام الروح الدينية والاهتمام بالنتائج المادية للغزو، وهذا بطبيعة الحال يجني على التصور السامي لغايات النفس في أمور الحياة. ولما كانت فلسفة أفلاطون كأساس فلسفة (طبيعية) تهتم بفهم عالمنا الخارجي على قياس عالم داخلي هو عالم الأفكار الخالدة، ولما كانت فلسفة أرسطو كأساس فلسفة منطقية تبغي إقامة العلم والوصول إلى الحقيقة المجردة، شعر اليونان بعد تلك الحروب بحاجة إلى فلسفة جديدة تسمو بنفوسهم إلى مستوى أرفع مما وصلوا إليه، أي كانوا بحاجة ماسة إلى فلسفة أخلاقية، لهذا سادت مباشرة تعاليم الرواقيين وظل أرسطو نسياً منسياً حتى القرن التاسع الميلادي حيث ولد من جديد عند العرب، ومن جديد كذلك إبان القرن الثالث عشر الميلادي عند آباء الكنيسة في أوربا خاصة القديس البير الكبير والقديس توماس فهذه هي الحوادث التاريخية الصريحة التي بدونها لا يمكن أن يفهم المنطق التاريخي للفلسفات في جولاتها المتعاقبة
على أية حال لقد كان شيشرون (زنجياً أبيض) لأسياده اليونان القدماء في تفكيره وهو يعترف بذلك في نص صريح تعبنا في استخلاصه من مؤلفاته حيث يقول في الأتيكوس ، ، ما ترجمته:(إن مؤلفاتي لم أجد في كتابتها عناء كبيراً، لأنني بحثت فقط عن الاصطلاحات التي وقفت في وضعها)
وفي واقع الأمر أن أغلب مؤلفات شيشرون إن لم تكن كلها عبارة عن (ترجمة حرفية) للكتب اليونانية القديمة، بل أحياناً يعجز عن وضع الاصطلاحات لبعض التعابير اليونانية
فيتركها على حالها دون نقل، كما فعل بعد ذلك العرب في كلمة (ميتافيزيقا) و (إيساغوجي)، فهو يترك مثلاً اللفظين اليونانيين لكلمتي الأفكار والمغريات عندما يعرض للأخلاق العملية، ونجد في وضوحٍ أثر أفلاطون ظاهراً في نواميس شيشرون وجمهوريته وفيهما يعرض فهمه للسياسة، فهو يبغي تحقيق دولة فيها تمتزج مبادئ الملكية والأرستقراطية والديمقراطية في آن واحد، حتى يستقيم ظل الحكم وتسود الطمأنينة بين عباد الله، لأن الحكومات القائمة في عهده يعتبرها صورية تتخذ من الحكم سبيلاً لفرض السيف على رقاب الناس ووضع الحبل في أعناقهم باسم الحرية تارة وباسم الصالح العام تارة أخرى. وأثر أرسطو على الخصوص في التوسكيلان وفي هورتنيوس حيث يعرض في الأول للنفس الإنسانية في أصلها وطبيعتها وقدرتها في التصور وأنواع ملكاتها المختلفة، وخاصة الشهوات والانفعالات النفسية في كل نواحيها بدقة تفوق الوصف؛ وفي الثاني يعرض للأسباب التي دعته لدراسة الفلسفة وأهمية أرسطوا في هذا الباب
(البقية في العدد القادم)
عبد العزيز عزت
خريج جامعات القاهرة، وباريس، وكليرمون
عضو بعثة الجامعة المصرية لدكتوراه الدولة
التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
- 1 -
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم
ما أحوج بني الإنسان كلما قطعوا شوطاً في طريق هذه الحياة، أن يديروا وجوههم لحظة عن الأفق الذي يستقبلون، وأن يرجعوا إلى ما استدبروا من آفاق متطلعين إلى تلك النجوم الزواهر التي تلتمع على جوانبها، والتي ستبقى هناك ساطعة باهرة ما دار الفلك وما تصرمت السنون
أجل، وما أحوج الإنسانية أن تهتدي في سبيلها بهدى الذين رسموا لها ذلك السبيل؛ وما أحرى قافلتها كلما آدها العبء، أو أعياها السير، أو اعترضتها العقبات، أن تستأنس بقبس من تاريخ أولئك البواسل الأبرار الذين تتألف من سيرهم مجتمعة سيرة البشرية في هذا الوجود
وهانحن أولاء نتجه بعقولنا وقلوبنا إلى سيرة الزعيم (لنكولن) رئيس الولايات المتحدة، أحد أبناء الإنسانية الغر الميامين وأحد أفذاذها البواسل. ولا لوم علينا معشر الشرقيين إذا تخطينا مشرق الأرض إلى مغربها، بل إذا تخطينا الدنيا القديمة إلى الدنيا الجديدة، متخذين قبسنا في هذا الحديث من وراء المحيط. لا لوم علينا في ذلك، فأبناء الإنسانية العظماء متى اجتازوا باب الخلود صاروا للعالم كله، ولا اعتبار في ذلك لشرق ولا لغرب
وما هذه الدنيا الجديدة التي أخرجت بطل حديثنا وما فصلها في تاريخ الوجود؟ برزت الولايات المتحدة كدولة من دول العالم على حين غرة، فكان بروزها السياسي شبيهاً بما يزعمه الجغرافيون عن وجودها المادي، إذ يقولون إن أمريكا، أو الدنيا الجديدة قد برزت
من تحت الماء في حركة من حركات هذا الكوكب! وما كان بروزها السياسي في الحق إلا حركة من حركات الشعوب في هذا المضطرب الواسع الذي نسميه العالم؛ حركة لم تكن متوقعة من قبل، ولم يكن يظن أحد يوم بدأت أنها واصلة إلى ما وصلت إليه!
سمع الناس في أوربا قبل أن تنبعث الرجفة الكبرى من فرسنا بسنوات قليلة عن أنباء عجيبة تأتيهم من وراء المحيط. سمعوا عن الحرية يرف جناحاها الجميلان ويتهلل وجهها الأبلج في تلك الربوع الفسيحة التي وجه كولمبس أنظار العالم القديم إليها قبل ذلك بنحو ثلاثة قرون؛ وسمعوا عن أختها الديمقراطية ترفع علمها وتشهر سلاح الإيمان واليقين، سلاح (جان دارك) الخالد في وجه الطغيان المربد العبوس؛ سمعوا عن مراكب من الشاي تقذف حمولتها في البحر وتأكلها النيران، وسمعوا عن جموع ثائرة تلتقي هاتفة صاخبة، وعن جنود تحشد خفافا وثقالاً، ثم ما لبثوا أن علموا أن الناس روعوا هنالك وزلزلوا زلزالاً شديداً
وجاءت الأنباء تترى بعد ذلك عن حرب طاحنة، تسمع في ضجيجها صيحات الاستقلال وحقوق الإنسان حتى ترامت إليهم الأخبار عن انتصار يتلو انتصاراً تحت راية (واشنجطون). وأخيراً علموا أن إنجلترا سلمت مغلوبة على أمرها واعترفت في عام 1783م بمولد دولة جديدة انتزعت منها انتزاعاً؛ ورأى العالم في ذلك دليلاً جديداً على أن الإيمان يفعل أكثر مما يفعل الحديد والنار!
ولدت دولة جديدة كانت قبل ذلك ولايات متنافرة متباغضة ولكنها وجدت نفسها بعد مولدها مملقة فراضت أحرارها على خشونة العيش، وما كان هؤلاء الأحرار بعد استقلالهم ليشتروا به ثمناً قليلاً وهم سلائل أولئك الذين هاجروا من قبل في سبيل الحرية إلى هاتيك الأصقاع من موطنهم الأصلي في إنجلترا. لذلك تحملوا الفاقة وأخذوا يكدحون كدحاً شديداً، وتولت قبائل منهم حين ضاقت بهم المدن أصقاعا من الأرض البكر تنمو فيها الألفاف والأحراج من وحشي النبات، يشقونها ويفلحونها، ويعيشون فيها عيشة أولية كأنما عادت الإنسانية في أشخاصهم تبدأ حياتها من جديد!
وكان هؤلاء في أصقاعهم هذه منعزلين عن عالم المدنية الانعزال كله، يقيمون الأكواخ من كتل الخشب في جوانب الغابات، ويعيشون على الصيد وعلى قليل من الزرع، ويفعلون ما
كان يفعل آباء الإنسانية الأولون، يتعرضون لعشرة الطبيعة ولا يأمنون شرة الوحوش ولا هجوم القبائل الأصلية من (الهنود الحمر) ويتناثرون هنا وهناك في مساحات هائلة يمشون في مناكبها جماعات ضئيلة العدد حتى ليخيفهم الفضاء وحده ولو لم يكن فيه شيء من عوامل الخوف
في هذه البيئة الساذجة وفي كوخ حقير من الخشب يقوم وسط فضاء الطبيعة الرهيب الرحيب، فتح إبراهام لنكولن عينيه على هذا الوجود في اليوم الثاني عشر من شهر فبراير عام سنة 1809م!
خرج الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة، بل خرج إبراهام لنكولن أحد القلائل الأفذاذ الذين تفخر البشرية بانتمائهم إليها من هذه البيئة ودرج من ذلك الكوخ. وما كان ذلك ليعيبه، بل إنه لمن دواعي الفخار إن قدر لمثل هذا العظيم أن يزهي أو يفتخر. وهو لعمري مدين بجانب كبير من عظمة نفسه وسمو روحه إلى تلك البيئة التي خرج منها؛ ذلك أنه نجا على نقاء عنصره وصفاء روحه من زخرف الحياة وغرورها، ومن مفاسد المدينة وأوضارها، ومن أوهام المجتمعات وكواذب أحلامها، فخلص له معدنه الحر وبقي نقياً لم تعلق به الأوشاب؛ وصار في جميع أفعاله تتكشف جوانب نفسه عن طبيعة صادقة كأنما تتحرك عن إلهام أو تعمل بوحي! وتمثلت فيه البشرية في سذاجتها وكمالها وفي ضعفها وقوتها وفي إسفافها وعلوها؛ وصار الناس يلمحون في سجاياه براءة الطفل وتوقد عاطفته إلى جانب نزعات الفيلسوف ورجاحة عقله! وكم للفقر من يد على العظماء! وكم أخرجت مثل تلك البيئة الطليقة الخالصة من رجال أماثل ومصابيح أعلام قادوا القافلة واستقاموا على الطريقة، أو على الأصح استقامت بهم الطريقة ووضحت المحجة!
ذلك هو لنكولن الناشئ في الشوك من أيامه، وتلك هي صفاته في جملتها كما ستتضح لك فيما سيأتي من حديثه. وكأنك تقرأ سجاياه في أسارير وجهه؛ وتحس فيها ما تعوده في حياته من البأساء والضراء. فإذا نظرت إلى صورته رأيت شبح حياته الأولى في رأسه الأشعث، ولمحت زكانة نفسه في جبهته العريضة العالية المجعدة، وأحسست طيب قلبه وصفاء طويته ورقة عاطفته ونفاذ بصيرته في عينيه الوديعتين المتسائلتين، وتبينت صرامته ومضاء عزيمته في أنفه الغليظ الأشم. ثم أبصرت قوة صبره وشدة تحمله وروعة
استسلامه تختلج كلها على شفتيه المضمومتين المعبرتين عن مض الحوادث، وطالعتك من هاتيك الملامح في جملتها سذاجة الأطفال وهيبة الرجال؛ ثم تهلل من وراء ذلك كله سر العبقرية الذي يدق عن كل وصف ويسمو على كل تحليل!
فتح الوليد عينيه على الوجود في لوح أقيم من الكتل الخشبية في مقاطعة كنتوكي بعد استقلال الولايات بنحو ستة وعشرين عاماً، فنما كما ينمو وحشي النبات في ذلك الإقليم! نما على ما تجود به الحيوانات من ألبانها، وتدثر بجلودها، ثم تغذى ثمار الشجر واضطجع في مهد من أوراقها الجافة كأنه فرخ من أفراخ الطير. ولما بدأ يدر الأشياء وجد عالمه في ذلك الكوخ الذي لم يكن يزيد اتساعه على أربعة أمتار في مثلها والذي لم يكن فيه من الأثاث إلا وحشية وغليظة، من جلود مجففة إلى آنية جافة شوهاء إلى قطع غليظة من الخشب سوتها فأس أبيه التي كان يراها بين آونة وأخرى معلقة على الحائط بجانب أداة أخرى كانت تبدو غريبة في عينه الغريرة، تلك هي بندقية أبيه التي كان يحملها على كتفه كلما سار نحو الغابة، فهي لذلك تختفي في النهار وترى بالليل على حائط الكوخ
وكانت الغابة أو كان الجزء المحيط منها بالكوخ هو نهاية ما يصل خيال من هذا الوجود. حسبه الآن من الوجود أن يلعب ويمرح في هذا المضطرب وإن لم يكن له فيه من رفقة سوى أخته التي تكبره بعام؛ وأن يستمع إلى ما ترويه له أمه من أقاصيص وأنباء يلتهما التهاماً وأن يصغي إلى ما تجيب به عن أسئلته الكثيرة
على أنه كان ينظر إلى الغابة نظرة الرهبة والدهشة معاً؛ وكان يعجب كلما رأى أباه مقبلاً من بين الأشجار، بندقيته على كتفه ومعوله في منطقته، وفي يده طائر أو حيوان يدفعه إلى أمه إذا وصل إلى الكوخ فتأخذه في فرحة ظاهرة وتهيئ الطعام للأب وللأسرة جميعاً
في هذه السن الباكرة يرى الغلام الحياة من قرب رؤية مباشرة، فهو يعيش كما كان يطلب (روسو) في أحضان الطبيعة حيث يرهف حسه ويقوي وجدانه ويعمق خياله وتنبسط نواحي نفسه الصغيرة وتستشف ما في هذا الكون العجيب من سحر وجمال وتستشعر ما فيه من سر ورهبة
أليس يرى من كثب كيف تطعم الأسرة وكيف تكتسي؟ أليس يرى التعاون بين الوالدين وما ينتج من راحة واطمئنان؟ أليس يرى الكدح في سبيل العيش؟ وحسبه في سنة أن يرى ذلك
وأن يلمسه
على أن مجال الحياة يتسع أمامه بعد أن تخطى سنته الخامسة إذا انتقلت الأسرة فأقامت كوخاً جديداً على طريق مطروقة كانت تؤدي إلى إحدى المدن القريبة. وهناك يرى الغلام أنماطاً من الناس غادين رائحين ويرى دواب وعربات وأشكالاً من الملابس تختلف اختلافاً كبيراً عما اعتاد رؤيته على جسد أبيه، فيتأمل ويعجب بينه وبين نفسه
وفي السابعة من عمره يصحب الغلام أباه إلى الغابة، هنالك حيث بدأ يقوم بنصيبه من العمل، فيساعد ذلك الأب الذي يقطع الأخشاب ويصنع الأثاث ويبيعه، ويكسب من وراء ذلك نقوداً تحتاج إليها الأسرة، وإنه لفخور الآن بمساعدة أبيه، لا يحفل بتعب في تلك المساعدة التي يباهي بها أخته، وإن كانت هي أيضاً تقوم بنصيبها في مساعدة أمها؛ ولكن هل كانت (سارا) تستطيع أن تسوي الخشب وتجره وترتبه؟ هل كانت تستطيع أن تحمل الصيد إلى الكوخ كما كان يفعل (أيب) الصغير؟
كان لا ينقطع عن العمل إلا في أيام الآحاد، إذ يجلس وأمه وأخته وأباه أمام الكوخ فيستمع في شغف ولذة لما تلقي أمه من أقاصيص وما تتلو من حكايات مشتقة من الإنجيل. ولقد أحدثت تلك الحكايات في نفس الغلام أثراً عميقاً وظلت مسحتها الدينية تلازمه بعد ذلك في جميع أطوار حياته
وجاء بعض ذوي قرباه فأقاموا إلى جوارهم وأقبل الغلام على خاله وخالته يستزيدهما الأنباء والأقاصيص، وكم كان معجباً بتلك الخالة التي تكتب وتقرأ وتحبذ أن يتعلم الغلام القراءة والكتابة على الرغم من إعراض أبيه عن ذلك وعدم اهتمامه به
وبدا للغلام يوماً فسأل عن أسرته، وأين نشأت، وممن انحدرت؟ فسمع ردوداً مبهمة لم ترو ظمأ نفسه، وماذا كان يتوقع الغلام؟ أكان يحسب نفسه سليل سادة أكابر؟ ولكن ما كان أبعد فكره عن هذا؟ وهل رأى غير بيئته وأسرته؟
ولئن سمع غيره من الأطفال من آبائهم عما كان عليه جدودهم من عظمة وما تقلبوا فيه من نعيم الحياة ورفيع المناصب، لما كان لمثله أن يسمع شيئاً من هذا. وأنى له ذلك وهو ابن الأحراج والأدغال!؟. وغاية ما سمعه عن جده ما حدثه به أبوه ذات مرة، أنه بينما كان يساعد أباه - جد (أيب) - في الغاب ومعه أخواه إذ انطلقت رصاصة من بين الأدغال
فأصابت ذلك الأب فخر صريعاً، وجرى الأخوان نحو الكوخ، وبرز من بين الأشجار أحد الهنود الحمر وحمله يريد أن يأخذه إلى داخل الغابة بعد موت أبيه، لولا أن صوب أكبر الأخوين بندقيته التي أحضرها من الكوخ مسرعاً، إلى رأس ذلك الهندي فأرداه قتيلاً
فسمع الطفل ذلك الحديث وقد علقت أنفاسه ودق قلبه إذ رأى مبلغ ما أحدق بأبيه من الخطر، ورأى أنه أشرف على الموت لولا بسالة عمه لذهب كما ذهب جده، وهاله موت جده على تلك الصورة، وكان ذلك كل ما عرفه عن ذلك الجد، أو قل كان هذا هو نصيب جده من العظمة ومن جاه الحياة! ولكن متى كان الإنسان بجدوده وآبائه؟ وأي فضل لامرئ يرث الجاه ولا يكسبه ويُعْطى العظمة ولا يبنيها؟
تلك هي حياة (أيب) وذلك هو محيطه وهو في السابعة. أجل هي تلك حياة رئيس الولايات المتحدة في أولى مراحلها في أحراج مقاطعة كنتوكي حيث لا مدنية ولا تعليم ولا رفاهة! كلا، بل لقد ذهب الغلام إلى المدرسة في خاتمة تلك المرحلة؛ ولكن أية مدرسة هي؟ كانت كوخاً من كتل الخشب أقيم كما أقيم كوخه الذي يعيش فيه، وكانت تبعد عنه نحو أربعة أميال، وكان يذهب إليها كلما استطاع أن يطلقه أبوه من أعمال النجارة في الغابة فيجلس ساعات مع الصبية على الأرض إلى معلم يعلمهم الهجاء بأن يناولهم كتاباً واحداً يمر عليهم جميعاً الواحد بعد الآخر فيتعلمون الحروف ورسمها ونطقها! ويسأل الصبي نفسه في لهفة شديد متى يستطيع أن يكتب ويقرأ كما تفعل خالته وأمه؟ وإن ذلك غاية مبتغاه ومنتهى هواه
(يتبع)
الخفيف
جوامع النجف الأشرف
للشيخ ضياء الدين الدخيلي
من ذكرياتي التي أنتعش كلما حلقت في سمائها سويعات ممتعة ألقيت فيها محاضرة على زمرة من أساتذة العالم العربي في مدرسة، طالما حنت أضلاعها على جهابذة قادوا الرأي العام الإسلامي وبقوا مصابيح هداه في عصر كانوا هم المهيمنين على جميع مقدرات أمة القرآن. منذ بضع سنوات طرق النجف الأشرف وفد الجامعة المصرية وفي طليعته الأستاذ أحمد أمين والأستاذ الزيات حين كان رسول الأدب إلى عاصمة المأمون. إذ ذاك تحفزت لمقابلة تلك العبقريات اللامعة التي أنفقت ليالي في الاستمتاع بثمراتها الغنية بالغذاء الروحي؛ ما هي إلا خطوات أثقلتها الخواطر والعزمات حملتني أن أغادر مدرسة السيد كاظم البزدي (إحدى المدارس الإسلامية الكبيرة في النجف الأشرف) لاستقبال موكب االثقافة، وإذا بجلبته تملأ مدخل المدرسة الشمالي، فوقفت تحت مصباح زيتي يلفظ أشعته الباهتة كأنه رمز عصر ينقرض؛ في سكون المدرسة الذي زاده اعتكار الليل وروعة المفاجأة - هيبة وجلالاً - وقفت أحدث أفلاذ القاهرة عن قطعة من جسم مزقته الحوادث القاسية عن الحركة العلمية والأدبية في هذا البلد الطيب، أحاطوا بي يصغون إليّ وقد تآلفت القلوب الخفاقة وألهبت العواطف دم العروبة الإسلامية فكللنا بهالة من روابط روحية قدسية. وتمضي الأيام وإذا بسماحة السيد أمين الحسيني ورفيقه دولة محمد علي علوية يزوراننا فأجتمع بهما في نفس البنية لأحداثهما عن حياتنا الدراسية، فأجد في إقبالهما وابتهاجهما طلائع الوحدة العربية والإسلامية تتجلى متجلببة هذه النزعة للتعارف فالتآلف فالتضام؛ وحقاً إن الحركة العلمية في هذه البقعة وأساليب الدراسة - ذات أطراف وأفانين شائقة تتطلع لتفرسها النفوس تواقة لما فيها من مزايا وصبغة خاصة وليدة عوامل عديدة لم تجتمع لغير هذه المعاهد، فقد لاحظت ذلك حتى في الغربيين إذ جاءنا سرب من الأمريكان والإنكليز منذ أيام فزاروا المدرسة وبينت لهم طرفاً من سير الدراسة وترجمت لهم إلى الإنجليزية حديث بعض إخواني من أساتذة ذلك المعهد، فأثار الوضع إعجابهم ولم نشعر إلا وآلات التصوير صوبت شطرنا تلتقط المشاهد المختلفة كأنها تحاول أن تلقي علينا درساً عن تقديس السياح الغربيين للمادة المحسوسة في موضع لم يكترث فيه أبناء مصر وسورية
لغير روحياته، وكم بين الشرق والغرب من شذوذ وفوارق!
الحياة المدرسية في حاضرتنا متشعبة الأطراف، حسبي أن أزودك منها بقطفة العجلان ولمحة الطائر، مخططاً لك فكرة عامة سوف أشفعها بتفصيل واف قد يرضي الأستاذ علياً الطنطاوي ومن شاطره رغبته
يزدحم في جوامع النجف الأشرف ألوف المهاجرين لانتجاع الثقافة الإسلامية قد امتطوا ظهور الأسفار من كل حدب وصوب من شتى الأقطار الشيعية. ففيها العشرات من سورية من جبل عامل وغيره، والألوف من مختلف أنحاء إيران وفيها من سمرقند وبخارى وغيرهما من تركستان، وفيها من أذربيجان وفيها الكثير من الهند والأفغان وهضبة التبت، هذا عدا من يرتادها من أطراف العراق ومن شيعة الحجاز. لذلك قد شيدت في النجف الأشرف المدارس العديدة ذات الغرف المعدة للإيواء الغرباء حيث يكفل المجتهدون (وهم أئمة الشيعة الذين يرجعون إليهم في بيان أحكام دينهم مستنبطيها من القرآن والحديث وأسس التشريع الإسلامي) ضمان معاشهم وتجهيزهم بأهبة الدراسة، ينفقون عليهم من بيوت المال التي تصب فيها الشيعة الذهب والفضة من كل ناحية وجانب باسم الزكاة والخمس وحق الإمام وأثلاث الموتى وغير ذلك من الوجوه الشرعية
يبدأ الطالب بدراسة النحو والصرف فينكب على الأجرومية ثم شرح القطر لأبن هشام، ثم شرح ألفية ابن مالك لأبن بدر الدين (هذا منهاج الطلاب العرب، أما الفرس فيدرسون كتباً بعضها بالفارسية يلمحها مجلد باسم جامع المقدمات، ويدرسون شرح السيوطي لألفية ابن مالك) ثم يتناول الطالب مغني اللبيب لأبن هشام، ثم يشرع في المنطق فيدرس حاشية الملا عبد الله على منطق التهذيب، ثم شرح الشمسية، ويتوسع بشرح المطالع ومنطق إشارات ابن سينا وشرحه وكتب كثيرة كحاشية الخبيصي ومختلف كتب المنطق مجهداً نفسه بمراجعة الشروح والحواشي عليها بأسلوب ودراسة لا تعرف النظرة السطحية؛ ومن ثم ينكص قافلاً إلى الأدب فيدرس شرح التفتازاني المطول لتلخيص المفتاح في المعاني والبيان والبديع ويتوسع بمراجعة الإيضاح ومفتاح العلوم للسكاكي وشرح السيد الشريف للقسم الثالث منه، ولا يذر مؤلفاً في البيان إلا ويوسعه تمحيصاً
وبعد علوم البيان يخوض الطالب غمار التشريع الإسلامي وقد سبب انفتاح باب الاجتهاد
عند الشيعة أن تشعبت أطراف علم الفقه وكثرت المؤلفات فيه وفي أصوله
نبدأ بدراسة (المعالم) في أصول الفقه للشيخ حسن ابن الشهيد الثاني نضم إليها كتاب (الشرائع) في الفقه للمحقق الحلي ثم ندرس (القوانين) في الأصول للمحقق القمي مع (شرح اللمعة الدمشقية) في الفقه والأصل للشهيد الأول والشرح للشهيد الثاني ثم ندرس (الكفاية) في الأصول للشيخ ملاَّ كاظم الخراساني ثم في الأصول العملية (رسائل) الشيخ مرتضى الأنصاري مع كتابه في الفقه (المكاسب) ولا يقنع الطالب بهذه الكتب بل يكثر الترداد على المصادر الأخرى للتوسع فيطالع في الأصول (بحر الفوائد في شرح الفرائد) وحاشيتي سلطان والشيخ محمد تقي على المعالم و (حقائق الأصول) و (عدة) الشيخ الطوسي و (أنيس المجتهدين) و (تشريح الأصول) للشيخ ملا على النهاوندي و (خزائن) الدربندي و (منهاج الأصول) و (غاية المسئول) و (شرح العضدي) و (تهذيب الأصول) إلى غير ذلك من الكتب العديدة في الأصول التي قضيت في دراستها زمناً ذهبياً (بأوراقها الصفراء) ونطالع في الفقه (جوهر الكلام) وهو في عدة مجلدات من أهم الكتب يتوسع مؤلفه كثيراً في أبحاثه ولا يترك مذهباً في المسألة لا ينقد أدلته، و (الحدائق) و (المسالك) و (المدارك) و (البرهان القاطع) و (تذكرة العلامة) و (قواعده) و (سرائر) ابن إدريس و (الرياض) و (مستند الشيعة) و (مختلف) العلامة و (تحريره) و (جامع المقاصد) و (جامع الأعرجي) وشرح منظومة بحر العلوم و (كشف الغطاء) و (المبسوط) و (طهارة) الشيخ وهو مجلد واحد، وقد وجدت للعلامة الشيخ دخيل كتاباً في عشرة مجلدات أسماه (بأنوار الفقاهة) وإن هذه المجلدات العشرة كلها تبحث في فصل واحد في الفقه وهو فصل الطهارة فياله من توسع في البحث.!
وبعد دراسة كتاب (الرسائل) في الأصول يحضر دروس العلماء الكبار الذين يحاضرون في التشريع الإسلامي وأصول الفقه متخللة أبحاثهم جولات في علم الرجال وفي التفسير والفلسفة (التي يدعونها هنا الحكمة) إذ يرتفع المجتهد على منبر عالٍ حيث يزدحم تحته المئات من الرؤوس (البيضاء والسوداء بعمائمها) تلك الرؤوس التي هذبتها الدراسات الفردية فعادت لا تستند إلى كتاب تفتحه بينها وبين أساتذتها كما كانت في الأول، إنما يتناول المجتهد أطراف العلم فيناقشه طلبته بكل حرية ويتنقلون في الفصول المختلفة من
دون التزام بكتاب واحد وإنما يستعرضون المذاهب في المسألة وينقدونها من جميع وجوهها على ضوء حرية الفكر ثم يرجحون ما يختارونه من الآراء، وهنا يقضي الطالب عدة سنوات حتى يدرك درجة الاجتهاد وهي ملكة يقتدر بها على استنباط أحكام الشرع لشريف من مصادرها، حينئذ يمتحنه مجتهدوا عصره ليعطوه إجازة الاجتهاد وهي الشهادة العليا. وفي السنين الدراسية الأخيرة يتجه البعض إلى دراسة الكلام والفلسفة الإسلامية فيدرس فيهما (شرح المنظومة) للسبزواري و (شرح التجريد) للعلامة الحلي و (شرح إشارات ابن سينا للخواجه نصير الدين الطوسي و (أسفار) ملا صدرا و (الشوارق) لعبد الرزاق اللاهجي و (الشفاء) لأبن سينا. والحق أن جوامع النجف الأشرف تدرس الفلسفة الإسلامية بتوسع لا مزيد وراءه. كنت أدرس شرح إشارات ابن سينا لدى شيخ فارسي يدعى (الدامغاني) فكان يتمعن في تدقيقه فلا يدرس في اليوم أكثر من نصف صفحة أو ربعها بالرغم من أن الدرس يستغرق ساعة أو أكثر وكنا نذهب إلى داره بعد الظهر بقليل وذلك في صيف النجف الأشرف تكليف شاق لا يطاق لشدة الحرارة في هذه البقعة الجافة. في هذه البلدة الجاثمة على حدود الصحراء العربية الملتهبة بضرام حصاها ولا سيما أني كنت أخرج من سراديب مدرسة السيد كاظم اليزدي التي تتوغل عميقة في الأرض حيث تغوص بك في مناخ بارد شتوي يضطرك إلى الالتحاف بما يقيك أذى البرد القارس. ولربما يتذكر تلك السراديب الأستاذان الزيات وأحمد أمين وصحبهما فقد أنزلت الوفد إلى سراديب المدرسة وحملت له المصباح وجلنا في أحشاء هذا المعهد العلمي. ولكم أعجبت تلك السراديب السياح فكتبوا عنها الكثير وهي ابتكار لطيف في التغلب على الطبيعة القاسية والتمرد على عذابها - ولكن أستاذي الدامغاني كان أقسى. فكم أجهدنا في خوض معارك الفلاسفة الدامية يقذف بنا في جحيم الخصومة العنيفة بين الخواجه نصير الدين الطوسي وبين محمد بن عمر الخطيب الرازي وكل منهما شارح للإشارات، ولكني ابتليت قبله بأستاذين درست عليهما الفلسفة في حلقتين كبيرتين تضم العراقي والفارسي والتركي والسوري الخ كأنها سفينة نوح في الأساطير، كان كل من هذين الأستاذين مفتوناً بسعة إطلاعه في المذاهب الفلسفية وما نسجه العقل البشري من أحابيل وأضاليل وما كشف النقاب عنه من حقائق ناصعة فكانا غفر الله لهما يركضان بنا في ميادين واسعة من أفكار
فلاسفة اليونان من مشائين وإشراقيين ومن محاجّات فرق المسلمة وطوائفها من أشاعرة ومعتزلة وشيعة وصوفية وباطنية حلولية إلى غير ذلك؛ فإذا حمى الوطيس بين هذه المذاهب فليس عليك إلا أن ترهف سمعك ليفيض عليك هذان الأستاذان بخلاصة جهودهما الفكرية، ألا أزيدك أن النجف الأشرف في هذا العصر تدرس الطب اليوناني القديم وفيها أطباء من خريجي جوامعها يعالجون الأمراض المختلفة حسب تعاليم شرح النفس في الطب وغيره؛ وفي جوامع النجف الأشرف يدرس علم الهيئة والفلك عدا العلوم الرياضية الأخرى؛ أما علوم الأدب من لغة وعروض وقافية وتاريخ أدب وشرح النصوص الأدبية، أما التاريخ الإسلامي والعلوم الاجتماعية، فان طلبة جوامع النجف الأشرف لا يتركون كتاباًُ جديداً إلا ويقتنونه موسعيه بحثاً وإنعام نظر، وقد خرجت هذه المدرسة كثيراً من الشعراء النابغين
والمكتبات في النجف كثيرة منها الخصوصية وبعضها يفتح لعامة الناس كمكتبة آل كاشف الغطاء ومكتبة المعارف. وعندي مكتبة تضم حوالي ألف كتاب كثير منها مخطوط عزيز، وقد زارها البحاثة عبد العزيز الميمني الهندي المعلق على أمالي القالي فرأى كتاباً مخطوطاً قديماً أعجبه فقال:(لو ضربن آباط الإبل إلى الصين ولم أحظ بغير رؤية هذا الكتاب لكفاني ذلك غُنما)
وإن الطلبة هنا مشغوفون باستشراق الحركات الأدبية في العالم العربي من مصر وسورية والمهجر، ولمؤلفات (لجنة التأليف والترجمة والنشر) سوق رائجة لدينا
ولكننا لا يسعنا أن نفيض في الحديث أكثر من هذا فيمل القارئ الكريم وإنما هذه نبذة تحدثت بها بصفتي أحد خريجي هذه الجوامع المقدسة
(النجف الأشرف - العراق)
ضياء الدين الدخيلي
رسالة الشعر
ذكرى ياسين باشا الهاشمي في الموصل
ياسين البطل
للأستاذ أنور العطار
يا صور ةً ِملؤُها الإحسانُ ساميةً
…
قبستُ من وحيهاَ الشعرَ الذي أَجدُ
غنى بها الدهْرُ مزهُورًّاً برَوْعِتها
…
وعاشَ يمَرحُ في أعطِافها الأبدُ
يُمُّدها النورُ بالأفلاكِ ساطعةً
…
حتى تكادَ منَ الأَضواءِ تتَّقدُ
قالوا لمنْ صُغْتَ حُرَّ الشِّعر تكرمةً
…
ومَنْ تُرى بثناءِ الدهْرِ ينفرِدُ
فقلْتُ (للهاشمي) الفَذِّ أُحْكِمُهُ
…
وأَنْتَقي الكلِمَ الباقي وأَحتشِدُ
(ياسينُ) نورٌ مِنَ الإخلاصِ مُؤْتلقٌ
…
مِنْ نَفْحَةِ اللهِ لم يُخْصَصْ بهِ أَحدُ
مِنْ معْدِنِ الحزْم والتصميم جوهَرُهُ
…
يكونُ حيْثُ يكون الرأْيُ والسدُدُ
إذا العُرُوبةُ لم تسلُكْ مَحَجَّتَهُ
…
يوْمَ الهزاهِزِ لم يبْرَحْ بها أَوَدُ
ضمِنْتَ للوطَنِ المجروح عِزَّته
…
فأَنْتَ آمالْهُ الكْبرى وأَنْتَ غَدُ
أمّا تذكرُ أياماً لهُ غَبَرَتْ
…
وَملْءُ أَحشائها التَّرْويعُ والسَّهَدُ
تفتَّحَتْ حُفَرَ الأَجْدَادِ صارِخةً
…
وهَبَّ مِنْ رقْدَةِ الآبادِ ملْتَحِدُ
شَببتَهَا ثوْرَةً حمراَء لاهَبةً
…
تكادُ مِنَ هَوْلها الأَطوادُ تْرتِعدُ
لِسَانُها في الفَضَاءِ الرحْبِ مندْلَعٌ
…
ووهُجها في فّم الجوزَاء منعقدُ
يسيلُ (دِجْلَةُ) صخَّاباً بها حَنِقاً
…
يرْغو على ضِفتَّيْه الثأْر والضَّمَدُ
وأنْتَ في غمرات الموتِ تَقْحَمُها
…
تُظلُّ نفسكَ روحٌ للعلى ويدُ
في فتيةٍ حلَبُوا الأَيامَ أَشْطُرَها
…
وصافحوا الموتَ لم يفتُرْ لهم جَلَدُ
عاشُوا جمالَ الدُّنا حتى إذا أنزلتْ
…
بِهم مناُياهُم بين الورى خَلدُوا
كأنما يبدءونَ العمرَ ثانيةً
…
فإِنْ هُمُ لفظُوا أَنفاسَهُم ولُدوا
كأَنهُمْ في فضاءِ الله ألْوِيةٌ
…
دَمُ الجهادِ عَلَى أَطرافهَا يِقدُ
والمخلصونَ جلالُ الكوْنِ ما طلعُوا
…
والمخلصونَ سنَا الأيام ما همدُوا
في العبقَرِية أحقابُ لهمْ قُشُبٌ
…
وفي البطولِةِ آبادُ لهمْ جُدُدُ
حلَّقْتَ كالنَّسرِ في الجوزاءِ مرتقياً
…
وخلْفَكَ الناسُ في أَثوابهمْ جَمَدُوا
يرَوْنَ فيكَ مَضاءً لا كَفَاََء لهُ
…
وعَزمةً تخلُقُ الأبطالَ أَو تِلًدُ
فخفَّضَوا الهامَ إِعْجاباً وتكرِمةً
…
والناسُ إِن بَهَرَتْهُمْ خلَّةٌ حمِدُوا
أُقصيت عن وطن مارُمْتَهُ بأذًى
…
وعُشتَ تبنى له العَلياَء أو تُعدُ
تنكَّرت لك دنيا لا ذمامَ لها
…
وخانك الصَّحْبُ والأدنَوْن والبعدُ
أيرتعُ الغِرُّ في أَمْنٍ وفي دعةٍ
…
وأَنت ناءٍ عن الأوطانِ مُبتَعدُ
من همَّ يسألُ عن (ياسينِهِ) لَهِفاً
…
مشى به القَيْدُ أَو أَلوَى به الصَّفَدُ
لما نُعيتَ إلى أرض العراقِ ضُحَىَ
…
ضَج الفضاءُ وَضَج السَّهل والجَلدُ
وزُوِّعَتْ فئةُ للبغْيِ جاحِدةُ
…
حاق الشَّقاءُ بها والنَّحْس والنكَدُ
خافوك مَيْتاً وما بالميتِ من فرَقٍ
…
لما نُعيتَ تهاوَوْا ثمَّةَ افتًقِدًوا
كأنهم في سَوادِ الليلِ أَخْيِلَةٌ
…
لولا الخيالاتُ في دُنياكَ ما وُجِدُوا
لم يَلْبَثُوا أَن توارَوْا في معايبهمْ
…
وَجرِّعُوا الموتَ لم يَفطُن لهم خَلَدُ
مشت (دِمشقُ) وراَء النَّعشِ جازعةً
…
يكادُ يُصْعِقُهَا الأحزانُ والكمدُ
تَبكي ابنَها البَرَّ قد أَوْدي الحِمَامُ به
…
فضاع في مَوته التبِّيْاَنُ والرَّشَدُ
عَمَّ الذُّهوْلُ رِباعَ الشام من أَسَفٍ
…
كأنها مُقْلَةٌ دَمِعَاءُ أَو كِبَدُ
قد فَجَّرَ الألمُ الجبارُ أَدْمُعَهَا
…
كما تَفَجَّر يومَ العارِضِ االبرَدُ
لا الأُنْسُ يضحكُ في أَرجائِهَا أَلفاً
…
ولا النعيمُ عَلَى جناتِهَا يفِدُ
إلا الكآباتِ تَعلو الأُفْقَ غامرةً
…
وللكآباتِ صوتٌ صارخٌ فَرِدُ
لَهْفِي عليها ولهف الُعرْبِ قاطِبةً
…
مات الحبيبُ ومات القائدُ النَّجِدُ
ياسِينُ لا تحتفِلً كيداً رمَوْكَ بهِ
…
ولا يَهولَنك ما حاكوا وما سَرَدُوا
فأنت كالشمسِ إن تَسْمُ العُيونُ لها
…
ترتدُّ عنها وفي أجفانِها رَمَدُ
لم يلبث الحقُّ أن لاحت مَخَايُلهُ
…
وغاب في طيِّهِ الُبهتَانُ والَفَندُ
إن أَرجَفوا فضلالُ ما نعوجُ بهِ
…
كم يضحكُ اليمُّ إن أَرْغي به الزَّبَدُ
دَعِ المُفَنِّدَ يمِعنْ في غَوَايتِهِ
…
فليس يَرْفعُ إلا الواحِدُ الصَّمَدُ
إنْ يَكتبِ اللهُ للإنسانِ مَكْرُمَةً
…
لا يمحُها الخلقُ بل لا يَطْوِها الأَمَدُ
خُذِ الخلودِ نِقّياً ما به دَخَلُ
…
وَخَلِّ هذا الورى يذهب به الحسَدُ
يا بانِيَ المجدِ لم تَضْعُفْ دعائُمُهُ
…
كلٌّ عَلَى ما بنيتَ اليومَ مُعتمِدُ
سرْ في لِواءِ الهدى جَذْلانَ مُغتبطاً
…
فالقومُ قومُكَ ما حادوا ولا رَقَدوا
قد صَفَّفَتْ لَبُوَاتُ العُرْبِ شِكتَهَا
…
وحدَّدَ النَّابَ في عِرنيِنِهِ الأَسَدُ
(الموصل)
أنور العطار
صلاة شاعر!
وقال: أُصلِّي، قلتُ: صلِّ جماعةً
…
لنعرض قبل الحشر بين يدَيْ ربّي
ورتلْ من القرآن سورة يوسف!!
…
أُرتِّلْ - كما شاء الهوى - آية الحبّ
وحي صورة
بقيةٌ من صِبا (حمدي) أشاهدها
…
فأسألُ الدهر عنها كيف أبقاها
كأنّها نفحة للحسن خالدة
…
عزَّت على الدهر أن يمحو محيَّاها
(المطرية)
عبد الله حبيب
أقوام بادوا
للأستاذ عبد الرحمن شكري
مفتاح القصيدة
جعلوا لطبع اللؤم كل قداسة
…
وتحرزوا من سنة المختار
المختار هو النبي صلى الله عليه وسلم، وكل من نبذ سنة الله ورسوله لابد أن يصير إلى ما هو موصوف في هذه القصيدة من الصفات؛ ونعني بالنبذ نبذ القلب وإن لم ينبذ اللسان، ولا نعني أحداً بالذات وإنما هي صفات يعرف كل منصف منها أنها شائعة حيث الاضمحلال والبوار
القصيدة
تركوا اللباب وشاقهم ما شانهم
…
من بهرج في مطلب غرار
عاشوا عبيد كلامهم لم يدلفوا
…
من خلفه لحقائق الأفكار
جعلوا حطام اللؤم أعلى مكسباً
…
وأعز محمدة ليوم فخار
يخفون أوزار النفوس بمنطق
…
فينم فاضح خافيَ الأوزار
حسبوا اغتياب الغائبين مطهِّرا
…
لنفوسهم من خزية أو عار
كل يغار من الإِجادة جهده
…
مثل النساء تغار كل مغار
يحكي عظيمهم الحقير سفالة
…
متكثراً بدناءة الأنصار
يخشى البريء قضاءهم من خطة
…
لم تُعْفِ ناساً من هوى الأصهار
العدل فيهم أجر كل مملِّق
…
جعل النفاق عصابة الأبصار
كل يعاقب من يريد أليفه
…
ضراً له لا الكره للأشرار
الكِذْب عجز فيهمُ وخساسة
…
والصدق عبد مزدرًى متوارى
ندم المجيد على إجادةٍ قوله
…
أو فعله من ضيعة وضرار
الضيم ما يجري اللئامُ مُجَوِّداً
…
فيصون كلُّ عجزه لفخار
سبقٌ بمضمار الحياة يحوزه
…
مُتَخَلِّفٌ بالغش في المضمار
وتفرقوا إلاَّ لدى التهويش والت
…
ضليل فهو مؤلف الدُّعَّار
وتخالهم حشرات روث مالهم
…
إلا به حظ من الإكثار
وكأن كل إجادة قد دهورت
…
من عقلهم في بؤرة الأوضار
فكأنما أذهانهم بالوعة
…
أخفت نفيس الدر في الأغوار
كل يلوذ بإثْرَةٍ ويخالها ال
…
إيثار بئس مزيف الإيثار
ففعاله ومقاله وسكوته
…
للؤم لا فضلاً وحسن جوار
دأبوا على إخفاء حق مالهم
…
في حجبه من مكسب ونضار
لؤم لعمرك لا مدى لصياله
…
وضؤولة تحدو لسفل قرار
الطيش أغلب للتأمل فيهم
…
حتى لدى العظماء والأخيار
سبق اللسان حصاتهم فكأنما
…
سكر العقار لهم بغير عقار
رانت على مهجاتهم وقلوبهم
…
وعلى الحجا والسمع والأبصار
شيم تُوَرَّثُ حقبة عن حقبة
…
كتخلف الأَرجاس في الأَنهار
أو ما دهى أوصال جسم من ضنى
…
يمضي ويترك باقي الآثار
جعلوا لطبع اللؤم كل قداسة
…
وتحرزوا من سنة المختار
هات المُرَبِّي للكبار ولا تقل
…
يا أين مُعْوِزَ رشده لصغار
هيهات يصلح نشء قوم لم يجد
…
خُلق الكِبَار يضيء مثل منار
عدوى الضؤولة والخساسة فيهمُ
…
عدوى الوباء تسير كل مسار
قوم إذا ابتدروا السباب رأيتهم
…
يطلون موضع عُرِّهم بالقار
متعاظمين على نجاسة أنفس
…
نتجت نتاج الدود في الأقذار
ستر الخسيس خساسة بخساسة
…
في أنفس الأعوان والأنصار
متعظماً يبدو كريماً سامياً
…
متحلياً بفضائل الأطهار
وترى الوقار ولا وقار وإنما
…
اخفوا دعارة أنفس بوقار
ودعوا إلى الإصلاح دعوة مائق
…
يسعى إلى الأرباح سعي تجار
هم يبتغون الجاه إنْ لم يبتغوا
…
مالا بدعوة مصلح ثرثار
لم تَدْر وَحْيَ المصلحين حصاتهم
…
فتشبثوا بزوائف الأفكار
صارت وسائل عيشهم ما غاله
…
من طبع لؤم سائق لبوار
فقد الحياَء صغارُهم من ضيعة
…
فغدوا كبار الفخر غير كبار
صنعوا الأذى من غير ما سبب ولا
…
يؤذي لغير القوت وحش ضاري
ضلت غرائز شرهم عن أصلها
…
في صون عيش أو لدفع ضرار
فغدت دناءة أنفس وخساسة
…
كيداً بلا كسب ولا أوطار
وحديثهم كالحك يهتك عزهم
…
فأخو السفاهة منهم كأسٍ عاري
العدل ما وهب السمير سميره
…
والرأي للأوشاب والأغمار
جرأت صعاليك على ما لم يكن
…
في فهمهم فقضوا بغير تماري
فوضى لعمرك لا صلاح لشأنها
…
كيف الصلاح لأمر هاوٍ هاري
عادوا الذكاء خساسة فكأنما
…
نبذ الذبالة في الظلام الساري
إلا الدعاوي الباطلات فأنها
…
عادت كعود مزيف الدينار
سل صفحة التاريخ كم قوم به
…
أجراه مجرى الدهر في مضمار
أقوام أدهار مضت بعض لها
…
ذكرى وبعض ما لها من داري
قد أبدلوا طبع السفال بأنفس
…
من طبعها المتصاعد السوَّار
صاروا إذا غضبوا وإنْ سُرُّوا وإن
…
درجوا لأمر ثالث بمدار
يتمرغون مجانة فنفوسهم
…
وجسومهم كمزابل الأوزار
كتمرغ المفلوك دغدغ جلده
…
عضة من البرغوث في الأقدار
وصموا الشباب ولم يكن من طبعه
…
خلق اللئيم العاجز الغدار
إن الشباب مروءة وسذاجة
…
وترفع ينبو عن الأوضار
تخذوا السفال مِجّنَّهُم ليصونهم
…
من صولة الغلاَّب والمغوار
فغدا السفال سعادة ومسرّة
…
عبث الخنى ومجانة الفجار
نبذوا الحياء وكيف ترجو أمة
…
للنائبات مجانة العهار
قد قيل في فقد الحياء رجولة
…
فقد الحياء أنوثة الدعار
طبع المجانة عم حتى خلته
…
كيداً يحاك عليهم بسرار
أم وُرِّثُوهُ عن الجدود غنيمة
…
يطفو الذليل بها على الأقدار
ويُذِلُّ من عنت وضيمها
…
بسعادة المجان والفجار
وتكايدوا كيد العبيد ولم يكن
…
كتنابذ بطبائع الأحرار
واستمرءوا مرعى الغباوة والخنا
…
إلْفَ السجون لطول عهد إسار
هزموا الدهور الغازيات بهزلهم
…
فمضت وضلوا رهن عقر الدار
فإِذا الدهور جديدة غلاَّبة
…
وإذا اللئام فريس الأدهار
درجوا على درج الحياة إلى الردى
…
من بعد جهل راقهم وصغار
عبد الرحمن شكري
رسالة العلم
ما بعد الطبيعة
الروح ،
للسيد محمد حسن البقاعى
- 3 -
لقد بحثنا في الفصلين السابقين عن المادة والحياة، وأتينا على ذكر النظريات والنتائج التي وصل إليها الفلاسفة على اختلاف آرائهم، وتعدد مذاهبهم. ولا يسعنا الآن إلا أن نقول: إن نتائج تلك الأبحاث والبراهين والاعتراضات التي أثارها الفلاسفة للوصول إلى كنه المادة وحقيقة الحياة، لم توصل العقل البشري إلى نتيجة حاسمة، بل لا تزال الصعوبات قائمة. ولكننا نظن، أن الله سبحانه وتعالى سوف لا يعدم البشرية من نور مفاجئ يرسله إلى عقل بعض الفلاسفة الجادِّين في الوصول إلى الحقيقة النيرة في هذه الأبحاث؛ فيكشف اللثام عن تلك المسائل التي لم تتعدَّ حيز الفرض والاعتراض، ويأخذ بيد العقل البشري إلى شاطئ السلامة، فيخرجه من الظلمات إلى النور. وهانحن مقدمون على البحث في الروح فنقول:
إن البحث في الروح لم يكن نصيبه أكثر من نصيب البحث في الحياة؛ فخلاصته ما شغل عقول الفلاسفة من معرفة حقيقة الروح وماهيتها هو إقرارهم - إقراراً ضمنياً - يعجز العقل البشري عن سبر غورها، وقرع باب حقيقتها. فإن الروح هي من أمر الله، فكيف يتأتى لعقل قاصر إدراك ماهية أمر الله تعالى - وهو لم يستطع إدراك الأشياء البسيطة بالنسبة إلى الروح مثل المادة والحياة
وسنأتي الآن على ذكر النظريات التي وضعها العلماء والفلاسفة الذين عالجوا البحث في الروح وطمحوا في الوصول إلى حل نهائي معقول؛ ولكنهم - ويا للأسف - لم يصيبوا غرضهم المقصود. فالبحث في الروح إما أن يكون عن طريق الرأي العام والحس السليم الذي يقرر أن الروح والجسد مختلفان في طبيعتهما: ويضع الروح فوق الجسد أي إنه
يقرر: أن الحياة النفسية فوق الحياة الجسدية، ويعتبر الروح مبدءاً معنوياً يدير الجسد.
وإما عن طريق آراء الفلاسفة والبحاثين التي يمكن تقسيمها مبدئياً إلى قسمين
1 -
نظرية الماديين
2 -
نظرية الروحيين
أما الماديون فيقولون: (لا يجوز أن نقبل أن الروح والجسد مختلفان بطبيعتهما، أي لا يمكننا القول بأنهما عنصران بل عنصر واحد) فهي إذن نظرية توحيد لا نظرية تثنية وهي تجعل النفس خاضعة للعناصر المادية التي في الجسد. وهم يستندون على طائفة من الأدلة التي يمكن أن تعتبر فيزيولوجية وهي:
1 -
إن ما توصل إليه الفلاسفة من تعيين مناطق الكلمات والرؤية والنطق في الدماغ يثبت لنا أن كثيراً من الأمراض العصبية تولد بذاتها اختلافات نفسية واختلافات فكرية.
2 -
إن الدورة الدموية في الدماغ تزداد أثناء التفكير. وقد ذكر الدكتور جميل صليبا أن العالم الإيطالي (موسو) شاهد أدمغة أشخاص أصيبوا بمرض في الجمجمة فرأى من وراء القحف أن العمل الذهني والاضطراب النفسي والأحلام كل ذلك يبعث على ازدياد ضغط الدم في الدماغ؛ حتى لقد فكر في إثبات ذلك بتجربة محسوسة فصنع ميزناً كبيراً على صورة منضدة يمكن أن ينام عليها الشخص؛ فكلما أجهد الشخص النائم فكره رجحت جهة الرأس من الميزان لانصباب الدم عليها. فيستنتج من ذلك أن الحياة الجسدية هي المؤثر الأول على الحياة النفسية
3 -
نرى في علم التشريح أن ارتقاء الجملة العصبية متناسب مع ارتقاء الحوادث النفسية. فكلما تكاملت الجملة العصبية تكاملت الحوادث النفسية؛ فالأفاعيل الفيزيولوجية إذن ترافق الأفاعيل النفسية
4 -
إن التأثير الحاصل من الجسد في النفس كتأثير الصحة والمرض والكبر في النفس نبرهن على اتحاد الجسد والنفس في الماهية
5 -
لقد بَيَّنتْ مباحث علماء (البسيكوفيزيولوجيا) - بالرغم من كونها ابتدائية أولية - أن هناك قوانين تربط الحوادث النفسية بالحوادث المادية، فيقول (فيخنر): إن النفس من محصول الجسد، ولكن الشعور في هذه النظرية ليس إلا عرضاً زائلاً كالنور وتأثيره في
حركة القطار. . . فلو عرفنا أحوال (لوتر الفيزيولوجية فهل نستطيع أن نكتشف الأسباب التي دفعته للقيام على البابا؟ الجواب على هذا السؤال بحسب هذه النظرية التي ليست إلا نظرية الشعور الملحق هو بلا شك (كلمة نعم!). أما القول في مناقشة هذه النظرية فيتلخص في أربع فقرات:
1 -
نستطيع أن نقول عن هذه النظرية إنها لا تزال في عالم الخيال؛ فقد أخطأت باعتبارها أن الشروط الضرورية في الفكر هي المادة.
2 -
إذا أنعمنا النظر في هذه النظرية وجدناها لا توضح الشعور بل تعتبره حادثة زائدة لا أثر لها في الحوادث النفسية؛ على أننا لا ننكر اتصال الجسد بالروح؛ ولكن هؤلاء الماديين تجاوزوا هذه الحدود، فهم يعتبرون الأمور النفسية ناشئة عن الجسد بينما نجد بينهما موازاة فقط؛ ويقررون أن الشعور ناشئ عن الحركة، مع أن بينهما فرجة في الحقيقة. ولو سَلَّمنا أن الشعور حادثة عرضية فكيف يمكن إيضاح ارتقائه على مَرِّ العصور وتكامله تكاملاً تدريجياً؟ ألم يقرر الفيزيولوجيون أن العضو الذي لا فائدة منه يزول في التطور؟ فكيف بنا ونحن نراه يرتقي ويتكامل عوضاً عن أن يضمحل ويتلاشى! إذن لابد أن يكون حادثة من حوادث النفس لا. . . بل هو ذلك الحَدْسُ النفسي الذي نطلع به على حوادثنا النفسية
3 -
إنهم ينكرون تأثير الحوادث الروحية (النفسية) ولا ينكرون العكس مع أننا نعلم أن للفكر والعاطفة وغيرهما من الحياة الانفعالية تأثيراً بيناً في الجسد. وقد وضع الفيلسوف (ويليام جمس نظرية يدعم بها رأي القائلين بتأثير النفس في الجسد فقال: (لا يمكن أن نقبل أن الجسد يؤثر في النفس ونترك تأثير النفس في الأخير) لأننا نرى أن الشخص عندما يبكي لا يكون بكاؤه فجأة بل لابد من أن يحزن أولاً ثم يبكي؛ إذن لا يمكن للمرء إهمال الفكرة. وكثيراً ما استغرق الإنسان في فكر من الأفكار، فأنساه استغراقه هذا ألماً من آلامه المادية. فالرغائب والأهواء تلعب دوراً هاماً في الجسد وتسبب حركته، وهذا كله كاف لدحض حجة الماديين التي يمكن أن تعتبر حجة بتراء
4 -
إننا نرى أن الحاضر مثقل بالماضي، وهو يهيأ للمستقبل فتتجمع آثار الماضي في الحاضر. إذن فالحاضر والماضي متصلان؛ واتصالهما هذا يؤول إلى القول بأن كل حالة من أحوال النفس تحوي كل حالات النفس؛ فالكل موجود في الجزء والجزء موجود في
الكل؛ ولكن الحقيقة أن الكل موجود في الكل. وكل هذا مخالف لاعتقاد الماديين بل يستحيل عليهم قبوله؛ فلا يستطيع الماديون إذن أن يوضحوا أمراً هاماً جداً وهو الحكم والمحاكمة؛ ولا اتفاق الناس وتبادلهم بالأفكار؛ بل يقولون إن تبادلهم في الأفكار إنما يكون باتفاقهم في الحوادث الفيزيولوجية؛ فليست هذه النظرية إلا ضرباً من الخيال فهي نظرية ميتافيزيكية أكثر مما هي عقلية
أما اللاماديون أي الروحيون الذي عارضوا نظريات الماديين فقد قالوا: يجب أن نقبل وجود شيئين مستقلَّيْن عن بعضهما بطبيعتهما، أي هما مختلفان بمادتهما. وأول مدافع بل أول واضع لهذه النظرية هو أفلاطون الذي يقول:(إن النفس هي أخت المثل العليا الخالدة، وهي خالدة مثلها؛ فالنفس إذن محبوسة في الجسد كأنها في حجرة من حجرات هذا الجسد؛ أي إن النفس كالرُّبان في السفينة يُسِّيرها ولا يتأثر بما تتأثر به هذه السفينة. وعلى ذلك فالموت هو رجوع النفس إلى إخوانها حيث تسترجع علمها الأبدي الذي نسيته في الجسد). أما (ديكارت) فهو يعتبر أيضاً أن النفس والجسد من طبيعتين مختلفتين؛ فماهية النفس هي الفكر، وماهية الجسد هي الامتداد؛ فهما إذن غير متجانسين ولا متشاكلين، بل لكل منهما طبيعة خاصة به. إلا أنه ينكر على أفلاطون قوله بعدم اتصالهما ببعضهما وتشبيه النفس بربان السفينة الذي لا يتأثر بما تتأثر به السفينة فيقول:(إنني لا أنكر أن لي جسداً يتألم عندما أشعر بألم؛ وأحس بالجوع والعطش عندما يكون بحاجة إلى الأكل والشرب؛ وإنني لست ساكناً بجسدي كما يسكن الرُّبان في السفينة بل أنا أكثر من ذلك؛ أنا متصل بجسدي أكثر من اتحاد الربان في السفينة، ولو كنتُ مثله لكنت إذا جُرحت لم أتألم، بل على الأقل كنت أرى جرحاً فقط دون أن أشعر بألم، فأنا إذن عبارة عن شخص مفكر)
فديكارت إذن يقول بتأثير الجسد في النفس ويقول: (إن الحركة لا تتغير) أي لا تزيد كمية الحركة في العالم. وهو يصرح بقبوله لفكرة العلاقة بين الجسد والنفس، ولكنه يوضح هذه العلاقة بقوله:(إن كلاً من - الروح والجسد يؤثر في الآخر بمعونة الإله). ولقد اعتبر بعض الفلاسفة أن هذا الإيضاح مبهم وقالوا: إن إيضاح تلاميذ (ديكارت) أتم وأوسع من إيضاح (ديكارت) نفسه. فتلميذه (ماليبرانش) الذي وضع نظرية الأسباب المصادفة - أي العلل الاتفاقية - يقبل كل أقوال أستاذه ويشعر بالصعوبة في اتحاد الجسد في النفس
وكيفيته وأسبابه؛ ولكنه يحل ذلك بشرح مبتكر، فيقول:(إنني أرى أن الروح لا تؤثر في الجسد والجسد لا يؤثر فيها، فمن الذي يؤثر إذن. . .؟ لا شك أن الإله وحده هو الذي يؤثر. مثال ذلك: عندما تحترق يدي فلا تستطيع نفسي أن تحدث في الألم بل الإله هو وحده الذي يحدث فيَّ الألم). فمن ذلك ترى أن (ديكارت) و (ماليبرانش) قد فتحا في حل مسألة الروح فتحاً جديداً؛ فهما بتعليلهما هذا يقرَّان بالعجز عن إدراك حقيقة اتحاد الروح بالجسد. وليس هذا إلا رضوخاً للحق واعترافاً بالواقع؛ فيجب عدم الاكتراث باعتراضات بعض الفلاسفة المتعنتين أو الملحدين عن الأصح، فهم يقولون:(يؤخذ على ديكارت إسناده كل فعل إلى الإله، وتوقفه على إرادته ومعونته؛ فبذلك يحذف كل فاعلية للجوهر اللامتناهي، ويجعل الإله كعامل من العمال غير كامل لأنه صنع آله لا تمشي إلا إذا كان هو موجوداً فيها)
فمناقشة هذا الاعتراض تتلخص بقولنا: ليس هذا الاعتراض إلا كلمة حق أُريد بها باطل. ولنفرض أن للجوهر فاعلية، فمن أوجد هذه الفاعلية؟ ومن أوجد الجوهر؟ ومن هو مرتِّب ومنسق هذا النظام في عالم الكون والفساد. . .؟ هل يستطيع هؤلاء المعارضون المنكرون للقوة الإلهية أن يجيبوا على هذه الأسئلة بأن المؤثر والفاعل الأول لذلك هو غير الله عز وجل؟ هبهم أجابوا بذلك وقالوا: إن الطبيعة هي الفاعلة، فما هي هذه الطبيعة ومِمَّ تتركب؟ وما هو مبلغ قوتها واقتدارها؟. لاشك أنهم يقفون حيارى تجاه هذا الأمر ولا يسعهم إلا الرجوع إلى القدرة الإلهية. .
ولقد وضع (سببنوزا نظرية جعل فيها الامتداد والفكر جوهراً واحداً وقال إنه جوهر الإله؛ بل قال إن كل الجواهر كالروح والجسد هي أعراضٌ لجوهر الإله. فهذه النظرية تسمى بالنظرية الحلولية فهو ينتقل من مذهب التثنية إلى مذهب حلوليٍ واحدٍ مُوحَدٍ لجميع الجواهر. وخلاصة هذا المذهب هي: لا يوجد غير الإله؛ وكل ما نراه هو أعراضٌ وصفاتٌ له؛ فالجواهر إذن هي لا نهاية في لا نهاية؛ ولكننا لا نعرف منها إلا صفتين فقط وهما: الامتداد والفكر لننظر إلى العالم المحسوس فنرى لوناً وصوتاً وحركة، وكل هذه هي عبارة عن أحوالٍ وهي متناهية، إلا أن عددها غير متناهٍ، فالفكر صفة الإله وأحواله غير المتناهية كالرغائب والذكريات. . . فأحوال الامتداد الإلهي هي الأجسام؛ وأحوال الفكر
الإلهي هي النفوس وعلى ذلك فالعالم والإله شيء واحد. ويقسم هذا المذهب الطبيعة إلى قسمين:
1 -
الطبيعة الطابعة
2 -
الطبيعة المطبوعة
فالطبيعة الطابعة هي مجموع العلل الثابتة الدائمة الموجودة في جوهر الإله؛ والمطبوعة هي مجموع الأعراض المتغيرة المتبدلة التي لا تستقر على حال. فبحسب هذه النظرية يكون الإنسان مركباً من مجموع نوعين من الأحوال الإلهية؛ وهما الفكر والجسد ولا يمكن أن يعتبر جوهراً؛ وعلى ذلك فلا يوجد عقل ولا إرادة بل إرادات، فجموع الأحوال النفسية يوازيها مجموع الأحوال الجسدية، فهي تشبه نظرية الموازاة فهذه النظرية لا تقبل تأثير النفس في الجسد ولا العكس بل تقول إن بينهما موازاة فقط؛ وهي تنكر الحرية؛ واعتراضنا عليها هو نفس الاعتراض على النظرية المادية السابق
أما (ليبنيز فيقول إن مذهب الحلول هو مذهب فاسد لا يستند إلى مبدأ ديكارت. ويجب أن تكون هذه المبادئ نفسها فاسدة لأنه لا يمكن أن ينتج الفاسد من الصحيح، فهو إذن ينتقد مبدأ ديكارت. وقد وضع نظريةً تدعى (نظرية الموناد التي لا تقبل أن الجوهر هو امتدادٌ بل هو في القوة. فالروح والجسد من طبيعة واحدة؛ وبما أن النفس مركبة من موناد واحد فالانعكاسات التي تنعكس فيها تظهر جلية، بعكس الجسد المركب من مجموع الموناد. فالانعكاسات فيه مختلطة وكل موناد ينعكس على الآخر، فموناد النفس ينعكس على الجسد؛ وموناد الجسد ينعكس في موناد النفس؛ على أن ليبنيز لا يستطيع أن يقبل كيف يؤثر جسم في جسم فيقول: (أخذت أتأمل في مسألة اتحاد الروح بالجسد، فلم أجد واسطة تدخل بعض أشياء في النفس، وبالعكس لم أدرك أن جوهراً يؤثر في جوهر؛ فلا أستطيع قبول تأثير الجواهر بل أقول: لا يؤثر إلا الإله) ومن هنا نشأت نظريته المسماة (نظرية التناسق التي يقول فيها: إن كل موناد هو عبارة عن عالم صغير يعكس كل العوالم الأخرى ولكن بإرادة الإله وحده. ويقول أيضاً: إن الإله خلق النفس أو أي وحدة أخرى حقيقية؛ بصورة أن كل شكل يتولد داخلها بعضويته بالنسبة إليها: وبصورة متوافقة تماماً مع الأشياء الخارجية؛ وهذا التوافق مراد منه - أي من قبل الإله - ولعمري إن نظريات ليبنيز لهي
خلاصة ما توصل إليه جمهور الفلاسفة في أمر الروح؛ ولقد انكشفت له الحجب عن الحقيقة، وهو الفيلسوف الأوحد الذي يكاد يقترب من الحقيقة الناصعة
محمد حسن البقاعي
القصص
الوحدة والجريمة
للكاتب الإنكليزي القدير لورد لبتون
للأستاذ أبو جاويد أكمل
ولدت إنجليزياً ولكني قضيت الأيام الأولى من عمري في بلدة نائية أجنبية، وليس لي اخوة ولا أخوات، وقد توفيت والدتي وأنا في المهد فوجدت في والدي الرفيق والمعلم والصديق، وقد كان هذا الوالد الأخ الأصغر لأسرة شريفة وبيت عريق. أما ما حدا به إلى ترك بلدته وأصدقائه وتجنب المجتمعات والإقامة ببلدة كالصخرة فقصة قائمة بذاتها لا دخل لها بقصتي هذه
قلت أن والدي أقام ببلدة كالصخرة لأن بلدتنا لم تكن في الواقع إلا كذلك: قفار حالكة عرضة للسافيات، وأشجار عجزت عن النمو، وعشب جاف، وتجاويف لم تهتد إليها النجوم ولم يعرف ضوء الشمس مكانها إلا من بعض فجوات بالصخور التي تعلوها، تجتازها مياه قاتمة مغبرة ترغى وتزبد أثناء سيرها في طريقها الصخري. هضاب غطتها الثلوج المتراكمة تأوي إليها الطيور الجارحة وينبعث منها صوتها المرعب المخيف إلى عنان السماء التي أبت أن تتدثر بالسحب على ما بها من شحوب وخوف وهرم. كل هذا ينم على حال تلك البلدة التي سلخت بها الأيام الأولى من حياتي. أما مناخها فلم يغير من المناظر التي تحيط بمنزلي إلا قليلاً وإن كان في بعض الأحياء الأخرى يحل صيفها المفاجئ الذي لا يعقبه خريف بشهوره الثلاثة لطول شتائها؛ وربما في فترات قصيرة الأمد يذوب الثلج في الأودية وتفيض المياه ويظهر نبات أصفر غريب يفتر ثغره عن بسمات خبيثة موجهة لبعض أجزاء من هذه الصخرة العالية لأمثال هذه المناظر التافهة من تقلبات الفصول. قضيت أيام حياتي عاماً فعاماً. وكان والدي مغرماً بالعلوم الطبيعية ومشاركاً في باقي العلوم فدرس لي كل ما عنده. وكان للطبيعة الفضل في سد النقص بما أوحت إلى قلبي من دروس عميقة صامتة وهي تكشر عن نابها وتعبس. علمت قدمي الركل وذراعي اللكم ونفثت في رغباتي روح الحياة وألهمت طباعي الجد لا الهزل. علمتني كيف أعانقها وإن
كان قوامها معوجاً وشكلها غير مغر. أفر من سواها وأهرب من مصادقة رجل وأنثني من ابتسامة أنثى. أهرب من بكاء الطفولة وأخشى من التقيد والآمال وملذات الوجود كما أخشى من اللعنة والعذاب؛ ومع ذلك كانت لي في هذه الصخرة العابسة وتحت هذه السماء الشاحبة متعات لا يهتدي إلى كنهها أهل الحضر الذين يجدون لذتهم في أريج العطر وعبيق الورد، فما هذه المتعات؟ إن لها من المتنوعات والأشكال المختلفة عشرات الألوف كما لها من أفياء السرور، ولكن ليس لها من الأسماء المتداولة إلا أسم واحد، فما هي هذه المتعات؟ هي (الوحدة)
مات والدي وأنا في الثامنة عشرة فانتقلت إلى كنف عمي وأزمعت الرحيل إلى لندن فوصلتها نحيفاً عبوساً مفتول الساعد قوي البنية؛ بيد أني في نظر من حولي كنت وحشاً في هيئتي وطباعي. كان لهم أن يضحكوا مني، ولكني أرهبتهم بصورتي؛ وكان لهم أن يغيروا من طبعي، ولكني أثرت فيهم وألقيت على بهجتهم رهبة فكانوا وجلين مني وإن لم أتكلم إلا نادراً ولم أجالسهم إلا مجلس الغريب الصامت المنقاد. ما من أحد منهم يستطيع معاشرتي ويكون مسروراً أو مرتاحاً. هذا ما شعرت به وقد أبغضهم إذ لم يمنحوني حبهم
مضت ثلاث سنين بلغت فيها سن الرشد، فطالبت بثروتي واحتقرت الحياة الاجتماعية، وذبت شوقاً مرة أخرى إلى الوحدة، فصممت على الرحيل إلى الأراضي النائية الخالية من السكان، تلك الأراضي التي لم يرجع منها زائر يتحدث عنها ممن طوحت بهم الأقدار في أحضانها التي لم يرجع منها زائر يتحدث عنها ممن طوحت بهم الأقدار في أحضانها
استأذنت عمي وزوجه وأولاده وبدأت الحج فاجتزت الرمال المحرقة، وقطعت الفيافي الشاسعة، حتى وصلت إلى غابات أفريقيا الكثيفة التي لم تطأها قدم، ولم يشوش صوت إنسان هذا الجلال المهيب الذي يخيم على وحدتها كما كان يخيم قبل الوجود على العوالم المضطربة. هناك حيث تنمو الفطرة الأزلية وتذبل بغير إزعاج أو تغيير يطرأ عليها من اضطراب ما يحيط بها من العوالم. هناك حيث تنبت البذور أشجاراً تعيش أعماراً لا تحصى ولا تعد، ثم تتساقط أوراقها ويسطو عليها البلى ويعتريها الفساد ويدركها الفناء. هناك حيث يخطو الزمن المتثاقل لم يشهد تقلباته الهائلة الصامتة إلا أسد شارد، أو أفعوان جسيم، يكبر مائة مرة تلك البوا التي يباهي السائحون برؤيتها. هناك تحت الظلال الوارفة
التي آوى إليها وقت القيلولة كنت أسمع وقع أقدام كالجند وأصغي إلى وسوسة الأشجار الباسقة وهي تدك وتنهدم، وأرى من خلال فروع الأشجار الملتفة البهموث عابراً سبيله الوعر وعيناه تتقدان كالجمر وأنيابه البيضاء في فكه الشرس جاثمة براقة كأعمدة من الصوام تشع في غار. ذلك هوا الوحش الذي جعلت له دون غيره هذه الفدافد موطناً؛ ذلك هو الوحش الذي لم يتبدل من يوم أن عرفت المياه سبيلها في الكون؛ ذلك هو الوحش الذي لم تبصره عين آدمي غيري
تسللت فصول الأعوام لم أحصها عداً، إذ لا أنيس يخببها إليَّ، ولا أثر يترسم من أعمال أبن آدم القذرة يبغضني فيها. أقول كرت الفصول ونضج شبابي حتى بلغت الرجولة وجلل الشيب مفرقي بالثغام، ولم ألبث أن استولى عليَّ ميل دفين لا يقر على حال وناجيت قلبي المذنب أن لابد من نظرة أو عودة إلى عشيرتي
قفلت أطوي الفدافد إلى أن بلغت المدائن فتدثرت بلباس أهلها إذا لم أكن في البيداء إلا عاري الجسد، ولما بلغت الثغر أقلتني سفينة إلى إنجلترا كان فيها رجل هو وحده الذي لم يتجنب صداقتي ولم يخش غضبي، يستولي عليه النزق، ويملأه الغرور، ويتيه عجباً كما يختال عادة هؤلاء الذين استوطنوا المدائن، واتخذوا الكلام غذاء عقولهم. وكان طفيليًّا سخيفاً ونسيجاً قذراً من آراء سافلة، وكان الرعب الشائن هو الخصلة الفريدة التي لم تفارقها نفسه، فمحال أن ترهبه أو تسكته أو تهزمه؛ يتعقبني دائماً ويلازمني كظلي ليس لقوة أن تنزعه مني، وكلما بصرت به شعرت بدوار، وكان هؤلاء الطغام المحتقرين الذين ترتعد الفرائض لرؤيتهم
كنت أقاطعه مراراً كلما خاطبني. ولكم هممت أن أقبض عليه وأقذف به إلى البحر للحيتان التي كانت تسبح ليل نهار حول السفينة بعيون براقة وأنياب تواقة، إلا أن نظرات الجميع كانت متجهة إلينا فكبحت جماح نفسي وعدلت عن ذلك مغمضاً عيني على مضض؛ وكلما فتحتهما ثانية وجدته بجانبي وصوته الأجش يرن في أذني الكارهة سماعه
في ذات ليلة تنبهت من نومي على صياح الرجال وهم يقسمون فأسرعت إلى سطح السفين وكنا قد ارتطمنا بصخرة فما أروعه منظراً! إنه كان هائلاً. فضوء القمر هادئ والبحر على فيروزته نائم. في وسط هذا السكون الصامت الناعم الذي شمل كل شيء انمحى أثر
ثلاثمائة وخمسين نسمة من الوجود. لزمت عزلتي لم أساعد أحداً من المغرقين بل ظللت أنظر، وإذا بصوت كصوت أفعى ينساب إلى أذني فالتفت ورأيت مزعجي وقد انعكس ضوء القمر على وجهه وهو يتمتم كالسكارى وعينه الذابلة الزرقاء تحملق وهو يقول: لا نفترق حتى في هذا المكان
جرى الدم حاراً في عروقي وعزمت على أن أرميه في البحر الذي كان يغمرنا سريعاً، ولكن خيل إليّ أن القمر يرمقني كما ترمقني عين السماء ولم أتجاسر على أن أقتله. ولما كنت لا أستطيع البقاء كي أموت مع المغرقين قذفت بنفسي نحو صخرة وقد طاردني حوت فأرهبته، وبعد برهة وجيزة كان لديه القدر الكافي لإشباع نهمه سمعت دوياً فصيحات يأس ممتزجة مزعجة، بأس ثلاثمائة وخمسين قلباً سكنت في لحظة. قلت في نفسي وقد داخلني سرور عميق إن صوته لا محالة بين أصواتهم وقد افترقنا. وما وصلت الشاطئ حتى اضطجعت للنوم
وفي صباح اليوم الثاني انفتحت عيناي على أرض أجمل من أحلام الشباب وقد ابتسمت الشمس وأشرقت على أنهار فضية، ومالت الأشجار بثمار أرجوانية عسجدية، وتلألأ كالماس الندي في أرض تحلت بأزهار ذات أريج عبق ممتع، وقد حلقت عشرات الألوف من الطير بأجنحة براقة امتزجت ألوان قزح بها وطارت من على النبات والأشجار وملأت الجو تغريداً من سرورها. البحر يزأر تحت قدمي لا أثر في جبينه اللامع لتأكل سالف؛ أما السماء فكانت تدفئ عروقي بأشعتها الذهبية التي لم تعترضها سحب. استيقظت نشيطاً مرحاً وجست خلال هذا المكان الجديد الذي اهتديت إليه فتسلقت تلاً ووجدت أنني في جزيرة صغيرة لا أثر لرجل فيها، فارتاح قلبي وصحت طرباً لما رأيت أني سأكون وحيداً مرة أخرى، ولكني لم أكد أنحدر من التل وأصل إلى نهايته حتى لمحت رجلاً يقترب مني. نظرت إليه فارتاب، قلبي ثم دنا مني فإذا بالغيض المضطهد يقف أمامي بعد أن نجا من الغرق! لقد عاد بتمتمته وعينه البراقة، وما لبث أن طوقني بذراعيه فشعرت بأن أفعى تحتضنني وقال بصوت أجس خشن: مرحى مرحى! سنبقى معاً أيها الصديق
فنظرت إليه وأنا مقطب الجبين لم أتلفظ بكلمة، وكان بجانب الشاطئ غار كبير فقصيدته ودخلت فيه وهو يتبعني قائلاً: سنعيش في هناء هنا لا نفترق إلى الأبد. فارتعشت شفتي
وانقبضت يدي.
قد انتصف اليوم وغلبني الجوع فخرجت واصطدت غزالاً وشويت جزءاً منه على نار من أخشاب عطرية فأخذ الرجل يأكل ويزدرد ويقهقه، وتمنيت لو غص بالعظام. ولما انتهى قال ليس لدينا هنا إلا النذر اليسير من الأنشراح، بيد أني لم أزل محافظاً على صمتي، وأخيراً تمدد في ركن من الغار ونام، فنظرت إليه ورأيت نومه عميقاً ثم خرجت ودحرجت حجراً كبيراً عند باب الغار واتخذت سبيلي إلى الجزء المقابل من الجزيرة. وجاء دوري في الضحك ووجدت غازاً آخر وهيأت فراشاً من العشب والأوراق، ومن الأخشاب صنعت منضدة، وتطلعت من فوهة الغار فرأيت البحار العريضة أمامي وقلت الآن سأكون منفرداً. ولما أقبل اليوم الثاني خرجت مرة أخرى واصطدت جدياً وعدت به وجهزته كما سبق. ولما كنت غير جائع لم أستطع تناول الطعام وهمت على وجهي في أنحاء الجزيرة، وعند عودتي كانت الشمس قد غربت فدخلت الغار، فجلست على فراشي؛ ولكن بجوار منضدتي كان الرجل الذي ظننت أني دفنته حياً بالغار الأول. وما إن وقع نظره عليّ حتى ضحك وألقى بالعظمة التي كان ينهشها وقال: آه لقد عولت على أن تعلمني خدعة نادرة، ولكن بالغار نفقاً لم تفطن إليه وقد خرجت منه للبحث عنك، وهذه مسألة هينة، لأن الجزيرة صغيرة، أما وقد تقابلنا فلا فراق بعد
فقلت: قم واتبعني. ففعل، وما ترك من الطعام كان قذى في عيني لأنه مد إليه يده، وأخيراً فكرت أأزرع ليحصد هذا المخلوق؛ وشعرت بقلبي وقد تحجر
صعدت إلى صخرة عالية وقلت: أنظر حولك وتطلع إلى هذا الجدول الذي يشطر الجزيرة فستقيم في شطر وأقيم في الآخر. ومن المحال أن تجمعنا بقعة واحدة أو يضمنا خوان، فقال: لا يتأتى ذلك إذ ليس في مقدوري أن أصطاد الغزلان أو أقتنص الجديان. وإذا لم تتعهدني بالغذاء فسأموت جوعاً. قلت: ألا توجد فاكهة وطيور تستطيع اقتناصها، وسمك يقذف به البحر؟ فقهقه وقال: لا أهواها كما أحب لحم الجديان والغزلان. فقلت: أفهم الآن وأنظر إلى هذا الحجر الداكن من الشاطئ الثاني لهذا الجدول. سأترك لك كل يوم عنده جدياً أو غزالاً حتى تنال من الطعام ما تشتهي، ولكن إذا اجتزت هذا الجدول ودخلت في ملكي فمن المؤكد أني سأذبحك. نزلت من الصخرة وأرشدت الرجل إلى شاطئ الجدول،
فقال: لا أعرف السباحة، فحملته على كتفي واجتزت الجدول ووجدت له غاراً وهيأت له فراشاً ومنضدة كما صنعت لنفسي، ثم تركته، ولما حاذيت شاطئ الجدول ثانية كدت أطير من الفرح ورفعت صوتي قائلاً: سأكون الآن وحيداً
مر يومان وأنا منفرد، وفي الثالث خرجت للقنص وكان وقت القيلولة وأعياني التعب حينما عدت؛ وإذ دخلت مغارتي وجدت الرجل منطرحاً على فراشي وقال: ها، ها. أنا هنا لقد سئمت الوحدة في منزلي وجئت لأعيش معك ثانية. فعبست وقطبت ما بين حاجبي وقلت: من المؤكد أني ذابحك. وجذبته من فراشي بذراعي وأخذته في الهواء الطلق ووقفنا سوياً على الرمال قريباً من البحر العظيم. استولى عليّ الخوف وداخلني ذعر من السكون الشامل الذي يخيم على الوحدة مع أني لا أبالي بالناس لو أحاطوا بنا آلافاً لذبحته أمام أعينهم. وما راعني إلا أننا وحيدان في الصحراء لا ثالث معنا إلا الله. أرخيت عنان قبضتي، وقلت له: أقسم لي بأنك لا تضايقني بعد، وأنك تحافظ على حدود منازلنا ولا تجتازها وأنا أعفو عنك. فقال: لا أستطيع القسم، وخير لي أن أموت في الحال من أن أفارق وجه آدمي صبوح ولو كان عدواً لي. ولهذه الكلمات عاودني حنقي فطرحته أرضاً ووضعت قدمي على صدره ويدي في عنقه، فحاول الخلاص برهة، ثم كان جثة هامدة. تولاني الخوف على أثر ذلك؛ ولما نظرت إلى وجهه ظننت أنه عاد إلى الحياة وخيل إليَّ أن عينه الذابلة الزرقاء ترنوا إليّ، وأن ابتسامته الخبيثة لم تفارق شفتيه، كما أن يديه اللتين كانتا قابضتين على الرمال في حشرجة الموت امتدتا نحوي فضغطت على صدره مرة أخرى وحفرت حفيراً بجانب الشاطئ وواريته التراب وقلت: صرت الآن وحيداً
هنا تجلت لي المعاني الحقيقية للوحدة والكآبة ولعدم الاستقرار والعزلة، فارتعشت وترنح كل عضو من هيكلي الجبار كأني طفل ترتعد من الظلام فرائصه، وقف شعر رأسي وتقلصت عضلاتي، ولم أستطع البقاء في هذه البقعة دقيقة واحدة، ولو عاد إلي شبابي. غادرتها هرباً وجبت هذه الجزيرة، وكلما يممت شطر البحر واصطكت أسناني واشتقت إلى صحراء شاسعة لا نهاية لها أتوارى فيها إلى الأبد
عند الغروب عدت إلى مغارتي وجلست في زاوية من الفراش وأخفيت وجهي بكلتا الراحتين، وتوهمت أني أسمع ضوضاء فرفعت بصري. ولعمري لقد رأيت الرجل الذي
أجهزت عليه ودفنته مقيماً بالطرف الثاني من الفراش
هناك على بعد ست أقدام مني كان جالساً يشير إليّ برأسه وينظر بعين شاحبة ويقهقه. وليت الأدبار من الغار ودخلت في غابة واستلقيت، ولكن هناك على بعد ست أقدام مني كان وجه ذلك الرجل أيضاً
أيقظت شجاعتي وخاطبته ولكن لم يبد جواباً. حاولت القبض عليه فأفلت وكان على بعد ست أقدام، وجهه دائماً أمامي
خررت على الأرض ساجداً وغطيت وجهي بأديمها وآليت لا أرفع رأسي حتى يحين الليل وينسدل الظلام
وقتئذ قمت وعدت إلى الغار واضطجعت في فراشي، فنام بجانبي الرجل، فغضبت وحاولت أن آخذ بتلابيبه فلم أتمكن
أخيراً أغمضت جفني ورقد بجانبي. مرت الأيام والحال لا تتغير في الداخل ولا في الخارج، في المنزل وفي الفراش، في القيام وفي الرقاد، بالليل أو أثناء النهار. هناك في طرف فراشي وعلى بعد ست أقدام لا أكثر ولا أقل كان الميت الشاحب
وما كدت أنظر إلى الأرض الجميلة والسماء الصافية وإلى هذا الصاحب المخيف حتى قلت: لا أعيش وحيداً بعد ذلك، فضحك الرجل بملء شدقيه. رست في النهاية سفين فحييتها وأقلتني وما وطئت قدمي سطحها حتى ظننت أني بمنجى من مزعجي، ولكن سرعان ما رأيته يعتلي سطحها، واجتهدت عبثاً أن ألقيه في اليم، ولكنه كان بجانبي دائماً يأكل معي وينام كسابق عهده
وصلت إلى مسقط رأسي واندمجت في الزحام. شهدت الولائم وسمعت الألحان، جعلت ثلاثين رجلاً يجلسون معي وظللت أراقبه ليلاً ونهاراً، ولكن رفاقي كانوا واحداً وثلاثين وأخيرهم كان أكثرهم ألفة وعشرة
فخاطبت نفسي: أهذا وهم أم هو خِداع الحواس؟ ولابد أن أستشير الأخصائيين في هذا الاضطراب لكي أعود إلى الوحدة؛ دعوت عرافاً ذائع الصيت في طرد ما علق برأسي من الأوهام واستحلفته أن يكتم السر ورويت له قصتي، وكان رجلاً جريئاً عالماً فوعدني الخلاص والنجاة، ثم سألني مبتسماً: أين هذا الشخص الآن فإني لا أراه، وإن كان حقاً ما
تقول فإن حواسي لا تقل اداركاً عن حواسك؟ وكان في خطابه كما يكون الأستاذ مع تلميذه وأنا لا أعارضه ولا أساجله، وأمرت الخدم أن يهيئوا غرفة ويكسوا أرضها بالرمل. ولما صدعوا بالأمر التمست من طبيبي أن يتبعني إليها وأحكمت رتاجها، فسألني: أين الشخص الآن؟ فقلت: إنه على بعد ست أقدام منا. فأبتسم الطبيب فأهبت به أن ينظر إلى الأرض وأشرت إلى بقعة منها قائلاً له: مادا ترى؟ فأرتجف وتعلق بي حتى لا يهوى ثم قال حينما دخلنا: كان الرمل ناعماً ولكني أرى في هذه البقعة أثراً لأقدام آدمي، فضحكت ومشيت مع رفيقي الحي إلى الأمام وقلت له: أنظر ماذا يتبعنا كلما تحركنا، فحاول الطبيب أن يتنفس الصعداء ثم قال: صاحب هذه الأقدام، فصحت به فجأة صيحة اليأس الغضوب: ألا تستطيع أن تدبرني وهل قضى على ألا أعيش بعد منفرداً؟ غير أني رأيت آثار هذا الهالك تخط على الرمل هذه الكلمات:
(لم تخلق الوحدة للمجرمين. الأفكار السيئة رفيقات الساعة، ولكن الأعمال السيئة صديقات إلى قيام الساعة)
أبو جاويد أكمل
البريد الأدبي
تنظيم أوراق البردي المصرية
كانت الحكومة المصرية قد استدعت في العام الماضي العلامة الأثري الألماني الدكتور هوجو إبشر أمين المحفوظات البردية في متحف برلين ليقوم بإصلاح مجموعة البردي المصرية وتنظيمها.
وفي المتحف المصري مجموعة كبيرة من هذه الوثائق القديمة التي لم تنظم ولم تعرف جميع محتوياتها بعد؛ وقد قدم الدكتور إبشر إلى مصر في شهر مايو الماضي وقضى ثلاثة أشهر في تنظيم المجموعة البردية بالمتحف المصري، ولكنه لم يستطع يومئذ أن يتم كل مهمته، وما زال كثير من الوثائق البردية في حاجة إلى عنايته
ومن ثم فقد استدعى الدكتور إبشر لاستئناف عمله في القاهرة مرة أخرى؛ وفد قدم العلامة إلينا منذ أيام قلائل ليتم تنظيم مجموعة البردي؛ وسوف ينتهز هذه الفرصة ليزور البقاع الأثرية التي وجدت فيها من البردي، ولاسيما منطقة بحيرة قارون التي وجدت فيها منذ أعوام أوراق بردية ثمينة تحتوي على شروح كاملة لبعض كتب الفيلسوف ماني؛ وشروح أخرى لمذهب زرادشت؛ وقد نقلت هذه المجموعات من مصر سراً إلى برلين، وتولى الدكتور إبشر تنظيمها وقراءتها، كان لظهورها ضجة كبيرة في جميع الأوساط الأثرية
وقد روت الصحف الألمانية بهذه المناسبة أن الدكتور إبشر سيقوم لجلالة ملك مصر بمهمة خاصة، وهي إصلاح خريطة قديمة ثمينة لإفريقية كانت ملكاً لمحمد علي باشا رأس الأسرة المالكة، وقد بليت وتآكلت بعض أجزائها، وكان المغفور له الملك فؤاد يتوق إلى إصلاحها وردها إلى أصلها؛ وسيقوم الدكتور إبشر بهذه المهمة، وهو اليوم أشهر علماء الصيانة الأثرية
معرضان للفن الأجنبي في مصر
نظم في هذا الأسبوع معرضان للفن الأجنبي بدار الجمعية الزراعية الملكية بالقاهرة، أحدهما معرض هولندي للتجارة والصناعة، وقد افتتح في الخامس من فبراير الجاري؛ والثاني معرض فرنسي للفنون الجميلة والزخارف الفنية، وقد أفتتح في الثامن من فبراير، وتفضل صاحب الجلالة الملك فاروق الأول بافتتاحه بحضور مسيو جان زاي وزير
المعارف الفرنسية الذي قدم إلى مصر خصيصاً لذلك، وعدة من الشخصيات الكبيرة مصرية وأجنبية. وقد بذلت الحكومة الفرنسية في تنسيق هذا المعرض جهوداً عظيمة، وعرضت فيه مجموعات فنية نادرة من الصور والتحف الفنية الدقيقة استحضرت من فرنسا؛ وهذا دليل جديد على ما تبديه فرنسا في العهد الأخير من الاهتمام بتوطيد نفوذها الثقافي بمصر بعد أن تطورت الأحوال السياسية والاجتماعية عقب المعاهدة المصرية وإلغاء الامتيازات الأجنبية
ذكرى الفيلسوف شوبنهارور
تحتفل ألمانيا في العشرين من الشهر الجاري بذكرى فيلسوفها العظيم شوبنهاور لمناسبة انقضاء مائة وخمسين عاماً على مولده. وتقام لهذه الذكرى بالأخص حفلات عظيمة في مدينة دانتزيج مسقط رأس الفيلسوف ومدينة فرانكفورت حيث قضى شطراً عظيماً من حياته. وستذاع في كل منهما محاضرات وخطب بالراديو عن الفيلسوف الراحل وآثاره وآرائه، ويقام في كل منهما حفل تذكاري رسمي، وتوضع أكاليل الزهر التي ترسلها مختلف الهيئات العلمية على قبره في فرانكفورت
وكان مولد الفيلسوف في دانتزيج سنة 1788، ولكنه لم يلبث بها طويلاً فغادرها مع أسرته سنة 1793. وبعد أن قضى حداثة مضطربة، درس في برلين وجتنجن، ثم قدم إلى فرانكفورت في سنة 1831 فاستقر بها حتى وفاته في سنة 1860. وفي سنة 1911 ألفت في ألمانيا جمعية شوبنهاور، وفي سنة 1929 نظمت هذه الجمعية جميع الوثائق والمراجع المتعلقة بحياته وفلسفته، وأنشأت مكتبة عظيمة نادرة تضم جميع الكتب والشروح المتعلقة بفلسفته
وقد كان شوبنهاور من أعظم فلاسفة العصر الحديث، وفلسفته تمتاز بطابع واضح من التشاؤم، وأعظم كتبه هو كتاب (العالم كإرادة وفكر)، وفيه يبسط أعظم وأقوى آرائه، ونظرياته الفلسفية، وقد ترجم إلى معظم اللغات الحية. وله عدة كتب ورسائل فلسفية أخرى، مثل كتاب (الإرادة في الطبيعة) وكتاب (الأساس الرباعي لمبدأ العقل الكافي) ورسالة في (الرؤيا واللون) وغيرها، بيد أنها دون كتابة الجامع قوة وطرافة. وقد تأثر شوبنهاور في فلسفته بأفلاطون وكان تأثيراً كبيراً؛ بيد أنه يعتبر مؤسس مذهب فلسفي جديد
في التشاؤم.
وقد كان لتفكيره ونظرياته أثر كبير في تطور الفلسفة الألمانية في أواخر القرن التاسع عشر
من مكتشف أستراليا
ثار في الأسابيع الأخيرة جدل علمي تاريخي بين الصحافتين الإنكليزية والهولندية حول المكتشف الحقيقي للقارة الأسترالية وذلك بمناسبة الاحتفالات التي أقيمت أخيراً في أستراليا بمناسبة مرور مائة وخمسين عاماً على تأسيس أول مستعمرة أوربية في خليج (بوتاني)، والمعروف أن هنالك رأيين في هذا الموضوع: الأول النظرية الهولندية، وهي ترجع الفضل في اكتشاف أستراليا إلى البحارة الهولنديين في أواخر القرن السابع عشر، والثاني نظرية بعض المؤرخين الإنكليز وهي ترجع الفضل في هذا الاكتشاف إلى الرحالة الإنكليزي الكبتين كوك بين سنتي 1776 و 1779. والواقع أن الرأي الأول أقوى وأرجح، والبحارة الهولنديون هم أول من أطلق أسم أستراليا على هذه القارة، وظهر هذا الاسم لأول مرة في كتاب ظهر في أمستردام سنة 1597 وسميت فيه هذه الأرض وقد كان البحارة الهولنديون يبحثون قبل ذلك عن قارة مجهولة في الجنوب، وهم الذين وضعوا أول تحديد علمي لموقعها
وقد بسط هذه النظرية العلامة المؤرخ الهولندي هيريس في كتابه، فذكر أن الرحالة الهولندي دوفكن اكتشف جزاءً من خليج كربنتاريا في سنة 1605؛ وفي سنة 1616 سار الرحالة ديرك هارتوجس إلى المياه الجنوبية في السفينة الهولندية اندراخت ووصل حتى خليج شارك. وتدل وثائق العصر على أن هذا الرحالة هو أول أوربي وضع قدمه في أستراليا
وعلى ذلك فإنه من الخطأ أن ينسب فضل اكتشاف القارة الجنوبية إلى الكبتين كوك الذي لم يزر هذه المياه إلا بعد ذلك بنحو مائة وخمسين عاماً. على أن كثيراً من المؤرخين الإنجليز يفض هذه النظرية التي يستند إليها استعمار إنكلترا للقارة الأوسترالية، وما زال هذا الرأي يلقى على طلبة المدارس؛ وقد كررته بعض الصحف الإنكليزية في المناسبة الأخيرة، أما الكبتين كوك فإن فضله لا ينكر في اكتشاف الجزائر الأقيانوسية في هذه المياه
مخطوط جديد للشاعر ببرون
بمناسبة الاحتفالات التي أُقيمت أخيراً في أثينا تخليداً لذكر المائة والخمسين لمولد الشاعر الإنكليزي الأشهر (لورد بيرون)، والتي أشارت إليها الرسالة في عددها الماضي، أعلن الأستاذ سقراط كوجياس الأكاديمية الأثينية غداة الاحتفال بأنه عثر في مخطوطات المكتبة الوطنية اليونانية على مخطوط جديد للشاعر الكبير هو عبارة عن القسم الأول لقصيدة (تشايلد هارولد)؛ وفي ظهر المخطوط مذكرة بخط الشاعر عن إحدى قرى جزيرة دلفي. ومسودة القصيدة ملأى بالتصحيحات والتعديلات التي لم تظهر فيما ظهر من طبعات هذه القصيدة الشهيرة. ولم يعرف بعد كيف وجد هذا المخطوط في المكتبة الوطنية، ولكن وجد في ذيله بالإنكليزية ما ترجمته:(مهدي إلى فرند كلادان المعجب باللورد بيرون، من أخته أوجاستالاي) اعني أخت الشاعر؛ ووجد هامش آخر فيه؛ إن المخطوط كتب بيد الشاعر، وأهدى منه إلى كلادان هذا، وهو أحد إشراف أثينا في هذا العصر ومن هواة الخطوط الأثرية
موسم فاجنر في لايبزج
في أنباء ألمانيا الأخيرة أنه تبدأ منذ 13 فبراير الجاري في مدينة لايبزج حفلات الموسيقي الشهير فاجنر، وتمثل فيها أوبراته الخالدة كلها، ومنها تأليف حداثته، وسيراعى في تنظيم أدوارها، ما وضعه فاجنر نفسه فيما بعد. وقد استدعى بهذه المناسبة عدة من أكابر الفنانين الأجانب اللذين اشتهروا لتمثيل أوبرات فاجنر إلى لايبزج للاشتراك في هذا الموسم، وسيعاد تمثيل هذه القطع الشهيرة وعددها ثلاث عشر من عشرين أبريل إلى 19 يوليه القادم، وقد اتخذت استعدادات فنية وموسيقية عظيمة بجعل موسم فاجنر من أعظم المواسم الفنية العالمية، واختيرت مدينة لايبزج لأنها مسقط رأس الموسيقي العظيم، وفيها بزغ مجده الأول
مصير اللغة الإنجليزية
أذاع ولز محاضرة من لندن عن اللغة الإنجليزية في ديسمبر الماضي تناول فيها جملة تنبؤات طريفة عن مستقبل هذه اللغة، وقد وازن ولز بين الإنجليزية واللاتينية، وبينها
وبين اللغات السامية فطمأن سامعيه إلى استحالة أن يكون مصير الإنجليزية كمصير هذه اللغات، فالظروف التي ساعدت على تمزيق اللاتينية مثلاً إلى فرنسية وإيطالية وقشتالية وقطلومية. . . الخ قد زالت في العصر الحديث، أو أن الاختراعات، وأهمها البخار والكهرباء والطباعة والراديو، قد جنبت اللغات عامة والإنجليزية خاصة شر المنقلب الذي أنتها إليه حال اللغة اللاتينية
الإنجليزية لغة عالمية
وقد تنبأ ولز أن الإنجليزية ستكون لغة عالمية في العاجل القريب، لأن الثلاثمائة مليون الذي يتكلمونها في مختلف أنحاء العالم قد اختاروها أداة للتعبير عن خلجاتهم مختارين غير مجبورين، وذلك لما آنسوا فيها من السهولة واليسر والطواعية. . . ولكن ولز يبدي تألمه من بطأ انتشار الإنجليزية في غير الإمبراطورية البريطانية من سائر الدول، حتى في الولايات المتحدة الأمريكية التي تنازع الإنجليزية فيها منازعة قوية للغات شتى، أهمها الفرنسية والأسبانية والألمانية