الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 243
- بتاريخ: 28 - 02 - 1938
محنة الآنسة مي
أمسكنا عن الحديث في محنة الكاتبة النابغة مي ضناً على فضول الناس أن يتخذ أرجح العقول وأبرع الأذهان مجلاً للظنون الكاذبة وموضعاً للفروض الجريئة. وكنا منذ سفرها إلى الجبل منذ عامين نتنسم أخبارها من كل مصري يصيف في لبنان، وسوري يشتي بالقاهرة، فلم يقع لنا من ذلك ما ينقع الشوق أو يطمئن الخاطر، حتى أخذت صحف بيروت في الأسابيع الأخيرة تذكر من حال الكاتبة الجليلة ما يثير الهم في الصدور ويضرم الحزن في الأفئدة، وحتى أهاب رئيس المجلس النيابي السوري بأعضاء المجلس النيابي اللبناني وهو يزور ندوتهم في منتصف هذا الشهر قال:
(كيف لا تهتمون بهذه النابغة اللبنانية؟ وكيف تسجن (مي) بين جدران أربعة في مستشفى المجانين ولا يثور الرأي العام اللبناني ويظل هذا الخبر سراً مكتوماً؟ لقد كان حديثها لي حلواً لا إبهام فيه ولا تعقيد. لقد وجدت فيها (مي) الكاتبة الشاعرة التي عرفناها في الماضي، فكيف دبرت هذه المؤامرة الدنيئة على نابغة النابغات؟ أنقذوا مي وابذلوا جهدكم في الترفيه عليها. وحرام أن تعامل الأنوثة التامة والنبوغ والعبقرية هذه المعاملة التي عوملت بها مي)
وجرائد بيروت آذانها أقرب إلى استقطار الخبر على صحته، والأستاذ فارس الخوري بك ممن يعتقد قوله ويعتمد خبره، والقنصل المصري سمعنا أنه تدخل في الأمر؛ وتدخله دليل على أن هناك مجانفة للحق ومخالفة للعدالة؛ فلم يبق إذن شك في أن صديقتنا (مي) تكابد من ظلم القدر ولؤم الناس ما لا يجوز الصبر عليه ولا ينبغي السكوت عنه
كانت مي في النصف الأول من سنة 1935 مرهفة الطبع جمة النشاط دائبة الإنتاج لا تبخل بظرفها وأدبها على سامر ولا صحيفة؛ وكان أكثر نشاطها حينئذ مصروفاً إلى مجلة الرسالة ومحطة الإذاعة. ومن أثر ذلك تلك المسابقة الأدبية التي اقترحتها على الشعراء، وذلك (المجلس النادر) الذي أقامته للصلح بين بعض الأدباء. وكانت في مجالسها الخاصة تصرف الكلام وتساجل أعيان الأدب ببديهة حاضرة ولقانة عجيبة، تمثل لك صورة من صور أولئك الأديبات اللآتي أنشأن باستعدادهن للأدب مجالس في عهوده الزاهرة، كسكينة ابنة الحسين، والولادة ابنة المستكفي، ومدام دي رمبوييه، ومدام جوفرين، والأميرة نازلي فاضل، وأضرابهن ممن وفَّقن بين اللغة والبلاغة، وبين الأدب والذوق، وبين الفن والسمو؛
ثم وشين ثقافة عصورهن بألوان شتى من أناقة المعرض وجمال الأداء وحسن المبادهة. وكان من حسن حظ الرسالة أن وقعت بقلب الكاتبة العظيمة، فكانت كلما صدرت في يومها تحييني مي بالتليفون تحية الروح الملهم من عالم الغيب، والأمل المشجع من وراء الغد، فكان ذلك يبسط من انقباضي عن الناس، ويجرئني على اغباب الزيارة للأديبة الكريمة. وكان يصحبني إليها صديقها الأستاذ عنان فنجدها وحدها أو معها الأستاذ خليل ثابت، فنسمر عندها هزيعاً من الليل تناقلنا شجون الحديث بصوت جميل النغم، ومنطق رخيم الحواشي، وعقل سريع الإدراك، وظرف بارع المفاكهة، حتى أقبل الصيف وعقدت غمائمه على وجهي (الوادي) غشاء من الزفير والدخن، فلحظنا ذات مساء على الآنسة المتهللة بطبعها انقباضاً في المزاج واضطراباً في النفس، سببه على ما قالت خلاف طرأ بينها وبين محطة الإذاعة، فقد أرادت أن تذيع خطابها من غير أن تطلع عليه الإدارة؛ وأبت عليها عزتها أن تقبل تنبيه المذيع اللين إلى أن قانونها يحتم الاطلاع على ما يلقى قبل إذاعته. فانصرفت غاضبة على الرغم من اعتذار الإدارة على هذا التنبيه وقبولها أن تذيع مي من غير قيد ولا شرط. فهونا عليها الحادث وجلونا عن صدرها همه. ولكن الأمر بعد ذلك عظم في نفسها وأصبحت تظن أن الحكومة تضطهدها وتراقبها فقررت ألا تخرج من البيت، وشعرت أنها غير مقدورة ولا مشكورة فصدفت عن الكتابة، واقتصرت من الغذاء على شراب الليمون، ومنعت إذنها عن الناس فلم يدخل عليها إلا أربعة أو خمسة من أصدقائها الأدنين. ودخلنا عليها ذات ليلة فوجدناها كئيبة النفس كأنما انصرفت من جنازة حبيب. فسألناها ما بها، فقالت إنها الساعة مزقت وأحرقت ستة وثلاثين مخطوطاً من رواياتها ومقالاتها آخرها رواية (المصري الجديد) لأنها لم تجد رداً على ظلم الحكومة وعقوق الناس أبلغ من هذا الصنيع. فبدا على وجوهنا سهوم الأسى والجزع على هذه الثروة الأدبية تخسرها العربية من بلاغة مي. كل ذلك ومي محافظة على هدوء الطبع ورصانة العقل وألمعية الذهن وسلامة الحديث، فعزونا هذه الحال النفسية إلى حزنها على أمها، ووحدتها في بيتها، وعزلتها عن أهلها، فأشرنا عليها مع الطبيب أن تسافر إلى لبنان انتجاعاً للراحة وطلباً للنسيان وابتغاء للأنس، فكانت ترفض، حتى حملها بعض قرابتها على أن تسافر فسافرت، وفي مرجونا أن تعود مي إلى مصر رخية البال سعيدة النفس
رافهة البدن، وما كان في حسبان أحد ممن ساعد على هذا السفر أن مي معبودة القلوب وريحانة المجالس وفخر النهضة تقع في حبالة الطمع الدنيء والهوى المريض والذمة الغادرة، فيعتقلونها في مستشفى الجنون اعتقال الشريدة، ثم يغشونها بالحجب، ويحيطونها بالأسرار، ويئدونها بالترك، حتى تجهلها الحياة وينساها الناس وتخلص لهم الغنيمة
إن الآنسة مي التي غذت نهضة الفكر العربي مدى ربع قرن، فكان لها في كل موضوع رأي، وفي كل قلب ذكرى، وفي كل مكتبة أثر، لا يمكن أن تضيع هذه الضيعة الذليلة بين مصر ولبنان. وسينظر الناس ماذا يصنع جمهور الأدبين وحكومة البلدين بعدما برح الخفاء وانكشفت النية وانهتك ستار المأساة
أحمد حسن الزيات
اللورد كتشنر
كما يصوره صاحب (المشرقيات)
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
راقتني من كتاب (المشرقيات) للسير رونالد ستورس، على الخصوص، طائفة من الصور الوصفية لجماعة من مواطنيه الإنجليز الذين كان يعمل تحت رياستهم. وكان السير رونالد هو السكرتير الشرقي لدار المعتمد البريطاني في مصر، أو قصر الدوبارة كما كانت تسمى قبل الحرب، وقد ظل يعمل تسع عشرة سنة في مصر وفلسطين بعد فتحها وجلاء الترك عنها، ويقوم بأثقل الأعباء وأخطر المهمات، وهو يعد - في اصطلاح الوظائف - (ظهورات) والمراد بذلك أنه غير (مُثبت) ولا يحسب له معاش، ولا يمنح شيئاً سوى الشكر والثناء إذا ترك الوظيفة أو استغنت عنه حكومته. ولم ينتظم في سلك الموظفين الدائمين إلا بعد أن تخلى الجيش البريطاني عن إدارة فلسطين وأسلم الأزمة إلى حكومة مدنية برياسة مندوب سام
فهذه واحدة قد تكون فيها عبرة للمصريين
ومن أشهر المعتمدين البريطانيين الذين تعاقبوا على مصر قبل الحرب وبعدها اللورد كتشنر، وقد قص عنه السير رونالد بضع نوادر تصوره أبرع تصوير. منها أنه على أثر مقدمه، سبقه السير رونالد - وكان لا يزال المستر ستورس - إلى قصر الدوبارة، وجلس إلى مكتبه ينتظر أن يقرع له الجرس. وكانت حكومته قد أنبأته أنه سيكون مع اللورد كتشنر (تحت الاختبار) فإذا رضي عنه فبها، وإلا فهو مفصول لا محالة. ولم يكن المستر ستورس يرجو خيراً، أو يطمع في رضى رئيسه، فراح يحسب ما ادخره ليرى هل يكفي لنفقات السفر على الدرجة الأولى وهو عائد إلى بلاده. وإذا بالجرس يدق، فنهض ودخل على كتشنر يحمل إليه آلافاً من برقيات التهنئة التي تلقتها الدار
قال ستورس: (وكان الفيلد مارشال يحدق في مكتبه وهو يسأل عن هذه الأوراق ما هي. فأخبرته، فسألني ماذا أنوي أن أصنع بها؟ فقلت: إن رأيي هو أن التهنئات الواردة من أعضاء الأسرة المالكة ومن الوزراء الحاليين والسابقين يكون الرد عليها بضمير المتكلم إذا كانت هناك معرفة شخصية، أو بضمير الغائب إذا لم تكن ثم معرفة كهذه بينه وبين مهنئه،
وأن غير هؤلاء من الأفراد المعروفين أو الجديرين بالاحترام يتولى السكرتير الشرقي شكرهم، وأن الباقين يكون جوابهم - الصمت
(فأدهشني وأفزعني أن أتلقى منه أمراً بالمساواة بينهم جميعاً. وقد تعود الفيلد مارشالات الطاعة السريعة التي لا تعرف التردد أو المناقشة؛ ولعل اللورد كتشنر أصرمهم في هذا. وقد بدا لي وأنا واقف أمامه أن المجادلة لا محل لها، وخاصة ممن كان مثلي مدنياً لا عسكرياً؛ ولكنه لم يسعني مادمت في وظيفتي، إلا أن أكون مستحقاً للأجر الذي أتقاضاه عليها، ولذلك تشددت وأنا على مقربة من الباب، وأجريت لساني بما يفيد الطاعة، وزدت على ذلك أن في وسعنا على كال حال أن نهمل النتائج. وكنت كأني في حلم، وكأني أحس - لا أسمع - سؤاله (أي نتائج؟)
فقلت بلهجة اليائس: إن أهل الطبقة الأولى سيرون أنهم أهينوا لأنهم عوملوا كأهل الطبقة الثانية، وإن أهل الطبقة الثانية سيعدون هذه سابقة، وينتظرون في كل حال أن يُسووا بمن فوقهم، وإن أهل الطبقة الثالثة سيستخدمون اسم سعادته (يعني كتشنر) في ابتزاز المال من الجهلاء والأميين من أبناء الريف.
(وساد سكون مزعج سألت نفسي فيه - بسرعة البرق - إذا طردت هل يسعني أن أسافر على الدرجة الأولى، ولو بطريق البحر الطويل؟ وسمعت كما يسمع الحالم صوتاً يقول: (أصغ ما بدا لك) واستيقظت في غرفتي حيث عجلت بإرسال ردود الشكر قبل أن يغير رئيسي رأيه
وفي الأسبوع الأول من عهد كتشنر، سمع المستر ستورس أن طائفة من الموظفين الإنجليز ينوون أن يستقيلوا، بعضهم لكراهتهم له، والبعض الآخر لأنهم يتوقعون منه أن يقيلهم. فرأى المستر ستورس من واجبه أن يبلغه ذلك من غير أن يذكر له أسماء. فقال له كتشنر:(اذهب إلى النادي (تيرف كلوب) وأعلن هناك أن عندي هنا في هذا الدرج استئمارات مطبوعة بقبول الاستقالات). فأذاع المستر ستورس هذا الخبر، فلم ترد استقالة واحدة!
ويقول المستر ستورس إنه اشتاق إلى الاطلاع على هذه الاستئمارات العجيبة، ففتح المدرج فألفى فيه صندوقاً فيه سجاير!
وتغدى سلاتين باشا مرة مع كتشنر، فقال على الطعام، تمهيداً للكلام في أمر (معاشه):
(إن من دواعي أسفي أني لم أوفق في حسن تدبير الجانب المالي من حياتي)
فقال كتشنر: (إن من يعرفك يا عزيزي سلاتين لا يخطر له غير ذلك)
ولم يكن هذا بالرد المشجع على الاسترسال ولكن سلاتين باشا لم ينهزم فقال:
(هأنذا ظللت في أسر المهدي اثنتي عشرة سنة، عارياً مكبلاً أكثر الوقت، وقد وقعت في هذا الأسر وأنا في الخدمة، ومع ذلك لم آخذ قرشاً واحداً طول هذه المدة)
فكان رد كتشنر: (صحيح يا سلاتين، ولكنك لا تستطيع أن تزعم أنك أنفقت شيئاً في هذه المدة!)
وبعد هذا الجواب انتقل الحديث فجأة إلى الطيران ومحصول القطن!
ولما جاء إلى مصر كامل باشا الذي تولى الصدارة العظمى في تركيا أربع مرات، زاره اللورد كتشنر في فندق سمير أميس، فتذكر كامل باشا أنه لما كان والياً في الأناضول كان كتشنر قنصلاً لدولته هناك، فقال كتشنر:
(نعم، ولكنك توقلت في معارج الرقي بسرعة، أما أنا فكنت يومئذ قنصلاً، وقد احتجت إلى ثلاثين سنة لأصبح قنصلاً عاماً)!
وكان إذا جاءه البريد من لندن، يفتح منه أول ما يفتح، كتاب وكيله الذي يصف له فيه مبلغ التقدم في إعداد بيته هناك وإصلاحه. ويقول ستورس: إن العمل في بيت كتشنر استغرق سنوات وسنوات، لأنه كان ينفق عليه مما يستطيع أن يدخره من مرتبه. وكان هذا البيت هو كل ما يعنيه من أموره الخاصة؛ وشاء القدر ألا يسكنه قط، لأنه غرق قبل أن ينتقل إليه
ولم يكن يحسن الكتابة أو يقبل على القراءة ويعنى بالاطلاع مثل كرومر. وكان قلما يلعب غير الشطرنج في القطار أو على الباخرة. ولم يكن له ذوق غورست وفهمه للموسيقى والعلوم الطبيعية، أو ولع اللنبي بالألعاب الرياضية والشعر، ولكنه كان مشغوفاً بالعاديات وفنون الزينة
وقد قامت الحرب، وهو في إجازته في إنجلترا، فأراد أن يعجل بالعودة إلى مصر لأنه كان يخشى أن تكل إليه حكومته وظيفة استشارية. فلما صار على ظهر الباخرة تلقى برقية من رئيس الوزارة يطلب بقاءه، فعاد إلى لندن ومعه السير رونالد ستورس وفي نيته ألا يقبل
شيئاً دون وزارة الحربية مع إطلاق يده فيها. فأعطوه ما طلب. فأراد أن يتخذ السير رونالد سكرتيراً خاصاً له وأمره أن يستأجر له بيتاً، ويجيئه بسيارة من طراز (رولز دويس) وأن يذهب إلى الخارجية للاتفاق معها على الانتقال مع كتشنر إلى الحربية. وكان السير رونالد لا يريد هذا الانتقال لأنه ليس من رجال الحرب ولا دراية له بشئونها، ولكن كتشنر كان رئيسه - لأنه لم يستقل من وظيفته في مصر - فأطاع. فأبى رجال الحربية أن يسمحوا بهذا النقل، ولكنهم كرهوا أن يعارضوا كتشنر، فكلفوا ستورس نفسه أن يتولى هو عنهم إقناعه وإبلاغه أنهم محتاجون إليه في مصر
فلما عاد إلى وزارة الحربية ألفى كتشنر يغسل وجهه، وهو نصف عار، ووراءه عدد من القواد الفرنسيين، فانتظر حتى فرغ مما هو فيه، ثم أخبره الخبر، فاقتنع كتشنر، وقال: إن رجال الخارجية على حق. وكان من مزاياه - على ما يروي السير رونالد ستورس - أنه لا يتردد في الرجوع إلى الحق، ولا يخجل أو يستنكف من ذلك
إبراهيم عبد القادر المازني
اختلاف
حدود الحق والواجب
للأستاذ عبد الرحمن شكري
مفتش التعليم الثانوي
إن حدود الحق والواجب تختلف في الأماكن المختلفة بعض الاختلاف كما أنها قد تختلف في الأزمنة المختلفة أو في المكان والزمان لاختلاف الطبائع والصفات النفسية وما يتبعها من الآراء. وهذا الاختلاف في تعريف حدود الحق والواجب وتعيينها قد يغر الناس في عصور الانقلاب الاجتماعي فينبذونها كلها ويحاولون أن لا يتقيدوا بها وأن لا يجعلوا لها شأناً، ويحسبون أن الحياة تستطيع أن تقوم وأن تحسن وتصلح من غيرها، ويغالطون أنفسهم كي يستثمروا نبذها لجلب مطالب وقضاء لبانات
والحقيقة أن للحق والواجب حدوداً لا يختلف فيها أحد وإن اختلف الناس في حدود حقوق وواجبات أخرى، وأن كثيراً من الناس ينبذون حتى الحدود التي يعترفون بها عجزاً عن كبح أثرتهم وأن الحياة لا تصلح إلا بنصيب كبير من احترام حدود الحق والواجب التي تحددها القوانين الإنسانية والضمير والشرائع الدينية حتى في عصور التغير الاجتماعي التي يكثر فيها العبث بتلك الحدود، بل ربما كانت تلك العصور أحوج إلى طوائف من الناس يزداد تشبثها بتلك الحدود حفظاً للتوازن الحيوي لأن الحياة قائمة على التوازن وسنته هي سنتها. ومن درس كتب التاريخ وجد في الأمم المختلفة حتى في إبان الثورات والحروب والكوارث الطبيعية وفي وسط ما تبتعثه بالاضطراب الخلقي والإجرام - أناساً يعملون أعمالهم اليومية في حدود الحق والواجب، وأناساً يزداد تشبثهم بتلك الحدود حسب سنة التوازن الحيوي التي أشرنا إليها
ومن الناس من يقول إن حدود الحق والواجب إذا استعبدت الناس استعباداً مطلقاً وتقيدوا بحروفها دون معانيها وظروفها منعت من تحوير الحقوق والواجبات لإنمائها وتحسينها كما يتطلبه رقي الإنسانية. ولعل الصواب الذي في هذا القول أقل من المغالطة المقصودة أو غير المقصودة، وأقل من سوء التطبيق الذي تدفع إليه الرغبة في التخلص من بعض تلك
الحدود، وأقل من الغفلة التي تمنع من يقول هذا القول من أن يعرف أن أكثر الحقوق والواجبات اللازمة لرقي الإنسانية معروف، وإنما هو القصور عن عليائها الذي يمنع من الرقي في أكثر الأحوال
ولا ننكر أن بعض عصور الانقلاب الاجتماعي التي جرت في أذيالها شيئاً مما دعا إلى طمس بعض حدود الحق والواجب القديمة قد أدى إلى تعديل وتحوير وتحسين في حالة الإنسانية، ولكن المصلحين المثقفين كانوا يختلفون عن الدهماء وأمثال الدهماء، فإن المثقفين كانوا يعتبرون هذا الطمس ضرراً عارضاً مؤقتاً لابد من منع شره من أن يستطير، وأنه ليس سبب الرقي ولا أساسه، وأنه ينبغي قصره على الحد الذي يمكن الدهماء إذا كانوا لا يمكنون إلا معه من الرغبة في الحقوق والواجبات الجديدة. أما أمثال هؤلاء الدهماء وأنصاف المثقفين وذوو الأثرة والجشع والمكر والخبث ممن ينعق في أثر كل مصلح فيحاولون طمس جميع حدود الحق والواجب كي ينتفعوا ولا يبالون ما يكون بعد انتفاعهم
وبالرغم من سنة التوازن التي تؤدي إلى زيادة تشبث بعض الطوائف الإنسانية إذا نقص تشبث غيرها بحدود الحق والواجب قد يتدهور المجتمع الإنساني بسبب قوة عوامل الخراب التي تطغى وتشل أثر هذه السنة حتى ولو كان التغير المطلوب مما يرجى فيه خير الإنسانية، وبعض التغير لا رجاء فيه فتكون المصيبة أكبر والخسارة مضاعفة
ومن المستطاع التمييز بين وهْيِ حدود الحق والواجب الناشئ من التغير المؤدي إلى رقيّ، وبين وهيها الناشئ من تغير لا يؤدي إلى رقي - وإن اختلطا في أذهان الناس ونفوسهم - فالوهي الأول لا يكون شاملاً لجميع الطوائف والطبقات والأفراد، بل نرى من الطوائف من لا يتأثر به ولاسيما طائفة المحافظين على القديم. أما الوهي الثاني الذي يؤدي إلى تدهور فيكون شاملاً، ومن دلالاته أن الطائفة المحافظة على القديم قد تكون من أكثر الطوائف تأثراً به بالرغم مما يتفاخر أفرادها من المحافظة على حدود الحق والواجب. والنوع الأول مقصور على بعض حدود الحق والواجب غير شامل لها، وإنما يقصر على ما يراد تعديله وإنماؤه من الحق والواجب. أما النوع الثاني فإنه يظهر بمظهر شامل لجميع حدود الحق والواجب أو أكثرها؛ والنوع الأول نرى من خلفه حقوقاً وواجبات أخرى يتقيد
بها الإنسان. أما النوع الثاني فلا يليح بشيء من ذلك
وبهذا القياس نستطيع أن نقيس حالة الأمم. فإذا كان احتقار حدود الحق والواجب شاملاً لطوائفها وطبقاتها حتى وإن أنكر بعضهم شموله، وإذا كان غير مقصور على بعض الحدود، وإذا كان لا يبشر بحدود أعلى وأتم وأحسن، وإذا لم كان غير مصحوب بالغيرة على المثل العليا، ولم تكن تلك المثل الداعية إليه، فهو نذير شؤم وتدهور واضمحلال
ولكن مما يؤسف له أن بعض المثقفين لا يميزون هذا التمييز ولا يعيرون هذا القياس اهتماماً بل يكتفون برؤية مظاهر تغير اجتماعي مصحوبة بوهي حدود الحق والواجب فيحسبون أن ذلك إنما كان لتسهيل قبول حدود حقوق وواجبات جديدة أكثر قداسة، ويفترضون أن مظاهر التغير هذه لابد أن تؤدي إلى الرقي المؤجل الدائم. وما يسهل انخداعهم أن تكون تلك المظاهر مصحوبة برقي في الماديات، ويحسبون أن ذلك الرقي في الماديات سيكون خالداً ومؤدياً حتما إلى زيادة حدود الحق والواجب متانة وظهوراً في النهاية وإن أضعفها وطمسها في البداية، ولا يميزون أنواع ذلك الضعف والطمس ولا يقيسونها بما ذكرنا من الشرائط. وربما يسهل انخداعهم أيضاً أن بعض المصلحين يعمدون إلى إضعاف تلك الحدود أو بعضها تقريباً لمبادئ جديدة كما يُعمل الهادم معوله في البناء القديم كي يهدمه وكي يؤسس مكانه بناء جديداً. وأكثر هؤلاء يحسبون أنه مهما بلغ من الفساد بسبب طمسهم حدود الحق والواجب فإنهم قادرون على علاج الفساد الذي سببوه. وهذا نوع من الغرور يختص به بعض دعاة الإصلاح ويسلكهم في زمرة المفسدين الذين لا يبالون أصلحت الدنيا أم خربت، حتى أن المفكر لا يستطيع أن يميز بين الطائفتين وأن يحكم على رجل من أي نوع هو
وينبغي للمفكر أن يميز بين المجتمع الإنساني والبنيان، فالبناء حجر أصم يمكن هدمه وإقامة بناء آخر مكانه ولا خطر في ذلك إذا تهيأت الأسباب والوسائل، أما المجتمع الإنساني فهو حي نام شبيه بجسم الإنسان الحي النامي لا بالبناء الأصم، والذين حاولوا إدخال إصلاحاتهم على اعتبار أن المجتمع كبناء من حجر أصم ما لبثوا أن عرفوا خطأهم، وزادتهم خبرتهم وزادتهم أخطاؤهم يقيناً أن المجتمع الإنساني ليس كالبناء المصنوع من حجر أصم بل كجسم الإنسان النامي الحي، ولكن بعض هؤلاء أخطأ في حسابه وبالغ
فأفلتت منه الأمور واضمحلت. وينبغي لكل من يعالج أمراً من أمور المجتمع الإنساني أن يقدر أنه قد يكون مخطئاً أو مغالياً حتى على شدة الثقة برأيه فيتخذ الحيطة. واجتماع هذه الأمور لا يكون إلا في مراتب الثقافة الإنسانية العالية. وينبغي لهذا المعالج لأمور الناس أن يحذر من أن يؤدي عمله إلى احتقار حدود الحق والواجب احتقاراً يصبح ناراً تلتهم كل الحقوق والواجبات أو تحاول التهامها ويصير مرضاً مزمناً في المجتمع الإنساني، وهو إذا حاول استخدام احتقار حدود الحق والواجب الناشئ من المكر والخبث والجشع، واستثمارها بتقديم أصحاب هذه الصفات كان عمله آفة لا إصلاحاً، وصارت أمور الناس ضيعة يستغلها من لا يبالي أصلحت الدنيا أم خربت. وقد يستغلها ويخربها باسم الإصلاح بقدوته ونفوذه العلني والسري، والثاني شر من الأول لأنه مختف فيندفع صاحبه غير هياب ولا وجل في إفساد الأخلاق والذمم والضمائر والنفوس. ويكون معالج أمور الناس الذي قدمه كالمرأة التي تغزل بيد وتنقض غزلها باليد الأخرى، وربما سطت بتلك اليد الأخرى على غزل غيرها ونسجه فتتلفه أيضاً.
عبد الرحمن شكري
بين تيمورلنك وبايزيد
قصة الملك الأسير في قفص من حديد
للأستاذ محمد عبد الله عنان
لما زرت أنقرة عاصمة تركيا الجديدة منذ أعوام، وتأملت المدينة الناشئة التي اختارها القدر لتكون مبعث حياة جديدة للأمة التركية، تذكرت أن هذه الهضاب القفرة التي تحيط بالعاصمة التركية الجديدة كانت مسرحاً لحدث عظيم في تاريخ الدولة العثمانية، وأنها إذا كانت اليوم مركزة القوة والحياة في تركيا الجديدة، فقد كانت ذات يوم مبعث الدمار والويل لدولة بني عثمان وكادت أن تكون قبراً لسلطانهم الناهض ومجدهم الفتي
كان ذلك في سنة 1402م، حينما انقض تيمورلنك الفاتح التتري بجيوشه الجرارة على هضاب الأناضول كالسيل، وحينما نشبت في هاتيك الهضاب الوعرة بينه وبين السلطان بايزيد الأول موقعة أنقرة الشهيرة التي سحقت فيها قوى آل عثمان وأسر ملكهم وأمراؤهم، وكادت تمحى دولتهم من الوجود لولا أن تطورت الحوادث بعد ذلك بسرعة، وتوفي الفاتح التتري بعد ذلك بقليل، وانهارت دعائم ذلك الصرح العسكري الهائل الذي شاده تيمور بغزواته وفتوحاته وانتصاراته العظيمة
وكان تيمور قد بدأ حياة الفتح بعد ذلك بنحو ثلاثين عاماً، وخرج من سمرقند عاصمة ملكه الناشئ يثخن في الأمم والممالك المجاورة شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، ويفتتح قطراً بعد قطر، ويسحق مملكة بعد أخرى؛ فلم يمض على هذا البدء ثلاثون عاماً حتى استطاع أن يجتاح جميع الممالك الواقعة بين سمرقند والشام، وبين قزوين والخليج الفارسي، وأن يفتتح الهند وخوارزم وفارس والجزيرة والقوقاز وأرمينية، وأن يبسط حكمه الشامل على تلك الممالك والأنحاء الشاسعة، وأن يبلغ ذروة الظفر والسلطان الباذخ
وفي سنة 1399م خرج تيمور من سمرقند بجيشه الظافر لآخر مرة؛ وكان قد نفذ إلى الهند قبل ذلك العام وأثخن في بسائطها وقواعدها؛ واستولى على دهلي حاضرتها، وتم بذلك افتتاحه لممالك آسيا الوسطى؛ واخترق تيمور بجيشه الزاخر فارس واتجه نحو بلاد الكرج وأرمينية؛ وكانت هذه المنطقة مثار خلاف دائم بينه وبين بني عثمان، إذ كانوا يغيرون عليها من وقت إلى آخر؛ وكانت أملاك تيمور وبني عثمان تلتقي هنالك عند أرضروم
والفرات؛ وزحف تيمور على سيواس، وكان الترك العثمانيون قد احتلوها قبل ذلك بقليل، واستولى عليها؛ وبلغت هذه الأنباء سلطان الترك بايزيد الأول، وهو معسكر بجيشه تحت أسوار قسطنطينية يحاصرها، فلم يستطع شيئاً؛ واخترق تيمور بلاد الأناضول، وزحف نحو الشام وهي يومئذ ولاية مصرية، يقصد افتتاحها؛ ثم يفتتح مصر؛ وبذلك يبسط سلطانه على الشرق الإسلامي بأسره. واستولى تيمور على مدينة حلب في مناظر هائلة من السفك والعيث والنهب، وانقض سيل التتار المخرب على ربوع الشام يثخن فيها ويحمل أمامه كل شيء. وزحف الغزاة على دمشق في أوائل سنة 803هـ (1400م)؛ فروعت مصر لهذه الأنباء، وهرع ملك مصر الناصر فرج بجيوشه لملاقاة الفاتح التتري ونزل بدمشق في جمادى الأولى، واشتبك جند مصر مع جند الفاتح في معارك محلية كانت سجالاً؛ ولكن السلطان اضطر أن يعود فجأة إلى القاهرة لأنباء مزعجة نميت إليه فترك دمشق لمصيرها؛ واستولى تيمور على دمشق صلحاً، ولكنها لم تنج من سفكه وعيثه؛ على أنه لم يمكث طويلاً بالشام إذ وصلته الأنباء عن أهبة بايزيد وحركاته؛ فغادر الشام شرقاً إلى الفرات، ثم سار شمالاً إلى بلاد الكرج، وأشرف مرة أخرى على حدود مملكة (الروم)
وهنا تبدأ بين هذين العاهلين العظيمين وقائع تلك المعركة الشائقة التي تسبغ عليها تفاصيلها لوناً من الخيال الساحر، فقد استقبل تيمور سفراء بايزيد وأنبهم على مسلك مليكهم، وكتب إلى بايزيد رسالة يلومه فيها على حمايته لبعض الأمراء الذين خرجوا عليه، ويفاخره بفتوحاته الباهرة وسلطانه الباذخ ويحذره من سطوته وبطشه ويتحداه في عبارات جافية مثيرة؛ فرد عليه بايزيد برسالته الشهيرة التي تذكرنا عباراتها وأسلوبها برسائل الملوك الأقدمين وعهد الأساطير، وفيها يسخر منه وينتقص من قدره وقدر فتوحاته وغزواته، وينسب توفيقه فيها إلى غفلة الزمن وإلى ضآلة شأن خصومه، ويحمل على وسائله في الحرب والسياسة، ويرميه بالعدوان والغدر، ويرمي جنده ومواطنيه التتار بالعجز والخور؛ وينوه بقوته ومقدرة جنده، وعظيم استعداده للحرب والطعان. على أن ذلك لم يكن شيئاً بالقياس إلى ذلك التحدي الغريب الذي اختتم به بايزيد رسالته إلى تيمور، إذ يقول له:(فإن لم تأت تكن زوجاتك طوالق ثلاثا؛ وإن قصدت بلادي وفررت عنك ولم أقاتلك فزوجاتي إذ ذاك طوالق ثلاثا). ويعني ابن عربشاه مؤرخ تيمور عناية خاصة بذكر
محتويات الرسائل التي تبادلها الملكان، ويقول لنا إن تيموراً حينما وقف على هذا القسم الغريب الذي يلقيه بايزيد في وجهه ثارت نفسه غضباً، (لأن ذكر النساء عندهم من العيوب، وأكبر الذنوب)، فكيف بهذه الإشارة المثيرة إلى نساء الفاتح وحليلاته
وهكذا اعتزم العاهلان أن يخوض كلاهما ذلك النضال الذي يشهره كلاهما في وجه الآخر؛ فبادر تيمور إلى الزحف في جيشه الزاخر شرقاً نحو هضاب الأناضول، ونفذ إلى مملكة الروم، واستولى في طريقه على مدينة قيصرية، ثم اخترق نهر هاليس، وطوق مدينة أنقرة؛ وكان بايزيد قد استطاع في الفترة التي قضاها تيمور في الشام أن يجمع قواته وأن يستكمل أهبته. وتقول لنا الروايات المعاصرة إن جيش التتار بلغ يومئذ زهاء ثمانمائة ألف مقاتل، وأن جيش الترك بلغ زهاء أربعمائة ألف، وهي أرقام هائلة في تلك العصور وخصوصاً إذا ذكرنا ما كانت عليه وسائل النقل والتموين يومئذ من نقص وصعوبة. وكان الجيش العثماني يتفوق على جيش التتار بنظامه، ويمتاز بالأخص بفرق الانكشارية الجريئة؛ ولكن جيش التتار فضلا عن تفوقه العددي، كان متفوقاً في روحه المعنوي. وكانت هذه الانتصارات المتوالية التي أحرزها التتار ما بين السند والأناضول قد بثت في نفوس الغزاة روحاً من الثقة الوطيدة. ولما وقف بايزيد على مقدم تيمور هرع إلى لقائه في ظاهر أنقرة، وكان هذا اللقاء الشهير بين الجيشين العظيمين في يوم الأربعاء 27 ذي الحجة سنة 804 (أواخر يولية سنة 1402) وأبدى بايزيد وجيشه شجاعة فائقة؛ ولكن سرعان ما دب الوهن إلى قواته، وانسحب بعضها من الميدان بإغراء تيمور ووعوده. وسرعان ما حلت النكبة بالترك فمزقت قواتهم وسحقت، وأسر بايزيد وعدة من ولده وآله؛ وفر ولده سليمان في بقية من الجيش صوب العاصمة؛ وطارد الغزاة العدو المنهزم، واستولوا على كوتاهية؛ ثم زحف محمد سلطان حفيد تيمور إلى بروصه عاصمة مملكة الروم فاستولى عليها، وعاث فيها ونهب القصور الملكية وسبى حريم السلطان، وفر سليمان إلى الشاطئ الأوربي حاملاً ما استطاع إنقاذه من خزائن أبيه. وسحق ملك بني عثمان تحت سنابك الغزاة مدى حين
وهنا تعرض للحرب صفحة في تلك المأساة الشهيرة، فإن ابن عربشاه مؤرخ تيمور يقول لنا إن الفاتح التتري سجن بايزيد في قفص من الحديد كما فعل قيصر مع سابور ملك
فارس؛ وهي رواية عربية تؤيدها الروايات اليونانية واللاتينية المعاصرة؛ بيد أن رواية ابن عربشاه ليست في حاجة إلى التأييد، فهو مؤرخ معاصر كتب روايته بعد وفاة تيمور بنحو ثلاثين عاماً فقط، واستقى مادته في سمرقند ذاتها حيث عاش مع أسرته ردحاً من الزمن وسمع أقوال رواتها وشيوخها المعاصرين لتيمور، واستقاها كذلك من بلاط السلطان محمد الأول بن السلطان بايزيد، حيث قضى في خدمته حيناً وتقلد لديه ديوان الإنشاء، واطلع على جميع المصادر والوثائق التركية والفارسية التي تتعلق بسيرة تيمور وغزواته؛ وإذن فليس في روايته عن القفص الحديدي الذي سجن فيه بايزيد ما يدعو إلى الريب
وهنالك رواية أخرى يقدمها إلينا مؤرخ فارسي معاصر، هو شرف الدين علي الذي كتب سيرة تيمور بعد وفاته بعشرين عاماً، تحقيقاً لرغبة حفيده السلطان إبراهيم. وخلاصة هذه الرواية هو أن تيمور حينما علم بأن السلطان الأسير (بايزيد) قد اقتيد إلى خيمته، نهض للقائه، وأكرم وفادته، وأجلسه إلى جانبه، وعتب عليه في لفظ رقيق، وحمله تبعة ما وقع، ووعده بصون حياته وشرفه؛ فتأثر بايزيد لكرم خصمه، وأعرب عن ندمه وقبل منه خلعته، وعانق ولده موسى الذي أسر معه والدمع ينهمر من عينيه؛ وأنزل السلطان وباقي الأمراء الأسرى منزلا حسناً. ولما وصلت زوج السلطان وهي الملكة رسبنا اليونانية وابنتها وباقي حريم السلطان، حملن إليه مكرمات معززات. ولما دعي السلطان إلى الحفلة التي أقامها تيمور ابتهاجاً بالظفر؛ وضع تيمور التاج على رأسه، ووعده برد عرشه وملكه، ولكن السلطان الأسير ما لبث أن توفي، فحزن تيمور عليه وأمر بدفنه بين مظاهر التكريم في المدفن الذي أقامه لنفسه في بروصة، واختار ولده موسى ملكاً على الأناضول
على أن هذه الرواية لا يمكن أن تنال من الثقة ما تناله منا رواية ابن عربشاه، فهي على ما يلوح رواية قصر أريد بها تمجيد ذكرى الفاتح وعرض مناقبه. ويحاول المؤرخ الفيلسوف جيبون أن يوفق بين الروايتين، فيقول لنا إن رواية شرف الدين في شقها الأول صحيحة لا ريب فيها، فقد استقبل تيمور أسيره برقة وأكرم وفادته، ولكن بايزيد قابل كرمه بكبرياء وغطرسة، فاستاء تيمور واعتزم أن يقود أسيره في ركبه الظافر إلى سمرقند؛ ولكن محاولة بذلت لإنقاذ الملك الأسير حملت تيمور على التشدد في معاملته، فزج به إلى قفص من الحديد، اقتداء بما قرأه في بعض السير القديمة من أن سابور أحد ملوك الفرس وقع في
قبضة قيصر فسجنه في قفص من الحديد. ويضيف ابن عربشاه إلى ذلك أن تيموراً أراد أن يذهب في التنكيل بأسيره إلى ذروة القسوة والمهانة، فدعاه ذات يوم إلى حفل أنس عقده؛ ولما جاء دور الشراب، التفت بايزيد فإذا بنسائه وجواريه يتولين سقاية الفاتح وصحبه أمام عيني مليكهن؛ وقد كان ذلك من تيمور مبلغة في الانتقام من خصمه والتشفي منه لما اجترأ عليه من ذكر النساء في مكاتبته. وقد كان لهذه الآلام المادية والمعنوية أثرها في الملك الأسير، فلم يمض على محنته بضعة أشهر حتى توفي في غمر الحسرات والأسى، وكانت وفاته في مارس سنة 1403م
وكانت هذه أيضاً آخر غزوات تيمور وانتصاراته؛ فلم يمض قليل على عوده إلى مملكته حتى لحقه المرض وتوفي في شهر فبراير 1405؛ وكانت وفاته نذير انحلال ذلك الصرح الشامخ الذي شاده بعبقريته وظفره وسعد طالعه
محمد عبد الله عنان
عبرة السيرة
بين يدي (العدد الممتاز) من الرسالة
للأستاذ علي الطنطاوي
إن مائة ألف قارئ في مشارق الأرض ومغاربها، سيأخذون (غداً) العدد الممتاز من (الرسالة) وسيقرؤونه وسيحيي في نفوسهم هذه الذكرى العظيمة المحبوبة التي نقف عندها في كل رأس عام هجري، كما يقف المُصْحِر في واحة مخضرة ظليلة. . . ننشق منها عبير المجد، ونتسمع أغاريد النصر، ونتجلى في طلعتها طيف الأيام الباسمة التي كان من قطوفها ألف معركة ظافرة حملت غارها الراية الإسلامية، وألف مدرسة وألف مكتبة نالت فخارها وجنت ثمارها البلاد الإسلامية، وكان من حصادها هذه الحضارة التي نعمت في أفيائها الإنسانية، وكانت إحدى الحضارات العالمية الثلاث بل كانت أسماها (من غير شك) وأحفلها بالعظمة والفضيلة والحق!
نقف كل عام لنحيي ذكرى الهجرة ونحييها، فنكتب فيها ونقرأ ونذكر ونتأمل، ونرتفع على جناح هذه الذكرى إلى جوّ عال من العظمة والفضيلة والشرف، نبقى فيه ما بقي المحرَّم، فإذا مر مر معه كل شيء: صوّخت الآمال، وهجعت الذكريات، وعدنا نتخبط في سوداء اللجة. . . لا نربح من هذه الذكرى إلا ما يسيل على أقلام أولئك الأعلام البلغاء من طرائف البيان يحويها عدد الرسالة الممتاز، ولا نفيد من المحرم إلا ما (قد) نقرؤه في الصحف والمجلات من القصص والقصائد والمقالات. وكثير مما يكتب في العدد الممتاز، وبعض مما ينشر في الصحف والمجلات، قيم ثمين، نعتده ثروة جديدة تضم إلى آدابنا الغنية الحافلة بثمرات القرائح الخصبة الممرعة في الأعصار الطويلة، ولكن ذلك لا يكاد يجدي علينا في نهضتنا إذا نحن لم نحيي هذه الذكرى إحياءً، ونكتبها مرة ثانية على صفحات الوجود، ونأخذ منها عبرة تنفعنا في نهضتنا، وهذا ما أنشئ له العدد الممتاز، وهذا ما يراد من إصداره.
وفي هذه السيرة من القوة والسمو والحياة، ما يغذي عشرين نهضة ويمدها بالقوة، لا تدانيها في هذا سيرة في التاريخ ولا تشبهها، بل إن هذه السيرة أعجوبة التاريخ ومعجزته، وهي خيال بالغت الدنيا في تزيينه وتزويقه، وأودعته مثلها العليا كلها. فجعله الله حقيقة واقعة. .
ولقد قرأت هذه السيرة مرات الله أعلم بعددها، في كتب لا أكاد أحصيها، ثم عدت اليوم أقرؤها لأجد في ثنى من ثناياها قصة مطوية أو حادثة مختبئة، أبني عليها فصلاً أكتبه للعدد الممتاز، وفي ظني أني لن أسير في قراءتها إلا قليلا حتى أملها وأعزف عنها لأني لا أجد فيها - وقد قرأتها حتى حفظتها - خبراً جديداً. . . وأقسم أني لم أسر فيها غير بعيد حتى أحسست بلذة فنية تمتلك عليّ أمري، وتستأثر بنفسي، كاللذة التي أمسها عندما أقرأ الأثر الأدبي البارع لأول مرة، وتغلبني حتى تضطرني أحياناً إلى قطع القراءة لأمسك بقلبي الواجب، أو أمسح عيني المستعبرة، أو أصغي إلى صوت الحق في ضميري، ومنادي الفضيلة في قلبي؛ ثم أسير فيها، فأنتقل من اللذة الفنية، والشعور بالجمال، إلى شيء أعلى من الفن وأسمى من الجمال: أحس بحلاوة الإيمان؛ وإن للإيمان لحلاوة عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها، فمن عرف درى ما أقول، ومن جهل لم ير إلا حروفاً فارغة من المعنى. . . وإذا جاء الإيمان جاءت معه البطولة بأروع أشكالها، والتضحية بأعجب أنواعها، وجاء معه الصبر والإيثار والقوة والشعور، وكل فضيلة من فضائل البشر. . . وكذلك كانت حياة أصحاب هذه السيرة!
كانت حياةً أسمى وأجمل من كل حياة عرفتها أو قرأت عنها أو تخيلتها: معرفة للغاية التي خلق الله الناس من أجلها، وجهاد في سبيل هذه الغاية، وجرى على هذا الجهاد، وترفع عن خدع الحياة وألاعيبها، واتصال بالله يكاد والله يرفعهم من رتبة الإنسانية إلى رتبة الملائكة ويخرج بهم من ثوب الجسم الماديّ، حتى يكونوا روحاً خالصاً. . .
عرفوا ما هي الغاية من الحياة وفهموها، على حين جهل الناس هذه الغاية فهم يسألون أبداً: لماذا نعيش؟ أو خدعوا عنها بغايات دنيئة قريبة. . . أما هؤلاء الغربيون فحسبوا الغاية من الحياة هي الحياة. جعلوا السبب هو المسبّب، والوسيلة هي الغاية، فعمدوا إلى تَرْفيهِ الحياة، واستخدموا لأجل ذلك ما قدروا عليه، فصارت حضارتهم آلية جامدة، وصاروا لطول ما اشتغلوا بالحديد والنحاس يفكرون بعقول من حديد ونحاس، وانقطعت صلتهم بالروح وانبتّوا مما وراء المادة. . . وأما هؤلاء المشرقيون، من الهنود وأمثالهم، فساروا على الضد، وأهملوا الجسم وعاشوا للروح، فظنوا بأن غاية الحياة الفناء في المطمح الروحي،
فقتلوا أجسامهم، وأعرضوا عن دنياهم، وأغرقوا أعمارهم في تأمل لا أول له ولا آخر، ولا جدا منه ولا منفعة. . أما الفلاسفة فكان منهم الماديون الذين بلغ من رقاعتهم أن أنكروا الروح إنكاراً وجحدوا الله، وقال متكلمهم:(إن الدماغ يفرز الفكر كما تفرز الكبد الصفراء. . .) فجعل الفكر مادة سائلة. . . ومنهم الروحيون الذين كانوا أصحّ نظراً، وأدنى إلى الحق، ولكنهم لم يصلوا إليه. . . تساءلوا منذ بدؤوا يفكرون: لماذا نعيش؟ ولا يزالون مختلفين يتساءلون هذا السؤال الذي عرف المسلمون وحدهم جوابه، حين قرءوا قول الله الذي أنزله على عبده ورسوله:(وما خَلقتُ الجنَّ والإنسَ إلاّ ليعبدون)
استدلّ المسلمون بالمخلوق على الخالق، وأرشدهم الله إلى عظمة هذا الكون (المكوَّن) فعرفوا منها ما لم يعرفه أصحاب الفلك من العلماء الماديين، غاية ما يعرف هؤلاء أن بيننا وبين الشمس كذا، وأنها أكبر من أرضنا هذه بكذا، ثم إن من هذه الكواكب كواكب لو ألقيت الشمس فيها لكانت رملة في صحرائها، أو نقطة من مائها، وما بين مشرق كوكب منها ومغربه أضعاف أضعاف ما بين الشمس والأرض، وغاب عنهم ما بعدُ من الكواكب، ووقفت دون رؤيته نظاراتهم ومكبراتهم، وعجزت عن الإحاطة به عقولهم وتصوراتهم، فسموه (فضاء غير متناهٍ)، كما يظنّ الطفل أن البحر لا ينتهي وليس له آخر. . . وهل شيء ليس له آخر، إلا مَنْ هو الأول والآخر؟ أما المسلمون فعرفوا أن وراء هذا الفضاء مخلوقاً عظيماً، يحيط به (كالسقف المرفوع) لا تقاس به هذه الكواكب إلا قياس (المصابيح) إلى السقف، تهون عنده هذه الكواكب العظيمة وتضؤل، لأن له من الكبر والجلال ما لا نجد في لغتنا هذه التي وضعت لهذه الأرض الحقيرة كلمة تدل عليه؛ هذا المخلوق هو السماء الدنيا، ومن فوقها ست سموات أخرى طباقٌ بعضها فوق بعض، ومن فوقها أشياء أجل وأكبر، لا تكاد هذه السموات تعدّ إذا قيست بها شيئاً، هي العرش والكرسي، وهناك الجنة، عرضها السموات كلها والأرض. . . هذه هي المخلوقات، التي كانت بكافٍ ونون، فما ظنك بالمكوِّن الباقي؟ ومن عرف هذا الجلال للمخلوق، كيف يكون إجلاله للخالق؟ وهل يجد لحياته غاية إلا الاتصال به وعبادته؟ وهل يقف به عقله وهمته في هذه الأرض؟. . . أي شيء هي الأرض في هذا الكون؟ ما هي في جنب الله؟
فهموا عقيدة القضاء والقدر أصحّ فهم وأجوده - وعقيدة القدر محنة العقل البشري، تزل
فيها العقول الكبيرة وتضل المدارك العالية - فكان فهمهم إياها أعونَ شيء لهم على ما وفقوا إليه من عمل، وأمضى سلاح بلغوا به ما بلغوا من ظفر. عملوا أن كل شيء بخلق الله وبعلمه، ولكن الله لم يضطر أحداً إلى الخير اضطراراً، ولم يجبره على الشر إجباراً، وإنما أعطاه العقل المميز، ودله على الطريقين المختلفين، وقال له: هذا إلى الجنة والسعادة، وهذا إلى النار والعذاب، وتركه وعقله. . . وأنه قدّر الأرزاق فلا زيادة ولا نقصان، وحدّد الآجال فلا تقديم ولا تأخير، فما كان لك سوف يأتيك على ضعفك، وما كان لغيرك لن تناله بقوتك؛ وإذا جاء أجلك فلا تستأخر لحظة ولا تستقدم. رفعت الأقلام وجَفَّت الصحف. . . فمضوا لا يهابون الموت في سبيل الله ولا يخافونه، لأنهم آمنوا إيماناً بأن المرء ليس أدنى إلى الموت، وهو في غمار المعركة الحمراء منه وهو في كسر بيته بين أهله وولده. . .
ولكن المسلمين الأولين لم يلقوا بأيديهم إلى التهلكة اعتماداً على أن الأجل محدود، ولم يُعرضوا عن سنن الحياة التي لا تجد لها تبديلا، بل اتبعوا قوانين الوجود، وساروا على نهج الحق، وحرصوا على الحياة حين يكون الواجب داعياً إلى الحياة، ورضوا بالموت حين يدعوهم الواجب إلى الموت. . . ولم يعرفوا هذا التوكل السخيف، فيناموا ويتقاعسوا عن العمل، لأنهم علموا أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، ولكن الله يرزق الناس بعضهم من بعض. وقرؤوا في القرآن قول الله الذي أنزله على عبده ورسوله:(فإذا عزْمتَ فتوكل على الله) فعزموا على العمل، وتوكلوا فلم يتكاسلوا عنه، ولم يتكالبوا على الدنيا؛ وجدوا كل الجد، ولكنهم لم يطلبوا شيئاً إلا من طريقه المشروع، وعملوا لدنياهم كأنهم يحيون أبداً، ولكنهم عملوا لآخرتهم كأنهم يموتون غدا
عرفوا هذه العقيدة على وجهها، فكانوا أعز الناس على الناس، ولكنهم كانوا أذلهم لله وللمؤمنين؛ وكان منهم أزهد الناس وهو أغناهم، لأن المال كان في يده لا في قلبه؛ وكان منهم الملك الزاهد، والعالم الغني، والفقير العزيز. . . وما شئت من خصلة من خصال الخير إلا وجدتها فيهم
كانوا إذا قرأوا في الصلاة قوله تعالى: (إيّاكَ نَعْبدُ وإيّاكَ نَسْتَعِين) كانوا صادقين، لا يعبدون إلا الله، ولا يستعينون إلا به؛ لا يسألون غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله، ولا يستعينون
بالأموات الذين عجزوا عن معونة أنفسهم. ولقد قرأت السيرة وتلوت القرآن، فلم أجد في القرآن إلا أن محمداً صلى الله عليه وسلم بشر كسائر البشر، في تركيب جسمه، وصحته ومرضه وطبيعة فكره، وخطئه وصوابه، ولكن الله اختاره للرسالة الكبرى، فعصمه من كل ما يدخل الخطأ على الرسالة، أو يؤدي إليه، أو يشين الرسول، فكان صادقاً مصدقاً، لا ينطق عن الهوى، ولا يقول (إذا بلغ عن ربه) إلا الحق، ولا يشرع من الدين إلا ما أذن به الله. وكان منزهاً عن الذنوب والمعايب التي لا يليق بصاحب الرسالة أن يتصف بها، فإذا جاوز الأمر تبليغ الرسالة وما يتصل بالدين إلى أمور الدنيا فهو بشر يخطئ ويصيب، وإن كان من أكثر الناس صواباً، وأقلهم غلطاً لأنه كان أكمل الناس عقلاً وأثقبهم بصير؛ ومادام بشراً فإنه يموت إذا جاء أجله. وإنه الآن ميت ليس حياً في قبره كما يظن الجهلة من العوام وأشباه العوام، ويمنعون الناس أن يقولوا إنه ميت، وقد قال الله ذلك في كتابه، وقاله أبو بكر صاحب الرسول وصديقه على منبر الرسول في مسجده، بحضرة أصحابه وعترته. أما الذي قاله عمر ساعة من نهار فإنما كان مصدره الألم المفاجئ، والحب الطاغي على الفكر، فلما سمع من أبي بكر ما سمع، لم تحمله رجلاه فسقط. . . . قرأت السيرة من ألفها إلى يائها، فلم أجد أحداً من المسلمين دعا الرسول أو لجأ إليه إذا حاق به الخطب الذي لا يقدر البشر على دفعه، وإنما كانوا يلجئون إلى الله ويدعونه، لا يقولون مقالة البوصيري:
يا أكرم الرسْل، ما لي من ألوذ به
…
سواك. . . عند حلول الحادث العمم!
ولا قول الآخر يخاطب عبد الله ورسوله بهذا الخطاب الذي لا يخاطب به مؤمن إلا الله وحده:
يا أكرم الرسل على ربه. . . . .
عجل بإذهاب الذي أشتكي
…
فإن تأخرت فمن أسأل؟
لا يدري من يسأل إذا تأخر رسول الله بإذهاب الذي يشتكي؟ وهو يقرأ كل يوم سبعة عشرة مرة (على أقل تقدير): (إيّاكَ نعبدُ وإيّاكَ نستعين)؟! ولم أجد صحابياً لجأ إلى الرسول بعد موته يستشيره في أمر، أو يراه في منام فيبني على رؤياه حكما ويأخذ منها علماً. ولقد اختلفوا على الخلافة والنبي صلى الله عليه مسجّىً في بيته لم يدفن، فما فكروا أن يلجئوا إليه وأن يستشيروه، وهل يستشار الميت؟
صدقوا بإمكان المعجزات والكرامات (وهي ممكنة والإيمان بإمكانها من أصول الدين) ولكنهم لم يكونوا يفهمونها على نحو ما نفهمها اليوم، ولم أجد للصحابة - وهم أفضل المسلمين - مثل هذه الكرامات التي نقرأ حديثها ونسمعه كل يوم. . . ووجدت كتب السيرة كلما تأخر بها الزمن، زادت فيها أحاديث المعجزات حتى بلغت هذه الموالد العامية (مولد البرزنجي وشبهه) التي جاء فيها ما نصه:(ونطقت بحمله صلى الله عليه وسلم كل دابة لقريش بفصيح الألسن القرشية!). . . (وتباشرت به وحوش المشارق والمغارب). . . (وحضرت أمه ليلة مولده آسية ومريم في نسوة من الحظيرة القدسية. . .!)
وقرأت السيرة كلها، ودققت في كل سطر منها فما شممت رائحة اختلاف بين المسلمين، لا في العقيدة ولا في المذهب ولا في الطريقة، وإنما المسلمون كلهم اخوة في أسرة واحدة، عقيدتهم واحدة، عقيدة بلغت من الوضوح واليسر و (البساطة) إلى حيث لا تدع مجالاً لاختلاف. وهل يختلف في أن الواحد يساوي الواحد؟ هذه هي عقيدتنا. . . ولكن المتكلمين أدخلوا فيها مسائل ليست من العقيدة في شيء، وملئوا بها كتبهم التي عقدوا فيها هذه العقيدة حين حشوها بحكاية كل مذهب مخالف والرد عليه. وجئنا نحن نزيد البلاء بلاء حين نحفظ الطلاب هذه المذاهب والرد عليها وقد انقرض أصحابها منذ دهور. . .
أما هذه (الطرق) فليست في أصل ولا فرع، ولا تكاد تمشي مع المأثور من الذكر، وإن أكثرها مسخرة ولهو ولعب: رقص سموه ذكراً، وغناء دعوه عبادة؛ فما أدري أهم أنبياء بعد محمد؟ (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله)؟ وإلا فما بال هذه الحمحمات وهذه الدمدمات، وهذه الطامات المخزية التي نشهدها في تكية الدراويش المولوية وأشباهها من دور أصحاب الطرق أو. . . قطاعها!
ولقد قرأت السيرة كلها وأجهدت نفسي لأجد شيئاً من الأشياء، أو مكاناً من الأمكنة قدسه المسلمون وتبركوا به، فلم أجد إلا ما كان من تقبيل الحجر الأسود أو استلامه. وقول عمر:(إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله قبلك ما قبلتك). . . وتمنيت أن أرى في السيرة ذكر المحمل الذي صار في مصر من شعائر الحج، يتبرك عظماء مصر بلمس عنان جمله، ويعرض ذلك في (أفلام السينما) على أنه من أركان الحج. وأجد في السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان - وهو يعاني آلام مرض الموت
- ينهى عن اتخاذ القبور مساجد، فأعجب من حال المسلمين اليوم إذ لا أرى مسجداً كبيراً إلا بني على قبر أو كان فيه قبر. . .
هذا قليل من كثير عرضته مثالاً لما في السيرة من عبرة تنفعنا في نهضتنا، ودرس يفيدنا في حاضرنا. فكرت قبل عرضه وترددت، ثم آثرت إرضاء الحق ومصلحة الأمة، ففتحت هذا الباب لندخل إلى هذه السيرة العظيمة فلا نخرج منها إلا بالحياة والعز والمجد، والمزايا التي تعيد للأمة الإسلامية مكانتها في الدنيا!
(بيروت)
علي الطنطاوي
بين الوطنية والأممية
للأستاذ ساطع بك الحصري
مدير الآثار بالعراق
- 2 -
تصوروا أيها السادة أن هذا المفكر الذي استرسل في التحمس إلى القومية الألمانية بهذه الصورة العجيبة، كان قد ظل بعيداً عن التفكير في الوطن والوطنية حتى نكبة (يه نا) الأليمة. . . إنه تجاوز العقد الرابع من عمره، ولم يكتب كلمة واحدة عن الوطن والوطنية، مع أن أبحاثه الفلسفية كثيراً ما كانت تتناول مسائل الحياة الأخلاقية والاجتماعية. . . بل بعكس ذلك، أظهر ميلاً واضحاً نحو النزعة العالمية حتى أنه في أحد الدروس التي ألقاها في الثانية والأربعين من عمره - احتقر (الذين يرون وطنهم في الأرض والأنهر والجبال)، فقال:(إنني أسأل: - ما هو وطن الأوربي المسيحي المتمدن حقيقة؟ - هو أوربا بوجه عام، والدولة الأوربية التي تشغل الصف الأعلى في سلم الحضارة على وجه أخص. . .) وكان يشير فيخته في قوله هذا إلى الدولة الفرنسية نفسها!
إن المدة التي مرت بين نشر هذه الكلمة وبين حدوث واقعة (يه نا) كانت عبارة عن تسعة أشهر فقط! وأما المدة التي مرت بين نشر هذه الكلمة وبين إلقاء الخطب الوطنية التي بحثت عنها، فلم تتجاوز ثلاث السنوات!. . . فإن الوقائع التي حدثت خلال هذه المدة القصيرة اضطرت فيخته إلى الانتقال من الفكرة العالمية المتساهلة إلى النزعة الوطنية المتشددة، وجعلته من أشد المتعصبين للقومية الألمانية، ومن أقوى وأنشط الداعين إليها
وأما (آرنت) فقد اشتهر بأشعاره الوطنية التي أيقظت في نفوس الألمان روح الحماسة والتضحية، وأوقدت في قلوبهم ضرام النخوة والحمية في تلك الأيام المملوءة بأنواع المصائب والنكبات
فاسمحوا لي أن أسوق إليكم نموذجاً من أشعاره الحماسية قال:
(أعطوني وطناً حراً، وأنا أرضى أن أفقد كل شهرتي، فيصبح اسمي منسياً، لا يذكر في غير داري ودار جاري. . .
(أعطوني بقعة أرض في جرمانيا، يستطيع فيها العندليب أن يغرد دون أن يرمى بسهم فرنسي. . .
(أعطوني كوخاً حقيراً يستطيع أن يصيح ديكي فوق حاجزه، دون أن يقع فريسة في يد فرنسي. . . وأنا أصيح عندئذ مثل الديك وأغرد مثل العندليب بكل فرح وسرور،. . . ولو أفقد كل ما ملكته يداي، فلم يبق لي شيء يستر جسمي غير قميص بال. . .)
تصوروا أيها السادة أن هذا الشاعر الذي أظهر مثل هذا الشعور الوطني الرقيق بهذا الشكل الطريف، في هذا الشعر الحماسي، وفي مئات من أمثاله. . . هذا الشاعر أيضاً كان بعيداً عن فكرة الوطن والوطنية - بتأثير النزعة العالمية السائدة حوله إذ ذاك -
حتى حروب نابليون. . . إنه اعترف بذلك هو نفسه، فقال:(إنني عرفت وطني في ثورة الغضب، وأحببته في ساعة النكبة، وآمنت بأنه لا بشرية بلا أمم، ولا أمة بلا وطن حر. . .)
أعتقد أن هذين المثالين يكفيان لإظهار التطور العميق الذي حدث في الآراء والنزعات في البلاد الألمانية عقب استيلاء الفرنسيين عليها، في العقد الأول من القرن التاسع عشر. .
نستطيع أن نقول إن الفكرة العالمية فقدت قوتها ونفوذها في ألمانيا تماماً، وتركت محلها لروح وطنية متأججة، استمر اضطرامها طول القرن التاسع عشر. .
مع هذا لم تندثر تماماً في سائر البلاد، بل بعكس ذلك - وجدت في بعضها تربة صالحة لنموها - تحت شكل جديد، هي فكرة (السلم الدائم العام. . .)
فقد تألفت عدة جمعيات تدعو إلى السلم والتآخي، منذ سنة 1814، وأخذت تسعى لنشر مبادئها بين المفكرين والناس بصور ووسائل شتى: إنها أخذت تدعو إلى توحيد الأوطان؛ حتى أنها لم تتردد في بعض الأحيان في توجيه حملات عنيفة على الوطنية في سبيل هذه الدعوة. . إن فكرة السلم والتآخي وجدت بهذه الصورة عدداً غير قليل من الأنصار والمريدين، بين الأدباء والمفكرين ورجال الدين. . وصار هؤلاء يعقدون سلسلة مؤتمرات أممية. . بقصد نشر فكرة السلم والتآخي بين الأمم. .
غير أننا إذا تتبعنا سير انتشار هذه الفكرة، نجد أن هذا الانتشار لم يجر باطراد، على وتيرة واحدة - فإن الفكرة كانت تنتشر انتشاراً لا بأس به مدة من الزمن ثم تتقلص وهلة،
عندما تصطدم بالوقائع، وتشهد حدوث حروب جديدة، فتبدد الأحلام المستولية على الأذهان، وتثير ضغائن جديدة بين الأمم. . .
نستطيع أن نجد خير مثال لذلك فيما كتبه وقاله الشاعر الفرنسي العظيم (فيكتور هوجو). انجذب هذا الشاعر إلى فكرة توحيد الأوطان، ونشر ألوية السلم على العالم. فاشترك في مؤتمرات السلم، وألقى في بعضها بعض الخطب، وأرسل إلى بعضها بعض الرسائل؛ وفي كل ذلك أظهر نزوعاً شديداً نحو السلم العام، وإيماناً عميقاً في أمر توحيد الأوطان. . وتخيل في إحدى خطبه العهد الذي ستتحد فيه الدول الأوربية بأجمعها، والعهد الذي ستتصافح فيه الولايات المتحدة الأوربية (مع الولايات المتحدة الأمريكية) من وراء البحار، وتوحد أعمالها لخير البشر العام. . . كما حلم في العهد الذي ستنتقل فيه المدافع إلى المتاحف، وستترك القذائف محلها إلى أوراق التصويت في ندوة عالمية، تكون السيادة فيها للمناقشة العلمية والرأي الحر. . . وتحت تأثير هذه الأحلام وجه الشاعر دعوة حارة لإزالة الحدود والفوارق من بين الأمم، قائلاً: إن رأس البلاء هو الحدود؛ لأن مفهوم الحدود يتضمن المخفر، والمخفر يتطلب الخفير، والخفير يستوجب الجيش، والجيش يدعو إلى الحرب. . . فلنحذف الحدود. . لكي نرى ألوية السلم سائدة على العالم، وروح الأخوة منتشرة بين البشر. . .
ومن غريب الصدف أن هوجو كان قد أرسل هذا البيان إلى مؤتمر السلم الذي انعقد في لندن سنة 1869، أي قبل نشوب حرب السبعين بسنة واحدة فقط! وما كادت الحرب تنشب بين فرنسا وألمانيا، حتى ترك الشاعر هذه الأحلام جانباً وأخذ يبدع سلسلة أشعار حماسية، تتأجج فيها روح وطنية ثائرة. . .
إن هذا الشاعر لم يكن من الشواذ في هذا الباب. بل ظهر له أمثال كثيرون في كثير من البلاد. . . فعدد غير قليل من المفكرين انجذبوا مدة من الزمن إلى فكرة توحيد الأوطان، ثم عادوا إلى النزعة الوطنية والقومية تحت تأثير الوقائع والحادثات. .
لا ننكر أن بعضهم ظل متمسكاً بهذه الفكرة طول حياته، كما فعل (تولستوي) الشهير. . . فإنه ظل يدعي أن الوطنية من بقايا العهود الهمجية وأن من يعيش عيشة فكرية حقيقية لا يمكن أن يعترف بالوطن والوطنية. . . وظل يدعو الناس إلى نبذ النزعات الوطنية مهما
كانت أشكالها، والى الامتناع عن الحروب مهما كانت الأسباب الداعية إليها. . . غير أن (روزفلت) الكبير أجاب على آراء (تولستوي) في إحدى خطبه بكلمة طريفة جداً قال:
(نعم، قد يأتي عهد - في أغوار عصور المستقبل البعيد - تفقد فيه الوطنية قيمتها وفائدتها. . . كما أنه قد يأتي عهد يندثر فيه نظام الأسرة فالزواج. . . غير أنه يجب أن نعرف جيداً أن الرجل الذي لا يفرق بين وطنه وسائر الأوطان - في المجتمع الذي نعيش فيه الآن - يكون عنصراً مضراً، كالرجل الذي لا يفرق بين زوجته وسائر النساء. . .)
إن دعاة السلم العام والأخوة البشرية الشاملة الذين ظهروا طول القرن التاسع عشر، وفي أوائل القرن العشرين، حتى الحرب العالمية - كانوا يتكهنون بقرب تحقق أحلامهم وأمانيهم. . . غير أن الوقائع والحادثات كانت تأتي على الدوام معاكسة لتلك الأماني والأحلام. . . كانوا يتكهنون بأن ساحات الحرب ستتحول إلى أسواق تجارية. غير أن الوقائع أتت بنتائج معكوسة لذلك تماماً، لأن الأسواق التجارية أصبحت مثاراً للحروب. . .
كانوا يقولون بأن المدافع ستنتقل إلى المتاحف. . . ولا ننكر أنه قد حدث شيء من ذلك، فإن المدافع التي كان يعرفها هؤلاء الدعاة انتقلت فعلاً إلى المتاحف؛ غير أن ذلك لم يحدث من جراء انتصار فكرة السلم العام، كما أنه لم يؤد إلى تقوية الفكرة المذكورة. . . بل إنه حدث من جراء اختراع أنواع جديدة من المدافع تفوق قوتها الحربية قوة تأثير المدافع القديمة مئات من الدرجات. . .
كانوا يوجهون أنواع السهام إلى (الحدود) التي تفصل الدول بعضها عن بعض؛ وكانوا يتمنون زوالها خدمة للسلم العام فقد حدث فعلا في الحدود التي كانوا يعرفونها، انقلابات عظيمة أدت إلى تبدل عشرات منها وزوال مئات. . . غير أن كل ذلك لم يحدث على أساس توحيد الأمم بأجمعها، ولا على أساس توحيد الأمم المتمدنة وحدها. . . بل حدث من جراء تحقيق النزعات القومية، وإعادة بناء الدول حسب مقتضيات تلك النزعات. . . فقد اتحدت الدويلات الكثيرة التي كانت تنقسم إليها بعض الأمم؛ فكونت دولة كبيرة أشد وطنية وأصلب قومية من جميع الدويلات التي اندمجت فيها. . . هذا ومن وجهة أخرى قد تجزأت بعض الدول الكبيرة التي كانت تتألف من أمم مختلفة النزعات، وانقسمت إلى عدة دول مستقلة؛ غير أن ذلك أيضاً حدث بتأثير النزعات القومية، وأدى إلى تقوية تلك
النزعات. . .
تجاه هذه النتائج الفعلية فقدت الفكرة العالمية كل ما كان لديها من قوة؛ فأخذت فكرة السلم العالم ونزعة الأخوة البشرية اتجاهاً جديداً يختلف عما كان يقصده دعاة العالمية كل الاختلاف.
هذا الاتجاه الجديد، هو الدعوة إلى التعاون والتضامن بين الأمم داخل نطاق الوطنية والقومية تماماً. فلتبق كل أمة متمسكة بوطنيتها على أن تحترم وطنية الأمم الأخرى أيضاً. فلتبق كل أمة مستقلة في شؤونها على أن تتعاون مع سائر الأمم في مختلف ساحات النشاط البشري من العلم والثقافة إلى الاقتصاد والمواصلات. . .
إن هذه النزعة الجديدة لم تكن من نوع التمنيات الخالية، بل هي من النزعات العملية التي أنتجت نتائج باهرة، وساعدت على تكوين (مؤسسات أممية) كثيرة. . . من (اتحاد البرق والبريد الأممي) إلى (مؤسسة التعاون الفكري الأممي). . . ولاسيما بعد الحرب العالمية. . .
فنستطيع أن نقول لذلك: (إن نزعة الوطنية خرجت سالمة ظافرة من الكفاح العنيف الذي حدث بينها وبين فكرة العالمية بأشكالها المختلفة. . .)
غير أن الوطنية - بالرغم من تغلبها على النزعات المعادية التي ذكرناها آنفاً - وجدت نفسها منذ مدة، أمام نزعة معادية أخرى، أشد خطراً من جميعها. هذه النزعة هي (الماركسية) - نسبة إلى مؤسسها (كارل ماركس) - وبتعبير آخر هي:(الأممية الشيوعية)
إن دعاة هذه (النزعة الأممية) لم يحملوا بآمال السلم العام، ولم يعللوا أنفسهم بأماني الأخوة البشرية الشاملة. . . بل على العكس من ذلك آمنوا بضرورة الحرب، واستعدوا لها؛ غير أنهم قالوا إن هذه الحرب يجب أن تكون من نوع جديد. يجب أن تنشب بين الطبقات المختلفة لا بين الأمم المختلفة. يجب على عمال العالم أن يتحدوا على اختلاف أوطانهم ليحاربوا الرأسماليين مهما كانت قومياتهم. . .
إن دعاة الأممية الشيوعية يريدون تغيير نظام المجتمع الحالي من أساسه، ويعتقدون أن ذلك لا يمكن أن يتم دون ثورة وحرب، ويقولون بأن هذه الثروة يجب ألا تتقيد بقيود الوطنية بل يجب أن تعمل ضدها. . .
يقول الماركسيون إن الوطنية من وسائط حكم الرأسمالية، هي من الأسلحة التي تستعملها الرأسمالية لخداع الصعاليك، واستخدامهم لأغراضها الخاصة فلا يمكن أن يتأسس النظام الشيوعي ما لم تهدم فكرة الوطنية الخداعة وتمحى الحدود التي تولدت منها. . . فالأممية الماركسية تدعو إلى نبذ الفكرة الوطنية، ومحاربة الرأسمالية، أينما كانت، وبأية واسطة كانت. . . لذلك تطلب إلى العمال أن يتحدوا دون أن يلتفتوا إلى الحدود التي أقامتها النزعات القومية الوطنية، ودون أن يتقيدوا بالروابط التي أوجدتها هذه النزعات، ولهذا السبب تبدأ دعوة الماركسيين كل يوم بهذه الصيحات:
(يا عمال العالم اتحدوا. . .)
تدعو الماركسية جميع عمال العالم إلى الاتحاد، لأنها تقول بأن وطن العامل هو المعمل وحده. . . وأما مواطنه الحقيقي فهو العامل الذي يكد مثله مهما كانت قوميته؛ كما أن عدوه الأصلي هو الرأسمالي الذي يستغله مهما كان الوطن الذي ينتسب إليه. . . فعدو العامل الفرنسي مثلا - ليس الجندي الألماني أو الإنكليزي أو الروسي - بل هو الرأسمالي، سواء كان من الفرنسيين أو الألمان أو الإنكليز أو الروس. . . فيجب على جميع عمال العالم أن يتحدوا لمحاربة الرأسماليين على اختلاف أوطانهم وقومياتهم. .
(البقية في العدد القادم)
ساطع الحصري
ليلى المريضة في العراق
للدكتور زكي مبارك
- 11 -
وصلت طلائع من كتائب المؤتمر الطبي في صباح اليوم. فليكن من هواي أن أتسمع أحاديث الأندية في المساء
لم يصل إلى فندق تايجرس غير طبيب واحد. وقد قضيت معه لحظة ففهمت أنه خالي الذهن من الغرض الصحيح لعقد المؤتمر الطبي في بغداد. وليس هذا بمستغرب من مثله، لأنه بولوني لا يعرف ما يساور شعراء العرب من المعضلات الوجدانية. وقد حاولت أن أفهمه أن المؤتمر إنما يعقد في بغداد لمعاونتي على مداواة ليلى فلم يفهم إلا أن اسم ليلى قد يكون اسماً لمرض من الأمراض. وما علينا إذ لم يفهم البولونيون!
لم يعرفني أحد من أطباء فلسطين وسورية ولبنان، فالذين قرءوا (مدامع العشاق) يحسبونني فتى لا يجاوز الثلاثين، والذين قرءوا (الأخلاق عند الغزالي) يحسبونني شيخاً يصافح الثمانين؛ وهم جميعاً يعتقدون أني مطربش لا مُسَدَّر، فدخولي بينهم بالسدارة يوهمهم حتما أني من فتيان العراق
وكذلك استطعت أن أسرق أحاديثهم في فندق استوريا من حيث لا يشعرون
تحدث طبيب منهم قال: ما كنت أحسب الزمن يسمح بمثل هذا الجنون؛ وما كنت أظن أن الجمعية الطبية المصرية تدعو أطباء العرب لعقد مؤتمر طبي يختبر حال ليلى المريضة في العراق. ولولا لجاجة زوجتي ما حضرت، فهي ترى التخلف عن هذا المؤتمر تحدياً للجنس اللطيف
واعترضه آخر فقال: هي فرصة طيبة لمشاهدة ليلى. وهي أيضاً مواساة للطبيب المصري الشهير زكي مبارك الذي هجر وطنه وأهله في سبيل الوجدان، ومن الواجب أن يكون بين أبناء العرب أطباء يتخصصون في طب القلوب
وقال ثالث: الذي يهمني هو مشاهدة ليلى ثم دعوتها لشرب كأس أو كأسين في فندق الفرات
وقد ضج الحاضرون بالضحك والقهقهة وكادوا يجمعون على طرافة هذا الإسفاف
كنت خليقاً بالحزن على ما صار إليه أدب الناس، ولكني حزنت على نفسي. حزنت حتى
غلبني الدمع
فهؤلاء الذين يتصورون أن العافية لا تطلب لليلى إلا لتصلح لمعاقرة الكأس، هؤلاء تقدموا وتأخرت؛ هؤلاء تفردوا بالفوز وتفردت بالخيبة. وهل كنت أقل سفها منهم حتى يفوزوا وأخيب؟
إن خراب عيادتي في شارع المدابغ، وتدهور عيادتي في شارع فؤاد، وحياتي المشردة بين القاهرة وباريس وبغداد، كل أولئك النكبات ستهد من عزيمتي، أنا الطبيب المسكين الذي أضاعه الأدب فلم يعد يصلح لغير طب القلوب، في زمن خلا من القلوب
لن أسمح بخروج ليلى، ولن يراها أحد من أعضاء المؤتمر الطبي بعد الذي سمعت
ولكن هل كان ما سمعت هو كل السبب في حماية ليلى من أهل الفضول؟
الحق أني مريض بالغيرة. مريض، مريض لا يرجى له شفاء.
وكان مرض الغيرة خف بعض الخفة في سنة 1927 ثم عاد فأضرعني
وتفصيل ذلك أني جلست أصطبح في قهوة الروم في باريس، فرأيت فتاة فصيحة العينين تجالس رجلاً فانياً، فأخذت أداعبها بنظراتي؛ وكنت فتى فصيح العيون يرسل بعينيه إشارات وخطابات وبرقيات إلى من يشاء؛ وكانت الفتاة تفهم عني فتعبس تارة وتبسم تارة وفقاً لسياق الحديث. ورآها ذلك الشيخ موزعة بين الابتسام والعبوس، فسألها فلم تنكر، فأشار إلي أن أقترب فاقتربت، فقال بلهجة صارمة: ماذا تريد؟
وقد أزعجني السؤال، وتخوفت العواقب، فقد كنت في كل أدوار شبابي أبغض الذهاب إلى إدارة الشرطة، ولو لتأدية شهادة؛ وتلطف الله عزت قدرته فستر عيوبي، وأعفاني من ذل الاستجواب في مراكز البوليس. تباركت يا إلهي وتعاليت! فلولا لطفك لأذلتني شماتة الأعداء
وكنت في تلك الساعة أتصور بشاعة الذهاب إلى إدارة التحقيق فاضطربت وتلعثمت
وأعاد الشيخ سؤاله: ماذا تريد؟ خبرني ماذا تريد؟
فجمعت قواي وقلت: سيدي، أنا شاب من الشعراء، أنا من سلالة العباس بن الأحنف؟
فهدأ الشيخ قليلاً وقال: ومن العباس بن الأحنف؟ فأجبت: هو الذي يقول:
أتأذنون لصبٍّ في زيارتكم
…
فعندكم شهوات السمع والبصر
لا يضمر السوء إن طال الجلوس به
…
عف الضمير ولكن فاسق النظر
وترجمت له البيتين ترجمة مقبولة فابتسم وقال: ومعنى ذلك أنك تحب أن ترى وجه هذه الفتاة وتسمع صوتها؟ فقلت: إن سمح سيدي! فقال:
ففهمت إشارته ودنوت فزاحمت بركبتي ركبة الفتاة
رباه! متى تعود أيامي!
وأفهمني الشيخ أنه شاعر سويسري، وأنه لا يرجو من هذه الفتاة إلا أن تكون مصدر الوحي. وتلطف فقال إنه يسمح لي بمصاحبتها حين أشاء
فقلت: عفواً، يا سيدي، فجيبي يعجز عن تكاليف الحب
فقال: لك الحب، وعلي التكاليف
فأهويت على يده فقبلتها قبلة ما سمحت بمثلها لشيوخي في الأزهر الشريف
وكانت فرصة عرفت فيها أن الغيرة لها حدود
ولن أنسى ما حييت عبارات ذلك الشيخ الجليل فقد كان يسألنا بعد كل نزهة: ماذا صنعتم يا أطفالي؟ فكنت أقول مثلا: رأينا بارك سان كلو، وطربنا لجمال الطبيعة هناك
فيقول: ثم ماذا؟
فأجيب: ثم رجعنا
فيقول في ألم وسخرية: وهذا كل ما صنعتم؟!
وتفهم الفتاة ما يريد الشيخ فتقول: أؤكد لك يا مولاي أن المسيو مبارك ليس من العقلاء. وكان يدهشني أن يستريح الشيخ لهذا التصريح فأمضي وأقص ما افترعنا من المغامرات
رباه! متى تعود أيامي!
ولم يدم هذا النعيم غير أربعة أشهر، ثم سافر الشيخ والفتاة إلى جنيف، وعاد مرض الغيرة يساورني من جديد. وسأكون بالتأكيد من أشرف صرعاه
ولكن هل تكون هذه الغيرة ضرباً من الغباوة والحمق؟
لا، لا، وإنما هي فيض من المروءة والشرف، فقد قضيت دهري وأنا أحقد على من يهينون الجمال. ولهذا سبب معقول؛ فالمرأة التي تجود عليك بابتسامة يكون من حقها عليك أن تحفظ معها الأدب في السر والعلانية. والمرأة تعطي كثيراً جداً حين تجود بابتسامة.
والعاشق في جميع أحواله أقل تضحية من المعشوق، لأن العاشق يأخذ والمعشوق يمنح، والفرق بين الحالين بعيد. ولكن أين من يفهم المعاني؟
وقد أهلكني مرض الغيرة وأفسد جميع شؤوني وكاد يرزأني بالخراب. ولولا عناية الله لكنت اليوم ممن ينبذهم المجتمع ويتحاماهم الأهل والأقربون
فقد كان لي صديق من كبار الموظفين؛ صديق فيه شيء من الظرف وأشياء من السخف. وكان هذا الصديق يجب أن يطوف بي على رفيقاته من حين إلى حين؛ وكنت أعرف ماذا يريد؟ كان يريد أن أتعلم التسامح لأطوف به على رفيقاتي حين يشاء. وكنت أعرف ما يضمر وأسكت، لأني كنت أحب أن أقف على أمراض المجتمع لأحاربها عن علم لا عن جهل
وفي ذات يوم ابتدرني بهذه العبارة في لهجة جدّية:
- يا دكتور زكي، يا حضرة الفيلسوف، أما تحب أن تعرف رأي إخوانك فيك؟
- رأي إخواني؟ وماذا يرى إخواني؟ فما كنت إلا خير صاحب وأكرم رفيق
- أنا؟ أنا بخيل؟ وكيف وكان إخواني يغامرون ما طاب لهم الهوى، اعتماداً على الجيب الملآن، جيب الرجل الذي يجوع ليشبع الرفاق؟
- هم لا يتهمونك بالبخل من الناحية المادية، وإنما يتهمونك بالبخل من الناحية الغرامية
وعندئذ شعرت بأني مقبل على خطر فقلت:
- وماذا يريد إخواني؟
- يريدون أن تطوف بهم على رفيقاتك
فقلت: ليس لي رفيقات
فقال: يا سيدي، يا سيدي، على منطق الدكاترة!
فقلت: أؤكد لك ولسائر الإِخوان أني لا أعرف غير الكتاب والقلم والدواة والقرطاس
فقال: تعجبني حين تتخذ من حياتك العلمية ستاراً لحياتك الغرامية!
فقلت: أتحداك أن تذكر اسم امرأة واحدة يتصل بها غرامي
فقال: هل تنكر أن لك علاقات مع السيدة (. . .)
ونطق السفيه المجرم باسم امرأة مصونة أفديها بروحي. فلطمته لطمة أطارت ما كان وقع
على صدره من أغربة الأحلام والأماني
فنظر إليّ في تخاذل وقال: وَحْش!
فقلت: ولا يؤدب الأوباش غير الوحوش
وأراد أن يجمع ما تناثر من أشلاء شجاعته ليقابل العدوان بالعدوان، فنظرتُ إليه نظرة ساخت بها روحه، فانصرف وهو يقول: طوِّل بالك!
وقد طوّلت بالي، وكنت أتوقع أن يعود بعد ساعة أو ساعتين وفي يده مسدّس، ولكنه لم يعد أبداً
ثم عرفت بعد حين أنه انتقم مني على طريقة أمثاله من الأنذال، فكان يرسل خطابات مجهولة إلى الدوائر التي تؤذيني أن أُذكر عندها بالقبيح، فتلطخت سمعتي بالمنكرات في أقل من أسبوعين
رابه! ماذا نعاني في سبيل المروءة والشرف؟
ومشيت يوماً في شارع فؤاد أروِّح عن نفسي قليلاً برؤية اللؤلؤ المنثور، اللؤلؤ الذي يتوهج بذلك الشارع في الأصائل والعشيات، فلقيني صاحب قديم فقلت: من أين قدمت؟
فقال: كنت في منزل (. . . باشا)
فقلت: وكيف حاله؟ فقد طال شوقي إليه
فقال: لم أجده في المنزل، وإنما جلست مع زوجته لحظة، جلسة بريئة بالطبع
فنظرت إليه نظرة ساخرة وقلت: أتريد أن توهمني أنك كنت تملك الفجور وعففت مع أنك أضعف من الخصيان؟
وخلاصة القول أني أتهم المجتمع، وأرى من النذالة أن نعرض بناتنا وأخواتنا وزوجاتنا للناس. ولا يضايقني أن يغضب صديقي الدكتور إبراهيم ناجي وهو يكرر كلمة المرحوم زكي باشا إذ قال: إن زكي مبارك عاش في باريس ما عاش وظل مع ذلك فلاحاً من سنتريس
نعم، فلاّح، ثم فلاح، فإن شاء أبنائي أن يثوروا على أبيهم الفلاح فليحملوا إن استطاعوا رذائل المجتمع. أما أنا فقد نجوت ولله الحمد، فكانت زوجتي ترفض أن تستقبل أخاها الشقيق وأنا غائب. ويسرني أن أسجل اعترافي بالجميل لزوجتي الفلاحة التي سارت سيرة
أمها وجداتها فحفظت قلبي سليما من الهموم التي تزلزل عزائم الرجال
وإذاً فلن تخرج ليلى ولن يراها أعضاء المؤتمر الطبي
كذلك صممت ولن أرجع عما صممت
ومضيت إلى دار المعلمين العالية فإذا خطاب بالبريد الجوي وعلى غلافه:
(وزارة المعارف العمومية)
(مكتب الوكيل)
وزارة المعارف ومكتب الوكيل؟ وبالبريد الجوي؟
يا فتاح يا عليم!
أتكون وزارة المعارف أرادت أن ترجعني إلى مصر للتفتيش بالسنة التوجيهية والعياذ بالله؟
أتكون وزارة المعارف فكرت في إلغاء انتدابي لمداواة ليلى المريضة في العراق؟
ومرّت بالبال خواطر كثيرة، إلا خاطراً واحداً، هو أن تكون وزارة المعارف فكرت في تسديد ما عليها من الديون. وهل في الدنيا إنسان يبادر بتسديد ما عليه من ديون بلا طلب وبلا إلحاح؟ إن ديوني على وزارة المعارف ديون ثقيلة؛ ولن تدفعها إلا يوم يشهد معالي الوزير أو سعادة الوكيل بأنني رجل مظلوم لن يصل إلى مناصب تلاميذه إلا بعد أعوام طوال
ثم تشجعت وفضضت الخطاب فإذا سعادة العشماوي بك يخبرني بأنه قادم مع أعضاء المؤتمر الطبي، وأنه يسره أن يراني وأن يرى المصريين المقيمين بالعراق
ولكن لماذا اختصني سعادة العشماوي بك بهذا الخطاب؟
أغلب الظن أن يكون بعض الدساسين كتب إليه أني لا أؤدي الواجب في خدمة ليلى، فهو يريد أن يرى بعينيه ما صنعت في خدمة ليلاي
وإذاً فسيكون من الحتم أن تخرج ليلى لحضور حفلة الافتتاح
فما هذه المشكلات التي تثور في وجهي من حين إلى حين؟
من حق العشماوي بك أن يرى ليلى، ومن حقي أن أحجب عنه ليلاي
وأشهد أني قضيت يومين في درس هذا الموضوع الخطير. وكنت لا أعرف بالضبط: هل أغار على ليلى؟ أم أخاف على العشماوي بك؟ والحق أني أغار على ليلى وأخاف عليه،
أما غيرتي على ليلى فهي مفهومة لا تحتاج إلى شرح؛ وأما خوفي عليه فيرجع إلى اعتقادي أنه من أرباب القلوب. وربما جاز لي أن أصرح بأنه كان من عبيد الجمال في صباه؛ وإلا فكيف أتفق أن يكون دائماً من أنصار الآداب والفنون؟ وهل يعطف على الأدب والفن غير أرباب القلوب؟
ثم مرّ بالبال خاطر سخيف؛ ولكن لابدّ من تدوينه في هذه المذكرات. ألم أقل أني أدوّن عيوبي قبل أن يدوّنها الكرام الكاتبون؟
أنا مفتش بوزارة المعارف المصرية؛ ومن واجبي نحو نفسي أن أحّسن علاقاتي بوكيل الوزارة. أستغفر الله! فما أردت إلا أن أقول سعادة الوكيل. ولا تؤاخذني يا عشماوي بك فما أقصدك بالذات. وسعادة الوكيل يستطيع أن يكتب مذكرة يقول فيها إنه ثبت أن مواهب الدكتور زكي مبارك أعلى من مستوى التفتيش، وإنه لابدّ من تحويله إلى منصب مناسب بالجامعة المصرية
وهنا وجه الخطر، فمناصب الجامعة لا تنفعني، لأني لا أستطيع أن أشفي بها ما في نفسي من مرض السيطرة، لأن السيطرة في الجامعة مقصورة على العمداء، والظروف الحاضرة لا تمنحني العمادة ولو في كلية الآداب، لأن العمادة تتوقف على شرطين: أصوات الأساتذة، وموافقة الوزير. والأساتذة لن يعطوني أصواتهم أبداً، لأني جرحتهم جميعاً في جريدة البلاغ؛ والوزير الحاضر وهو معالي بهي الدين بركات باشا لن ينسى أني هجمت عليه في مقال نشرته بجريدة المصري. ومن المحقق أنه لن ينتقم مني، ولكن من المحقق أيضاً أنه لن يتحمس لإنصافي فيراني أصلح الناس لمنصب العميد
لابدّ لي على أي حال من أن أبقى مفتشاً بوزارة المعارف. وهل في الوزارة منصب أعظم من منصب المفتش؟ إن لي في هذا المنصب ذكريات تقضي بأن أخاطر في سبيله بكل شيء إلا ليلى، إلا ليلى، إلا ليلى
منصب المفتش منصب عظيم جداً، فمن كان في ريب من ذلك فليسمع:
دخلت المدرسة التوفيقية صباح يوم، فهالني أن أرى مظاهر القلق في جميع الصفوف، فقلت للناظر: ما هذه الجلبة؟ فقال: إن التلاميذ يتطلعون من النوافذ ليمتعوا أنظارهم بطلعة سعادة المفتش. فقلت في تعجرف: هذا أدب ما بعد الحرب، وكان الواجب أن يقهرهم
الخشوع. فقال الناظر: الرأي لك يا سعادة المفتش!
وقد عزّ عليّ أن يجاملني الناظر إلى هذا الحد، مع أنه أكبر مني سناً وعلماً، ولكن ماذا أصنع وأنا لا أخلو من لؤم، ومن حقي أن أستفيد من فساد المجتمع؟
ودخلت يوماً المدرسة الإبراهيمية فوجدت مدرساً كان من زملائي. وكان فيما أذكر أبصر مني بالدقائق النحوية والصرفية واللغوية، فأبيت إلا أن تعجرف عليه وأستطيل. وجدته يطلب من التلاميذ أن يتكلموا عن فوائد السينما، فقلت: لماذا لا تقول الخيالة؟ ورأيته يمرّ على كلمة (تطورّ) في دفاتر التلاميذ فلا يصححها، فحاسبته أشد الحساب فقال: إن الله يقول في كتابه العزيز (وخلقنا كم أطواراً) فقلت: نعم إن الله خلقنا (أطواراً) ومن أجل ذلك لا يصح أن (نتطور) يا أستاذ!
وقد هداني اللؤم إلى أن أقترح على وزارة المعارف أن تعهد إليّ التفتيش في المدارس الأهلية والأجنبية، لأن التفتيش في مدارس الحكومة يضايقني قليلا، إذ كان المدرسون في المدارس الثانوية قد ثبتت صلاحيتهم للتدريس منذ سنين؛ وأمثال هؤلاء لا يمكن قطع أرزاقهم بسهولة. أما المدارس الأجنبية والأهلية فيمكن فيها زعزعة مركز المدرس بإشارة أو إشارتين؛ وكذلك أستطيع السيطرة بلا عناء
ومن مزايا التفتيش أن يحفظ التلاميذ أشعاري بفضل (لباقة) المدرسين. وأذكر أني دخلت يوماً إحدى المدارس فأردت أن أختبر الطلبة في المحفوظات، فرأيت تلميذاً قيل إنه ابن وزير سابق. فقلت: أسمعني يا شاطر بعض ما تحفظ، فابتدأ يصيح:
قال سعادة الدكتور زكي بك مبارك:
يا جيرة السين يحيا في مرابعكم
…
فتى إلى النيل يشكو غربة الدار
جَنَتْ عليه لياليه وأسلمه
…
إلى الحوادث صحبٌ غير أبرار
فخشيت التورط في سماع شعري فأشرت على الطالب بأن ينشد شعراً غير هذا، فصاح:
وقال سعادته أيضاً:
نسيتم العهد واسترحتم
…
من لوعة الحافظ الأمين
فأسكتّ الطالب وقلت للأستاذ: أليس لدى الطلبة محفوظات غير أشعار زكي مبارك؟
فقال: لقد أعطيتهم خمس قطع من أشعار زكي مبارك وثلاث قطع من أشعار علي الجارم،
فحفظوا شعرك وصعُب عليهم حفظ شعر الجارم
فقلت: هذا عجيب، مع أن شعر الجارم لا بأس به!
وأنا موقن بأن الطلبة والأساتذة يسخرون منا، ولكن ما الذي يمنع من أن نستفيد من فساد المجتمع؟
والتفتيش سيكون قنطرة لعضوية المجمع اللغوي. ولكنه لن يكون كذلك إلا إذا عرفت كيف أستفيد. وأنا قد عرفت، ولله الحمد. وهل من الصعب أن أجلس في مكتب تفتيش اللغة العربية ثم انقد تقارير المدرسين؟ جاءني يوماً تقرير من الأستاذ الأول في مدرسة أسيوط الثانوية، فأخذت التقرير إلى البيت، وكتبت تقريراً بما في التقرير من أغلاط لغوية، ورجعت في اليوم التالي فحدثت جميع الموظفين بهذه الفضيحة، فلم ينقض اليوم إلا وأنا عمدة المحققين، وجهبذ المدققين
وكنت نسيت الموضوع الأصيل الذي كُتب من أجله ذلك التقرير ولكن لم يسألني أحد ماذا فيه
وربما كانت مدرسة أسيوط الثانوية لا تزال تنتظر رأي الوزارة في موضوع ذلك التقرير إلى اليوم، والصبر طيِّب!
وكان لي أسلوب في مضايقة المدرسين، أسلوب بديع؛ ولكني لم أبتكره مع الأسف، وإنما ابتكره شيوخٌ لنا من قبل. كنت آخذ كراريس التلاميذ إلى البيت، وأدرس موضوعاً واحداً من كل كراس. أدرسه بدقة وأمامي المعاجم والمراجع لأبين ما فات المدرسين من أغلاط، وأنسى أن المدرس لا يستطيع أن يستثير المعاجم في كل كراس. ولكن ماذا يهمني؟ المهم أن يشيع في بقاع الأرض أني محقق مدقق لأكون خليفة العوامري بك على الأقل، وذلك مغنم ليس بالقليل، وهو بفضل هذه الحذلقة مضمون
ومن عادتي أن أدعو المدرسين الذين أفتش عليهم (للتفضل) بانتظاري في المدرسة بعد خروج التلاميذ، وأكون تغديت وأخذت نصيبي من القيلولة، ويكون هم قد اكتفوا بما تيسر من الشطائر الجافة، وقضوا الوقت في التحضير والتصحيح، وتكون النتيجة أن أقدم عليهم بعافية، وأن يتلقوني وقد نال منهم الإعياء، فأُرغي وأزبد ما شاء التعسف، ويصدهم التعب عن درء الشر بالشر فيسكتون
قلت إني أفضل المدارس الأهلية والأجنبية على المدارس الأميرية لأستطيع قطع الأرزاق حين أشاء. ثم تبينت وأنا راغم أن الأرزاق بيد الله، وأني لا أملك إيذاء مخلوق، وأن اللؤم الذي تنطوي عليه نفسي لن يضر أحداً غيري، فقد ذهبت للتفتيش على المدرسة المرقسية بالإسكندرية. ذهبت إليها في يوم مطير يحبس موظفي البنوك في البيوت. وكان أهم ما صنعته في ذلك اليوم أن أعدّ الغائبين، ثم كتبت إلى الوزارة تقريراً مزعجاً أقول فيه إن المواظبة منعدمة في المدرسة المرقسية، وإن ستة أسباع التلاميذ كانوا غائبين يوم حضرت للتفتيش
وما كان الغائبون (ستة أسباع) ولكني رأيتها كلمة لم يكتبها أحد من قبل. وما فضل التجديد إن لم أبتكر بعض التعابير؟
وقد أرسلت الوزارة تستجوب المدرسة، فكتبت إدارة المدرسة إلى الوزارة أن اليوم الذي غاب فيه التلاميذ كان يوماً مطيراً عاصفاً، وأن الزوابع هدمت بعض مباني الشاطئ وأغرقت ثلاث سفائن، وأن حضرة المفتش يعرف ذلك ويذكر أنه تزحلق ثلاث مرات في الطريق، وأن منظره في ذلك اليوم كان يخلق الإشفاق في أقسى القلوب
ودعاني وزير المعارف يسألني، فقلت يا معالي الوزير: أنت تعلمت في فرنسا وزرت جميع الممالك الأوربية. فهل رأيتهم يرون المطر من الأعذار؟ والإسكندرية كلها مرصوفة الشوارع، ومن الواجب أن نشدد في المواظبة لنخلق في الجو المدرسي طوائف جديدة من التقاليد
ويظهر أن الوزير استراح إلى تذكيره بأيام الشباب في فرنسا واستظرف كلمة التقاليد فقال: أحسنت أحسنت! ويشهد الله أني لم أكن يومئذ من المحسنين
أما التفتيش في المدارس الأجنبية فلي فيه نوادر تضحك الثواكل، وربما جاءت مناسبة لسردها في هذه المذكرات
والحاصل - كما يقول أهل بغداد وكما كان يقول الأزهريون - الحاصل أنني أريد التلطف مع سعادة العشماوي بك لأبقى مفتشاً وأنتقم من المدرسين الذين يهمّون بنقد مؤلفاتي وأشعاري في الجرائد والمجلات
وهو سيسأل عن ليلى، فلا بأس من أن يرى ليلى. وما أظنه سيخطفها من يدي، ولكن
مرض الغيرة تعاودني أعراضه من حين إلى حين
وشاع في أروقة وزارة المعارف أن العشماوي بك حضر قبل الموعد، فمضيت للبحث عنه فنادق بغداد فعرفت أنه لم يحضر. فتمنيت لو أسمع أنه عدل نهائياً عن الحضور مع شدة الشوق إليه
وفي مساء اليوم التالي سألت فعرفت أنه في المفوضية المصرية، فذهبت للسلام عليه فاستقبلني بالعناق، فعرفت أن الشر الذي ساورني كان من أوهام الظنون
وبعد لحظة دعاني إلى حديث خاص فقلت: لعله خير. فقال: كيف حال ليلى؟ لا تكتم عني شيئاً، فليس لك في وزارة المعارف صديق أخلص مني. إنهم يشيعون في مصر وفي العراق أنك لا تخدم ليلى بإخلاص، فهل هذا صحيح؟
فقلت: إنك تعلم يا سعادة الأستاذ أني لا أملك غير ذخيرة الإخلاص. وقد بذلت في سبيل ليلى ما بذلت، وعند الله جزائي
فقال: هذه مسألة هينة، وسيحكم فيها المؤتمر الطبي
فقلت: أي مؤتمر يا مولاي؟
فقال: المؤتمر الذي نظمته الجمعية الطبية المصرية لمعاونتك على مداواة ليلى المريضة في العراق
فقلت: وإذا كانت ليلى لا تريد أن ترى أحداً غيري من الأطباء؟
فقال: ليس الأمر إلى ليلى ولا إليك، فقد تكونان عاشقين يطيب لكما الاستشهاد في الحب. ويجب أن تفهم أن الحكومة لا تقبل أن يتحول الجد إلى مزاح
وارتفع صوت العشماوي بك، فأقبل عزام بك يسأل عما بيننا من خلاف. فلخصت القضية فقال: وما الذي يخفيك من أعضاء المؤتمر الطبي؟
فقصصت عليهما ما سمعت في فندق استوريا. فتأثر العشماوي بك وقال: الحق معك يا دكتور زكي. ولكن ماذا أقول حين أرجع إلى مصر وليس معي وثيقة رسمية عن صحة ليلى؟
وهنا ظهرت البراعة السياسية لوزير مصر المفوض في العراق فقال: تحضر ليلى حفلة الافتتاح وهي متنكرة في زي امرأة حضرية عرفت أزياء باريس، ويسلم عليها سعادة
العشماوي بك نائباً عن وزارة المعارف، وفضيلة الشيخ السكندري نائباً عن المجمع اللغوي، وسعادة الدكتور علي باشا إبراهيم نائباً عن الجامعة المصرية، وبذلك ينفضّ الإشكال
ومررت على فندق مود فرأيت جماعة من الأطباء يتحدثون عن آمالهم في مشاهدة ليلى فقلت: موتوا بغيظكم إن كنتم صادقين
وتلفتّ فرأيت بهو الفندق يموج بكرام العراقيين الذين جاءوا للتسليم على العشماوي بك ومن بينهم أصحاب السعادة طه الراوي وساطع الحصري وتحسين إبراهيم وإبراهيم حلمي العمر فحدثتهم بما وقع بيني وبين سعادة العشماوي بك فقالوا: الرأي رأيك في هذه القضية، فأنت وحدك طبيب ليلى المريضة في العراق، ونحن لا نشير أبداً بتعريض ليلى لأعين الناس، ولو كانوا أطباء
إلى هنا سارت الخطوات بسلام
فما الذي سيجدّ في أيام المؤتمر؟ ما الذي سيجدّ؟
لُطفك اللهم ورحمتك، فإن قلبي يحدثني بأنْ ستقع غرائب يشيب لها مَفْرَق الوليد. قلبي يحدثني بأني مقبل على أيام تموج فيها الفتن والمعاطب، وما كان قلبي من الكاذبين
بغداد، بغداد!
خذي بزمامي، فأنا في يمناك طَيِّعٌ ذلول. وليكم ما يكون. فإني واثق بأن الله لن يفضح الشاعر المخلص الأمين
(للحديث شجون)
زكي مبارك
في معرض الآراء
للأستاذ أديب عباسي
أعتقد أنني أنصف الأستاذ العقاد وأختار اختياراً عادلاً إذ أقتبس الفقرات التالية من مناقشته لردى السابق، فأحاول مناقشتها فيما يأتي من هذه الكلمة. قال الأستاذ:
(ومن طرائف المناقشات أن تأتي هذه المناقشة من الأستاذ أديب عباسي تعقيباً لما أسلفنا في مقال الحدود الحاسمة الذي قلنا فيه إننا قد نستغني في الحدود والتعريفات عن الإحصاء والاستقصاء لما هو معلوم غني عن البيان من ضرورة الاستثناء في كل قاعدة. فإذا قال الإنسان إن النهار مضيء وإن الليل مظلم فليس من الواجب بعد ذلك أن يحصي أيام الغيم ولا الأغوار المحجوبة التي تظلم بالليل والنهار)
(فقد حدثت كشوف جغرافية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ولكنها كلها لا تخرج عن المتممات التي تأتي بعد الفراغ من الأسس والأركان واستقرار البناء على نظامه الأخير)
(فلما انتهت كشوف القرن السابع عشر انتهى الخلاف في الأشكال والظواهر وانفتح المجال للبحث في الحقائق والبواطن أو لمعرفة الإنسان نفساً بعد أن عرفناه تركيباً ووضعناه في موضعه من عالم الأحياء الظاهرين)
(ولقد ذكر الأستاذ (أديب) كشوف الكواكب وكشوف الذرة وأمواج الأثير. . . التي حدثت بعد القرن السابع عشر ولا تزال تحدث في هذه الأيام)
(ولكن ما شأن هذه الكشوف وما نحن فيه؟ وأين هي من الحاسة الاجتماعية التي تعلق بها القصص وأبطال الرواية وأبطال السياحات. . .؟)
قلت أخشى أن يجرنا الخوف من (الحدود الحاسمة) إلى الترخص في الدقة العلمية والضبط الفكري وهما السمتان اللتان تتسم بهما اليوم جميع مباحث العلم وكثير من مباحث الأدب والفلسفة أيضاً. نحن لا ننكر أنه يجب أن يُستغنى في الحدود والتعريفات عن الإحصاء والاستقصاء - كما يرغب الأستاذ العقاد - فلا نعير الاستثناء بالاً كبيراً، ولكن على شرط ألا يبلغ هذا الاستثناء الحد الذي ينقلب التعريف عنده أو الحد من الضد إلى الضد
فما قول الأستاذ إذا صارحناه أن هذه الاكتشافات الجغرافية التي جاءت (بعد الفراغ من
الأسس والأركان واستقرار البناء على نظامه الأخير تكاد - في رأينا - تفوق في إثارة الحس الاجتماعي الذي ينوه به الأستاذ تنويهاً قوياً اكتشافاتِ القرن السابع في الأمريكتين وأفريقيا وآسيا جميعاً؟
ماذا كانت حوافز الارتياد والاكتشاف الصحيحة في القرن السابع عشر، ثم كانت النتائج القريبة والبعيدة لذلك؟ قبل أن نحاول الإجابة عن هذا السؤال نقرر أن الكشوف الجغرافية يجب ألا تقدر تقديراً هندسياً ولا تحسب بكذا ألوف وملايين الأكيال والأميال إذا أردنا تقدير الأثر النفسي أو الحس الاجتماعي لها في نفوس الرواد والقاعدين وراءهم من شعوبهم أو غير شعوبهم
هذا كولمب أعظم المكتشفين، أي إحساس اجتماعي وأية معانٍ إنسانية كانت تحفزه إلى الكشف والارتياد؟ أنقول: لقد جهز كولمب مراكبه وأعد عدته وغامر مغامرته استجابة لما كان يجيش في نفسه ونفوس قومه من حب الاطلاع على الشعوب المجهولة والأقطار المأهولة الضائعة وراء الاطلانطيك، فيستطيع أن يصحح للناس آراءهم الخاطئة في هاته الشعوب والأقطار؟ أم الأصح أن نقول: إن كولمب غامر مغامرته ليصل إلى الهند التي لم تكن مجهولة إذ ذاك، ويفتح طريقاً للاتجار وتبادل السلع معها، غير الطريق القديم، فقاده وهمه إلى أرض جديدة وشعوب جديدة غير أرض الهند وغير شعوبها؟ فأية حاسة اجتماعية في هذا، وأي معنى من معاني التواصل الإنساني الصحيح؟
ثم هذه الشعوب التي كانت وراء كولمب؟! ألم يحف كولمب ويوشك أن يدب اليأس المرير إلى صدره في الانتقال من عاصمة إلى عاصمة من عواصم أوربا يستجدي مناصرة الأمراء والملوك قبل أن تمن عليه إيزابيلا بما منَّتْ ومكنته من المضي في مغامرته؟ قابل هذا بما يلاقيه الرائد اليوم من العطف والتشجيع المادي والأدبي من جميع طبقات الشعب، فتدرك أي فرق ثمة بين العصرين!
هذا ولينظر الأستاذ العقاد ما أصاب كولمب بعدها من حمق الغفلة، ولؤم المنافسة، ليدرك أي المعاني الإنسانية وأي الحواس الاجتماعية، وأي الشكر لهذا الفتح العظيم قد أثار كولمب في صدور قومه!!
قد يقول الأستاذ العقاد: ليس من الضروري أن تكون الغاية ما ذكرنا من حب التواصل
الإنساني والاستجابة لدواعي الغريزة الاجتماعية، ويكفي أن تجيء النتيجة كذلك في هذه المغامرات والكشوف. أحسب أن الأستاذ يعفيني هنا من الإجابة الطويلة. فهو لا ريب يعلم علم اليقين النتائج المحزنة التي أفضى إليها اكتشاف كولمب ودي جاما ومجلان لأمريكا وغيرها من الأقطار المجهولة، ويعلم أن الذهب والفضة والقتل والتحريق والتدمير والاسترقاق والاستعمار كانت النتائج الأولى لذلك الاكتشاف؛ فأية حاسة اجتماعية هنا وأي تواصل صحيح بين الناس؟!
قابل بين أغراض الاكتشاف وحوافزه ونتائجه هذه في القرن السابع عشر، وبينها في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، فترى كيف يجب ألا نقدر الاكتشافات الجغرافية، من حيث الحس الاجتماعي، تقديراً هندسياً.
فأنا أرى أن ارتياد القطبين والمعيشة بين الإسكيمو ودراستهم درس العطف والفهم الصحيح لقيمة الحياة البشرية، وأرى أن اختراق رمال الربع الخالي والاطلاع على نماذج الحياة الأولى في البادية العربية أجل وأسمى في الأغراض والنتائج الإنسانية من كشف الأمريكتين وأفريقيا والهند جميعاً. وأرى أن الفتاة التي تقضي السنين في إحدى جزر الباسفيك تدرس الحياة الجنسية لأهل تلك الجزيرة وتكتب كتاباً رائعاً تقول فيه: إن هذا الشعب الذي لا يزال على الفطرة أكثر إنسانية وأعظم مدنية في ممارسة الغريزة الجنسية من أرقى الشعوب الأوربية. هذه الفتاة في رأيي أعظم في مجال إثارة الإحساس الاجتماعي والتقدير الصحيح لمركز الرجل المتمدن من جميع الرواد القدماء
هذا ويجب ألا يفوتنا أن عصرنا وحده هو عصر الارتياد الجغرافي الزماني؛ فالباحث الأثري اليوم بمعوله ومجرفته في رمال مصر وربى فلسطين وصحراء العراق يفعل ما لا يفعله ملاح أو رائد من الرواد القدماء
نضيف إلى هذا أن دارون عاد من طوافه بقارات العالم بأعظم أداة من أدوات إزالة الجهل والغرور والاعتقاد بالكيان الأوحد المنعزل، حينما سوى بين الإنسان والإنسان، ووصل بين الإنسان والحيوان، ولم يكن هذا طبعاً في القرن السابع عشر
وأخيراً كشوف الكواكب وكشوف الذرة والأثير وسؤال الأستاذ: (ولكن ما شأن هذه الكواكب وما نحن فيه؟ وأين هي من الحاسة الاجتماعية التي تعلق بها القصص وأبطال الرواية
وأبطال السياحات؟)
وهل قلت قط إن الكواكب أو الذرة أو الأثير تثير حساً اجتماعياً في النفوس؟ هل قلتها صراحة أو ضمناً؟ إنني أتهم نفسي وأعود إلى مقالي أقرأه حرفاً حرفاً فلا أجد شيئاً من ذلك وإنما أجد هناك أنني قلت: (ليست الكشوف الظاهرة قاصرة على الضرب في مجاهل الأرض واكتشاف أرجائها المجهولة، وإنها هنا لأنواع وضروب أخرى من الكشف الظاهري لا تقل روعة وشدهاً للخيال وصرفاً للإنسان من داخله إلى خارجه عن أعظم المغامرات الجغرافية). وقد سقت ذلك في معرض التدليل على أن بواعث الانصراف من الدخل إلى الخارج لا تكفي لتعليل ظاهرة الاختصاص وبروز الفروق في الأدب. فهذا عصرنا مليء ببواعث الانصراف من الداخل إلى الخارج كما كان العصر السابع عشر، ولكن علم النفس مع ذلك يتقدم باطراد، ولكن الرواية النفيسة التحليلية تحتل المكانة الأولى في مكتبة الأدب الحديث
وأحسب أن من الخير أن أعيد هنا ما كنت ذكرته في مقالي السابق تعليلا لظهور الدراسات الباطنة وما تلاها من تأسيس علم النفس التحليلي الذي تهداه أدباء الأجيال الحديثة في كتابة القصة النفيسة أو التحليلية فقد قلت هناك:
(إن هذه الدراسات الباطنة للنفس كانت مظهراً عادياً يتساوق مع المظهر العام لنشاط الفكر البشري في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فلما كشفت الكشوف الفلكية والطبيعية والكيميائية والفيزيولوجية، كشفت كذلك الكشوف في مجاهل النفس وخوافي الحس. فمذ اصطنعت الطريقة العلمية في البحث واخذ العلماء يجرون على أسلوب المشاهدة والفحص والاختبار اتخذت دراسة النفس خطة منظمة مجدية، فظهر أولا علم النفس العام وتلاه علم النفس التحليلي؛ ولكنا نعود ونقول إن هذه الدراسة لم يكن الحافز فيها والباعث عليها انتهاء الكشوف الظاهرة، وإنما كان الحافز عليها اتساع هذه الكشوف وسيرها على خطة علمية منظمة مجدية شملت الجماد والحيوان والإنسان جميعاً. . . الخ)
وأخيراً نحن نسلم للأستاذ العقاد بنظريته جملة إذ فسر لنا نشأة علم النفس العام والتحليلي بعده معزولين عن فروع المعرفة الأخرى في القرن السابع عشر وبعده، أما إذا اضطر أن يعيد علم النفس في نشأته وتقدمه إلى حظيرة العلوم الأخرى من حيث الصلة والزمن،
فأحسب أن نظريته لا تسلم له مهما حاول أن يستفيد من (الحس الاجتماعي) و (الدراسة الباطنية) و (الدراسة الظاهرية)
وفي الختام آمل ألا أكون أثرت في صدر الأستاذ الكبير بهذا الكلام غير الشعور الذي يثيره طلب الحق ونشدان الصدق
أديب عباسي
من برجنا العاجي
مضت أعوام عديدة على ذلك اليوم الذي شعرت فيه بغتة بدوار الصعود الفكري، على أثر مطالعات كثيرة وتأملات عميقة في عزلة طويلة. وبدا ذلك على وجهي فسمعت طبيباً يسدي إلي النصيحة أن أترك كل شيء وأذهب من فوري إلى البحر، أستنشق الهواء وأغمض عيني بغير تفكير. لقد كنت أحسب التأمل كل شيء في حياة الأديب؛ وكنت اعتقد أن حياتي ستمضي قراءة كلها وتفكيراً على ذلك النحو وبذلك المقدار، فكنت استهول العاقبة وأتساءل عن النتيجة
ومرت الأيام فإذا بي أنصرف بعض الشيء عن المطالعة والتأمل. وإذا الأعوام تنفق في شيء آخر لم يكن في الحساب: هو البحث عن الجسم الذي تحل فيه تلك الأفكار الهائمة كالأرواح. هنا وضحت لعيني المعضلة. وفهمت أن التفكير في ذاته يسير، ولكن العسير هو أن أقيم (الفكرة) على قدميها كائناً نابضاً يتحرك ويسير. إن القليل من عمر الفنان هو الذي يبذل في التفكير الصرف، والكثير منه هو الذي يذهب في سبيل صنع ذلك اللحم والدم الذي ينبغي أن تسكنه الأفكار
إن (الطبيعة) أستاذنا الأعظم نحن الأدباء والفنانين، تفكر هي أيضاً، غير أنها لا تفكر (كلاماً) فهي تجهل (اللغات الحية)، ولكنها تفكر (مخلوقات حية)
(تفكير) الطبيعة (أسلوب). وإن طريقتها الواحدة في تركيب الكائنات جميعها: من عالم الجراثيم إلى عالم الأجرام لهي وحدها التي نقرأ منها تفكيرها. (الخلاق) في الفن أيضاً لن يستحق هذا الاسم حتى يصبح التفكير عنده مماثلاً لتفكير الطبيعة، فيملك تلك القدرة السحرية أو الهبة السماوية التي بها يخرج أفكاره من رأسه تجري لابسة أثواب الحياة
كذلك خالقو الشعوب وبناة الحضارات، كل عبقريتهم أنهم لا يفكرون (كلاماً)، وأن الأفكار والتأملات عندهم هم أيضاً لا تكتب كما هي ولا تقال، إنما ترى قائمة متحركة في صورة أمة ناهضة أو على شكل ثورة متفجرة
ذلك معنى (الخلق). وتلك هي (الأفكار) في لغة كل خلاق
توفيق الحكيم
التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
- 3 -
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم
ما كانت الفاقة لتعوق ابن الأحراج عما كانت تتوق نفسه إليه. وهيهات أن تركن النفس الكبيرة إلى دعة أو ترضى بمسكنة. هاهو ذا فتى الغابة يهدف للثامنة عشرة، لا يذكر أنه منذ قوى على حمل الفأس كان كلا على أحد. بنى نفسه كأحسن ما تبنى النفوس، غذاء جسده من قوة ساعده، وغذاء روحه من توقد ذهنه ودأبه وجلده وبعد همته
كان ابراهام عصامياً في أوسع وأدق معنى لتلك الكلمة؛ عال نفسه وربى نفسه وعلم نفسه. وكان على استغنائه عن الناس يخفض جناحه للبعداء والأقربين. ولله ما أجمل تلك النفس في تواضعها ودماثتها، وما أجمل ذلك التواضع من فتى لا يرى لامرئ عليه يدا؛ وهو لولا كرم عنصره ونقاء جوهره جدير أن يدل بذلك وأن يزهى؛ وما الإنسان؟ أو ليس هو يطغى أن رآه استغنى؟
استغنى ابراهام بجده وقناعته في مطالب معيشته عن الناس، ولكنه أحسن معاشرة الناس وأنسوا منه لين الجانب وعذوبة الروح وهدوء الطبع وشدة الحياء. على أن ما زادهم محبة له وإقبالاً عليه حلاوة حديثه وحصافة رأيه وأصالته، وكان قد أحب منذ أن أعجب بذلك المحامي المدل أن يتحدث إلى الناس ما واتته فرصة إلى ذلك، وهو بطبعه بارع السياق قوي الحجة تمتاز كلماته - وإن لم يقصد - بقرب المأخذ وبعد المرمى، وهي صفة سيدرك فائدتها في مستقبل أيامه
ساقت إليه الأقدار وهو في التاسعة عشرة عملاً خرج به من الغابة أياماً إلى دنيا الحضارة!
فقد استأجره أحد ذوي الثراء في تلك الجهة ليذهب ببضاعة في قارب إلى مدينة نيوأورليانز؛ وقبل الفتى وإن قلبه ليخفق، وإن نفسه لتتنازعها عوامل الخوف والأمل والرضاء وحب الاستطلاع. وما له لا يخاف وهو لم يقم بمثل تلك الرحلة الطويلة من قبل، ولا عهد له بالمدن وعيشتها وأهلها؟ ولكنه قبل وتأهب. وما كان حب المال هو الذي حفزه إلى القبول ولكنها كانت رغبته الشديدة في رؤية الدنيا! وهو يومئذ تواق إلى المعرفة، لهج برؤية الحياة في بيئة غير الغابة
وخرج معه فتى من أهل الجهة ليعاونه، واتخذا سبيلهما في نهر الأهايو ومنه إلى ذلك النهر العظيم: نهر المسيسبي، حتى إذا أتيا مدينة نيوأورليانز بعد أن قطعا ألفاً وثمانمائة ميل، رأيا خلاله على الضفاف حيوانات وأشجاراً وأناساً غير ما ألفا في إقليمهما. وكم كانا معجبين بما رأيا وما سمعا ممن أويا إليهم من سكان البلدان التي نزلا عندها ليالي رحلتهم. ولن ينسى الفتى ما رأى من بطولة أيب حين هاجمهما ذات ليلة وهما في نومهما سبعة من الزنوج، فقد رآه يعمد - وقد أفاق على همسهم - إلى مجراف فيحاربهم في بسالة حتى يضطرهم إلى الفرار وهم منه خائفون
دخل إبراهام وصاحبه مدينة نيوأورليانز، ولك أن تتصور مبلغ ما بعثته تلك الزيارة من أثر في نفسه، وقد جاء وهو يافع من الغابة فرأى مدينة كبيرة لأول مرة! وأية مدينة هي؟ لقد رآها تموج بأنماط من الناس وأخلاط من العبيد. ما هؤلاء السادة الذين تغدو وتروح بهم المركبات الفخمة؟ وما هؤلاء النسوة اللائي يخطرن في دلال ويبرزن في عطاف الثراء والنعمة؟ ما هؤلاء وما هؤلاء ممن يرى أمام ناظريه. . .؟ وما هذه الدنيا التي يضطربون فيها وما حياتهم وما مبلغ بعدها من حياة الغابة. . .؟ ثم ما هؤلاء العبيد. . .؟ أجل ما هؤلاء العبيد وما حظهم من تلك الحياة الفوارق بالقوة والجاه؟ أهؤلاء هم الذين قرأ عنهم وسمع من أخبارهم ما لم يفهم على وجه اليقين؟ نعم هؤلاء هم العبيد. . . وهو محررهم ومحطم أغلالهم في غد!
عاد إبراهام بعد أن أدى مهمته على خير وجه، وقد قضى في رحلته هذه ثلاثة أشهر بعيداً عن أنديانا، ولكن ما تركته تلك الأشهر الثلاثة في نفسه من الأثر تجعلها كما لو كانت ثلاث سنين، فقد أحست نفسه الفرق بين المدنية والهمجية إحساساً قوياً. إنه يتساءل بينه وبين
نفسه: أي الحياتين أقرب إلى المدنية حقاً! عاد إلى موطنه، ولكن أي موطن وهو ابن الأحراج ربيب الترحال والأسفار؟ لقد شد أبوه الرحال من جديد على رأس الأسرة إلى مقاطعة جديدة هي الينويس، تحفزه نفس الدوافع التي حركته من كنتوكي إلى أنديانا؛ وكان إبراهام هذه المرة عضد أبيه، فهو يومئذ في الحادية والعشرين. ولما حطوا رحالهم بعد أسبوعين قام كوخهم الجديد على ما شقت يده الفتية من أشجار. لقد صغرت أما قوته ومهارته قوة أبيه ومهارته، وسرعان ما أصبح أيب حديث الجيران في البقعة الجديدة
عمد إلى الزراعة فحرث قطعة من الأرض وبذر فيها القمح وسورها بسور من قطع الخشب سوتها فأسه، وكان يعاونه في ذلك فتى من ذوي قرباه؛ وترك أيب القمح ينمو وتناول فأسه وراح يعمل في الغابة أجيراً وقد ذاع صيته وتقدمه أينما سار، وهو يحس اليوم أن دخله من فأسه يزيد هنا عما كان يحصل عليه في أنديانا. ولكن أي دخل هذا إذا هو قيس إلى ما عسى أن يكسبه رجل غيره في بيئة أخرى؟. لقد أستأجره أحد الأثرياء ليقطع له خشباً يسور به مزرعته، فرضي أيب أن يقدم لذلك الرجل أربعمائة قطعة من الخشب نظير كل (ياردة) من القماش الساذج الذي طلبه أيب ليتخذ منه سروالاً!
وتجلت للناس فتوته وشهامته في عدة مواقف، فهو لا يفتأ يمد يده إلى البائس والملهوف في كرم وإخلاص، وهو لا يني يضرب بفأسه في نشاط وإقبال، ولقد تحداه ذات يوم رجل ذو قوة وبأس أن يصارعه، فنازله على كره منه، إذ كان ينفر من القسوة والعنف، وما لبث أن غلبه على أعين الناس فازدادوا له إكباراً
وما انصرف ابراهام يوماً عن المطالعة على الرغم من شواغله، فأوقات فراغه للقراءة لا لغيرها مما يقضي فيه الفراغ من ملاذ الحياة ومباهجها. وأي شيء هو أحب إليه من القراءة والدراسة؟ يا عجباً! هل كان يدري أن القدر يعده لأمر خطير سوف ينقل به تاريخ بلاده من صفحة إلى صفحة؟! كانت قراءته يومئذ في القانون، فقد ألقت المصادفات في يده كتاباً يدور البحث فيه على قوانين المقاطعة الجديدة. على أنه قد قرأ قبل ذلك كتاباً غير هذا في القانون، فهو جد مشغوف بالمحاماة والخطابة، وكأنه كان يهيئ نفسه لهذه المهنة التي هام بها وجدانه، وهو بفطرته ميال إلى محادثة الناس كما سلف أن ذكرت، وإنه اليوم ليخطبهم كلما دعا إلى ذلك داع
وشاءت الأقدار أن يذهب في رحلة أخرى مع رفيقين إلى نيوأورليانز؛ فقد اختاره أحد التجار ليقوم على تصريف بضاعته وجعل له ولزميليه أجراً في نظير ذلك. ولقد صادف في تلك الرحلة حادثاً آخر: ذلك أن القارب اصطدم بحاجز صخري عند بلدة نيوسالم فتعلق وانحدر وأوشكت حمولته أن تهوي إلى الماء لولا ما كان من مهارة أيب وقوة ساعديه، تلك المهارة التي أعجب بها نفر من أهل تلك البلدة وقد تجمعوا يشهدون الحادث
ولما فرغ ابراهام من أمر تلك البضاعة ولى وجهه تجاه أسواق الرقيق يدرس حالها من كثب وهو لم ينس يوماً ما تركه حال العبيد من أثر في نفسه منذ زيارته الأولى. ألا إنه ليهتم لهذا الأمر أكبر اهتمام ويقلبه في خاطره على كافة وجوهه، كل ذلك في عمق وتمحيص فتلك خلة من أبرز خلاله؛ فهل كان يعلم ابن الغابة أنه سيؤدي للعالم من عنده رسالة جديدة ويخطو بالإنسانية خطوات واسعة نحو النور بتحريره هؤلاء العبيد وفك أصفادهم؟ كلا! ما كان يدور بخلده يومئذ شيء من هذا
رأى ويا لهول ما رأى! رأى في تلك الأسواق جماعات من السود ذكوراً وإناثاً جيء بهم قسراً من مواطنهم مقرنين في الأصفاد يباعون كما تباع الماشية، يلهب التجار جلودهم بالسياط ويسوقونهم كما تساق الأنعام كأنهم لا يمتون إلى البشرية بصلة. وما كانت نفسه الكبيرة، وما كان قلبه الرحيم ليمر بتلك المناظر كما يمر غيره من الناس، كلا بل ستبقى مسألة العبيد في أعماق نفسه حتى تحين الفرصة
أخذت عيناه فيما رأى فتاة جميلة المحيا مرهفة القوام يعرضها الباعة على الأنظار وهي نصف عارية كما يعرضون فرساً كريمة، وقد افتتن بقسماتها وقوامها الشاهدون؛ وابراهام تتحرك نفسه من أعماقها ويتألم ما وسعه الألم. وصفه أحد زميليه فقال:(رأى لنكولن ذلك وإن قلبه ليدمى. لم تتحرك شفتاه وظل صامتاً، ومشت في وجهه كدرة الهم؛ وأستطيع أن أقول وأنا به عليم، أنه في تلك الرحلة قد كون لنفسه رأيه في مسألة العبيد)
ومما يروى عنه في تلك الرحلة أن عرافة لقيته فقالت وهو يمازحها: (يا فتى سوف تكون رئيساً للولايات ويومئذ سيتحرر جميع العبيد) وما كانت كلمات العرافة إلا كلمات القدر تجري على لسانها في نبوءة عجيبة!
وقفل إبراهام راجعاً إلى الغابة وقد ازدادت تجاربه ومعرفته بالحياة والناس وهو في سن
الدراسة والتطلع إلى معرفة النفس البشرية وما تنطوي عليه من معاني الخير والشر. ولقد سلمت نفسه من شرور المدنية، فلم تعلق بها أو شاب! وهل كان لنفس مثل نفسه محصتها الشدة وعصمتها الحياة المحصورة في الغابة، أن تزل أو ترقى إليها غواية؟
لم يقم إبراهام طويلا في كوخ أبيه؛ فما لبث أن خرج في طلب العيش. وقد أدرك أنه بعد أن تجاوز الحادية والعشرين يستطيع أن يغادر أباه ليقوم على شؤونه بنفسه. خرج من الكوخ إلى غير عودة إليه! فترمي به النوى مطارحها كلما تصرمت الأيام، وكان أول عمل قام به أن فتح له ذلك الرجل الذي استأجره في رحلته الثانية إلى أورليانز - حانوتاً في نيوسالم وأقامه فيه ليبيع نائباً عنه وذلك لما خبر من مهارته وأمانته. ولقد قطع أيب المسافة إلى نيوسالم على قدميه؛ وأخذ يبيع في الحانوت في خفة ولباقة كأنه مارس التجارة من قبل. وأتاح له ذلك العمل فرصة لقاء الناس، ولقد رأوا من خلاله ما امتلك به قلوبهم؛ رأوا منه لين الجانب وسعة الصدر وحلاوة اللسان وسرعة اليد وحسن الملاطفة والممازحة، ورأوا منه فضلا عن ذلك جميع الأمانة كأعظم ما تكون الأمانة. وأتاح له ذلك العمل أيضاً أوقاتاً يقضيها في المطالعة فكان يتمدد على ظهر صندوق ويقرأ حتى يقصده مشتر فيبيعه ما يطلب ثم يعود إلى كتابه
ولشد ما أعجب الناس بإبراهام وخلاله وصار يعرف بينهم باسم أيب الأمين، وصارت تلك الصفة منذ ذلك اليوم أشهر صفاته وأحبها إليه وإلى الناس. حدث أنه أعطى لامرأة ذات مرة على جهل منه مقداراً من الشاي أقل من حقها، فلما أدرك ذلك سار إليها آخر النهار مسافة طويلة يحمل إليها باقي الشاي؛ وحدث أنه أخذ خطأ بعض دريهمات من رجل فلما عد ماله آخر النهار سأل عنه اهتدى إليه ودفع له دريهماته. وكان الناس يعلمون هذا وغيره فيقبلون عليه معجبين. ولم ينس في تلك البلدة ما جبلت عليه نفسه من النجدة والمروءة والحدب على الضعفاء. ونمى أمره في ذلك إلى جماعة من الفتيان في البلدة كانوا يجعلون العربدة هويتهم والشغب مسلاتهم؛ وكان على رأسهم فتى مفتول الساعدين شديد المراس يقال له أرمسترنج. فجاءوا عصبة إلى ابراهام يسخرون منه ويتحدونه أن ينازل زعيمهم، وهو يعرض عنهم وتأبى عليه نفسه أن يحفل بهم؛ ولكنهم يسرفون في التحدي والقحة، حتى يخرج إليهم ويسير إلى قائدهم ويشتد الصراع بين الفتيين ويستجمع ابن
الغابة قوته ويدفع خصمه فإذا هو ملقى على وجهه متدحرج كأنه كتلة من الخشب! والفتية لا يصدقون أعينهم من الدهش. ولقد نهض صاحبهم فصافحه وسلم له بالغلبة. وشاعت في الناس بطولة فتى الحانوت وشدة بأسه. وما كان ابراهام غليظاً أو رجل شر، بل لقد كان يسعى أبداً في القضاء على الإحن والمنازعات، وكم له من يد في هذا المضمار
عرف الناس ابراهام فوق ذلك باستقامته فما عهد عليه من سوء قط؛ كان لا يقرب الخمر ولا الميسر ولا يعرف الفواحش ما ظهر منها وما بطن. وأين ذلك الرجس من تلك النفس العصامية الطامحة؟ إن له من نفسه خير عاصم، وله من الكتب ما يملأ به فؤاده؛ وكانت كتبه إلا قليلاً مستعارة؛ يسمع عن كتاب يطلبه فيجده عند أحد الناس فيسعى إليه ويرجوه أن يعيره إياه حتى يقرأه فيعيده إليه؛ ومن ذلك أنه سمع وهو في الحانوت عن كتاب في قواعد اللغة الإنجليزية، وكان قوي الرغبة في تعرف قواعد اللغة ليستعين بها على ضبط عبارته، فمشى نحو ستة أميال حتى جاء صاحب الكتاب فأعاره إياه، فأكب عليه حتى أتقن فهمه. ومما قرأه أيب في تلك الآونة صحيفة كانت تكتب في السياسة، اشترك فيها وهو مملق، وكان يقبل على قراءتها في لذة واستمتاع قراءة تعمق ودراسة
ساقه إلى السياسة رجل رأى من فطنته وطلاقة لسانه وصدق إخلاصه وتطلعه إلى المعرفة ما أيقن معه أن سوف يكون له شأن غير شأنه إذ ذاك. وكان إبراهام يحادث الناس كما ذكرنا كلما سمحت بذلك فرصة، وقد ألفوه جذاب الحديث بارع السياق يضرب الأمثال في غير توقف ويسوق الأدلة في غير عوج! وإنك لترى من ذلك أنه يستطيع أن يخوض السياسة، فماذا اعتزم؟ عقد النية على أن يتقدم للناس ليختاروه نائباً عنهم في مجلس المقاطعة النيويس! وكان في تواضعه يرى الخطوة جريئة. على أنه كان يدرك أن اليد قصيرة والجيب خال والجاه منعدم. فعلام يعول ابن الغابة والى من يستند؟ ليس أمامه غير نفسه؛ ولكنه حسبه تلك النفس
وكان أيب في الثالثة والعشرين من عمره وإنه ليحق لنا أن نتساءل كيف خلت حياته إلى ذلك اليوم من الحب على قوة روحه ونبل عواطفه وشدة بنيته؟ الحق أنه كان ينفر من النساء ومخالطتهن، وكان شديد الخجل خافض الطرف متلجلج اللسان متبلبل الخاطر كلما وجد نفسه على رغمه في مجلس يضم فتاة أو فتيات. وكان هذا الحياء الشديد مما عرف
من صفاته؛ بيد أنه يحس اليوم كأن شيئاً يختلج بين جنبيه، فلقد زار ذات ليلة ذلك الرجل الذي وجهه إلى السياسة في خانه، وكان صاحب ذلك الخان؛ ورأى هناك ابنته، وكانت حسناء في الثامنة عشرة، فمال إليها قلبه ولكنه ما لبث أن علم أنها خطيبة فتى غيره؟ وهل كان لمثله أن يطمع في تلك الفتاة على ما هو فيه من خصاصة وعلى ما كان ينعم به أبوها من ثراء؟
وهو في شغل اليوم بالسياسة؛ ذهب إلى الخان حيث يجتمع فتية الحي ورجاله، وبعد أن استمع إلى حديثهم برهة وثب إلى مرتقى وقام فيهم خطيباً! ولعلها كانت أولى خطبه إذا أردنا معنى الكلمة. راح يحدثهم عن رغبته في الإصلاح وعن أفكاره في السياسة؛ ولما كان يجهل السياسة العليا فقد قصر حديثه على إصلاح الطرق والأنهار وهو جد خبير بها. ومما قاله (إن سياستي قصيرة حلوة كرقصة العجوز، إني أحبذ مشروع المصرف الأهلي وأحبذ الإصلاح الداخلي والحماية الجمركية. هذه هي ميولي ومبادئي السياسية، فإن اخترتموني فأنا شاكر وإلا فلن يغير ذلك شيئاً من نفسي) وقال في نداء مطبوع أذاعه في الناس (ولدت ونشأت في مدارج متواضعة، وليس لدي ثراء أو أهل ذوو جاه، أو أصدقاء يقدمونني إليكم؛ وقضيتي مبسوطة بين أيدي الناخبين الأحرار، فإن اخترت فقد أولوني جميلاً لن أوفيه مهما بذلت في خدمتهم، وإن أملت عليهم حكمتهم أن يتركوني حيث أنا فإني قد ألفت من مواقف الانخذال ما لا أحس معه لذلك غماً)
تلك هي صراحة لنكولن، وتلك هي بسالته تتجلى في كلماته كما تجلت فيها بساطته وإخلاصه وسمو تواضعه وعزة نفسه
وكان صاحب الحانوت قد أدى بمسلكه المعوج إلى بيع حانوته إلى تاجر آخر، وترك إبراهام أول الأمر بلا عمل، ولم يكن لديه مال يستعين به حتى على القوت، اللهم إلا ما تسوقه الأقدار إليه من وجوه الرزق. ومنها أنه قاد زورقاً بخارياً ليخرجه من منطقة عسيرة في مجرى الماء، وكان أجره على ذلك أربعين دولاراً
وساقت إليه الأقدار بعد ذلك عملاً غريباً بالنسبة إليه! ذلك هو التطوع مع فرقة من شبان الجهة لمحاربة الهنود الحمر! وكان كبيرهم - ويعرف باسم الصقر الأسود - قد هاجم البيض يريد أن يسترد أرضاً كان باعها للحكومة؛ وما كان أيب يميل إلى الحرب ولكنه
تطوع إذ لم يجد لديه عملاً، ولعل تطوعه هذا وما عساه أن يبديه في الحرب يشفع له في الانتخاب ويزيد صيته رفعة. . . وعلى ذلك خرج مع المتطوعين على رأس فرقة ولكن الحرب لم تدم طويلا، ولا هي استدعت مقاومة عنيفة. وما عرف عنه أنه مس إنساناً بأذى وهو في الميدان، بل لقد تجلت مروءته في حادث نرويه لدلالته على نفس أيب وخلقه: آوى إلى معسكر المتطوعين أحد رجال الصقر الأسود وفي يده بطاقة أمان من أحد القواد؛ ولكن بعض المتطوعين وكانوا محنقين هموا به ليقتلوه فوقف بينهم وبينه ابراهام، وبنادقهم مصوبة إلى صدره وهو يصرخ فيهم (إنكم لن تقتلوا هذا الرجل) ولم يكن بعيداً أن تنطلق إليه الرصاصات في ثورة غضب كتلك الثورة ولكن الله وسلم ونجا الرجل ونجا مخلصه!
وبعد أن رجع أيب إلى نيوسالم جرت الانتخابات ولكنه خذل فيها، إذ لم يكن الحزب السياسي الذي يدين بمبادئه محبوباً يومئذ للناس! خذل ابراهام ولكن طابت نفسه الأمر وارتاحت، ذلك أنه وجد أن أكثر أصوات بلدة نيوسالم كانت له
(يتبع)
الخفيف
تحية العام الهجري الجديد
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
يوم تبسَّم في الأيام وازدهرا
…
وسيرةُ عطَّرَت من لطفها السيرا
يا يومُ حدِّث شباب النيل وارو لهمْ
…
وقصَّ من ذكرك العالي لهم خبرا
واجمع على الدين والأخلاق عقدهمُ
…
فقد تفرق هذا العقد وانتثرا
وأضيعُ الناس من يقضي الحياة ولا
…
يقضي من الدين والدنيا بها وطرا
يا رب أدرك من الإِسلام أمتَه
…
واجمع على نهجك الأفراد والأسرا
يا حارس الروض إن الروض إن عصفت
…
به الأعاصيرُ جف الروض وانتثرا
والدوحُ إن لعبت ريح السموم به
…
لا يُنبتُ الغصنَ أو لا يُطلع الثمرا. .
هلاَّ تعيدون للإِسلام صولتَه
…
وللعروبة ما ولَّى وما غبرا؟
دار (بن لقمان) لازالت معالمها
…
فاسأل بها البهو أو فاسأل بها الحجرا
دار أفاء على الإِسلام صِيِّبها
…
وطوَّحت بالصليبين والأمرا. .
سلوا الفرنجة لما ألَّفوا فرقا
…
وطيرَّوا في نواحي الملة الشررا
استأصلتهم سيوف المسلمين كما
…
تستأصل الريح في هبَّاتها الشجرا
هيَّا انصروا والمبدأ الدينيَّ مبدأَكم
…
فالله ينصر من للملة انتصرا
الدين قد كان يمشي لا عثار به
…
ما باله اليوم في آماله عثرا
قد كان إخوانكم لا يقدمون على
…
مخاطر المجد إلا ذللوا الخطرا
ولا يبالون إن ساروا لمحمدة
…
طال الطريق بهم لله أم قصرا. .
الدين والخلق العالي يؤيده
…
سيرفعان لكم بين الأنام ذُرا
لا خير في الدين إن لم يحمه خلق
…
ولا صلاح له إن ضل أو فجرا
سافرتُ للغرب والآمال تدفعني
…
أكرِمْ به للأَماني والعلا سفرا
رأيتُ فيه الليالي وهي عاصفة
…
والبحرَ مضطربا والجو معتكرا. .
شَطَّ المزار فما شطَّت فضائلنا
…
ولا تغيرَّ منا القلب أو نفرا
إن الغريب وإن طابت مناظره
…
رنا إلى الوطن المحبوب أو نظرا. .
لا للهو في الغرب أنسانا مبادئنا
…
ولا أضاع لنا من ديننا الذكَرا
رأيت في الغرب أخلاقاً مطهرة
…
كما رأيت به الأرجاس والقذرا
إنا أخذنا محاراً لا غناء به
…
وغيرُنا أخذ الأَصداف والدررا
بالأَمس قامت لنا في الدين قائمة
…
ما بالنا اليوم عفَّينا به الاثرا
إنا فتحنا به الدنيا مطأطئةً
…
وباسمه قد غزونا البدو والحضرا
سلوا القياصر تلقوا عندها نبأً
…
وسائلوا الفرس تلقوا عندها خبرا
هنا رأينا بساط الفرس مندثراً
…
مخرقاً. . ولواَء الروم منكسرا. .
يا مرسل الدين قد أرسلته حكما
…
وصُغْتَه رحمةً بالناس أو عبرا
ألَّفتَ منه سبيل العدل فأْتلفَتْ
…
وجئتَه داعياً للحق فانتصرا
بعثتَ بالسيد الهادي رسالته
…
نوراً على الأرض يمحو الشك والحظرا
ويملأ الأَرض من صافي رسالته
…
صفواً كما امتلأت من قبله كَدَرا
وا رحمتا لنبي في قبيلته
…
كم ثبطوه وودُّوا أنه عثرا
يظل يسقيهمو ودّاً ومرحمةً
…
وهم يساقونه من لؤمهم كَدِرَا
عجيبة أنه يسعى لينفعهم
…
ويشتهون له المكروه والضررا
يا أحمد الخير قد آذوك وانصرفوا
…
يؤلبون عليك الجمع والزمرا
حاشى لربك لم تحذر بوائقهم
…
(ولا ينال العلا من قدم الحذرا)
لما استمرتْ قريشُ في غوايتها
…
صبرتَ لله. والعقبى لمن صبرا
هاجرت لله من قدس إلى قدُس
…
وسرت تطوي إلى غاياتك المدرا
فيالها هجرةً لله خالصةً
…
تدفَّق الدينُ منها بَعْدُ وانهمرا
(المنصورة)
محمد عبد الغني حسن
مدرس بالمدرسة الثانوية
القصص
أقصوصة من جبرييل دانونزيو
سنسناتوس
مأساة عاشق مخبول
للأستاذ دريني خشبة
كان يتثنى كأنه غصن بان؛ وكان نحيلاً معروقاً في غير طول، وله لبدة تتهدل كغابة من أشجار الكستناء فوق كاهله وكتفيه، ثم تتحوى ذوائبها وتغدودن حين يعبث بها الهواء، فتكون كعرف الفرس. أما لحيته. . . فيهودية كثة مغبرة، غير محلقة، تعلق بها دائماً نثائر من القش. . . أما عيناه فسادرتان ترنوان أبداً إلى قدميه الحافيتين! فإذا حدث أن رفعهما إلى أحد فإنهما تقذفان في قلبه الذعر، بما ركب فيهما من ألغاز وأسرار. . . فهما تارة تشفان عن بله، وتنمان عن عته؛ وتارة أخرى تتأججان بنيران حامية كنيران الحمى. . . ثم تنطفئان بغتة، فتراهما حائلتين آسنتين كمياه المستنقع. . . فإذا لمح بهما خطفتا كسيوف طليطلة!
وكانت له (جاكتة) حمراء يلقيها على كتف واحد كما يلتفع الأسبان عباءاتهم في كبرياء وزهو، فكان إذا مشى بَدَح في عظمة وجلال
ويدعوه الناس سِنْسناتوس، ويقولون إن به لوثة أصابته إثر حب خانه فيه محبوبه، فلم يملك إلا أن يطعنه، ويمضي على وجهه في الأرض حيران
وكانت سنه عندما عرفته ستا وسبعين، بينما كنت أنا في الثالثة عشرة. . . وقد رأيته فخلبني. . . وكان اليوم قائظاً، والماء يغمر الميدان، والأرصفة تتقد بحر الشمس، ولم يكن ثمة مخلوق غير كلاب قليلة سائبة. . . ولا صوت إلا جعجعة الطاحونة القريبة
وكنت لا أمل أن أقف نصف ساعة ألاحظ سنسناتوس من وراء ستار النافذة، وهو يمشي متثاقلاً مختالاً، وقد اشتد قيظ الظهيرة؛ وكان يدلف أحياناً نحو الكلاب في هدوء ومهل حتى إذا ظن أنها أمنته، التقط حجراً وحذفها به ثم اعتدل وولاها دبره، كأنما يوهمها أنه لم يمسها بأذى. . . وقد تجتمع الكلاب حوله فلا تنفك تبصبص بأذنابها. . . ويفتر هو باسماً.
ثم يضحك ضحكات بائسة. . . فلا أملك إلا أن أضحك أنا أيضاً!
وتشجعت يوماً فأطللت برأسي من النافذة، ثم هتفت به:(سنسناتوس!) فاستدار حوله، حتى إذا بصر بي تبسم ضاحكاً، فقطفت قرنفلة جميلة من طاس أزهاري وأرسلتها إليه. . . ومنذ ذلك اليوم، ونحن صديقان. . . وأي صديقين؟!
وقد سماني (كيرلي لوكس!). ففي أمسية يوم سبت من شهر يوليو بينما كنت واقفاً على الجسر الجميل أرقب سفائن الصيد عائدة أدراجها، ومن خلفها الشمس الرائعة تصبغ السحاب بالذهاب، وتوشي حواشيه بالقرمز، وتنصب بالنهر في لجة البحر ذوباً من اللألاء واللُّجين. . . في حين تنعكس العدوتان، وما نما فوقهما من قصب وغاب، وما بسق عليهما من حور وشاهبلوط، في مائه العذب، فتكسوانه حلةً من سندسٍ وإستبرق!
وكانت الزوارق تلقي مراسيها في بطء وتتضامُّ على رويد، وشرعها البرتقالية تصطفق وتتكسر، فترتسم عليها النقوش العربية، فتبدو غرابيبَ سودا. . . وقد بدأ الصيادون ينزلون أسماكهم من زورقين كبيرين، فرحين جذلين بما رزقهم الله، منشدين متغنين
وتلفت حولي فجأة فرأيت سنسناتوس واقفاً حِيالي والعرق يتفصد من وجهه، وقد خبأ شيئاً في يده وراء ظهره، فمددت إليه يدي المذعورة المرتجفة، وناديته:(أوه! سنسناتوس!) ورفت على شفتيه ابتسامة ساذجة كابتسامة الطفل، ثم مد إلي يده وفيها باقة رائعة من أزهار الخشخاش، وسنابل القمح، فاختلطت حمرة (أبي النوم) بذهب البر، حتى ما تمالكت أن صحت:(شكراً لك وألف شكر! ألا ما أجمل وما أبهى!!) وبدلاً من أن يرد علي، فقد أرسل أصابعه فوق جبينه ووجنتيه لينزح العرق، ثم حملق في يده وحملق في، ثم ضحك من أعماقه ضحكاً رقيقاً باكياً. . . وقال:(لقد وجدت تلك الأزهار الأرجوانية نامية وسط حقل من القمح، فأحببت أن أقطفهن لك. . . ألا ما أجمل وما أبهى!! لقد قطفتهن لك، ولم أبال الشمس التي كانت تصب نيرانها فوق رأسي!)
وكان يتكلم في هدوء واستسلام؛ وكان يرسل الكلمة ويستأني، ثم يرسل الأخرى ويستجم؛ وكان يبدو عليه التعب، لكنه كان يحاول وصل كلماته حتى لا يفلت منه زمامها. . . وكان يبدو كأن ألف فكرة تزدحم في رأسه، وألف صورة من صور ماضيه المؤلم تربك تفكيره. . . فكان يستذكر منها الصورة والصورتين والثلاث، ويترك الباقيات تتفرق كسرب من
اليعاسيب. . . وكنت ألمح ذلك في عينيه. . . فيزداد تفرسي في وجهه الذي كان يبدو لي جميلاً رائعاً. . . وكأنما لحظ ذلك مني، فالتفت إلى الزوارق فجأة وقال:(أنظر. . . الشرع! ما أجمل الشرع! شراعان رائعان! أحدهما في الماء والآخر في الهواء!) أي أنه لم يكن يعرف أن الشراع الذي في الماء ما كان إلا صورة منعكسة؛ ولقد حاولت أن أفهمه ذلك. . . وقد أطلت في الشرح إلا أنه كان يبدو كالذاهل عما أقول. . . وكانت كلمة (شفشاف) تصدمه، وتقر في أذنه
وتمتم بهذا النداء: (ديافانوس!!). . . ثم تبسم، وعاد يحملق في الشراع العجيب!
وانتثرت بَتلة من أزهار الخشخاش فسقطت في الماء، فجعل يتبعها بنظره حتى غابت، ثم أنشأ يقول:(إنها ذاهبة. . . ذاهبة بعيداً!) وكانت نبرات الأسى تتكسر في أطراف صوته، كأنما فقد شيئاً عزيزاً عليه!
وصمتنا لحظة، ثم سألته:(ألا تخبرني ما بلدك يا سنسناتوس؟) لكنه التفت عني وأشاح، ثم مد بصره في السماء الزبرجدية الصافية، حيث ذهبت الجبال في السماء كالجبابرة التي تغط وتتثاءب؛ وكان الجسر البعيد الممتد فوق النهر يقطع السماء إلى صور جميلة بارعة، وقد أخذت ظلال الشاطئ الأخضر المنعكسة في مائه تتحول إلى لون داكن قاتم، يختلط بأهازيج الصيادين ونكاتهم المرحة الساذجة
وأشرقت أسارير صاحبي قليلاً، ثم أسرع يقول:
- أجل. . . لقد كان لي بيت أبيض، وكانت له حديقة صغيرة تنمو فيها أشجار الخوخ. . . وفي المساء. . . كانت تريزا تأتي إلي. . . جميلة حسان. . . مفتان!. . . عيناها. . . ولكن. . . هو! هو!
ثم صمت فجأة. . . لأن الهواجس السوداء كالخفافيش طافت برأسه فجأة. . . وانطفأ البريق الذي كان يشع من عينيه فصارتا غائمتين قاتمتين!
بيد أنه لم يلبث أن انفرجت أساريره، وأشرق وجهه. . . ثم لوى عنانه، وذهب عني، وهو ينشد ويغني:
، ،
وهو غناء لا أدري ماذا كان يقصد به!
ولقيته بعد ذلك مرات، وكنت كلما رأيته مارا بمنزلنا دعوته لأعطيه شيئاً يأكله، أو يتبلغ به، وأعطيته مرة دريهمات كنت قد أختها من أمي، فما كدت أضعها في يده، حتى نظر إليها هازئاً، وردها إلى في امتعاض، وولى مدبراً. . . وفي المساء لقيته عند آل بورتانوفا، فتقدمت إليه قائلاً:(سنسناتوس! اغفر لي. . . و. . . اعف عني!) ولكنه هام على وجهه، واختفى في الغابة
وفي صباح اليوم التالي، وجدته ينتظرني قريباً من منزلي، فلما رآني تبسم ابتسامة محزونة، ومد إلي يده الواهية بباقة يانعة من أزهار المرغريت. . . وكانت عيناه دامعتين، وشفتاه مرتعشتين. . . مسكين! لك الله يا سنسناتوس!
ومرة أخرى، بينما كنا جالسين في طرف الطريق المعروش بالشجر، في أواخر شهر أغسطس، والشمس الغربة تختفي رويداً وراء الجبال، والأصداء المختلفة تتجاوب في جنبات السهل القار الهادئ بين لحظة وأخرى. . . وحواشي الأدغال الصنوبرية تبتعد وتبتعد حتى تتناهى في ظلام البحر، وقد أخذ القمر النحاسي يبزغ في هوادة وبطء خلال السحب العجيبة الرائعة. . . حينئذ. . . نظر سنسناتوس إلى القمر، وحدق فيه بصره. . . ثم أخذ يتمتم ويجمجم. . . ويقول: (أنظر. . . إنك تستطيع الآن أن تراه. . وليس في وسعك الآن أن تراه! أجل. . . قد يمكنك أن تراه الآن. . . وقد لا يمكنك قط أن تراه!
وظل برهةً يتأمله ثم عاد يقول:
(القمر!! إن له لعينين وأنفاً وفماً مثلنا نحن البشر!! ومن يدري فيم عساه يفكر. . . من يدري؟!)
ثم شرع يغني أغنية سَجْواء من كاستللامير. . . أغنية طويلة كثيرة الرفع والخفض، مما يتغنى به أهل تلك الهضاب في ليالي الخريف، في عقابيل الحصاد. . وبعد لحظات لمحنا في ظلام البعد مصباحي قاطرة مقبلة، كانا يتأججان في فحمة الغسق كما تتأجج عينا هَوْلة. . . وقد مر القطار وهو يهزم كالرعد فوق الجسر، ويرسل صفارته الهائلة، وينفث دخانه القاتم. . . وبعد لحظة غاب في الأفق، وساد الصمت، وعاد الهدوء إلى الكون
وهب سنسناتوس واقفاً فقال:
- اذهب. . . اذهب. . . انطلق بعيداً، أيها التين، بما أجج الشيطان في صدرك من نار
ومن حمم!!)
ولن أنسى ما حييت فزعة سنسناتوس حين مر بنا القطار. . فلقد رعد فجأة، وجرجر في هدوء الطبيعة، فأيقظ صاحبي المجنون من تأملاته وروعه. . . فلما عدنا أدراجنا إلى القرية. . . لم يصح من أحلامه قط!!
وذهبنا مرة معاً في أصيل يوم جميل من أيام سبتمبر إلى سيف البحر. . . وكانت لا نهائية الماء الأزرق العميق تضطرب تحت بيضة الأفق التي كانت تلتمع بأمواه السماء. . . وكانت قوارب الصيادين تتهادى فوق العباب الزاخر، مَثْنى مَثْنى، كأزواج من طير عظيم مختلف أنواعه، وقد نَشّرت أجنحتها الصفراء والقرمزية. . . ومن ورائنا نهضت كثبان الرمال الشاحبة، الممتدة فوق الشاطئ القاتم، حتى تتصل بسندس النّبْت من وراء
وانطلق سنسناتوس يحدّث نفسه في صوت حنون أخاذ، كالذي تولاه طائف من الذعر والدهش:(البحر. . . الخضم. . . الأزرق. . . خِضمْ. . . خضم. . . وفيه سمك كِبار تأكل الناس! وفي أعماقه أوركوس المحبوس في قفصه الحديدي!! إنه هناك يستغيث ويستنجد، ولا من مغيث ولا منجد. . . إنه سيظل هناك إلى الأبد. . . وفي المساء تمر به السفينة. . . التي يرى الموت من يراها!!)
وسكت سنسناتوس. . . ثم هب من مقامه، فتهادى نحو الماء، حيث وقف عند هامش الموج الذي أخذ ينضح قدميه
وبعد فهل نستطيع أن نستشف تلك الأفكار التي كانت تحوم كالسمادير في رأسه الفقير المريض المعتل؟ أجل. . . لقد كان يتخيل دُنى من ورائها دنى. . . بعيدة. . . نائية. . . متألقة. . . وكان يرى أطيافاً من الألوان المضطربة، بعضها عريض طويل، وبعضها لا نهائي، وبعضها عجيب غريب. . . ولشد ما كان يضل إدراكه في تيه هذه الظلال التي لم يكن يدري كُنهها
وكنت أدرك هذا من عباراته التي يربطها رابط برغم ما كانت تصور به المناظر الرائعة في سذاجة. . . و. . . عمق في آن واحد!
ولم ينبس ببنت شفة حينما كنا نطوي الطريق عائدين إلى القرية. . . وكنت أنظر إليه لحظة بعد أخرى، فتتردد في فؤادي هواجس شتى. . . ولما اقتربنا من الطريق، نظر إليّ
فجأة وراح يقول في صوت هادئ متهدج، بعد أن قبض على يدي:(إن لك أمّاً تنتظرك لتقبلك عندما تعود إلى البيت. . .!)
وكانت الشمس تهبط إلى خدرها خلف الجبال في سماء صافية وكان النهر يضطرب بأشعتها الذهبية الرائعة. . . فلما قال ما قال سألته بدوري، والدموع تترقرق في مقلتيّ:(وأنت أين أمك الآن يا ترى؟!) بيد أنه اشتغل عني بعصفورَيْ جنة، فانحنى إلى الأرض حين رآهما، وتناول حجراً ثم سدده إليهما في انتباه عظيم، كأنما حسب أنه يصمم بندقية وأرسله في عنف. . . وطار العصفوران كسهمين مُرَاشَيْن من غير أن يصيبهما أذى. . .
وقال سنسناتوس، وهو ينظر إليهما يزفان إلى السماء اللؤلؤية مفترّاً عن فمه:(طِيرَا. . . طيرا. . . طيرا. . . طيرا) يرددها في نغمة متسقة أربع مرات
ولقد لاحظت تبدّلاً في سلوكه منذ بضعة أيام. . . وكان يبدو كأنما تشتعل الحمى بين جنبيه. . . مسكين!. . . لقد كان ينطلق وسط الحقول يعدو ويجري، فلا يقف حتى يهده التعب، فيسقط ويتحوى كالثعبان، ويبرق بعينيه المفزوعتين في شمس الظهيرة الساطعة! فإذا كان الأصيل ألقى جاكتته فوق كتفه وراح يتخلج كالأشراف الأسبان، في خطى واسعة بطيئة مهطعاً مرة، مستأنياً متمهلاً مرة أخرى
وقد أهملني. . . ولم يعد يحضر لي باقات الخشخاش ولا أزاهير المرغريت. . . ولشد ما أحزنني ذلك منه برغم إشاعات الهجر، وألسن السوء التي كانت تقدح فيما بيني وبينه. . .
ففي صبيحة جميلة مشرقة ذهبت لألقاه حيث تعودنا أن نتقابل، لكنه لم يعن بي، ولم يتوجه بعينيه نحوي. . . فقلت له وقال لي:
- ماذا يا سنسناتوس؟!
- لا شيء!!
- هذا كذب. . .
- لا شيء!!
- هذا كذب. . . هذا كذب!!
وكنت ألمح في عينيه لهباً يتأجج فيهما، فالتفت حيث كان يرسل بصره، فرأيت فتاةً جميلةً فلاحةً، واقفة فوق وصيد دكان قريب
وسمعته يتمتم في تحرق وشوق وشغف، وقد اصطبغ جبينه بورس الحب:(تريزا!! تريزا!!. . .) ثم تحدرت عبراته فجأة. . . لقد رأى المسكين في الفتاة الفلاحة طيف تريزا. . . تريزا الجميلة. . . حبيبته التي خلبت لبه، وخبلت عقله، وسحرت فؤاده!
ولقيها بعد ذلك بيومين، فهرول نحوها وهو يبكي ويقول:(أنت أجمل من شمس الضحى!). . . ولكن الفتاة القاسية مدت يدها البضة ولطمته في حر وجهه!
ولمحه غلمان فأحدقوا به. . . ثم طفقوا يلمزونه ويستهزئون به وأخذوا يحذفونه بأعواد الكرنب الملقاة في الشارع، فأصابه أحدهم بعود منها في وجهه. . .
وثار سنسناتوس! وانطلق في إثر الغلمان كالثور المجروح، وأمسك بأحدهم فرفعه في الهواء، ثم ألقى به على الأرض. . . كحزمة من الخرق!!
ورأيت رجلين من الشرطة بعد ذلك يقتادانه تحت شباكي، والدم يتحدر من وجهه فيضرّج لحيته الكثة، وقد حنا رأسه توقياً لسخريات الناس به. . . . . . فبكيت!! بل استخرطت في البكاء!!
ولحسن الحظ لم يكن الفتى قد أصيب إلا بسحجات بسيطة فأطلق سراح سنسناتوس بعد يوم أو يومين. . .
مسكين سنسناتوس! لقد غدا مسبوهاً شارد اللب أكثر مما كان، وأظلت وجهه سحابة من الحزن لم تنجل. . . وشهدته ذات مساء يعدو كالكلب في أزقة القرية المظلمة
وفي صبيحة جميلة من أيام أكتوبر، مموهة السماء بلون البنفسج وأضواء الشمس، وجدت جثة سنسناتوس ممزقة مهشمة فوق شريط السكة الحديدية مما يلي الجسر. . . فهنا إحدى ساقيه. . . وهناك. . . على مسافة خطوات. . . ساق أخرى جرها القطار وراءه. . . وظل الدم يتدفق من الرأس الذي نزعت عنه لحيته. . . وقد جحظت عيناه لتثيرا الرعب في قلوب أبناء آدم!
مسكين سنسناتوس!! إنه لابد قد ذهب هناك ليرى إلى الهولة التي تنطلق في جوف الوادي، فتذهب بعيداً. . . بعيداً. . . كما تعود أن يقول. . . التنين الهائل الذي أجج الشيطان النار في صدره. . .
- (تريزا. . . . . .)
دريني خشبة
البريد الأدبي
كتاب مصري جديد لإميل لودفيج
لم تمض أشهر قلائل على ظهور كتاب (النيل) الذي وضعه المؤرخ
الألماني الكبير إميل لودفيج حتى ظهر له كتاب جديد يتناول أيضاً
موضوعاً مصرياً شائقاً هو (كليوباترة)؛ وكما أثار كتاب (النيل)
إعجاب القراء والنقدة، فقد أثار الكتاب الجديد أيضاً إعجاب الدوائر
الأدبية. وكتاب كيلوباترة دراسة تاريخية بديعة لحياة هذه الملكة
المصرية الخالدة، وشخصيتها الساحرة، وموتها المؤسي؛ وقد ظهرت
عن كيلوباترة كتب كثيرة من أقلام كتاب أعلام؛ ولكن كتاب لودفيج
يمتاز بأسلوبه الساحر الذي تخال عند قراءته أنك تقرأ قصة شائقة لا
دراسة تاريخية معقدة؛ وهذه أعظم مزايا إميل لودفيج كمؤرخ، فهو
يكتب التاريخ الحق، ولكن بأسلوب خاص، فيتخذ من حوادث الحياة
اليومية، والصفات والعواطف الشخصية مادة لا يفطن إليها الكثيرون
من كتاب التاريخ؛ ويرى في هذه الأعمال والحوادث البسيطة ما لا
يراه في الحوادث العامة التي ترتبط بحياة مترجمه؛ والترجمة
التاريخية تعتمد في الغالب على هذه الحوادث العامة، ولكن إميل
لودفيج يعتقد أن الدراسة الشخصية للعواطف والميول والشهوات
الخاصة تفصح عن شخصية المترجم أكثر من أي شيء آخر؛ وهو مع
ذلك يكتب التاريخ ولا يحيد عنه
وهذا المزيج القوي من نظرة لودفيج إلى التاريخ يتخذ صورة ساحرة في كتاب كيلوباترة؛ فهذه الملكة الحسناء التي كانت أول ملكة جلست على عرش الفراعنة، والتي انتهت بحياتها
دولة البطالسة، يرسمها لنا لودفيج بكل جمالها كامرأة، وجلالها كملكة، ويصور لنا دقائق حياتها الشخصية والعامة تصوير المؤرخ الدقيق والقصصي البارع؛ وهو يصل في كتابه الجديد إلى ذروة فنه كمترجم لا يجارى لشخصيات التاريخ البارزة؛ وقد وضع الكتاب بالألمانية، وترجم في الوقت نفسه إلى الإنكليزية، كمعظم كتب لودفيج
وفاة شاعر روسي مسلم
توفي في روسيا أخيراً الشاعر سليمان ستالسكي وهو مسلم من أهالي داغستان، ولد منذ نحو سبعين عاماً، ونشأ في أسرة فقيرة من الفلاحين والرعاة، ولم يتلق تربية مدرسية ما، بل نشأ أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ومع ذلك فقد نظم الشعر منذ حداثته، وطارت شهرته منذ نحو أربعين عاماً في القوقاز وفي روسيا كلها، وكان يميل بالأخص إلى نظم القصائد الريفية والشعبية. ولما قامت الثورة البلشفية كان سليمان ستالسكي من أقوى دعاتها في بلاد داغستان والكرج التي ينتمي إليها ستالين زعيم روسيا الحالي، وقد لفتت قصائده الوطنية التي ترجم الكثير منها إلى الروسية أنظار الزعماء والمفكرين، ولفتت إليه بالأخصَ أنظار مكسيم جوركي عميد الأدب الروسي الثوري فنعته بأنه (هوميروس القرن العشرين)؛ وكان في أعوامه الأخيرة موضع عطف ستالين، وعطف زعماء الأدب الروسي كله لما تحتويه قصائده من قوة الفطرة وحرارة الإخلاص؛ وكان لوفاته وقع عميق في موسكو وفي روسيا كلها
كتاب عن طاغور
يصدر في أوائل الصيف القادم كتاب بالإنكليزية عن شاعر الهند وفيلسوفها رابندارانات طاغور عنوانه (طاغور، شخصيته وعمله) بقلم الأستاذ لسني وهو عبارة عن دراسة تحليلية دقيقة لشخصية الشاعر الكبير، وتراثه الشعري والفلسفي، ومدى تأثيره في الأدب الهندي والأدب العالمي. والكاتب من أصدق أصدقاء الشاعر وأعظم المتخصصين في دراسة الأدب الهندي؛ وقد وجه إليه طاغور كتاباً أثبت في صدر الكتاب وجاء فيه:(إنها لمعجزة أن تنفذ في مثل هذا الوقت القصير إلى روح اللغة البنغالية وإلى آثاري؛ ولم أر من قبل قط مثل هذه المقدرة النقدية في كاتب أجنبي آخر)
علماء فوق الجليد
كانت الحكومة الروسية قد أوفدت منذ بضعة أشهر بعثة من العلماء الروس إلى القطب الشمالي لتقوم ببعض الأبحاث الجوية والمائية في هذه المناطق الثلجية؛ فطار أعضاء البعثة إلى القطب في طيارات صنعت خصيصاً للطيران في هذه الأنحاء، واستطاعت البعثة أن تنزل فوق منبسط من الجليد على مقربة من القطب، وأن تهيئ مكاناً لسكناها، ومطاراً لنزول الطيارات، ومرصداً للقيام بأبحاثها؛ واستمرت تجري أعمالها بضعة أسابيع والطيارات تختلف إلى مقامها لتموينها بالطعام والوقود والشحم؛ ولكن حدث في ديسمبر الماضي أن ذابت الثلوج حول مقام البعثة، وانفصلت الكتلة الثلجية التي تحتوي على مساكنها وآلاتها، ثم ترك هؤلاء العلماء البواسل دون مأوى ودون طعام فوق كتلة متحركة من الجليد أخذت تسير بهم ببطء إلى مصاير مجهولة. وكان من حسن الطالع أنهم احتفظوا بآلة اللاسلكي، فبعثوا إشارات الاستغاثة إلى روسيا، واهتمت حكومة موسكو واتخذت كل أهبة لإنقاذ العلماء البواسل
ومنذ أسابيع تحلق الطيارات وتسير نسافات الجليد إلى حيث مقر البعثة؛ وفي الأنباء الأخيرة أن النسافتين تيمر ومورمان استطاعتا تحطيم الجليد، واللحاق بالعلماء المنكوبين بعد أن سارت بهم قطعة الجليد التي بقوا عليها نحو ألفي كيلو متر من القطب حتى شواطئ الأرض الخضراء، واستطاعتا إنقاذهم وإنقاذ آلاتهم وموادهم العلمية
وتقول الأنباء أيضاً إن رئيس البعثة العلامة الشاب بابانين استطاع أن يقوم في الحوض القطبي ببحوث هامة، ودلت التجاريب المختلفة لسبر أغوار الجليد أن هنالك تياراً حاراً يأتي من الأطلانطيق؛ واكتشف العلماء أيضاً وجود بعض الطيور على مقربة من القطب وهو ما كان يظن استحالته؛ ووضع العلامة الفلكي فيدروف خريطة فلكية للمنطقة القطبية؛ وجمعت البعثة كثيراً من المواد والحقائق العلمية عن خواص المناطق القطبية المختلفة.
قاموس سياسي
أصدرت الأكاديمية السياسية الدولية بباريس قاموساً من طراز جديد، هو القاموس السياسي (الدبلوماسي) وقد وضع بأشراف الكاتب المعروف مسيو فرانجليس سكرتير الأكاديمية،
وأحد مندوبي فرنسا لدى عصبة الأمم، واشترك في وضعه سبعة وعشرون رئيس حكومة، وأكثر من خمسمائة وزير وسفير منهم أقطاب السياسية العالمية مثل الرئيس روزفلت وإيدن وموسوليني وشاخت وبنيس وهيروتا وغيرهم، وعولجت فيه أهم المسائل الدولية المعاصرة بأقلام هؤلاء الأقطاب. غير أن أهم مزايا القاموس السياسي، هو أنه مرجع شامل لجميع الأنظمة والمعاهدات السياسية والدولية الجديدة التي عقدت بين مختلف الدول في الأعوام الأخيرة، مثل الأنظمة والمعاهدات الجديدة الخاصة بمصر والهند وسوريا، ومسائل البحر الأبيض، ونزع السلاح البحري، وتجارة السلاح، ونظام اللاجئين، ومسائل الصين واليابان والحبشة وغيرها مما يشغل الدول والسياسة الدولية الحاضرة؛ وقد رتبت هذه المجموعة على مثل القاموس ليسهل استعراضها؛ وهي تقع في ثلاثة مجلدات كبيرة، ولا ريب أنها مرجع نفيس للباحثين في التاريخ السياسي المعاصر
مؤتمر عام للأدب العربي
تلك فكرة جميلة يسعى لتحقيقها السيد محمد فاضل بن عاشور بتونس، ومهمة هذا المؤتمر على ما جاء في برنامجه، السعي لتوحيد طرق الثقافة ودراسة الآداب العربية في جميع أقطار العروبة، وإنشاء مدون عن أطوار الأدب العربي في كل قطر من تلك الأقطار، وتوكيد الصلات بين رجال القلم من أبناء العربية، وإنشاء لجان فرعية للمؤتمر في كل قطر تتلقى بحوث ونظريات الأدباء لإحالة المفيد منها إلى المؤتمر بعد دراستها، وتقوم برحلات القصد منها استطلاع مدى الحركة الأدبية، والسعي في إنشاء كليات أدبية في الجهات التي لم تؤسس فيها كليات لذلك. والشرط في ذلك كله أن تكون العربية الفصحى لسان أعضاء المؤتمر ولغة لجانه وقراراته ونشراته، وستصدر نشرة دورية تكون سجلاً للمؤتمر في جميع خطواته التي يخطوها في سبيل غايته
هذا وقد تألفت لجنة تحضيرية في تونس تضم جملة من الأساتذة الأفاضل برياسة السيد محمد بن عاشور، وهي توالي اجتماعاتها بمعهد ابن خلدون للعمل على تحقيق الفكرة وإخراجها إلى الوجود؛ والرسالة وهي سجل الأدب العربي ترجو للسادة الأفاضل التوفيق في غايتهم الشريفة ومهمتهم النبيلة
قاعة القراءة بالمتحف البريطاني
جاء في عدد الرسالة رقم (242) بين نبذ البريد الأوربي خبر بأن غرفة القراءة بالمتحف البريطاني ستظل مفتوحة للزوار ساعة كاملة فوق المعتاد. ثم علقتم على هذا النبأ بأن تمنيتم لو عنيت مصلحة الآثار فأنشأت قاعة القراءة بالمتحف المصري على نمط قاعة المتحف البريطاني، وهي تمنيات طيبة صادرة من قلب محب للعلم حريص على نشره. بيد أني أخشى أن إيراد الخبر على هذا الوجه يجعل القارئ العام الذي لا يعرف شيئاً عن قاعة المطالعة بالمتحف البريطاني يحسب أنها لا تحوي سوى الكتب الخاصة بالآثار ووصفها - في حين أن المتحف المذكور ينقسم إلى قسمين رئيسيين: المكتبة وقسم الآثار، وتعد المكتبة أكبر مكتبات العالم كله، وقاعة مطالعاتها التي ورد ذكرها في هذا النبأ قاصرة على طائفة معينة من المتعلمين، فلا يسمح بالدخول فيها للاطلاع إلا لمن يقوم بأبحاث عميقة في مختلف العلوم والفنون وعليه أن يعين في طلبه نوع هذا البحث والمدة التي يريد أن يتردد فيها على القاعة من أجله، وهي تفتح أبوابها لهذه الطائفة فقط من الساعة التاسعة صباحاً إلى الساعة السادسة مساء (قبل التغيير الأخير) وهي لا تعير كتباً في الخارج، ثم إن القانون الإنجليزي يفرض على كل ناشر أن يبعث إلى المكتبة المذكورة بنسخة من كل مطبوع يطبع في الجزر البريطانية
أما قسم الآثار فزيارته مباحة لكل من يريد وبلا مقابل، على هذا نرى أنه ليست هناك علاقة بين المتحف البريطاني وبين قاعة المطالعة فيه سوى أنهما في بناء واحد - ونلاحظ أن وظيفة هذه القاعة تشبه إلى حد ما وظيفة دار الكتب الملكية عندنا. وقصارى ما نرتجيه أن تنشئ الحكومة في بعض أحياء القاهرة مكتبات عامة للجمهور تخفف الضغط على المكتبة الملكية بحيث تصبح هذه الأخيرة قاصرة على طائفة معينة من القراء وأهل العلم والبحث
نجيب أحمد هاشم
الإسلام في العالم
ظهر في لاهور (الهند) كتاب (الإسلام في العالم) لمؤلفه الدكتور زكي علي؛ وعلى رغم أن المؤلف الفاضل مصري النشأة والمربى فقد كتب كتابه هذا باللغة الإنجليزية. لأننا أحوج ما
نكون اليوم إلى أن ننشر تاريخنا ومبادئ ديننا على أعين الأجانب ليروا. . .
والكتاب قسمان: الأول يتحدث عن النشأة الأولى للإسلام منذ ظهور أول قبس من نوره حتى استيلاء العرب على الأندلس؛ والثاني يعرض النهضة الإسلامية الحديثة في لمحات خاطفة تشمل الأقطار الإسلامية جميعاً: تركيا الكمالية ومصر المستقلة وفلسطين وشمال أفريقية والصين والهند وأفغانستان والعراق وإيران و. . .
وفي الكتاب أبحاث قيمة لمسائل ذات شأن منها: ما عساه أن يكون وراء النهضة الإسلامية الحديثة؟ أفتحمل في أضعافها ثورة جامحة تعصف بسلام أوروبا؟ أفتتكون من القوى الإسلامية المختلفة جبهة شديدة تتدافع سيلاً جارفاً من الجيوش الثائرة فتلتهم ما عداها من الدول والممالك شأن المسلمين في عصرهم الأول؟ ماذا عسى أن تكون سياسة الدول الإسلامية الكبرى في الحرب العالمية القادمة؟ أفنستطيع أن نجد الوفاق بين العالم الإسلامي والغرب المسيحي؟ و. . . و. . . مما يضطرب في خواطر القادة والزعماء. . . وفي الكتاب ولا ريب أبحاث طريفة ممتعة يجدر بالمشتغلين بأمور الإسلام والعرب والشرق أن يطلعوا عليها
الفتاة الصينية والتعليم
تبدأ نهضة الفتاة الصينية منذ سنة 1907 فقط، أي أنه قد مضى على نهضتها ثلاثون عاماً هي مع قصرها في حياة أمة عظيمة قديمة كالصين حقبة مليئة بجلائل الأعمال التي تمت للفتاة الأوربية في قرن بأكمله، وبعد مصادمات عنيفة بين الجنس اللطيف الناعم والجنس القوي الخشن. والفضل في نهضة الفتاة الصينية ترجع إلى سيدة عظيمة تدعى شيوشان ' لا كما هو الحال عندنا إذ ترجع هذه النهضة إلى الجهود الجبارة التي قام بها المرحوم قاسم بك أمين. وقد دعت شيوشان إلى وجوب إنشاء المدارس للفتاة الصينية، ووجوب الإقلاع عن التقاليد التربوية الكونفوشية التي تحرم على البنت نور العلم الحديث، فلم تزل تكتب وتخطب وتشن الحرب على القابضين على زمام الأمر من أتباع مانشو حتى فازت في سنة 1907 بإنشاء المدارس الأولية للفتيات ومدارس التربية للمعلمات. ولم يمض ربع قرن حتى كان في الصين مليونان من تلميذات المدارس، وحتى أصبحت نسبة الفتيات من طالبات الجامعات 14. 5 % من عدد الذكور. . . والأعجب من كل ذلك أن الفتاة الصينية
نالت المساواة بالرجال في جميع الحقوق المدنية والسياسية قبل أن تفوز بها أختها في كثير من الممالك الأوربية.
وفاة الشاعر أحمد نسيم
في غضون الأسبوع المنصرم طوى الموت صحيفة الأستاذ أحمد نسيم الشاعر المعروف، وكان رحمه الله شاعراً في شعره معنى اسمه كما يقول مطران، فله عرف أبي الطيب، ونفحات النسيم. ولقد قضى الشطر الأول من حياته ينافح عن الوطن بشعره إلى جانب حافظ، وله في ذلك (وطنيات نسيم) جزآن كلهما صيحات في جانب الوطن، وجدال في السياسة. ثم عين مصححاً في دار الكتب، واستطاع أن يخدم الأدب في حدود تلك الوظيفة، فأشرف على جملة نافعة من مطبوعات الدار كديوان مهيار والنابغة الشيباني وصرور وجران العود وغيرهم، ولقد ظل عاملاً إلى آخر حياته، على الرغم من تمكن الداء وإلحاح العلة
ونود أن نعود بالحديث الشامل إلى ذلك الشاعر في فرصة أوسع
جمعية بناء جامع فارسوفيا
جاءنا من الأستاذ الفاضل صاحب الإمضاء ما يأتي:
أرجو نشر نداء جمعية بناء جامع فارسوفيا في مجلتكم الغراء وإني أتقدم إليكم بجزيل الشكر
لا تخفى عليكم المساعدة التي تقدم بها إخواننا المسلمون بالهند لصاحب الفضيلة مفتي إسلام الجمهورية البولونية الدكتور يعقوب سينكيفش الذي يتبعه 15000 من مسلمي التتار في تأسيس جامع يؤمه المسلمون في فارسوفيا. ولما كانت المادة تعوزه لإتمام تشييده رأى صاحب الفضيلة عمل رحلة إلى البلاد المصرية والجهات العربية يستحث فيها أهل المروءة على مد يد المساعدة حتى يتم تشييد هذا الجامع. هذا وإني أضع تحت تصرفكم البيانات الكافية عن انتشار الإسلام في بولنده إذا ما رغبتم في ذلك لتنوير الرأي العام لديكم. وبنشركم هذا النداء في مجلتكم تقومون نحو إخوانكم المسلمين في بولنده بأجل الخدمات التي نشكركم لأجلها. وإنا نرجوكم إرسال بعض النسخ إلى مجلتكم التي تنشر فيها
كلمتنا والسلام عليكم ورحمة الله
برلين 30 يناير سنة 1938
مصطفى كوينجني
أصول الفواكه والبقول
قدم العلامة الفرنسي الأستاذ بيفو إلى أكاديمية بوردو بحثاً علمياً مستفيضاً عن أصول معظم الفواكه والبقول التي تنمو الآن في أوربا؛ وخلاصة بحثه أن معظمها قد نقل إلى أوربا من آسيا ومصر، فشجرة الخوخ مثلا قد نقلت من الصين، ونقلت شجرة المشمش من التركستان، ونقلت شجرة اللوز من أفغانستان، كما نقلت شجرة الزيتون من مصر، وعرفت أشجار الكروم في أوربا لأول مرة في غاليس (جنوب فرنسا)، والمفهوم أنها نقلت من آسيا، ونقلت بذور الذرة من المشرق أيضاً، وكان أول من زرعها القوط في أسبانيا، أما البطاطس التي تعتبر اليوم أهم الخضر الأوربية فهي أمريكية الأصل، وقد نقلت بذورها لأول مرة من شيلي في أمريكا الجنوبية على يد المستعمرين الأسبان
رسالة النقد
نظر ونقد
2 -
شعراؤنا في موكب الزفاف
الجارم بك
ولنقف أول ما نقف مع أستاذنا الجارم بك، فقد كان في شعراء الزفاف أبعدهم صوتاً، وأطولهم نفساً، وأشدهم عارضة، وأسمحهم قريحة، وأطوعهم بياناً. لم يرض لنفسه أن يكون (مفرد) القصيد، فأرسل (الجارمية) في أثر (الجارمية)، وكل جارمية تهدف إلى المائة أو تزيد، ولقد أدى ذلك كله بأدائه الجارمي الرائع، ولحنه القوي الحنون، فبلغ من رضا الجمهور والصحافة غاية لا تتجاوز، حتى كان من هذا الرضا أن اتفق الناس على أنه طليعة الشعراء، وأنه جاء كالبعث لما بعد شوقي وحافظ
على أن الجارم لم ينتظر تقريظ الجمهور، وتقدير الصحافة، وحكم النقد، فسبق الجميع بالشهادة لنفسه، وقدر مرتبته فكانت إلى جانب لبيد. . . وازدرى بشاراً حتى أثار الغبار في وجهه. . . وادعى أن (الوحي) قد بادهته آياته ورسائله! واسمع له جانباً من تلك الشهادة إذ يقول مخاطباً الفاروق:
دعوت إليك الشعر فانقاد صعبه
…
وقد كان قبل اليوم شُمساً جوافله
وما كدت أدعو الوحي حتى سمعته
…
تبادهني آياته ورسائله!
خيال إذا أرسلته إثر (نافر)
…
أتت بأعز الآبدات حبائله
ولفظ كوجه الروض في ميعة الضحى
…
وقد صدحت فوق الغصون عنادله
إذا قلته ألقى عطارد سمعه
…
وساءل شمس الأفق من هو قائله
وإن سارت الريح (الهبوب) بجرسه
…
فآخر أكناف الوجود مراحله!
ومهما يكن في هذه الأبيات من الذهاب بالنفس إلى حد الإغراق، فأنا لا أنكر على الجارم بك أن يذهب بنفسه في تقريظ شعره، فقديماً قال شيخنا أبو الطيب:(وما الدهر إلا من رواة قصائدي)
على أني مع الأستاذ الجارم في أنه صاحب خيال يقتنص كل (نافر)، وأن لفظه كوجه
الروض في ميعة الضحى، وأن أسلوبه حلو الجرس والتقاسيم، ولكنا كنا نود أن نرى مع هذا كله الإحساس الذي هو الشعر. . . ودقة التصوير التي هي حقيقة الفن. . . وصلة التعبير بالعصر التي هي دليل الطبع. . . ولقد بادهت الجارم بك آيات الوحي ورسائله حقاً كما يقول، ولكنه ليس الوحي الذي يهبط من سماء الشعر على الشاعر الصافي القريحة، القوي الطبع، الذي يرى ويلمس من بدائع الوجود ما يحلم به الغير، والذي تنكشف له بواطن الأمور فتنطبع في ذهنه وتظهر في بيانه صوراً فنية رائعة؛ تبرزها الشاعرية فإذا هي أبرع وأملح من الأصل. . . وإذا هي جمال في جمال وحسن فوق حسن؛ وإنما هو الوحي الذي يهبط من العلم بالعربية والإحاطة بدواوين السابقين، فإذا ما قرأت شعر الجارم في الزفاف، أحسست كأنك تقرأ تشبيهات كانت صوراً لحياة بدوية خالية، وقد مضى بها الزمن وطواها التقدم الحديث؛ ولقد تحاول أن تلمح عنده شيئاً من روح العصر فيعيبك ذلك
ودونك الجارمية التي ادخرها الجارم ليوم وزارة المعارف في الاحتفاء بالزفاف، فصال بها وجال بين جدران (الأوبرا) الملكية، ونقلها المذياع إلى الناس ونقل معها إعجاب السامعين في تصفيقهم وهتافهم فاسمع له إذ يقول في مطلعها، والمطلع هو موطن البراعة كما يقول علماء البديع:
صفا ورده عذباً وطابت مناهله
…
وجلت يد الدهر الذي عز نائله
وأقبل منقاد العنان مذللاً
…
تطامن متناه ودانت صوائله
يطاطئ للفاروق رأساً وتنحني
…
أمام سنا الملك المهيب كواهله
فهذا شعر - كما ترى - يملأ سمعك بقوة لفظه، ويخلب لبك برقة جرسه، ولكن انظر وتدبر. ألست معي على أن هذا المطلع إنما كان موضعه اللائق أن يكون في التهنئة بفتح أو أي أمر عظيم يعز إدراكه، وتبعد غايته، ويطلب بالمجاهدة والمغالبة حتى يصح لشاعرنا أن يقول (وجلت يد الدهر الذي عز نائله) وأن يكون على حق إذ يصفه بأنه أقبل منقاد العنان يطأطأ الرأس للفاروق؟ ثم ألست معي في استنكار هذه الصورة الغريبة (النافرة) التي اقتنصها خيال الجارم بك، وتحملها ذوقه وارتضاها تقديره، فقدم الدهر لسنا الملك المهيب يمشي على أربع، قد تطامن متناه، ودانت صوائله؟! لقد أنكر القدماء على الطائي قوله:
سأشكر فرجة اللب الرخي
…
ولين أخادع الدهر الأبي
فاستقبحوا استعارة الأخادع للدهر، وعدوها خارجة عن حد الاستعمال والعادة، فكيف لو أدركوا الجارم يصور الدهر وله عنان ومتنان وصوائل ورأس وكواهل؟ على أني أعرف أن علماء اللغة وإن اختلفوا في تحديد الكاهل، إلا أنهم اتفقوا على أن للشيء كاهلاً واحداً، ولكن الجارم يصور الدهر وله كواهل كثيرة وهذا لا يصح إلا على تخريج بعيد إن جاز في كتب الأزهر فلن يجوز في الشعر
وبعد هذا المطلع (الذي رأيته) يتدفع الجارم في تعداد سجايا الملك وإكبار فضائله، ولاشك أن فضائل الفاروق - كما يقول الجارم - إنما يزدهي بها الشعراء، ويحيا بوصفها القريض، وقد ذكر الجارم من فضائل الملك أول ما ذكر قوة العزم فقال:
يذوب مضاء السيف عند مضائه
…
فما هو إلا غمده وحمائله
وهذا بيت قوي رائع يذكرنا لفظه ومعناه بقول المعري:
يذيب الرغبُ منه كل عضب
…
فلولا الغمد يمسكه لسالا
وبقوله:
فإن كان في لبس الفتى شرف له
…
فما السيف إلا غمده والحمائل
وأصل ذلك كله قول أبي تمام صاحب الجارم ودليله في مدح المعتصم:
وجرد سيف الحق حتى كأنه
…
من السّلّ مودٍ جفْنُه وحمائله
ثم يمضي الأستاذ الجارم في الإشادة بالملك إلى أن يقول:
هو الأمل البسام رف جناحه
…
فطارت به من كل قلب بلابله
وأحب لك أن تتأمل هذا البيت، ففيه شعر، وفيه روعة، وفيه الحقيقة الصادقة، ولكن الجارم أبى إلا أن يعيد معناه ضئيلاً فيقول:
ترى بسمة الآمال في بسماته
…
وتلمح سر النبل (حين تقابله)
ونعوذ بالله من (حين تقابله) فإنها أضعف من الضعف، وكأن الجارم لم يكتف بهذا فانحدر بالمعنى إلى وضع أضأل وأضأل إذ يقول:
رأى فيك (هذا) الشعب آماله التي
…
تمنى على الأيام وهي تماطله
وينتقل بالجارم بعد ذلك فيصف الملك باعتدال القوام فيقول:
يفديه غصن الدوح ريان ناضراً
…
إذا اهتز في كف النسائم مائله
وجمع نسمة أو نسيم على نسائم خطأ من الأخطاء الشائعة التي يعنى بالتنبيه عليها أستاذنا الكبير، وقد سبقنا أحد الأفاضل فأشار إلى هذا الخطأ في عدد سابق من الرسالة
ثم يعود الجارم بعد ذلك كله فيكرر الإشادة بعزيمة الملك وطوله فيقول:
علاء تحدى الدهر في بعد شأوه
…
فمن ذا يدانيه ومن ذا يفاضله
ورأى كأنفاس الصباح وقد بدا
…
تشف مجاليه وتهفو غلائله
وأنا أبقاك الله لا أفهم وجه الشبه في قوله (كأنفاس الصباح)
وقد كان الأنسب أن يقول: كأنوار الصباح حتى يلائم وجه الشبه ما جاء في بقية البيت
ثم يقول الجارم بك:
رأى ملكاً يحيا القريض بوصفه
…
فضائله جلت وعمت فواضله
رأى ملكاً يزهى به الدين والتقى
…
شمائل أملاك السماء شمائله
رأى ملكاً كالنيل أما عطاؤه
…
فغَمر وأما المكرمات فساحله
وهذا شعر حسن، غير أن الجارم لم يترك شيئاً من اللفظ والمعنى للطائي إذ يقول:
إلى قطب الدنيا الذي لو بفضله
…
مدحت بني الدنيا كفتهم فضائله
من البأس والمعروف والدين والتقى
…
عيال عليه رزقهن شمائله
إلى أن يقول:
هو البحر من أي النواحي أتيته
…
فلجته المعروف والجود ساحله
وتأمل يا صاح قول الطائي (كفتهم فضائله) وقول الجارم (وعمت فواضله)، ثم قابل بين قول الطائي (هو البحر) وقول الجارم (ملكاً كالنيل) لتعرف الفرق بين المحكي والصدى
ثم يقول الجارم:
حملت له الريحان أرفع (معصمي)
…
إلى الملك الفرد الذي فاز آمله
وقد ملأ الأنس الوجوه فأشرقت
…
من البشر حتى كاد يقطر سائله
وكلمة (المعصم) كلمة ضعيفة لا تليق بالجارم الفحل، ثم ما سائل البشر الذي يقطر؟ لعله كماء الملام في شعر أبي تمام
وبعد أن فرغ الجارم من مديح الملك أخذ في مديح الملكة، فذكر أن الفاروق قد تخيرها
فريدة المجد والنبل والجاه، ونسي الشاعر العظيم حقيقة السر في هذا الاختيار، ذلك الاختيار (الشعبي) النبيل الذي استنه الملك فؤاد وتبعه فيه الفاروق. وإذا غفل الشاعر عن هذه الحقائق الجميلة التي حياة الشعر وروحه وعصبه، خصوصاً في مثل هذا الموقف التاريخي الحافل، فما يكون شعره بعد ذلك؟!
وعلى هذا انتهى الجارم من قصيدته: مدح الملك والملكة وزكى نفسه وشعره، وكان كل ما عنه من حديث الزفاف تزاحم المواكب واحتشاد الناس. . . فلننتظر فلعل الرجل يكون قد أبر وأوفى في جارميته الأخرى ولعله يكون قد أدى بها حق الزفاف
(م. ف. ع)