الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 245
- بتاريخ: 14 - 03 - 1938
(سارة)
للأستاذ عباس محمود العقاد
كنت أقول للذين يحلو لهم أن يصنفوا الكتاب إلى كاتب مقالة وكاتب قصة وكاتب نقد وكاتب سياسة وكاتب تمثيل: إن الكاتب الخليق بهذا الاسم يجب أن يكون أولئك جميعاً. فإذا قصر جهده على بعضها فليس معنى ذلك قصوره عن بعضها الآخر، بل معناه أن عمل الكاتب في التعليم أو في الصحافة، أو حظ الأمة من الحضارة والثقافة، أو حال المجتمع من الرخاء والاستقرار، يساعد اتجاهاً على اتجاه، ويغلب نوعاً على نوع. وما الكاتب إلا فنان موهوب ميزته تأليف الكلام الجميل تعبيراً عما يقع في حسه وعلمه، وتصويراً لما يجري في خياله وذهنه؛ فإذا استمد الإلهام والمعرفة أحاط إحاطة (الجاحظ) و (جيته)، وإذا استملى الشعور والعاطفة ألم إلمام (البديع) و (موسيه). وانفساح ذرعه أو انحصار طبعه لا يدخل في حسابه بالزيادة ولا بالنقص، لأن الأصل في فنه أن يجيد الكشف عما يحس به والإبانة عما يعلم
قالوا إن العقاد باحث جريء الرأي، وناقد نافذ البصيرة، وجدلي دامغ الحجة، ولكنه لا يملك أن يكون قصصياً يكشف بالوحي حجب الغيب، وينمق بالخيال صور الحقيقة، ويحي بالعاطفة خمود الفكرة، وتلمسوا لذلك الأدلة والعلل من طبيعة مزاجه واتجاه تفكيره وروح أسلوبه، حتى رووا عنه أنه عاب القصة ونفى أن تكون نوعاً جدياً من أنواع الأدب. وكان الذين يسمعون هذا الكلام يقابلونه بالتصديق ويؤيدونه بالواقع، فكنا نقول لهؤلاء إن الذي يعرض هذا العرض، ويصف هذا الوصف، ويحلل هذا التحليل، لا يعضل عليه - إن أراد - أن ينقل المشهد الذي رآه، ويقص الخبر الذي علمه. وليس القصص كله خيالاً حتى يسوغ في العقل أن الكاتب الذي يضيق خياله ويضعف وهمه باتساع عقله وقوة فكره يقصر باعه عن القصة
وجاءت (سارة) والرأي على ما خيل الراءون فأقرت الأمر في موضعه من صميم الحق؛ وقدمت الدليل القاطع على أن هذه الشخصية الأدبية قد بلغت الغاية في كل ناحية من نواحي الأدب، حتى الناحية التي لم تتجه إليها إلا منذ أمس.
وهل صحيح أن أمس كان أول عهد العقاد بالقصة، وأن سارة كانت أول ما كتب العقاد من
القصص؟ الحق أن الكاتب المطبوع يولد وفي قريحته أصول الأنواع الأدبية؛ تنمو بنموه، وتطور بتطوره، وترقى برقيه؛ ولكن ذلك يحصل لبعضها بالفعل، ويحصل لبعضها الآخر بالقوة. فلو أن العقاد كتب (سارة) أيام كتب (مجمع الأحياء) لكان من الراجح أن يكتبها من نوع غير هذا النوع، وبأسلوب غير هذا الأسلوب؛ ولكنه كتبها حين كتب (سعد زغلول) فجاءت من النوع التحليلي البارع، وبالأسلوب المنطقي المشرق. والقصة التحليلية هي آخر أطوار القصة، كما أن الشعر الفلسفي هو آخر مراحل الشعر. ونتاج الذهن يتطور بين الطفولة والكهولة في الفرد والأمة والخليقة؛ فالأسطورة تنتهي إلى القصة، والملحمة تصير إلى الرواية، وشعر الغناء يؤول إلى شعر الفلسفة
(سارة) قصة فتاة مثقفة لعوب أرملة، وصفها العقاد في فصلين لا نجد كثيراً من أمثالهما في أدب العالم، وهما (من هي) و (وجوه). عرفها همام المهذب العقل الطيب القلب وهو في وسط عقده الرابع أعزب وحيد، فشغفته حباً للأسباب التي حللها الكاتب في فصل من هذه الفصول؛ ثم وصلت بينهما الطبيعية بالصلة التي لا حيلة فيها لانتظار ولا اختيار ولا خبرة؛ وظلت هي على نحيزتها الأنثوية تعابث وتخابث وتلبس تارة لباس (مانون)، وتارة أخرى لباس (مادلين)؛ وظل هو على شكيكته العلمية يؤول، ويعلل، ويفرض الفروض، ويثير الشكوك، ويقوى حيناً فيكون (دون جوان)، ويضعف حيناً فيكون (دي جْريو) حتى ذوى الحب بين الشك منه والسأم منها فتفرق العاشقان
ليس في القصة إذن حادثة تروعك، ولا مفاجأة تدهشك، ولا عقدة تشوقك؛ ولكن هذا الحادث العادي المطروق أصاب ذهناً شديد النفاذ، وفكراً دقيق الملاحظة، وشعوراً صادق الحس، فتجلى في (سارة) صوراً واضحة الخطوط، ناطقة الملامح، عبقرية الألوان، تمثل هذه المرأة في جميع حالاتها وعلى كل وجوهها تمثيلاً عارياً لا ينفع فيه ثوب رياء ولا ورق تين. ولعل الطريف في (سارة) أنها تحلل تركيب العشق في قلبي عاشقين من ذوي الثقافة والفكر، فتنتهي إلى أن الفلسفة لا تجعل من العاشقة إلا امرأة ككل امرأة، ولا من العاشق إلا رجلا كأي رجل
أما أسلوب (سارة) فهو أسلوب العقاد: صريح لا رغوة فيه، جلي لا غبار عليه، مستقيم لا التواء به؛ يتصل فيه اللسان بالعقل فلا يلغو، ويعتمد فيه القلم على القريحة فلا يهين. على
أن العقاد في سارة قد احتفل لأسلوبه واحتشد لفنه فجاء من النمط العالي، لا تجد خللاً في سبكه، ولا قلقاً في اطراده، ولا وهناً في منطقه، ولا سقطاً في ألفاظه، ولا شططاً في معانيه. وفي رأيي أنك لا تعرف العقاد على حقيقته إنساناً وفناناً إلا في (سارة)
إن سارة تقدم مثلاً جديداً في بلاغة الأسلوب، وتفتح فصلاً جديداً في أدب القصة، وتسجل اتجاهاً جديداً في أدب العقاد
أحمد حسن الزيات
عود إلى داء الشعور بالحقارة
للأستاذ عبد الرحمن شكري
والمصاب بداء الشعور بالحقارة إذا أفدته علماً أو مالاً تباهى به عليك وتلمس الوسائل كي يظهر بمظهر المانح كأنما يمنحك فضلاً أو عوناً، إما بأخذه ما أخذ منك، وإما بدلا منه. وهو لا ينسى لك فضلاً ويحسدك على نعمتك حتى تزول ولو كان في زوال نعمتك زوال نعمته، ويحاول أن يخفي فضلك عليه حتى على أكثر الناس علماً بما أفدته، ويحاول أن يجند منهم أعواناً له ضدك بأن يظهرك بمظهر العداوة لهم وقلة الخير والزهد فيهم، فإذا عاتبته واضطررت أن تذكره بمعونتك كي تبتعث الحنان في قلبه عد إشارتك التي استثارها بعمله أو حديثه امتناناً منك عليه، فيزداد لك عداوة. وهو بالرغم من مقابلته المعروف بالإساءة يطمع في المزيد مما عندك وإن ظهر بمظهر العائف له. وهو سلاح في يد أعدائك حتى وإن لم يدر ذلك، لأنه قد يغالط نفسه أو يغالطونه ويخادعونه
ومن المصابين بداء الشعور بالحقارة من ينغص عيشة من يعاشره بإظهار حدة الطبع ورفع الصوت والعراك، لأنه يرى في كثرة العراك تعاظماً وتعالياً يخفي ما يشعر به في سريرة نفسه من الوجل والخوف من أن يحقر. ومن المصابين بهذا الداء من يعد سفاهة لسانه سياجاً يحوط به عظمته الموهومة التي يخفي بها ما هو كامن في سريرة نفسه من الشعور بالحقارة التي قد يظنها عظمة
ومنهم من يتلمس الفرص كي يسمع الناس صوته كأنما صوته جرس يدق إيذاناً بالعظمة التي يخفي بها خوفه من التحقير
وترى الواحد من هؤلاء لا يتعفف عن مدح نفسه والإشادة بآرائه وأفكاره وإعجاب الناس بها واحترامهم إياه بسببها، وهذه الخطة قد تكون مكراً ووسيلة كوسيلة التاجر في الإعلان عن بضاعته وإن عرف أن بضاعته غير مزجاة؛ وصاحبها مع ذلك مطمئن النفس لا يبالي إذا لم يصدقه السامع، ولكنها قد تكون خطة مسعور متكالب على الناس يرجو احترامهم ولا يستطيع أن يعيش من غيره ولا يهنأ حتى ولو فقد مثقال ذرة منه، وهو يتفرس في وجوه الناس كي يرى هل صدق السامع حديث إعجاب الناس به. وكلما كان الرجل من هؤلاء المصابين بداء الشعور بالحقارة مفلساً من المال أو الجاه أو العلم كان حقده أشد، ونكايته
أنكى، وصوته أكثر إيذاناً بالعظمة التي يحاول أن يخفي بها المرض. وقد تزول أسباب المرض من إفلاس في مال أو علم أو جاه، ولكنه يبقى طبعاً في النفس لا تستطيع مداواته. ومن العجيب في أمر المصابين بداء الشعور بالحقارة أنهم قد يخلصون أو يتظاهرون بالإخلاص - وهو الصواب - لمن لا يرجون منه خيراً ولا نفعاً، ويختصون بالإعنات من يرجى منه الخير أو من أصابهم منه خير، لأن الدَّينَ ربما عدوه نقصا. وهؤلاء المصابون بداء الشعور بالحقارة يود بعضهم بعضا بالغريزة، ويساعد بعضهم بعضا مادام ليست بينهم خصومة على خير مرجو، ومادام لا يحجب أحدهم الآخر عن الظهور؛ وهم عندما يساعد بعضهم بعضا يكونون كأنما هم حِلف على الباطل قد عمل بحرف الحديث:(أنصر أخاك ظلماً أو مظلوما) وأغفل معناه الحقيقي؛ وهم إذا تعاونوا على الباطل يعرفون أنهم لا يشبعون نهمتهم من العظمة الباطلة التي يخفون بها ما كمن من الشعور بالحقارة إلا بالتساند؛ أما إذا تخاصموا على مظهر من مظاهر التعاظم فلا يتعففون من التحارب بأقذر سلاح كما كانوا يتعاونون به
وهم يضحون بالسعادة والصحة والمال وبأحب عزيز وبسعادة كل من يعقوهم كي يبلغوا مظاهر التعاظم التي يخفون بها ما كمن في العقل الباطن وفي السريرة من الشعور بالحقارة. وإذا بلغ هذا المرض أشده لم يحجم صاحبه عن الجرائم؛ وقد يؤدي إلى الجنون وهو مرض شائع، وبعض مظاهره ليست حادة ولا مسببة للحزن والتعاسة كما تسبب حالاته الشديدة. فمن حالاته البسيطة التي ربما كانت تدعوا إلى الفكاهة أن يقابلك إنسان مصاب بهذا المرض وهو يعرف اسمك تمام العرفان فيناديك باسم آخر، فإذا كان اسمك محمدا قال: كيف حالك يا مصطفى بك؟ وهو يفعل ذلك كي يشعرك أنه أعظم شأناً من أن يتذكر اسمك؛ فإذا صححت له اسمك اعتذر ثم يعود بعد قليل فيناديك بالاسم الخطأ: قائلاً أليس الأمر كذلك يا مصطفى بك؟ ولا يناديك باسمك مهما صححت خطأه. ومنهم الصغير المنزلة الذي يقابلك فيتلطف في الحديث فإذا لمح إنساناً يعرفه رفع صوته بلهجة الآمر كي يشعر السامع أنك تقبل منه هذه اللهجة لعظم أمره. ومنهم صاحب الأباريق في قصة الموظف المشهورة الذي أحيل على المعاش فاشترى أباريق وملأها ماء وجلس عند المسجد الجامع يقول لكل طالب ماء بلهجة الآمر: خذ هذا. . . لا تأخذ ذاك. وهذا المثل الأخير قد
يكون من أمثلة داء الشعور بالعظمة، والحقيقة أن مظاهر داء الشعور بالعظمة، ومظاهر داء الشعور بالحقارة قد تختلط، ولكن المحك الذي تعرف به وتميز هو إما ثقة صاحب الداء بنفسه وعظمتها ثقة لا تدعو إلى القلق، وإما أن مظاهر تعاظمه يخالطها القلق والحقد والحسد والدناءة والسفالة، فالأول أكثر اطمئناناً حتى أنه قد لا يشعر بمخر الساخر به، وقد يكون في تكبره كريماً أو رحيم النفس، وهو إذا ارتكب إثماً فإنما يرتكبه باسم العظمة والإصلاح، ويرتكبه وهو مطمئن وادع لا حقد يشوب إثمه ولا قلق ولا دناءة كما تشوب هذه الصفات إثم المصاب بداء الشعور بالحقارة، والأول إذا تواضع تواضع في كبر المبالغ الواثق بنفسه، وإذا تكبر تكبر بكبر الواثق بنفسه الذي لا يشعر بسخر الناس به، وهذا المصاب بداء العظمة لا يتلصص في تحايله ووسائله كما يفعل صاحب الشعور بالحقارة الذي هو أميل إلى الكيد والدس
والموظف الصغير المنزلة في المصرف أو في الدواوين الذي يتعالى ويتعاظم ويتصام ويتفخم ويحملق في وجوه أصحاب الحاجات ويتباطأ في إجابتهم من غير سبب أو معذرة إنما هو مصاب بداء الشعور بالحقارة. ولعله يتشفى بهذه الأحوال مما أصاب نفسه من تعاظم من هو أعلى منه منزلة تعاظماً شعرت به الذلة والمسكنة. وفي بعض حالات هذا المرض لا ترى سبباً ظاهراً له، فقد يصاب به الرجل من بيت عز وعلم فتتلمس العلل الخفية فتقول هل طغى عليه أبوه في تربيته في الصغر طغياناً يشعره الذلة والمسكنة، فإذا ورث أباه غطى ما ورثه على ذلك الداء من غير أن يعصمه من الأقوال والأعمال الناشئة منه، أم هل ورث هذا الشعور عن أجداده، أم أنه داء يعدي كما تعدي بعض الأمراض النفسية بالمحاكاة ولطول العشرة وحكم البيئة
ومما يلاحظ أن المحاكاة والعشرة والبيئة قد تنقل مظاهر هذا الداء في المدارس من تلاميذ مصابين به إلى تلاميذ على الفطرة والسذاجة. ولعل المدارس المصرية أكثر مدارس العالم ديمقراطية لكثرة مجانية الفقر للتفوق ولانخفاض المصروفات فهي تساعد انتقال الصفات من طبقة إلى طبقة، فالفقراء يحاكون الأغنياء فيخسرون، وأبناء الأسر الطيبة تحاكي أبناء أسر أقل طيبة فيخسرون أيضاً وإن كان لهذه الديمقراطية مزايا
عبد الرحمن شكري
من برجنا العاجي
من أحب المطالعات إلى نفسي كتب العالم الرياضي (هنري بوانكاريه). عندي من مؤلفاته ثلاثة كتب: (العلم والطريقة) و (العلم والفرض) و (قيمة العلم). قرأتها لأول مرة منذ عشر سنوات. وأعود إليها من حين إلى حين. إنها لتسحرني كما تسحر الأطفال قصص ألف ليلة وليلة. فأنا الآن لا أقرأ كثيراً كتب الأدب. لأني أنا نفسي أصنع كتباً في الأدب. ولكني أحب أن أصغي إلى أولئك الذين يبحثون في صمت عن الحقيقة. هؤلاء الذين عندهم ما يقولون ولكنهم يترفعون عن الكلام. فإن الحقيقة التي يحاولون أن يتصيدوا شبح خطاها خلف (المكرسكوبات) و (التلسكوبات) لأروع من أن توضع في ألفاظ وعبارات. على أن ما يعنيني من كلام هؤلاء العلماء ليس الأرقام والمعادلات أي (الوسائل)، ولا يعنيني كذلك ما وصلوا إليه من (نتائج)، ولكن الذي أقرأ من أجله كتبهم هو تلك الإِشراقات الذهنية التي تلمع من خلال بحوثهم فتضيء جانباً من جوانب الفكر المهجورة. ليس العلم في ذاته هو الذي يهمني، ولكن هي (العقلية العلمية) في مصادمتها ومواجهتها للأشياء. لا شيء يلذ لي مثل مجالسة (عالم) متسع الأفق. وهذا النعت لا ألقيه جزافاً، فإن من كبار رجال العلم من هم ضيقو الأفق، أي سجناء معادلاتهم وأرقامهم، يصلون بها مع ذلك إلى نتائج باهرة في صميم العلم، ولكنهم قلما ينظرون إلى العالم الخارجي. إنما الطراز الذي أقصد، هو طراز رجل العلم المطبوع الذي يخرج بعد ذلك لينظر بعين العلم وعقلية العلم إلى الكون بمعناه الواسع. هي (فلسفة العلم). ما أريد هنا بعد هذه القراءات أن يتضح لي أنا (رجل الأدب) كيف أن مخلوقاً آخر يسمى (رجل العلم) ينظر إلى ذات الأشياء التي أنظر إليها ويفكر في هذا الكون الذي أفكر فيه ولكن بعين أخرى وعقل آخر. ومن يدري؟ لعل أكثر هؤلاء العلماء هم أيضاً لا يلذ لهم شيء مثل قراءة ومجالسة (رجال الأدب) فما الأمر في باطنه إلا شوق وحب استطلاع بين نوعين مختلفين من هذا الحيوان المفكر
توفيق الحكيم
ليلى المريضة في العراق
للدكتور زكي مبارك
- 13 -
لقد آذاني معالي السيد أرشد العمري، وكظمت غيظي فلم أسمعه ما يكره، وقلت في نفسي: إن الرجل تصور أنني أهنته فسحب مني الدعوة، والجروح قصاص
وقلت: هم سيقضون السهرة في الرقص وسأقضيها في التأليف وأنا أجد لذة ممتعة حين أراني أجد في وقت يلعب فيه الناس
وتذكرت أني أشغل مطبعتين في بغداد، وأن من الخير أن اعتكف في المنزل فأحضر بعض الوقود لجحيم المطابع
وكذلك اطمأننت إلى الزهد في ليلة بغداد التي وُعِدَ بها المؤتمرون!
ولكن ما هذه الدعوة الجديدة؟ هي دعوى لسياحة طريفة في ضواحي الكرخ وبغداد، نتفرج بها على إسالة الماء. وأنا قد أمضيت نحو خمسة أشهر محبوساً بين المكاتب والأوراق، ولم أر في بغداد غير الجادة والدربونة ودار المعلمين العالية وكلية الحقوق وما تيسر من سواد العيون
وسرت مع السائرين للتفرج على إسالة الماء وأنا أرمي إلى غرضين: الأول الترويح عن النفس، والثاني كتابة بحث لمجلة المقتطف عن تكوين الصهاريج
فهل روحت عن نفسي وأعددت مواد البحث المنشود؟
ما صنعت شيئاً من ذلك، وإنما دارت الأرض تحت قدمي حين رأيت صاحبة العينين، فكان المهندسون يشرحون الدقائق العلمية في تقطير المياه لتزويد الكرخ وبغداد بالماء النمير، وكنت أنظم الخطط لأكون دائماً بالقرب من صاحبة العينين. ومن العجيب أن أمري لم ينكشف؛ ومضى المهندسون وهم يعتقدون أنني كنت المستمع الواعي، وأن سائر المستمعين لم يفهموا إلا أن الكرخ وبغداد تسقيان من دجلة لا من الفرات
ولمثل هذه المواقف منحنا الله نعمة العقل!
ومضينا فتناولنا الشاي والفاكهة فوق العشب الأخضر وبين الأشجار التي أذوتها أرواح الشتاء، وأدير على الحاضرين صوت أم كلثوم:
على بلد المحبوب وديني
…
زاد وجدي والبعد كاويني
فكانت بلد المحبوب عندي هي المائدة التي تجلس عليها صاحبة العينين، ولكن أين من (يوديني) هناك؟ إن أسوان أقرب من هذه المائدة وليس بيني وبينها غير ثلاث خطوات
يا مسافر على بحر النيل
…
أنا ليَّ في مصر خليل
فرمقتني صاحبة العينين بنظرة حنان. فمن الذي أعلمها أني نشأت في ديار النيل؟ من أعلمها ذلك وعلى رأسي سدارة، والمصريون كلهم مطربشون!
وهممت بالتسليم عليها، ولكن صدتني العصابة التي كانت تحرسها مني، وصدني أن مكاني كان قريباً من مكان رئيس الوزراء
ثم تقوض المجلس وانفض الناس، والدنيا اجتماع وافتراق
كيف السبيل إلى رؤية هذه الظبية في المساء؟
إنها ستكون بالسهرة البغدادية التي وُعد بها المؤتمرون
وأنا ممنوع من سهرة بغداد
ولكن من الذي يمنعني؟
هو أمين العاصمة حضرة صاحب المعالي أرشد العمري.
أهلاً وسهلاً بمعالي الأمين!
أأنت الذي يمنع الدكتور مبارك من ليلة بغداد بعد أن كتب عن مجد بغداد ما لم يكتب مثله كاتب في قديم ولا حديث؟
أنت مهندس بغداد، وأنا أديب بغداد، وسترى لمن يكون الخلود. . .
وأخذت أفكر فيما سأصنع، فهذه الظبية ستكون في المرقص وسأجد الفرصة لمخاصرتها مرة أو مرتين بعد أن يتلطف الشراب في رياضة العصابة التي تحرسها مني!
وأنا قد تعلمت الرقص في باريس وأخشى أن أنساه، وحياة العلم مذاكرته كما قال القدماء
وهل من الإثم أن أهتم بمذاكرة ما تعلمت؟ وهل أنفقت من الوقت والمال في سبيل الرقص ما أنفقت لتضيع مني فرصة من فرص بغداد؟
لابُدّ من حضور هذه السهرة.
لابُدّ مما ليس منه بُدُّ
ولكن كيف ألقى معالي أرشد العمري وهو غضبان؟
أنقف فنتناوش ونتضارب؟ وهل أرسلتني مصر إلى العراق لأصنع ما يصنع الأطفال؟
لو كانت المسألة بيني وبين هذا الرجل مسألة شخصية لضاربته وقاتلته بلا تهيب. وما أحسبه يزعم أنه أقوى مني، ولكن المسألة أني مصري وهو عراقي، وأنا أنفق دمي في خلق الصلات بين مصر والعراق، وإقامتي في بغداد أقنعتني بأن مصر لابد لها من مودة العراق، فالعراق يكاد يكون هو الشعب الوحيد الذي يسلم فيه المصريون من أذى الناس. وهذه العواطف ليست جديدة عندي، وإنما تلقيتها منذ سنة 1917 عن الأستاذ أحمد صالح حين كان يدرس التاريخ القديم بالجامعة المصرية، فقد حدثنا عن مودات صوادق أقامها لحلف الشريف بين المصريين والبابليين، وما جاز في عهد الجاهلية لا يستحيل في عهد الإسلام إلا أن نكون من الأغبياء
وتذكرت أن بغداد تحوطني بأشرف معاني العطف، وأنه ليس من الذوق أن أحرج رجلاً هو أمين بغداد، وهو أكبر مني سناً ولعله أكثر تجربة، والتحامل عليه ضرب من العقوق
وتذكرت شعار مصر وشعار العراق
أما شعار مصر فهو: (أحرار في بلادنا، كرماء لضيوفنا)
وأما شعار العراق فهو:
سيوفنا قاطعة لِلِّي يقابحنا
…
ورقابنا قنطرة لِلِّي يسامحنا
وتذكرت أصل الخلاف فوجدته يرجع إلى كشف الرأس في السهرة، وأنا أكره كشف الرأس لأنه قد يجرّ إلى الزكام، وأنا مدرس، والمدرس المزكوم منظره سخيف، فما الذي يمنع من الذهاب إلى السهرة بالطربوش وهو لا يجب خلعه في السهرات
هذا حلُّ موفَّق، ولكن لابدّ من الاحتياط، والاحتياط هو أن أذهب قبل الموعد بساعة إلى مكان الاحتفال عملاً بمذهب حلفائنا الفضلاء أبناء العم جون بول، ومذهبهم هو أن تحتلّ أولاً، ثم تفاوض بعد ذلك!
كان طريقي من باب المعظَّم إلى بهو أمانة العاصمة يوحي الشعر والخيال، فقد كانت ليلة عيد، وكان القمر ينظر إليّ في ترفق كأننا في سنتريس، ولكن صدري كان مكروباً بعض الكرب. فقد كانت ليلة العيد لا تقع إلا وهي موعد غرام، وهي في هذه المرة قد تكون حومة قتال
مشيت مشية المتمهل لأجتلي طلعة القمر، أو لأؤخر الشر لحظات.
فلما دخلت البهو وجدته خالياً، وكيف لا يكون كذلك وقد سبقتُ الموعد المحدد للسهرة بأكثر من ثلاثة آلاف ثانية؟ لقد وجدت البهو كالقلب الخليّ الذي تفكر المقادير في شغله بالحب، وجدته كالغادة التي تنتظر العاشق الصوال
دخلت وحدي وتلفتّ فلم أجد أحداً؛ وبعد لحظة لمحت شبح معالي الأمين وهو يتمرن على الطواف قبل قدوم الحجيج
وبعد دقائق نظرت فرأيت رجلاً يعدو إليّ عَدْواً فقلت: هذه طليعة الشر، وتأهبت للصِّيال
ولكن الرجل أخلف ظني كل الإِخلاف، فقد حياني أجمل تحية، وأخذ يدي برفق فدلني على المقصف فحسبته صديقاً قديماً أنستنيه الأيام، فقلت:
سيدي، هل لك أن تُذكرني متى تلاقينا أول مرة؟ أتراني عرفتك في القاهرة أو في باريس، ذكرني فقد نسيت!
فأجاب في لطف:
ما أذكر يا مولاي أننا تلاقينا قبل اليوم، وإنما رأيت الطربوش فوق رأسك فعرفت أنك من مصر العزيزة، وللمصري على العراقي حقوق الأخ الشقيق
فرفعت الكأس وقلت: تعيش بغداد، ويحيا العراق.!
وسألت بعد ذلك عن اسم هذا الرجل الشهم فعرفت أنه المهندس نجيب نورس الياور، وكذلك استحال على معالي أمين العاصمة أن يلقاني بغير الابتسام
نحن الآن في بغداد، في ليلة ما رأى مثلها الرشيد، وإن تَعبَ الواصفون في التذكير بليالي الرشيد. هي ليلة بغدادية لا قاهرية، لأن القاهرة حين تعرف أمثال هذه الليلة تنقلها نقلاً عن الغرب، ويختلف حولها الفقهاء؛ أما بغداد فتعرف الليالي الساهرة عن الآباء والجدود. هي ليلة سيذكرها من رآها وستحتل أقطار ذهنه إلى اللحظة التي يعاني فيها سكرات الموت؛ هي ليلة تمثل الفتوة العراقية وتذكر الجاهلين بأن الشعب الطروب لن يموت
كان الناس كلهم في سماحة الملوك، وكنت وحدي أبخل الحاضرين، فقد سألني رجل عظيم متى أرقص، فكذبت عليه وقلت لن أرقص، مع أني ذهبت إلى ناحية قَصيّة وراقصت ثلاث فتيات، وعاقرت الثغور سبعين مرة أو تزيد، وعند الكرام الكاتبين جريدة الحساب
لا أدري والله ماذا صنعت في تلك الليلة، إلا حادثتين اثنتين: الأولى حين دخلت المقصف بعد الدورة الرابعة من دورات الرقص فقد ارتفعت الأصوات: يحيا الدكتور زكي مبارك! وكان الأستاذ علي الجارم بك بين الحاضرين فانتظرت أن يهتف باسمي فلم يتردد كما كنت أتوقع، وإنما هتف هتاف الصديق؛ ثم شق الصفوف إليّ فعانقني وهو يقول: أنا فرحان لك يا دكتور زكي! فرحان لك يا أخوي، فرحان لك يا حبيبي، فرحان لك يا نور العيون يا زهرة مصر في العراق
وإنما عددت هذه الحادثة لأن المواطنين لا يفرح بعضهم لبعض إلا في قليل من الأحيان
ولا مؤاخذة يا جارم بك، يا حبيبي يا نور عيوني، يا أحلى من ملح رشيد!
أما الحادثة الثانية فهي طرفة لا تقع من رجل سواي
فقد عثرت في الطواف على فتاة خشنة جافية تصلح لأن تكون مديرة لإحدى المدارس الثانوية، ولكنها لا تصلح لأن تكون غادة في مرقص، فقلت في نفسي: ما الذي يمنع من التصدق على هذه الفتاة بقبلة أو قبلتين؟
وأنا في الحقيقة (رجل إنسان) كما يعبر أهل القاهرة، أو (رجل آدميّ) كما يعبر أهل دمشق. وما أذكر أبداً أن سائلا سألني وخيبته، وأنا لا أستحي من الجود بالقليل لأنه على كل حال أفضل من المنع؛ وقد أكرمنا الله بالغنى، فمن اللؤم أن نكون بخلاء
طافت هذه الخواطر بنفسي وأنا ألمح تلك الفتاة الجافية فقلت إن ليلتي هذه لن تخلو من سيئات، ولابد من حسنة تمحو ما سأقترف من سيئات، فتوكلت على الله وأقدمت
سلمت على الفتاة فاستراحت للسلام، وإن كنت لا أعرفها ولا تعرفني
وقبلت يدها فابتسمت
فقبلت جبينها وخديها، ثم قبلت جبينها وخديها، وانصرفت
ولكني لم أكد أخطو بضع خطوات حتى سمعت رجلاً يصيح: يا دكتور مبارك! يا دكتور مبارك!
فالتفتّ مذعوراً فإذا سكرتير مجلس الوزراء. فقلت: وقعت الواقعة وحقّت الفضيحة، وجمعتُ أشتات قواي وقلت: نعم، يا سيد!
فقال: لن نحاكمك إلا إلى قول شاعركم شوقي
فقلت: وماذا قال شوقي؟
فأجاب إنه قال:
نظرة فابتسامة فسلام
…
فكلام فموعد فلقاء
فهو قد فرض أن تسبق القُبلة بستة أشياء، وأنت قبّلت بدون مقدمات
فقلت: يا سعادة الأستاذ، لقد عرفت شيئاً وغابت عنك أشياء. إن شوقي قال هذا البيت منذ خمسين سنة يوم كان القطار أسرع ما عرف الناس، ونحن اليوم في عصر اللاسلكي والطيران فلا تلمني إن قبلت بدون مقدمات، فمن العقل أن نتخلق بأخلاق الزمان
طابت السهرة وطابت ثم طابت، وعرفت فيها طبيباً نبيلاً كان يصادقني عن طريق مؤلفاتي، وسيكون من الذين أقبل من أجلهم ثرى بغداد يوم أفارق بغداد، وصداقة الأرواح شيء نفيس، ومودة العقول من ذخائر الرجال
وكانت ليلتنا كما قال ابن المعتز:
ثم انقضت والقلب يتبعها
…
في حيثما وقعت من الدهر
فأين ليلتنا من الدهر؟ أين؟ أين؟ إنك يا دهر لظلوم!
كنت أول من دخل البهو في تلك الليلة، وكنت آخر من خرج، ولولا الحياء لطلبت المبيت هناك لأستنشق ما بقي من أنفاس الظباء
رجعت إلى المنزل، ولا أذكر كيف رجعت، فقد استيقظت قُبيل الشروق، فرأيت مصابيح البيت كلها مضاءة، ورأيتني في ثياب السهرة كما كنت، فعرفت أنني دخلت البيت بلا وعي ولا إحساس
ولكن لا بأس فقد عشت ليلة من ليالي بغداد
وإلى معالي أرشد العمري تحيتي وثنائي!
هذا صباح العيد، وهذا طوافي برياسة مجلس الوزراء، أصافح الرجال الذين عناهم الشريف الرضي حين قال:
نحاسن أقمار الدجى بوجوههم
…
فنبهرها نوراً ونغلبها سعداً
تخالهمُ غِيداً إذا بذلوا الندى
…
وتحسبهم جناً إذا ركبوا الجردا
هذا هو الرجل العذب الروح النبيل الشمائل جميل المدفعي رئيس الوزراء الذي لا يصدق
من يرى صباحة وجهه أنه من صناديد القتال، والليث لا يكون شتيماً في كل حين
وهذا وزير المواصلات، الصديق الذي أحببته منذ رأيته في سهرات رمضان
وهذا وزير الداخلية يلوم ويعتب لأنه يراني أستبيح من أساليب التعبير ما لا يستبيح أدباء باريس
ويتفضل صديق عزيز فينقلني بسيارته إلى منزل صاحب الفخامة نوري باشا السعيد، وكنت أتمثل نوري باشا رجلاً كهلاً أضوته السنون، فأراه فتىً خفيف الروح كأنما قدم بالأمس من ملاعب مونبارناس؛ ويقبل عليّ فخامته فيقول: أنا تلميذك بالفكر، يا دكتور مبارك، لأني قرأت جميع مؤلفاتك
ويروعني هذا اللطف فأقول: (لقد علم الله كرم نفسك فحفظ عليك شبابك يا فخامة الرئيس)
ويقبل عليّ الحاضرون فيسألون عن صحة ليلى، فيبتسم نوري باشا ويقول:
(إن ليلى المريضة في العراق هي شبكة ينصبها الدكتور زكي مبارك لتقع فيها إحدى الليليات)
وأتألم من ذلك فأقول: (إن مولاي نسي أنه تلطف فأعان الضابط عبد الحسيب على الانخراط في سلك الجيش العراقي سنة 1926)
ويمسح نوري باشا جبينه ويقول: (تذكرت، تذكرت، شفى الله ليلى على يديك)
ثم نمضي فنزور معالي مولود مخلص رئيس مجلس النواب فنرى الرجل الذي أفهم العالم أن من واجب الجيش الإنجليزي أن يحسب ألف حساب للجيش العراقي، ونسمع الفصاحة العربية التي كانت تعذُب وتطيب على ألسنة الغزاة الفاتحين
وفي مساء يوم العيد نحتفل بعيد صاحب الجلالة فاروق الأول احتفالاً فخماً يشاركنا فيه أقطاب العراق
وفي اليوم التالي أمضي لإلقاء محاضرتي في المؤتمر الطبي فيقبل علي عشرون طفلاً وهم يصيحون: (الدكتور زكي مبارك، الدكتور زكي مبارك)
ويجيء صديق من الأطباء السوريين فيقول: (لقد صارت طلعتك بهجة لأطفال بغداد يا دكتور مبارك! (فينهمل دمعي وأقول: (نعم، فهذه الطفلة تشبه كريمة، وهذا الطفل يشبه عبد السلام، وهذا يشبه عبد المجيد، وتلك الفتاة تشبه زينب، وهذا الفتى يشبه سليمان)
أبنائي الأعزاء، لقد نهبتني منكم بغداد، فاغفروا لي ذنبي فما ذقت حلاوة العيش إلا في بغداد
تحدثت عن الليلة السعيدة التي أقامها معالي أمين العاصمة، وكنت أحسبها خاتمة الليالي الملاح، ثم ظهر أن هناك ليلة أروع وأظرف، وهي ليلة الجمعية الطبية العراقية. فلنذكر بالتفصيل ما وقع في تلك الليلة من ضروب الفُتون، فقد تمر أعوام قبل أن تشهد مثلها بغداد، وقد تسكت عنها الأقلام فتذهب ذكراها من القلوب
ومن الواجب عليّ وقد أجاب الأطباء دعوتي فعقدوا المؤتمر العاشر في بغداد ليعاونوني على مداواة ليلى، من الواجب أن أسجل بقلمي ما صنعوا من الطيبات حين عطروا بغداد بليال أروع وأنضر من ليالي الرشيد، ولن يكون هذا آخر العهد بالأنس يا بغداد.
(للحديث شجون)
زكي مبارك
إلى سر السيد جمال الدين
بمناسبة ذكرى وفاته
للأستاذ عبد المنعم خلاف
على القبر الذي في ضفاف البوسفور سلام دائم كِفَاء الحرب الدائمة التي شنها مدى عمره على الطواغيت الثلاثة: الجهل والاستبداد والتفرق. . . عناصر الشر العريق الخالد، وثالوث الشقاء الأسود الذي تبتلى به الإنسانية حين يراد ضياعها وإهدارها وتبديد معناها
وسلام على القصر الذي سلسله فيه عبد الحميد بسلاسل الذهب وأضواه فيه بالموفور الميسور من الغذاء والديباج والخز. . . وخنقه فيه بشذا الورود والريحان. . . ثم أعجل أجله بالطب. . . حتى اطمأن إلى أن درع روحه قد ووري التراب. . .
وقبلات طاهرة مقدسة على اليد البالية التي أشارت لمحمد عبده وسعد زغلول وشكيب أرسلان وغيرهم إلى الطريق فسلكوا بالقطيع فيه ليخرجوه من المهالك والمضايق والجدب والعقم. . .
يا أيتها النفس المطلقة الحرة التي ضرب الله بها مثلاً لسطوة العلم والروح وبطشهما بقوة الملك والسياسة. . . تُرَى ما الذي تَيَّمك حتى يَتَّمك من الأرض والوطن وفطمك من حياة الزوجية والاستقرار والهدوء والعيش السالم الناعم؟!
ترى ما الذي شرد النوم من جفونك ورمى بجسمك المرامي القاضية، وجعلك (طيراً على كل غصن) يضرب بجناحه في أجواء الشرق الإسلامي ويصرخ في الأرض النائمة ليوقظ صرعى الطواغيت الثلاثة في الهند والأفغان وإيران والعراق والشام والحجاز ومصر وتركيا والمغرب. . .؟
ثم ما الذي شرد النوم من جفون (جونبول) وعبد الحميد وناصر شاه وتوفيق، حتى طاردوك وتآمروا ودبروا وكادوا واحتالوا باليد الباطشة الحمراء. . . و (العين) الرنانة الصفراء؟. أهو روح النار التي كانوا يخافونها على ما جمعوه من هشيم. . .؟
أهو روح القوة التي خافوها من مثل صيحتك في ميدان باب الخلق بالقاهرة بكلمتك المشهورة: (أيها الفلاح المصري الذي يشق الأرض بالمحراث، لم لا تشق به قلوب مستعبديك؟!) فخشوا أن تحيل النفوس الخزفية إلى حديد ذي بأس شديد. . . وأن تركِّب
براثن ومخالب وأنياباً لذوات الحوافر والأظلاف، والقواضم والأضراس من القطعان السائمة التي ترعى لتذبح أو تحلب أو تجرجر الأثقال الدائمة أو تدور على نفسها في الحظائر تمضغ الجفاف وتجترُّه في غيبوبة عن الدنيا ذات الجنات والأنهار والعيون. . .؟
أم هو روح الحق الذي تقمصك فجعل مرآك ومنطقك ومجلسك ثلاثة مفاتيح تفك الأغلاق والأقفال والقيود عن العانين المأسورين للأصنام الإنسانية والطواغيت الثلاثة؟
أم هو روح النور الذي مددْت خيوطَه إلى كل عين رأتك فرأت به الظلام الممدود على الشرق والواقعَ الأليم على الإسلام؟
أم هو روح الثورة التي تضرمها عيناك في كل قلب يراك حتى ولو من وراء عدسة المصور. . . وأنت في بطن الأرض؟!
بل كل هؤلاء جميعاً هو سرك الذي أعيا أعداءَك جهادهُ. .
رَأى الدنيا ذات الصبح العريض المالئ للآفاق، المشرق على الناس من الغرب. وهو في أعماق الشرق بين جبال الأفغان أو إيران فقبس لمصباحه منه وأخذ عصاه رحالةً يقرع أبواب المسلمين النائمين الحالمين من الحاكمين والمحكومين، وينفخ في بوقه هاتفاً بالصوت الموقظ المنذر في الأرض النائمة، مشيراً بعصاه إلى الضوء الجديد في الأفق البعيد. . .
ثم سار في خرائب الممالك الإسلامية وأطلال المجد القديم يلتقط النفوس الدُّرِّية والحديدية من الخزف والحطام والتراب. ويقبض عليها بيديه القويتين فما يتركها حتى يصقلها وتمسها كهرباؤه وتتصل بمرجل الثورة في قلبه ثم ينثرها على الآفاق الإسلامية تكهرب الجو وتضيء وتزين وتحطِّم. . .
سَلِم من خديعة الشيطان ومكره بالعلماء رجال الدين الذين يكتفون في جهاد الإثم والجهل بأن يعكفوا على الدفاتر والمحابر فيسْكروا بما فيها كما يسكر العاكفون على الخمر فيغيبون عما حولهم من أحداث الدنيا وسياسة الحياة، ويتركون القلوب فارغة ويملئون الرءوس بالبلبلة والأحافير وألاعيب الألفاظ. يبتغون الخلود بزعمهم في التاريخ والصحف. . . وهم يفقدون نفوسهم في الحياة
فبَرئَ جمال الدين من العلم الصامت البارد وأدخل تعاليمه إلى نفوس تلاميذه ومريديه في حرارة بعد أن هزهم هزاً عنيفاً، وكتب رسالته على أرواحهم ومات فقيراً من ميراث
الورق المسطور. . . الذي يتباهى به أكثر العلماء الحفاظ، بعد أن عاش في ألفاظه وتعاليمه وعلم تلاميذه أن يعيشوا كذلك. . . ولذلك أحدث كل منهم ثورة وسار على قدم أستاذه فسجن وعذب ونفي وشرد
هذه مقاطع آلامه كما رواها تلميذه الأمير شكيب أرسلان
(لا أريد أن أسر المسلمين بكلمة، هؤلاء قوم كلما قال لهم الإنسان: كونوا بني آدم. . . أجابوه: إن آباءنا قد كانوا كذا وكذا. . . وعاشوا في خيال ما فعل آباؤهم غير مفكرين بأن ما كان عليه آباؤهم من الرفعة لا ينفي ما هم عليه اليوم من الخمول والضعة)
(قد فسدت أخلاق المسلمين إلى حد أن لا أمل بأن يصلحوا إلا بأن ينشئوا خلقاً جديداً وجيلا مستأنفاً. فحبذا لو لم يبق منهم إلا كل من هو دون الثانية عشرة من العمر، فعند ذلك يتلقون تربية جديدة تسير بهم في طريق السلامة)
(إن المسلمين قد سقطت هممهم ونامت عزائمهم وماتت خواطرهم وقام شيء واحد منهم وهو شهواتهم)
وهذه مطالع آماله كما ترجمها تلميذه الأكبر الإمام محمد عبده:
(صفاء العقول من كدر الخرافات وصدأ الأوهام، والإسلام يقتضي ذلك، لأن أول ركن بني عليه صقل العقول بصقال التوحيد وتطهيرها من لوث الأوهام. . . وأن تكون نفوس الأمم مستقبلة وجهة الشرف طامحة إلى بلوغ الغاية منه ماعدا رتبة النبوة فإنها بمعزل عن المطمع. . .
(وإن دين الإسلام فتح أبواب الشرف في وجوه الأنفس وكشف لها عن غايته وأثبت لكل نفس صريح الحق في أي فضيلة
(وليس الإسلام كدين (برهما) الذي قسم الناس إلى أربعة أقسام وقرر لكل منزلةً لا يتجاوزها. . . ولا هو كاليهودية التي تخص شعب إسرائيل بالكرامة والإجلال وتذكر غيرهم بالتحقير، ولا هو كالمسيحية التي تذهب إلى أن رؤساء الدين أقرب إلى الله من جميع البشر وأنهم وساطة رضاء الله. . .
(وأن تكون عقائد الأمة مبنية على البراهين القويمة مجانِبةً مُطالَعَة الظنون وتقليد الآباء كما يحتم القرآن
(وأن يكون في كل أمة طائفة تختص بتعليم سائر الأمة، وطائفة أخرى تقوم على النفوس بالتهذيب والتعديل. . .)
وهذه عزائم جهاده في السياسة كما لخصها الأستاذ الجليل مصطفى عبد الرزاق بك:
1 -
تخليص بلاد الإسلام من نفوذ أوروبا وخصوصاً إنجلترا.
2 -
تخليصها من الاستبداد وإنشاء النظم الحرة الدستورية فيها
3 -
جمع كلمتها بجميع فرقها تحت زعامة واحدة
وهذه وسائله السريعة التي تخيرها لتحقيق غاياته كما رآها (تشارلن آدمز): (الثورة السياسية التي عرف أنها أسرع الطرق وآكدها لتحرير الشعوب الإسلامية وتغذيتها بالحرية الضرورية لتنظيم شئونها. أما وسائل الإصلاح التدريجي والتعليم فكان يرى أنها بطيئة جداً غير محققة العاقبة)
فهو الذي أوحى بالثورة الفارسية التي بدأت بالهياج ضد احتكار التنباك في سنة 1891 وانتهت بوضع دستوره في أغسطس سنة 1906، ووالاها بالتشجيع والتأييد
وهو الذي مهد بتهييجه المتواصل للحركة التركية الموفقة التي قامت سنة 1908
وهو الذي دفع الحركة الوطنية المصرية التي ساء ختامها بفشل الفتنة العرابية
وهكذا كان أيان يذهب يترك وراءه ثورة تغلي مراجلها
وصفوه لنا. . .
فقالت أقلام الشرق: (حنيفي حنفي مع ميل إلى مشرب السادة الصوفية رضي الله عنهم (هو حليم يسع حلمه ما شاء الله أن يسع إلى أن يدنو أحد ليمس دينه أو شرفه فينقلب إلى غضب تنقض منه الشهب، فبينما هو حليم أواب إذا هو أسد وثاب. . .)
(وبالجملة فلو قلنا إن ما أوتيه من الذكاء هو أقصى ما قدر لغير الأنبياء لكنا غير مبالغين)
هذا بعض قول محمد عبده فيه. وهاك بعض ما قاله الأمير شكيب:
(كان في أطوار حياته فيلسوفاً كاملاً عالماً عاملاً. . . فكان يفطم نفسه عن الشهوات، ولا يرى من اللذات إلا اللذة العقلية. وقد حاول السلطان عبد الحميد أن يعلق قلبه بالمال والبنين ويشغله بزينة الدنيا وراوده على الزواج فأبى وأعرض وقال له: (قضيت حياتي مثل الطير على الغصن، فلا أريد في آخر أيامي أن أتعلق بعائلة) وقال في مثل هذا المقام: (لم تدخل
روح الفلسفة في هذه الأمة)
وقالت أقلام (رينان) و (روشفور) و (بروان) من الغرب:
(كنت أتمثل أمامي عندما كنت أخاطبه ابن سينا أو ابن رشد أو واحداً من أساطين الحكمة الشرقيين)
(السيد جمال الدين الأفغاني من سلالة النبي، والمعدود هو أيضاً أنه أشبه بنبي. . .)
(كان رجلاً ذا خلق قوي، غزير العلم موفور النشاط، لا يجد الوهن إليه سبيلاً، جريئاً مقداماً؛ وكانت فصاحته لا تجارى خطيباً كان أم كاتباً؛ وكان لطلعته هيبة في النفس وعظمة وجلال؛ وكان فيلسوفاً وكاتباً وخطيباً وصحافيّاً، ولكنه كان فوق ذلك سياسيّاً. . .)
سياسي يغربل الحوادث ويعلق عليها ويرسم حدود الدولة والحكم الصالح للأجسام. . . وحبر ديني يصقل جوهر الإنسان ويرسم حدود الحكم الصالح للأرواح. . . وفيلسوف يخشى على حكمته التي رأى أمته في حاجة ماسة إليها، أن يجلب لها ضرائر تكيدها وتصرفه عنها، فلم يبتغ صاحبة يبني لها عشاً أو يقيم لها سقفاً يحن إليهما ويجبن بهما ويبخل. . .
وصوفيٌّ لا يُخدع بالتراب المزَوَّق، وينفق من الكنوز الخفية في ملكوت السموات والأرض. ولذلك أبى قبول الرتب والأوسمة التي عرضها عليه السلطان، فلما سئل في ذلك قال:(أكون كالبغل يحمل على صدره الجلاجل؟!)
وكذلك لما أصدر الخديو توفيق أمره بنفيه وعرض عليه قبيل السفر أحد أصدقائه الأثرياء من المصريين بعض النقود ليستعين بها في السفر قال له: (أبقها لك فإن الأسد لا يعدم فريسة أينما حل)
رجل رمزي فنان! رأيت له صورتين ما يفطن إلى شرح وضعه فيهما أحد فيما أعلم: إحداهما صورته وهو واقف قابض بيده على نموذج الكرة الأرضية. وهو رمز عظيم ومعنى جليل يدل على اتساع روحه ورحابة نفسه
وثانيتهما صورته وهو على سرير المرض في أواخر أيامه، وقد أمسك بيده المصحف الكريم ومسبحة، وبسط أمامه صحيفة إفرنجية، وذلك رمز واضح للدلالة على المعاني التي كانت تملك نفسه من الدين والتصوف والسياسة، وخلاصة مفيدة عن ذلك الرجل الذي التقى
فيه الشرق والغرب لقاء عجيباً!
يلتفت إليك الشرق الإسلامي كله في هذه الأيام يا أيها القبر الذي ضم جثمان نذيره في القرن التاسع عشر بعد أن ختله مرض الجبابرة والعباقرة: السرطان. . أو غول السياسة. . كما يتحدثون والديان أعلم!
عبد المنعم خلاف
فلسفة التربية
تطبيقات على التربية في مصر
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 12 -
(لا معرقل لنهضة الأمة أشد وأفدح من تباعد ثقافتها وانقسام عقليتها)
(* * *)
(لقد قررنا أن نجعل كل مواطن موضع عناية الدولة وحمايتها، فعشرات الملايين محرومة الآن مما نسميه بمقاييسنا الدنيا (ضرورات الحياة)! ولذلك سيكون مقياس نجاحنا هو: لا هل أضفنا زيادة لأغلب أولئك الذين عندهم الكثير! بل هل قدمنا الكفاية لأولئك الذين ليس عندهم إلا أقل القليل)؟!
(الرئيس وشنطن)
2 -
الأمية وانقسام الثقافة
تبينت في المقال السابق أهمية الموضوع وخطورته بالنسبة لمصر ولاسيما في عصرها الراهن، وعلمت بأمر هذه الرسالة النقدية الحصيفة التي قد أخرجها (الدكتور جاكسن) أخيراً متناولاً فيها بعض نواحي النقص بالتجريح والعلاج، وستقرأ منذ اليوم تلخيصاً وتعليقاً على هذه الرسالة الفريدة، كما ستقرأ فيما بعد ما أستطيع أن أقدمه من ملاحظات واقتراحات. . .
1 -
فرصة ملائمة للإصلاح
والحق أن الفرصة الحاضرة ملائمة من جميع نواحيها لإصلاح التربية في مصر. ذلك أن تيار الوطنية الجارف قد أوجد شعوراً عاماً بوجوب النهضة، وبعث المجد القديم، والاحتفاظ بما كسبنا من حقوق، فالتنبيه إلى أن التربية الصالحة خير أداة لتحقيق هذه النهضة المنشودة يجد صداه بسهولة في الرأي العام، ويجد مكانه اللائق به في برامج الأحزاب ونفوس الزعماء؛ وإذاً فلا مندوحة لنا من انتهاز هذه الفرصة المواتية والعمل على الاستفادة منها، ولنحذر تماماً مغبة الاندفاع الكلي إلى شئون الدفاع الوطني وحده لأن السيف كما
يقولون لا يعمل إلا في يد بطل! ولنكتف بما كان فنصرف الطلبة إلى شئون الدراسة وحدها لأن السياسة قد جنت على ثقافة البلد وأخلاقه بتخفيضها نسبة النجاح نزولا على صيحات الكسالى الراسبين!!
2 -
الحاجة إلى الزعماء الكثيرين
فترى إذاً ما هي حاجة النهضة المرموقة؟ أحسب أن هذه النهضة تتطلب أولاً وقبل كل شيء زعماء كثيرين جديرين، يستطيعون أن يحملوا الشعلة وينطلقوا إلى تبديد الظلام في شتى نواحي الضعف والنقص بقلوب فتية، ونفوس حازمة، وضمائر نقية تقدر المسئولية وتتفانى في التضحية وضرب المثل الأعلى؛ زعماء لا سياسيين فحسب، ولكن أخلاقيين واقتصاديين ورياضيين واجتماعيين وغير ذلك مما تتطلبه نواحينا الكثيرة المتباينة. . . ويقع عبء تخريج هؤلاء الزعماء على المدرسة والبيت بما فيهما من معلمين وآباء!! أو قل إنه يقع على المعلمين بوجه خاص، فإذا نجحنا في إخراج هؤلاء فقد وضعنا الأساس القوي المكين. ولا سبيل إلى هذا النجاح إلا بتعليم إنساني يحفز ويثير ويقوي الشخصية ويخلق رجل المشروعات. . .! وهنالك تنحط الزعامة على كثير من الخريجين وتسعى إليهم. . .! أما تعليم الحفظ والاستيعاب والجمود والانكماش فلا يخرج إلا فراداً مصبوبين في قالب واحد، لا خلق فيهم ولا تكوين، ولا إزهار ولا إبداع!
3 -
محور الأمية وتوحيد الثقافة
ثم ماذا؟؟ يتبقى بعد تكوين هؤلاء الزعماء أن نجد (الشعب) الذي يتبعهم عن فهم وتقدير وبحماس واتحاد؟! فهل لدينا ذلك الشعب؟ ثمانون في المائة يا عزيزي أميون! وأغلب الأقلية المتعلمة لا يدري من شئون العلم غير مجرد القراءة والكتابة!! وأغلب ما يتبقى بعد ذلك سطحي الثقافة فج العلم ملتوي الشخصية خامد الشعور!! ثم ليت هؤلاء - مع الأقلية الراقية الثقافة - متحدين في العقل والقلب والعقائد والأماني!! أليس فيهم المصري الشرقي والمصري الغربي؟! أليس فيهم المعمم بكل ما له من منطق يخالف المطربش ولا يكاد يتفق معه في فهم الحياة ولا سيما ناحيتها الحديثة؟؟ كيف إذاً نستطيع أن نرجو لهذه الأمة نهضة وهي جاهلة ومنقسمة؟؟ كيف نستطيع أن نسوقها إلى الحرية والاستقلال والمجد وسوادها
الأعظم يعيش كما تعرف في كفاف العيش، وظلام العقل، ومستوى الحيوان؟! وكيف نستطيع أن نطمع في اتحادها وزهرة رجالها متباعدون لا يجمعهم عقل واحد، ومتنازعون يحاول كل منهم أن يفرض تقاليده على الآخر؟؟
4 -
روح التعليم الراهن
ومع كل فهل روح التعليم في الثقافة الشرقية (وتتمثل في الأزهر الشريف وكلياته وما يقترب منه) والثقافة الغربية (وتتمثل على الخصوص في المدارس الابتدائية والثانوية والمخصوصة والجامعة) صالح كل الصلاح؟ يرى (الدكتور جاكسون) أن ذلك الروح ما يزال مشوباً في كلتا الثقافتين بألوان من النقص كثيرة. فالتعليم الشرقي بالرغم من سموه على التعليم الغربي بروحانيته العالية، وأخلاقه الدينية، وعقائده السليمة، يعنى كثيراً بالتكرير والتقليد لا بالكشف والخلق والإبداع. ولذلك كانت نتائجه سالبة أكثر منها موجبة، وكان أثر خريجيه في إصلاح الشعب أقل مما يجب وإن كان في مجموعه عظيماً. ولئن قيل إن العلوم الحديثة قد أدخلت أخيراً في هذه الثقافة فالراجح أن إدخالها لم يزل شكلياً في طريقته ونتائجه، ولذلك لم تزل هناك حاجة قصوى للتعديل فيه والإصلاح؛ أما التعليم الغربي فنواحي نقصه كذلك كثيرة. ومن هذه النواحي إخراج الطالب مخالفاً لتقاليد عائلته وأمته ومنقسماً عليها، وراغباً في التجديد الأعمى الذي لا يحفظ له شخصيته كمصري وشرقي، ولئن كانت به عناية أكثر بالكشف والخلق والإبداع فإن تكوين الروح الاجتماعية ما يزال ضعيفاً فيه، وعنايته بالحفظ والحشو تكاد تطغى به على غيرها
هذا من ناحية. ومن ناحية إعداد (المعلمين) في كلتا الثقافتين نرى كذلك من التباعد وعدم توحيد المجهود واختلاف النزعة الشيء الكثير. . . وقد نجم عن ذلك تباعد طوائف المعلمين في المشرب وعدم تعاونهم واتحادهم في دراسة قضية التربية مع أنهم جميعاً تلك الطائفة المختارة التي قد ألقت إليها الأمة بفلذات أكبادها لإعدادها خير إعداد! أفي المحامين أو الأطباء انقسام وتباعد كما في المعلمين؟
5 -
ضرورة التقارب والتوحيد
هناك نزاع إذاً بين الثقافتين عنيف، والواجب هو التقريب والتوحيد بقدر المستطاع! مهما
حاولنا أن نبقي الشرق شرقاً والغرب غرباً، لأن الاتصال بينهما يزداد كل يوم ويتضاعف، ولأن في الغرب من القوة والحياة كل ما هو جدير بالاتساق والانسجام مع عظمة الشرق ومجده! لسنا ندعو إذاً إلى طغيان أحدهما على الآخر، لكنا نريد تناسقاً يخلق لنا حياة أغنى وأعمق وأكثر بعثاً للرضى والتآلف والارتياح. يقول فرويد (إن عدم التغيير موت)! فلنأخذ من الغرب مثلاً رياضته وهندسته وتربيته وفنه، ولنبق للشرق خلقه وكرمه وروحانيته، وليكن رائدنا في جميع ما نأخذ وما ندع هو الرغبة في التقدم الذي يحفظ لنا شخصيتنا ولا يتركنا متخلفين وراء الغرب، ولتكن خطتنا هي التقريب بين المعاهد المختلفة لتحسين خططها وتوحيد غرضها وتقليل نفقاتها، بحيث ينجم عن ذلك التقارب تعاون متناسق يعمل من أجل غرض واضح مرسوم. ذلك أن العقل الناجح هو ذلك الذي تعمل خلاياه باختلاف ولكنها ترجع جميعاً إليه كعقل واحد منتظم. وإذا بحثنا عن ذلك العقل الموحد في هيئاتنا التعليمية لم نجد بين خلاياه اتصالاً معقولاً، ولم نجد له غرضاً واحداً موضوعاً تعمل الجهود المختلفة على تحقيقه
6 -
اقتراحات للإصلاح
ولئن كانت مصر قد أخذت بكثير من نواحي العلاج، وستستفيد بلا ريب من احتكاكها بعصبة الأمم في نواحي الصحة والطفولة والعمال والتعاون الفكري فلاشك أنها محتاجة لبحث الشئون الآتية كوسائل ضرورية للعلاج:
(1)
النظر في أية ثقافة جديرة بالتشجيع؟ وأية حياة مثلى يجب أن تسيطر على نظام التربية؟
(2)
نشر التعليم ومحو الأمية والارتقاء بمستوى السواد الأعظم إلى حيث تتحقق الحياة الديمقراطية الصحيحة
(3)
تعديل التعليم الثانوي على نحو أكثر تحقيقاً للحياة العملية والاجتماعية درءا لأزمة البطالة الراهنة
(4)
تقريب معاهد الثقافة بعضها من بعض على النحو الآنف. ويشمل هذا التقريب الطلبة والمدرسين على السواء
(5)
حسن اختيار المعلمين والارتفاع بمستواهم حتى تصبح مهنتهم جديرة بالاحترام اللائق
مغرية للنبهاء والنابغين بالعمل فيها
(6)
تكوين مجلس أعلى للتعليم يضم كبار رجال التربية إلى جانب رجال الاقتصاد والدين والفكر والاجتماع
ولما كانت ناحية محو الأمية وتثبيت قدم الديمقراطية أهم هذه النواحي جميعاً، فإنا سنعرض لها بإسهاب في العدد القادم إن شاء الله
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بشبرا الثانوية الأميرية
حلبي يزور باريس
في سنة 1867
للدكتور حسين فوزي
هذا الحلبي هو الخواجة فرنسيس، شخص إلى باريس لدراسة الطب سنة 1866 وترك لنا عن رحلته أثراً فذاً: كتاباً طبع في بيروت سنة 1867، عثرت عليه أخيراً في مكتبة المرحوم والدي. والغالب أن الخواجا فرنسيس كان رجلاً رقيق الحال، لا لأن كتابه الذي يقع في سبعين صفحة قد طبع على نفقة غيره فحسب، بل لأن (غيره) هذا نعت نفسه بالعبد الفقير حنا النجار. تصور إذاً ماذا كان المؤلف وهذا ناشره عبد فقير! ومع ذلك عني هذا العبد الفقير بكتاب الخواجا عناية فائقة، فوشى أركان غلافه بنقوش ملتوية ورسوم ورود وأوراق أشجار، وطبع فوق عنوان الكتاب طغراء فرنسية يظهر للمدقق فيها شكل نسر نابليوني واقف على حسام يتطاير منه الشرر (أو هي صواعق جوبيتر؟) وتحيط به قلادة (اللجيون دونير) يتدلى منها الصليب الذي خصصه نابليون لرجاله الشجعان. والعبد الفقير حنا النجار كان رجلا عصرياً محباً للتقدم إذ طبع على ظهر الغلاف قاطرة بخارية ذات مدخنة عالية ترسل عموداً كثيفاً من الدخان، وباخرة ذات مدخنة أعلى تطلق سحباً من الدخان وهي تمخر العباب برفاصات جانبية كالتي لا نزال نراها في بواخر النيل
ورحالتنا يمكن أن يلقب بذي الصناعتين، فهو مالك أعنة النظم والنثر، شاعر حتى في نثره، وناثر حتى في شعره. وسنرى كيف استطاع أن يعهد إلى النظم بوصف نثري لباريس، وكيف عهد إلى النثر بوصف شعري لمدينة النور
أسلوبه صور تتوالى. فهو يرى (الحسد والطمع لابسين أجساماً نارية ذريعة المنظر، وجالسين في ذلك السحاب على مائدة السكر) والسحاب هو الذي رآه الخواجا فرنسيس (على الأفق نارياً كثيفاً ذا لون كأنه من مصبغة الموت، تقشعر منه الأبدان وتزهق الأرواح، ومصنوع من زفرات البشر، وكان الخمر دماء، والأقداح جماجم، وهما يصرخان الخ) ويرى أقواماً (يرضعون الذل من أثداء أمهاتهم وعلى ظهورهم أحمال ثقيلة تحنيهم إلى الأرض، وفي أيديهم حقاق فولاذية مطبوقة على أفكارهم وحريتهم) كما يرى (راية المصائب والأوصاب تخفق على كل هامة، ورياح الآلام والأوجاع تعصف بكل روح. . .)
وهو إذا ركب السفن (امتطى ظعن البخار، وأخذ يطوي بيد البحار)
والخواجا فرنسيس كما ترى فيلسوف متشائم، فهو يبدأ كتابه بالقول إنه لما (أدرك رشده، وبلغ أشده، دخل العالم ليتجسسه ويرى كيف يجب اعتباره منه. فعندما تبصره كافياً، وجده سوقاً عظيماً لا حد له، وجميع الخلائق أقامت فيه حوانيتها وكلها تنادي على بضائعها، وكأنما لا يسوغ لأحد مشتري شيء من هذا السوق ما لم يضع على عينيه نظارة تختلف لوناً وقوة. . . فكل يرى هذا السوق على كيفية نظارته وماهية نظره. فالبعض لا يشاهدون فيه معتبراً سوى معدني الذهب والفضة، فيندفعون جماحاً إلى نوالهما على أي أسلوب كان)
ولعلك حذرت أن رحالتنا الخواجا فرنسيس ليس من هؤلاء وليس من البعض الذين (لا يفهمون العالم سوى مقر اللذات والطرب، لأنهم لا يدركون بنظاراتهم سواها، فلا يعتبرون إلاّ ها. فيعيشون ناشرين شراع الليل، وطاوين بساط النهار في الولوع والكر والرقص والخلاعة. هذا إذا لم ينهرهم حارس هذا السوق، أعني به ذلك العفريت الجهنمي المدعو الزمان)
أما هو (المسكين، فقد كانت نظارته لسوء حظه مصنوعة من أشنع الألوان، وأبشع الأشكال) لأنه حين وضعها على عينيه (وجد عالماً ذريعاً ترتعد منه الفرائص، وتميد عمد القلوب وينفي عنه كل ذوق سليم). ولا داعي إلى الاسترسال في نقل الصورة المدلهمة التي يرسمها لنا الخواجا فرنسيس، فهو متشائم فحسب، وقد رأى هذه السوق (المدعو عالماً، فخلا في نفسه ليرى أي بضاعة يبتاعها) فلم يجد (أشرف من انتقاد هذه الحوادث، والبحث عن حركات هذا العالم) فهو يريد أن يكون كاتباً أخلاقياً وكتابه سوف يظهرنا على مبلغ نجاحه في هذا السبيل
إلا أنه، وقد بلغ العشرين، شرع (يمتحن نفسه ليرى ماذا جنى من الثمرات. ولكنه لم يجد في مخيلته سوى كمية وافرة من ألوف مسائل العلم العربي - نحن في سنة 1856 - ولم يعثر في خزانته على غير كتب مطولات ومختصرات في النحو والصرف وما يلحقها). وهو إذ تأمل (الفائدة لم يجدها سوى نظم الشعر) فهو يقول في تواضع مؤثر (فها أنا شاعر إذا أراد شعراء العصر) ولكني لا أحسب شعراء عصره - وأقل منهم شعراء عصرنا - يريدون تضخم الصناعة إلى هذا الحد! ثم هو على كل حال لم يهمل أن يلاحظ (جملة
أضرار تقابل هذه الفائدة. وهي أولاً كساد سوق الشعر، ومقت العامة له) - أما نحن الخاصة فسوف نذوب صبابة في شعره بعد لحظة - لذلك أوحيت إليه (كراهته تلك الفائدة المفتداة بأفخر سني حيوته أن يتعكف إلى طلب العلوم العالية واللغات). ثم اتفق له أحد مهرة أطباء الإنكليز (فألقى ثقله على مسايرته، وبدأ يدرس عليه العلوم الطبية وهو في سن الخمسة والعشرين، حتى هضم أربع سنسن كوامل على هذه الدراسة، وصار طبيباً) وعلى رأي المعلم وحده مع الأسف، أما في رأي ما (نقول المدارس فقد كان جهولا)
وشرع (يباشر الأمراض متلاعباً بصناعة إيبوقراط). ثم أوعز إليه ضميره أن يرحل إلى (باريس محط عرش الافرنسيس). وكان لهذا الحادث الهام الفضل في الكتاب الفذ الذي نلخصه لقراء (الرسالة) بعد سبعين سنة من نشره
ففي اليوم (الواقع في 7 أيلول 1866، وهو داخل في دايرة الثلثين) خرج من (أبواب الشهباء صحبة الكروان، ممتطياً ظهر كديش أخي قزل)(ألم أقل إن الخواجا فرنسيس شاعر في نثره؟) فبلغ (الاسكندرونة مينا حلب). وترك لنا وصفاً للطريق يوقف الشعر هلعا. فمن (أوعار ملقاة في الطريق كأنها أمواج البحر الجامد) إلى (جبال صلعاء القمم) إلى (هضاب ممحلة منفردة كاللصوص في درب أبناء السبيل) ومن (عواصف وقواصف تهب من مرابضها الجهنمية على السرى) إلى (أنهار راكدة على فراش الأوصال تعارض سير القوافل). وفي إحدى مراحل هذا الطريق (ينجلي) الخواجا فرنسيس فتتعرف إليه لأول مرة ناظماً، ولا أقول شاعراً فإن شاعريته قد بزغت في نثره كما رأيناه. وقد أسالت (جمرة الفراق جمودة قريحته فهرع إلى القلم ونقش أبياتاً كأنها منشودة من أحد أعراب البادية. . . إلا قليلا). وقد حكم إذ ذاك أن للشعر (علاقة ثابتة مع الموضوعات التي يراها الشاعر). وسأوفر عليك عناء قراءة هذا الشعر البدوي الذي كتب في بادية الشام ما بين حلب والاسكندرونة. ويكفي أن تعلم بما فيه من حداء السرى والخيام والحمى والعيس. وقد لا تمانع في أن تسمع بيتين من جزل شعر الخواجا فرنسيس:
فهل ذكرت تلك المنيعة في الخبا
…
شريداً طحاه البين وهو غلامها
وهل علمت أسماء - وهي عليمة -
…
صبابة نفس قد تسامى مرامها
نسيم الصبا هل. . . إلى آخر البيت
وهو رجل غدا الآن واسع الخبرة بالدنيا إلى حد أن يختتم قصيده قائلاً:
ومن خبر الدنيا وأدرك شرها
…
تساوى لديه حربها وسلامها
وقد تأثر عند مشاهدته مدينة الاسكندرونة (حينما أذكر المشكل الدولي حول هذا المرفأ ولوائه!) وكان تأثره (صاعقة لأنه رآها هاوية في أعمق هاوية من القهقرة) أهذا (مينا حلب مدخل تجارة الزوراء وتركستان، ومخرج أنسجة ومحصولات عربستان، صايرة مرسحاً لملاعب الخراب. . حتى تكاد أن لا تعتبر سوى كمبصقة للبحر، أو مداس للدهر؟)
وامتطى (ظعن البخار، وأخذ يطوي بيد البحار، حتى عانق باع اللاذقية) ولكنه لم ينزل إليها (وخفقت به أجنحة البخار إلى مدينة طرابلس، فوجدها ظريفة وعليها أبهة العمار، وكأنها تهم إلى التقدم فتدفعها نحوس الأقدار)
ثم زار بيروت ورأى أن لا بدع في أن (جلست هذه المدينة على المرتبة الأولى ما بين مدن سوريا. وأصبحت مبزغاً لكل نور) وبعد نهاية (أجل المرسى عاود إلى المركب وطار به إلى يافا، فنزل إليها بعد تردد وخوف من مطاردة الأمواج، الدايمة الهياج) ولكنه ما عتم أن عاد آسفاً على الشجاعة التي بذلها في منازلة أحط صعاليك المدن كما يقول
بعد ذلك أخذت (تخفق له أجنحة نسر البحر إلى جانب الإسكندرية) فبلغها بعد ثمانية أيام من مغادرته حلب ورأى فيها مدينة (قايمة على ساق التجدد)، ودعاها تاج المشرق وعنوان المغرب. ووجد فيها وقود (النور الايدروجيني خاصة في الساحة المدعوة عندهم بالمنشية)
ثم (أوحت له شياطين الملل أن يرحل إلى القاهرة. فركب أجنحة عفريت البر، فطار به كالباشق - يقيناً إن الرجل شاعر غير نادم! - حتى أوقعه هذا العفريت بعد خمس ساعات على مدينة الأهرام، أعني الأثر الوحيد الذي أبقته القدمية تميمة على رأس هذه المدينة. وجعل يتفرج على مشتهرات القاهرة مدة ستة أيام، فلم يعثر على ما يستحق الذكر أو يروق الخاطر - حتى ولا النور الايدروجيني؟ - سوى خزانة التحف المصرية وجامع القلعة الذي بناه محمد علي باشا من الحجر الكهربائي - لم أعرف قبلا أن هذه ترجمة - مع السرايا المحاذية له. كما بنى سرايا شبرى ذات الحوض المرمري العظيم الذي أنشأه لكي يتنزه فيه على قارب تجدفه جوار حسان (كذا!) أما الأزبكية الشهيرة فلا عادت تنطوي سوى على بعض أشجار بلح مغروسة بين أمواج الرمال)
أما أسواق القاهرة (فلا يوجد أقبح منها لشدة ضيقها وأوخامها، حتى أن البعض لشدة ضناكته يكاد أن يرفض مسير اثنين معاً، ولا يقبل الضوء، ولا يوجد شارع يعتبر بالنسبة إلى البقية سوى الشارع الملقب بالموزكي أو طريق الإفرنج حيثما اختار التجار الحلبيون إقامة حوانيتهم)
ووجد مع ذلك في هذا البلد (كثيراً من الأثارات والبقايا القديمة. . . وعدداً جزيلاً من الجوامع وأخصها جامع الأزهر الذي كان زاهراً بعلوم العرب وفنونهم، وقد تقوض حسب اقتضاء روح العصر بالمدرسة العالية التي جددها حضرة إسماعيل باشا قيل مصر) - لو رأى الخواجا فرنسيس هذا الجامع في أيامنا!
وعاد رحالتنا إلى الإسكندرية (يستنظر المركب الذي سيصحبه إلى أوروبا. وورد الصاحب المستنظر فقلع معه الخواجا فرنسيس في 14 تشرين الأول. وفي صباح العشرين منه انقض به باشق البحار على مدينة مرسيليا، ووجد ذاته حينئذ مرتاحاً في حضن الغرب، متخطراً تحت سماء أوروبا)؛ وبعد إقامته ثمانية أيام في هذه المدينة (المصاغة من عسجد الظرافة، والمطرزة بلؤلؤ الجمال، ركب بخار البر في طريق الحديد وأخذ جهة ليون)
وهنا يصف الرحالة الفذ شعوره في بخار البر وطريق الحديد، وحيال المناظر التي مرّ بها معترفاً (بعجزه عن الشرح، وموجز القول بأن تلك المساحات التي مرّ عليها، فلوات وجبالاً وهضاباً، كانت بستاناً واحداً ومدينة واحدة؛ وما كان يشاهد لون التراب الطبيعي سوى بين اسطوانات طريق الحديد، حيثما تكر العجلات)
ولم يزل الخواجا فرنسيس (مضطجعاً في المركبة الطايرة على أجنحة البخار، مطلاً من كواتها البلورية على نفايس هذه الطبيعة إلى أن حط به طاير النار على مدينة ليون نحو نصف الليل، حينما كانت سابحة في أنوارها العرمرمية)
وهنا تعاود رحالتنا جنة الشعر، فيهرع إلى القلم ليحبس هذه الخيالات المنثورة في بيوت منظومة، ولكنه يبدو في هذه المرة شاعراً حضرياً عصرياً، ألم يحكم بأن للشعر (علاقة ثابتة مع الموضوعات التي يراها الشاعر؟)
إلى جنة الفردوس هل أنا ساير
…
ترى أم إلى دنياء أخرى مسافر
وهل أنا مع نسر السما طاير إلى
…
سما أم بخار الماء بي هو طاير
وعهدي أن الماء يضعف إن غدا
…
بخاراً فكيف الآن ذا الضد صاير
ويواصل نظمه ثلاثين بيتاً يتغزل في (عفريت البر وباشق البخار) ويقارن بين راحة السفر على أجنحته وتعب الأسفار على ظهور الإِبل:
ولم يبق من ظعن سوى العجلات في
…
حديد تكر الدهر وهي صوابر
أبت غير نيران اللظى علفاً لها
…
وهن على خير الهشيم دواير
ولما لمع وجه الصباح، نهض من فراش النعام وطفق يطوف ليون ليتفرج على ما تشتمل عليه من المحاسن واللطايف؛ وهو يذكرنا إذ يتغنى بجمالها وكمالها وما (اجتمع لها من المقومات المدنية والأدوات التمدنية بأن أول من شرع في رفع شأنها أحد أولاد قلويس ملك الغوليين ذي الشهرة العظيمة في غاليا بإدخاله إلى هذه المملكة جملة نظامات وتجديدات لمع بها زمانه، وأهمها إدخاله الديانة المسيحية في الغوليين بعد أن أدخلته فيها امرأته بقصها عليه أخبار قسطنطين الكبير، وبإقناعها له أنه إذا سلك مسلك ذاك الملك المنتصر بالتنصر، إنما يقهر نظيره كل أعدائه)
وركب الخواجا فرنسيس نسر البحار بعد تمضية ثلاثة أيام في ليون، فطار به إلى باريس حيث وصل قرب انفلاق الصباح
ولنا أن نتوقع انفجار - أو ربما قال انفطار؟ - نفس رحالتنا في قلب باريس، وأن نترقب هبوط وحي الشعر عليه. ويظهر أن خواجتنا رجل يحسن (الإِخراج) فهو تاركنا نشتاق إلى شعره بعد أن حببنا إليه ببعض الخطرات، ليمضي في وصف نثري لباريس حتى قبيل آخر الكتاب، ثم هو مطبق علينا بقصيدة مخمسة عددت شطراتها فكانت خمسمائة شطرة والعياذ بالله. وبذلك يكون الخواجا فرنسيس قد أفرغ فينا شعره مرة واحدة
وكان المتوقع أن يترك رحالتنا للشعر مهمة التعبير عن احساساته في باريس، وأن يودعه تفكيره العالي، تاركاً للنثر وصف المتاحف والميادين. ولكن رجلنا شعره منثور ونثره منظوم كما سبق لنا القول، فبينا هو يتغنى نثراً بباريس (مركز مجد العالم، ومصب أنهار العجايب، وموقع أنوار التمدن. . . وها قد أخذت عيناه ترى ما كان يراه ذاك الذي خطفته أرواح الآلهة إلى السماء الثالثة) إذا به يصطحبنا بشعره كأنه (بيديكر) فينصح بأن نترك الدرس لنتمشى في شوارع باريس:
يا صاحبي حتى م ترعى الوسوسة
…
ها كافة الدراس عافوا المدرسة
وكل نفس قد غدت مستأنسة
…
بهدنة في الدرس تطفي قبسه
وتضرم الأشواق ضمن الصدر
هيا بنا نسع إلى البولفار
…
إلى مكان الشهب والأقمار
حيث نرى بدايع المعمار
…
مقرونة ببدع الأفكار
حيث الغنى حيث افتقار الفقر
كفى فسر بنا إلى فندوم
…
حتى نرى تمثال ذي الهجوم
يجلي على عموده المنظوم
…
من سلب الحرب مع الخصوم
بطرس نابليون عالي الذكر
ها قد نظرنا أثر الشقاق
…
فلننطلق لساحة الوفاق
ذات رنين الصيت في الآفاق
…
ذي ساحة تسطو على الأحداق
وتسكر العقل بغير خمر
ولننعطف نحو مقام التوللري
…
أعني بلاط العاهل المظفر
هناك بستان عجيب المنظر
…
فكله شوارع من شجر
وفسحات زخرفت بالزهر
كلا! لست أنوي أن أسرد عليك كل هذه الخريدة العظيمة، والدرة اليتيمة. إنما أنا أقتطف من شطراتها الخمسمائة هنا وهناك لأجمع لك باقة عاطرة من شعر الخواجا فرنسيس. ثم أي بأس في هذه النزهة الباريسية الفريدة؟ الناس يرتادون باريس في (الأتوكار)، والمعلم فرنسيس يصطحبك بقصيدته الحماسية إلى كثير من أماكنها الهامة. هاهو ذا يناديك من بوقه الشعري:
فلنطلق المسعى لدار اللوفر
ها قد بلغنا الآن دار التحف
…
حتى نرى عالم دنيا السلف
نرى حيوة الناس في العهد الخفي
…
وهتك ستر الزمن المنصرف
كل له داب بهتك السر
جماعة الأشور والعمالق
…
يبدون من ذاك الظلام الغاسق
يجلون في الثياب والقراطق
…
طبق لباس الناس في المشارق
فذاك زي الشرق منذ الفطر
كذا نرى جميع أعمال اليد
…
منهم وكل الأدوات الشرد
وكل معبود لهم ومعبد
…
لكنما المضحك في ذا الصدد
إلههم ثور برأس حبر
وهكذا سكان مصر السالفة
…
مع آل أشور لهم محالفة
كانوا على الأرض أجل طايفة
…
أجسادهم محنطات واقفة
ولا يرى هذا سوى في مصر
(له بقية)
حسين فوزي
جمال الدين الأفغاني
للأديب محمد سلام مدكور
بمناسبة مرور إحدى وأربعين سنة على وفاته إذ توفي في يوم
9 مارس سنة 1897 ودفن بالأستانة في مقبرة (نشان طاش)
حتى شيد له مقبرة خاصة المستر (كراين) سنة 1927م
بهذا الاسم تنطق ملايين الشفاه عند ذكر نهضات الشرق وعند أي مناسبة سياسية أو ظاهرة وطنية، يذكرونه بالثناء والإعجاب، ويتناولونه بالمدح والفخار؛ يتعجبون لصبره وأناته وعمله وجهاده، وكلما تذكروه أو تكلموا في تاريخه فكأن وحياً من الشجاعة هبط عليهم، وروحاً من العزة سرت فيهم، ودبيباً من اليقظة نبههم؛ فقد كان جريئاً في الحق، قوياً في وجه العدو، رابط الجأش ثابت الجنان، في نفسه ثورة مشتعلة ولهب يتطاير، وآمال وثابة إلى المجد والرفعة
نكتب عن السيد جمال الدين، ومن الفخر أن يتحدث المرء عنه ما وسعه الحديث، وأن يطنب في سيرة شخصيته الفذة ما شاء؛ فالتحدث عن تاريخ هذا الفيلسوف الحكيم يشرح الصدر ويغمر النفس بالفرح والإعجاب؛ والإطناب في الكلام عن هذا الزعيم الكبير لا يمله إنسان
فلجمال الدين أثره البين في نهوض الشرق وتطلعه إلى الحرية، فقد ظل الشرق زمناً طويلاً خاملاً يرزح تحت نير العبودية، ويرسف في أغلال الاستعمار؛ فلما جاء السيد جمال الدين نفخ فيه روح اليقظة، وأهاب بالأمم الإسلامية أن تطرح ذلك الجمود الفكري وتلك الأوهام التي ليست من الإسلام في شيء، والتي كانت سبباً في تأخر المسلمين
فكان شأن السيد جمال الدين في الناحية الدينية مثل شأن (مارتن لوثر) في الديانات المسيحية؛ وكان شأنه في الناحية الفكرية مثل (جان جاك روسو) وغيره من فلاسفة الفكر؛ وكان شأنه في السياسة وتحرير البلاد من يد الغاصب مثل شأن (واشنطن) محرر (أمريكا) و (مازيني) محرر إيطاليا وغيرهما من رجال السياسة
وبالجملة كان لجمال في كل ناحية من نواحي الإصلاح والتجديد أثر ظاهر وفضل لا ينكر
ولقد كان من مبادئ السيد جمال الدين: (أن الإسلام والذل لا يجتمعان في قلب واحد) ولعمري إنه لمبدأ خالد يكتب بماء الذهب في تاريخ أعظم عظماء الإسلام ويضمن له البقاء والخلود ويسمو به إلى مراتب أقرب إلى مراتب الملائكة والأنبياء
نعم إنه لآية من آيات الحق، ووحي هبط من السماء، وتأييد من الله يؤيد به عباده المصلحين، وهداية من الرحمن ونعمة يسبغها الله على من يشاء إنه عليم قدير
أي مسلم يقرأ هذا المبدأ القويم دون أن يسكب الدمع مدراراً، ودون أن تذهب نفسه حسرات على ما كان للمسلمين في غابر الأزمان من عز وسؤدد، وما هو عليه أكثرهم اليوم من الذلة والانحطاط
نعم فهو يلفظ القول ليصيب به موقع الماء من ذي الغلة، وينزل فيه بالحكمة التي هي أبعد من العنقاء وأعلى منالاً من الجوزاء إلى مستوى تستطيع أن تحله الدهماء، إن في ذلك لعبرة
تلك هي روح السيد جمال الدين، وهذا هو مبلغه من التأثير في نفوس الطالبين، وكذلك الزعامة الصادقة، والهداية الموفقة، وذلك صنع الله لعباده من المصلحين
وهذا لعمري هو الذي جمع الناس عليه وجعلهم من جميع الطبقات يهرعون إليه ومكن له في نفوس الملوك والعظماء والعامة والدهماء، فاستطاع أن يظفر بالجو الصالح لبث هدايته حيثما حل وأينما ارتحل
وأرى أن السيد جمال الدين في آرائه وحكمته، وعلو نفسه، وكرم أخلاقه ونبله زعيم إسلامي بعثه الله ليجدد للإسلام حياته التي كانت زاهرة زاخرة في عهوده الأولى، ويكون هذا أصدق شاهد على قول النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)
فقد كان أول المجددين في القرن التاسع عشر الحكيم القدير والمصلح العظيم، والمجاهد الكبير، والثائر الخطير السيد جمال الدين سيد النابغين، وأمير الخطابة والبيان، فيلسوف الإسلام وآية الحق القاهرة، وحجة الشرق الناهضة، وكوكب الإصلاح الذي ظهر ساطعاً في آفاق الشرق بعد أن كان في ظلام حالك
كانت حياة هذا الفيلسوف سلسلة جهاد موفق، وحلقة كفاح مثمر، حياة خصيبة ممرعة ثرية
ممتعة لها من الآثار الحميدة والأيادي البيضاء والأعمال المجدية ما لا سبيل إلى تقديره؛ فلقد كان يجول بفكره في ميدان مترامي الأطراف من متنوع الفنون، ويتناول في مباحثه أجل الشئون مما يهم البشر، يهتك غشاء الباطل عن الحق بنظرات نافذة وتفكير صحيح
والحقيقة التي لاشك فيها أن المرء لا يكاد يقف على عمل من أعماله أو رأي من آرائه، أو يقلب صفحة من حياته حتى يشعر أنه بين يدي ذهن مستقل جبار لا يرتضي دون الحرية مطلباً، ولا يبتغي غير محاربة الاستبداد شيئاً
بقي السيد جمال مناراً وهاجاً في الحرية يهتدى به، ومرجعاً صادقاً يفزع إليه في شتى نواحي الأمور. ولا بدع فإنه يعمل لمبدأ خالد لن يغير تيار الحوادث منه مادام الإنسان إنساناً
ولست مغالياً في مدح السيد جمال، ولا أكيل له تلك العبارات جزافاً مندفعاً وراء العاطفة، إذ هناك الكثير من الكتاب الغربيين الذين لا تربطهم أية صلة بجمال الدين إلا الاعتراف بالفضل، والتقدير للنبغاء والمصلحين، فهذا (هنري روشفور) الكاتب الفرنسي الشهير يقول في كتابه (ماجريات حياتي):
(السيد جمال الدين من سلالة النبي، والمعدود هو أيضاً أنه أشبه بنبي. ثم قال: إنني شعرت نحو هذا الرجل بعاطفة الحب التي أجدها تربطني بكل داع إلى ثورة أو مقاوم لسلطة)
وهاك (رينان) الفيلسوف الكبير يقول عنه: (يخيل إلي من حرية فكره، ونبالة شيمه وصراحته، وأنا أتحدث إليه، أنني أرى وجهاً لوجه أحد من عرفتهم من القدماء الفلاسفة، وأني أشهد ابن سينا، أو ابن رشد، أو واحداً من أساطين الحكمة الشرقيين اللذين ظلوا خمسة قرون يعملون على تحرير الإنسانية من الإسار)
جميل جداً أن نسمع تلك الحقيقة من فلاسفة الغرب، وأن يشهدوا بفضله وعلمه، وقوته وحكمته، وهم الذين لم يستفيدوا منه شيئاً طائلاً، وليس بجميل منا نحن الشعوب التي رضعت من ثدي علمه، واستفادت من إرشاده، وتمتعت بالحرية التي كان ينشدها أن نجهله أو نتجاهله، وألا نحتفل بذكراه ونضع الأسفار الضخمة في تاريخ حياته وتحليل نفسيته
اذكروا الرجل، واحتفلوا بيوم ذكراه فإن في ذكراه عظة وعبرة. . . اكتبوا المقالات الطوال، واقرضوا الشعر الرصين، فليس هو بالذي ينقضي عمله بموته، وإنما هو صاحب
العمل الخالد والمجد الدائم، إنما هو رجل الأمم والجماعات
فيا أيها الشعب الإسلامي، ويا أبناء الشرق، هذا هو السيد جمال الذي ما اتخذ له وطناً ولا ولداً، فليس هو بالذي تتناساه الشعوب أو تهمل ذكراه الأمم
أما أنت أيها الشعب المصري فهذا الذي أنقذك من براثن الظلم والجبروت، وعادى من أجلك دول الاستعمار، وقضى شطراً كبيراً من حياته في المدافعة عنك ومناصرتك، ولاقى الصعاب والأهوال
أما أنتم يا رجال النهضة، ويا زعماء البلاد، ويا نواب الأمة فهذا السيد جمال الذي بعث في نفوسكم تلك الروح وعمل جهده على إيجاد الحياة النيابية في مصر
أما أنتم يا رجال الدين، ويا علماء الأزهر، لكم وحدكم يوجه العتاب. ألم يكن جمال هذا هو المحرر للأزهر من ذلك الجمود الفكري الذي كان راسخاً فيه؟ ألم يكن جمال هذا هو الذي خرج لكم في مدرسته الإمام الخالد الذكر الشيخ (محمد عبده) وكان يقول عنه عند نفيه (خرجت من الدنيا ولم أترك مؤلفاً ولا ولداً ولكن تركت لكم محمد عبده وكفى به لمصر عالماً)
أما أنت أيتها الصحافة، أما أنت يا لسان الأمة الناطق، وآيتها البينة وحجتها القوية، وميدانها الفسيح؛ أما أنت يا مشعل الوادي، ويا منار الأفكار، فهذا السيد جمال الذي أنبتك في مصر وجعل منك ذلك المصباح الوهاج، فهذا أستاذك صاحب العروة الوثقى
أما أنت أيتها الروح المقدسة الطاهرة الزكية البريئة العالية السابحة في ملكوت الله. أما أنت يا روح جمال فإليك أتقدم بالاحترام الفائق والإجلال التام، والمعذرة الصادقة عن تقصيرنا السابق، وغفلتنا الطويلة
وإني أخيراً لأفتخر بالسيد جمال الدين الأفغاني في الإسلام وأقول (حسبه من عظمة ومجد أنه في تاريخ الشرق الحديث أول داع إلى الحرية، وأول شهيد في سبيل الحرية)
محمد سلام مدكور
مؤلف كتاب جمال الدين الأفغاني
الكميت بن زيد
شاعر العصر المرواني
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 6 -
وقد كان هناك من لا يعذر الكميت في مدحه بني مروان بعد بني هاشم، ويصفه في ذلك بالتردد والرياء والنفاق، وكأنه لا يرى في هذه التقية التي يأخذ بها جمهور الشيعة ما يبرر العذر، ويمنع من توجيه اللوم
وإني لا أنكر أن التقية تدل على شيء من ضعف النفس، وأن التاريخ يذكر بالإعجاب والتقدير تلك المواقف الباهرة التي لم يأخذ أصحابها بالتقية، وآثروا تضحية النفس على الإذعان للخصم، ولكني أرى من الضعف ما قد يكون أجدى من القوة، ولهذا مدحت الحيلة كما مدحت الشجاعة، ومدحت المداراة كما مدحت الصراحة، وقد يكون في المداراة رجولة حرة كريمة جديرة بالعطف والرحمة، بعيدة من اللوم والمؤاخذة، وقد رثى المتنبي لمثل هذه المداراة في قوله:
ومن نكدِ الدنيا على الحرِّ أن يرى
…
عدوّاً له ما من صداقته بُدُّ
فيا نكد الدنيا متى أنت مُقصرٌ
…
عن الحر حتى لا يكون له ضدُّ
يروحُ ويغدو كارهاً لوصاله
…
وتضطرُّهُ الأيام والزمن النكدُ
وكان أبو مسلم الخراساني ممن يأخذ الكميت بهذا الإذعان لبني مروان، وقد دخل عليه المستهل بن الكميت يوماً فقال له: أبوك الذي كفر بعد إسلامه! فقال: كيف وهو الذي يقول:
بِخاتَمِكم كرهاً تجوزُ أمورهمْ
…
فلم أَرَ غَصباً مثله حين يُغصبُ
فأطرق أبو مسلم مستحيياً منه
وذكر أبو الفرج الأصبهاني أن المستهل بن الكميت دخل على عبد الصمد بن علي فقال له: من أنت؟ فأخبره، فقال له: لا حياك الله ولا حيا أباك، هو الذي يقول:
فالآن صِرْتُ إلى أُميّ
…
ة والأمور إلى المصاير
قال: فأطرقت استحياء مما قال، وعرفت البيت، قال ثم قال لي: ارفع رأسك يا بني، فلئن
كان قال هذا فلقد قال:
بِخاتَمِكم كرهاً تجوز أمورهُم
…
فلم أر غضباً مثله حينُ يغضبُ
قال: فسلى عني بعض ما كان بي، وحادثني ساعة ثم قال: ما يعجبك من النساء يا مستهل؟ قلت
غَرَّاء تسحب من قيامٍ فَرْعَها
…
جَثْلاً يزيِّنه سوادٌ أفحمُ
فكأنها فيه نهار مشرق
…
وكأنه ليل عليها مظلم
قال: يا بني هذه لا تصاب إلا في الفردوس، وأمر له بجائزة
والظاهر أن هذه الحادثة كانت قبل حادثة المستهل مع أبي مسلم الخرساني، وأن المستهل عرف من هذه الحادثة كيف يتخلص من أبي مسلم بهذا البيت الذي ذكره له عبد الصمد بن علي
وقد عرف المستهل بعد هذا كيف يؤول هذا البيت:
اليوم صرت إلى أمي
…
ة والأمور إلى المصاير
حين عيره به أبو العباس فقال: أبي إنما أراد - اليوم صرت إلى أمية والأمور إلى مصايرها أي بني هاشم
ولا يبعد أن يكون الكميت قد أراد هذا المعنى الذي ذكره ابنه المستهل، فقد كان شاعراً عالماً يعرف مرامي الكلام، ولا يقول الشعر إلا بعد التأني والتدبر، وكان يصير في ذلك إلى الغرض البعيد، ويرمي إلى الغاية الخفية، ومن هذا ما ذكره محمد ابن أنس، قال: حدثني المستهل بن الكميت قال قلت لأبي يا أبت إنك هجوت الكلبي فقلت:
ألا يا سَلْم من تِرْبِ
…
أفي أسماَء من ترب
وغمزت عليه فيها، ففخرت ببني أمية وأنت تشهد عليها بالكفر، فألا فخرت بعلي وبني هاشم الذين تتولاهم؟ فقال: يا بني أنت تعلم انقطاع الكلبي إلى بني أمية وهم أعداء علي عليه السلام، فلو ذكرت علياً لترك ذكري وأقبل على هجائه، فأكون قد عرضت علياً له ولا أجد له ناصراً من بني أمية، ففخرت عليه ببني أمية وقلت إن نقضها عليّ قتلوه، وإن أمسك قتلته غماً وغلبته، فكان كما قال، أمسك الكلبي عن جوابه، فغلب عليه وأفحم الكلبي
نعم إنه يمكن أن يؤخذ على الكميت أنه لم يكن يتعصب في شعره لأهل البيت إلا لقرابتهم
من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا نوع من العصبية التي ينكرها الإسلام، وهو لا يهتم في حكم المسلمين إلا بمحاربة الظلم وإقامة دعائم العدل، ولا يهمه بعد هذا نظام الحكم الذي يحقق هذه الغاية، ولا أشخاص القائمين بهذا الحكم، فالناس سواء فيه، وكلهم صالحون له، ولا فرق فيه بين هاشمي وغير هاشمي، ولا بين عربي وعجمي
ولكن هذا لا يصح أن يؤخذ على الكميت أيضاً، لأنه لم يكن يدعو في شعره إلى أهل البيت من أجل تلك العصبية المنكورة في الإسلام، وإنما كان يدعو إليهم لأنهم كانوا أمثل الناس لحكم المسلمين في عصره، وإصلاح الفساد الذي ظهر في المسلمين بسبب حكم بني مروان الذي كان يقوم على تلك العصبية
فكان المسلمون في حاجة إلى حكم إسلامي ينظر إلى كل شعوبهم على السواء، ولا يقوم على أساس العصبية التي كان يقوم الحكم عليها عند الفرس والروم وغيرهم، وكان بنو هاشم أجدر الناس بالقيام بهذا الحكم الصالح، لأنهم كانوا ألين طباعاً من بني مروان، وأقرب منهم إلى فهم الغاية التي قام الإسلام من أجلها، والى السير بالحكم بين الناس على أنه وسيلة لا غاية
وقد حكم بنو العباس من بني هاشم بعد بني مروان فكان حكمهم أشبه بحكم الخلفاء الراشدين من حكمهم، ولم يفرقوا فيه بين عربي وعجمي، بل رفع الأعاجم فيه رؤوسهم حتى ساووا العرب وأخلصوا للإسلام إخلاصهم، وقد بذلوا في خدمة العلوم على اختلاف أنواعها ما يفتخر به المسلمون في عصرنا على غيرهم، وإذا كان لهم في حكمهم أيضا سيئات فإنها كانت قليلة بجانب حسناتهم.
ونعود بعد هذا كله إلى أمر الكميت بعد عفو هشام عنه، ورجوعه فائزاً بذلك على خالد بن عبد الله القسري، فقد فسد بعد هذا ما بينهما، وكان للكميت معه أخبار بعد قدومه إلى الكوفة بالعهد الذي كتبه هشام له، ولم يجعل فيه لخالد إمارة عليه، فكان خالد يلاينه حيناً ويقسو عليه حيناً، وكل منهما يخادع صاحبه، وينتظر السوء به. فلما أدبر أمر خالد وتحدث الناس بعزله عن العراق أظهر الكميت شماتته به، وقد مر عليه خالد يوماً فلما جاز به تمثل بهذا البيت:
أراها وإن كانت تحَبُّ كأنها
…
سحابةُ صيفٍ عن قليل تَقشَّعُ
فسمعه خالد فرجع وقال: أم والله لا تنقشع حتى يغشاك منها شؤبوب برد، ثم أمر به فجرد فضربه مائة سوط، ثم خلى عنه ومضى
وقد كان للكميت مدائح في خالد لعلها كانت قبل أن يفسد بذلك ما بينهما، أو لعلها كانت في بعض ما يزول فيه شيء من تلك الجفوة، وقد يكون هذا من تلك التقية التي أخذ بها نفسه بعد أن عفا هشام عنه، على أن خالداً كان للشيعة خيراً ممن ولي العراق بعده، وقد روى محمد بن كناسة أن الكميت دخل على خالد القسري فأنشده قوله فيه:
لو قيل للجود من حليفُكَ ما
…
إنْ إلاَّ إليك يَنتسِبُ
أنت أخوه وأنت صورتهُ
…
والرأسُ منه وغيرُك الذَّنب
أحرزتَ فضل النضال في مَهلٍ
…
فكلَّ يوم بكفِّك القصب
لو أن كعباً وحاتماً نُشرا
…
كانا جميعاً من بعض ما تَهَب
لا تُخلفُ الوعد إن وعدت ولا
…
أنت عن المعتفين تحتجب
ما دونك اليوم من نوالٍ ولا
…
خلفك للراغبين منقلبُ
فأمر له بمائة ألف درهم
وكان خالد قد ولي العراق سنة خمس ومائة، وقد طالت ولايته على العراق وتمتع الناس ببعض من الأمن في ولايته، ولم يكن شديداً على الشيعة كغيره، وكان إلى هذا جواداً كثيراً العطاء، خطيباً مقدوراً من خطباء العرب المشهورين بالفصاحة والبلاغة، ولكنه كان يتهم في دينه، وكانت أمه نصرانية فبنى لها كنيسة تتعبد فيها، وقد عزل عن العراق سنة عشرين ومائة. ويقال إن سبب عزله أن امرأة أتته فقالت: أصلح الله الأمير، إني امرأة مسلمة؛ وإن عاملك فلانا المجوسي وثب علي فأكرهني على الفجور وغصبني نفسي، فقال لها: كيف وجدت قلفته؟ فكتب بذلك حسان النبطي إلى هشام فعزله وولى مكانه يوسف بن عمر الثقفي، وهو ابن عم الحجاج بن يوسف، وأمره بمحاسبته ومحاسبة عماله، فأخذ يوسف خالداً وعماله وحاسبه وعذبه، ثم قتله في أيام الوليد بن يزيد سنة ست وعشرين ومائة
وقد تكون هذه التهم من اختلاق أعداء خالد عليه، وقد يكون السبب الحقيقي أن هشاما أراد أن يأخذ العراق بالشدة بعد أن فشا فيه التشيع على عهد خالد بن عبد الله، وجاهر به
الكميت وغيره من شيعة أهل البيت، فاختار لهم ذلك الثقفي ليأخذهم بما أخذهم به قبله الحجاج ابن عمه، فسار فيهم سيرته. وكان من ضحاياه زيد بن علي بن الحسين رضي الله عنه
فاضطرب الكميت بعد هذا في أمره، وقد سبق أن زيداً دعاه إلى الخروج معه فلم يجب دعوته، ولكنه ندم على هذا بعد قتله، وقال يلوم نفسه:
دعاني ابنُ الرسول فلم أُجبْه
…
أَلهْفي لَهْف للقلب الفَرُوق
حِذَارَ منِيَّةٍ لابُدَّ منها
…
وهل دُون المنية من طريق
وقال يهجو يوسف بن عمر:
يعِزُّ على احمدٍ بالذِي
…
أصاب ابنه أمس من يسُوف
خبيث من العصبة الأخبثين
…
وإن قلتُ زَانِينَ لم أقْذف
وقد كان مع هذا يظهر التقرب إلى يوسف بن عمر، ولا يبخل عليه بشيء من المدح. روي أنه دخل عليه بعد قتله زيداً فأنشده قوله فيه:
خرجتَ لهم تمشي البراحَ ولم تكن
…
كمن حِصْنُهُ فيه الرِّتاجُ المضبَّبُ
وما خالدٌ يستطعم الماء فاغراً
…
بعدلِكَ والداعي إلى الموت يَنعب
يعرض بخالد وقد خرج عليه الجعفرية وهو يخطب على المنبر ينادون: لبيك جعفر، لبيك جعفر، وهو لا يعلم بهم، فدهش فلم يعلم ما يقول فزعاً، فقال: أطعموني ماء، ثم خرج الناس إليهم فأخذوهم
وكان الجند القائمون على رأس يوسف يمانية فتعصبوا لخالد، ووضعوا ذباب سيوفهم في بطن الكميت فوجئوه بها وقالوا: أتنشد الأمير ولم تستأمره! فلم يزل ينزفه الدم حتى مات، ولا يبعد عندي أن يكون هذا بتدبير يوسف ليتخلص منه، فليس من المعقول أن يجرؤ هؤلاء القوم على هذا مع ما سبق من عداوة يوسف لخالد
وقد مات الكميت سنة ست وعشرين ومائة، وكان وهو يجود بنفسه يقول: اللهم آل محمد، اللهم آل محمد. وقد أوصى ابنه المستهل أن يدفنه بموضع يقال له (مكران) غير ما يدفن الناس فيه بظهر الكوفة، فكان أول من دفن فيه من بني أسد
عبد المتعال الصعيدي
حاشية: ذكرنا أن الأعور الكلبي رمى امرأة الكميت بقصيدة
يقول فيها (أسودينا وأحمرينا) وهذه رواية الأغاني، وقد وجدنا
هذا البيت في شرح الأشموني على ألفية ابن مالك:
فما وجدت نساء بني تميم
…
حلائل أسودين وأحمرينا
وسنعود إلى ذكره في مناقضات الكميت مع الأعور الكلبي
التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
- 5 -
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم
أبرزت السياسة مواهب ابن الأحراج وأثارت ما استكن في نفسه من معاني الإنسانية الصادقة؛ وأخذت الأيام تعده ليؤدي للبشرية رسالة. . . والعبقري مهما تناول من عمل فهو إنما يفرغ عليه من نفسه فيلبسه من المعاني مالا يستطيعه أو يحلم به الرجل العادي؛ ولقد يكون العمل في ذاته متواضعاً فما هو إلا أن يمر به قبس من روحه حتى يصبح وقد استعظم واستعلى وخرج بذلك عن ذاتيته
أخذ الطوال التسعة يعملون عملهم مع أقرانهم في المجلس، وكانت تشغلهم يومئذ مسائل كثير، فالبلاد تواقة إلى الإصلاح المحلي في شتى ضروبه، ومسألة العبيد يتزايد خطرها يوماً بعد يوم. . ولكن ابراهام حيال مسألة عارضة، تلك هي الدعوة إلى نقل مقر المجلس إلى مدينة أخرى يراها أحسن موقعاً وأوسع مجالا من فنداليا؛ وهو في ذلك يعبر عن رأي الكثيرين من ناخبيه، ومازال بالمجلس حتى ظفر بعد جهد - هو ومظاهروه - بإقناعه، ومن ثم أصبح مقر مجلس المقاطعة في سبرنجفيلد. . .
دخل إبراهام سبرنجفيلد على جواد هزيل استأجره، يحمل كل ما يملك من متاع الدنيا في عدل صغير، وفي جيبه مبلغ لا يقل عن سبعة دولارات! وكاهله مازال مثقلا بما سماه الدين الأهلي. . دخل المدينة الجديدة لا يدري أين يتخذ مأواه، أو على الأقل أين يلقي رحاله لساعته. وسيظل في هذه المدينة حتى يخرج منها إلى واشنجطون العظيمة ليأخذ مقعده في البيت الأبيض!
وكانت المدينة يومئذ آخذة في الاتساع والنمو يسكنها ألف وثمانمائة نسمة، بيد أنها كانت لا تزال تعلق بها مسحة من الغابة إذ كان منبتها كغيرها أول الأمر وسط الأحراج؛ فهي كصاحبنا أيب تخلع عنها ما تخلف فيها من حياة الغابة شيئاً فشيئا
قصد إبراهام إلى حانوت يملكه رجل من كنتوكي كانت له به من قبل معرفة طفيفة، وأقبل على ذلك الرجل ومتاعه على ذراعه يسأله عما يلزم من المال لشراء سرير وفرش، فلما أخبره الرجل بما يلزم أخذته الحيرة وقال له:(إني سأحترف المحاماة ولي في الربح أمل، فهل لك أن تعطيني طلبتي على أن تمهلني إلى عيد الميلاد القادم؟) ثم أردف قائلاً: (وإذا أنا عجزت يومئذ عن أن أدفع لك حقك فلست أعلم هل أستطيع أن أؤدي لك ذلك أبدا؟) وكان الرجل طيب القلب فما لبث أن ملكته الشفقة على ذلك الغريب الذي يبدو له من أمانته بقدر ما يبدو من فقره؛ لذلك آواه عنده وعرض عليه أن يقتسم وإياه سريره القائم في حجرة صغيرة هناك فوق الحانوت؛ وصعد إبراهام إلى الحجرة فألقى عدله. ونزل وعلى وجهه أمارات الرضا. . .
كان إبراهام مزمعاً أن يتخذ من المحاماة مرتزقاً، وهو قد ترك العمل في البريد وفي تخطيط الأرض منذ أن هم بالرحيل إلى سبرنجفيلد، فأقبل على كتب القانون يستزيد منها علما؛ وكان يعيره بعض الكتب محام في المدينة يدعى ستيوارت. ورأى ستيوارت من ذكاء صاحبه وطيب سريرته وحسن طويته ما دعاه إلى أن يشركه في العمل معه؛ وقبل إبراهام ذلك مغتبطاً مسروراً يحس كأن الأيام توشك أن تبتسم له بعد تجهم وعبوس، فله اليوم في السياسة مجال وله في المحاماة مجال
بيد أن هناك من الأمور ما لا يزال يكدر خاطره ويكرب نفسه. . . ذلك ما كان من غرامه الثاني إن جاز لنا أن نسمي علاقته الجديدة بعد موت آن غراما
الحق أن هذا الجانب من حياة لنكولن، جانب علاقته بالفتيات، أمر يدعو إلى العجب حتى ليحمله المرء على ما كابد من شذوذه أكثر مما يحمله على ما كان من حصافته ولقانته. عرف لنكولن فيمن عرف من أهل نيوسالم امرأة كانت تضيفه أحياناً فتحسن ضيافته، وظل يغشى منزلها زمناً حتى أصبح كأنه من أهلها. وحدثته تلك المرأة فيما حدثته عن أخت لها غائبة ألقت عليها من الصفات ما تبتكره أخت لأختها حين تبحث لها من الشباب عمن
يطلب يدها. ورد إبراهام مرة فقال وهو لا يدري أمازح هو فيما يقول أم جاد: إنه يرحب بالزواج من تلك الأخت، وكان قد رآها قبل ذلك بثلاثة أعوام، فلما عادت كانت تجلس إليه ويجلس إليها. . .
وصور له خياله الخصب أن كلمة ميثاق لن يسمح له ضميره أن يتحلل منها. بيد أنه في حيرة دونها كل ما سبق من حيرة! لا يحس في قلبه ما يحسه المرء حين يمر به طائف من الحب؛ وهو مع ذلك لا يستطيع أن يقطع أنه لا يحبها!
لعل ما هو فيه اليوم من أمور السياسة ومن شؤون المحاماة يصرفه حيناً عن وساوسه وهواجسه؛ لقد أخذ ستيوارت القضايا الكبيرة وترك لإبراهام ما خف من القضايا؛ ولكن الحوادث ساقت إليه قضية معقدة اكتسبها ونمى إلى الناس خبرها فما لبث أن أصبح في مهنته الجديدة ملحوظ المكانة
وكان دستوره في المحاماة منبعثاً من أعماق نفسه، لذلك كان قائما على توخي الحق والدفاع عنه ونصرة المظلومين والضعفاء؛ كان لا يقبل قضية لا يقتنع بصدقها، ولا يقرب قضية يعلم أن الدفاع فيها يمس الخلق من قريب أو بعيد، وكان أسلوبه في المحاماة كذلك صورة لنفسه، لا يعرف اللجاج ولا المطاولة ولا يلتوي في أمر أو يخفي في نفسه شيئاً لغاية في نفسه إلا إذا كان ذلك لستر عرض أو لحفظ كرامة، على ألا يكون للمجاملة حساب في نفسه إذا انبنى عليها إساءة إلى الفضيلة أو انتقاص للعدالة
وخفت وطأة الأيام عليه حيناً، فمكانه في المحاماة - وهو يومئذ لم يعد الثامنة والعشرين - كما علمت؛ ومكانه في السياسة قد جعله رأس حزبه في المجلس، وهو كما مر بك حزب الهوجز؛ وهو إلى ذلك حبيب إلى أهل سبرنجفيلد لما كان له من يد في نقل المجلس إليها، ولما آنسوا من طلاوة حديثه وروعة قصصه وعذوبة نفسه. ولقد توثقت المودة بينه وبين الكثيرين وعلى الأخص بينه وبين سبيد صاحب الحانوت. . .
وكان من أحب الساعات إليه تلك التي يجتمع فيها وجماعة من حزبه في حانوت سبيد فيتحدثون ويقلبون الآراء في السياسة وقضاياها. ومن تلك الجماعة من سيكون لهم في الغد شأن في سياسة بلادهم، على أنه مهما يبلغ من شأنهم فسيظل دون ما سيكون لابراهام من شأن. وممن كانوا يختلفون إلى ذلك المنتدى رجل من الحزب الديمقراطي صغير الجرم
يدعى دوجلاس، عرف لنكولن أيام كان المجلس في فنداليا، وقد اشتهر بلباقته وحدة ذكائه وعرف إلى جانب ذلك بالأثرة والغيرة والطمع في عليا المراتب. وكأنه كان يغار من لنكولن؛ أو لعله كان يدرك منذ ذلك التاريخ أنه إن بذ الرجال جميعاً فإنه لن يلحق بهذا الرجل. وسيكون بينهما من التنافس ما يفتح صفحات ممتعة في حياة لنكولن
ولم يكن نشاط لنكولن قاصراً على المجلس والمحكمة وحدهما بل لقد كان نشاطه خارجهما باعثاً على الإعجاب جديراً بالثناء، فهو داعية إلى الثقافة، حاث على الإصلاح بما ينشر ويذيع؛ وذلك لعمري جد عجيب من رجل كان قبل ذلك ببضع سنين يقطع الأخشاب في الغابة يشتري بالمئات منها سروالا!
وحسبك منه ما ترى في تلك الخطبة التي ألقاها في ناد من أندية المدينة، وإليك بعض ما قاله:(إذا كان ثمة خطر يتهدد الولايات فمصدر ذلك الخطر من داخلها. يجب أن نعيش أبداً أمة حرة أو نقتل أنفسنا؛ إنما أشير إلى ما يتزايد من عدم مراعاة القانون في البلاد) ثم يذكر حادثاً خطيراً من حوادث الاغتيال ويعلق عيه بقوله: (تلك هي المناظر التي تتزايد يوماً بعد يوم في هذه الأرض التي اشتهرت أخيراً بحب القانون والنظام. . . وماذا عسى أن نصنع لنقف في وجه هذا؟. الجواب يسير: ليقسم كل أمريكي، كل عاشق للحرية، كل ذي نية طيبة نحو الفَلاح، ليقسم كل بما جرى من دماء في الثورة ألا يتعدى قوانين البلاد في أي جزئية منها، وألا يسمح للغير بتعديها، وكما فعل رجال عام 1776 في تعضيدهم حركة إعلان الاستقلال، كذلك ليفعل اليوم كل أمريكي في حرصه على الدستور والقانون؛ وليقدم كل في سبيل ذلك حياته وشرفه المقدس وما ملكت يداه. إن في النابهين الطيبين من الناس ممن تتوفر فيهم الكفاية لأن يحسنوا أي عمل يوكل إليهم - كثيرين لا تمتد أطماعهم إلى ما هو أبعد من مقعد في المؤتمر أو من مركز في الحكومة أو من وصول إلى كرسي الرياسة؛ ولكن هؤلاء لا ينتمون إلى أسرة الضراغم ولا إلى جماعة النسور. واهاً! أتظنون أن مثل هذا يملأ عين اسكندر آخر أو قيصر ثان أو نابليون جديد! كلا. إن العبقرية الشامخة لتحتقر الطريق التي وطئتها الأقدام من قبل. . . لقد كانت العواطف قبل عوناً لنا ولكنا لن نركن إليه اليوم ولسوف تكون في المستقبل عدواً لنا، ألا لتكن الحكمة الباردة الحاسبة التي لا تعرف العواطف هي التي تمدنا بما يلزمنا في مستقبلنا من أسباب القوة والدفاع)
يا ابن الغابة يا ربيب الفقر والبأساء! أنى لك هذا كله! ألا إنها العبقرية تستعلن في الخطابة وتحمي على الحماسة وإن خفيت في الحديث الهادئ أو في القصة الوادعة!
وماذا يريد لنكولن بإشارته إلى العبقرية الشامخة وما تتطلع إليه؟ هل كان يرسم لنفسه ما يجب أن يفعله في غد؟ كلا. ما كان يدرك يومئذ أو يحس أن له في غد من عمله ما هو حري أن يملأ عين اسكندر آخر أو قيصر ثان أو نابليون جديد
ومما عرف عنه في السياسة موقفه فيما كان في تلك الأيام من أمر العبيد. فلقد انبعثت صيحات قوية من أولئك المتطرفين من أهل الشمال الذين أهابوا بالمؤتمر أن يعلن تحرير السود في جميع الولايات؛ وهو يومئذ مطلب جريء بل لقد كان يعد في تلك الأيام حلماً من الأحلام. وقف ابراهام من تلك الدعوة موقفاً ينطوي على الكياسة وبعد النظر، ويكشف عن ناحية أخرى من نفس هذا السياسي الناهض، تلك هي ناحية التعقل والنظر إلى حقائق الأمور دون مغالطة فيها أو تغاب عنها
كان إبراهام يمقت نظام العبيد من أعماق نفسه وهاهو ذا يجد نفسه اليوم بين أمرين: تطرف الداعين إلى القضاء على هذا النظام طفرة، وما اتخذه مجلس مقاطعته من قرارات رجعية لم يستطع هو وأنصاره تلافيها. أما عن قرارات المجلس فإنها كانت على الأرجح تعبر عن ميل أعضائه وخاصة الديمقراطيين إلى محاربة الدعوة القائمة لتحرير العبيد؛ وكان أن أعلن إبراهام هو وزميل له احتجاجاً على قرار المجلس يتضمن أنهما وإن كانا يريان مسألة العبيد قائمة على الجور وخطل السياسة إلا أنهما يعتقدان أن ما يدعو إليه المتطرفون إنما يساعد على ازدياد الخلاف بين الولايات؛ كذلك هما يعتقدان أن موقف المجلس في قراراته لا يطابق الدستور. ولقد ذاع في الناس هذا الاحتجاج فأضافوه إلى ما عرفوه عن لنكولن من حميد الخلال؛ وهاهو ذا ينتخب للمرة الثالثة وهو في التاسعة والعشرين؛ يطول باعه في المحاماة كلما تصرمت الأيام، وترسخ قدمه في السياسة، ويعلو كعبه في الخطابة. وكان أكبر معارضيه ومناوئيه إذ ذاك دوجلاس وكانت له مواقف يظهر فيها على إبراهام في المجلس بلفتات ذهنه ولباقته، وسرعة انتقاله من فكرة إلى فكرة ومن قضية إلى قضية؛ ولكن إبراهام كان المتفوق الظافر إذا كان الأمر أمر إخلاص أو أمانة أو بعد نظر أو دقة تحليل. وأحب الناس في المجلس وخارجه مما أحبوا من صفات لنكولن
الخطيب تساوق عباراته ودقة ألفاظه في التعبير عما يريد؛ وأحبوا منه فوق ذلك براعته في التهكم، تلك الخلة التي كان لا يطيقها معارضوه، كما أنسوا إلى تلك الأمثال البارعة التي لم يك يفتأ يضربها للناس في جلاء وبصيرة يستعين بها على بيان ما يريد
لم تلهه السياسة وشواغلها ولا المحاماة وقضاياها، ولا الجلسات في حانوت سبيد وما كانت تثير في نفسه من لذة. . . لم يلهه ذلك كله عن نوازع قلبه وخلجات نفسه؛ وأنى له ذلك وقد كانت ماري أوين، تلك الفتاة التي ارتبط بها، تلقاه بعد أن تزور أحياناً بعض ذوي قرباها في سبرنجفيلد فتراه ويراها، كما كان هو يذهب إلى نيوسالم فيغشى بيت أختها. إن أمره عجب في ذلك! لا يستطيع أن ينصرف عنها ولا يستطيع أن يؤمن أنه يحبها! تلك حال من حالات الشباب؛ أو هي حال من حالات لنكولن العجيب
كانت علاقتهما علاقة فتور يتجلى لهما في عدة مواقف، ولكنهما كانا في موقف تحسب الفتاة أنه لم يبق إلا أن يتقدم صاحبها بالاقتراح، ويحسب الفتى أنه لم يبق إلا أن تنأى بجانبها عنه فتريحه. لقد كان منقبض النفس لهذه الحيرة يجعل للمسألة من الأهمية أكثر مما لها. نلمس ذلك في مثل قوله:(لم أجدني مرة مدة حياتي في قيد حقيقياً كان أو خيالياً أرغب في التحرر منه مثلما أرغب في التحرر من هذا القيد)
وجمع أمره فكتب إليها خطاباً رقيقاً محكماً يشير فيه إلى دخيلة نفسه ويتلمس معرفة طويتها دون أن ينالها بكلمة قاسية. تكلم عن فقره وما عسى أن تجد عنده من تكون زوجة له، ثم قال (ربما كان ما قلته لي من قبيل المزاح وإلا فأظنني لم أفطن إلى مرماه. إن كان كذلك فدعيه إلى النسيان، وإن لم يكن كذلك فإني أحب أن تفكيري تفكيراً جدياً قبل أن تقطعي في الأمر؛ وسأكون عند ما قلت إذا كان ذلك ما تشائين. وإني أرى ألا تشائي ذلك فإنك لم تتعودي البأساء وربما كان الأمر أقسى مما تخالين) وكتب لها بعد ذلك لها بعد ذلك خطاباً أكثر صراحة جاء فيه: (إذا كنت تشعرين أنك مقيدة نحوي بأي رباط فإني أميل الآن إلى أن أطلقك منه إذا كانت هذه بغيتك؛ بينما أراني من جهة أخرى أميل إلى أن أمسكك عليّ إذا اقتنعت أن ذلك يزيد من سعادتك بقدر خليق بالاعتبار. تلك في الحقيقة هي المشكلة بالنسبة إلي)
تلك هي تعللات المتردد الحائر تصور لنا حالا من الحالات المستعصية على الفهم، بيد أن
المسألة قد آلت آخر الأمر إلى الرفض وانصرفت عنه ماري أوين. وظل بعد انصرافه عنها حائراً لا يدري أيحمل ذلك على الفوز أم يحمله على الخيبة؛ على أنه يعلن في عزم مصمم أنه لن يفكر بعد في الزواج
ومن العظماء من تنطوي نفوسهم على نواحي ضعف تكافئ نواحي القوة فيها؛ ومن هؤلاء لنكولن، من نواحي ضعفه هذه الحيرة الخوارة إذا كان الأمر أمر نساء؛ فهل كان يرى في سكنه إلى زوجة قيداً يحرمه من حريته، أم هل كانت تعوزه الكفاية لهذا الغرض؟ من العسير أن نرد هذا إلى سبب واضح محدود. .
وما باله يتورط بعد ذلك في صلة جديدة؟! ينصرف عن ماري أوين ليتصل بماري تود؟ كانت هذه الفتاة تنتمي إلى درجة دونها درجته، وكانت مهذبة مثقفة، شديدة الذكاء، تدير الحديث إذا جمعها بالنابهين من أهل المدينة مجلس، فتسخرهم بتوقد الذهن وقوة المبادهة ولطف الإشارة وأناقة العبارة. وكانت ماري إلى ذلك ذات طمع وطموح، فكانت نظرتها إلى الشباب من طبيعة نظرتها إلى الحياة؛ المقدم فيهم عندها من تعرف أنه إذا نالت يده يخطو بها إلى ما تمد عينيها وخيالها من جاه ونفوذ. وكانت فتاة قلقة كأنها من فرط توثبها الطائر المدل لا يحط على غصن إلا ليثب منه إلى غصن. . .
وكان لنكولن ممن يختلفون إلى دارها الجميلة التي تدور بها حديقة صغيرة فينانة، كما كان دوجلاس ممن يختلفون إلى تلك الدار؛ كأنما صحت عزيمة هذا الرجل أن يأخذ على منافسه كل طريق! وأخذت الرجلين عينا ماري السريعتان النافذتان ولكنهما استقرتا على إبراهام. وكان دوجلاس خليقاً أن ينال عندها الحظوة بما كان يبدو من ذكائه ودهائه ولباقته وكياسته، وبما كان يشع من ظرفه وحسن سمعته وأناقة هندامه، ولقد كان يبتغي إليها الوسيلة، لا تفلت منه في ذلك فرصة ولا تفوته حيلة. ولكنها اتجهت إلى ابن الغابة في هندامه المتهدل القصير على جسمه المرهف الطويل ولم ينب في عينيها وجهه المسنون الذي يحمل من البلاهة بين يديها قدر ما يحمل من هموم الأيام، ولم ينب عن ذوقها شعره الأشعث الذي يصور للعين ألفاف الغابة!
ومضت الأيام وابراهام يتزيد من حبها بقدر ما يفقد دوجلاس؛ ولكنه يسر إلى صديقه سبيد أنه لا يشعر نحوها من الحب بما عساه أن يفضي إلى الزواج، ويهم أن يكتب إليها ذلك،
فيشير عليه صاحبه أن يشافهها بالأمر، فيفعل، ولكنه يعود إلى صاحبه ليخبره أن لا مناص ولا حيلة، فهو اليوم رهين أسير، ذلك أنه ما كاد ينبئ ماري بما يعتقد حتى هبت من مقعدها صارخة تقول: أصبح المخادع هو المخدوع! قال لنكولن: (ووجدت الدموع تنحدر على خدي أنا فأخذتها بين ذراعي وقبلتها)
وظلت ماري بعد ذلك مدة عامين تحرص على ابراهام وتتحايل على كسب قلبه؛ فلقد كانت ترى منه ما يبشر بأملها المرجو، قالت عنه بعد ذلك بسنين:(لم يكن مستر لنكولن من الوجاهة كما كان مستر دوجلاس، ولكن الناس لم يكونوا يلحظون أن قلبه كان من الكبر بقدر ما كان ذراعه من الطول). ولكن ابراهام كانت تأخذه من الهم غاشية كلما مال الحديث إلى الزواج، وعاد إليه تردده وتلدده، وعاودته الرغبة في التخلص من ماري تود كما تخلص قبل من ماري أوين. وكان يومئذ في حال إن لم نحملها على الخبل نحار على أي شيء غيره نحملها. وحسبك أنه ابتعد عنها بغتة في اليوم السابق ليوم الزفاف، وهو يأمل أن يسترد احترامه لنفسه ومقدرته على الحكم، ولكنه أحس أن فعلته هذه ضد الشرف فحاق به اليأس. كتب إلى صديقه سبيد:(إما أن أموت وإما أن تتحسن حالي، ولكن بقائي فيما أنا فيه من المستحيل) وبعد ذلك بأيام كان عند الطبيب
الخفيف
أناشيد غزلية
البستاني
للشاعر الفيلسوف طاغور
بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب
(تشكي إلى كثير من صحابتي ومن قراء (الرسالة) الغراء بعض ما وجدوا في أناشيد جيتانجالي من شدة وصعوبة وصلابة؛ وفي الحق لقد وجدت فيها قوة السبك ومتانة الأسلوب وعمق الفكرة الفلسفية، فما استطعت أن أنحرف عما أراده المؤلف لأناشيده. وأنا أريد أن أنقل إلى العربية ترجمة صحيحة فيها الأمانة والدقة والإتقان، فجاءت كما قرأها القارئ وكما تحدث إلي عنها المتحدث. . .)
(ولقد وعدت رفاقي أن أرفه عنهم بعض ما نالهم من أناشيد جيتانجالي بأناشيد أخرى فيها رقة النسيم العليل وابتسامة الفجر الضاحك، وحلاوة الأمل الباسم. . . تلك هي أناشيد (البستاني) التي أقدمها للقراء اليوم وما بعده، وهي أناشيد غزلية كتبها طاغور بالهندية وترجمها هو إلى الإنجليزية وهي 85 نبضة من نبضات قلب شاعر سما بقلبه وعقله معاً فوق الإنسانية ليهبط عليها بوحي من نفسه الشاعرة الرقيقة)
(وهي كلها نوع من الغزل الرقيق الرفاف لم نر مثله في اللغة العربية. فها هي ذي أترجمها كلها - إن شاء الله - والله أسأل أن يوفقني. . .)
كامل
- 1 -
الخادم - أسبغي على خادمك بعض فضلك يا مليكتي!
الملكة - لقد انفض السامر وتفرق الخدم، فلماذا جئت وقد انفرط عقد الليل؟
الخادم - حين تخلو مليكتي إلى نفسها أبتغي أنا إليها الوسيلة.
لقد جئت لأسألك ما ادخرت لخادمك من عمل
الملكة - وماذا تبتغي في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟
الخادم - مري فأكون بستانيّ حديقة أزهارك
الملكة - يا للحمق!
الخادم - سأنفض عن نفسي كل عمل سوى هذا
سألقي بسيفي ورمحي معاً جانباً. لا تقذفي بي إلى غيابة قصورك النائية، ولا تدفعي بي
إلى ميدان القتال؛ ولكن مري فأكون بستاني حديقة أزهارك
الملكة - وماذا تريد أن تعمل هناك؟
الخادم - سأقوم على خدمتك في ساعات الفراغ
وأتعهد حشائش الطريق لتظل خضراء ناضرة. . . الطريق الذي تجتازين كل صباح
حيث تتناثر على قدميك أوراق الزهور التي تسير الهوينى في طريق الفناء، كأنها تحييهما في ولاء
وأرجّح بك الأرجوحة بين أغصان الدوح، حيث تجهد أشعة القمر نفسها أن تندفع خلال
أوراق الشجر لتقبل ذيل مرطك
ثم أترع مصابيحك بالزيت العطر حين توشك أن تنضب، وأنثر على موطئ قدميك
الصندل والزعفران في دقة وإتقان
الملكة - وماذا تنتظر من أجر؟
الخادم - أجري أن تأذني فأمسك بيدك البضة الناعمة التي كأنها زهرة اللوتس الناضرة،
فأزين معصمها بسوار من زهر؛ وأصبغ أخمص قدميك بعصير الزهر الأحمر، ثم أنفض عنها ما عساه أن يعلق بها من ذرات التراب
الملكة - لقد أجبت سؤالك يا خادمي، فاذهب أنت منذ الآن بستاني حديقة أزهاري
- 2 -
(آه، أيها الشاعر! إن المساء يقبل في أناة، فيدب الشيب في شعراتك)
(أفتسمع من خلال تأملاتك وأنت في خلوتك رسالة الغيب؟)
قال الشاعر: (حقاً، إنه الليل، وأنا جالس أتسمع لأن صوتاً سيرتفع - في جوف الليل -
من جانب القرية)
(وأنا أرقب القلوب الشابة وهي تتلاقى بعد تيه، فتنطلق نظرات الهوى تطلب الموسيقى
لتصدح من حواليها السكون وتتحدث حديثها)
(من ذا يستطيع أن ينسج أغانيها على منواله إن أنا انزويت على شاطئ الحياة لا
أستشعر في نفسي سوى الموت والحياة الأخرى؟)
(لقد توارى أول نجم بزغ عند بزوغ الغروب)
(ووميض نار الموتى إلى جانب النهر الهادئ يخمد رويداً رويداً)
(وعواء أبناء آوى يرتفع من جنبات المنزل الموحش في ضوء القمر الشاحب)
(وإذا تلبث مسافر هنا قليلاً ليرقب الليل، وأطرق حيناً ليسمع همهمة الظلماء؛ فمن ذا
الذي يسكب في مسمعيه أسرار الحياة إن أنا أوصدت دونه بابي لأتحلل من قيود الإنسانية؟)
(إنها خرافة: أن يدب الشيب في شعراتي)
(إنني دائماً شاب كأصغر شباب القرية، وشيخ كأكبر كهولها)
(بعض الناس ترتسم على شفاههم ابتسامة عذبة رقيقة، والبعض يشع من نظراتهم
الخبث)
(بعض تنهمر عبراتهم في وضح النهار، والبعض يكفكفون دموعهم في هدأة الليل)
(كل أولئك في حاجة شديدة إليّ، فأنا لا أجد في عمري مُنفسحاً لأفكر في الحياة الآخرة)
(إنني أعيش مع كل أولئك، فماذا يضيرني إن دب الشيب في شعراتي)
- 3 -
عند الصباح طرحت شبكتي في البحر
ثم جذبتها من الهوة السحيقة فألفيت فيها أشياء ذات بهجة وجمال: بعض يشع كالابتسامة،
وبعض يلمع كالعبرة، وبعض يتألق كأنه خد عروس
وعند الأصيل عُدتُ إلى داري أحمل ثقل يومي؛ وعلى جانب الطريق رأيت التي أحب
جالسة في الحديقة لا تجد عملاً فهي تعبث بأوراق زهرة
فاندفعت إليها وألقيت ثقلي عند قدميها ثم وقفت بازائها صامتاً
ونظرت هي إلى أشيائي ثم قالت: (ما أعجب ما أرى! ماذا يفيد كل هذا؟)
فأطرقت ملياً والخجل يعركني عركا، ثم طاف بخاطري (أني لم أجهد نفسي في سبيل
هذا، ولم أدفع له ثمناً؛ إن كل ذلك لا يستأهل أن يكون هديتي إليها)
فقذفت بها جميعاً - واحدة فواحدة - إلى الطريق
وحين أسفر الصبح جاء السائحون أرسالا، فالتقطوا كل ما قذفت به وحملوه إلى بلاد نائية
كامل محمود حبيب
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
353 -
على هذا بنيت الدنيا
أُنشِد عمر رضي الله عنه قول عبدة بن الطيب
والمرء ساع لأمر ليس يدركه
…
والعيش: شح وإشفاق، وتأميل
فقال: ما أحسن ما قسم! على هذا بنيت الدنيا
354 -
بلى، إن للعينين في الصبح راحة
في (الموشح) للمرزباني: الشعراء على أن الهموم متزايدة بالليل - متفقون، ولم يشذ عن هذا المعنى ويخالفه منهم إلا أحذقهم بالشعر. والمبتدئ بالإحسان فيه امرؤ القيس فإنه بحذقه وحسن طبعه وجودة قريحته كره أن يقول: إن الهم في حبه يخف عنه في نهاره ويزيد في ليله، فجعل الليل والنهار سواء عليه في قلقه وهمه وجزعه وغمه فقال:
ألا أيها الليل الطويل، ألا انجلي
…
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
فأحسن في هذا المعنى الذي ذهب إليه وإن كانت العادة غيره، والصورة لا توجبه. ثم صب الله على امرئ القيس بعده شاعراً أراه استحالة معناه في المعقول، وأن القياس لا يوجبه، والعادة غير جارية به، حتى لو كان الراد عليه من حذاق المتكلمين ما بلغ في كثير نثره ما أتى به في قليل نظمه، وهو الطرماح بن حكيم فإنه ابتدأ قصيدة فقال:
ألا أيها الليل الطويل ألا اصبح
…
بِبَمّ وما الإصباح فيك باروح
فأتى بلفظ امرئ القيس ومعناه ثم عطف محتجاً مستدركا فقال:
بلى، إن للعينين في الصبح راحة
…
لطرحهما طَرْفيهما كلَّ مطرح
فأحسن في قوله وأجمل، وأتى بحق لا يدفع، وبين عن الفرق بين ليله ونهاره
355 -
أحسن منها على حيطان جيرانها
في (كتاب الصناعتين): قيل لبعضهم ما بلغ من حبك لفلانة؟
فقال: إني أرى الشمس على حيطانها أحسن منها على حيطان جيرانها
356 -
أبو رياح
في (ثمار القلوب في المضاف والمنسوب) للثعالبي: أبو رياح تمثال فارس من نحاس بمدينة حمص على عمود حديد فوق قبة كبيرة بباب الجامع - يدور مع الريح حيث هبت، ويمينه ممدودة، وأصابعها مضمومة إلا السبابة، فإذا أشكل على أهل حمص مهب الريح عرفوا ذلك به، فإنه يدور بأضعف نسيم يصيبه ولذلك كني بأبي رياح. وقد يقال للرجل الطائش الذي لا ثبات له:(أبو رياح) تشبيهاً به، وقيل:
أفّ لقاض لنا وقاح
…
أمسى بريئاً من الصلاح
كأن دنيته عليه
…
غراب نوح بلا جناح
وليس في الرأس منه شيء
…
يدور إلا أبو رياح. . .
357 -
فليس لخوفه يبدين حرفا
قال جحظة: كنت مع ابن الرومي فرأينا (أبا رياح) على دار ابن طاهر. فقلت له: صف هذه الشرفات وأبا رياح، فقال:
ترى شرفاتها مثل العذارى
…
خرجن لنزهة فقعدن صفا
عليهن الرقيب أبو الرياح
…
فليس لخوفه يبدين حرفا
358 -
حرمته ماءه ومرعاه
في (السلوك) للمقريزي: في سنة (664) اشتد إنكار السلطان للمنكر، وأراق الخمور، وعفّى آثار المنكرات، ومنع الخانات والخواطئ بجميع أقطار مملكته بمصر والشام. قال ابن المنير قاضي الإسكندرية لما وردت إليه المراسيم بالإسكندرية وعفي متوليها أثر المحرمات:
ليس لإبليس عندنا أربٌ
…
غيرُ بلاد الأمير مأواه
حرمتَه الخمر والحشيش معاً
…
حرمتَه مأواه ومرعاه
وقال أبو الحسن الجزار:
قد عُطل الكوب من حبابه
…
وأخلي الثغر من رضابه
وأصبح الشيخ وهو يبكي
…
على الذي فات من شبابه
359 -
دعني أمش في ضوء رضاك
في (أمالي) القالي: قال جحظة: دخل رجل على عمر بن فرج فتنصل إليه من ذنب له فرضي عنه، فلما خرج قال: يا غلام، خذ الشمعة بين يديه
فقال: دعني أمشِ في ضوء رضاك. فاستحسن ذلك وأمر له بصلة حسنة
360 -
فيأخذها غيرهم فيزن فيها
في (إرشاد الأريب): جرى مع أسعد بن المهذب حديث النحويين وأن أحدهم ينفد عمره فيه ولا يتجاوزه إلى شيء من الأدب الذي يراد النحو لأجله من البلاغة وقول الشعر ومعرفة الأخبار والآثار وتصحيح اللغة وضبط الأحاديث. فقال الأسعد هؤلاء مثلهم مثل الذي يعمل الموازين وليس عنده ما يزن فيه، فيأخذها غيرهم فيزن فيها الدر النفيس والجوهر الفاخر والدنانير الحمر
قال ياقوت: وهذا عندي من حسن التمثيل
مرأى الجمال وذكرى الجلال
للأستاذ عبد الرحمن شكري
مقدمة:
لمناظر الطبيعة الرائعة الجلية لذة في النفوس مثل مناظر الجبال الشاهقة والهاويات العميقة والأعاصير وأثرها والبحار وأمواجها، وهي تبعث اللذة في النفس حتى في مخاوفها إذا لم تتملك مخاوف مناظرها النفس بالذعر والرعب، وقد ينقلب الحنين المقهور في النفس إلى الجمال فيصير ولوعاً بمناظر الجلال والروعة، كما أن مناظر الجلال والروعة قد تشحذ الحنين إلى الجمال وتذكر المرء به، وقد تطغى كل من العاطفتين على الأخرى ولهما أيضاً صلات أخرى غير ما ذكرنا. ومن مسرات التفكير والفنون أن يتتبع الإنسان صلات العاطفتين في نفسه وهذه القصيدة من قبيل هذا التتبع
(الناظم)
ذكرتك في البحار الزاخرات
…
وفي مجرى السفين الجاريات
كأن البحر حي ذو جنان
…
وموج اليم نبض النابضات
وفي ذاك الجلال بلاغ راءٍ
…
وروع للنفوس الواعيات
ولكني ذكرتك يا حبيبي
…
كما حن المريض إلى الحياة
كما حن الهزار إلى ربيع
…
وأفنان الرياض على الأضاة
وكم غلب الجمال على جلال
…
كما غلب الرقاد على التفات
ذكرتك والقبور ترد طرفي
…
وتسخر من هيام بالشيات
وتخبرني بأن الحب فانٍ
…
وأن العيش صنو للممات
ولكني ذكرتك يا حبيبي
…
وذاك الذكر خير الذكريات
ذكرتك والسقام يبيد لبي
…
ويسْلي النفس ماضٍ وآت
ويلهي النفس عن حب وشعر
…
وعن سحر العيون الساحرات
ولكني ذكرتك يا حبيبي
…
كذكري للسنين المقبلات
ذكرتك في الطلول الدارسات
…
وآثار العصور الغابرات
أرى الأهرام كالأعلام تزهو
…
على عبث الصروف المهلكات
فأبصر من مضوا وأرى اعتزازاً
…
لهم بالمصيبات الفانيات
فيضؤل عيش هذا الناس حتى
…
لينسى المرء ذكر المصيبات
ولكني ذكرتك يا حبيبي
…
كذكري للأمور الخالدات
عبد الرحمن شكري
معاودة الذكرى
للشاعر الرواية الأستاذ أحمد الزين
سبق أن نشرنا أبياتاً غير مرتبة بعث بها إلينا الأستاذ من هذه القصيدة الرائعة، وقد أرسل إلينا حضرته بنصها كاملاً، وهاهي:
عاَوَدَ القَلْبَ حنِينُهْ
…
مَنْ عَلَى الشَّوْقِ يُعينُهْ
وَيْحَ قلْبي مِنْ غرامٍ
…
هَاجَ بالذِّكْرى كمينُهْ
يا لخفَّاقٍ إذا ما
…
قَرَّ هَزَّتْه شُجُونُهْ
واصِلٌ مَن صَدَّ عنه
…
صائن من لا يَصُونُهْ
خانَهُ الصَّبْرُ ولولا الصَّ
…
دُّ ما كان يخونُهْ
يا زَماناً لم تكُنْ إلاّ
…
هُنيْهاتٍ سنينُه
كنتَ رَوْضاً حالياً بالوَ
…
صْلِ قد رَفَّتْ غُصونُهْ
حُلُمٌ إنْ يَمْحُهُ الدَّهْ
…
رُ فَفِي الذِكرَى مَصُونُهْ
كلَّما مرَّ بقلبي
…
ذِكْرُهُ جُنَّ جُنُونُهْ
لَوْ شَهِدْتِ النَّجْمَ أَرْعَا
…
هُ وَتَرْعَاني عُيُوُنُهْ
أو رأيتِ الليل أشكو
…
هُ وتَشْكُونِي دُجُونُهْ
ومِهادَ النوم كم يق
…
سُو على جَنْبَيَّ لِينُهْ
آه لَوْ تَدْرِينَ مَا بِي
…
ضَاقَ بِالْقَيْدِ سَجِينُهْ
أنتِ تدرين ولكن
…
لِصِبَا الغِيدِ فُتُونُهْ
أنتِ لي كلُّ شُئُوني
…
وَيْلَ مَنْ أَنْتِ شُئُونُهْ
كان لي دَمْعٌ فماَ لِي
…
جَفَّ مِنْ دَمْعِي مَعِينُهْ
مَن لِصَبٍّ غَدَرَ الوَا
…
فِي به حَتَّى جُفُونُهْ
كُلَّمَا مَنَّاهُ ظَنُّ
…
عادَ بِاليأْسِ يِقينُهْ
سَكَنَ اللَّيْلُ فماَ لِلْ
…
قلْبِ يَجْفُوهُ سُكُونُهْ
كم وَكم أَقْسَمَ أَنْ يَسْ
…
لُو فما بَرَّتْ يمينُهْ
كلَّما ظَنَّ سُلُوّاً
…
كذَبَتْ فيه ظُنُونُهْ
كم فُنُونٍ في الح
…
بِّ وللحُبِّ فُنُونُه
فَلْيَذُقْ ماَ شاََء مِنْهُ
…
ماَ رَعَى العَهْدَ أَمِينُهْ
أيّها اللائمُ دَعْهُ
…
فَلَهُ في الحبِّ دِينُهْ
أحمد الزين
القصص
أقصوصة من تشيكوف
1 -
في القرافة
للأستاذ دريني خشبة
(الريح موشكة أن تهب فتكون عاصفة، والليل موشك أن يضرب فوقنا بِجِرانه، أفلا يخلق بنا أن نعود أدراجنا إلى المدينة؟!)
هذا حق فلقد كانت الرياح تزمزم في أشجار البتولا فتملأ مخارف الوادي بأوراقها اليوابس، وكانت شآبيب البرد قد أخذت تنهل فوق رؤوسنا فتنضح ثيابنا وتلفحنا ببرد شديد؛ وانزلجت رجل أحدنا فتعلق بصليب شاحب شاخص ليتفادى السقوط في الوحل، فلما اعتدل وقف مسبوهاً أمام اللوحة الرخامية وراح يقرأ اسم صاحب المقبرة:
(ييجور جريازنوروكوف. . . مستشار ملكي وفارس)
أوه! لقد كنت أعرف هذا السيد، المغفور له، لقد كان مشغوفاً بامرأته حباً، وكان يمتثل أوامر ستانسلاف. . . ولم يقرأ في حياته شيئاً. . . وكانت معدته تهضم الحديد. . . فيا للحياة التي كانت حرية أن تمتد وأن تستطيل! لماذا مات يا ترى هذا الـ (ييجور)؟! إنه لم تكن به حاجة إلى الموت، فلماذا قضى؟! وا أسفاه عليه! إنما هي عين المنية التي لا تنفع فيها التمائم قد أرصدت له؛ فراح المسكين ضحية التجسس والفضول!!
ذاك أنه كان يسترق السمع يوماً خلال ثقب المفتاح في منزل بعض أهله، وكان من دأبه أن يتلصص عليهم دائماً، فانفتح الباب فجأة، وانفدغ الرأس الكريم، وسقط ييجور يتشحط في دمه، ثم مات على الأثر!
وصاحب هذه المقبرة!
مسكين جداً. . . لم يكن يعاف شيئاً في حياته، كما كان يعاف الشعر. . . والشعراء! فانظروا كيف سخر به الشعر الذي كان يعافه، ويشمئز منه، ويضيق به صدره! لقد جصّصوا مقبرته كلها بأبيات من الشعر هي السخف بعينه. . . مسكين يا هذا، ذق إذن. . . وتقزز ما شئت. . . إنك لأنت العزيز الكريم!
من القادم يا ترى؟
إنه فقير آفاقي يلبس معطفاً كله مزق وأسمال! ويْ! إن له لوجهاً ناصعاً! بخٍ بخٍ أيها البائس! إنه يتأبط زجاجة من البودكا! ترى منذا الذي يشرب نخبه هنا هذا الفقير؟ ها ها!! إن الفتى يحمل نقله (مَزَّته) في جيبه حَوَايا، فهي تظل معه لتودع العالم هي الأخرى!
وترنح الرجل قليلاً، ثم سأل في صوت مبحوح محشرج:
- أين قبر موسخين الممثل يا هذا؟
وقدناه إلى قبر موسخين الذي مات منذ حولين
وسألته أنا وفي نفسي منه أشياء:
- أكاتب حكومي أنت يا صاح؟!
فقال:
- كلا! بل أنا ممثل! ماذا أصاب الناس في هذا العصر؟ ما لهم لا يفرقون بين الموظفين والممثلين؟ ولكن. . . حسن؟ لا ضير!
لقد اندثر قبر موسخين أو كاد، ولقد سطع منه ريح كريه منتن، ونمت فوقه أعشاب الفناء الشاحبة الشوكية حتى أوشكت تخفيه عن الأبصار! إنه لا يشبه القبور الجاثمة هنا. . . يا للصليب المعوج الرخيص المائل المكسو بالطحلب السادر المكتئب، الذي يبدو كأنه سيموت هو أيضاً!
لقد نقشت على اللوحة المتآكلة هذه العبارة التي ذهبت يد العفاء ببعض حروفها:
(. . . الصديق المنسي، موسخين!)
فيا للزمان!
لقد أودى بالحروف الأولى التي كانت تجعل هذه العبارة أكذوبة الأكاذيب!
قال الممثل:
(ويحك يا موسخين، وسحائب رضوان الله عليك!! ما أشقاك بهؤلاء الممثلين ورجال الصحافة، الذين اكتتبوا بنقود ليشيدوا ضريحك ونُصْبَك ثم أكلوها فيما بينهم. . .! أسحتهم الله بأكلهم هذا المال!)
ثم سجد في خشوع وعفر وجنتيه وجبينه بالثرى المندّى وقلت أسأله:
- ماذا تعني يا صاح؟ كيف أكلوها فيما بينهم؟
فقال:
- ما أيسر هذا أيها الأخ! لقد فتحوا الاكتتاب، وأعلنوا أسماء المتبرعين في الصحف. . . ثم. . . لا ضريح ولا نصب، لأنهم أكلوا النقود فيما بينهم. . . وكان الله حسبهم. . .! وأنا بالطبع لا أقول هذا استنكاراً لصنيعهم، ولكن لتعلم ما صنعوا. . . نُخبكم أيها السادة، ونُخب الراقد هنا - موسخين - المسكين! في سبيل ذكراه الخالدة هذه الكأس!)
واحتسى كأس البودكا، والتهم حوية من حواياه، ثم قال:
- يقول الغربيون (في صحتكم) حين نقول نحن (نخبكم). . فيا لله! أي صحة في ابنة الكرم، وأي عافية في أن يصبح الفتى مجنوناً بها، عاكفاً عليها، مخبولاً مدمناً؟. . . هذا. . . وأي ذكرى خالدة نرجوها لهذا الفتى؟! إن الذكرى الخالدة معناها الألم الخالد. . . وخير من ذاك أن نبتهل إلى الله ليجعلها ذكرى. . . مؤقتة، وهما في مذهبي سيان!
- إن هذا حق لا ريب فيه! فقد عاش موسخين رجلاً ذائع الصيت طائر الذكر، ولما مات حملوا عشرين إكليلاً من أنضر الأزهار حول نعشه. . . وما كاد يوسَّد في الثرى حتى نسيه الجميع!
- ومن نسيه؟! لقد كان محبوه، والمعجبون به، في المقدمة!! ومن ظل إلى اليوم يردد ذكراه؟! أعداؤه يا سادة! أعداؤه الذين عاش طوال عمره يشنّ عليهم حربه الضروس الشعواء!!
- فأنا مثلاً. . . لن أنساه ما حييت! أبدا، أبداً. . . فأنا لم ينلني منه غير الأذى، لقد كان مولعاً بإلحاق الأضرار بي! فأنا لا أحبه، بل، أمقته!
فقلت له: وكيف كان إيذاؤه لك يا صاح؟
فتأوه من أعماقه، وانتشرت سحابة من الهم فوق وجهه الكاسف، ثم قال: (أبلغ الإيذاء أيها الصديق! لقد كان لصاً خبيثاً محتالاً، فلا عفا الله عنه!! أتصدق أنني لم أصبح ممثلاً إلا بفضل إصغائي إليه وشغفي به، وإنعام النظر إليه؟ لقد خلبني بفنه، وسحرني بلفتاته، ونفث في صدري روح الكبر والغرور والخيلاء، فنزحت عن الديار بسببه، واحتملت بلاء الغربة في سبيل ما وعدني من الغنى الضخم، والثراء الواسع. . . ولكن. . . وا حسرتاه عليّ!!
إني لم أجن من كل مواعيده إلا الدموع والأشجان!! وإلا الجد العاثر الذي هو نصيب الممثل من الحياة!!
(لقد فقدت كل شيء!! فقدت شبابي، فقدت عِفتي، فقدت أخلاقي، فقدت استقامتي، ثم. . . فقدت الله!!
(هاأنذا يا صاح لا أملك الدانق الذي أمتع به نفسي، وأرفه به عن قلبي. . . وهاك حذائي!! يا ربي لقد خَصَفته حتى استحييت من كثرة الخصف، فهاهو عقبي نَعْل له!!
(وهاك (بنطلوني)!! لقد رفوته ورقعته، حتى لقد ذهب الأصل وبقي الرقع!!
(وهاك وجهي القبيح الشائه. . . أليس يبدو كأنما هبره كلب!!
(ثم إيماني؟! لقد انتزع اللئيم إيماني بالله، وأغراني بحرية الفكر!؟ ها. . . حرية الفكر؟! هذا الدماغ الفارغ العاجز يجب أن يكون حر التفكير؟! أسمعت؟! أليست هذه خرافة؟ اللص! لقد سلبني لبي وسرق مني عقيدتي وإسلامي لله! ثم أي جدوى عادت علي؟ ماذا كان الثمن الذي اقتضيته حينما خسرت حسن اعتقادي؟! لا شيء!
(لقد اشتد البرد أيها السادة، والريح يا رفاق ريح صر، أفلا تشربون كأساً؟! إن بالقارورة الصفراء ذات الأعنة، ما يكفينا جميعاً. . . ألا تشربون؟!
(هلم نشرب نخب هذا الجبار الثاوي هنا
(إني لا أحبه. . . بل. . . إني أمقته
(إنه ميت. . . لقد انتهى فيما كان يزعم. . . لن تقوم له قيامة بعد اليوم الملحد الكافر. . . أوه! ما لي أسبه وقد كنت أحبه؟! إنه كل شيء لي في هذه الحياة! إنه كأي جزء من جسماني عزيز عليّ! آه! لن أراه بعد اليوم!
(لقد قال الأطباء إني سأموت قريباً بسبب إدماني، ولذا أتيت إلى قبره أودعه، إذ ينبغي أن نصفح عن أعدائنا وأن نغفر لهم خطاياهم! ألسنا سائرين في دربهم الأبدي؟
وهنا بدا لنا الممثل في مسوح ملك الموت ففزعنا، وتركناه يناجي موسخين، وسرنا في طريقنا السادر الموحش مدبرين!
وطَلّنا رذاذ خفيف حلو فأنعش نفوسنا التي وجمت منذ حين
وعند المنعطف الذي يؤدي إلى المدينة حيث تنتثر الحصباء الناصعة كالدر فوق الأرض
المرصعة بالبَرَد، لقينا جنازة مقبلة. . جنازة صغيرة متواضعة. . . أربعة أشخاص لا غير يحملون نعشاً حزيناً. . . عاطلا!
وكان الظلام قد نشر فوق الكون طيلسانه، فأخذ حاملو النعش يهرولون بحملهم وهم يتزلجون ويتخلجون، والآلة الحدباء تتأرجح فوق أكتافهم ذات اليمين وذات الشمال
(يا رفاق! ما هذه الدنيا؟ إننا لم نمكث هنا غير ساعة أو ساعتين، وهذا هو الميت الرابع!. . . هلموا بنا. . .)
دريني خشبة
البريد الأدبي
الذكرى المئوية لمستشرق كبير
أقام مجمع العلوم والآداب في باريس احتفالاً مهيباً في يوم 26 فبراير المنصرم لمناسبة الذكرى المئوية لوفاة العلامة سيلفستر دي ساسي المستشرق المشهور بين أهل الفكر في الشرق والغرب، والذي كان سكرتيراً دائماً لهذا المجمع، وقد افتتح الاحتفال رئيس المجمع بخطاب شامل عن المستشرق العظيم قال فيه: إن سيلفستر ولد في 21 سبتمبر من سنة 1758 في أسرة فقيرة لا طائل لها من نشب أو نسب، إذ كان أبوه جان سيلفستر مسجل عقود، أما صاحب الترجمة واسمه الأصلي أنطون إيزاك فإنه لم يسافر في حياته إلا مرة واحدة، إذ ذهب إلى جنوى للبحث عن مخطوطات شرقية، وكان يقضي وقته في العاصمة متنقلاً من معهد إلى معهد، ومن مكتبة إلى مكتبة، فهذا الرجل الذي أطلع الغرب على أسرار الشرق لم يذهب قط إلى الشرق، وإنما تلقى معلوماته من المخطوطات النادرة، وتلقف الأخبار التي كان ينقلها إليه تلاميذه وأصدقاؤه
ولقد حذق سيلفستر العربية كما عالج العبرية والسريانية، ولقد انتهج في دراسة العربية نهجاً سهلاً يتفق من الوجهة المنطقية مع الأساليب الفرنسية ووضع كتاباً على هذا النهج لتدريس العربية في مدرسة اللغات الشرقية فوفق كل التوفيق. وقد كان ينشر في جريدة العلماء، والمجلة الأسيوية، وجريدة دائرة المعارف، كل مجهود في دراسة الأدب العربي وحضارة الشعوب الإسلامية، وإخراج المخطوطات النادرة، وكان في جملة ما عني به من كتب الأدب العربي (مقامات الحريري) فنشرها كلها شرحاً ومتناً، وهو أول من نشر كتاب (كليلة ودمنة) لابن المقفع، وصدره بدراسة وافية في أصل الكتاب وتاريخه وترجمته.
ثم قال رئيس المجمع: (لقد كان سيلفستر ممثلاً لضمير الشرق الحي المنبعث بين الغربيين، وقد كانوا يعدونه بعد وفاة العلامة كونياي أكبر عالم في فرنسا ولم يأت بعده من يماثله في التفوق بالعلم إلا العلامة باستور الكبير)
دار الكتب في عهد جديد
دار الكتب المصرية في حاجة إلى إصلاح شامل ونهضة قويمة طالما نادى بها الأدباء والمفكرون في مصر، وقد لمس هذه الحاجة الماسة معالي وزير المعارف فاجتمع بمجلس
الدار الأعلى الذي يتولى رياسته، وقد بحث في طرق الإصلاح اللازمة، فوافق المجلس على تأليف لجان كل لجنة تتولى ناحية من نواحي الإصلاح والنهوض، فلجنة لدراسة الميزانية واقترح سياسة إنشائية عامة لرفع مستوى الدار حتى تتمشى والتقدم الحديث الذي يشمل كل مرافق البلاد، ولجنة مهمتها دراسة موضوع إحياء الأدب العربي وبعث المخطوطات المطمورة النافعة الجديرة بالبعث والإحياء، ولجنة تقوم بوضع تشريع لحماية المخطوطات النادرة على نمط التشريع الخاص المعمول به في حماية الآثار المصرية، على أن تقدم هذه اللجان تقاريرها في أجل لا تتجاوز غايته ستة أسابيع
ونحن نرجو نهضة موفقة لدار الكتب على يدي معالي الوزير المصلح بهي الدين بركات باشا فتتسع خطواتها في خدمة الأدب والثقافة في مصر والشرق
محاضرة عن الدستور الإنجليزي
قام الاتحاد الإنجليزي المصري بتنظيم سلسلة من المحاضرات الدستورية، وقد ألقى المحاضرة الأولى من هذه السلسلة حضرة الأستاذ ا. الكسندر المحامي بالقاهرة في قاعة جمعية علم الحشرات الملكية، وقد كان موضوع هذه المحاضرة الدستور الإنجليزي وقد ابتدأ المحاضر القول بكلمة عن الدساتير عامة، فقال: إن الدستور أداة صالحة في أيدي الرجال المصلحين كما أنه أداة فاسدة في أيدي المفسدين، وإن الحكومات الدستورية في مصر ستمر حتماً بهذه التجارب، وستجتاز كل هذه الأطوار، كما وقع لكل حكومات الأمم الدستورية العريقة؛ ثم استطرد في الحديث عن الدستور المصري وتكلم عن العلاقة بينه وبين الدستور الإنجليزي ثم قال: إن هذا الدستور المصري الشاب قد أصبح موضع إعجاب المفكرين والمشرّعين في العصر الحديث
وقد توسع الأستاذ في الحديث عن الدستور الإنجليزي، فأبان كيف بلغ قوته العظيمة دون أن يكون دستوراً مكتوباً، ثم قال: إن موضع الإعجاب الحقيقي بالدستور الإنجليزي هو مبادئ الحكم الوطيدة التي يدعمها ذلك الدستور، ويرعاها في نزاهة وحكمة وتقدير صحيح
جوائز أدبية بمناسبة الزفاف الملكي
أقامت اللجنة الأهلية الأدبية في الأسبوع الماضي حفلاً بدار الاتحاد النسائي لتوزيع
الجوائز على الفائزين في المباراة الأدبية التي أقامت مهرجانها بدار الأوبرا الملكية أيام الزفاف، وقد حضر الحفل كثير من وجوه الفضل والأدب، وقد وزعت الجوائز على اعتبار أن قصائد الأساتذة فوق المباراة، وقد نال الأنواط الذهبية من الطلبة الأديب عبد العظيم بدوي بدار العلوم والأديب حسن جاد بكلية اللغة العربية، والأديب محمد علي الشلق من أدباء لبنان، كما نال كثير من الطلبة أنواطاً أخرى فضية وبرنزية
حول قصة سابور وقيصر
نشرت الرسالة في عددها الماضي (رقم 244) كلمة بتوقيع قارئ ذكر فيها أنه جاء في مقالي (بين تيمور لنك وبايزيد)(المنشور في عدد 242) أن تيمورلنك وضع بايزيد بعد أسره في قفص من حديد كما فعل قيصر مع سابور ملك الفرس، وافترض (قارئ) أن في ذلك خطأ تاريخياً شاء أن يحمل نفسه مؤونة الرد عليه
وعرض الأمر على هذه الصورة بعيدة عن الحقيقة أيما بعد، فلم أقل في مقالي ما زعم (قارئ) أنني قلت به وكل ما هنالك أنني ذكرت في معرض النقل عن ابن عربشاه مؤرخ تيمور ما نصه:(وهنا تعرض أغرب صفحة في تلك المأساة الشهيرة فإن ابن عربشاه مؤرخ تيمور يقول لنا إن الفاتح التتري سجن بايزيد في قفص من الحديد كما فعل قيصر مع سابور ملك فارس)(عجائب المقدور ص139)؛ فهذه كلمات ابن عربشاه بنصها لم أشأ أن أعرض لها بإثبات أو نفي لأنها لم تكن مقصودة لذاتها؛ وهذا ما كان حرياً بكتاب الكلمة أن يذكره، ولكنه أغفل ذكره، وشاء أن ينسب القول إلي لحكمة لم أفهمها
على أني أزيد أيضاً أن ابن عربشاه لم يكن مخطئاً في إشارته، وأن (قارئاً) خلط بين واقعة تاريخية وبين أسطورة، فقصة سابور ملك الفرس مع الإمبراطور فاليريان قيصر الرومان لا الروم (وهذا تفريق تاريخي لابد منه) وانتصار سابور عليه مقربة من حصن (الرها) القديم (سنة 260م) وأسره حتى وفاته، أشهر من أن يخطئ في نقلها أو ذكرها أحد؛ وهذا ما لم يقصد ابن عربشاه أن يشير إليه، وإنما قصد الإشارة إلى أسطورة تاريخية مشهورة أخرى ينسب وقوعها إلى ما بعد ذلك بنحو أربعين عاماً، وخلاصتها أن الإمبراطور جاليريوس فاليريوس (وليس فاليريان) حينما انتصر على الفرس في جبال أرمينية (سنة 297م) أسر ملكاً أو أميراً من أمراء الفرس يدعى سابور ووضعه في جلد بقرة؛ أو على
قول بعضهم في قفص من الحديد؛ وتنسب بعض الروايات هذه الواقعة إلى الإمبراطور مكسميان؛ بيد أنها تعتبر كلها في عرف التاريخ أسطورة لا سند لها (راجع أدوار جيون - الفصل الخامس والستين والهوامش)
وإذا كان (قارئ) ينشد الحقيقة فإنا ننشدها جميعاً بيد أنه يحسن دائماً أن توضع الحقائق موضعها وفي مناسباتها الصحيحة
محمد عبد الله عنان
تبسيط النحو والصرف
أصدر معالي وزير المعارف قراراً وزارياً بإنشاء لجنة لتبسيط النحو والصرف والبلاغة ومهد القرار لتأليفها بما يلي:
بما أن الوزارة سبق لها أن عملت على تبسيط قواعد النحو والصرف والبلاغة فيما أخرجت من الكتب، وكان لهذا العمل نتيجة مرضية
وبما أن هذه الخطوة التي خطتها الوزارة في الماضي لم تكن كافية، إذ لوحظ أن صعوبة قواعد النحو والصرف والبلاغة لا تزال قائمة، وأن المعلمين والمتعلمين يبذلون جهداً كبيراً ووقتاً طويلاً في تعليمها وتعلمها، ولا يصلون بعد هذا كله إلى نتائج تتفق مع ما يصرف من زمن وجهد
وبما أننا نرى تشكيل لجنة مهمتها البحث في تيسير قواعد النحو والصرف والبلاغة، وتتقدم باقتراحاتها في هذا الشأن مبينة مشروع التبسيط الجديد، والأسس التي تشير بوضع قواعد النحو والصرف عليها، على ألا يمس أصول اللغة العربية، ولا شكلاً من أشكال الإعراب والتصريف، وكذلك تبين اللجنة ما تراه من التغيير في طرق تدريس علوم البلاغة وتبوبيها
أما اللجنة فتؤلف من الأساتذة: عميد كلية الآداب، والأستاذ أحمد أمين الأستاذ بها، والأستاذ علي الجارم بك مفتش أول اللغة العربية، والأستاذ محمد أبو بكر إبراهيم المفتش بالوزارة، والأستاذ إبراهيم مصطفى الأستاذ المساعد بكلية الآداب، والأستاذ عبد المجيد الشافعي الأستاذ بدار العلوم
وقد حدد القرار مدة لا تتجاوز الشهرين تعرض اللجنة بعدهما نتيجة عملها على الجمهور لتتبين الوزارة الآراء التي يبديها فيها المثقفون في مصر وغيرها من البلاد العربية
مجلة رسمية للتربية والتعليم
أصدر معالي وزير المعارف قراراً بإنشاء لجنة تضع نظاماً لإصدار مجلة في التربية والتعليم، وفيما يلي نصه بعد الديباجة:
نظراً لأن المصلحة تقتضي التعجيل في العمل على تحقيق التعاون الفكري المنظم بين المشتغلين بأمور التربية والتعليم من طريق البحث في كل ما يتصل بهما من الموضوعات وتهيئة الفرص والوسائل لكل قادر على البحث في هذه المسائل أن يظهر ما يستطيعه من جهد في هذا السبيل
وبما أننا نرى - تحقيقاً لهذا الغرض - أن تصدر وزارة المعارف مجلة تبحث في شئون التربية والتعليم وتنشر فيها آراء الخبراء والفنيين في هذه الشؤون وتمد رجال التعليم بنتائج الأبحاث الجديدة فيها، وتذاع بواسطتها مشروعات الوزارة الفنية مما يساعد على إنهاض التعليم ونشر وسائل الإصلاح في معاهده المختلفة. لذلك قرر:
المادة الأولى - تصدر وزارة المعارف العمومية مجلة للتربية والتعليم لتحقيق الأغراض المشار إليها في ديباجة القرار
المادة الثانية - تؤلف لجنة من وكيل الوزارة رئيساً، ووكيل الوزارة المساعد والسكرتير العام للوزارة والأستاذ أحمد أمين الأستاذ بكلية الآداب، والأستاذ إسماعيل القباني ناظر مدرسة فاروق الأول والأستاذ عبد العزيز القوصي المدرس بمعهد التربية أعضاء
وتقوم هذه اللجنة باقتراح نظام لهذه المجلة من ناحية تحريرها وماليتها وإدارتها على أن تقدم اقتراحاتها في مدة لا تتجاوز شهراً
اضطراب في نسبة بيت شعري
جاء في شواهد تلخيص المفتاح للخطيب القزويني عند الكلام على تنكير المسند إليه هذا البيت:
له حاجبٌ عن كل أمر يشينه
…
وليس له عن طالب العرفِ حاجب
وقد نسب هذا البيت في مفتاح العلوم للسكاكي إلى ابن أبي السمط، وتبعه في هذا الخطيب القزويني في الإيضاح، وكذا تقي الدين السبكي في عروس الأفراح فقال: ومثل في الإيضاح للتعظيم والتحقير بقول ابن أبي السمط وهو مروان بن أبي حفصة، وذكر البيت، وكذلك صاحب معاهد التنصيص في شرح شواهد التلخيص، ولكنه حينما أراد أن يذكر ترجمته على عادته في شرح هذه الشواهد قال: وابن أبي السمط اسمه. . . وقطع الكلام فلم يتمه، والظاهر أنه توقف فيه ومات قبل أن يصل إلى معرفة اسمه. وقد تبعهم العلامة الدسوقي في حاشيته على شرح السعد، ثم قال: وهو من قصيدة من الطويل، وقبل هذا البيت:
فتىً لا يبالي المدلجون بناره=إلى بابه ألاَّ تضيءَ الكواكبُ
يصمُّ عن الفحشاء حتى كأنه
…
إذا ذكرت في مجلس القوم غائب
وقد ذكر الأستاذ الجليل الشيخ أحمد المراغي في كتابه (علوم البلاغة) أن هذا البيت لمروان بن أبي حفصة، ولم يقل إنه لابن أبي السمط
فإذا صح أن هذا البيت لمروان ابن أبي حفصة فإنه كان يكنى أبا السمط لا ابن أبي السمط، وكذلك كان يكنى حفيده مروان الأصغر، وهو مروان بن أبي الجنوب بن مروان بن أبي حفصة فكانت كنيته أبا السمط أيضاً، وعلى هذا يكون في نسبه ذلك البيت لابن أبي السمط تحريف بزيادة لفظ ابن، وقد أردت قبل القطع بهذا الحكم أن أرجع إلى قراء مجلة الرسالة الغراء، فلعل عندهم في هذا علم ما لم أعلم
عبد المتعال الصعيدي
الآداب أم العلوم؟ أيهما سبق؟
أذاع في هذا الموضوع من محطة لندن الدكتور ل. ب. جاكس في فبراير الماضي. وهو موضوع حبذا لو ساجل فيه أدباؤنا، لأنه يستوعب مدنيتنا الحاضرة، ويعرض لدقائقها بالتفصيل. وقد قسم الدكتور جاكس العلوم فجعلها شعبتين، شعبة تتعلق بالإنسان فتتناول علم الأجناس وعلم النفس وعلم وظائف الأعضاء والاجتماع والدين وعلم الدول والأخلاق. . . الخ. وشعبة تتعلق بالمادة فتتناول البخار والكهرباء واللاسلكي والديناميت والريون
(الحرير الصناعي) والأصباغ والغازات والفلك وعلم طبقات الأرض. . . الخ
ثم عرض الدكتور للعلاقة بين كل من العلوم والآداب وكيف يخلط الناس بين فروعهما فيجعلون الفلسفة والأخلاق وعلوم النفس والدين فروعاً من الآداب، وينكر ذلك العلماء فيجعلونها علماً خالصاً
ويحل الإشكال فيرمز للعلوم بفرنسيس بيكون وللآداب بمعاصره العظيم وليم شاكسبير، فأيهما سبق؟ لاشك أن شكسبير أعظم من معاصره بيكون. . . ولكن الدنيا سارت في طريق بيكون ولم تسر في طريق شكسبير. . . وهذا حق، ولكنت ماذا أصابت الدنيا من اتجاهها ذاك؟ هل أصابت الخير حين اتبعت وصية بيكون في وجوب اتخاذ التجربة في العلوم وإهمال المنطق، أم أصابت الشر المستطير بما أثمرته التجربة من هذا التقدم العلمي الباهر؟!
ومسألة أخرى، ماذا لو أن الدنيا سارت في طريق شكسبير وأهملت طريق بيكون؟ أليس طريق شاكسبير هو طريق الفضيلة؟ ألم يكن شكسبير ينشد الطوبى وأن يكون في الأرض ملائكة؟ أفليس إلا العلوم تصل بالناس إلى هذا الأفق الأعلى؟
هذا موضوع طريف حبذا لو ساجل أدباؤنا (وعلماؤنا طبعاً!) فيه
الشرقيون وتعلقهم بالدين
طاف المستر روم لاندو في ممالك الشرق الأدنى فزار مصر وفلسطين وسوريا واليونان وبلغاريا والعراق والحجاز واليمن ثم عاد إلى إنجلترا حيث أصدر كتابه الطريف (البحث عن الغد) تناول فيه الأحوال الدينية في الشرق. وقد قابل في مصر أحمد حسنين باشا حينما كان رائداً لحضرة صاحب الجلالة الملك، والأستاذ الأكبر الشيخ المراغي، وقد أثنى عليهما ثناء مستطاباً هما له أهل، فقد استطاعا أن يعطياه فكرة طيبة عن الإسلام والمسلمين، وعن الروحية القوية بيننا وبين الله سبحانه، وأكدا له أنه لولا الإسلام لغزت الشيوعية مصر. وقد اقتنع المستر لاندو بهذه الحقيقة، ولمس بيديه هذا السور المنيع بيننا وبين الفوضى. ومما زاده تحقيقاً أنه لمس تلك الحقيقة أيضاً في سائر الممالك الإسلامية التي زارها، حتى تركيا التي فصلت الدين عن الدولة. وقد أعجب المستر لاندو بمسلمي فلسطين وقرر أن نضالهم ضد اليهود نضال من النوع الصليبي، أي أنه للدين وللوطن
على السواء. وقد نعى على اليهود ماديتهم المسترذلة واحتقارهم للروحيات، وانصرافهم عن معابدهم الجميلة التي أقاموها (للزينة!) في تل أبيب، وقد عاب صلفهم كذلك
وقد مدح المؤلف الرئيس أميل إده، كما أعجب بجلالة الملك ابن السعود، الذي كان يكلمه بقلبه قبل أن يكلمه بلسانه. . . وكذلك أثنى على فضيلة المفتي وعلى بطريق دمشق
وما عابه على الناس في اليونان تفشي المعتقدات الوثنية بينهم على رغم تمسكهم بالمسيحية السمحاء وإخلاصهم لها
ترجمة إنجليزية علمية للإلياذة
عني الأستاذ العلامة الجليل روبنسون سمث بترجمة الإلياذة لهوميروس ترجمة علمية دقيقة بحيث قد ذلل المصطلحات اليونانية القديمة الواردة في الأصل الإغريقي للملحمة وهي المصطلحات التي يضطر المترجمون الآخرون في كل لغة أن يغفلوها لعدم فهمهم إياها ولأنها أصبحت من العبارات البائدة التي يعجز الفيلولوجيون (علماء اللغات) عن فك رموزها. وقد وفق الأستاذ روبنسون إلى ذلك توفيقاً عجيباً، وأفرد لهذه العبارات مجلداً كبيراً ألحقه بالترجمة التي حرص على أن تشمل الأصل والترجمة الإنجليزية معاً. وهو عمل شاق يستحق من أجله أكبر الثناء وسينتفع به جميع طلاب الأدب الكلاسيكي في كل زمان ومكان، بل سيصبح جل اعتماد المشتغلين بالأدب الإغريقي على هذه الترجمة الفذة في كل ما يتعلق بهوميروس
الكتب
الفصول والغايات
تأليف أبي العلاء المعري
ضبطه وصححه وشرحه وعلق عليه: الأستاذ محمود حسن
زناتي
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
هذا كتاب أنشأه المعري، وقد وصفه ياقوت في معجم الأدباء فقال: (ومن كتبه الكتاب المعروف بالفصول والغايات، والمراد بالغايات القوافي، لأن القافية غاية البيت أي منتهاه، وهو كتاب موضوع على حروف المعجم ما خلا الألف، لأن فواصله مبنية على أن يكون ما قبل الحرف المعتمد فيها ألفاً، ومن المحال أن يجمع بين ألفين، ولكن تجيء الهمزة وقبلها ألف مثل العطاء والكساء، وكذلك الشراب والسراب في الباء، ثم على هذا الترتيب، ولم يعتمد فيه أن تكون الحروف التي يبني عليها مستوية الإعراب بل تجيء مختلفة
وفي الكتاب قواف تجيء على نسق واحد، وليست المطلقة بالغايات، ومجيئها على حرف واحد مثل أن يقال: عمامها وغلامها وغمامها، وأمرا وتمرا وما أشبه، وفيه فنون كثيرة من هذا النوع، وقيل إنه بدأ بهذا الكتاب قبل رحلته إلى بغداد، وأتمه بعد عوده إلى معرة النعمان، وهو سبعة أجزاء)
ولكن هذه الأجزاء السبعة التي ذكرها ياقوت قد استبدت بها عوادي الزمن، ومحن الأيام، فضاعت في أجواء العصور الخالية فيما ضاع من تراث المعري الحافل، بل تراث العرب أيام حملة الصليبين الأولى على الشام وسقوط المعرة في أيديهم سنة 492 هجرية، وبقي الناس لا يعرفون من الفصول والغايات إلا اسمه، وإلا هذه الكلمة التي أوردها ياقوت في وصفه، وإلا فرية افتراها كاشح، إذ زعموا أن المعري قد عارض به القرآن، وأنه سئل فيه فقال: حتى تصقله الألسنة أربعمائة سنة في المحاريب.
ولقد بقيت التهمة كما هي غير لازبة وغير مردودة، وكان عذر الأدباء في ذلك أنهم لم
يتيسر لهم الاطلاع على هذا الكتاب
وكأن الله قد أراد أن يبرئ ساحة الرجل من هذه التهمة الشنعاء، وأن يكشف حقيقته وموقفه من جهة الدين بعد أن ظل ذلك غامضاً في القرون الغابرة، إذ عثر أحد الأدباء على الجزء الأول من هذا الكتاب في دشت اشتراه من وراق بمكة، وإذا بالكتاب عظة دينية، قد أنشأه المعري في (تمجيد الله والمواعظ)، وإذا به وعاء قد أترعه المعري بشتى العلوم من اللغة والأدب والعروض والنحو والصرف والأمثال والتاريخ والحديث والفقه والفلك وعلم النجوم، وغير ذلك مما لم يثبت جمعه ولا إيراده بالطريقة التي سلكها شيخ المعرة. ذلك أنه يملي الفقرة على تلاميذه ثم يختمها بالغاية، وهي عنده بمنزلة القافية من بيت الشعر. وقد تطول الفقرة وقد تقصر، ثم يملي التفسير في أعقاب كل فقرة، وأحسب أن إملاء التفسير كان رغبة من طلابه لتوضيح ما يخفى عليهم فهمه وإدراكه، لأنه أملى أشياء في الكتاب ولم يفسرها، وربما كان ذلك لوضوحها لدى طلابه، فإذا انتهى من التفسير وأراد العودة إلى الإملاء قال (رجع) كأنه يريد نفسه أو يريد رجع إلى الإملاء.
والكتاب كله على هذا النسق، والجزء الذي بين أيدينا منه يبتدئ من أثناء حرف الهمزة وينتهي بحرف الخاء، يقول ناشره الفاضل:(لقد بحثت عن باقي الكتاب في كل المظان فلم أجد له من أثر)
أما الذي نهض إلى إخراج هذا الأثر النافع فهو أستاذنا الفاضل الشيخ محمود حسن زناتي أمين الخزانة الزكية سابقاً، فتولى تحقيقه وضبطه وتفسير غريبه وأنفق عليه من جهده وماله وراحته مدى عام كامل حتى جلاه للناس في حوالي خمسمائة صفحة من القطع الكبير في طبع أنيق ومظهر لائق. ولاشك أن الأستاذ الفاضل قد لاقى كثيراً من العناء في عمله، وأدى في ذلك جهداً ما كان يستطيع أن يؤديه إلا تلميذ الشنقيطي اللغوي والمرصفي الأديب؛ ذلك لأن لغة المعري الأدبية لغة غامضة قد تقف المعاجم التي بين أيدينا دون إجلاء غامضها وكشف المعنى المقصود من اللفظ، وإنما يستطيع كشف ذلك من ارتاض على أساليب المعري ولغته. ولاشك أيضاً أن الأستاذ الفاضل بهذا العمل الجليل قد خدم الأدب والعربية، والحقيقة والتاريخ، إذ كشف للأدباء ناحية من نواحي المعري ظلت مطموسة في القديم والحديث، وإذ يسر لأهل الضاد الانتفاع بهذا الأثر النافع. وقد كانوا في
لهفة شديدة إليه
وحسبنا هذا القدر اليوم إشارة إلى قدر الفصول والغايات، وإشارة إلى الجهد الذي بذله مصححه الفاضل، وحسب القارئ أن يطلع على الكتاب حتى يقدر هذا الجهد بنفسه، أما الكتاب من حيث قيمته الفنية، ووضعه الأدبي، ومن حيث هو صورة لنفسية المعري ورأيه وفكره وفلسفته فسيكون ذلك موضوع مقالات نرجو أن تتسع لها صفحات الرسالة في القريب
محمد فهمي عبد اللطيف
مكتبة خاصة بجورج برنردشو
ارتفع الأديب الأيرلندي العظيم برنردشو إلى مرتبة الخالدين وبلغ إعجاب الكثيرين به إلى حد الهوَس. ومن الأنباء الأخيرة أن الدكتور أرشيبولد هندرسون، الأديب الكبير الذي كتب أول ترجمة لشو، قد أنشأ مكتبة حافلة كل ما فيها يتعلق بشو. فمن ذلك جميع كتبه ورسائله وإذاعاته، ودراماته وقصصه، في اللغة الإنجليزية وفي جميع اللغات التي ترجمت إليها، ومنها العربية طبعاً، وكل ما كتب عن شو في جميع لغات العالم، وفي الكتب وفي الصحف، وفي المجلات، بل وفي المحاضرات. . . وكان جل حرص الدكتور هندرسون أن يجمع الطبعات الأولى لكتب شو، وإن إحداها اليوم، ولاسيما القديمة، لتساوي آلاف الجنيهات. . . وبعد أن اجتمع للدكتور من ذلك جميعاً ما يعد تحفة بحق، أهداه كله حلالاً خالصاً إلى جامعة بيل في شيكاجو. وقد تصفحنا مجلة ييل (المجلد 12 - الجزء2) فهالنا هذا الثبت الجليل عن شو الذي جمعه كله الدكتور هندرسون
هدية أخرى لجامعة ييل
وقد أهدى المستر جورج. ت. كيتنج إلى جامعة ييل هدية أخرى هي عبارة عن مكتبة حافلة تحوي كل ما كتب الأديب الخالد جوزيف كونراد من قصص ومقالات وحكايات قصيرة، سواء ما كتب منها بقلم الأديب نفسه وما ترجم من آثاره إلى اللغات الأخرى، وقد اشترى من أرمل الأديب مخلفات أدبية جليلة القيمة كبيرة يذكرون أنه دفع ثمناً لها آلافاً عديدة من الجنيهات
فهل يفكر أدباؤنا وذوو اليسار فينا في إهداء آثار أدبائنا إلى الجامعة المصرية؟ وهل فكرت الجامعة المصرية في إنشاء متحف لما يصل إليها من هذا السبيل؟
المسرح والسينما
مراقبة الأفلام
عرض فلم (حوادث 1938) وقد لاحظت من تفكك هذا الفلم في بعض أجزائه أن يد الرقيب قد أعملت مقصها في أكثر من موضع فاستبعدت بعض المشاهد غير اللائقة بالفلم، ونحن نحمد (مراقبة الأشرطة السينمائية) على أن يكون عملها هذا من محققات المراقبة الحاسمة، وإن كنا لا ننسى أن عين الرقيب تغفل - أو كانت تغفل - أحياناً. ونكتفي بأن نذكر دليلنا من فلمين حديثي العرض ، فقد كان فيهما من المشاهد النابية ما لا نود أن يسمح بمثلها في المستقبل
وقد أصبحت مراقبة الأفلام من الأمور التي تنال من اهتمام الحكومات نصيباً يزداد يوماً بعد يوم تمشيا مع تطور السينما وخطورتها؛ فلو أن المطبعة والأستديو اشتركا في موضوع واحد لكان في مقابل كل فرد يقرأ الكتاب عدة مئات يشهدون الفلم. فإذا كانت هناك مراقبة أدبية حازمة على المؤلفات فمن الواجب أن تكون المراقبة أشد حزماً على الأفلام، وبخاصة أن الفلم صور وحديث فأثره أبقى وأوضح من الكتاب المقروء. ويقيني أنه لو كانت لدينا مثل هذه المراقبة لما انحط مستوى أكثر أفلامنا تبعاً لأسلوبها المبتذل وموضوعاتها الجوفاء
ولقد قيل إن الحكومة كانت تنتوي سن قانون لهذا الغرض، وإنها قد ألفت لجنة في أواخر العام الماضي ظلت تنعقد وتنفض وتفكر وتقترح ثم تنعقد وتنفض، والأمر الذي لم تقترب منه خطوة واحدة هو (التنفيذ)
فإذا تحققت ظنونا يوماً وقيل إنا بدأنا نعمل، فإني آمل أن تهتدي حكومتنا في تشريعها لمراقبة الأفلام على ضوء القوانين التي تسنها البلاد الراقية، وفي مقدمتها القانون الإنجليزي، لأنه قانون معتدل لا يذهب إلى الجمود ولا ينزلق إلى حد التطرف
فالرقيب الإنجليزي يجعل همه أولاً منع الأفلام التي تخدم أهواء السياسة أو الأفكار الخاصة أو المذاهب الخطرة أو التي تتعرض للأديان، وفيما عدا ذلك فإنه يعطي الأفلام إحدى صفات ثلاث:
1 -
عام
2 -
للراشدين
3 -
مرعب
فأفلام الصفة الأولى هي التي يجوز للأسرة جميعاً مشاهدتا. وأفلام الصفة الثانية المحظورة على الغلمان هي الأفلام الغرامية المبتذلة وأفلام العرايا والأفلام التي تنصر الجريمة والمجرمين
أما الصفة الثالثة الخاصة بالأفلام المرعبة فهي حديثة الإضافة في المراقبة الإنجليزية، وقد عني بها الرقيب حظر هذا النوع من الأفلام على الأطفال بعد أن تعدد وتنوع ووضح خطره
كما أن هناك أنواعاً أخرى من الأفلام لم يعن بها المشرع الإنجليزي أو الفرنسي أو الأمريكي؛ تلك الأفلام التي تسيء إلى الشرق عامة وإلى مصر خاصة. هذه الأفلام جديرة بأن تكون في المحل الأول من عناية الرقيب. ولقد عرضت علينا - وا أسفاه - طائفة كبيرة من هذه الأفلام نحسب أن منعها كان أفضل وأبقى على الكرامة وعلى الفائدة المرجوة من السينما
وثمة نوع آخر من الأفلام التي تظهر فيها ضروب من القسوة على الحيوانات تحت ستار الصيد أو القتال أو غير ذلك.
وفي 9 أبريل الماضي أثار سير روبرت جوير في مجلس العموم البريطاني مناقشة حادة حول فلم (فرقة الإنقاذ) الذي عرض ولا يزال يعرض بمصر لإظهاره نوعاً من القسوة على الجياد في مشهد هجوم لجأ المخرج فيه إلى حيلة تكسب الفلم صفة الجد فمد أسلاكاً دقيقة تعلو قليلاً عن سطح الأرض تعثرت بها الجياد عند الهجوم فسقط بعضها جريحاً.
محمد علي ناصف