المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 244 - بتاريخ: 07 - 03 - 1938 - مجلة الرسالة - جـ ٢٤٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 244

- بتاريخ: 07 - 03 - 1938

ص: -1

‌في حفلة أدبية!

أدبت السيدة إيمي خير مأدبة لرجال الأدب ونسائه، كانت على رأى من شهدوها مظهراً لذلك الأدب النَّغْل الذي يعييك أن تعزوه إلى وطن وتنسبه إلى أمة

تفرنس فيها المدعوون حتى حماة اللغة والأدب! بعضهم ملكته الحذلقة فاستكثر ظرفه وعلمه على اللغة العربية، وبعضهم غلبته المجاملة فخاطب الأديبات بلغتهن ولغتهن الفضلى هي الفرنسية. وكان الذين يتعصبون للعربية أو يتأدبون بالإنجليزية قلالاً قد انتثروا في غمار الحفل أول ما دخلوا؛ فلما أنكروا اللسان المتحدث بين القوم تراجعوا متزايلين مستوحشين إلى هامشه ثم طفقوا ينظرون بعين المتفرج المتعجب إلى جمعي المذكر والمؤنث وهما يضطربان في الأبهاء والحجر على غير قياس:

هذا يمثل الباريسي اللبق فيسلك طريقته في السلام، ويتخذ لهجته في الكلام، ويسمُت سمْتَه في التظرف؛ وهذه تمثل إحدى (عالمات) موليير فتتصنع المعرفة، وتتكلف الذكاء، وتقدِّر نفسها بالقياس الطويل والوزن الثقيل فيمالق الذكي ويصدق الأبله؛ وهذان يتضاحكان لحركة لاحظاها أو نكتة قالاها، ثم يكتكتان في الضحك ليلفتا إليهما السمع المشغول والنظر الغافل؛ وهاتان تتحدثان ووجهاهما متقابلان، ونظراهما متدابران، وكل منهما تبحث ذات اليمين وذات الشمال عن محدث أو معجَب؛ وهؤلاء يتناقشون في موضوع غريب بلسان غريب لم يوحه الوطن الذي نحيا به، ولا المجتمع الذي نضطرب فيه، ولا الأدب الذي نعيش له، وإنما أوحاه رأي في كتاب أو مقال في صحيفة جاء به البريد الأخير من البلد الذي استوطنوه بالفكر واستقبلوه بالعبادة!

حدثني أحد الذين دُعوا إلى هذه المأدبة وهو أديب ظريف لا يعرف لغة هذا الصالون قال: كنت جالساً وراء القوم كأنني أحد (أولاد البلد) في دار من دور السينما يشاهد فلماً فرنسياً، فهو يرى ولا يعلم، ويسمع ولا يفهم، ولكنه مأخوذ بالمناظر التمثيلية التي تتقلَّب على عينيه فيغيب وهو حاضر، ويحلم وهو يقظ. فإِذا خشيت أن يلحظ الناس انقباضي عنهم بطول القعود قمت أتنقل بين المثنيات والجموع، فأجدني أشبه بالأطرش في الزفة، يرى الوجوه تنبلج، والشفاه تنفرج، والأيدي تتحرك، وهو شاخص البصر، مغفور الفم، لا يدري ما الذي يشيع السرور ويبعث الضحك. ثم جلست على مقربة من الأستاذ المازني فرأيت ربة الدار تقبل عليه وتقدمت إليه سيدة يقولون إنها من الأديبات النوابه. عرَّفت إليها الأستاذ ونوهت

ص: 1

بأثره في الأدب ومكانه من النهضة، ثم تركتهما معاً وذهبت إلى غيرهما. وانتظر الأستاذ أن تتحدث إليه السيدة الأديبة في قصة من قصصه أو في رأى من آرائه، فيكون في ذلك بعض الترضية للأدب العربي المهان في بلده وبين قومه؛ ولكن السيدة الأديبة بدأت الحديث بهذا السؤال:

حضرتك من مصر ولاَّ من الشام؟

ولا أدري أألقت على المازني كلاماً فيه معنى أم ذَنوباً فيه ماء؟! فقد تخلص منها بلباقة وأقبل علينا يقول:

- وا ضيعتاه! أبعد ثلاثين عاماً قضيتها في الأدب أكتب في كل يوم مقالاً، وألقي في كل أسبوع محاضرة، وأخرج في كل سنة كتاباً، أجد في المتعلمات بالقاهرة من تسأل: أمن الشام أنا أم من مصر؟!

هذه حفلة أقامتها صاحبتها الأديبة لصاحبتها الأدباء، وقد رأيت وسمعت كيف كان حرص أدبائنا على اللغة، وإلى أين بلغ عالم أديبتنا بالأدب. فهل تصدق أن يكون لهؤلاء أدب مستقل وهم ينكرون أن لهم لغة مستقلة؟ لا جرم أن هذا النوع من الأدب الحرام يزيف الأديب على أمته كما يزيفه على الأمم الأخرى. وإذا جاز لأُولئك السيدات الأديبات أن يلغَين بغير لغتهن، بحكم نشأتهن وطبيعة ثقافتهن، فكيف يجوز لأساتذة اللغة وزعماء الأدب أن يديروا في أفواههم ذلك اللسان الأجنبي وما كانت قيمتهم في الناس ودعوتهم إلى هذا الحفل إلا لأنهم يحذقون اللغة العربية، ويتزعمون الثقافة العربية؟!

إن من هوان نفسك عليك وإهانة جنسك في الناس أن تتكلم غير لغتك في بلدك وبين قومك من غير ضرورة ولا مناسبة؛ فإن ذلك إن دل على شيء فإنما يدل على عدم استقلالك في خليقتك وعقيدتك ونمط تفكيرك وأسلوب عملك

هل تستطيع أن تدلني على بقعة من بقاع الأرض غير مصر ولبنان يجتمع في دور من دورها مجلس من مجالس الأدب يحضره لفيف من أساتذة الجامعة وجهابذة الأدب وأقطاب الصحافة، ثم لا يكون حديثهم إلا بالفرنسية، ولا يدور نقاشهم إلا على موضوعات أجنبية؟؟

يا قومنا إن لغة المرء تاريخه وذاته، فالغض منها غض منه، والتفضيل عليها تفضيل عليه، ولا يرضى لنفسه الضعة والصَّغار إلا مهين أو عاجز!

ص: 2

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌تحية شوبنهور

للأستاذ عباس محمود العقاد

- 2 -

ختمنا مقالنا السابق واعدين أن (نطابق في مقال آخر بين سيرة الرجل وفلسفته، وبين العرض والجوهر في هذه المطابقة)

وإنما رأينا ضرورة هذه المطابقة لأننا اعتقدنا أن كثيراً من القراء سيلمحون جانباً من التناقض الكبير بين دعوة الرجل وسيرته في حياته: بين رجل يزدري الحياة ويستمتع بلذاتها، ورجل يقتضي مذهبه الزهد وهو يحرص على المال، ورجل يهرب من الوباء وهو يبشر (بالنرفانا) والفناء، ورجل عبوس الرأي مشرق الفكاهة

فمن المفيد ولا ريب أن نبين وجهة النظر التي تتجه إليها في تعليل ذلك التناقض، وأن نشرح التوافق الباطن في هذا التناقض الظاهر، وأن نقول إن مذهب الحرص ومذهب التشاؤم كلاما يصدر عن منبع واحد، فلا اختلاف هناك ولا غرابة من وراء الحجاب، وإن بدا لنا الأمر على ظاهره مختلفاً جد الاختلاف مستغرباً جد الغرابة

كان شوبنهور إمام المتشائمين الساخطين على الحياة المستريبين بالناس، المتوجسين من ضمائر الغيب

كان لا يسلم وجهه قط إلى حلاق مخافة أن يذبحه أو يجرحه، وكان يغلق الأقفال على أدوات تدخينه مخافة أن تمزج بالسموم، وكان ينام والى جانبه مسدساته محشوة مهيأة للإِطلاق، وكان لا يطيق معاشرة الناس ولا سماع الأصوات، وكان يقول إن الحياة نقمة لا تحمد ومحنة لا تطاق

كان كذلك وكان يخاف الموت ويهرب من الطاعون، فكيف يكون التوفيق بين هذا الفزع من الموت وذلك التشاؤم بالحياة؟

هما في الحقيقة شيء واحد!

فالمتشائم لا يتشاءم إلا لأنه شديد الإحساس بالخطر، شديد الغلو والإغراق في هذا الإحساس؛ وليس مقتضى ذلك أن يطمئن إلى الأوبئة والأمراض ويركن إلى السرائر والنيات كما يلوح في بادئ الرأي، بل مقتضاه أن يفزع من النذير إذا كان غيره لا يفزع

ص: 4

من الحقيقة الواقعة، وأن يكتفي بالإيماء إذا كان غيره لا يكتفي إلا بالصيحة العالية، وأن يهرب من الطاعون قبل أن يهرب منه المستريحون المطمئنون إلى العيش الواثقون بالمصير

وكان شوبنهور يبغض الحياة ويستمتع بلذاتها، فكيف يكون التوفيق بين البغضاء والاستمتاع؟

هما كذلك شيء واحد في الحقيقة. فلولا أنه يحب الاستمتاع بها لما أبغضها، ولولا أن الرجل يعرف لذة المعشوقة لما استعرت في نفسه بغضاؤها حين يحال بينه وبين متعتها كما يشتهيها، ولولا الإحساس المرهف لما كان الألم ولا كانت الحاجة إلى الترفيه عن النفس المتألمة بالإقبال على اللذات والتشاغل بالسرور، فإنما اللذات هنا ترياق لا يحتاج إليه إلا من هو مريض في المستشفى، بل هو مرقد لا يحتاج إليه إلا من فارقه الرقاد ولازمه السهاد

وكان شوبنهور ينفر الناس من الدنيا ويحرص على ماله ولا يفرط فيه، فكيف يكون التوفيق بين مذهب التنفير ودافع الحرص الشديد؟

هما أيضاً شيء واحد في بواطن الأمور

فالحرص على المال علامة بعض حالاته على الحذر الشديد من الناس، وقلة الركون إلى الوفاء والإخلاص والمعونة من الأصدقاء والأقرباء، فإذا افتقر إليهم فهو على يقين أنهم لا يسعفونه ولا يحفلون بما يصيبه، وإذا نظر إلى المستقبل فهو على يقين أنه سيفتقر أو يستهدف للنكبات والمتاعب، لعظيم خوفه من العواقب وإشفاقه من غدرات الحوادث، وعلى قدر هذا الخوف وهذا الإشفاق يكون الحرص على المال الذي ينفعه حين لا ينفعه صاحب ولا قريب

وكان شوبنهور عبوس الرأي مشرق الفكاهة كثير التنكيت والتبكيت، فكيف التوفيق بين الخصلتين؟

لا ضرورة إلى الإِطالة في التماس التوفيق بينهما، فهما متفقتان لا تتعارضان

فالمرهف الإحساس يتألم، والمرهف الإحساس يفطن للفارق الدقيق بين طوايا الناس ودعاواهم، وهذا - أي الفارق الدقيق بين الطوايا والدعاوي - هو ينبوع التهكم الذي لا

ص: 5

ينضب ومبعث الفكاهة ومادة (القفش) كما نقول في لغتنا نحن المصريين

والمرهف الإحساس من جهة أخرى يشعر بالألم فيحتاج إلى الضحك والسخرية وعنده المادة موفورة كما أسلفنا، فيتزود منها حيناً بعد حين بما يريحه إذا التمس الراحة، وما يصول به على خصومه إذا تعاوروه بالإساءة والإيذاء، وهو يتهمهم أبداً بأنهم يفعلون ذلك وإن لم يفعلوه

ومن راقب إخوانه وعشراءه عرف بالتجربة والمشاهدة أن النكتة المريرة أنفذ وأمضى وأدعى إلى المفاجأة من نكات المرح والخفة والمجانة، ولا سيما إذا اقترنت بالذكاء الثاقب والخبرة الواسعة والاطلاع الموفور، وكل أولئك كان من خصال شوبنهور ولوازم طبعه، ولو ضعفت مرارته لضعفت فكاهته على خلاف المنظور في ظواهر الصفات

وهكذا يؤدي بنا تطبيق المنطق على الخلائق الإنسانية إلى نقيض المتبادر من قريب، فنستغرب الأمر لأول وهلة ثم نمضي قليلاً إلى ما وراء ذلك فإذا المستغرب هو المألوف، وإذا المألوف فيما زعمنا أولاً هو الغريب البعيد

وخطأ أن يقال إن منطق العواطف غير منطق العقول. . . كلا! بل هما منطق واحد في جميع الحالات، وكل ما هنالك أننا لا نستحضر وجوه المقارنة جميعاً إذا بحثنا في ظواهر العواطف والأخلاق، فإذا استحضرناها وجمعنا أسبابها فالحكم على كل حال لا بد أن يطرد ويستقيم

وهكذا نصنع إذا حكمنا في قضية لها عشرون شاهداً من الجانبين ولم نسمع إلا خمسة شهود من جانب واحد. فهل يجوز لنا إذا اختل حكمنا أن نقول إن منطق القضايا المدنية أو الجنائية غير منطق العقول؟ كلا. بل نقول إن منطق واحد لا تناقض فيه، ولكننا نحن نسينا أسبابه وأغفلنا جوانب الحكم والمقابلة

من هنا يتبين لنا أن (شوبنهور) يعرض لنا صورة منسوقة من سيرته وفلسفته، وأن شذوذه هو اللون الصادق في جلاء تلك الصورة والموافقة بين أنوارها وظلالها، وأنه ابن مزجه وتكوينه في كتبه وفي حياته، كما كان ابن زمانه وأسرته وبلاده وما اختبره واطلع عليه

وما من رأى في كتب الفيلسوف إلا وله مرجعه إلى حالة من حالات زمانه أو دخيلة من دخائل بيته، فقد رأينا كيف علمه سقوط نابليون أن العمل للإرادة وأن الإرادة إلى فشل

ص: 6

وحبوط. فهل من علة لتقسيم الإرادة والذكاء بين الرجل والمرأة أو بين الآباء والأمهات؟ أو هل من علة لحقده على جنس النساء وكراهيته للنسل والزواج؟

نعم. علة ذلك أن أباه كان من رجال الأعمال وقد مات مجنوناً وقيل إنه بخع نفسه بيديه، وإن أمه كانت ذكية حصيفة تكتب الروايات وتنافس ابنها في عالم التأليف، وكانت تعيش بعد أبيه عيشة مريبة فاعتزلها ولم يرجع إليها بقية عمرها. فمن ثم كان اعتقاده أن الولد يرث الإرادة من الأب والفكرة من الأم، وأن تمام الفكرة والإرادة في الإنسان إنما يكون على هذا المنوال، فيصبح وهو مثال الدنيا التي تنتهي من الإرادة إلى الفكرة إلى (النرفانا) وما يشبه الفناء

شوبنهور عجيب، وأعجب ما فيه أن شذوذه كله يستقيم مع التعليل وتتفق فيه الظواهر والأسباب، ويعرض لنا نموذجاً صادقاً لنقائض الأخلاق، وهي في باطن الأمر أقرب ما تكون إلى المألوف المطرد المنظور

عباس محمود العقاد

ص: 7

‌مظاهر داء الشعور بالحقارة

للأستاذ عبد الرحمن شكري

من الأمراض الاجتماعية التي حققها المفكرون حديثاً، مرضان نفسيان: الأول داء الشعور بالعظمة، وقد يظهر بمظاهر العظمة أو بمظاهر التواضع المكذوب الذي ينم عن الكبر؛ وداء الشعور بالحقارة، وهذا أيضاً يظهر بمظهرين مختلفين: مظهر التواضع المتناهي وتحقير النفس، ومظهر التعاظم الذي يراد به ستر ما يشعر به المرء من احتقاره لنفسه. وهذا الشعور قد يكون مؤسساً على أمور في العقل الباطن فلا يتنبه صاحبه إلى حقيقة أمره ولا يعرف أنه مريض بداء الشعور بالحقارة

وقد يختلط المرضان لأن كلا منهما يظهر إما بالتعاظم وإما بالتواضع، ويغالي في التعاظم أو التواضع، ولكن تعاظم المصاب بداء الشعور بالعظمة يكون مقروناً بشيء من الاطمئنان والثقة. وقد يبلغ الاطمئنان مبلغاً يجعل صاحبه لا يدرك سخر الناس؛ أما تعاظم المصاب بداء الشعور بالحقارة فهو تعاظم يساوره القلق وغطرسة تنتابها حُمَّى الحقد والحسد، فالخلط بين الداءين من هذه الناحية يدل على خطأ في الاستقراء ونقص في الخبرة وخطل في التفكير. وكذلك الخلط بين تواضع المصاب بداء الشعور بالعظمة وتواضع المصاب بداء الشعور بالحقارة؛ فالتواضع الأول مقرون بالثقة أيضاً، ويظهر من ورائه اطمئنان صاحبه إلى عظم نفسه. أما تواضع المصاب بداء الشعور بالحقارة، فهو تواضع يظهر من ورائه الحقد والحسد؛ وليس من لوازم داء الشعور بالحقارة أن يجعل مظهريه مظهر التعاظم ومظهر التواضع في رجل واحد في أوقات مختلفة. إنه قد يفعل ذلك ولكن كثيراً ما نرى أنه يختص رجلاً بالتعاظم وآخر بالتواضع؛ وأكثر شيوع داء الشعور بالحقارة يكون في الأمم التي لبثت عصوراً طويلة مغلوبة على أمرها، ولا يهم التمييز بين أصحاب الغلبة في تفسير نشأة هذا المرض الاجتماعي

وأكثر ضرر داء الشعور بالحقارة يكون إذا صال به وجال أناس قد بلغوا شيئاً من الجاه والمنزلة والثروة أو كانت لهم سلطة، فان اقتران القدرة به والنفوذ والسلطة مفسدة وأي مفسدة. وكذلك إذا كان صاحبه قدوة لغيرة، فإنه يفسد النفوس بما ينشره هذا الداء الوبيل داء الشعور بالحقارة من الأحقاد والضغائن والأكاذيب والشرور والحقارة والفساد، ولا تستطيع

ص: 8

أمة أن ترقى إلا إذا تمكنت من اقتلاع جرثومة داء الشعور بالحقارة من نفوس أفرادها، وإلا إذا عالجته في مدارسها علاجاً

نفسياً صحيحاً بإطلاع الطلبة والتلاميذ على حقيقة نتائجه، فإن نتائجه قد تظن محمدة واعتزازاً بالنفس، أو قد تظن غير ذلك على حسب ما يظهر به داء الشعور بالحقارة من المظاهر سواء مظاهر العظمة التي يساورها القلق والحقد والحسد أو مظاهر التواضع التي تساورها هذه الأمور أيضاً. ومن الحكمة جمع الشواهد والأدلة وتفسيرها، فالغيبة والنميمة مظهران من مظاهره ولا شك، لأن منشأهما الرغبة في الاستعلاء بوسائل غير مشروعة يتخذها من يشعر في نفسه بالعجز عن أسباب الاستعلاء الفاضلة لتمكن داء الشعور بالحقارة من نفسه، وكذلك حب الظهور من شواهد هذا الداء وأدلته ولو كان ظهوراً يؤدي إلى ضياع الثروة والعقارات والفدادين. ومن شواهده الولوع بالفكاهة اللاذعة للسخر حتى بالغرباء، كل هذه محاولات من المرء أن يقهر شعوره بحقارة نفسه وأن يقنعها بأنه أفضل من غيره. ومن شواهد داء الشعور بالحقارة أيضاً عدم احترام حدود الحق والواجب، لأن العظيم حقاً يجد من عظم نفسه الحقيقي ما يسليه عن الفشل في نيل أمر تمنع من نيله حدود الحق والواجب، أما الذي يشعر في نفسه بداء الحقارة، فإنه يرى في طمس حدود الحق والواجب زيادة في قدرته وعظمته وشفاء لما يشعر به من ألم الحقارة أو لما يتحسسه في أعماق العقل الباطن من هواجس هذا الداء إذا كان صاحبه لا يدرك حقارة نفسه أو لألم الحقارة وهواجس العقل الباطن معاً. ومن شواهد هذا المرض وأدلته أيضاً الامتعاض من لباب الأمور، فإن صاحبه يكره اللباب المحض الصريح لأنه يشعر أنه يبرز عجزه ويهتم للبهرج المزيف لأنه براق خادع ولا يكلف ما يكلفه اللباب. وليس من الضروري أن يكون المريض بداء الشعور بالحقارة غبياً أو بليداً. وهذا الشعور بالحقارة قد يعظم في نفس صاحبه حتى انه قد يدفعه إلى الإثم والجرم الشنيع. وقد يصير جنوناً أو شبه جنون وحتى تصبح نفس صاحبه كالمفرزات القذرة التي يتصاعد منها الذباب الكثير الألوان، فمن ذباب أزرق وذباب أصفر وآخر أسود وغيره أحمر إلى آخر أنواع هذا الذباب الذي ينبعث من الأقذار. وقد يعظم داء الشعور بالحقارة في نفس صاحبه حتى كأنما يخيل له أن الأرض لا تستطيع أن تحمل ثقل شعوره بحقارة نفسه وهي هي الأرض التي حملت الجبال وحملت

ص: 9

الناس والحيوانات حتى الحيوانات الهائلة التي اندثرت قديماً؛ وهي الأرض التي حملت طوفان نوح وفلكه المشحون وحملت حماقة الناس وآثامهم وغباوتهم وجهلهم من عهد سيدنا آدم، وحملت الأرض كل هذه الأشياء ولكن كأن المسكين يخشى أن تلك الأرض نفسها ربما لا تستطيع أن تحمله وأن تحمل ثقل شعوره بحقارة نفسه. وهذا الشعور بالحقارة مما يزيد الحياة مرارة وألما. وله عدوى في بعض البيئات مثل عدوى الأمراض الجثمانية المعدية. ومن درس التاريخ عرف أن الأمراض النفسية تكون لها في بعض الأحايين عدوى مثل عدوى الأمراض الجثمانية المعدية. أو لعل تلك الأمراض النفسية تكون مصحوبة بأمراض عصبية كمرض (الهستريا). وقد شوهدت عدوى تلك الأمراض النفسية وشوهد وباؤها بصفة خاصة في عصور الانقلاب الفكري والاجتماعي والاقتصادي وفي عصور الكوارث الطبيعية الكبيرة والثورات والحروب، ولكنها تظهر في شكل أقل شدة وحدة في حياة الناس اليومية

وداء الشعور بالحقارة قد يصيب الغبي كما يصيب الذكي، وقد يصيب الوضيع المنزلة كما قد يصيب الرفيع المنزلة الذي ارتفع بعد ضعة أو ارتفع أبوه أو جده بعد ضعة أجداده. وهو في أشد حالاته يكون مصحوباً بجنون خلقي لا يميز صاحبه الخير من الشر، ولكن ليس كل جنون خلقي يكون مصحوباً بداء الشعور بالحقارة

والشواهد على وجوده كثيرة؛ فالوضيع الذي يتعالى ويتعاظم مصاب به، والرفيع المنزلة الذي تصيبه حمى إذا رأى ميزة في إنسان أو استضعفه وحاول القضاء عليه بوسائل تنجيه من العقاب والمؤاخذة. ومثله مثل الفلاح الذي يسلط الأشقياء على الناس لسبب تافه أو لغير ما سبب إلا حب الأذى وحب الظهور. وقد عرفنا أناساً من هذا القبيل يصابون (بالسادزم) نسبة إلى الكونت دي ساد الفرنسي الذي كان مصاباً بداء التلذذ بالتوحش والقسوة. فترى أن داء الشعور بالحقارة في أشد حالاته يكون مصحوباً بالجنون الخلقي وبجنون التلذذ بالتوحش والقسوة. وسنحصي بعض شواهد هذا المرض في مقال آخر

عبد الرحمن شكري

المفتش بوزارة المعارف

ص: 10

‌من برجنا العاجي

طالما جلست في صباي ساعات طويلة أتأمل قوافل النمل تسير على الحيطان. وكنت أحياناً أدنو منها وأصيح بأصوات مدوية، فما يبدو عليها أنها سمعت شيئا؛ فالنظام هو النظام، والخطى هي الخطى، والتجارة الضخمة المحمولة على الأعناق: وهي جناح (صرصار) كبير، ما زالت تتهادى مطمئنة في طريقها إلى عاصمة المملكة العتيدة داخل ذلك الثقب البارز في أسفل الجدار. وكانت الجيوش قد قاربت المدينة؛ وخرجت جيوش أخرى تستقبل القادمين وتحمل عنهم بعض العبء. وكأن الجميع في فرح وحركة ولغط لا يصل صداه إلى مسامعي الغليظة؛ كما أن أصواتي الراعدة لا تبلغ آذان تلك المخلوقات الدقيقة. فحدثتني النفس أن أحدث حدثاً في تاريخ هذه (البشرية) الصغرى، فأتيت بكوب من ماء وصببت مما فيه على القوافل الظافرة. ولبثت أنظر إلى الكارثة في ابتسام، فإذا شمل الجيوش قد تمزق، وإذا الذعر قد دب في الجموع. ولكن الفلول سرعان ما عادت تحمل (التجارة) من جديد في حرص المستميت. عند ذلك أقصيت الكوب وقد تحرك قلبي وقلت في نفسي: إن هذه المملكة ولا ريب تأخذ الآن عبثي على سبيل الجد، وأنها ولا شك تحسب ما حدث الساعة ظاهرة من ظواهر الطبيعة القاسية. فما هذا عندها إلا سيل العرم، أو طوفان هائل، أو قضاء هبط من السماء. وتأملت لحظة شأننا نحن (البشرية) الكبرى، وقلت: من أدرانا أنا لسنا أحسن حالاً من هذا النمل؟ ومن أدرانا أن ما نسميه ظواهر جوية وطبيعية من زوابع وأمطار وزلازل وبراكين ليس إلا عبث مخلوقات أخرى ذات أحجام وصفات لا نستطيع لها تصوراً؟ ومن أدرانا أن ليست في هذا الكون أصوات هيهات لآذاننا الصغيرة أن تدرك وجودها؟ لم لا نكون نحن أيضاً نملاً أرقى من هذا النمل وأحط من نمل آخر من جوهر آخر لا نعرف ما هو؟ إن الله لأعظم مما نظن؛ وإن حواسنا لأقل إدراكا لما في الكون مما نتخيل!

توفيق الحكيم

ليلى المريضة في العراق

للدكتور زكي مبارك

ص: 12

- 12 -

. . . وبكّرت إلى منزل ليلى بكور الندى لأدعوها إلى شهود حفلة الافتتاح. فوجدت الشقية في الفستان المصري الفضّاح الذي زارت به معرض القاهرة في ربيع سنة 1926، وكان يجب على ذلك الفستان أن (يذوب) بعد أن (ذابت) به أكباد وقلوب، ولكنها حفظته تذكِرةً لحبها الأول، الحب المشئوم الذي أورثها الضنى والذبول، الحب الذي عجز عنه الأطباء والذي أجاهد في خلاصها منه بحب أقوى وأعنف، إن كانت الصبابات القديمة أبقت في عزيمتي ذخيرة للجهاد. . وقد اهتاجت الغيرة في صدري حين رأيت ذلك الفستان فكدت ألطم ليلى على خدها الأسيل. ثم تراجعتُ حين تذكرت أن بلواها من بلواي. وهل كان حبي في بغداد أول حب حتى أنتظر أن تحبني ليلى أول حب؟ إن المسكينة تعرف أن طبيبها من قدماء المحاربين، وتعرف أنه لم يحمل النظارة إلا بعد أن تعبت عيناه من نضال العيون. فليكن أنسها بحبي أنس الجريح بالجريح، ولتفهم أني أشفيها من جواها لتشفيني من جواي

وقديماً قال الشاعر:

يا خليليّ والرفيق مُعينٌ

أسعفاني ببعض ما تملكانِ

أبتغي آسياً فقد عِيل صبري

من توالي الوجيب والخفقانِ

أبتغي صاحباً تولَّه قبلي

وشجاه من الجوى ما شجاني

فلقد يُسعف الجريح أخاه

ويواسي الضريب في الأحزانِ

وبعد تناول ما تيسر من الصَّبوح خرجنا في السيارة إلى بهو أمانة العاصمة، فترجلت عند باب المعظَّم لتدخل وحدها، ومضيت أحمل آمالي وآلامي، فلما وصلت إلى مدخل البهو اعترضني أحد الضباط قائلاً: سيدي، هذه الحفلة خاصة بالأطباء. فقلت: وأنا طبيب ليلى. فابتسم وقال: تفضل، تفضل

وسألت بعد ذلك عن الرجل الشهم الذي أفسح الطريق لطبيب ليلى فعرفت أنه السيد سليم محمود معاون مدير شرطة السير والمرور، وسيحدثنا الضابط عبد الحسيب فيما بعد أن الغرام بالأدب من أظهر صفات الضباط بالعراق

ص: 13

وكانت ليلى تعرف أن طبيبها يكره أن تأخذها العيون، فنظرت في أماكن السيدات فلم تجد أصلح من جيرة السيدة التي تنطق أسارير وجهها بأصدق معاني الكرم والنُّبل، عقيلة الرجل الشهم الذي يمثل المروءة المصرية في العراق

أما أنا فأخذت مكاني بين الدكتور عُسَيران والدكتور عَلاَّوي.

وكنت - مع الأسف - ذهبت إلى الحفلة وأنا أضمر الشر للأستاذ علي الجارم، فقد كِتب في منهاج الاحتفال أنه (شاعر مصر) وأنا أبغض الألقاب الأدبية. فلما وقف ليلقي قصيدته لم أصفق، وأعديت مَن حولي بروح السخرية فلم يصفقوا، ولكن الجارم قهرني وقهر الحاضرين جميعاً على أن يدموا أكفهم بالتصفيق.

وغاظني أن تصفق ليلى لشاعر يرى بحكم منصبه أنه رئيسي، لأنه كبير المفتشين بوزارة المعارف المصرية. ولولا حكم الأقدمية لكنت الرئيس وكان المرءوس، ولكن ماذا أصنع وقد سبقني إلى الأستاذية بأعوام طوال؟

وأنا والله أظلم نفسي بهذا الكلام، فما أذكر أبداً أني حقدت على إنسان. وما أذكر أبداً أني عرفت معاني الحسد والضغن إلا على الدهر المخبول الذي يتسفل فيرفع الأدعياء. وقد هجمت على شاعرنا الجارم عدة مرات، وحاربته في وزارة المعارف يوم رأى زميلي الأستاذ أبو بكر أن يكتب في نشرة رسمية أنه أمير الشعراء. وقد عرف الجارم خطر ما أصنع، فكان هو أيضاً يحاربني في مكتب تفتيش اللغة العربية؛ ولولا سماحة الأستاذ جاد المولى بك لكانت النتيجة أن أعيش بين المفتشين بلا صديق

فيا أيها العدوّ المحبوب الذي اسمه علي الجارم، تذكر أنك كنت حقاً وصدقاً شاعر مصر في المؤتمر الطبي العربي، وستمر أجيال وأجيال ولا ينساك أهل العراق

وهل تعرف مصر أنك رفعت رأسها في العراق وأنك كنت خليفة شوقي في المعاني وخليفة حافظ في الإلقاء؟

إنني أطلب المستحيل حين أطلب من مصر إنصافك. وهل أنصفتني مصر حتى أنصفك؟ هل أنصفتني مصر وكنت مجنونها وكانت ليلايّ؟

يرحمني الله ويرحمك، فعنده وحده جزاء المجاهدين

وعند نهاية الاحتفال دعوت ليلى للتسليم على سعادة العشماوي بك، وسعادة علي باشا

ص: 14

إبراهيم، وفضيلة الشيخ السكندري

أما العشماوي بك فسلّم تسليماً خفيفاً، سلم تسليم (المتبالهين) ليظهر أنه أكبر من أن يفتنه الجمال، والعشماوي بك (يتباله) في جميع الأحوال، وقد درسته حق الدرس، فعرفت أنه يحمل كبداً أرق من أكباد المحبين، ولكن له قدرة عظيمة على (التبالُه) فمن الذي علّمه هذا الأسلوب؟

وقد حقدت عليه ليلى، فليعرف سعادته أن غضب ليلى سيحل عليه، وسيرى عواقب ذلك في الأيام المقبلات!

أمَا يَخِفَّ وُقارك مرة يا عشماوي بك؟ اتق الذوق إن لم تتَّق الجمال!

وقد قهقه الشيخ السكندري حين رأى ليلى وقال: كنت والله أحسبك تمزح يا دكتور زكي، وما كنت أظن أنك جئت حقيقة لمداواة ليلى المريضة في العراق

والشيخ السكندري معذور، فهو يظن أن العشق انتهى من الدنيا بعد قيس وليلاه، وأن الناس لم يعودوا يحبون غير الملوخية الخضراء!

أما الدكتور علي باشا إبراهيم فنظر إلى ليلى نظرة الأرقم وقال: ما أستطيع الحكم بشفاء ليلى إلا بعد أن أفحصها بنفسي

ورأت ليلى أني غضبت فقالت: إني أحترم رأى سعادة رئيس المؤتمر الطبي، ولكني أفضل الموت على الحياة في سبيل الأدب مع طبيبي الخاص

ولم أرد أن تطول اللجاجة بيني وبين رجل كان رئيس اللجنة التي أديت أمامها الامتحان النهائي في كلية الطب، فأخذت بذراع ليلى وانصرفت

وأراد سعادة العشماوي بك أن يترضاني فرفضت، لأني كنت أعرف ما يريد، وهل كان يريد غير إيناس عينيه بوجه ليلى؟ اطْلَع من (دُولْ) يا سعادة الوكيل!

وفي الطريق سألتني ليلى عن العشماوي بك، وقد ساءها أن يتلقاها بوجه صامت التقاسيم، فشهدت عند ليلى بأنه رجل فاضل، وان جموده في حضرتها لم يكن جمود استهانة، وإنما كان جمود تعقُّل، والرجال الرسميون يغلب عليهم التعقل في أكثر الأحيان!

فهل يعرف سعادة العشماوي بك أنني ذكرته بالخير في حضرة ليلى؟

لا أمُنُ عليه، فهو يستحق ذلك، وأكثر من ذلك

ص: 15

وفي مساء ذلك اليوم أرادت ليلى أن تحضر معي في الحفلة التي أقامها فخامة رئيس الوزراء، فقاومتها مقاومة شديدة، وكانت حجتي أنها ستكون من الحفلات التي يختلط فيها الحابل بالنابل، وأنه ليس من العقل أن تتعرض ليلى لأنظار المئات من الناس وفيهم الفاضل والمفضول

وكنت على حق في منع ليلى من حضور حفلة المساء، فهي امرأة محجوبة عن المجتمع منذ سنين؛ وسيكون مَثلها حين ترى اختلاط الرجال بالنساء مَثل العين الرمداء التي تواجه الشمس بعد أن حجبها الطبيب عدة أسابيع في الظلام، ولكنها ألحت، ثم انتقلت من الإلحاح إلى التوسل، ومن التوسل إلى البكاء، والمرأة أقوى ما تكون حين تنتحب، فتخاذلت وقلت في نفسي: لعل هذه اللجاجة تعود عليها بالنفع، ولعلها حين ترى تسامح المجتمع الحديث لا ترى غضاضة في أن أغازلها حين أشاء

ولكن هذا الخاطر تبدّد في مثل لمحة الطرف، فأنا أعرف أن وزير المعارف من علماء النجف، وهو بالتأكيد يكره سفور المرأة، وإن ساير العصر فأباح اختلاط الجنسين في المعاهد العالية. ومن المحتمل أن يكره ظهور ليلى في المجتمع بلباس السهرة. ومالي لا أقول الحق كله فأقرر أن أهل العراق في النجف وغير النجف ينظرون إلى سفور المرأة بعين الارتياب؟ مالي لا أذكر بصراحة أن أكثر وزراء العراق يكرهون حضور زوجاتهم في الحفلات الساهرات؟ مالي لا أنص - للحقيقة والتاريخ - على أن وزراء العراق أكثرهم من رجال الجيش، والجيش يطبع أبناءه على الخشونة والصرامة والعنف، وأنهم لأجل ذلك من أغير الناس على كرامة ربات الحجال؟

وأخيراً أعلنتُ ليلى بالرفض المطلق، فأغربت في البكاء والشهيق

غضبة الله عليك يا ليلى وعلى جميع بنات حواء!

ورأيتُني مع الأسف طفلاً في حضرة هذه المرأة، فقد استبكتني فبكيت

ومع ذلك جمعت أشلاء عزيمتي وأصررت على الرفض

وعندئذ تدخلت ظمياء وهي تقول: هل لك أن تسمح بأن تخرج ليلى معك في ثياب فتىً من الأعراب؟

فكدت أطير من الفرح لهذا الاقتراح الطريف، ومضت ظمياء فأحضرت ملابس ابن عمها

ص: 16

عبد المجيد، فلبست ليلى بسرعة البرق، وخرجت معي

ولكنا ما كدنا نخطو بضع خطوات حتى تنبهت إلى الخطر المخوف، فقد تذكرت أن ليلى وهي في ثياب الفتى البدوي لن تقضي السهرة كلها في صمت، وهل يمكن لامرأة أن تسكت؟ وليلى تملك صوتاً هو في ذاته من كبريات الفضائح، وقد نصصت فيما سلف على أن لصوتها رنيناً مبحوحاً لم تسمع مثله أذناي على كثرة ما تذوقت من بُغام الملاح

فالتفت إليها وقلت: ليلى، ليلاي، اسمعي واعقلي، فإن صوتك سيفضحنا في الحفلة

فقالت: أتعهد بالصمت المطلق

فقلت: وكيف؟ وهل أضمن السلامة من واغل سخيف يسلم عليّ عمداً ليظفر منك بتحية، فتكون نبرة واحدة من صوتك المقتول نذيراً. بعواصف الفضائح؟

ولنفرض انك تلزمين الصمت ويلزم الناس الأدب فكيف تخفين هذه المشية؟

إن مشيتك يا ليلى فضيحة ولو لبست ثياب الجاحظ، والسامرون ينظر بعضهم إلى بعض، وأنت ستخطرين حتماً بين السامرين، وما أضمن أن يتأدب الجميع فلا تطرق سمعك كلمة نابية أقع بسببها في معركة تطنطن بها الجرائد في مصر والشام والعراق

اعقلي يا ليلى، اعقلي. . .

ولكن اللئيمة لم تسمع، ومضت تخطر في الطريق، فلطمتها لطمتين ورجعتها صاغرة إلى البيت، فودّعتني وهي تقول: سلمت يداك، فإني أحب الرجل البطاش

دخلت الاحتفال فوجدته يموج بالطرابيش فتهيبت وتخوفت وانتظرت حتى يأخذ المدعوون أمكنتهم من السماطين، لأتخيّر مكاناً ليس فيه طرابيش. ولا أدري ولا المنجم يدري كيف أخاف الطرابيش! وربما كان السبب في ذلك أني أريد أن أحيا في الحفلة حياة سعيدة، وهي لا تكون كذلك إلا إن خلت من التوقر، وما يمكنني أن أخرج على التوقر في حضور المطربشين. وهل لبست السدارة إلا لأنجو من عنجهية المطربشين؟

عفا الله عن مصر! فقد قتلت ما في صدري من شاعرية بفضل ما درجت عليه من التزمت والجمود

ولكن أين أجلس على المائدة؟ أين؟ أين؟

الحمد لله! هذا مكان يزدان بعمامتين من وطن سيدنا عمر ابن أبي ربيعة رضي الله عنه،

ص: 17

وكان عمر بن أبي ربيعة من المجاهدين الذين قال فيهم جميل:

يقولون جاهد يا جميل بغزوة

وأي جهاد غيرهن أريد

لكل حديث عندهن بشاشة

وكل قتيل بينهن شهيد

ومن مزايا سيدنا عمر بن أبي ربيعة أنه وُلدَ في الليلة التي مات فيها سيدنا عمر بن الخطاب. وقد اشترك هذان القرشيان في الجهاد، فكان ابن الخطاب يغزو الممالك والشعوب، وكان ابن أبي ربيعة يغزو الأفئدة والقلوب

وأريد أن أقول إن عمر بن أبي ربيعة لا بد أن يكون ترك في الحجاز بعض التقاليد الصالحات، وقد أجاز له القرشيون أن يقول:

نظرت إليها بالمحصَّب من مِنًى

ولي نظر لولا التحرج عارمُ

ولا يمكن أن يكون النظر إلى امرأة في المؤتمر أخطر من النظر إلى امرأة في المحصَّب، وما جاز في مكة وهي بلد حرام لا يمنع في بغداد وهي بلد حلال

وكلك اطمأننت على المائدة كل الاطمئنان

ولكن ما هذه المفاجآت؟ أراني لا أخرج من مأزق إلا وقعت في مأزق

هذه عمامة ثالثة، وهي من نوع خطر، لأنها عمامة وزير المعارف. . .

ونظرت فرأيتني فرغت من التهام الحساء، وتغيير المكان بعد ذلك باب من السخف

وما الذي يخيفني من وزير المعارف وهو من كبار الشعراء ولا يخلو شاعر من صبوات؟

ما الذي يخيفني من جيرة شاعر سليم الذوق مثل معالي الأستاذ محمد رضا الشبيبي؟

يخيفني أنه أديب صار وزيراً، وحياتي امتلأت بالأكدار والأوحال بفضل صحبتي لرجل أديب صار من الوزراء. وأنا في هذه المذكرات لا أتجنى على أحد، وإنما أسجل صور المجتمع وكان في مصر أديب يعطف على أدبي أشد العطف، فلما صار وزيراً فسد حالي عنده أشد الفساد. كان في حاله الأول يقول: زكي مبارك شاب يجيء منه؛ وكان في حاله الثاني يقول: مذهب زكي مبارك في الأدب سيفسد عشرة أجيال

وقد تعبت في تعليل هذه الظاهرة النفسية، ثم اهتديت إلى أن الأدباء الوزراء يهمهم أن يصححوا مراكزهم في المجتمع، ذلك بأن المجتمع يتوهم وهو خاطئ أن الأدباء يستبيحون من ألوان الحياة ما لا نستبيح، فالأديب حين يصير وزيراً يضيع وقته في تصحيح مركزه

ص: 18

الذي جرّحته أوهام المجتمع، فينقلب إلى رجل متحرج متكلف لا يعوزه غير عمامة عجراء ليصبح شيخ الأزهر أو نقيب الأشراف

وكنت خليقاً بأن أعلل النفس بأن ما أخافه في مصر قد لا أخافه في العراق

ولكني تذكرت حكاية الثعلب الذي همّ بالرحيل عن مصر في سنة 1916 فقد سألوه: لماذا تهاجر يا أبا الحصين؟ فقال: (ألم تعلموا أن السلطة العسكرية قررت جمع ما في مصر من جمال؟ فاعترض عمدة الباجور وقال: وهل أنت جَمَل؟ إنما أنت ثعلب. فقال الثعلب وهو يحاور حضرة العمدة: إلى أن يثبت أني ثعلب لا جَمَل أكون ضِعت

وكذلك أخشى أن أضيع قبل أن يثبت أن العقلية العراقية تباين العقلية المصرية. وعلى أساس هذا المنطق جلست على المائدة في غاية من الأدب والاحتشام. وأنا رجل يزدان بالأدب في قليل من الأحيان

ولكن معالي وزير المعارف ستشغله ألوان الطعام عن مراقبة ما يصنع زكي مبارك!!

وهل كنت مغفَّلاً حتى تفوتني هذه الحقيقة الأولية؟

وانتظرتُ حتى عَلَتْ قعقعةُ الشوكات والملاعق والسكاكين وأرسلت بصري فرأيت امرأة تحادثني عن بُعد بعينين ترسلان أشعة العذوبة والحلاوة والرفق

ورأيت الفرصة سانحة لدراسة هاتين العينين لأضع عنهما فصلاً في كتاب (سحر العيون) الذي شرعت في تأليفه منذ أعوام. وحضور هاتين العينين زاد اقتناعي بفوائد المؤتمرات، ولاسيما المؤتمرات الطبية، وسأكون بإذن الله عضواً في جميع المؤتمرات لأجد الموادّ الشائقة لكتاب (سحر العيون)

ورأت المرأة أني أسأت الأدب فصوبتْ سهام عينيها لتقتلني، ولكنها لم تفلح، فقد حاربتني قبل ذلك عيون وعيون ثم نجوت. ولو كانت العيون تقتل حقيقة لكان لي ضريح يزوره العشاق في باريس

فإن سأل قارئ هذه المذكرات عن جوهر هاتين العينين فأني أجيب بأنهما توحيان الحب، ولا توحيان الإثم. وسأعيش ما أعيش وأنا أتشوق إلى تقبيل قدمي هذه المرأة التي سحرت المؤتمر وهي في سذاجة الأطفال. وربما كنت أول من نظر إليها بعين الطُّهر والعفاف. ولو كنت مثَّالاً لاشتريت الساعة بألف دينار لأصنع منها تمثالاً يفضح تمثال أفروديت.

ص: 19

وليتها تعرف ذلك فيستهويها حب المال، لأني لن أفرغ من صب تمثالها في أقل من عامين. وعليّ عهد الله أن أقنع منها بما يقنع الساري من بدر السماء

قلت فيما سلف إني رجل مفضوح النظرات. وكذلك وقعتُ، فلم تمض لحظات حتى تنبه زوجها إليّ، فما كان يسير بها إلا وحوله جيش من المعارف والأصدقاء ليصد غارة الإثم والفتون

وماذا يهمني؟ إنه يتوهم أني سأحاول مع زوجته ما حاوله عمر بن أبي ربيعة مع زوجة أبي الأسود الدؤلي في الطواف،

ولكنه مخطئ، فأنا بالتأكيد أحسن أخلاقاً من أستاذي عمر بن أبي ربيعة، وأنا قد تفوقت على أساتذتي في أشياء كثيرة، منها هذا الشيء. أنا أَجِدُّ وعمر كان يمزح، وهل ترك ابن أبي ربيعة غير أشعار ملوثة بالمجون؟ أما أنا فسأترك بعون الله ورعاية الهوى ثروة فلسفية تشرح ما استبهم من أسرار الجمال

سيعاديني هذا الزوج وسأعاديه، ولكني سأعرف كيف أتقي شره فأدرس عَينيْ زوجته من بعيد بحيث لا يجرؤ على اتهامي بالفضول

وأسارع فأقرر أني اشتركت في جميع الحفلات والرحلات لأستطيع التمكن من دراسة هاتين العينين؛ واستعنت بالدكتور محمد صبحي بك في تحديد ما خفي عليّ من الدقائق البصرية، ولم يبق إلا شئ ولحد هو الوطن الذي تسرح فيه هذه العيون

وكيف أصل إلى ذلك وزوجها بالمرصاد؟

انتظرت وانتظرت، ثم انتظرت، إلى أن جمع بيننا زحام المرقص بعد ثلاث ليال، فدنوت منها في خفية وقلت:

'

فقالت في عبارة تجمع بين العتْب والرفق: (دخيلك، دخيل اللهْ، اتركني لحالي!)

فعرفت أنها من بنات عمنا القديم دماشق بن قاني بن مالك ابن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام

رباه! أنت تعلم ما نعاني في سبيل الحقائق الأدبية والذوقية والفلسفية، وتعلم أن الناس لا يجزوننا بغير العقوق، فاغمرني بلطفك واكتبني عندك من الصادقين

ص: 20

وأعود إلى حفلة رئيس الوزراء فأقول إنها كانت في غاية من الجفاف، فلم يشرب فيها المدعوون غير أقداح الماء القراح. وقد تشاكى السامرون بعضهم إلى بعض، وعرف أحد الأطباء ما في نفسي فقال: هل سمعت تصريح معال أمين العاصمة؟ فقلت: لا. فقال: إنه يقول إن هذه الليلة من ليالي مكة، وأنه سيرينا في مساء الغد ليلة من ليالي بغداد

وطاش صوابي فمضيت أبحث عن أمين العاصمة لأسجل عليه الوعد! فرأيته يحادث رجلاً عرفت فيما بعد أنه وزير المالية، فما كاد يراني حتى قال: أنا أفتش عليك يا دكتور مبارك

فقلت: وأنا أفتش عليك يا معالي الأمين. ولكن قبل أن أخبرك لماذا أبحث عنك، أسألك لماذا تبحث عني؟

فقال: كنت أحب أن أوجه نظرك إلى وجوب خلع السدارة في السهرة

فقلت: وأنا لا أخلع السدارة لأني أكره أن أعطيها أدب القُبَّعَةِ

فقال: ولكن نحن اصطلحنا على خلع السدارة في المجتمعات

فقلت: هذا غير صحيح، فقد رأيت عشرات من النواب يحملون السدائر في حضرة جلالة الملك وهو يلقى بنفسه خطاب العرش. ورأيت ثلاثة من النواب يخطبون وهم مسدَّرون. وزرت معالي رئيس مجلس النواب في بيته فكان يحمل السدارة وهو في غرفة الاستقبال. والصحف تنشر صورة جلالة الملك مسدراً وهو يقرأ الفاتحة على قبر أبيه

فقال: قلت لك إننا اصطلحنا على خلع السدارة في المجتمعات

فقلت: وأنا أرى الشواهد التي قدمتها كافية لإقناعك بوجوب التسامح في هذا الاصطلاح

فقال: أنت أستاذ وأعمالك قدوة، وأخشى أن أقول إنك تعطل ما نسعى إليه من جر الشعب إلى المدنية

فقلت: وأنا أخشى أن تجروه إلى الحيوانية

فظهر الغضب على وجهه وقال: ماذا تقول؟ ماذا تقول؟

وعرفت أن الموقف سيسوء فأسرعت إلى تحديد ما أريد وقلت: أقول يا معالي الأمين إن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يغطي رأسه، وما عداه من الحيوان لا يعرف تغطية الرأس. وكذلك أحكم بأن كشف الرأس يقرب الإنسان من الحيوانية

فأخذني من يدي وانتحى ناحية وقال: كيف تقول أمام معالي وزير المالية إننا حيوانات؟

ص: 21

فقلت: معاذ الأدب أن أقول ذلك، وإنما شرحت المسألة من وجهة علمية، فقررت أن الإنسان هو الذي يغطي رأسه من بين سائر الحيوان

فقال: ولكنك على كل حال جرحتني، فان كنت جاداً فلتعلم أنه لا يستطيع أحد في العراق ولا في مصر أن يخاطبني بمثل هذا الكلام. وإن كنت مازحاً فاسمح لي أن أصارحك بأن للرجل أن يمزح، ولكن ليس له أن يخرج على الذوق

فقلت: ما كنت جادّاً ولا كنت مازحاً، وإنما كنت أقرر حقيقة علمية

فقال: يظهر أن ما سمعت عنك صحيح

فقلت: وماذا سمعت؟

فقال: سمعت وقرأت أنك رجل مشاغب، ومن واجبي أن أنبهك إلى أني سحبت منك الدعوة لحضور السهرة المقبلة

فقلت: ذلك ما لا تملك

فقال: ستعرف أن ذلك مما أملك

وانصرف وانصرفت

ورجعت إلى منزلي مُبَلْبل الخواطر وأنا أقول: هذا ذنب ليلى، هذا جزاء من يخالف ليلى، فلو كانت ليلى معي في السهرة لغُفِرت جميع ذنوبي، فقد علمتني التجارب أن الرجال الذين لهم زوجات سوافر تُقضى لهم مصالح لا تُقضى لأمثالنا أبداً، نحن المحافظين المغفلين الذين يجهلون خُلق الزمان

أيستطيع أمين العاصمة أن يحجبني عن ليلة بغداد بعد أن أضعت من العمر ما أضعت في التغني بتاريخ بغداد؟ أفي الحق أنه أعرق مني لأني من مواليد مصر وهو من مواليد العراق؟

سترى يا أمين العاصمة أينا أقرب إلى قلب بغداد، وسترى في الليلة القادمة كيف تلقاني وألقاك

(للحديث شجون)

زكي مبارك

ص: 22

‌بين الوطنية والأممية

للأستاذ ساطع بك الحصري

مدير الآثار بالعراق

تتمة

يجب أن تتفك أوصال الأوطان الموجودة وتنحل الروابط الوطنية الحالية. . يجب أن تزول كل هذه الروابط التي تجمع (العمال وأصحاب رؤوس الأموال) في كل وطن تحت لواء واحد، وتفرق بين العمال الذين ينتسبون إلى دول وأوطان عديدة. . . يجب أن تترك هذه الروابط الوطنية محلها إلى رابطة جديدة مؤسسة على أساس الطبقات. . . بهذه الصورة وحدها يتم النصر للنظام الشيوعي في كل العالم، وبهذه الصورة وحدها تتم سيادة العمال ورفاهتهم. . .

هذه هي - على وجه الإجمال - أهم الآراء التي تدلي بها (الشيوعية الأممية) في أمر النزعات الوطنية. . .

إن هذه الدعاية الشيوعية كانت تقوم على عواتق بعض الأفراد والجمعيات، حتى زمن الحرب العالمية. . . غير أن الشيوعيين تمكنوا - في أواخر الحرب العالمية - من الاستيلاء على مقاليد الحكمَ في دولة من أعظم دول العالم، وأسسوا فيها نظاماً شيوعياً. . . وهذه الدولة الشيوعية - أي روسيا السوفيتية - أخذت على عاتقها مهمة الدعوة إلى الشيوعية في كل أنحاء العالم، وصارت تقوم بهذه المهمة بكل ما لديها من وسائط مادية ومعنوية، من أموال وافرة إلى تشكيلات منتظمة. . .

إن آلام الفقر وآمال الرفاهة التي تستولي على نفوس العمال من جهة، والدعاية الخلابة التي تقوم بها روسيا السوفيتية - مستندة إلى تشكيلات واسعة النطاق ومحكمة الترتيب - من جهة أخرى. . . قوّت النزعة الأممية الشيوعية في بعض البلاد، وأقامت بهذه الصورة أمام النزعة الوطنية عدواً جديداً خطراً جداً. . .

والنزعة الوطنية لم تتقاعس عن العمل تجاه هذا العدوْ بطبيعة الحال. إنها أخذت تناضل الشيوعية بحزم شديد وقوة كبيرة، فانتصرت عليها في بعض البلاد، كما فعلت النازية في

ص: 24

ألمانيا والفاشية في إيطاليا. . . غير أن النضال لا يزال سجالاً بين النزعتين، مادة وجهاراً، كما في أسبانيا، أو معنى وخفية - كما في عدد غير قليل من سائر البلدان

فيجدر بنا أن نتعرف إلى أوجه هذا النضال من قرب، وبشيء من التفصيل:

إن الانقلاب الصناعي الذي بدأ في أوائل القرن الأخير - والذي لا يزال يستمر إلى الآن - زاد في فروق الثروة بين الناس زيادة هائلة، وأوصل مشاكل المعيشة إلى درجة لم يسبق لها مثيل. . . لا شك في أن هذا التطور العظيم الذي حدث في الحياة الاجتماعية كان يتطلب نظرات وأنظمة حقوقية جديدة تضمن للكل حق الحياة والعمل بالعدل الذي يقتضيه هذا التطور العميق.

غير أن الحكومات لم تقدر خطورة هذه الأوضاع حق قدرها، فلم تقدم على سن القوانين الضرورية لمعالجتها. . . وذلك أفسح مجالاً أمام أصحاب رؤوس الأموال للاستبداد بحياة العمال بدون تأمل، وللاسترسال في استغلال أتعابهم بدون إنصاف. . . وهذه الحالة ولدت الاشتراكية التي أخذت تطالب الحكومات بوضع حد لهذا الاستبداد، وسن قوانين جديدة تثبت حقوق العمل وتضمن إنصاف العمال، وتمنع تضخم رؤوس الأموال على شقاء الآلاف بل الملايين من العمال. . . غير أن الحكومات قاومت في بادئ الأمر الحركة الاشتراكية ومطالبها مقاومة شديدة، وهذه المقاومة أدت إلى حدوث سلسلة ثورات واعتصابات عنيفة كما أدت إلى تفرع الاشتراكية إلى فروع ومذاهب متنوعة. فاختلف لذلك المذاهب الاشتراكية اختلافاً كبيراً من المعتدلة إلى المتطرفة، ومن الوطنية إلى الأممية

إن الشيوعية هي (الطريقة المتطرفة) التي قامت لمعالجة قضية العمل على أساس هدم كل شيء يقف حجر عثرة في سبيلها، ولم تتردد في إدخال (الوطنية) أيضاً في عداد الأمور التي لا لزوم للتمسك بها. . . حتى أنها أوصلت المغالاة إلى درجة القول بأن الوطنية أيضاً من المؤسسات التي يجب هدمها. . .

وأما المذاهب الاشتراكية الأخرى، فإنها تسعى إلى معالجة المشكلة دون أن تسترسل في تضحية المؤسسات الاجتماعية وهدمها، ودون أن تتهاون في (الوطنية) فتقدم على مخالفتها. . .

فإن (الاشتراكية الوطنية) - مثلاً - تقول بأن الحياة الصناعية تحتاج إلى معالجة جدية،

ص: 25

غير أن هذه المعالجة يجب أن تبقى دائماً داخل نطاق الوطنية. . . إن للعمال حقوقاً طبيعة يجب أن ينالوها، غير أنه يجب أن يعرفوا - في الوقت نفسه - أن هناك أمة يجب أن يخدموها، ووطن يجب أن يعتزوا به، ودولة يجب أن يعتمدوا عليها. . . ولأصحاب رؤوس الأموال أيضاً حقوق يجب ألا يفقدوها، غير أنه يجب أن يعرفوا هم أيضاً أن هناك أمة ووطناً ودولة، وأن الأموال التي تحت حيازتهم لم تتكون وتتجمع إلا بفضل مساعي العمال وبفضل أعمال الدولة التي تضمن الأمن العام، وتنشئ المرافق العامة. فللدولة والأمة والعمال أيضاً حق في هذه الأموال. فعلى الحكومة أن تتولى بنفسها تنظيم العلائق بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال على ضوء هذه الأسس؛ عليها ألا تترك هاتين القوتين وشأنهما تتنازعان، وعليها أن تعمل كل ما يمكن عمله لجعل هاتين القوتين متآزرتين كما تقتضيه مصالح الأمة والوطن. . .

فنستطيع أن نقول بهذا الاعتبار إن الاشتراكية الوطنية السائدة في ألمانيا تكون قطباً معاكساً للشيوعية الحاكمة في روسيا. . . وأما النظم النقابية المؤسسة في إيطاليا فهي أيضاً تقف في هذه القضية بجانب الاشتراكية الوطنية موقفاً معاكساً لوقف الشيوعية. . .

فإن الشيوعية لا تبالي بالوطنية، وتدعو إلى الأممية؛ في حين أن النازية - مثل الفاشية - تتمسك بالوطنية وتعارض الأممية. . .

إن عنصر الأممية الذي يدخل في تكوين الشيوعية هو الذي يجعلها خطراً على كيان سائر الدول، ويضطر الأحزاب الوطنية فيها إلى مقاومتها بشدة، ومناضلتها بعنف. . . لأن البلشفية لا تهدد كيان الدول والأمم من جراء احتمال إقدامها على شن الغارة عليها بواسطة حملات عسكرية ترسلها من وراء حدودها فقط. . . بل تهدد كيان الدول والأمم في داخلها من جراء الدعايات التي تقوم بها بين أهليها، وبواسطة التشكيلات التي توجدها بين أبنائها. . .

وهذا الذي يجعل النضال بينها وبين معارضيها عنيفاً جداً. . .

ماذا يجب أن يكون موقفنا نحن - أبناء العرب - من هذا النضال العنيف؟ بين هذه المذاهب الاجتماعية المتضاربة؟

أولاً - يجب أن نلاحظ قبل كل شئ أن المشاكل التي نعانيها نحن أبناء العرب تختلف

ص: 26

اختلافاً كبيراً عن المشاكل التي تعانيها تلك البلاد؛ فمن الخطأ أن نفكر في اقتباس نظام من تلك النظم على علاته. . . غير أن موقف هذه النظم المختلفة من النزعة الوطنية والقومية يجب أن يدلنا على النظام الذي يجب أن نتباعد عنه كل التباعد، ونحذر منه كل الحذر. . .

ويجب علينا أن نلاحظ في الوقت نفسه، أن الأضرار التي تنجم من الإصغاء إلى الدعاية الأممية لا تكون متساوية في كل البلاد، بل إنها تزداد وتنقص، نظراً إلى ضعف النزعة الوطنية والقومية السائدة في البلاد أو قوتها

تصوروا الأمة ناهضة متحدة متصفة بشعور قومي عميق، ونزعة وطنية شديدة، قد تأصلت الوطنية والقومية في نفوس أبنائها حتى أنها دخلت في طور الإفراط والتعدي، فصارت تحمل القوم على التوسع على حساب غيرها عن الأمم. لا شك في أن رياح النزعة الأممية إذا هبت على النفوس في مثل هذه الأمة لا تستطيع أن تجتث شجرة الوطنية من جذورها، فلا يتعدى تأثيرها حدود بعض الأضرار الطفيفة من نوع إسقاط الأوراق أو كسر الأغصان. . . إن انتشار فكرة الأممية بعض الانتشار بين أبناء تلك الأمة لا يزعزع بناء الوطنية زعزعة خطرة، وكل ما يعمله ينحصر في كسر ثورة الإفراط، وتخفيف أطماع التوسع والاستعمار. . .

ثم تصوروا أمة - بعكس تلك - متأخرة في حضارتها، متفرقة في سياستها، مترددة في وطنيتها، استيقظت من سبات عميق في عهد قريب؛ فلم يمض على يقظتها الوقت الكافي لاختمار الفكرة القومية في نفوس أبنائها، فلم يتم بعد (تكوّن الشعور القومي) و (تأصل النزعة الوطنية) في تلك النفوس. لا شك في أن تأثير الرياح (الأممية) على أمة كهذه الأمة يكون خطراً جداً، لأنه يوقف اختمار الفكرة القومية في بدء عملها، ويحول دون تكوّن الشعور القومي العام في بدء عهده؛ ويميت تباشر النزعة الوطنية الحق قبل أن تتأصل في النفوس. .

إنني أعتقد بأن نظرة واحدة إلى حالة البلاد العربية والأمة العربية - على ضوء هذه الإيضاحات - تكفي دلالة قطعية على أن انتشار النزعة الأممية - ولو قليلاً - يكون مضراً جداً، بل مهلكاً وقتالاً بالنسبة إلى أبناء الضاد. . .

فينبغي علينا أن نبذل أقصى الجهود لمنع تسرب النزعة الأممية إلى النفوس في جميع

ص: 27

الأقطار العربية

هذا، وقد لاحظت أن بعض الشبان، في مختلف البلاد العربية، يخلطون بين قضية السياسة الخارجية وأمر النظم الداخلية خلطاً غريباً. فكثيراً ما يتساءلون خلال مناقشة مثل هذه المسائل: أية دولة أكثر مطامح في البلاد العربية؟ هل لروسيا مطامح استعمارية في البلاد العربية؟ ألم يكن خطر الاستعمار الإيطالي أكبر من سائر الأخطار؟

إنني أعتقد أن وقوف هذا الموقف تجاه المسائل الداخلية والاجتماعية لا يتفق مع منطق السياسة والاجتماع، لأن علائق الدول الخارجية لا تتأسس على أشكال نظمها الداخلية. فالدول تتفق أو تتخاصم حسب منافعها، دون أن تنظر إلى مشابهة أشكال إدارتها أو مخالفتها. فقد رأينا - مثلاً - خلال الحرب العالمية أن فرنسا اتفقت مع إنكلترا وروسيا، مع أنها كانت جمهورية، في حين أن إنكلترا كانت ملكية دستورية وروسيا القيصرية كانت من الحكومات الاستبدادية. وقد انضم إلى هذه الدول الثلاث، خلال الحرب العالمية، عشرات من الدول الأخرى على اختلاف نزعاتها في السياسة الداخلية

فيجب علينا أن نعتقد كل الاعتقاد بأن اعتناق أي مذهب اجتماعي لا يخلصنا من الأخطار المحدقة بنا، كما أن عدم اعتناق أي مذهب من المذاهب الاجتماعية لا يعرضنا إلى أخطار خارجية غير الأخطار التي تحيط بنا. . .

فعندما ننعم النظر في أمر صلاح أو عدم صلاح النظام الشيوعي لبلادنا لا يجوز لنا أن نبني أحكامنا على سياسة إيطاليا أو روسيا في الأمور الدولية بوجه عام، أو في أمور البلاد العربية بوجه خاص. . . بل يجب أن نفكر في صلاح أو عدم صلاح هذا النظام بالنظر إلى أحوالنا الداخلية فقط. . .

وربما كان وضع الدولة التركية تجاه هذه المسألة من أحسن الأمثلة وأقطع الأدلة في هذا الباب

تعلمون أن تركية مدينة بشيء كثير من حياتها الآن إلى أوضاع روسيا السوفيتية. . . لأن الدولة الروسية كانت عدوة تركيا التاريخية حتى نهاية الحرب العالمية. . . غير أنها بعد أن تبلشفت تركت عداءها القديم، بل بعكس ذلك أخذت تسند الدولة التركية ضد الدول الأوربية، وصارت تساعدها بكل الوسائط الممكنة، وفعلاً أمدتها بالأموال والأسلحة والعتاد

ص: 28

خلال مناضلاتها الاستقلالية، وحافظت على هذه السياسة نحوها منذ ذلك الحين. فتركية كانت أول دولة تصادقت مع روسيا السوفيتية، وهي لا تزال من أخلص أصدقائها. . . وهي مع كل هذا من أشد أعداء البلشفية، وهي تطارد وتعاقب بشدة كل من ينتسب إلى الشيوعية أو يقوم بدعاية للشيوعية. . . وروسيا البلشفية لا تزال صديقة تركية، بالرغم من مخالفة الأخيرة للنظم البلشفية في أمورها الداخلية. . .

هذه حقيقة واقعية. . . وكثيراً ما يصادف المرء في الصحف التركية عدة فصول في صحف حفلات التكريم التي تقام للوفود الروسية. . . وبجانب هذه الفصول عدة فقرات تذكر أخباراً متنوعة عن محاكمة الأشخاص الذين سجنوا لانتسابهم إلى الشيوعية، وعن الأحكام العقابية التي صدرت عليهم من المحاكم المختصة

فلا بد لي أن أذكر في هذا الصدد كلمة مشهورة قالها أحد عظماء فرنسا خلال مناقشة برلمانية، قبل مدة تزيد على نصف قرن: كان (جول فرى) من أبطال الفكرة العلمانية في فرنسا. حارب الكهنوتية أشد المحاربة، ووضع القوانين التي تحدد ساحة عمل رجل الدين تحديداً كبيراً، وسعى طول حياته إلى حرمانهم حق فتح المدارس والاشتغال بالتربية والتعليم. . . ومع كل ذلك لم يتوان عن مساعدة رجال الدين في الأعمال التي يقومون بها خارج فرنسا. . . حتى أنه لم يتردد أحياناً في مساعدة أعمال الإرساليات التبشيرية بالوسائط الدبلوماسية أو بالقوة العسكرية. . . فقد اعترض البعض على هذه السياسة المتناقضة، واستنكروا حماية أعمال رجال الدين في خارج فرنسا في نفس الوقت الذي كانت تمنع فيه هذه الأعمال داخل فرنسا. . . فصعد (جول فري) على المنبر وقال كلمته المشهورة: إن عداوة الكهنوت ليست من الأمتعة التي يجوز تصديرها إلى الخارج. . .

وأراد أن يقول بذلك: إن عداوتنا للكهنوت يجب أن تبقى من خصائص سياستنا الداخلية وحدها. . . وهذه العداوة يجب ألا تمنعنا عن الاستفادة من رجال الدين في سياستنا الخارجية في أمر توسيع نفوذنا خارج فرنسا. . .

إنني أعتقد بأن الوقائع والحقائق التي سردتها لكم لا تترك مجالاً للشك في أن كل من يقول بوجوب اعتناق المذهب الشيوعي لدفع أخطار دولة أو لاسترضاء أخرى يكون قد سلك مسلكا لا يقره (منطق الحقائق) بوجه من الوجوه. . .

ص: 29

فعلينا أن ننظر إلى القضية في ذاتها كمسألة داخلية صرفة مجردة عن كل الاعتبارات الخارجية فنسأل أنفسنا: هل يجوز لنا أن نصغي إلى نداء الأممية الشيوعية أم لا؟. . .

إنني أعتقد أن وضع المسألة على هذا الشكل الواضح لا يترك مجالاً للتردد في الجواب اللازم لها. . .

فقد قال أجدادنا:

بلادي وإن جارت علي عزيزة

وأهلي وإن ضنوا عليّ كرام!

أعتقد أن هذا القول يتضمن أحسن وأبلغ الأجوبة على نظرية الأممية الماركسية. . .

لا أود أن أقول - بذلك - إنه يجب علينا أن نترك الأمور على حالها، فلا نفكر في إزالة الجور عن أفراد الأمة. . . بل أقول - بعكس ذلك - يجب علينا أن نبذل كل الجهود لإصلاح الأحوال وإزالة الجور بأعظم ما يمكن من السرعة. . . على ألا نخرج في أعمالنا وتدابيرنا عن مقتضيات الوطنية، وأن نعتقد في كل حين: أن الوطن قبل كل شيء وفوق كل شيء. . .

ساطع الحصري

ص: 30

‌فلسفة التربية

تطبيقات على التربية في مصر

للأستاذ محمد حسن ظاظا

- 11 -

(التربية مهمة دينية ورسالة مقدسة)

(هربارت)

(من يدر المدرسة يوجه مستقبل الأمة)

(بسمارك)

(أم المسائل في مصر مسألة التربية والتعليم، فلو أن كل مصري وضع في تشييدهما لبنة لأقمنا للوطن صرحاً يبقى ما بقى الزمن)

(الملك فؤاد)

1 -

اليوم والغد

رأيت فيما سلف ضرورة الفلسفة للتربية، وتبينت الكثير من تلك (الأصول العامة) التي تقيم عليها الأمم الديمقراطية الحديثة تربيتها الصالحة وتعليمها السليم. والحق أن ذلك كله لم يكن غير مقدمة عامة أحببت أن أمهد بها لنقد التربية والتعليم في مصر وطننا المحبوب. فلعلك قد وعيت ما قدمت وتود صادقاً أن ترى إلى أي طريق نحن مسوقون، وأين نحن من تلك الأصول وهاتيك الفروع. ولعلك تشعر معي أن مثل ذلك الموضوع خطير كل الخطورة، ودقيق كل الدقة، لأنه وحده بيت الداء ومناط الرجاء، وأننا محتاجون فيه إلى كثير من الصراحة وسعة الصدر حتى نستطيع أن نشخص الداء على حقيقته، ونقرر الدواء الناجع والعلاج الصحيح! ثم لعلك ترى أننا اليوم في عصر جديد يتطلب منا تربية خاصة تحقق الأمل في توطيد الديمقراطية وصون الاستقلال، وبعث المجد القديم، وتزعم الشرق الحديث، وإعلاء القومية إزاء مطامع الطامعين، ومسايرة الحضارة جرياً وراء قفز المتقدمين. . .! أجل، ولعلك قد استطعت أن تتبين أن نهضتنا الحديثة ما تزال مشوبة بضعف في الخلق والتواء في الشخصية، وضيق في العقل وانحلال في الشعور، وأننا قد

ص: 31

أصبحنا مهددين بثورتين جارفتين وقانا الله شرهما: إحداهما ثورة المتعلمين العاطلين، والأخرى ثورة الجاهلين القانعين. . .! أجل؛ ولعلك قد استطعت أن تدرك أنه لا سبيل إلى تحقيق شيء من هذه المشروعات الاجتماعية الإصلاحية الكثيرة التي يقترحها المقترحون، إلا إذا كوّنا أولئك (الرجال البواسل) الذين نستطيع أن نعهد إليهم حقاً بمباشرة تنفيذها، لأن نفوسهم قد تهيأت بالفعل لها وآمنت بها. . . وأن الدولة التي تنفق على التربية والتعليم كثيراً وتخصها بأعظم عنايتها تحيط نهضتها بكل أسباب القوة والنجاح، وتوفر على نفسها من الجهود والمشقات، والأموال والاضطرابات، ما لا أول له ولا آخر. . .

لعلك إذن تعرف ذلك كله، وتود حقاً أن تعلم أين نحن وإلى أين نسير؛ وتعجب كل التعجب من إغفال الأحزاب السياسية في هذا البلد لقضية التربية والتعليم كجزء من برامجها لا يتجزأ، وكخطة في الإصلاح جوهرية لها فسلفتها المعقولة وحدودها المرسومة، وكوسيلة لتحقيق الأماني القومية تغني عن التشريع المزعزع، وتمهد لنتائج وأحوال مضمونة كل الضمان ومؤكدة كل التأكيد. . .!

أجل! ولعلك تعجب كذلك من ندرة البحوث التي يقدمها الكتاب والمحاضرون للرأي العام فيما بين الآن والآخر متعلقة بذلك الشأن، ودائرة على الخصوص حول التجريح وإظهار العيوب!! كأنما الموضوع مقدس لا يجوز الاقتراب منه! أو كأنما هو ضئيل الشأن في حياتنا المادية والمعنوية فلا ضرورة للاهتمام به!! أو كأنما هو سر من أسرار الدولة لا داعي لإشراك الرأي العام فيه!!

أجل، ولعلك تقول معي الآن إن النهضات الكبرى التي ازدانت بها صفحات التاريخ لم تقم إلا على أساس من النقد الذي هدم البالي وأقام الجديد، وأننا في نهضتنا وظروفنا الحاضرة محتاجون كل الاحتياج إلى هذا النقد الحر النزيه، وإلى سعة في الصدر تسمح به وتشجعه وتقابله بالكثير من الهوادة والرفق، وتصفح عما قد يتعرض ل من خطأ وشطط. . .!

قالوا وما زالوا يقولون: لنستر العيوب لنستر العيوب! وأقول وما زلت أقول: وماذا بعد ستر العيوب؟ وما جدوى السير في طريق شائك نهايته تعسة إذا كانت القافلة التي تسير فيه هي قافلة الأمة؟؟ على أني لست أذهب في التشاؤم إلى هذا الحد فأدعي أن تعليمنا شائك كله ونهايته تعسة كلها؟! بل إنه لمن الخير أن أسجل بمداد الفخر أننا قد بدأنا نلمس

ص: 32

الضعف منذ أعوام ونعمل على إصلاحه، فراحت وزارتنا تطلب رأي الخبيرين، وراح أحد وزرائنا يكتب بنفسه في التعليم لثانوي، وأقيمت بالفعل مدارس جديدة، وأدخلت إصلاحات مهمة وخطيرة. هذا إلى ما يدرس الآن تمهيداً لاعتماده وتنفيذه. . . وتلك ولا ريب باكورة طيبة تذكر بالشكر لرجال المعارف ويرجى منها خير جزيل. وما دام الأمر كذلك فلا مندوحة لنا كرجال تربية من معاونة الوزارة في مهمتها بتقديم آرائنا وتجاربنا وكل ما نملك من قول أو فعل يحقق للوطن أمانيه وينجيه من عيوبه وأمراضه. . .

فترى ما هي هذه العيوب وتلك الأمراض؟ كل منا يستطيع أن يذكر الكثير من ذكرياته كطالب ومن تجاربه كمعلم، وكل منا يستطيع أن يقرر أن ماضينا كطلبة مليء بألوان من التربية لا نتفق وتلك الأصول التي قدمنها في كثير ولا قليل، ولا تصلح إلا لأن تكون ذكريات مرة فيها ما يضحك ويبكي ويؤلم ويؤسف، وكل منا يستطيع أن يقرر أن حاضره كمعلم مشوب بأساليب من النقص بعضها هين يسير وبعضها ثقيل عسير. ومن اشتغل منا (بالتعليم الحر) أو درسه عن كثب يستطيع أن يقدم للقراء قصة فيها من المآسي والفواجع ما يثير التقزز والاشمئزاز ويبعث على الأسف والرثاء؛ ولقد كنت أعد نفسي وأنا - أكتب مقدمتي للقراء - لمثل هذا النقد البريء، فوقعت في يدي رسالة حديثة صغيرة بالإنجليزية لأحد أساتذة المعهد وهو الدكتور (جاكسون)، تناول فيها بعض نواحي التربية في مصر بالنقد الحصيف والاقتراح الصائب، فأعجب بها كل الإعجاب، وشعرت أنها قد ذكرت الكثير مما كنت أريد وزادت عليه، ولذلك لم أر بداً من تلخيصها والتعليق عليها وتقديمها لقراء العربية كنظرة عامة جادت بها قريحة إنجليزي خيِّر خدم التربية في مصر ودرسها عن كثب، وأبى إلا أن يرد لهذه البلاد العزيزة فضلها عليه بشيء من النقد والإرشاد

فإلى اللقاء إذاً حيث نستعرض هذه النظرة ونتبعها بأخرى. وإلى اللقاء حيث أسمعك ما قد يصلني من إجابات حضرات رجال التعليم من مفتشين ونظار ومعلمين على الأسئلة الآتية:

1 -

ما هي أهم عيوب التربية المصرية في العصر الحاضر؟

2 -

وما هي الأغراض التي يجب أن تتوخاها التربية المصرية حتى تحقق للوطن أمانيه الجديدة؟

3 -

وماذا يروقك في ماضي التربية وحاضرها؟

ص: 33

(يتبع)

محمد حسن ظاظا

مدرس الفلسفة بشبرا الثانوية الأميرية

ص: 34

‌محنة الآنسة (مي)

للأستاذ عبد الله مخلص

عضو المجمع العلمي العربي بدمشق

عزيزي صاحب الرسالة

سلام الله عليك ورحمته. وبعد فقد ذكرتم في العدد 238 من (الرسالة) الغراء تماثل الآنسة (مي) زيادة من مرضها الذي لازمها نحو عامين، وبشرتم أهل العلم والفضل بهذه البشرى التي أثلجت الصدور وأقرت الأعين، فقمتم بعملكم هذا بحق الأدب عن كل أديب جزاكم الله خير الجزاء

ولكن قارئ هذا الخبر يظن أن الآنسة (مي) كانت حقيقة مريضة في لبنان وأنها الآن في دور النقاهة، مما يخالف الواقع ويسدل ستاراً كثيفاً على المأساة التي أراد بعض من لا أخلاق لهم أن يمثلوها ويحولوا بين هذه العبقرية وبين ما كانت تنثره من الدرر الغوالي وتبديه من الأفكار النيرة وتخدم به المجتمع العربي

وأظنكم لا تضنون على قادري قدر (مي) وعارفي فضلها بإزاحة ذلك الستار الأسود عن تلك النفوس المريضة والوجوه السود التي قذفت بأرقى شخصية أدبية في المارستان ثم بالمستشفى تحت جنح الظلام ومنعتها من الاختلاط بالناس فجعلوا منها ميت الأحياء

وعلى هذه العقيدة أكتب للرسالة الغراء - لا لك ولا لي، ولكن للحقيقة والتاريخ - عما أصاب (مي) من المصائب، وانتابها من النوائب، وفي خلال السنتين المنصرمتين حتى عادت شبحاً من الأشباح تنقم على البشرية الظالمة وتعبت على جيرانها الأقربين، وخصوصاً سيدات العرب اللائي انتصرت لهن في كل مواقفها. وإلى القارئ العزيز فصول هذه المأساة وله أن يحكم بنفسه في أي عصر من العصور المدنية نحن؟ وما هذا الذي يجري في معاهد العلم والفن من المآسي والمخازي التي تشيب لهولها الولدان وتضطرب الأفئدة؟

لا شك في أن كل أديب وأديبة في لبنان ومصر وفلسطين وسورية والعراق وجميع بلدان العرب يعرفون فضل (مي) على النهضة العلمية عامة والنهضة النسائية خاصة، ولكنهم ربما لا يعرفون أين تنبت هذه الزنبقة العطرة، فرأينا أن نقتضب من سيرتها ما تجب

ص: 35

معرفته

الآنسة مي هي ماري ابنة المرحوم الأستاذ إلياس زيادة من عرمون غزير في لبنان الذي كان مسقط رأسها ومنبت غرسها كما كانت مصر التي انتقلت إليها مهبط أنسها ومهوى نفسها

وهناك في بلد العلم في العالم العربي بدأت حياتها المجدية المفيدة فنشرت كتاب باحثة البادية وهو بحث انتقادي طبع سنة 1920 ثم عززته بثان وثالث هما ابتسامة ودموع أو الحب الألماني طبع سنة 1921، وكلمات وإشارات وهو يحتوي على خمس عشرة خطبة ألقتها في مناسبات مختلفة وهو أول كتاب جمعت فيه خطب سيدة شرقية عربية وقد طبع سنة 1922

ثم كتاب بين الجزر والمد، ودمعة وابتسامة، وظلمات وأشعة، وقد طبعت جميع هذه الكتب في سنة 1923

ثم كتاب الصحائف الذي طبع سنة 1924 وكتاب سوانح فتاة والمساواة، غير الأبحاث الناضجة والآراء الاجتماعية الصائبة التي كانت تنشرها في المجلات والصحف حتى وصلت إلى درجة كانت جريدة الأهرام الكثيرة الأنصار الواسعة الانتشار تفتح لرسائلها صدرها وتجعلها أولى مقالاتها

ومما يدل على علو منزلة الآنسة (مي) أن بين الذين قرظوا كتابها (المساواة) الأمير شكيب أرسلان فكتب له المرحوم الدكتور يعقوب صروف أحد صاحبي المقتطف رسالة جاء فيها ما يلي:

(والمساواة مقالات نشرت أولاً تباعاً في المقتطف ثم جمعت وطبعت كتاباً على حدة فراقني جداً وصفكم له، وأرجح أنه لم تترجم شيئاً ترجمة لأنها تتكلم معي في كل الموضوعات الأدبية والفلسفية كما تكتب، فإنها قوية الذاكرة إلى حد يفوق التصور، وقد قرأت كثيراً من الكتب في اللغات التي تحسنها: الفرنساوية والإنكليزية والإيطالية حتى لقد تستشهد في كلامها معي بأبيات من شكسبير أو بيرون كما تستشهد بالمتنبي والمعري

وحفظت أيضاً كثيراً من قصائد شوقي والمطران وحافظ وأظنها تصوغ معانيها في ذهنها بالفرنساوية والإنكليزية قبلما تعبر عنها بألفاظها العربية)

ص: 36

وشاء القدر أن تفقد مي والديها واحداً إثر واحد كما يفقد كل إنسان أبويه في هذه الحياة، ولكن مي الشاعرة العطوف الرقيقة الحواس تزلزل منها هاتان الصدمتان قوتها واحتمالها، وتساورها الهموم والأحزان فتقبع في عقر دارها تناجي نفسها وتندب حظها بفقد أعز الناس عليها، فيأتي إليها بعض ذوي قرباها في ثياب الحمل وهم ذئاب خاطفة ويحملونها على السفر إلى لبنان وطنها الساحر على أمل أن تجد في جوه الجميل ومائه النمير ومناظره الخلابة وجباله الشم ما يرفه عن نفسها المشوبة بالأكدار

وتحقن مي بمصل مخدر سواد ليلة من الليالي فتصبح بياض نهارها بين المجانين في مستشفى الأمراض العقلية المسمى بالعصفورية في ضاحية بيروت فتثور ولكن على من؟ وتستنجد ولكن بمن؟ إنها أصبحت في عداد الذين أفقدتهم صدمات الحياة الرشد وأقعدتهم المصائب هذا المقعد الأليم. وتنقطع مي عن الطعام والشراب إلا ما تسد به الرمق وتستبقي بواسطته الحياة

وبعد أن تقضي السنة في ذلك المارستان ينقلها أولئك الذئاب إلى مستشفى ربيز في بيروت ولكن يحوطونها برقابة شديدة ويمنعونها من الاختلاط بأحد لئلا يطلع على ما بيتوا لها من شر مستطير وأعدوا لها من ظلم صارخ فتتم سنة أخرى بين العقلاء الذين لا تستطيع الدنو منهم والتحدث إليهم

ويسعف الحظ فيؤتي بسيدة من آل الجزائري في دمشق إلى المستشفى وتوضع في غرفة مجاورة لغرفة مي السجينة فتسمع (مي) صوت السيدة وهي تتململ في فراشها من شدة الألم الذي أعقب عملية جراحية فتفتح الباب الموصل بين الغرفتين بجهد وتدخل إلى غرفة السيدة الجريح لمواساتها على تخفيف آلامها وتكرر مي هذه الزيارات ليلاً في خلسة من الرقباء

وتستأنس السيدة الجزائرية بجارتها الحنون لا سيما بعد أن اندمل جرحها فتسألها عن حالها وسبب مقامها في المستشفى فتنفجر (مي) بكل ما في نفسها من آلام وتشكو أمرها وما تقاسيه من عنت الظالمين إلى السيدة التي تألم كثيراً لها وتستعين بأوليائها من الرجال على كشف مظلمتها ويقوم هؤلاء السراة الأمجاد أحفاد الأمير عبد القادر الجزائري ويعملون على إطلاق سراحها

ص: 37

وينتهي الأمر بتدخل إدارة الأمن العام وإخراج (مي) النابغة من سجنها

فتعود الذئاب الخاطفة التي تخشى أن ترد إلى (مي) حقوقها الشرعية بالتصرف في أموالها وحليها ومكتبتها الغنية التي وضعوا أيديهم عليها ظلماً وعدواناً، وتصرفوا بها تصرف المالك فمي ملكه اعتسافا وطغياناً - يعودون إلى مزاعمهم الأولى من اختلاط عقلها وضعف مداركها ويلحون باستشارة أهل الاختصاص من الأطباء، وتكون النتيجة دعوة طبيبي مستشفى العصفورية وربيز لمعرفتها السابقة بحالتها وطبيبين آخرين، فتقرر هذه الهيئة الطبية المستشارة أن حالتها الحاضرة تبعث على الرضى، ولكن بالنظر لضعف جسمها يخشى أن تتأثر أعصابها مرة أخرى، ولذلك يشيرون عليها بقضاء دور النقاهة في منزل مناسب ببيروت

وتنقل بالفعل إلى ذلك المنزل هي وممرضتها الموكول إليها أمر العناية بها والقيام على حاجاتها ولوازمها

وعقيدة الطبيب في مريض من مرضى العقول لها تأثيرها في نفسه، فهو يظن به الظنون ولا يريد أن يقتنع بصحة مداركه مهما كانت ظواهره حسنة ولعل هذا هو الذي حدا بالطبيبين المداويين لها قبلا على الإصرار على رأييهما فيها إن لم يكن هناك دافع آخر يدفعهما إلى ذلك التعنت

ويستمع الناس ولا سيما الطبقة المستنيرة إلى ما آل إليه أمر (مي) فيأتون زرافات ووحداناً إلى كعبة الفضل يحجون إليها ويكون في طليعة هؤلاء الحجاج الكرام صديقنا فارس بك الخوري رئيس المجلس النيابي السوري وقرينته الفضلى. واستمع إلى ما يقوله هذا الرئيس الجليل لمندوب أكبر صحيفة يومية لبنانية عن الآنسة (مي):

(يمكنني أن أقول بكل صراحة إنني تحدثت إلى أناس كثيرين في بيروت فلم أر فيهم من هو أعقل من الآنسة (مي). وأزيد على ذلك أنني سمعت من بعضهم أخطاء لم تفه (مي) بواحد منها فهي بحالة عقلية تامة، ولكن صحتها الجسدية ضعيفة جداً

ومما قالته لي والألم ينبعث من عينيها: (تصور مي زيادة على بعد عشرين دقيقة من بيروت قلب الشرق العربي وعاصمة لبنان الجميل الخالد ومهد الحضارة والنور وأم الجامعات والمؤسسات العلمية ودار الجمعيات الأدبية والخيرية ومركز جمعية النهضة

ص: 38

النسائية. أجل تصور (مي) سجينة على بعد عشرين دقيقة من البلد الذي ذكرت)

ثم تلفتت مي إلى السيدة قرينته فتقول لها:

(أهذا ما كنت أنتظره يا سيدتي؟ أهذه هي المكافأة التي أعدتها لي المرأة الشرقية بعد جهاد طويل؟ أهذا ما تلقاه الأديبة في الشرق؟)

ولم يقتصر عمل فارس بك على الإدلاء بآرائه إلى الصحف، بل إنه ذهب وبرفقته الأمير عادل أرسلان إلى ندوة المجلس النيابي اللبناني وتحدث عن زيارته لمي وعن الأثر المؤلم الذي تركته هذه الزيارة في نفسه

وشاع ما عوملت به مي من العمل السيئ وذاع في لبنان فراع الناس ما سمعوا وأذهلهم ما قرءوا، فاندفع أنصار الفضيلة إلى الأخذ بضبعها وشد أزرها ورد عاديات العادين عنها، وتقدم الجميع المحامي المشهور معالي الأستاذ حبيب أبي شهلا وزير الداخلية السابق في الحكومات اللبنانية المختلفة، وتطوع للدفاع عن حقها الهضيم وحريتها السليبة أمام القضاء الذي أقيم لإنصاف المظلوم من الظالم، والأخذ للضعيف من القوي، فسر الناس لهذه الغضبة المضرية والنعرة الإنسانية، وبدءوا يذكرونها بكل شفة ولسان، ويكبرون هذا العمل من شخصية كبيرة مشهورة في الأوساط القضائية والإدارية، وهم على مثل اليقين من حصول القصد ونجاح المسعى لما عرف عن معالي الأستاذ أبي شهلا من قوة الحجة ووفور العلم وصحة المنطق مما يضمن الفوز له في هذا المعترك

وبلغ أمر مي إلى أسماع الفلسطينيين الذين يجلون هذه النابغة ويبجلونها ككل عربي فقامت أقرب مدينة من فلسطين إلى لبنان وهي عكا تثأر للفضيلة وتنتصر للعلم والأدب وتقدمت بواسطة الهاتف برسالة إلى المحامي الأستاذ حبيب أبي شهلا على يدي كاتب هذه السطور هذا نصها: -

إن محدثكم الآن وحوله جماعة من أدباء وعلماء هذه المدينة التاريخية عكا يتوجهون بخالص الأماني وكبير الرجاء إلى الوزير الذي لم تبطره النعمة ولم تمنعه من الدفع عن المظلومين لتتولوا بما عرفتم به من الهمة المشكورة والغيرة المحمودة الدفاع عن مفخرة أدبيات العرب في القرن العشرين ونابغة النساء في الأقطار العربية الآنسة مي زيادة

إن إنقاذها من هذه الكارثة يسجل لكم يداً كبيرة مشكورة بيضاء في خدمة الأدب العربي

ص: 39

واللغة العربية فنرجو أن يحقق الله على يديكم هذه المبرة العظيمة لنهضة النساء في هذا الشرق العربي المتطلع إلى المستقبل الباسم بهمة أمثالكم وتقبلوا تحياتنا في هذه المدينة. . .

ومما أذكره عن (مي) أني كنت في بيت المقدس في أوائل سنة 1923 فجاءته الآنسة (مي) زائرة دارسة وراح الأدباء والفضلاء للترحيب بها والتعرف إليها، وقصدت أنا ورفيق لي إلى زيارتها في المنزل الذي نزلت فيه فلم نجدها إذ ذاك، وفيما نحن عائدون قال لي صاحبي وهو يحاورني: أتدري أن علم (مي) جنى عليها؟ فقلت له: أفصح عما في ضميرك فيظهر أن للكلام بقية. فقال: أنا أحد الذين كانوا يرون السعادة كل السعادة في الاقتران (بمي) لما وهبها الله من الخلق الجميل والصفات الطبية ولكني كنت أرى أن مستواها العلمي فوق مستواي فلم أجرأ على طلب يدها. قال: وكان لي أمثال كثيرون ولكنهم كانوا يرون رأيي فيها وكنا حين نلتقي بمي النابغة نشعر بعاطفة الإكبار والإجلال لآدابها الرفيعة

والذي قال لي هذا القول لم يكن من عامة الناس بل هو من خريجي الجامعة الأمريكية ومن أصحاب الثروات الطائلة والذين أثروا في الحياة الاجتماعية والمدنية، ولكنه كان يرى نفسه دونها في العلم والفضل ويعترف بذلك، فانظر ماذا كان مصير هذه العلوم والفضائل بين أعدائها الألداء، عاملهم الله بما يستحقون وأذاقهم عذاب الهون

عبد الله مخلص

ص: 40

‌التاريخ في سير أبطاله

ابراهام لنكولن

هدية الأحراج إلى عالم المدنية

للأستاذ محمود الخفيف

يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من

سيرة هذا العصامي العظيم

وماذا يصنع وقد خذل في الانتخاب وآل الحانوت إلى ما آل إليه جزاءً بما فعل صاحبه؟ الحق أنه ألقى نفسه في مأزق ولعله كان يندم بينه وبين نفسه أن ترك حياة الغابة. . . ماذا يصنع ابراهام ليكسب قوت يومه؟ ليس أمامه الآن غير التجارة، لذلك اتخذ له شريكاً واشترى ما بقى من الحانوت من ذلك الرجل الذي اشتراه من قبل وعاد يبيع الناس من بضاعته، وقد حمل العبء كله إذ كان صاحبه لا يكاد يفيق من سكره. على أنه كان عبئاً هيناً إذا كان البيع قليلا لقلة البضاعة ولقلة المشترين. وكان في البلد حانوت آخر سطا عليه أولئك الفتية المعتدون لما شجر من خلاف بين صاحبه وبين زعيمهم آرمسترنج، وعرض صاحب ذلك الحانوت بضاعته للبيع فاشتراها ابراهام، ولكن بطريق الدين؛ كتب على نفسه مائتين وخمسين دولاراً وعد بدفعها حين يتيسر له ذلك. . . ولكن صاحبه لا يكاد يفيق من سكره فهو كلُّ عليه أينما يوجهه لا يأت بخير؛ وليس لدى أيب مال ليدفع إليه نصيبه ويخلص منه.

وأراد الله أن ييسر له أمره بعض اليسر، فاختير حاملا للبريد في تلك الجهة؛ اختاره القائمون بالأمر لما علموا من أمانته ونشاطه؛ وفرح إبراهام بما ساقه الله إليه، فقد حاقت الخسارة بالتجارة وخرج منها بدين اثقل كاهله كان يسميه لفداحته بالنسبة إليه الدين الأهلي!. . . فرح إبراهام بعمله الجديد وأقبل عليه في همة إذ أتاح له ذلك العمل أن يتصل بالناس وأن يتعرف أحوالهم ويدرس طبائعهم من قرب، وهو كلف بذلك حريص عليه يريد به أن ينفذ إلى أعماق النفس كما هو شأنه في كل ما يعرض له. وحبب إليه ذلك العمل، فوق ما كان من اتصاله بالناس، ما مهده له من سبل القراءة، فهو يقرأ الصحف قبل أن

ص: 41

يعطيها أصحابها، وهو يلتهم الكتب في ساعات فراغه التهاماً. وكان أكثر ما يقرأ يومئذ كتب القانون، ولعله كان ينوي أن يتخذ المحاماة عملاً له، فلقد كان الناس يأتونه ليحكموه فيما يشجر بينهم من خلاف، وهو عندهم القوى الأمين؛ لا يتحيز إلى شخص أو فئة، ولا يتعثر في أمر، ولا يسمح لأحد أن يلبس أمامه الحق بالباطل، كل ذلك في رفق ودراية ولباقة. . . وكان إذا عرض له أمر رده إلى ما عرف من القانون ليتبين وجهه، أو أفاد من دراسته وبحثه علماً جديداً. وقد ألقت الأقدار إليه ذات يوم كتاباً في القانون يقع في أربعة أسفار عثر عليه كما يعثر على كنز. وبيان ذلك أنه اشترى بثمن بخس من رجل انتوى الرحيل بعض متاعه، وكان صندوقاً به أوراق، قلبه فعثر في قاعه على كنزه وهو كتاب (نظرات في تاريخ إنجلترا) لمؤلفه بلاكستون، وكان من أشهر ما كتب في القانون في تلك الأيام!

وهو يعيش اليوم على راتبه الضئيل من عمله في البريد ومما كان يرسله الناس من قوت إلى الأسرة التي كان يقيم بينها نظير ما كان يقدمه إليهم من نصح أو يسوى بينهم من خلاف. وإنك لتلمح شخص المحامي الناشئ في شخص عامل البريد هذا. . . على أنه تقدم فعلاً ليدافع عن بعض الناس أمام المحلفين في بعض الجلسات القضائية في تلك الجهة. وعرف بسداد الرأي وقوة العارضة ومتانة الحجة، وما وقف يدافع يوماً إلا عما يعتقد أنه الحق

ومست قلبه في تلك الأيام لذعة من الألم، فقد ألم به ما يلم بالشباب من علل الشباب، وانعقدت أمام بصره سحب قاتمة من الهم كان مبعثها ما دب في قلبه من أمل جديد نحو آن ابنة صاحب الخان، فلقد علم، وهو صاحب البريد، أن فتاها انصرف عنها ونسي ما كان بينها لما نزل بأبيها من فاقة، وخيل إلى أيب أنه اليوم يستطيع أن يصل إلى قلبها، لولا مزاحم جديد يُدِلُّ عليه بماله وهو لا يدانيه في كفاية ولا خلق. . . على أنه في خجله من النساء لا يعرف ما يأخذ مما يدع، فهو في حيرة من أمره، وهو كما علمت متقد العاطفة موفور القوة مشبوب الخيال، وذلك ما صور له طيوفاً من الشجن أخذت تتزايد حتى ليضيق بها قلبه ويكاد الأمر أن يصل به القنوط. روى عنه أنه قال لأحد خلانه: (ربما ظهر مني حينما أكون في رفقة أنني أستمتع بالحياة في نشوة، ولكني إذا أويت إلى عزلتي

ص: 42

أخذتني غالباً حال من الهم حتى لا أجرؤ أن أحمل معي مبراة)

وللشباب هواجس وأحلام يحار المرء في تفسيرها وتعرف مصدرها، فهي من خفايا النفس الإنسانية، وكثيراً ما ينقبض المرء وهو في حال من الرضا أو هو في مثل حال الرضا. . . هل كان مرد همه إلى طموح نفسه وتوثب همته؟ أم كان ذلك إلى نوازع قلبه وهواجس خاطره؟ هل كان أيب يجب آن حقاً كما يكون الحب، أم أن إحساسه بما ينقص قدره في أعين الفتيات كان هو مبعث هواجسه ومدعاة زلفاه؟

إن في انصرافه إلى عمله وهو يحمل الخطابات في قبعته من دسكرة إلى دسكرة ما يلهيه بعض الوقت، وإن له في الكتب لعزاء وسلوة: له في شكسبير وبرنز ما تأنس به روحه ويثلج خاطره، وله في تراجم العظماء - وقد كان مقبلاً عليها - من معاني السمو ومواقف البطولة ما يبهج نفسه ويثبت قلبه

وأضيف إلى عمله في البريد عمل آخر دله عليه أحد خلصائه وهو تخطيط الأرض ورسم المصورات للطرق الجديدة التي كانت الحكومة تنشئها وتوضح معالمها للناس ليهتدوا بها في مسيرهم في تلك الأصقاع. ولقد حذق إبراهام هذا العمل الجديد وصار بعد توزيع البريد - وهو قليل - يحمل منظاره ولوحته وقلمه ويتنقل بين الأحراج يرسم الطرق، وكان يأتي ذلك بما عرف عنه من الدقة في كل ما يعهد به إليه. . . ولكن الدائنين لم يدعوه فيما هو فيه، فأقبل أحدهم وباع جواد إبراهام وسرجه ولجامه في مزاد نظير ماله؛ وقد عزّ على إبراهام أن يشهد هذا البيع فابتعد حتى يتم؛ ولكن صاحباً له يدعى جرين تقدم فدفع المال المطلوب وخلص له الجواد ولقيه فقال له:(رد لي هذا المال حينما تصبح قادراً على ذلك، فإن لم تقدر فلا عليك منه يا صديقي) وأراد بعض الدائنين أن يبيعوا تلك الأدوات التي يقتات من العمل بها فجمع لهم بعض ذوي المروءة من أهل الجهة ما كانوا يطلبون من المال وأعفوا أدوات صاحبهم من ذلك البيع. ولقد مات جرين بعد حين وقام إبراهام يرثيه فاستعصت عليه الكلمات ولم يجد لديه غير الدموع

وجاء موعد الانتخابات وتقدم إبراهام من جديد يقدم نفسه للناس، وكتب له النجاح هذه المرة؛ وذهب ليتخذ مقعده في مجلس الينويس نائباً عن جهة سنجمون وكان المبدأ الذي نجح عليه هو مبدأ الهوجز إذا أردنا السياسة، وهو مبدأ الفضيلة والنبل والسمو إذا أردنا

ص: 43

الخلق. . .

ذهب عامل البريد ومخطط الأرض إلى حيث يجلس مع المنتخبين، وإن له في السياسة لشأناً بعد حين. هو الآن في الخامسة والعشرين وقد اختاره الناس لما خبروا من خلاله وما رأوا من سعة اطلاعه ورجاحة عقله؛ ولكنه فقير فكيف يذهب في ملابسه البالية إلى المجلس؟. . . اقترض ذلك الشاب المدخر لرياسة أمريكا في غد - بعض النقود فاشترى حلة جديدة وذهب إلى فانداليا عاصمة الينويس فاتخذ مكانه بين ممثلي الولاية. . . جلس يدرس ويفكر، لا تفوته عبارة ولا تفلت منه قضية، وكانت مشكلة العبيد تشغل بال الناس يومئذ في وضع من أوضاعها، كما كانت تشغل بالهم أمور أخرى تنحصر فيما كانوا يتوخون من وجوه الإصلاح في التجارة والصناعة وسبل الاتصال. اتضح من خلال إبراهام في المجلس ما عطف عليه القلوب، فقد رأى منه زملاؤه الإخلاص والحماس في غير تعصب، فهو يدافع عما يعتقد أنه الصواب أو الحق في قوة وفي إصرار يشبه العناد، حتى إذا تبين له أن الحق في جانب مجادله سلم له في سرعة تسليم الرضاء والغبطة. ورأى منه زملاؤه فوق ذلك قوة في التعبير عما يريد كان مبعثها حسن اختيار اللفظ أو كان مبعثها لقانة تواتيه بالكلمة المطلوبة لا تزيد ولا تنقص. ولقد أعجبوا منه بتلك الخلة التي ستكون في غد جانباً من أهم جوانب زعامته. . . وأنسوا منه خارج المجلس إلى خلة أخرى من خلاله اشتهر بها منذ كان في الغابة، تلك هي تلاوة الحكايات، فهو ما يفتأ يقص عليهم من قصصه ما يطربهم ويعجبهم

وكان إبراهام يزور نيوسالم كلما سمح له وقته بزيارة. وهو اليوم يحب آن كما يكون الحب. أكبرت صفاته وأعجبت برجولته وصارت لا تعدل به غيره؛ ثم أحبته وليس بعد الحب رابطة، وألفى إبراهام نفسه - وهو من عرفت قوة عاطفة وصحة وجدان - في ربيع العمر حقاً، لا يرى حوله إلا جمال الربيع ونشوة الربيع، ولا يحس إلا سر الربيع ووحي الربيع، يروح ويغدو مع صاحبته وكأنهما من فرط مرحهما طائران من طيور الخمائل. . . ولكن وا أسفاه! لن يطول هذا الربيع، بل إنه لينقلب إلى جحيم في سرعة خاطفة!. . . نزلت الحمى كما نزلت من قبل في كنتوكي فكان من ضحاياها طائره الجميل! وغدا إبراهام يرمض الحزن قلبه ويأكل الجوى أحشاءه. . . وتلك هي الصدمة الثانية بعد

ص: 44

فجيعته في أمه تحل به، فكأنها الضربة تأتيه في مقتل! لقد وهنت عزيمته وخارت قوته وذوى عوده، وصار الناس يرونه أحياناً هائماً على وجهه وهو يهذي كأن به جنة، حتى نصح له طبيب أن يرحل، فنزل ضيفاً عند أسرة صديقة كانت تقيم في مكان بعيد عن نيوسالم، ولكن همه ذهب معه إلى هناك حتى لقد شاطره الحزن ذات ليلة نفر من جلسائه حين سمعوه يصرخ من أعماق قلبه:(لا أطيق أن أذكر أنها ترقد هناك وحدها حيث ينزل المطر وتصخب العاصفة فوق قبرها) ولكم قطع من الأميال مرات بعد ذلك على قدميه فحج إلى ذلك القبر وبلله بدمعه!

ولكن اليأس يسلمه ثانية إلى الحياة حيث لا حيلة في البلوى ولا معدى عن الحياة. . . ويحين موعد الانتخابات مرة ثالثة فيتقدم فيفوز وقد ازداد الناس محبة له كما ازدادوا له إكباراً بقدر ما اكتسب من خبرة فوق ما سلف من خبرته، وأظهرته الانتخابات هذه المرة للعامة خطيباً كأحسن ما يكون الخطيب، قام يحمل عليه أحد خصومه من الحزب الديمقراطي، وكان قد حصل بتغييره مبدأه على مرتب سنوي غير قليل؛ وقد علم الناس أنه كان يقيم في منزل أنيق في سبرنجفيلد في قمته تلك الحديدة التي يضعونها هناك لتمنع الصواعق. ولقد أسرف ذلك الخصم في الطعن على إبراهام وأعلن أنه يريد أن يحط من قدره في نفوس الناس. فوقف ابن الإحراج ورد عليه بقوله:(رأى هذا السيد أن يشير إلى حداثة سني، ولقد نسى أني أكبر في العمر مني في ألاعيب الساسة وتجارتهم. إني أود أن أعيش كما أود أن أرقي وأن تلحظ مكانتي، ولكني أفضل الموت على أن أحيا فأرى اليوم الذي أفعل فيه ما فعل ذلكم السيد، فأغير مبدئي من أجل ثلاثة آلاف دولار في العام، وأراني بعد ذلك مضطراً أن أقيم على رأس بيتي مانعة للصواعق لأحمي ضميراً آثماً من غضب رب أسأت إليه)

وإنك لتتبين مهارته السياسية فوق ما تلمح من صفاته في هذا الخطاب الذي أرسله إلى أحد رجال الحزب الديمقراطي.

كتب لنكولن (أنبئت أنك أذعت في الناس أثناء غيابي في الأسبوع الماضي أن لديك حقيقة أو حقائق لو اطلع عليها الناس لقضت نهائياً على أملي وأمل ن. ادوارد في حركة الانتخاب القائمة، ولكنك تأبى عليك مجاملتك إيانا أن تعلنها. وأنا أقول لك إنه ما من

ص: 45

شخص يطلب الجميل أكثر مما أطلب؛ كذلك قلَّ في الناس من يقبل الجميل كما أقبل؛ ولكن الجميل إلي في هذه الحال معناه الجور في حق الناس؛ ولذلك فإني أستميحك أن تنصرف عنه. إن حيازتي ثقة أهل سنجمون ذات مرة أمر واضح؛ فإذا كنت قد أتيت أمراً من شأنه إذا عرف أن يحرمني تلك الثقة، سواء كان إتيان ذلك الأمر عن إصرار أو عن خطأ فإن الذي يعرف هذا الأمر ثم يخفيه إنما يخون صالح بلاده. وأنا لا يقوم في ذهني شيء عما عساه أن تكون الحقيقة أو الحقائق التي تتحدث عنها واقعية كانت أو مزعومة؛ بيد أن ما أعهده فيك من الصدق لا يسمح لي برهة أن أشك في أنك على الأقل تعتقد ما تقول. إني أراني مديناً لك بهذا الاعتبار الشخصي الذي أظهرته نحوي، ولكني آمل أن ترى إذا تأملت من جديد أن صالح الناس أهم من ذلك. وعلى هذا فلا نتحرج أن تعلن الحق. وأؤكد لك أن ذكرك ما لديك من الحقائق في صدق وأمانة لن يفصم ما بيني وبينك من عرى الصداقة. هذا وإني أرجو أن يأتيني رد منك على هذا ولك الحرية أن تنتشر الكتابين إذا أردت).

اقرأ هذا الخطاب تر كيف ملك إبراهام قلوب الناس بأمانته وإخلاصه ودماثته. ثم انظر إلى قوة حجته وروعة منطقه ودهائه؛ وتأمل في أدبه وتحشمه وهو يرد الإهانة عن نفسه. تلك لعمري خلال أحرار الشمائل وعظماء الرجال. . .

فاز لنكولن في الانتخاب وحق له أن يفوز. ولقد خطب الناس مرة فكان مما قاله: (سأسعى أن يفوز جميع البيض من يدفع منهم ضرائب ومن يحمل السلاح بحق الانتخاب (لا أستثني من ذلك النساء بأي حال) فإذا انتخبت فسأعتبر أهل سنجمون جميعاً. هم مرسلَّي سواء من اختارني منهم ومن لم يفعل، وحينما أعمل في المجلس كنائب عنهم سوف أصدر في عملي عن إرادتهم في كافة الأمور التي أستطيع أن أعرف إرادتهم فيها؛ وفي غير ذلك سأسير وفق ما يمليه علي تقديري مراعياً مصالحهم أبداً)

ذلك هو دستور لنكولن وتلك هي أخلاقه في مجال السياسة ذلك المجال الذي سينضج فيه شخصه وتكتمل رجولته وتبرز مواهبه وتسفر مظاهر عبقريته. كان له في المجلس أصدقاء منهم ثمانية كانوا مثله في طول القامة، ولقد كانوا يجلسون رفقة يتحدثون، فعرفوا باسم التسعة الطوال، ولكن إبراهام كان أطولهم باعاً في المعرفة وأعلاهم مقاما في الخلق، فلقد ظهرت صفات ابن الغابة لهم في وضوح، فهم معجبون بدماثته وأمانته وبعد نظره،

ص: 46

وهم مفتونون ببلاغته وأسلوبه في الحوار والمجادلة، وهم يغبطونه على سعة صدره وشجاعته وصراحته، يحمدون له رقة عاطفته وشفقته وسلامة طويته، وهم فوق ذلك يلذهم حديثه وتطربهم أقاصيصه ويأسر قلوبهم تواضعه وأدبه وسذاجته

وإنه اليوم ليقرأ منظمة فقد مر العهد الذي كان يتناول فيه أي كتاب يصادفه. هو اليوم يقلب صفحات التاريخ فليس ألزم منها لرجل السياسة؛ وهو يستزيد من القانون نصوصه وفقهه؛ وهو يدرس أحوال أمريكا من شتى نواحيها؛ يطيل النظر في تاريخ ساستها ويتأمل في مناهجهم في الإصلاح وأساليبهم في توطيد سياستهم؛ يستوعب ذلك كله ليسير على ضوئه فيما هو مقبل عليه. ومما استرعى اهتمامه يومئذ مسألة العبيد وتاريخها وتطورها ومكانها من السياسة العامة

يتخذ اليوم إبراهام لنكولن مكانه للمرة الثانية في مجلس مقاطعة النيوس وهو في السابعة والعشرين، ولا يدري هو ولا من يحيطون به من ممثلي الجهات في ذلك المجلس ماذا يخبئه الغد لذلك الرجل الطويل القامة، عامل البريد، مخطط الأرض، ابن الأحراج، ربيب العسر والفاقة ومحن الأيام!

(يتبع)

الخفيف

ص: 47

‌من والد إلى ولده

للأستاذ محمود خيرت بك

المهندس الشاب أبو بكر خيرت، ولد صديقنا الشاعر محمود بك خيرت، هدية من هدايا النبوغ لمصر. تخرج في هندسة العمارة من مدرسة الفنون الجميلة العليا بباريس بدرجة التفوق والامتياز، ثم بهر بأعماله الفنية رابطة المهندسين في فرنسا وإنجلترا فمنحوه الجوائز والأنواط تقديراً لنبوغه؛ وتقدم إلى المسابقة التي اقترحها بنك مصر لفندقه وعمارته في ميدان إبراهيم بالقاهرة فأحرز قصب السبق على ثلاثة وعشرين مهندساً عالميين من أجانب ومصريين وفاز بالجائزة الأولى الممتازة، وكرمه المهندسون المصريون وعلى رأسهم معالي حسين سري باشا، فهز كل أولئك من شعور أبيه فعبر عن سروره بولده، واعترافه للبنك، وشكره لله، بهذه القصيدة:

أين حُسن الربيع في إقبالِهْ

نتَنشَّى مِن الصَّفا في ظلالِهْ

وابتهاجُ السماء والبدر سارٍ

يتهادى في هالةٍ من جلاله

واهتزازُ الغصون تشدو القماري

فوقها شَدْو زاخِرِ الشوق وَالِه

وابتسامُ العروس في ثوبها الشّ

فِّ تبدَّت أعطافُها من خلاله

أين هذا من مُنتدًى غمَرته

نشوة البشر يوم عيد احتفالِه

كرّموا فيه صفوةً من شبابٍ

هام بالفن وارتوى من زلاله

وفتىً منهمُ عرفناه لمّا

أحرز السبق رابضاً في مجاله

والدّجى مظلم الجوانبِ إلاّ

إن بدا في السماء وجهُ هلاله

كان للفن من حضارة ميناَ

والأُلَى قد سروْا على مِنواله

روعةٌ تسحر النفوس ومعنىً

يفتن المعجَبين سحرُ جماله

إنما كرّت الليالي عليَهْ

فطوتْه موسّداً في رمالِه

لا نرى حسنه البديعُ ولا نَلْ

مَس من مجده سوى أطْلاله

كالأسير الهزيل تنكره العَيْ

ن وتبكي عليه في أغلاله

آن أن يرسل الزمان إليه

مِن بَنيه من حَلَّه مِن عقاله

بَعثَ الفنُّ من ثراهُ أبو بك

رٍ وأوفى على نواحِي كمالِه

ص: 48

كان بَراًّ ومن أحن على الف

نِّ طواه الزمان من أشباله

أين شوقي وأين حافظُ كانا

ينظمان الجُمان في رئباله

يا فتى مصرَ مَن بِمدِحك أولى

مِن أبٍ أنت ذخره في اكتهاله

كم جَرى دمعهُ على عارضَيه

هاطلا كالسحاب في تَهطاله

يوم آثرتَ الاغتراب لكيما

تأخذ العلم ناضجا عَن رجاله

كان من نفسك الشّجّية أشهى

من حبيب شجاك يومُ وصالِه

تتقرّاهُ عند كل صبَاحٍ

وترى إن غفوْت طيف خياله

شارداً لا يقرّ جنبك إلاّ

إن رشفت العتيق من جِرْياله

فتنقَّلت كالهلال وهل يص

بح بدراً إلا بفضل انتقاله

لم يكن مسرفا أبوك لدى الظّ

نّ ولا كان سابحاً في ضلالِه

يوم ألْفاك وحدةً لجلال الف

ن تُحي الرُثيث من آماله

فلقد شاءت المقادير أن عُد

تَ إليه وأنت مِن أبطاله

والذي يعشق العلى يسهر اللّيْ

ل طويلا وجدّه رأس ماله

ذاك فضل أفاضه بنك مصر

هو بعض الطَّريف من افضاله

كل يوم نرى له حَسَناتٍ

فخرهُ أنّها صَدى أعماله

وينمّ العبيرُ عَن عاطر المسْ

كِ وكسْبُ السّباق عَن خياله

أنت يا بنكُ للكنانة عصر

ذهبيٌ يجرّ ذيل اختياله

كنتَ للنّيل مطلع اسْتهلاله

ورأيناك غاية استقلالِه

قُمت بالعبء أنت وحدك لا يل

ويك عنه الثقيل من أحماله

ومهَرت البلاد صرحاً سيبقى

للمدى شامخاً على أمثاله

شاهداً أن مصر فيها شبابٌ

لا يُدانيه غيره في نضاله

قد كسبتَ الرضى من الله والنا

س وكنتَ المشكورَ في أفعاله

محمود خيرت

ص: 49

‌وحي الشاعرية

للأستاذ حسن القاياتي

1 -

الدينار في الطبق

هي فتنةً بنضارة الأُفُقِ

فتأَلَّقي يا أنجم الغَسَق

تهدي إليَّ البدرَ هَالتُهُ

كتحية الدينار في الطبق

2 -

اليوسفي

ويوسفّيٍ أصفر أنيقِ

تحية الصديق للصديق

وتحفة العشيق للعشيق

جرّدته من قشره الرقيق

فجاء مثل الرَّكَبِ الحليق

3 -

الورد يعصر

تَنَظَّرَ صُبح النجم والصبح يسفر=لدى كبرياء الخطب والعزم أكبرُ

فتى النُّبْل يزكو بين لينٍ وشدَّةٍ

فكالورد يُستهدى وكالورد يعصرُ

ص: 50

‌القَصَصُ

أقصوصة من بول هيس

جنون. . .

للأستاذ دريني خشبة

كان الصبح يتنفس عليلاً في الأفق الشرقي، وكان الفيزوف ينفث دخانه سحاباً طويلاً داكناً فوق نابولي والقرى المجاورة، وكان البحر النائم ملقياً رأسه الجبار على أَوَاذيّ سورّنتو، حيث انتشر الصيادون فوق الشاطئ وفي الماء وفوق الزوارق يعملون ويدأبون، لا فرق بين شيبهم وشبابهم، وكانت النساء يرفرفن فوق الأسطح القريبة كالأعلام المُنَشرة يؤدين أعمال الصباح. . . وكان الكل مبتهجاً سعيداً ولا سيما الفتى البحار أنطونيو الذي وقف في زورقه يملأ ناظريه من جمال الطبيعة المتبرجة فوق الشاطئ الإيطالي الفتان

لقد كان أنطونيو سعيداً هذا الصباح، لأن كثيرين من أهل سورّنتو يذهبون في مثل ذلك اليوم من كل أسبوع إلى قرية كابري ليبيعوا في سوقها ويشتروا. . . ولم يكن سعيداً لكثرة زبائنه فقط، بل كان سعيداً لشيء آخر. . . شيء عزيز. . . شيء هو حلم القلوب، وغذاء النفوس، ومسبح الخيال، ومستراد الحلم. .

وأقبل قسُّ من سورّنتو، فجعل يدلف حتى وقف على السّيف أمام أنطونيو. . . ثم قفز فكان في الزورق، والفتى مع ذاك في شغل عنه. . . وعن الدنيا جميعاً

- أنطونيو يا بني!! ماذا يمنعك أن تبحر قبل أن تشتد الشمس؟

- لا شيء أيها الأب. . . سنبحر حالاً!

ولكن أنطونيو كان لا يني يبحث في الشاطئ بعينيه، يرسلهما وراء أيكة. . . وكان القس القلق يرى في نظراته الحائرة طيف حبيب تائه. . . في عالم مجهول. . .!! فيعذره!!

ثم بدت فتاة جعلت تخطر بين دَوْح السنديان وتُلوح بمنديلها فوق الشاطئ، فهفا قلب أنطونيو، وطفح وجهه بالبشر المفاجئ وارتجفت يده، وشاع فيه مرح عجيب، فسأله القس!

- وبعد يا أنطونيو؟! ألا تبحر بنا يا بني؟

- سنبحر. . . سنبحر أيها الأب. . .

ص: 51

وكانت الفتاة تتواثب فوق النؤى خفيفة رشيقة، فلما اقتربت هبّ الملاحون الخبثاء يغمزون ويلمزون، وإن فرض عليهم وجود القس احتشاماً كان يغيظهم ويحنقهم. . . ثم ركبت في فلك أنطونيو، ووقفت قريباً من القس الذي حياها قائلاً:

- لوريّللا!! عِمي صباحاً يا صغيرتي! أتصحبيننا إلى كابري؟

- أجل يا أبانا

- أحسب أن ليس معك نقود من أنطونيو؟! أَوْه! إن أنطونيو شاب طيب. . . وهو بلا ريب لا ينظر من أمثالك أجراً. . . بل بالعكس، لقد فرش لك قميصه، ولم يفعل ذلك من أجلي. . . ولكن أين عشرة قسيسين مثلي، في فتاة ريانة مثلك، في نظر هؤلاء الشباب!! وماذا تحملين إلى كابري يا لوريللا؟) وقبل أن تجيبه الفتاة مدت يدها إلى قميص أنطونيو فنحّته، ثم جلست وقالت تجيب الأب:

- ثوب، وحرير، ورغيف أيها الأب. . . الثوب لامرأة تصنع الأشرطة في أنا كابري! والحرير لامرأة أخرى. . . والرغيف لي. . . أتبلغ به. . .

- والحرير من غزلك أنت؟

- أجل أيها السيد

- أذكر أنك كنت تصنعين الأشرطة بيديك؟ أليس كذلك؟

- بلى أيها الأب، ولكن أمي قد تقدمت بها السن، ثم هي مريضة، بل شبه مقعدة، ونحن فقراء. . . فمن لنا بنول نشتريه وليس معنا من ثمنه شيء؟

- أمك؟! وا أسفاه! لقد أذكر أنني رأيتها في عيد الفصح الماضي!

- أجل. . . ولكنها مريضة اليوم. . . وهي تقاسي من زوابع الربيع ما لا تقاسيه في فصل غيره. . . أضف إلى ذلك زلازل الفيزوف ورجفاته. . .

- صلي من أجلها يا فتاتي، واضرعي إلى العذراء أن تكلأها. . . ولكن. . . خبريني يا لوريللا. . . لقد سمعت الملاحين الخبثاء يلمزونك وأنت مقبلة، فيقولون لك (هلمي أيتها العربية. . .) وهو نداء لا يليق بمسيحيه تقية مثلك، فما سبب هذا؟

- إنهم طالما يدعونني كذلك، مستهزئين بي، لأنني لا أشركهم في رقصهم وغنائهم وسائر عربداتهم. . . وهذا بالرغم من مسالمتي لهم دائماً. . .

ص: 52

وأغضت الفتاة، وجعلت تبحث في خضرة المياه بعينيها المحزونتين، كأنما راعها ما عرف القس من أمرها وأمر هؤلاء الملاحين. . .

وساد الصمت، وكان أنطونيو قد دفع الفلك في البحر فاحتواها الماء، وصارت سورّنتو تبتعد وتبتعد، وتسطع منازلها البيضاء في خضرة حدائق البرتقال، وفوهة الفيزوف تقذف بمثل ما في صدور لوريللا من حميم. . . ثم سألها القس:

- ألم تعودي تعلمين من أمر المصور شيئاً يا لوريللا؟ لقد سمعت أنه ذهب إليك مرة ليعمل لك صورة، وأنك رفضت فِلمَه؟

- ولم يريد أن يصورني أنا من دون بنات سورنتو؟ إن منهن من هي أروع مني جمالاً وأكثر فتنة! فلم يصورني أنا؟ لقد ذكرت أمي أنه ربما تصباني بها، أو أتلف بها روحي، ومن يدري فربما أضمر بها قتلي؟ من يدري؟!

- يا صغيرتي لا تصدقي هذه الخزعبلات! ألا تؤمنين بالله؟ ألا تثقين أنك دائماً في حفظه؟ وأن شعرة واحدة منك لن يصيبها أذى إلا بإذنه؟ فماذا يصنع واحد من بني الموتى بصورة في يده إن أراد بك سوءاً؟. . . على أنني أعرف أنه كان مغرماً بك، مشغوفاً بجمالك. . . وأنه لذلك أراد الزواج منك، لكنك أبيت! ولست أدري لماذا. . . إن الناس كلهم يمدحونه ويطرون أخلاقه. . . ولقد كان في وسعه أن ينتشلكم مما تقاسون من ضيق وشظف، ويريحكم من عناء ما تنسجون من أجل الحياة. . .

- تاالله يا أبانا لقد كان فقرنا سبب إحجامنا. . . إذ كيف يطيق ما نحن فيه من عوز، وما تقاسي أمي من مرض؟ لقد كنا نصبر كلاًّ عليه. . . هذا. . . وأنا؟! كيف أعيش في كنفه ذليلة بفقري وبيئتي؟ هل أنا سينوره؟! ماذا يقول لرفاقه حين يغشون داره؟ إنه يهرب مني حينذاك. . . أو. . . يذوب حياء

- كيف تقولين هذا يا لوريللا؟! إن الرجل الذي يحب لا يبالي ما تقولين. . . على أنه كان يستطيع أن يهاجر إلى بلد بعيد فيعيش في جنة بفنه، ويسعد بك إلى الأبد. . . أوه!. . . لقد كان رسولا من السماء بعثته لإنقاذكم فطردتموه!

- لا علينا من ذلك أيها الأب! إنني من جهتي. . . لا أرغب في الزواج مطلقاً. . .

- تعنين أنك نذرت أن تكوني راهبة؟

ص: 53

-. . .؟. . .

- عنيدة ما أحسبك تزيدين أمك إلا مرضاً يا لوريللا؟ بأي حق ترفضين هذه اليد الكريمة التي بسطتها لك السماء لتخلصك ولتنقذ حياة والدتك؟

- آه! إن لدي سبباً. . . بيد أنني لا أبتغي أن أبوح به لأحد!

- حتى ولا لي؟! ولا لي أنا. . . موضع اعتراف العذارى جميعاً؟! أنا يا لوريللا الذي طالما كنت صديقك ومفزّع الأحزان عن فؤادك؟

-. . .؟. . .

- لا، لا يا صغيرتي! إنك لا تعرفين من هذه الحياة إلا قليلاً، فأزيحي عن فؤادك ما ينوء به. . . ثم إني أعدك أن أكون أول مؤيد لك إن كنت على حق. . .

وقبل أن تجيبه لوريللا، أرسلت عينيها ناحية الملاح الشاب الذي كان موزع الفكر بين الحبيبة وبين الشراع وبين البحر. . . والذي كان يحجب عينيه بطرف من وفاء رأسه وهو مع ذاك مصغ لحديث القس

ثم تكلمت لوريللا فذكرت للحبر الجليل ما يفزعها من الزواج، لأنها تحتفظ بذكريات مشجية مما كان يحدث بين أبويها من نضال وشقاق. . . (حتى لقد كان لا يتورع أبي من مد يده إلى أمي بالضرب المبرح الذي كان سبب ما تقاسيه اليوم من الأمراض. . . أبداً لا أنسى هذه الوحشية أيها الأب، تلك الوحشية التي أسميها وحشية الزواج، والتي من أجلها أوثر أن أظل عانساً إلى الأبد. . . ثم أنا لا أعرف قيمة هذه العلاقة التي تنشئونها بين رجل وامرأة، فيظل الرجل قويَّا وتظل المرأة ضعيفة، يقبلها إذا أراد، ويتجهم لها إن شاء، ويلعب بها كما تلعب الرياح بالريشة التي لا حول لها. . . أوه! أقسم لك أيها الأب، لو أنني كنت في مقام والدتي لعرفت كيف أذود وحشية زوجي وأدفع أذاه!! تالله لأسقينه ضعف ما كان يحاول أن يسقيني! مسكينة يا أمي! لقد كنت ضعيفة فلم تحاولي أن تدافعي عن نفسك، وسميت ضرب أبي إياك محبة، والسكوت عن هذا الضرب طاعة. . .)

ويحاول القس أن يخفف من نقمتها على حياة الزوجية، ولكن محاولاته تذهب مع الريح؛ ويذكر لها أن الأزواج ليسوا سواسية، وأنهم ليسوا جميعاً قساة القلوب غلاظ الأكباد كما تظن، وأن الشاب المصور الذي أحبها كان له قلب رءوف رحيم بحكم فنه وميوله الروحية

ص: 54

العالية. . . ولكن لوريللا تدفع عظاته في ثورة جامحة ونقمة على الرجال لا تعرف التسليم

ويسمع أنطونيو هذا كله. . . فيقف من الفتاة على مثل فوهة فيزوف!

ومتع النهار، وألقت الفلك مراسيها عند كابري، ونزل أنطونيو في الماء ليحمل القس إلى الشاطئ، ثم عاد ليحمل لوريللا. . .

- لا. . . لن يحملني رجل ما حييت!

ثم حسرت عن ساقيها. . . الساقين الجميلتين المرمريتين. . . ونزلت إلى الماء السعيد! حاملة حزمتها. . . وتبعها أنطونيو. . . وفوق كتفه سلة من البرتقال سيبيعها في سوق كابري

ورجاها القس أن تذكره عند أمها، وأن تذكر لها أنه ربما زارها غداة غد. . . ثم أخذ طريقه إلى كابري. . . وأخذت طريقها إلى أنا كابري. . .

وكانت في نفسها أشياء. . . وكانت في نفس أنطونيو أشياء. . . فلما بعد القس التفتت فجأة لترى إلى أنطونيو في الفلك. . فما كان أشد حياءها حين رأته خلفها، وعيناه مسمرتان في عينيها!

وباع أنطونيو برتقاله. . . وعاد في ساعة إلى الفلك. . . وجلس فيه على أحر من الجمر ينتظر عودة لوريللا!

وما هي إلا ساعة أو نحوها حتى أقبلت الفتاة تتهادى كالقطاة وقد نهد ثدياها واهتزا، ولعبت فوقهما شياطين البحر الأبيض. . فلما رآها أنطونيو وثب في الفلك، ونشر الشراع، ورفع المرساة واستعد للإقلاع بصاحبته من فوره

وجلست لوريللا في طرف المركب، وولت ظهرها للملاح الشاب، بحيث لم يكن يستطيع أن يرى إلا صورة جانبية (بروفيل) من وجهها الجميل، مطبوعة في السماء الصافية مرة، وفي الماء الساكن مرة أخرى

لقد كان نصف فمها الجميل الخمري الأحمر، وخدها الأسيل الوردي، ووجنتها الناصعة ذات الزغب، وعنقها الطويل الشفشاف، لقد كان ذلك يثير في قلب أنطونيو صنوفاً من العذاب الخائف، والألم المذعور. . . لا عهد له بمثلها أبداً. . .

ولم يقلع أنطونيو. . . وأخرجت الفتاة رغيفها وأخذت تتغدى. . .

ص: 55

وأخرج الملاح برتقالات فقدمها لها وقال: (لا تحسبي أنني ادخرتها لك. . . بل. . . لقد سقطت من غير قصد من السلة قبل أن ننزل إلى البر، فان شئت فكليها. . .

- بل كلها أنت. . . فالخبز القفار يكفيني!

- إنهن خير ما يؤكل في هذا الحر القائظ، لا سيما وقد مشيت كثيراً!

- لقد شربت في الطريق، وهذا حسبي!

- إذن. . . خذيها لوالدتك!

- عندنا برتقال كثير، وسنشتري غيره إن نفد!

- وماذا لو أخذت هذه البرتقالات، وقدمتها إليها مع تسليماتي؟!

- وكيف، وهي لا تعرفك؟

- خبريها عني!

- أخبرها عنك وأنا لا أعرفك؟

لقد كذبت لوريللا في هذه الدعوى. . . فلقد كانت تعرف أنطونيو، وكان أول هذه المعرفة في يوم كان يبثها حبيبها المصور هواه عند شاطئ البحر

ياله من يوم هائل ذلك اليوم! لقد لمح نفر من الملاحين الحبيبين الصغيرين يتناجيان فتغامزوا بهما، ثم أنشئوا يحذفونهما بحصوات. . . لكن أنطونيو الشجاع، لم يرضه ذلك المسلك المعيب الشائن من رفاقه، فانبرى لهم، ودفع عن الحبيبين أذاهم. . . فكيف مع ذاك لا تعرفه لوريللا!؟

ثم جلسا صامتين. . .

وبدا للملاح العاشق أن يبحر من فوره قبل أن يصل أحد فيتلف عليه تدبيره الذي خطر له في مثل البرق

وتعمد أنطونيو أن يدخل بالفلك في صميم البحر. . . ليكون بعيداً من الشاطئ ما استطاع. . . فلما حصل ثمة. . . أنزل الشراع فجأة، وترك الفلك تتقاذفها الأمواج. . . ثم توجه نحوها وهتف بها يقول:

- أنت لا تعرفيني؟ إذن يجب أن أضع حدَّا لعبثك بي! وينبغي أن أطلقك على ما أترع به قلبي بسببك. . . إنني لا أطيق أن أصبر على طول صدك يا لوريللا. . .!

ص: 56

- ماذا تعني؟ أي صد وأي عبث؟ أتعني أنك تحبني؟ إذن فاعلم أنني لن أحبك، ولن اقبل أن أتخذك بعلاً؛ لا أنت ولا أحد غيرك، أسمعت؟

- كلام ترسلينه في الهواء! غرور وخيلاء! أليس لك قلب؟ لم جئت إلى هذه الدنيا إذن؟ إنك أنثى، أليس كذلك؟ فلم خلقت أنثى؟ إنك لا بد متزوجة يوماً ما. . . ولو برغمك!

- من يدري؟ هل اطلعت الغيب؟ ثم ما أنت وهذا؟

- ما أنا وهذا؟ ألم تدركي بعد؟ إني أخشى أن تكوني من نصيب غيري! إن هذا يخرج بي عن صوابي! إنه يصيبني بالجنون

- وإذا أصبت بالجنون، فما أنا وذاك؟ هل وعدتك بشيء فأنت تجن إذا أخلفتك موعدي؟ أي حق لك عليّ؟!

- أي حق؟ حق عظيم يا لوريللا. . . حق ليس صكا على ورق، بل هو هنا. . . في صفحة قلبي. . . حق يجعلك لي من دون العالمين. . . لن أطيق أن أراك ذاهبة إلى قداس مع سواي؟! الموت دون ذاك. . .!

- أنت حر تقول ما تريد. . . ولن تخيفني تهديداتك. . . ثم أنا حرة كذلك. . .

- وينبغي ألا تتمادى في هذا الغي. . . إني لن أسمح لفتاة شموس عنيدة مثلك أن تعذبني هذا العذاب الطويل. . . هذا غير محتمل. . . أنت هنا في قبضتي. . . ويجب أن تنفذي مشيئتي!!

- إذا استطعت أن تفعل شيئاً فدونك!. . . أتريد أن تقتلني. . . إن. . . خالفتك؟

- أنا لا أحب أن أصنع شيئاً فآتي على نصفه، واترك النصف الآخر. . . إن هذا البحر الزاخر اللجي يسعنا جميعاً، ولن يضيق بي وبك. . . يجب أن نقر في أعماقه معاً. . . أنا. . . وأنت

ثم انقبض عليها وأمسك بذراعها، وحاول أن يحملها ليهبط معها إلى البحر. . . بيد أنه صرخ فجأة. . . لأن لوريللا كانت في هذه اللحظة كاللبؤة المغضبة. . . فقد فتحت فمها الجميل الفاتن ثم أهوت على يمين أنطونيو، فقضمت أنامله، وانبجس الدم الحار الثائر متفجراً كأنه يتدفق من ينبوع. . .

- ها. . . أرأيت؟ ها قد امتثلت لأوامرك كما ادعيت. . . والآن. . . ربما ما تزال تحسب

ص: 57

أنني في قبضتك. . . أنظر!!

ثم قفزت في البحر الهائج الجياش. . . وغاصت في الماء. . .

وصرخ أنطونيو. . . وأرسل عينيه المفزوعتين تبحثان في اللج، وتضربان في ثنايا الموج. . . لكنه لم ير شيئاً. . . ولما التفت إلى الخلف، وجد الفتاة تسبح نحو الشاطئ، وهي تكافح العباب المتلاطم، وتركب بجسمها الأهيف الجميل فوق أعراف الموج المضطرب

- لوريللا. . . لوريللا. . . قفي. . . عودي إلى الفلك. . . إن المسافة طويلة. . . نحن من الشاطئ على ثلاثة فراسخ يا أختاه. . .

لكن الفتاة أصمت أذنيها. . . وانطلقت تسبح. . .

وفي سرعة البرق، نشر أنطونيو شراعه، ولوى عنان الزورق الكبير، وذهب في إثرها. . . وجعل يرجوها ويتوسل إليها. . . لكنها مضت في سبيلها في البحر سَرَبا. . .

- لوريللا. . . وماذا تصنعين إذا بلغت الشاطئ؟ إننا على مسيرة ساعات من سرونتو. . . عشرون ميلا يا أختاه!!

ولم تعره لوريللا التفاتاً. . . بل ذهبت تذرع البحر في غير مبالاة. . . فلما كانت على سَبحة أو سبحتين من الشاطئ، لوت رأسها نحو الفلك، وقالت لأنطونيو مستهزئة:(أما وقد وصلت فسأركب. . . وحسبي أن أريتك أنني لست في قبضتك!!) وتعلقت في حبال السفينة، ووثبت كالغزالة، وراحت تعصر الماء من ملابسها، فانهمر من تضاعيفها غزيراً ثجاجاً

ونظرت إلى يديه، فوجدت الدم ما يزال يتدفق من يده، فنزعت منديل رأسها، وألقته إليه قائلة:(خذ. . . أربط بهذا جرحك) لكن أنطونيو لم يفعل، بل ظل يرنو إليها بعينين جائعتين ظامئتين معجبتين. . . فتقدمت هي، وربطت يده، ثم جلست بجانبه، وتناولت أحد المجذافين، وراحت تعمل به في الماء، لأن الريح كان قد تغير هبوباً. . . وحدجته لوريللا وقالت له: (وسترى أيضاً أنني أعرف منك بصناعتك. . . هلم فاعمل كما أعمل إن استطعت. . .

وكانت أم الملاح الشاب تنتظره عند المرفأ، فلما رأت ما به سألته ماذا أصابه. . لكنه

ص: 58

تضاحك، وقال إن مسماراً خدشه. .

ونزلت لوريللا. . . وهتفت بالملاح أنها ستعوده، وستأتيه بحشائش وأعشاب لها نفع عظيم في مثل جرحه

ولم ينم أنطونيو برغم ضعفه الشديد وإعيائه المضني، ولم يخف ألمه برغم الماء الساخن الذي أعدته له أمه، والذي نضحه على الجرح مراراً. . بل ظل الدم يتدفق. . وظل الفتى يتقلب. . وظل مع ذاك يفكر في لوريللا

وكان ينظر إلى منديلها كأنه قُنية غالية، أو نفحة من السماء أو تذكار عزيز لهذه المعركة التي انهزم فيها في عرض البحر. . . وفي. . . معمعان الحب!

وفي الوقت الذي قطع أنطونيو فيه كل أمل من لقاء لوريللا. . . وفي هدأة الغسق الساكن. . . دخلت لوريللا الجميلة الهيفاء. . . لوريللا. . . الحلم الجميل الساحر. . . تحمل الأعشاب التي وعدت أن تأتي بها لمعالجة الجرح، فقال لها أنطونيو:

- آه. . . منديلك، لقد أتيت تفتقدين منديلك

لكنها لم تجب. . . بل بحثت عن وعاء، وتناولت يد أنطونيو ففكت الرباط عن الجرح، وكان قد تورم قليلا، فغسلته بماء عصرت فيه من أعشابها، ثم وضعت من الأعشاب عليه ما لا يؤذيه، وربطت اليد المحمومة الساخنة برباط نظيف تبلى أحضرته معها. . . فما هي إلا لحظة حتى زال ألم أنطونيو. . . فافتر باسماً وهو يقول:

- أشكرك يا لوريللا. . . وإذا كان لي أن أطلب شيئاً، فهو أن تغفري لي!

- بل أنا الذي أطلب الصفح يا أنطونيو. . . ففي الحق. . . لقد غاليت معك في هذه الوسائل العنيفة. . . والآن. . . ما بال هذه العضّة؟!

- لقد صنعت ما صنعت دفاعاً عن نفسك. . . وأنا ما أزال أشكرك!

- وشيء آخر يا أنطونيو! ألا تدري أنك قد فقدت (جاكتتك) في البحر وفيها نقودك. . . أجور المسافرين. . . وثمن. . . البرتقال!

- هذا لا يهم يا لوريللا!

- بل. . . لقد كنت أوثر أن أعوضك عنها لو استطعت. . . على أنني لا أملك إلا هذا الصليب الفضي. . . خذه. . . لقد تركه لي المصور يوم أن جاء يخطبني

ص: 59

- وما أنا وهدية من خطيبك؟ إنني لن أمسه أبداً

- لا تحسب أنني أقدمه هدية بدوري. . . لا. . . بل خذه فإنه ينفعك!

- بل خذيه وانصرفي مشكورة

وأخذت المنديل والصليب، ثم وضعتهما في السلة الصغيرة التي حملت فيها الأعشاب. . . وحينما أن تنهض من جانب أنطونيو. . . نظرت إليه. . . وإذا عبرات حرار تتحدر فوق خديها فجأة. . . وينظر إليها الملاح النائم. . . فينهض كالظليم. . . ويأخذها في ذراعيه. . . ويطبع على فمها الصغير المرتجف قبلة. . . ليس مثلها قط قبلة. . . ثم ينحط في فراشه فيبكي. . . ويستخرط في البكاء. . .

- لوريللا. . . أليس الأفضل أن نتزوج؟!

- وهل في الدنيا أفضل من ذلك يا أنطونيو. . .؟

دريني خشبة

ص: 60

‌البريد الأدبي

وفاة دانونزيو شاعر إيطاليا العظيم

نعى البرق في 2 مارس الجاري شاعر إيطاليا العظيم جبرييل ' 75 سنة مليئة حافلة، وبعد حياة مشكورة موفورة. . . وقد ولد الشاعر سنة 1863، وظهر أول دواوينه سنة 1880، أي في سنة السابعة عشرة، ثم والي نشر أشعاره بعد ذلك فدل على حيوية دائبة ونبوغ عظيم. وقد كان دانونزيو مولعاً بمواطنه الكبير كاردوتشي الذي يطلق عليه الإيطاليون (أبا الشعر) وأبا الأدب الإيطالي الحديث، ولذا فقارئ دانونزيو يحس تأثره في كثير من الأحيان بكاردوتشي ولا سيما في قصيدته الطويلة (أنشودة للشيطان) التي ثار فيها على المسيحية وعزا إليها انحطاط إيطاليا وتأخرها بعد أن كانت سيدة العالم في ومن الرومان. . . على أن دانونزيو مزيج عجيب من الإغريق واللاتين والفرنسيين والإنجليز، وقد ترك فيه كل من هؤلاء أثراً كبيراً كان يطفو بأدبه على عباب آدابهم الزاخرة، ومع ذاك فقد كانت له شخصيته القوية المستقلة. . . وكثير من نقاد الآداب يخالفون الإيطاليين في نسبة نهضة الدب والشعر في إيطاليا إلى كاردوتشي، فينسبونها إلى دانونزيو. . . وهذا حق. . . فقد أدخل دانونزيو على الشعر الإيطالي كثيراً من صنوف التجديد استعارها له من الشعرين الإنجليزي والفرنسي، واستطاع أن يلفت إليها مواطنيه، بل أن يفتنهم بها. . . وكان يتوسل إلى ذلك بالأغاني، حتى إذا استساغوها أنشأ ينظم لهم الأقاصيص الغنائية فاقبلوا عليها إقبالاً شديداً

والميزة التي يتفرد بها دانونزيو على جميع شعراء العصر الحاضر هي قدرته القوية على الوصف. وفي قصة (الرسالة) التي نشرت في الأسبوع الماضي دليل على ذلك وإن تكن أقصوصة صغيرة. ودانونزيو يصف الوصف البارع ثم يضفي على وصفه أزهى ألوان الطبيعة، وهو هنا مصور دقيق يربط اللون بالضوء ربطاً عجيباً. . . وقد يشغله ذلك عن القصة نفسها، ولذلك يضيق به بعض قرائه في حين يفتتن به بعضهم افتتاناً يخرج بهم إلى حد الغرام. . . وأستاذ دانونزيو في تلوين أشعاره على هذا النحو هو الشاعر الإنجليزي كيتس

وقد كان دانونزيو مولعاً بالأسلوب الجزل والعبارة الفخمة، وكانت له قدرة مدهشة على

ص: 61

استعمال الغريب استعمالاً يجعله أرقّ في فؤاد القارئ من الموسيقى. . . وذلك ملحوظ في شعره ونثره على السواء

وكما كان دانونزيو إمام شعراء إيطاليا فكذلك كان إمام كتابها. . . وستعيش قصصه، وتخلد، لأنها قصص من النمط العالي الرفيع. . . وإذا كان هناك ما يؤسف له في هذه القصص، فذاك. . . هو هذا الإفحاش البالغ، والأدب المكشوف الذي كان دانونزيو مولعاً بهما في شبابه، مما جعله زعيم المنحطين في الأدب الإيطالي الحديث. . . ولعله قد تأثر بالمنحطين في الأدب الإنجليزي وعلى رأسهم أوسكارويلد وجويس ولورنس

وأحسن قصصه هي على التوالي (طفل السرور والفريسة - وانتصار الموت - وعذارى الصخور - ولهب الحياة

ومن أروع دراماته فرنشسكا درايميني وجيوكندا. هذا وسنعرض لبعض آثاره في أعداد تالية

وقبل أن نختم هذه النبذة يجب أن نشير إلى سخط الأدباء في العالم أجمع أثناء الحرب الحبشية حين أرسل الشاعر تحيته إلى الجنود الإيطاليين الذين ذهبوا إلى الحبشة لتقتيل أبنائها. . . والشاعر معذور بطبعه في موقفه إزاء هذه الحرب، فلقد كان جندياً وكان طياراً وقد اشترك في حرب فيومي المعروفة

المجمع اللغوي في دورته الأخيرة

اختتم المجمع الملكي للغة العربية دورة اجتماعه الخامسة في الشهر الماضي بعد أن عقد خمساً وثلاثين جلسة نظر في أثنائها في كثير من المصطلحات في علوم الأحياء والرياضة والطبيعة، فأقر منها قرابة خمسمائة مصطلح، ثم نظر فيما قدم إليه من قوائم الأعلام الجغرافية التي أخرجها حضرات الأعضاء على القواعد التي وضعها المجمع في كتابة الأعلام الأجنبية بحروف غربية فأعاد النظر فيما سبق أن أقره

واستأنف البحث في قواعد جديدة وقرر إعادة القوائم إلى الأعضاء لمراجعتها وإصلاحها بحسب القواعد التي استحدثت

ثم نظر في قائمة وضعها الأستاذ الدكتور نلينو عضو المجمع وأحصى فيها ما عثر عليه من الأغلاط الشائعة في المصورات الجغرافية المستعملة في المدارس المصرية والشرقية

ص: 62

فيما يتعلق بالبلاد الآسيوية الإسلامية والسودان وصحراء لوبيا. فناقش المجمع في هذه القائمة وراجعها على المصادر المعتمدة ثم قرر إرسالها إلى وزارة المعارف لكي تتلافى هذه الأغلاط

وكذلك بحث المجمع في موضوع إصلاح الكتابة العربية وابتكار طريقة للكتابة تغني عن الشكل وتضمن النطق الصحيح فتألفت لذلك لجنة طلب إليها أن تواصل البحث والمراجعة وتعد نتائجها للدورة المقبلة

ومن قرارات المجمع في هذه الدورة الاتصال بأصحاب الآلات الكاتبة المشهورة والتفاهم معهم على وضع الرموز التي أقرها المجمع للأعلام الجغرافية بين حروفها، وطبع المصطلحات التي أقرها في العلوم والفنون والآداب في قوائم مستقلة على ترتيب معجمي تيسيراً لإذاعتها، والاتصال بالجهات الرسمية في الدول للحصول على القوائم الشاملة لأعلام البلاد كالجامعة العثمانية للحصول على أسماء بقاع الهند ومصلحة الصحراء للحصول على أسماء الأمكنة بين النيل والبحر الأحمر واتحاد البريد الدولي للحصول على دليل البريد الذي يصدره.

معاهد الأزهر واللغة الأجنبية

جاء في بريد الرسالة (242) وهي تتحدث عن اشتداد الرغبة في الأزهر ومعاهده والإقبال عليه - أنه (لوعني الزهر بتقرير دراسة لغة أو لغتين أجنبيتين في معهد أو معهدين من معاهده لسبق المدارس المدنية بألف شوط في مضمار الحياة)

وهذه مسألة ظاهرة الفائدة، وقضية واضحة اللزوم، وليس من حاجة إلى تجربتها في معهد أو معهدين من معاهد الأزهر، بل الواجب تعميمها في كافة المعاهد على أنها قد جربت في (كلية بيروت الشرعية) التي أقدم على إنشائها برغم الصعوبات والمعارضات وقلة الواردات سماحة مفتي لبنان الأستاذ الشيخ توفيق خالد، فكانت فائدتها جليلة جداً، إذ أصبح طلابها يستطيعون إذا شاءوا دخول فحوص البكالوريا العامة، كما أنهم يستطيعون أن يدخلوا في إحدى كليات الأزهر العالية، ثم إن كليتنا تدرس مقرر الأزهر الثانوي كاملا وتزيد عليه اللغة والآداب الفرنسية، وهي كما قال سعادة العشماوي بك وكيل وزارة المعارف المصرية في زيارته الأخيرة إياها في هذا الأسبوع: (ليست إلا معهداً من معاهد

ص: 63

الأزهر) ويرى المدرسون في الأزهر الشريف خريجي هذه الكلية في العام المقبل إذا شاء الله

هذا هو الطريق الوسط الذي لا طريق غيره. فيا ليت هذا الطريق يكثر سالكوه، فينشأ أمثال هذه الكلية في الشام والعراق. ويا ليت المدارس المدنية تفي (أيضاً) بتدريس القرآن والعلوم الإسلامية. إن لم يكن ذاك لأنها دين لا بد منه فليكن تدريسها لأنها مواد علمية قيمة، وثقافة لا بد منها لكل رجل مهذب، وعالم متخصص

علي الطنطاوي

بين سابور وفالريان

جاء في مقال الأستاذ محمد عبد الله عنان (بين تيمورلنك وبايزيد) المنشور في العدد الأخير من الرسالة أن تيمورلنك وضع بايزيد بعد أسره في قفص من حديد كما فعل قيصر الروم مع سابور ملك الفرس

وهذا على النقيض مما وقع تماماً، غذ أن سابور الأول هو الذي أسر قيصر الروم الذي ظل في أسره إلى أن مات وذلك أن سابور بعد فترة هدوء بينه وبين الروم مدة أربعة عشر عاماً تقريباً - كان في خلالها منهمكاً في حروب مع أعدائه الطورانيين المتاخمين لحدوده الشرقية - رأى أن الفرصة مناسبة، بسبب اضطراب الحالة الداخلية في الإمبراطورية الرومانية، لاقتطاع بعض أجزائها المتاخمة لحدوده الغربية وضمها إلى رقعة ملكه الواسعة. فسار على رأس جيش كبير يرفرف عليه علم فارس المرصع وبدأ بمهاجمة المدينتين الحصينتين إدسا ونصيبين اللتين لم تلبثا أن وقعتا في قبضة يده

وكان قيصر الروم إذ ذاك هو الإمبراطور فالريان فهرع لملاقاة عدوه ومحاولة صد تياره الجارف ولكن بمناورة حربية بارعة تمكن سابور من وضع الإمبراطور في موضع لم يجد معه بداً من الاستسلام بجيشه بأسره لسابور الظافر

وبعد الانتهاء من فتوحاته التي اقترنت بالنار والدم عاد سابور إلى عاصمة ملكه حاملا معه أسيره الإمبراطوري الذي ظل في أسره إلى أن مات

ولا يعلم بالضبط مدى صحة الإشاعة التي تقول إن سابور كان يضع أسيره في قفص من

ص: 64

حديد ولا يبعد أن يكون قد فعل ذلك زيادة في النكاية بالروم وإمعاناً في إهانتهم وإذلالهم، غير أن بعض المؤرخين يستبعد ذلك ويرجح أن سابور كان يعامل فالريان معاملة حسنة بل وكان يوليه شيئاً من الإكرام

أما بعد وفاة فالريان فالمحقق أن سابور أمر بنزع جلده وحفظه تخليداً لنصره الباهر على الروم ولإضافته إلى مفاخر فارس الحربية

وقد سجل سابور أيضاً هذا الحادث الفريد بنحته نحتاً بارزاً ضخماً على الصخر بالقرب من السابورية وهي المدينة التي أنشأها سابور وسماها باسمه، ففي هذا النحت نرى سابور ممتطياً صهوة جواده وقد ركع فالريان على الأرض أمامه ووقف خلف سابور عشرة فرسان يمثلون الجيش الفارسي الظافر، بينما اصطف خلف فالريان عدد من الجنود الرومانية يمثلون الجيش الروماني المأسور

هذه ملاحظة عنت لي لدى قراءة مقال الأستاذ عنان الشائق رأيت أن أسجلها خدمة - كالمعتاد - للحق والتاريخ

قارئ

النشاط المدرسي في المدارس المصرية

اقترح علماء التربية عطلة بعد الظهر في منتصف الأسبوع لإراحة المدرس والتلميذ على السواء ولتكون فترة استجمام وتجديد قوى الذهن لبقية أيام الأسبوع. . . وكان جميلاً جداً أن يطبق هذا النظام في مصر، فعطلت الدراسة بعد ظهر يوم الاثنين من كل أسبوع، وقد تحقق أثر هذه العطلة القصيرة، وبدا النشاط الذهني في المدارس عامة نتيجة له. . . ولكن سرعان ما انعكست الآية وضاعت الفائدة من هذه العطلة بتكليف الجماعات المدرسية بالحضور بعد ظهر يوم الاثنين إلى مدارسهم لتسخيرهم في ألوان من الأذى والإرهاق، يسمونها ألوان النشاط المدرسي. . . وهو نشاط أشبه بالركود، بل الموت! فهذه جماعة تعمل أشغالا من الأركت بعد الغداء بساعة أو ساعتين، وتلك أخرى تنشد أناشيد ميتة لا روح فيها، وثالثة اجتمعت للتفرج بكتب لا غناء فيها، ورابعة، وخامسة، والكل يشكو في سره إلى الله من هذا التكليف السخيف الذي أطار من خيرة التلاميذ عطلة بعد ظهر الاثنين

ص: 65

التي أصبح التلميذ الغبي وحده هو الذي ينتفع بها. ولا ندري لم لا يخصص وقت للنشاط المدرسي في صلب جدول توزيع الحصص ليشترك فيه جميع التلاميذ، وليكون أجدى مما هو في شكله المرهق وأسلوبه السقيم؟

(معلم)

أول نشرة جوية في التاريخ

منذ مائة سنة (19 يناير سنة 1837) أصدر شاب إيرلندي يدعى بَتْرِك مارفي أول نشرة جوية عرفها التاريخ لسنة كاملة تنبأ فيها عن الحالة الجوية لأيام السنة يوماً فيوماً من حيث الحرارة والبرودة والمطر والزوابع. والعجيب في أمر هذا الشاب أنه لم يكن من علماء هذه الأبحاث المناخية، لكنه مع ذاك تنبأ في نشرته أن الحرارة ستنخفض إلى أدناها في يناير من ذاك العام، وحذر الناس بالفعل من العواقب الوخيمة التي ستنجم عن هذا الانقلاب المناخي المفاجئ. . . لكن الناس وفي مقدمتهم العلماء سخروا منه واستهزءوا به، فلما كان الأجل المضروب صدقت نبوءة مارفي إلى حد بعيد، فاشتد البرد وانخفضت درجة الحرارة في جهات شتى إلى 14 تحت الصفر (46 درجة تجميدية!) وبدأ الناس يموتون بالمئات في الشوارع والحقول، وأخذت القطط والكلاب تفنى بالآلاف كل يوم، وانفجرت مواسير المياه وأنابيب الغاز في أكثر المدن وتلفت المحصولات، ونفقت البهائم وعمت المصائب والويلات، وعجزت الحكومة عن مقاومة الكارثة وتخفيف آثارها. . . ولما خفت وطأة البرد اهرع الناس إلى (دكان) بترك مارفي ليشتروا نشرته، وأقبلوا من كل صوب يتلقفونها بثمنها (شلن ونصف) واشتد زحامهم حتى استدعى ذلك تدخل البوليس. . . وقد يعجب القارئ إذا عرف أن كل مطابع المدينة كانت تعمل ليل نهار في طبع الأعداد المطلوبة والتي انتشرت في أنحاء بريطانيا خاصة وأوربا عامة. . . ولم تمض سنوات حتى اصبح مارفي من أغنياء العالم وعلمائه على السواء

استراليا بعد 150 سنة من الاستعمار البريطاني

في 26 يناير الماضي أتم الاستعمار البريطاني لقارة استراليا سنته الخمسين بعد المائة، إذ يرجع تاريخ هذا الاستعمار العتيد إلى 26 يناير سنة 1788، حينما اقلع الفيس أميرال

ص: 66

آرثر فيليب بجانب عظيم من الأسطول البريطاني لإنشاء ويلز الجديدة الجنوبية أولى المستعمرات الإنجليزية في هذه القارة الغنية الواسعة. هذا ويرجع الفضل في استكشافات استراليا إلى الكابتن كوك قبل هذا الاستعمار بسبعة عشر عاماً (1770). والشعب الأسترالي الذي هب هذا العام يحتفل بتلك الذكرى العظيمة هو شعب راق متمدين، لا يقل حضارة عن إنجلترا نفسها، وقد أنشأ مدناً جميلة آهلة بالسكان على الشاطئ الشرقي والجنوبي الشرقي من القارة لا تقل بهاءً عن أجمل المدن الأوربية. وهذا الشعب مولع (باليُوجَنّية) أي علم استحداث الأحياء الراقية من الأحياء الوضيعة. وقد أفلح في إيجاد الخيول الأسترالية القوية والخنازير السمينة والأغنام التي تمد العالم بنصف محصوله من الصوف النظيف الناصع، والأرانب التي تغمر فراؤها أسواق لندن وباريس. وقد نجحوا نجاحاً عجيباً في الانتخاب النباتي، فهذا قمحهم الجيد يغمر الأسواق وهذه فاكهتهم تباع في مصر بأرخص مما تباع فاكهة ممالك البحر الأبيض

والأستراليون أذكياء جداً، ولعل السبب في ذلك هو أن 90 % منهم أحفاد المجرمين وذوي السوابق من البريطانيين الذين نفوا من إنجلترا لاستعمار استراليا

الجريدة أم المجلة

مما تشكر عليه الجرائد المصرية إفرادها إحدى صحائفها للفنون والعلوم والآداب، وهذا خير ولا تثريب على جرائدنا فيه بيد أننا نلاحظ أن كثيرين من أدبائنا الجهابذة وعلمائنا الأجلاء يؤثرون الجرائد ببحثوث جليلة الفائدة في التاريخ والآداب والعلوم والفنون، قد لا ينتفع بها عامة القراء، وقد لا يلتفت إليها خاصتهم، وإذا راقت أحدهم وقراها فقد لا يستطيع الاحتفاظ بالصحيفة أكثر من يوم أو يومين، بله عاما أو عامين، ومن هنا تضيع قيمة البحث وتندثر فائدته، ولو قد نشر في مجلة من مجلات مصر المحترمة لوجد طائفة كبيرة من خاصة القراء تعرف له قيمته وتحتفظ به إلى ما شاء الله. وأمثال هذه البحوث كثيرة، وقد قرأنا منذ حين بحثاً جليلاً في تحقيق أسماء المدن الأسبانية وآخر في أصول الأدب المصري القديم، وثالثاً في تاريخ الكتابة الهيروغليفية. . الخ. . . فأين هي هذه البحوث اليوم؟!

(د. خ)

ص: 67

‌الكُتُب

النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة

تأليف الأستاذ محمد عرفة

بقلم الأديب محمد فهمي عبد اللطيف

منذ أعوام نشبت معركة أدبية بين الجامعة والأزهر حول نسبة الشعر الجاهلي، وكانت شعواء صاخبة جرفت إلى ميدانها كثيراً من رجال الفكر وأعلام الأدب، واتخذت من صفحات الصحف وردهات الأندية ميداناً واسعاً شاملاً، وعج عجيجها فاتصلت بالسياسة وكان لها حديث تحت قبة البرلمان كاد أن يطيح بوزارة، واتصلت بالدين فكان اتهام أمام النيابة واحتكام إلى القضاء؛ ومع هذا كله فقد انتهت تلك المعركة وما تركت إلا النقع يخنق النفوس، والغبار يقذى العيون، وبقيت نسبة الشعر الجاهلي كما هي خاوية لا تقوم على تحقيق ثابت، واهية لا ترتكز على بحث علمي صحيح، معقدة لا يجليها رأي مبتدع، مظلمة لا ينيرها فكر ثاقب

واليوم تنشب المعركة ثانية بين الأزهر والجامعة حول النحو وقواعده والنحاة وجهودهم. فالأستاذ إبراهيم مصطفى الأستاذ بكلية الآداب في كتابه (إحياء النحو) ينتقد النحويين في قصرهم مباحث النحو على الإعراب والبناء، دون أن يبحثوا خصائص الكلام من التقديم والتأخير، والنفي والاستفهام، والإثبات والتأكيد، ثم يرد على النحاة في زعمهم إن الإعراب أثر لفظي لا يؤدي معنى، ولا صلة له بتصوير المفهوم، وإثبات أن حركات الإعراب دوال على معان قصدت من الكلام، فالضمة علم الإسناد، والكسرة علم الإضافة، والفتحة علم الخفة، ثم هو ينتقد النحاة في زعمهم أن هذه الحركات اجتلبها العامل، وراح يثبت أن المتكلم هو الذي أحدثها، وخالفهم فذهب إلى أن التنوين علم التنكير، فلك في كل علم ألا تنونه

والأستاذ محمد عرفة الأستاذ بكلية اللغة العربية يرى في ذلك منكباً للقصد، وحيفاً على الحق، فوضع للرد عليه كتابه النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة) وهو يعتقد أن الأستاذ مصطفى قد نحل النحاة مذاهب لم يقولوها ونقدها وأبان خطلها، كما أنه قعَّد القواعد في

ص: 69

العربية لو أخذ الناس بها لغيرت من روح العربية ولأفضى ذلك إلى فهم كتاب الله وسنة رسوله على غير وجههما، حتى لقد عمم في الطعن ولم يخصص، فأدخل سيبويه وكتابه! يقول الأستاذ عرفة:(ولقد تمثلت هؤلاء النحاة وهم في أجداثهم يهضمون هذا الهضم بعد أن ملئوا الدنيا علما، ويحاف عليهم هذا الحيف وقد خرست ألسنتهم الناطقة، وإذ قد آلو إلى ما آلو إليه، فقد صار حتما على أبنائهم أن يردوا عنهم هذه التهم كما هو الواجب الإنساني، وواجب الأساتذة على أبنائهم الذين هذبوا عقولهم، ثم واجب اللغة العربية وواجب العلم في نفسه، وأخيراً واجب التلاميذ على أساتذتهم)

و (الفكرة) في كتاب الأستاذ عرفة هي مجاوبة للفكرة في كتاب (إحياء النحو)، فهو يرى أن النحو العربي في حاجة إلى تبسيط قواعده وعرضه بطريقة تقربه من طبيعة المتكلمين وتكشف عن سر العربية، ولكن على نمط قويم لا على ذلك النمط الذي انتهجه صاحب (إحياء النحو) فحاد به عن السداد، ولو ثبت لكان خطراً على اللغة العربية، وعلى فهم كتاب الله وسنة رسوله

ولقد أعجبني الأستاذ عرفة في ثبات جنانه فما اشتط في الخصومة، ولا جمح به القلم، فإذا هو مع خصمه من أول الكتاب إلى آخره على ما تقضى به كرامة العلم والخلق الحميد، عف الأسلوب، مهذب العبارة، نزيه الغرض، صريح في الحق، لا يختال صاحبه ولا يموه على قارئه؛ إن قسا فبالحجة، وإن احتكم فإلى النصوص المدونة والنقول الثابتة، وإلى العلم والمنطق

تلك هي معركة اليوم بين الجامعتين، وذلك هو مداها: أستاذ يهاجم وأستاذ يدافع الرأي، والحجة بالحجة، و (الكتاب)(بالكتاب)، وما نريد أن يزيد مدى المعركة على هذا الحد، ولا أن يخرج عن هذا الاعتبار، ولا نحب أن تتجاوز الأستاذين إلى غيرهما حتى ينتهيا إلى آخر الشوط، ويصلا إلى نتيجة ترضى الحق والعلم

أما الآن فالكلمة نحب أن نسمعها من صاحب (إحياء النحو) فهو أولى الناس بالذود عن حوضه، وخير من ينافح عن فكرته، خصوصاً وأنه يريد أن يعمم هذه الفكرة في وزارة المعارف وأن يقحمها في مناهج التعليم؛ وقيل إنه قابل الوزير لذلك الغرض فشجعه الوزير ووعده الخير. فليتقدم الأستاذ مدافعاً عن نفسه أو مسلماً لخصمه؛ وعلى أي حال سواء

ص: 70

أمكنه أن ينهض بفكرته وأن يرفع لواءها سليماً من الطعن، أو نكص بها مردوداً من قريعه ومنازله، فإنه مشكور له أجر المجتهد أخطأ أم أصاب، وحبذا الناضل والمنضول في سبيل الحقيقة العلمية خالصة لله منزهة عن الأغراض

محمد فهمي عبد اللطيف

رئيس التحرير وقصص أخرى

(مجموعة أقاصيص أصدرها الأديب صلاح الدين ذهني)

للأستاذ زكي طليمات

القصة المصرية تسير بل تركض. . .

فمذ أطلت برأسها علينا في (حديث عيسى بن هشام) للمويلحي تخفي وجهها بخمار عربي من وشى أنامل تذكرنا بنسيجها الأول في (مقامات الحريري) و (بديع الزمان)، إلى أن أسفرت عن وجهها مصرية من غير نقاب في (زينب) لهيكل، إلى أن صلب عودها واستفاضت بشرتها بحمرة مياه النيل في قصص محمود تيمور، وقبل ذلك في أقاصيص شقيقه محمد، إلى ما لم تدخره حافظتي من أسماء قصاصين من أدباء مصر والشرق العربي أبوا إلا أن يغامروا بأقلامهم في معالجة هذا اللون الجديد من الأدب العربي. منذ ذلك الحين والقصة المصرية توالينا بنتاج لا ينقطع، وكأنها تأبى إلا أن تكون شغل الأدب والنقد في هذه الأيام

القصة المصرية صبية جامحة تياهة مزهوة فهي لا تعرف فضيلة التواضع، تتحدث بصوت جهير كلما ملكتها شهوة الكلام، ولا ندري فعل التفكير والمراجعة وأثر التحري والاستجمام في إتيان الوثبة الواسعة؛ وما هذا بالأمر المستغرب لأنه يرجع إلى طبيعة الشيء. وكأني بالأديب المصري اليوم، وقد استشعر ماهية شخصيته بتأثير النضال الاستقلالي وبعوامل النزاع القومي وبما يعمر رأسه من أصداء الأدب الغربي وفي مقدمتها القصة. كأني به أصبح لا يرتاح إلىالإفصاح عن خلجات نفسه والشكاية من هصره إلا عن طريق التدخل في أديم شخصيات يبتدعها خياله بعد أن ينتزع معينها من البيئة التي يعيش فيها، فيسجل ببراعة دقائق هذه الشخصيات في سرد قصصي يطريه الحوار وتغلفه

ص: 71

أجواء تفيض بالصبغة المصرية المحلية، وتتمشى فيها أعراق من الإنسانية العامة. وأغلب الظن أن القصة المصرية أصبحت المجال الذي يعمل فيه الأديب المصري اليوم لاستخلاص (المصرية) ولاستكمال مقومات أدب حديث؛ وهي مظهر من مظاهر تحررنا من أساليب الأدب العربي القديم بعد أن غمرتنا أمواج ثقافة غربية جديدة، وطالعتنا أحداث الزمن بما جعلنا ننفر إلى الجهاد في سبيل حياة مستقلة

ومهما حاول النقد مخلصاً أن ينال من القصة المصرية بإخراج أكثر نتاجها من دائرة الفن الرفيع فلن يستلبها بهاء الشباب وروعة الفتوة. وإذا لم نجد فيها - وأعني أكثريتها - عمق التفكير وجزالة الطبع القوي وصدق التحليل النفسي الذي يحس به ولا يلمس، وطرافة المعالجة، فحسبنا أنفاس عطرة دافئة تهب علينا من بين سطورها، هي أنفاس مؤلفيها، وهو أدباء يحاولون أن يدخلوا لوناً جديداً على الأدب العربي وأن ينشئوا أدباً قوياً

أكتب هذا وأمامي مجموعة أصدرها الأديب الشاب (صلاح الدين ذهني) باسم (رئيس التحرير وقصص أخرى)، وهي مجموعة تقف بجدارة إلى جانب أحسن ما أخرجته أقلام القصاصين الحديثين من المصريين. ولعل أبين ما تمتاز به أنها جاءت في أسلوب يتسامى بجزالته عن مثيله فيما قرأت من قصص الناشئين من القصاصين

إلا أن الجزالة في اللفظ والفصاحة ليست كل شيء في الأسلوب، وهو من معاني القصة قوالبها وأداة معالجتها. والحكم على طرافة القصة ومنزلتها من الأدب الرفيع لا يكون العمدة فيه موضوعها، بل أسلوب معالجة هذا الموضوع. وما ترك الأول للآخر فكرة أو موضوعاً لم يعالجه أو يشر إليه؛ فقد يحدث أن يعالج الموضوع الواحد عدد كبير من الكتاب، ولكن التفوق والخلود لا يكتبان إلا لواحد منهم، وهو من يكون قد حذق معالجة هذا الموضوع وبرع فيه

والمعالجة الطريفة لموضوع القصة تكون في حبكتها الشيقة وإنزالها في القالب الذي تخرج منه منسقة الحوادث من غير عنت، متينة البناء في غير افتعال، متزنة محكمة الأسلوب، تومئ وتفصح، وتقطر وتفيض. وحظ القصص التي بين يدي مما ذكرت غير متجانس، فبعضها يأخذ سمت المعالجة الطريفة في خطو وئيد، والبعض الآخر يتعثر في نواحي من نواحيه، إلا أنها عثرات سرعان ما تقال. ويبدو هذا في القصة الأولى من المجموعة

ص: 72

وعنوانها (حسنة)، في حين أن قصة (رئيس التحرير) تعد أنموذجاً لحذق كاتبها من حيث معالجة الموضوع وخصب البيان. وحسبنا من المؤلف أن يصيب مرة ويخطئ مرات، وهو في الحالتين لا يألو جهداً في أن ينزع نحو الكمال الفني المنشود

و (رئيس التحرير) قصة فكهة (كاريكاتورية) الأشخاص والأسلوب. وأبين ما تبين عنه هذه القصة نزعة ساخرة يفيض بها قلم كاتبها، وهي نزعة يخالطها الأسى وتمازجها الشكاية في قصة (مذكرات فنان) حيث نرى المؤلف متبرماً بمجتمعه متململاً بما شاع فيه من التطاول والإدعاء؛ ينقد عن ملاحظة دقيقة أوضاعه المقلوبة، مما يدل على أن (صلاح الدين) على حس مرهف وعين بصيرة بحقائق الأشياء وتفاريق الألوان في مجتمعه، فهو يرى ويشعر ويحيا ويتألم ويسخر ويصخب، وشأنه في هذا شأن صفوة الشباب المعذب في هذا الجيل، ولعل هذه القصة أحسن ما تكشف عن نفسية المؤلف

وللريف في هذه المجموعة من القصص شأن يذكر، وأحسن ما جاء في قصصه تلك الصبغة الريفية التي تطالع القارئ فيحس بريح القرية ملء أنفه وبهدوئها يشمل أعصابه

وللمؤلف جولات أخرى في موضوعات الحياة التي تتصل ببيئته، فهو تارة تراه متدخلاً في زوايا البيوت، وأخرى متغلغلاً في طوايا السرائر؛ وهو في معالجة هذه الموضوعات يركض ويتباطأ، ويهبط ويصعد، ويستقيم ويلتوي؛ ولكنه يريد دائماً أن يذهب بعيداً ليستقر في آفاق طريفة من التأمل والتفكير، وهو فيما يريد أن يذهب إليه يصيب مرة ويخيب أخرى، وهو في خيبته غير مهزوم

زكي طليمات

ص: 73

‌المسرح والسينما

ساعة التنفيذ

إنتاج أستوديو وهبي

على ستار (كوزمو)

ممثلو وممثلات الفلم

أمينة رزق - لطيفة نظمي - زوزو نبيل - زينات صدقي - ليلى سلطان - لطفية أمين - يوسف وهبي - عبد القادر المسيري - عبد العزيز أحمد - حسين صدقي - عبد المجيد شكري - أبو العلا علي - لطفي الحكيم - توفيق صادق - محمد إبراهيم - محمود المليجي

ملخص الرواية

عاد رؤوف سامي (يوسف وهبي) من أوربا بعد أن أصبح طبيباً فوجد خطيبته سامية (أمينة رزق) زوجة لفؤاد بك راجي التاجر الثري مع أنه لا تزال تكن له الحب فتتوثق العلاقة من جديد بين رؤوف وسامية. . .

وقد نتج من هذه العلاقة طفل لرؤوف من سامية ولكنه شرعاً يعتبر ابناً لفؤاد بك. . . تعرف الدكتور رؤوف بفؤاد بك فأكرمه وأحله محل الأخ، فأخذ ضمير رؤوف يؤنبه، وأراد أن يقطع علاقته بسامية؛ غير أن الظروف جعلت فؤاد بك يعرف تلك العلاقة الأثيمة. وفاجأ ذات مرة زوجته بين يدي صديقه، فلم تتحمل الزوجة الصدمة وألقت بنفسها من النافذة تاركة الزوج والخليل والابن (إحسان)، وحين كانت تلفظ النفس الأخير باحت لزوجها بسر مولد إحسان، وطلبت إليه أن يحتفظ بالطفل الذي كان محبوباً من الجميع

توارى رؤوف غير أن توبيخ ضميره طارده وأفقده مركزه الأدبي والمادي، وقد أراد أن يكفر عن ذنوبه فاصطدم بحوادث عديدة صيرته بين كبار المجرمين، وقد جعل رؤوف حياته وقفاً على خدمة ولده الذي لا يعرفه، فكان يحميه عن بعد دون أن يعرف سر أبيه. . .

ص: 74

وحدث أن أراد أحد الخدم أن يفشي سر مولد إحسان وقد تقدم للانتخابات لمجلس النواب خدمة لخصمه، فقتله رؤوف وقبض عليه وسيق إلى المحاكمة وإذا بالمحقق هو ولده إحسان وكيل النيابة. . . قدم رؤوف للمحاكمة وكان إحسان في ذلك الوقت قد اعتزل الوظيفة، وأصبح محامياً وعضواً بمجلس النواب. . . وفي جلسة محكمة الجنايات فوجئ رؤوف بابنه إحسان وقد دفعه دافع خفي للدفاع عن أبيه دون أن يعرف الحقيقة. . . وطلب منه أمام القضاة أن يعترف بأسباب الجريمة فهو يشعر أن المجرم قد اقترف القتل لسبب نبيل. . فما كان من الوالد إلا أن سخر بدفاعه ووقف يؤكد للمحكمة أنه مجرم وقاتل وعريق في الإجرام. . . وبينما كان حكم الإعدام ينفذ في الوالد. . كان الولد يهنأ بعروسه في شهر العسل

يوسف وهبي

ويقوم الأستاذ يوسف وهبي في هذا الفلم بأدوار ثلاثة، فهو المؤلف والمخرج وممثل البطل. . . وهو في ذلك يشبه الممثل الكبير شارلي شابلن الذي يؤلف ويخرج ويمثل أفلامه القوية الناجحة، ونحن نهنئ الأستاذ يوسف وهبي على هذا المجهود الكبير

ونؤجل نشر نقدنا الفني لهذا الفلم إلى الأسبوع المقبل

السيدة منيرة المهدية تعود إلى المسرح

وأخيراً عادت السيدة منيرة المهدية إلى الظهور بعد احتجابها الطويل في المسرحية الجديدة (الأوبريت)(الأميرة روشنارا الهندية) وهي من تأليف الكاتب المعروف الأستاذ بديع خيري وتلحين الأستاذ زكريا أحمد. وسنتناول في الأسبوع المقبل نقد هذا الفلم من جهاته الفنية

الأميرة كوكا

بطلة فلم (تاجر الملح)

ابتداء من اليوم تقدم سينما رويال بالقاهرة فلم (جريكو) أو (تاجر الملح) الذي أخذت أكثر مناظره في مصر وبين ظهرانينا

وبطل الفلم رجل أسود له شهرة في عالمي التمثيل والغناء تضارع شهرة أقوى ممثل أو

ص: 75

مغن من الجنس الأبيض، إن لم تفقه. وقد سبق أن رآه جمهورنا ناجحاً قوياً في عدة أفلام على ستار أكثر دور السينما في مصر. . . وأسم هذا الزنجي الشهير بول روبسون

أما بطلة (تاجر الملح) فهي فتاة مصرية اسمها الحقيقي ناجية إبراهيم، ولقبها الإنكليز في جرائدهم بالأميرة (كوكا) فأصبحت تعرف بهذا اللقب. وهي فتاة برنزية اللون ذات عينين خلابتين وجسم معتدل مما ساعدها على ارتقاء سلم النجاح في عالم السينما بسهولة وسرعة

وقد اضطرت ناجية إبراهيم إلى السفر مرتين إلى بلاد الإنكليز لإتمام إخراج هذا الفلم العظيم. . . وهناك في إنجلترا تعلمت كوكا رقصة الكلاكيت التي أصبحت تتقنها. . غير أن هذه الرقصة قد كلفتها كثيراً، فإنها ما زالت حتى الآن تعاني الأمرين من آلام ظهرها

وسنرى أي نجاح تصيب هذه النجمة المصرية الجديدة. .!

بدرية رأفت

بطلة الفلم المصري الجديد: نفوس حائرة

تعرض سينما الكوزمو في هذه الأيام إشارة إلى فلم مصري جديد سيظهر على ستارها عما قريب

ذلك هذا الفلم هو (نفوس حائرة) وأما أبطاله فهم بدر لاما، وبدرية رأفت، وعبد السلام النابلسي، وسميحة فهمي، وفؤاد المصري الخ. . .

والمخرج هو الأستاذ إبراهيم لاما المخرج المعروف، وقد أخرج لنا بضعة أفلام مصرية ناجحة

فؤاد زمكحل

ص: 76