المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 246 - بتاريخ: 21 - 03 - 1938 - مجلة الرسالة - جـ ٢٤٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 246

- بتاريخ: 21 - 03 - 1938

ص: -1

‌العام الهجري

1357

أهل هلال المحرم والعالم المسكين يكاد يفلت من قيوده ويتحلل من نظمه؛ فكأنما ارتد إلى عهوده الأولى يترصد الفرائس في ألفاف الشجر وأجواف الحفر، ويتعقب الطرائد في بطون الأودية ومخارم الجبال، ثم يشتد عليه سلطان الغرائز المهلكة فيستنشي رَوْح الحياة فلا يجده، ويلتمس ظل الأمان فلا يدركه، ويبتغي عزاء النفس فلا يناله

هذه أوربا العالمة العاملة القوية، قد استحال بنو آدم فيها إلى هياكل صناعية، تتحرك بالبنزين، وتسير بالقيادة، وتعمل بالحيلة، وتهتلك في السبق، حتى أوشكت أن تصطدم فتتحطم

أين الروح الذي كان يحييها؟ وأين النور الذي كان يهديها؟ رجعا إلى مصدرهما الإلهي في الشرق يوم تجهمت لحواريي المسيح، وتنكرت لخلائف محمد، وبنت الأخلاق على قواعد الاقتصاد، والديمقراطية على استبداد الأحزاب، والسلام على طغيان القادة. فكان من ذلك فجيعتها الأليمة في سلامها ونظامها وخلقها، لأن مطامع الاقتصاد لا يقوم عليها خلق، ونوازع الأفراد لا يثبت بها نظام، ونوازي القواد لا يدوم عليها عهد؛ حتى عصبة الأمم التي جمعت فيها أوربا ما بقي لديها من هدى الأنبياء وحكمة الفلاسفة، دفن أشلاءها هتلر في النمسا، بعدما قطع أوصالها الدتشي في الحبشة!! فحال أوربا اليوم كحال الضواري الأوابد، تتباعد بالأثرة، وتتدانى بالخديعة، وتتدافع بالقوة؛ ثم أعوزتها الأنياب والأظفار فجعلت مصانع التجار مسالح، وصهرت أجور العمال أسلحة. وأخذ الساسة والطغاة يتجاوبون بالزئير فوق المنابر، فملئوا الصدور بالرعب، وزعزعوا البيوت بالقلق، وسمموا الحياة بالهم، ونزعوا من قلوب الناس طمأنينة العيش وحرية التصرف ولذة التملك، فانقلبوا عبيداً مسخرين لهذه النظم الطاغية، لا يجدون سلاماً في الأرض، ولا يعتقدون نعيما في السماء!

أخطر ببالك أمم التمدن الحديث، فهل تجد غير صولة تناهض صولة، ودولة تبلع دولة، وأنظمة عراها تغير الإنسان فهي تحتظر، وأخرى هدي إليها الضلال فهي تنتظر؛ والشعوب بين أنصار هذه وأنصار تلك مواد تهلك في التجارب، وأموال تنفق في الأهبة،

ص: 1

وأرواح تزهق في الصراع، وآمال تذهب مع الريح؟

دع هذا العالم المجهود البائس وجل جولة بالفكر في بلاد العالم الإسلامي، فهل تجد إلا السلام في المجتمع، والوئام في الأسرة، والسكينة في النفس، والرضا في العيش، والثقة في الحاكم، والأمل في الله؟ ذلك هو الفرق بين نظام يضعه الخالق ونظام يضعه المخلوق. وذلك هو الفرق بين مجتمع يعيش بالروح، ومجتمع يعيش بالآلة. وذلك هو المفهوم من دين سماه الله الإسلام، وجعل تحية أهله (السلام)، وقرن فيه الصلاة دائما بالسلام، وعرف أهله بأنهم (الذين يمشون على الأرض هوناً، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً)

ذلك هو معنى الإسلام وذلك هو مبدأه. وتستطيع أنت بأيسر الفهم أن ترجع الإسلام وفروعه إلى تحقيق هذا المعنى وتطبيق ذلك المبدأ؛ فالصوم والصلاة سلام الفرد. والحج والزكاة سلام المجتمع؛ والسنن والأنظمة والآداب التي انشعبت من هذه الأصول دستور ثابت خالد يحقق لهذا الإنسان، طريد العدوان وعبد الطغيان، أحاديث أحلامه، وهواجس أمانيه، من الأخوة التي يعم بها النعيم، والمساواة التي يقوم عليها العدل، والحرية التي تخصب فيها المدارك؛ لأنه دستور لم يوحه الجوع ولا الطمع، وإنما أوحاه الذي خلق الموت والحياة، وجعل الظلام والنور، وأوجد الفساد والصلاح، ليدرأ قوة بقوة، ويصلح نظاماً بنظام، وينقذ إنساناً بإنسان

إن الإسلام بشريعته السمحة، وسياسته الحكيمة، قد أزال الفروق، وعدل المقاييس، وألف القلوب بالبر، وشفى الصدور بالتعاون، فلا يمكن أن يعيش في ظله نظام هادم ولا نحلة مفرقة. افتحوا ثغوره للنظم الحمراء التي تشيع الفزع هنا، وتثير الحرب هناك، فسترونها تفد جارفة وفود النسور الخاطفة، ثم لا تلبث أن تقع من دون ذراه المنيعة، مهيضة الجناح، ناسلة الريش، لا تقوى على زفيف ولا حفيف! وفي تركية الدليل الحاسم، فإن بينها وبين الشيوعية جواراً وصداقة وعلاقة؛ ومع ذلك لم تستطع الشيوعية - على فجورها وجرأتها - أن تقتحم على الإسلام غِيله.

إن في الإسلام من ديمقراطيته واشتراكيته وأخوته مناعة على كل شر، ومثابة لك جنس، ومودة لكل دين. فانتصاره انتصار للعقل، وانتشاره انتشار للعدل، وسيادته سيادة للسلام!

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌عبرة الهجرة

للإمام المسلمين الأستاذ الأكبر

الشيخ محمد مصطفى المراغي

شيخ الجامع الأزهر

يذكرنا كر الغداة ومر العشيّ وما فيهما من نُعمى وبؤسى، وشدة ورخاء، وإقبال وإدبار - تقلب الأحوال وتبدلها في هذه الحياة. ويذكر كل أحد من الخلق بطي صحيفة من صحف الأجل، وبالخاتمة التي لا معدى عنها، وفي ذلك عبرة. (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب)

ويذكرنا العام الهجري خاصة بأكبر حادث في تاريخ الإسلام له أجمل الأثر في انتصاره، وفيه أكمل عبرة:

شريف من أشراف قومه، وقومه من أشرف الأقوام؛ ورجل قوي الخلق، حلو الشمائل، فصيح اللسان، قوي البنيان، كامل الإنسانية، مهذب الطبع، رضي النفس، شجاع مؤيد بالوحي الإلهي وبقوة الحق - ينبو به وطنه ومكان مولده، فيهجر أرضاً حلت فيها تمائمه، ويفارق دياراً عرفها وعرفته، ومشاهد حلت لنفسه واتصلت بها، وأهلا وإخواناً أعزاء

رجل هذه صفاته، وتلك مكانته، يضيق لها صدر القوم، ويتنكر له الناس، ويكيدون له حتى يخرجوه! رجل هذه صفاته، يفارق دياره وأهله؛ ولو لم يكن صاحب دعوة إلى الحق والى غير ما ألفه الناس وأخذوه عن الآباء والأجداد، لكن المحبب إلى النفوس، والمرموق بالأبصار، والمفدى بالأهل والولد. لكن الحق أزعج الباطل فلم يطق صبراً، ودفع أهله إلى قتله أو إخراجه؛ (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين)؛ وغطى على القلوب فأفسد على العقل ملكة التقدير (وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا، ولو نشاء لقلنا مثل هذا، إن هذا إلا أساطير الأولين)

هذا موضع العبرة

وليس من غرضنا أن نلم بتاريخ الهجرة وما لابسها، فذلك معروف في السير، كذلك ما لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم، وما أصاب صحبه المتقين من جهد البلاء، وجهل الجهلاء،

ص: 4

وكيد الكائدين، لا يغيب أكثره عن أكثر المسلمين

الأجسام الإنسانية معرضة للأمراض كسائر الكائنات الحية؛ وقد تعطل الأمراض وظائف الأعضاء أو تضعضعها. ومن الأمراض ما هو خاص ببعض البلاد أو بعض البيئات. وحال النفوس الإنسانية لا يختلف عن الجسوم: تصاب بالجهل، وبالعناد، وبالغرور، وبالحرص على لذات الدنيا من مال وثراء وجاه وعزة، وبالحقد على أصحاب النعم موروثة ومكتسبة، وبحب الانتقام والإسراف فيه، وبحب ما هو موروث عن الآباء والأجداد من مال وعقار وصفات وخلال وعقائد وتقاليد

مثل هذه النفوس المريضة لا يسهل تحولها من الشر إلى الخير، ولا يسهل قبولها الحق وهي بحاجة إلى داع قوي بصبره، قوي بحجته، فيه من المناعة الخلقية ما يقوى به على احتمال الأذى والمكروه في نفسه وذويه، وعلى احتمال ما يرمي به مما يستفز الحليم، ويستنفد صبر الكريم، ويعجب له الرجل العادي، وبعده ضعيف الطبع شذوذاً وخروجاً عن المألوف. تجمعت هذه الأمراض في قريش فاستعصى العلاج وتحير الحق، ولم يكن أمامه إلا أن يخلد إلى الذلة والاستكانة، أو يفر بنفسه من عنت الباطل إلى أن يجد السبيل ويعد العدة لمنازلته؛ فليست هذه البيئة مما ينفذ إليها ضياء الحق بالدليل والحجة، بل هي في حاجة إلى السيف يضرب الرقاب ويفلق الهام، والى أسنة الرماح تصل إلى القلوب فتشعرها بوجوب التنبه والإصغاء إلى صوت الحق. تلك أسباب الهجرة. وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم هذه البيئة الموبوءة خوف أن يختنق الحق في مهده، ورجاء أن يجد له متنفساً في أرض حرة تحضنه، وأن يجد له قوة تعينه، حتى يحين الأجل المضروب، ولكل أجل كتاب

هاجر وتم له ما أراد، إذ فتح الله له فتحاً مبينا وأعز دينه وأعلى كلمته ونصر جنده، ودانت له تلك القبائل التي ناصبته العداء، ولم يرض إلا بعد أن رضي الحق وانتصر، وبعد أن انتصر غفر. فهو خادم الحق وأمينه، وناصره ومعينه، لا يرى أن نفسه له، ولا أن أهله له، ولا أن شيئاً في الحياة له، بل كل شيء عنده وفي مقدوره للحق وفي سبيل الحق. ولم يكن السيف في يده إلا مشرط الجراح يبتر به ما فسد من الأعضاء، ولم تكن الأسنة إلا الإبر التي يبزل بها الطبيب مكان الداء ليخرج أذاه. وليس بدعاً من الحوادث حادث الهجرة

ص: 5

وما لابسه إذا عرض على مقاييس العقول واعتبر الناس بسنن الاجتماع وهديه. ولا تزال هذه السنن مستمرة في هذه الحياة؛ ولا زالت تعمل عملها وتحدث أثرها. والعاقل من يعتبر. (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين)

وقد سار النبي صلى الله عليه وسلم على هذه السنن، وامتاز بأكمل ما امتاز به الأنبياء وكبار الدعاة إلى الحق من اليقظة والحكمة، وتخير الأوقات والأمكنة، واختيار الأصحاب والأنصار. ولم ير الاكتفاء بالحجة والبرهان في مواضع لا تنفع فيها الحجة ولا يقنع البرهان، بل أعمل الحيلة وأدار الرأي وطلب القوة في مظانها. لذلك كانت الهجرة، وبذلك أدرك ما أراد. فظهر الإسلام وبسط ظله على أمم قوية كثيرة العدد والعُدد، وحول أولئك الأميين إلى أئمة هدى وولاة عدل وفقهاء نفس وساسة يفخر التاريخ بهم، وعلماء تروى آثارهم ويتحدث الناس بطيب أخبارهم، وأساة للإنسانية وجروحها تتفجر منهم ينابيع الرحمة ويضعون نظم الإصلاح وقواعد الاجتماع. رفعوا قدر العلم بعد أن أنكروه، وجعلوا العقل هادياً ومرشداً، والقرآن إماماً. لم يخونوا أمانات الله ورسوله فأحياهم الله حياة طيبة، وأعد لهم مكان صدق عند مليك مقتدر

(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم، وأعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه، وأنه إليه تحشرون. يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أمانتكم وأنتم تعلمون)

محمد مصطفى المراغي

ص: 6

‌البحث عن غدٍ

للأستاذ عباس محمود العقاد

الغربيون اليوم معنيون بالبحث في مسائل الشرق من جوانبه كافة. . من جانب السياسة، لأن نهضة شعوبه تضطرهم إلى حسبان حسابه والعدول عن خطة استغلاله والسيطرة عليه؛ ومن جانب الدين، لأنهم حائرون في شئونهم الروحية يلتمسون الهداية من مهبط الأديان، أو يقابلون بين سلطان الدين عليه وسلطان الآراء الحديثة عليهم؛ ومن جانب التجارة، لأن العلاقات التجارية بين الدول الكبرى لا تستغني عن أسواق الشرق ومنابع الثروة فيه؛ ومن جانب السياحة والرحلة واستكشاف مواقع التاريخ القديم، وكل جانب تتحول إليه عناية الباحثين في مسألة عامة

ومن الباحثين الصحفيين المشغوفين بالمسائل الروحية (روم لاندو) صاحب كتاب (الله محجة مغامراتي)، وصاحب هذا الكتاب الذي عنوانه (البحث عن غد)، وموضوعه استطلاع أحوال الشرق القريب من جانب الدين والنهضة النفسية إن صح أن نطلق عليها هذا الاسم تمييزاً لها من النهضة العلمية البحت والنهضة الصناعية الاجتماعية التي تقابل نظيرتها في الأقطار الغربية

حضر إلى مصر وتحدث فيها إلى رجالات الفكر والسياسة ولخص هذه الأحاديث في كتابه، وسنعرض لها جميعاً، ونبدأ بنقل حديثه مع رئيسي الجامعتين الأزهرية والمصرية، حيث قال بعد تمهيد طويل للحديث مع صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى المراغي وقد زاره في بيته بحلوان:

(سألني: هل تبحث عن المسائل الدينية أو مسائل ما وراء الطبيعة؟ ولما كان الفارق بين هذه وتلك ليس بالفارق العظيم في نظري أجبته بشيء من الروغان: كلاهما؛ إلا أنني أشد عناية بما وراء الطبيعة

فقال الشيخ العلامة: قليلة المحصول، قليلة المحصول جداً

وكانت لهذه الكلمة دلالتها، لأنها تشير إلى طبيعة الإسلام العملية كما تمثلت في أكبر رعاته بين المصريين

ومع علمي بعض العلم بأساليب المناقشة الشرقية لاحظت على الأستاذ المراغي أنه يتنحى

ص: 7

عن الجواب في كثير من الأحيان، وأن أسلوبه أسلوب رجال السياسة؛ وناهيك بهم إذ يكونون شرقيين مع ذلك، وعلى خبرة بالمواقف المعضلة، وحرص من التورط في التصريح، فهو في البيئة الغالبة على فقهاء الإسلام لا مراء

وعدت أقول: لقد سمعت أن الشبان عندكم يجنحون إلى نزعات (التفكير الحر) ويحاولون أن يزيدوا القرابة بين الدين والعلم. فهل صحيح ما سمعت؟

فقال الشيخ: (لا أظن الشبان المصريين أقل تديناً اليوم من أمس؛ إذ ليس في القرآن ما يعارض الحقائق العلمية، ولا تناقض بينهما في شيء

وأردت أن أخوض فيما أصرح وأجرأ مما تقدم فسألت: ألا ترى أن العنصر الروحي - أو الغيبي المتصل بما وراء الطبيعة - هو أهم العناصر في الديانات؟

قال الشيخ في سكينة ولطف: من ذا الذي يعلم كنه الله وكنه الروح؟ إن بعض أساتذتنا يتحدثون عن المادة كأنها حقيقة، وبعضهم يتحدثون عنها كأنها وهم أو فرض مفروض؛ وليس من يعلم الصواب علم اليقين، فإن القرآن لا يفصل بين القولين، ولكنه يحكم حكمه في أمور شتى كأمور الزواج والمواريث والمعاملات

فسألته: وماذا تقولون في قبول العلماء لنظرية قدم المادة؟

ولا ريب أن الأستاذ المراغي لم يكن يتوقع قط أنني علمت شيئاً عن هذه القضية، إلا أنه لم يظهر الدهشة، ولم يبد عليه إلا قليل من مفارقة السكينة التي لزمته حتى الساعة كأنها قناع لإخفاء ما وراءها من قلة الاكتراث. فقد انبعثت الحياة من خلالها وقال:

(إنك لم تقع على الخبر الصحيح في هذه القضية، فليس هناك إلا أن عالماً كتب رسالته في علم الأصول ليعبر فيها عن رأيه وما انتهى إليه اجتهاده)

فبادرت قائلاً: ألم يكن صاحب الفضيلة وأعوانه من العلماء مرجع الامتحان في هذه القضية؟

فابتسم الشيخ المراغي وهو يقول: (إن رأياً كهذا قد كان يحسب من الزندقة قبل خمسين سنة، وما كان أحد ليجسر على تقديمه في جامعة إسلامية. فما أعظم التغير في أطوار الزمان! نحن اليوم أدنى إلى الحرية والسماحة)

واستطرد الكاتب إلى أسئلة وأجوبة من هذا القبيل، انتهى منها إلى المذاهب الاجتماعية

ص: 8

والشطط في الدعوات الفكرية، وسجل رأي الشيخ الأكبر أن الوقاية من جميع ذلك إنما هي الدين وتعليم الإسلام على أصوله

أما حديثه مع صاحب المعالي أحمد لطفي السيد باشا فقد مهد له بوصف الأستاذ وملابسه الإفرنجية الأنيقة ومعيشته العصرية، ثم استهله بهذا السؤال:

(ما هي أكبر رسالة ثقافية قامت مصر بأدائها في رأيكم خلال القرون الأربعة التي خضعت فيها للحكومة التركية؟)

فأجاب وأصابعه النحيلة تعبث بحبات المسبحة العاجية: (إنما هي عمل الجامع الأزهر في جميع الكتب الفقهية)

فقلت: ألا ترون أن حصر رسالة ثقافية تؤديها الأمة في عمل واحد لا يتجاوز جمع الموضوعات الفقهية خليق أن يشير إلى شيء من ضيق النطاق؟

فرفع لطفي باشا حاجبيه هنيهة واضطرني بذلك أن أعقب على ما أسلفت مستدركا:

(إن كثيراً من الغربيين يزعمون أن تفكير العرب (تجريدي). . . فإذا كانت العبقرية القومية لا تخرج في مدى القرون الأربعة ثمرات ثقافية غير الفقه والشريعة فهذا الزعم ليس بالمخالف كل المخالفة للإنصاف فيما يلوح لأول نظرة)

فسألني: ماذا تعني بالتفكير التجريدي؟

قلت: إن التفكير الإنجليزي مثلاً واقعي مجار للحوادث، لأنه يتناول كل حادثة كما تعرض في حينها، وهو من ثم نقيض الفروض النظرية والمباحث الجدلية. أما تفكير العرب فهو رهن بالقواعد المرسومة والنظريات المعلومة؛ ويلوح عليه أنه شبيه بهندسة البناء العربية، لا يحتوي صورة من صور الحياة الماثلة في بنية الإنسان وملامح وجهه، وكل ما فيه هندسة وتناسق خطوط. . .)

قال لطفي باشا وهو يشفع كلامه بابتسامة معتذرة:

(آسف لأنني لا أستطيع مجاراتك في حكمك. فالذي يبدو لي أن الفكر العربي أشد إيغالاً في الواقعيات من الفكر الأوربي. وهذه شريعتنا الدينية التي استشهدت بها على نزعته التجريدية تتناول شؤون الحياة اليومية ولا تقتصر على مسائل اللاهوت والأخلاق كما هو الحال في الشريعة المسيحية؛ وهي تفيض بالوصايا في أمور المعيشة والزواج والميراث

ص: 9

وما شاكل ذلك. وأحسب أننا أقرب إلى معرفة الحقيقة حين ندرس (مخيلة) الأمة كما تتمثل في ديانتها. فكيف ترى (المخيلة المسيحية) نتصور السماء والفردوس؟ إن سماء المسيحيين هي نعيم غير ذي أشكال، أو هي شيء لا يسعك أن تراه ولا تقع عليه العيون، بل شيء لا يسعك أن تحيط به في الخيال. أما المسلمون فكيف تراهم يتخيلون السماء؟ إنها دار حقيقة فيها اللبن والعسل والعسجد، وفيها الأزهار والأشجار والحور العين، وهي كلها حقائق ومشاهدات. . . أفليس هناك معنى ملحوظ لاتفاق المخيلة الدينية بين المسيحيين والمسلمين في (ميدان سلبي) حين يتكلمون عن الجحيم؟ ففي هذا الميدان ترسم المسيحية نفسها صورة مشهودة هي صورة النيران والنفط الغالي وعذاب الأجساد

قال الكاتب: فأحجمت عن الجهر بملاحظة سنحت لي تلك اللحظة، وفحواها أن المبالغة في تمثيل الخيال تقترن عادة بالقصور في ملكة البناء والإنشاء الواقعية، وآثرت أن أسأل:

ألا تزال الديانة قوة فعالة في الحياة المصرية؟

فأجابني الباشا: (فعالة على الأرجح في عالم الإسلام أعظم من فعلها في عالم المسيحية، لأن شرائعنا كلها قائمة على القرآن؛ ومن العسير في البلاد الإسلامية أن تفصل بين الدين والحياة اليومية)

قلت: على أنني قد أخبرت أن الشبان المصريين يهجرون عقائد آبائهم جنوحاً منهم إلى البدع الغربية

قال: أعجب لو صح ذلك. . . فلعلهم لا يغشون المساجد ولا يشهدون صلوات الجمع، ولكنهم على الجملة متدينون، وربما كان منهم أناس من الدارسين للفلاسفة الغربيين قد ألحدوا في الدين إلا أنهم شذوذ قليل

فسألته: أيعنى المصريون عناية ما بما وراء الطبيعة أو بالأسرار الخفية والسبحات الصوفية؟

قال: (ذلك نادر في (فلسفتنا الحاضرة). غير أن فلسفتنا وأدبنا لا يزالان في مفتتح الحياة؛ وينبغي ألا تنسى أن أربعة قرون من الحكم التركي قد عطلت ثقافتنا وتركتنا نحاول من جديد

فانتقلت إلى حديث الجامعة العربية وسألته: (وهل بعد انقضاء السيادة التركية أو السيادة

ص: 10

الإنجليزية يهتم المصريون بالجامعة العربية؟

فرد الباشا جازماً: أما سياسياً فلا، لأن الفوارق بين الشعوب العربية المختلفة جد كبيرة؛ أما من الوجهة الثقافية فهي ممكنة، وهي على ازدياد في جوانب الشرق الأدنى؛ ولكنها ليست بالسياسة، لأن الجامعة العربية من حيث هي نزعة سياسية اختراع نَجَم في الصحافة الإنجليزية على ما أذكر، ولا يحصرني اسم صاحبه وإن كنت أرجح أنه مراسل للتيمس كان يراسلها من النمسا قبل أربعين سنة

وتنقل الحديث في بعض الموضوعات الشرقية ثم سأل الكاتب: ما ظنك في حقيقة ما يقال من أن الوطنية المصرية توصد ما بين المصريين وسائر العالم، وتجتهد في إبدال كل مصري بكل أجنبي؟ أتؤمن بإمكان هذه العزلة؟

قال الباشا: الحق أنني لا أومن بذلك؛ ولعل محدثيك قد أخطئوا التقدير، فإن الوطنية عندنا لا تجور على الثقافة. ونحن إذا اكتفينا بمن هم عندنا من الأساتذة الأجانب فسبب ذلك قلة المال. إن الأستاذ الإنجليزي يكلفنا من ثمانمائة إلى تسعمائة جنيه في العام، وليس ذلك بالميسور لنا إلا فيما ندر

وانتهى الحديث بعد تعقيب موجز في هذا الموضوع، وسنعود إلى سائر الأحاديث وإلى التعقيب عليها في مقال تال

عباس محمود العقاد

ص: 11

‌من ذكريات الماضي

خطرات الشك في صدور الشباب

للأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق بك

أستاذ الفلسفة بكلية الآداب

قضيت صدر النهار في خمول من أثر البرد الذي نالني وكدت آوي إلى مضجعي مريضاً، ولكنني طاردت الضعف وتكلفت القوة واشتغلت ساعة مع زميل لي فرنسي، ثم اشتغلت من بعده وحدي.

وزارني بعد الظهر ثلاثة من أصدقائي المصريين فقطعنا زمناً في الحديث والسمر، وذهب عني شيء من الفتور فنهضت للخروج معهم. على أن الطقس كان ذا رطوبة وإن لم يكن كثير البرودة. وانصرف اثنان منهم وبقي ثالثهم معي فقال: إني سأحدثك بأمر عقيدتي لتعلم موطن القوة والضعف منها. أما الإيمان بالله فقد وصل عندي إلى حد الإذعان الذي لا تزلزله ريبة؛ وأما الرسل فما أراهم إلا رجالاً من صفوة أممهم وُهبوا أنفساً كبيرة، وعقولاً راجحة، فعملوا على إسعاد الناس وتقريبهم من الخير، ووضعوا لذلك قوانين هُدوا إليها كما يهتدي الحكماء إلى وضع قواعد لإصلاح المجتمع الإنساني أو إلى كشف ما خفي عن غيرهم من أسرار الكون

ولما رسخ في يقينهم أن ما وصلت عقولهم الصافية إليه هو الحق، قالوا إنه من الله وسموه وحياً؛ وكأنما قولهم هذا من باب ثقة العالم بعلمه، ولكنه لا يجعل آراءهم وما جاءوا به بنجوة من تمحيص العقول، ولا يمنحهم من الثقة فوق ما يكون لإخوانهم الحكماء المصلحين في كل زمان

سمعت قوله كله بإصغاء تام ولم أقطع عليه الطريق في حديثه ولا أظهرت له إنكارا، ولم ييئسني عدوله عما أعتقده الحق من عدوله إليه، ذلك بأنه يتكلم بروية، ويعبر عما في نفسه، ويدلي بالحجة القائمة عنده؛ ومن كان هكذا عظم الرجاء في عرفانه للحق إذا سطع له برهانه

أخذت أولاً في اختبار إيمانه بالله لأذهب به من طريق الترتيب الطبيعي فوجدته لا يخالف

ص: 12

في شيء مما أثبتته الأديان لله وجعل أساساً للإيمان، ثم انتقلت به إلى أمر الآخرة فقال إنه في شك منها ولم يعطها حظها من النظر. فقلت له إن الإيمان بالحياة الثانية ينبغي أن يكون موضع بحثك قبل أن تصل إلى الرسالة؛ وبسطت له ما تهدي إليه الفطرة ويدركه بادئ النظر من وجود دار جزاء ينال فيها المحسن ثواب إحسانه، ويُسأل فيها المسيء عن إساءته. ومن أيقن بأن الله حكيم لزمه بالبداهة أن يقر بأن الناس لم يخلقوا سدى - أفحسبتم إنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون - عند ذلك قال إنه لابد لي من فضل تفكير في هذا. وهبني أذعنت له فماذا تقول في المرسلين؟ فقلت له ما عندي من أدلة الحاجة إلى الرسالة التي ينبغي أن تكون من عند الله، لأن كثيراً من تعاليم الرسل لا يستقل العقل البشري بها. وقد جاء كل رسول ببينة تؤيد دعواه أنه مرسل من عند الله. وإليك معجزة محمد عليه الصلاة والسلام وهي القرآن الكريم، فهل ترى أن بشراً يقدر على مثله؟ ونازعني في ما سقته إليه من الأدلة ونازعته، حتى سكت فسكت عنه، وتركته إلى نفسه يعرض عليها أدلة المخالف ويراجع أدلتها هي. وأرجو أن أعود إليه مرة أخرى فيكون الحق قد مهد لنفسه سبيلاً إلى قلبه. وإني وإياه لطلاب هدى.

ولوددت أن يبادر شبابنا بطلب اليقين إذا تلجلج الشك في صدورهم، فإن ذلك أحرى بأن يقتلع الشبه قبل رسوخها. وفلان. . . أمثلهم في هذا وإن كان يغلبه الشباب حيناً على الغضب لرأيه إذا شاء مجادله أن يظهر بالغلبة عليه)

هذه صورة من صور الحوار الذي كان يجري أحياناً بين شبابنا طلاب العلم في أوربا في صدر هذا القرن عندما كانت تتسرب إلى نفوسهم الغضة نزعات الشك في العقائد، وكانت نزعات الشك في العقائد يومئذ تشتعل في أوربا اشتعالا

وقد يكون في نشر هذه الصورة عبرة لشباب اليوم

ولسنا ندري كيف يفعل شباب اليوم حين تتسرب نزعات الشك إلى عقائدهم

مصطفى عبد الرازق

ص: 13

‌سِرُ العَظَمة

للأستاذ توفيق الحكيم

ينبغي لمن أراد أن يدرك سر عظمة النبي أن يتخيل رجلاً وحيداً فقيراً تمكنت من قلبه عقيدة فنظر حوله فإذا الناس كلهم في جانب، وإذا هو بمفرده في جانب. هو وحده الذي يدين بدين جديد، بينما الدنيا كلها: أهله وعشيرته، وبلده وأمته، والفرس والروم والهند والصين وكل شعوب الأرض لا يرون ما يرى، ولا يشعرون له بوجود. هذا موقف النبي، وهذا موقف العالم: رجل عاطل من كل قوة وسلاح، إلا مضاء العزيمة وصلابة الإيمان، أمام عالم تدعمه قوة العدد والعدة، وتؤازره حرارة عقيدة قديمة شب عليها وورثها عن أسلافه، واتخذت لها في قرارة نفسه وأعماق تاريخه جذوراً ليس من السهل اقتلاعها على أول قادم. فالنبي هو ذلك القادم الذي يريد أن يقتلع تلك الجذور ويضع مكانها غرساً جديداً. والعالم القديم هو ذلك السادن القوي لتلك الشجرة العتيدة، يذود عنها وتأبى كرامته أن يفرط في ورقة منها. إنها إذن (مبارزة) بين فرد أعزل، وبين عصر بأسره يزمجر غضباً: عصر زاخر بأسلحته ورجاله، وعقائده وفقهائه، وعلمائه ومشاهيره، وتقاليده وماضيه، ومجده وتاريخه. . . هذه المبارزة الهائلة العجيبة من يستطيع أن يقدم عليها غير النبي. . . على أن المعجزة بعد ذلك ليست في مجرد التحدي ورمي (القفاز) وارتفاع ذلك الصوت الضعيف على شاطئ ذلك البحر الطامي العجاج:(أن اترك أيها العالم دينك القديم واتبعني). ذلك الصوت الذي لا جواب عليه إلا سخرية طويلة وقهقهة عريضة. . . وليست المعجزة كذلك في مجرد شفاء الأصم وإبراء الأعمى، إنما المعجزة حقيقة هي أن يخرج مثل هذا الرجل الوحيد الأعزل من هذه المعركة المخيفة ظافراً منتصراً؛ فإذا هذا العالم العتيد كله يجثو عند قدميه منكس الأسلحة، وقد انقلبت سخريته خشوعاً طويلاً، وقهقهته صلاة عميقة كيف ربح هذا الرجل الموقعة؟ ما وسائله؟ هل كانت له خطط وأساليب وقوة من شخصه مكنته من النصر؟ أو أن الله هو الذي نصره دون أن يكون لشخصية النبي دخل في الانتصار؟ عقيدتي دائماً أن شخصية النبي لها أثر كبير

وهنا معنى الاصطفاء، فالله يختار من بين البشر عظيماً له كاهل يحتمل عبء الرسالة، ويوحي إليه بالعقيدة ثم يتركه يجاهد في سبيلها. فالنبي ليس آلة تحركها يد الله في كل

ص: 14

خطوة؛ إنما هو رسول عهد إليه تبليغ دين والعمل على إذاعته بين الناس بالوسائل التي يراها الرسول كفيلة ببلوغ الغاية. فالله لا يريد نشر الأديان بين البشر إلا بالوسائل البشرية. فهو لا يتدخل بقدرته العلوية فيفرض الدين فرضاً على الناس كما تفرض عليهم الزوابع والأمطار؛ ولكنه يحب دائماً أن يخلي بين (الدين) وبين (الناس) حتى يتغلغل الدين من تلقاء نفسه في نفوسهم بجمال نوره وحده؛ ولكن أعين الناس لا ترى في كل الأحيان؛ فهم يعيشون في أعماق ماضيهم كالأسماك العمياء في أغوار المحيطات. هنا تبدأ متاعب النبي؛ وهنا تبدو عظمته؛ وهنا تظهر المعجزة الحقيقية وهي إبراء الأعمى، لا أعمى واحد ولكن ملايين العميان. فهو الذي يفتح أبصارهم على نور طالما جحدوا وجوده: نور الدين الجديد الذي أتى به. وهنا ينبغي التساؤل: كيف استطاع النبي أن يُري الناس ما يَرى، وأن يقنعهم بما جاء به؟. الجواب بسيط: حياة النبي وخلقه. إن الناس لا تقتنع بالكلام وحده. إنما يؤثر فيها الفعل والمثل. إن الناس يوم أيقنوا أن محمداً لا يسعى إلى غنى ولا إلى مُلك؛ وأنه يريد أن يبقى فقيراً يشبع يوماً ويجوع أياماً، وأن كل تلك المخاطر التي يتعرض لها في كل خطوة، وأن كل ذلك الهوان الذي يناله من سفهاء القوم وأكابرهم. . . وأن كل ذلك الجهاد الذي ملأ به حياته بأكملها إنما هو في سبيل (العقيدة) التي يقول لهم عنها؛ منذ ذلك اليوم الذي اجتمع فيه كبراء أمته وعرضوا عليه ثروتهم ووعدوه أن ينصبوه عليهم ملكاً على شرط أن يتركهم على دين آبائهم، فرفض المال والمجد والسلطان، وأبى إلا شيئاً واحداً صغيراً:(أن يؤمنوا معه بفكرته)؛ عند ذاك أدرك أولئك القوم جميعاً أن الأمر جد لا هزل؛ وأنهم أمام رجل لا ككل الرجال؛ وأن الآدمي الذي لا يغريه في الحياة شيء، ولا يعيش إلا من أجل فكرة، لابد أن يكون قد أبصر في هذه الفكرة جمالاً لم يبصروه هم. (فكرة) لا تقوَّم بمتاع من أمتعة هذه الدنيا الرخيصة، و (جمال) يضحي في سبيله خير ما في الحياة. أمام هذا الرجل أخذ الناس يفكرون ملياً. وثبت لمن كان قد ارتاب في أمره أن مثله لا يمكن على الأقل أن يكون أفاقاً يعمل لمغنم. إنما هو رجل صادق مخلص، لا مطمع له من تلك المطامع التي يسعى إليها الناس في هذه الدار. عند ذاك بدأ كثير من الناس يجلسون إليه ويصغون إلى كلامه. . . فوسيلة النبي الأولى وخطوته التي نزل بها الميدان هي إقناع هذا الخضم الصاخب من الخلق أنه مجرد عن الغايات الدنيوية. وهنا كانت قوته؛

ص: 15

فإن أمضى سلاح في يد رجل يريد أن يقارع البشر، هو أن يواجه البشر بيد خالية من أغراض البشر

ولكن هذا لا يكفي. فالناس قد تقتنع بأمانة النبي، وقد تستمع إلى ما يقول، ولكنها لا تستطيع أن تنبذ في يوم وليلة كل ماضيها لتؤمن بهذا الكلام الجديد. إن صدر الجماهير كصدر المحيط العميق ذي الماء الكثيف، يدفع إلى سطحه كل جسم غريب، ولا ينفذ إلى أعماقه إلا شيء ذو وزن، بعد زمن وجهد. وإن الناس لشديدة الحرص على ما تسميه كنوز تراثها وتقاليدها. فما أدراهم أن هذا الكلام الجميل الذي جاء به هذا النبي ذو الحديث الطلي ليس إلا بضاعة زائفة ووهماً خلاباً لعب بلب هذا الرجل؟ ولم لا يكون هذا الرجل الأمين المسكين فريسة مرض ومس؟ ما هو الأجدر بهم عندئذ؟ يطلبون له الطب حتى يبرأ، أو يلقون بكنوزهم ويتبعون حلمه ومسه. لقد وضعت المسألة إذن وضعاً آخر، واتخذت الحرب ميداناً جديداً. ماذا يصنع النبي؟ لابد له من أن يبدد ضباب الشك المخيم على الأذهان حتى يصل إليها نور الدين. هنا صفتان لازمتان: الصبر والمثابرة، فإن العاقبة في الحرب لمن صبر وثابر. وإن أمامه لخصماً جديداً، هو الشك الذي يقوم الآن في رؤوس الناس. فإن كان حقيقة رجلاً عظيماً فليقتل هذا الشك بمفرده. وما هو بشك رجل واحد، إنما هو شك أمة طامية. ولقد جاهد الرسول فعلاً في كل لحظة من لحظات حياته، إلى أن استطاع ذات يوم أن ينقل العقيدة التي في قلبه حارة قوية إلى قلوب الناس جميعاً. وهنا كان النصر الأخير، وتمت المعجزة. وتمكن هذا الرجل الواحد من أن يضع العالم في قبضته، ويخضعه لفكرته، ويطبعه إلى أبد الآبدين بخاتمه، ويدخل إلى صدره أشعة نور جديد.

توفيق الحكيم

ص: 16

‌رعاية الطفولة في الإسلام

للمربية الفاضلة الأستاذة

أسماء فهمي

درج أكثر الناس في قياس مجد الأمم وحضارتها بمقاييس شتى أهمها النبوغ في الفنون والعلوم، أو ارتقاء النظم والقوانين، أو التفوق الحربي ووفرة الغنى واتساع الملك

وقلما جعلوا رقي الأمة الوجداني وتغلغل مبادئ الرحمة والإحسان فيها من أول مقاييس الرقي الهامة. ومادامت هذه الناحية لا تلقى من الدراسة والعناية ما يرجح كفتها، ويرفع قيمتها، لتكون الحجر الأساسي في بناء الحضارة، فسيظل العالم ولاشك بعيداً عن روح السلام والوئام

ولقد كان للحضارة الإسلامية أوفر الحظ من مبادئ العطف والإنسانية التي تجلت في نواح عدة من الحياة، فظهرت مثلاً في معاملة المسلمين لسكان البلاد التي خضعت لسلطانهم مما أنساهم عدة أجيال مذلة الفتح، كما ظهرت في معاملة الرقيق والمرأة، وتجلت في الرعاية العظيمة التي كان يعامل بها الأطفال. على أن تلك الناحية الخطيرة التي يجب أن تعتبر بحق المقياس الأول للرقي، لم تنل كل ما تستحقه من الاهتمام، فلم تأخذ مكانة المقاييس الأخرى بعد. وعلى ذلك فليس أنسب من أن ننتهز فرصة حلول العام الهجري الجديد لندرس ناحية من نواحي الرقي الوجداني عند المسلمين في العصور الماضية، فنتعرف اهتمامهم بشئون الأطفال، وتربيتهم للنشء، لنسبر غور مبادئ الرحمة فيهم

لم يكن الاهتمام بشئون الأطفال مقصوراً على الدين الذي حرم قتل الأبناء خشية الإملاق، وصان حقوق اليتامى وأموالهم، ووضع القوانين للحصانة، وقيد سلطة الأب على أبنائه، ورفع مكانة الأمة إذا أنجبت ولداً لسيدها فأصبحت بسبب وليدها في مأمن من البيع والشراء؛ بل أن موضوع تربية الطفل ووجوب تعهده بالرفق والعناية لاقى أكبر الاهتمام من كتاب المسلمين ومفكريهم. وإن روح الرفق لتبدو واضحة قوية في كل ما كتبوا. والواقع أن الشاعر العربي الرقيق العاطفة لم يكن هو وحده الذي عبر بوضوح عن هذه النزعة الإنسانية إذ قال:

وإنما أولادنا بيننا

أكبادنا تمشي على الأرض

ص: 17

بل إن الفيلسوف والمربي عالجا الموضوع بنفس الروح. فلقد اهتم بهذه الناحية نفر من أشهر مفكري الإسلام مثل ابن سينا والغزالي والعبدري وابن خلدون. وسنشير إلى بعض آرائهم تسجيلاً لناحية من نواحي الرقي والوجداني الذي تمتاز به الحضارة الإسلامية عما سبقها من الحضارات كالحضارتين الإغريقية والرومانية

فابن سينا يجعل أساس التربية مراعاة ميول الأطفال واستعدادهم، حتى لا يرهق الأطفال بأعمال يصعب عليهم أداؤها لأنها لا تجري مع رغباتهم. وعلى ذلك فابن سينا يحترم الميول مهما كانت متواضعة. كذلك عالج هذا الفيلسوف مشاكل التأديب بطريقة يتجلى فيها الحزم الممزوج بالرفق، فرأى أن يجنب الصبي معايب الأخلاق بالترهيب والترغيب، والإيناس والإيحاش، الإعراض والإقبال، وبالحمد مرة وبالتوبيخ مرة أخرى، ما كان كافياً؛ فإن احتاج للاستعانة باليد لم يحجم عنها. وليكن أول الضرب قليلاً موجعاً كما أشار به الحكماء من قبل، بعد الإرهاب وبعد إعداد الشفعاء. وهكذا لا يجعل ابن سينا القسوة والضرب أول وسيلة للتأديب، بل هو لا يلجأ إلى الضرب إلا إذا فشلت الوسائل الأخرى ولقد حدد علماء المسلمين عدد الضربات التي توقع على الطفل بثلاث، كما عينوا المواضع التي يحدث فيها الضرب حتى لا يتعرض الطفل للأذى

والغزالي الذي يعتبر حجة الإسلام، والذي كان لآرائه أكبر الأثر في تفكير المسلمين في العصور التالية، يتكلم عن الطفولة بعطف ورقة لا حد لهما. فهو يصف الطفل بأنه (أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة. . .) ومن ثم يجب على ولي أمر الطفل أن يقوم بإرشاده بأمانة وإخلاص. وهو يوجب مراعاة شعور الطفل فيقول: (إن الطفل المستحي لا ينبغي أن يهمل، بل يستعان على تأديبه بحيائه وتمييزه)، كما يرى:(ألا يؤخذ الطفل بأول هفوة، بل يتغافل عنه ولا يهتك سره، ولاسيما إذا ستره الصبي واجتهد في إخفائه)؛ كما ينصح للمربي: (أن ينظر في مرض المريض وفي حال سنه ومزاجه وما تحتمله نفسه من الرياضة ويبني على ذلك رياضته)

والعبدري الذي عاش بمصر في القرن الثامن للهجرة يحمل حملة شعواء في كتابه (مدخل الشرع الشريف) على مؤدبي عصره، وينعى على أولياء أمور الأطفال أنهم يقسون على الصبيان فيضربونهم بعصا اللوز اليابس وبالجريد. ويصر على أن يأخذ المعلم الأطفال

ص: 18

بالرفق ما أمكن. ولكن إذا اضطر المربي إلى أن يضرب الصبي على تركه الصلاة متى ما بلغ السن التي تجيز ذلك، فلا بأس أن يضربه ضرباً غير مبرح، ولا يزيد على ثلاثة أصوات شيئاً إلا في حالات نادرة جداً. وهنا يحدد عدد الأصوات بعشرة، وهو الحد الأقصى. ولا ينسى العبدري أن يذكر المربي بتفاصيل عدة لا يخرج مرماها عن مراعاة المسلمين لشعور الأطفال. فهو ينصح المؤدب مثلاً ألا يسمح للتلاميذ أن يحضروا غداءهم إلى المكتب، أو يحملوا نقوداً لشراء ما يرغبون من الطعام، حتى لا يتألم الطفل الفقير الذي لا يمكنه مجاراة الموسرين في مظاهر يسرهم. وعلى ذلك فهو يفضل أن يرجع الأطفال أجمعون إلى منازلهم للغداء

ويرى العبدري أيضاً أن يلعب الأطفال لعباً جميلاً بعد انصرافهم من المكتب حتى تذهب عنهم آثار التعب والملل، وحتى يستأنفوا دروسهم بشوق واهتمام

ولقد عقد ابن خلدون في مقدمته الشهيرة فصلاً في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم، ولاسيما في أصاغر الولد. وذكر أن كل من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو الخدم سطا به القهر، وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحمل على الخبث والكذب، وفسدت معاني الإنسانية فيه. . . وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف

كذلك لم تكن رعاية الأطفال مقصورة على المفكرين والمشتغلين بالتربية، بل قام المحسنون بإنشاء المعاهد الخيرية لتعليمهم وحمايتهم. وكثير من الكتب الإسلامية تفيض بذكر الكتاتيب التي بنيت لتعليم اليتامى والمساكين وإطعامهم وكسوتهم. ولقد ساهمت المرأة المسلمة بقسط وافر في هذا الميدان، إذ يذكر المقريزي في كتابه الخطط أسماء كثير من النساء اللاتي قمن ببناء الكتاتيب وحبسن عليها الأموال والأملاك لتعليم أبناء الفقراء كتاب الله. وكثيراً ما كان يبنى الكتاب بجانب المدرسة والبيمارستان مما سهل بطبيعة الحال حصول الأطفال على العلم والعلاج

وبلغ من عناية المسلمين بأمر الأطفال أن كلف رئيس الشرطة بتفقد أحوال الكتاتيب لمنع تعليم البنات الصغار أشعار الغرام والمجون مما قد يكون له أثر السيئ في أخلاقهن، ولحماية الأطفال مما قد يصيبهم من قسوة المعلمين. وهكذا لم تقف الدولة موقفاً سلبياً في

ص: 19

أمر تربية الأطفال

من كل ما تقدم يتبين لنا مقدار تغلغل مبادئ العطف والإنسانية في ناحية من أهم نواحي الحياة الإسلامية. على أن تقديرنا لمبادئ هذه الرحمة المتجلية في الاهتمام بالأطفال لا يجعلنا نغض الطرف عن أن المسلمين لم يتخذوا الوسائل الكافية لحماية الطفولة ولسد حاجاتها في النواحي المختلفة، فلم يكن لديهم مثلاً قوانين تحمي الأطفال من مزاولة بعض الأعمال التي قد تعوق نموهم، وتحدد السن التي لا ينبغي تشغيل الأطفال قبل بلوغهم إياها؛ كما لم يحددوا سناً لبدء الزواج، فكانت الفتاة تتزوج في سن مبكرة، وترهق بواجبات الأمومة والزوجية وهي لم تزل بعد طفلة. كذلك لم تتوفر المنشآت الخيرية التي تكفي لسد حاجات الفقراء وذوي العاهات. على أن ذلك النقص في وسائل العلاج لا يقلل من قيمة مبادئ العطف والإنسانية التي بني عليها الإسلام، ولا تخفي روح الإحسان التي تفيض بها الحضارة الإسلامية، والتي ظهرت في ميدان الرفق بالأطفال

وإذا كان الغرض الأول من دراسة نواحي الحضارات الغابرة هو تفهم نواحي حياتنا الراهنة والوقوف على مقدار تقدمنا أو قصورنا، فأنا لا نتمالك أن نشعر بالخزي من أنفسنا عندما نستعرض أعمال السلف ونقارنها بمجهودنا الضئيل على رغم ما لدينا من وسائل وتجارب ومعرفة. وعلى الرغم من مرور كل هاتيك السنين لم نتقدم غير خطوات قليلة في ميدان الرفق بالأطفال. فثلاثة أرباع أطفالنا إما مصابون بداء الجهل والأمية وهو أصل كل شقاء، وإما جياع حفاة عراة تموج بهم الطرقات، وإما مرضى بأدواء شتى بسبب إهمالهم وحرمانهم حتى من ماء الشرب النقي. وأخشى كثيراً أن نظهر في مؤخرة الأمم في الحضارة والرقي إذا اعتبرنا مقياس التقدم الحقيقي هو مبلغ تغلغل مبادئ العطف والإنسانية التي تقل مظاهرها لدينا لسوء الحظ

وفي ضوء هذه المآسي، ولشعورنا بما قدمنا وما أخرنا، يبدو لنا الماضي عظيماً حقاً، فنتجه إليه بإعجاب وخشوع، ونتحدث عن آثاره حيناً من الدهر نشعر بعده بشيء من راحة المعترف بالفضل المقر بالذنب

أسماء فهمي

الأستاذة بمعهد التربية. درجة شرف في التاريخ

ص: 20

ودرجة الأستاذية في التربية من إنجلترا

ص: 21

‌الهجرة

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

يبدو لي من مراجعة السيرة النبوية الشريفة أن الهجرة إلى المدينة لم تجيء عفواً ولا كانت من وحي الساعة، وإنما كانت خطة محكمة التدبير طال فيها التفكير بعد أن اتجه إليها الذهن اتجاهاً طبيعياً أعانت عليه الحوادث

وكان النبي عليه الصلاة والسلام في أول الأمر يشير على المسلمين الذين ضاقوا ذرعاً بما كانت قريش تنزله بهم من الأذى أن يتفرقوا في الأرض، وينصح لهم أن يذهبوا إلى الحبشة ليأمنوا الفتنة عن دينهم ويرتاحوا من العذاب الغليظ الذي كانت قريش تصبه عليهم حتى يأذن الله بالفرج. وأكبر الظن أنه كان يريد أن يؤمن هؤلاء المسلمين على دينهم من ناحية، وأن يحمل قريشاً على التوجس من عاقبة هذه الهجرة الأولى إلى الحبشة عسى أن تفيء إلى الاعتدال والهوادة. ومن الثابت على كل حال أن قريشاً أزعجتها هجرة بعض المسلمين إلى الحبشة فبعثت إلى النجاشي برسولين منها ومعهما الهدايا ليقنعاه برد هؤلاء المهاجرين إلى مكة، ولكني لا أظن أنه كانت لهذه الهجرة إلى الحبشة غاية أبعد من ذلك، فما كانت أكثر من معاذ إلى حين، وتدبير ألجأت إليه الحاجة لما اشتدت المحنة بالمسلمين، وتلويح لقريش بإمكان العون والمدد من هذه الناحية. على أن بعد الحبشة واختلاف أهلها ولغتها ودينها ثم الثورة التي ما لبثت أن شبت على النجاشي وكان من أسبابها إيواؤه المسلمين والعطف عليهم - كل هذا كان من شأنه أن يصرف عن الحبشة ويدعو إلى التفكير فيما هو أصلح منها

واختلف الحال في مكة أيضاً إلى حد ما بعد أن أسلم عمر ورفض الاستتار والاستخفاء، وشرع يناضل قريشاً ويدفع المسلمين إلى الصلاة في الكعبة نفسها، وأسلم رجال غير قليلين من قريش، فصارت لجاجة قريش في تعذيب المسلمين وتقتيلهم كما كانت تفعل غير مأمونة العاقبة. نعم ظلت قريش تؤذي المسلمين وتسيء إليهم، ولكن المسلمين كثروا وصار محمد يعرض نفسه على القبائل وإن كان لم يفز بطائل كبير ولا كفت قريش عن مساءاتها إليه

وقد كبر الشأن واتسعت رقعة الأمل، ولكن التفكير في أمر قريش وفي الراحة من عنتهم وفي الوسائل المؤدية إلى نشر الدين بأسرع مما ينتشر بقي واجباً ملحاً، ولاسيما بعد أن

ص: 22

حوصر المسلمون في الشعب، ونقضت الصحيفة، ومات أبو طالب وخديجة، وازداد أذى قريش، وردته القبائل عما كان يدعوها إليه من الدخول في الإسلام؛ وتوالت السنون على هذا الحال، فكان من الطبيعي أن يفكر النبي عليه الصلاة والسلام في مخرج حاسم يفرج الكرب ويزيل المحنة ويفسح مجال الأمل ويوطد الأمر. وأحسب أن من الطبيعي والمعقول أن يفكر في يثرب أول ما يفكر، وأن تكون هذه أبرز ما يبرز وأول ما يخطر على البال وأسبق ما يرد على الخاطر، فقد كانت يثرب طريقه في الزمن السالف أيام كان يعمل في التجارة، ولم تكن طريقه فقط بل كانت له بها علاقة تجارة أيضاً؛ وله فيها عدا ذلك بعض ذوي القربى ونعني بهم أخوال جده من بني النجار؛ ثم أن أباه عبد الله بن عبد المطلب مدفون فيها، وقد كانت أمه في حداثته تزور هذا القبر في كل عام، وكانت تستصحب ابنها معها. وقد شاء القدر أن تمرض أمه وهي عائدة من إحدى هذه الزيارات وأن تموت وتدفن في الطريق بين مكة ويثرب. فما من شك في أن يثرب كان لها نوطة بقلبه وعلوق بنفسه فما يسعه أن ينسى طفولته ويتمه وأباه الدفين هناك وأمه الراقدة في الفلاة على طريقها

وقد كان النبي صلوات الله عليه يعرض نفسه على القادمين من يثرب كما كان يعرض نفسه على رجال القبائل الأخرى، فأسلم أولا من الأوس واحد، ثم أسلم من الخزرج نفر استجابوا لدعوته وحدثوه بما بين الأوس والخزرج من العداوة التي بثها اليهود فيهم ليظفروا بهم ويتحكموا فيهم. وكان اليهود قد نجحوا في إيقاد نار الفتنة بين هاتين القبيلتين، ولكنهم نجحوا في أمر آخر لم يكونوا يقصدون إليه، فقد كان اليهود وهم أهل كتاب يذمون إلى الأوس والخزرج ما هم فيه من الوثنية والشرك ويحدثونهم دينهم عن وكتابهم، فتركوا في نفوسهم أثراً روحياً لم يكن لمثله وجود في أهل مكة. وقد عرف النبي عليه الصلاة والسلام هذا كله وعرف أيضاً أن الفريقين المتعادبين - الأوس والخزرج - قد فطنوا إلى ما هم فيه من الشر، وانتهوا إلى أن يجمعهم الله بعد طول العداوة، وأدرك أن دعوته خليقة أن تلقى هناك من حسن الإصغاء وطيب القبول ما لا تظفر بمثله في مكان آخر وبلد غير يثرب. وقد صدق ظنه وتفتحت القلوب في يثرب لدعوته؛ ولم يمض إلا عام واحد حتى جاءه رجال من يثرب يبايعونه البيعة التي تعرف ببيعة العقبة الأولى على ألا يشركوا ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يكذبوا ولا يعصوا الله. ومما يدل على قيمة هذه البيعة أن النبي

ص: 23

احتاج أن ينفذ إلى يثرب من يقرئ المسلمين بها القرآن ويعلمهم ويثقفهم في الدين. وكانت هذه فاتحة ميمونة لانتشار الإسلام في يثرب على صورة جدية وفي نطاق واسع

وكان مقام المسلمين في يثرب طيباً محموداً لا أذى فيه ولا مشقة، فغير معقول ألا يفكر النبي في اتخاذ يثرب مهجراً للمسلمين الذين يعانون الأمرين في مكة، ولنفسه أيضاً إذا كان لابد من ذلك ولا معدى عن ذلك. . إن التفكير في ذلك هو تفكير يبعث عليه ويوحي به واجب الدفاع عن النفس. يدل على ذلك أن النبي في العام التالي - لما قدم مكة عشرات من مسلمي يثرب - لقيهم واقترح أو طلب أن يعقد مع مسلمي يثرب حلفاً دفاعياً لرد عدوان المشركين. وقد تم له ما أراد وعقدت بيعة العقبة الثانية وهي أول تدبير عملي في سبيل الدفاع عن النفس. وقد أزعج خبرها قريشاً جداً فاضطربت وأشفقت وذهبت تسعى لتستوثق من الخبر، فإن صحة الخبر معناها ذهاب كل أمل في التغلب على النبي. . . وقد بلغ من جزعهم من هذا الحلف وصحة تقديرهم لعواقبه المحققة أن قريشاً ائتمرت بالنبي تريد قتله ودبرت ذلك فعلا وأحكمت التدبير كما هو معروف مشهور، فأدى ذلك إلى التعجيل بهجرة النبي نفسه

وقد كانت الهجرة في سبيل الله وللدفاع عن النفس ولكنها أدت إلى أمور شتى. فقد كان النبي في مكة حسبه أن يتقي أذى قريش ويتجلد ويصبر على عنتهم واضطهادهم، فلما هاجر لم يبق لمثل هذا الصبر مسوغ، ولا بالمسلمين إليه حاجة، وقد كثروا وصارت لهم قوة من جموع الأنصار والمهاجرين معاً. ففي وسعهم أن يردوا الأذى بالأذى ويقابلوا العدوان بالعدوان. ثم إن كثرة المسلمين في يثرب جعلتهم جماعة يجب فضلا عن تثقيفهم في الدين تنظيم أمورهم والنظر في مصالحهم وإقامة علاقاتهم بغيرهم على قواعد مرضية. وقد بدأ التشريع الإسلامي بعد الهجرة، وبدأت كذلك الحروب باللسان ثم بالسلاح، وبدأ التعرض لتجارة قريش. ولا حاجة بنا إلى التفصيل فإنه تاريخ معروف؛ ويكفي أن نقول إن الهجرة أتاحت للمسلمين أن يكونوا أمة، وأن ينتظموا كما تنتظم الأمم، وأكسبتهم مركزاً تسنى لهم بفضله أن يتحكموا في مكة اقتصادياً وحربياً أيضاً؛ وقد انتهى الأمر بالفعل بفتح مكة وإعلاء كلمة الله

ويكفي للدلالة على ما كان للهجرة إلى يثرب من قيمة في التاريخ الإسلامي أنه لما أريد بعد

ص: 24

ذلك تأريخ الحوادث أشار عمر ابن الخطاب رضي الله عنه باتخاذ عام الهجرة مبدأ لهذا التاريخ. والواقع أن هذه الهجرة كانت هي الباب الذي فتحه الله لنشر الدين وإعلاء شأنه والقضاء على الشرك والكفر، وجعل من العرب أمة لها في العالم مقام وفي حياته أثر. ولو أن الهجرة كانت إلى الحبشة لم أثمرت شيئاً من هذا، ولخرج الأمر على كل حال من جزيرة العرب، ولكان الأرجح ألا ينتقل العرب إلى حال أخرى. ولو أنها كانت إلى اليمن مثلاً لكان الأغلب أن تبقى مكة بمعزل عن الإسلام، ولكن المدينة كانت على طريق التجارة إلى الشام، فالذي يستولي على الأمر فيها يتسلط على مكة ويتحكم في حياتها كما حدث بالفعل

ولاشك أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يفكر في المدينة من زمان طويل قبل أن يقصد إليها، فقد كان كل شيء يدعو إلى ذلك: حنين قلبه ومصلحة المسلمين في الدفاع عن أنفسهم أولا ثم في التغلب على مكة والقضاء على شرك قريش. ولعل من الدلائل على طول التفكير واتجاه النفس وعلى الإيحاء أيضاً أن النبي كان أول الأمر يتجه في الصلاة إلى المدينة جاعلاً قبلته المسجد الأقصى، فلما انتهى هذا الدور جعل الكعبة قبلته في الصلاة فوجه المسلمين صوب مكة حتى استولى عليها

إبراهيم عبد القادر المازني

حاشية: لا أحب أن يفهم أحد أن اتخاذ الكعبة قبلة كان القصد

منه الإيحاء إلى المسلمين بالاتجاه إليها والرغبة في الاستيلاء

عليها، فما أريد أكثر من أن تحويل القبلة إلى الكعبة كان هذا

بعض نتائجه

(المازني)

ص: 25

‌مجد العرب والإسلام

للأستاذ عبد الرحمن شكري

في سنة 1909 كنت في جامعة من جامعات انجلترة، وكان أحد أساتذتنا في الجامعة قد دعاني إلى وليمة أعدها إلى كما دعوته إلى مثلها؛ وكانت هذه الدعوات عادة الأساتذة والطلبة، فجلسنا إلى مائدة الطعام ولم يمنعنا من الحديث فيما هو عملنا وبحثنا وهو التاريخ كما تفعل كل طائفة، فإن الناس لا يمتنعون حتى في مباذلهم وأوقات راحتهم عن الحديث في أعمالهم اليومية. ولما كان الإنجليز أمة تجار وتكثر في إنجلترة الدكاكين فقد اشتقوا في لغتهم عبارة يعبرون بها عن هذه الظاهرة. فكلما تكلمت طائفة في أمر من أمور أعمالها اليومية قالوا إن حديثهم كان دكاناً أو عن الدكان حتى ولو كانت الطائفة من المشتغلين بالعلم وليس لهم دكان

فأخذنا في الحديث عن التاريخ والحضارات، وكان أستاذنا صاحب الدعوة قد عودنا الصراحة في القول والتفكير والبحث، فكان لا يخفي رأيه في أمور حضارتنا كما كنا لا نخفي رأينا عنه في أمور قومه وتاريخهم وحضارتهم. وكانت المناقشة لا تتعدى الوقار والأدب. فقال الأستاذ إن التاريخ يدل على أن مظاهر الرحمة في الحضارات والدول الأوربية قديماً وحديثاً كانت أعظم من مظاهر الرحمة في الحضارات والدول الشرقية، وقال إن هذا يدل على أن الحضارات الأوربية قديماً وحديثاً أرقى من الحضارات الشرقية، وكان الأستاذ يعرف حوادث تاريخ الشرق والغرب في القرون الوسطى لأنه كان أستاذ تاريخ تلك العصور فذكر لنا قصة رجل خرج على الرشيد فظفر به الرشيد ومثل به تمثيلاً شنيعاً، ثم ذكر قصصاً عن سلخ بعض الفاطميين أسرى من أسراهم وهم على قيد الحياة. فقلت يا أستاذ: هذا تعميم كبير، ولا يتفق مثل هذا التعميم مع العلم الذي يتقضى فروق الزمان والمكان واختلاف طبائع الناس وحكامهم وتباين آرائهم وميولهم النفسية؛ وذكرت له كيف أن سيدنا علي بن أبي طالب (رضه) عندما أصابه عبد الرحمن بن ملجم أوصى قبل موته ألا يمثلوا بقاتله. وذكرته بالتمثيل الشنيع الذي كان حظ من يحاول قتل أمير أو ملك من ملوك أوربا في تلك العصور؛ وذكرت له قصصاً من قصص عدل الخلفاء الراشدين وأخرى من قصص حلم معاوية للدلالة على اختلاف الطبائع وسموها، فذكرت فيما ذكرت

ص: 26

قصة المرأة التي لم تجد قوت عيالها وكيف بكى عمر بن الخطاب (رضه) من خشية الله عندما سمع صياحها واستغاثتها، ووصفت اهتمامه وخدمته لها وهو خليفة وحاكم من كبار حكام الدنيا؛ وذكرته بتقرب الإغريق وهم منبع النور والرحمة والعلم والحضارة في أوربا إلى آلهتهم بالضحايا البشرية في عصر من أزهى عصورهم وهو عصر حربهم مع الفرس، فقد أسروا أولاداً صغاراً من بيت الأمارة في فارس فقدموهم ضحايا لآلهتهم كي تمنحهم النصر. وذكرته بالرومان وما جره ازدراؤهم للحياة البشرية من الفضائع، وقلت إن القسوة ليست مقصورة على الشرق، وليست الرحمة مقصورة على الغرب؛ وذكرته بفضائع الأشراف والأمراء في قلاعهم في العصور الوسطى وما نال اليهود وغير اليهود من أهوال؛ وذكرته بجرائم عصر إحياء العلوم وهو من العصور الأوربية الزاهرة وأساس حضاراتها الحديثة؛ وأشرت إلى محاكم التفتيش وتمثيلها بضحاياها؛ وذكرته بالفظائع الدينية والسياسية في عهد أسرتي تيودور وستوارت، وقبلها في عهد أسر بلانتاجنت ويورك ولانكستر؛ وذكرته بقسوة القانون الذي كان يشنق الطفل الصغير الجائع من أجل لقمة، وبمغالاة رجال القانون في أوربا في العصور الوسطى مغالاة أدت بهم إلى محاكمة الحيوانات العجم وشنقها أو إعدامها أو التمثيل بها بعد محاكمة طويلة تذكرنا بقول الشاعر العربي وهو يسخر من حاكم أحمق:

أقاد لنا كلباً بكلب ولم يدع

دماء كلاب المسلمين تضيع

وذكرته بالويل والهلاك وكانا نصيب كثير من النساء اللواتي كن يتهمن بالسحر في أوربا حتى في العصور القريبة المتحضرة. ثم ذكرته بما كانت عليه أوربا من القسوة والهمجية بينما كانت مظاهر الرحمة والنور تنبعث من أسبانيا العربية. وذكرته بما كان يرتكب في الحروب الدينية في أوربا من قسوة لا حد لها وتمثيل شنيع؛ وذكرته باستعباد الأطفال والنساء في المصانع قبل التشريع الحديث؛ وذكرته بأسبانيا وما صنعته مع العرب واليهود، وما ارتكبته في ممتلكاتها الأمريكية مع الهنود الحمر من فظائع تقشعر منها الأبدان، وما فعله المخاطرون الأوربيون في جزر المحيط الهادي من قسوة، وما فعله رجال بعض الدول الأوربية - حتى في عصرنا هذا - مع السكان الآمنين في أوقات الحروب من قسوة وتعذيب وتقتيل وتمثيل. قال الأستاذ: كل هذا لاشك فيه، ولكن كان الحكام في أوربا إذا

ص: 27

فعلوا شيئاً مما ذكرت يجدون في شعوبهم من يجرؤ على نقدهم؛ أما في الشرق فلا. فذكرت له كيف كان الواعظ يدخل على الخليفة فيقرعه حتى يبكي كما فعل أحدهم مع هرون الرشيد، وذكرت كيف أن من القضاة من كان يزهد في منصب القضاء وإن أوذي من أجل رفضه. قال الأستاذ: يخيل إلي أن الحكم على حياة أمة من الأمم حكما عاماً من حيث مظاهر الرحمة أو القسوة فيها من الصعوبة بمكان، أو لعله ليس من المستطاع، لأن المؤرخين لم يكن ميزانهم للحضارات وقياسهم لها بميزان الرحمة ومظاهرها فلم يحصوها كلها، ولو فعلوا لاستطعنا أن نحكم بإحصائهم. قلت: إذاً. لا نستطيع أن نقول على التعميم إن مظاهر الرحمة في الحضارات الأوربية كانت دائما أكثر من مظاهرها في الحضارات الشرقية أو العربية الإسلامية. قال الأستاذ: ربما كان الأمر كما تقول، ولكن العرب أصلهم قوم بدو، والرحمة في كثير من الأحايين لا تصل إلى قلوب البدو، لطبيعة أرضهم الجرداء القاسية وصعوبة نيل الرزق، فأعدتهم أرضهم القاسية بقسوتها. ولعلك تذكر غارات القبائل بعضها على بعض حتى بعد الإسلام، وما كان يحدث في تلك الغارات في بعض الأحايين من قتل النساء والأطفال. ولعلك تذكر أيضاً كيف كانوا يعاملون الحجاج الذين يقصدون مكة. ومن أجل هذه الطباع فيهم دخلت الحدود في الإسلام لتكبح جماح البد، وأريد تطبيقها في بلاد طبيعة أهلها وطبيعة أرضها غير هذه الطبيعة. ومن أجل شدة الحر في بلاد العرب وإطلاق البدو أنفسهم على سجيتها دخل في الإسلام رجم الزاني ثم نقل إلى بلاد أخرى. قلت: يا أستاذ فرض على الحاكم أن يدرأ الحدود بالشبهات، وذكرت له قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أبي بكرة، وكيف أنه جعل يلتمس الشبهات في شهادة الشهود حتى نجي الرجل من حد الزنى، وذكرته أن التعزيز من عقوبات الإسلام، وذكرته بما يفعله الناس في أمم أوربا وأمريكا إذا قصر القانون أو استبطئوه، فإنهم يختطفون المتهم ويعاقبونه أقسى عقاب، وقد يمثلون به أشنع تمثيل؛ وقد يكون الرجل بريئاً مما نسب إليه. وذكرته بما تفعله أحدث الدول الأوربية إذا اضطرب حبل الأمن في بقعة شرقية. وقلت له إن الحدود لم تمنع انبعاث مظاهر الرحمة والنور في أسبانيا العربية بينما كانت أوربا غارقة في بحر من ظلمات الجهل والقسوة، ويشهد بذلك كثير من المؤرخين الأوربيين

والى هنا انتهى حديثي مع ذلك الأستاذ الجامعي بعد أن ذكرته بأن سوء ظن الأمة بالأمة،

ص: 28

وأهل القارة بأهل قارة أخرى، هو من قبيل سوء ظن الإنسان بإنسان آخر لا يعرفه أو لا يعرف عنه إلا القليل، وهي ظاهرة في النفس الإنسانية عامة يستوي فيها العالم والجاهل والفطن والغبي والمنصف والظالم

أقول إن هذه الظاهرة هي سبب ما نراه من نكران بعض المؤرخين الأوربيين لفضل العرب على الحضارة الأوربية أو تهوينهم أمر أثر العرب في تلك الحضارة، فبعضهم لا يقرون للعرب إلا بأنهم كانوا قنطرة عبرت عليها علوم الحضارة الإغريقية الرومانية إلى الحضارة الأوربية الحديثة، وبعضهم يقول إن الحضارة الأوربية كانت نامية لا محالة حتى لو أن أوربا لم تتأثر بالحضارة العربية. ويقول إن العرب لم يكونوا كل مصادر الحضارة الأغريقية، وإن المصادر الأخرى الأوربية كانت أجدى وأنفع وألصق. ومما يؤسف له أن بعض الشرقيين قد جاروا هؤلاء في دعواهم من غير تقص ولا بحث عميق

إن الحضارة الأوربية كانت حقيقة نامية لا محالة لأسباب داخلة في تاريخها؛ ولولا استعداد الأوربيين للتأثر بالحضارة العربية ما أمكنهم قبولها؛ واستعدادهم هذا يدل على بدء نحو الحضارة فيهم؛ ولكن هذا لا ينفي أنهم تأثروا بالحضارة العربية تأثراً كبيراً. ولا تزال المعركة الكلامية قائمة بين من يمجد أثر العرب في الحضارة الأوربية ومن يقلل من أثرهم من المؤرخين. والفريق الثاني ينظر إلى العيوب ويغفل عن الحسنات، فينظر مثلا إلى إضاعة بعض علماء العرب وقتهم وجهدهم في محاولة كشف إكسير الحياة أو حجر الفلاسفة، ويغفل كشوفهم العديدة وفضلهم على العلوم الحديثة على اختلاف أنواعها، فيغفل فضلهم في نقل الورق إلى أوربا، ولولاه ما أجدى اختراع المطابع وتحسينها، ولا كانت للحضارة الحديثة مظاهرها الشاملة؛ ويغفل ما نقلوه إلى أوربا من المصنوعات والمنسوجات والمزروعات المختلفة، وما أعطوهم من مخترعات مثل الإسطرلاب وبيت الإبرة والعدسة؛ ويغفلون فضلهم على الطب والتشريح والفلك والعلوم الرياضية وأنواع الهندسة والكيمياء، كما يغفل أثرهم وقدوتهم في وسائل الري وإعداد المدن بوسائل الراحة والرفاهية والنظافة كما فعلوا في إسبانيا وغيرها. ويغفل أثرهم في العلم والتعليم وكيف انتشر التعليم والاشتغال بالعلم انتشاراً لم يكن له مثيل. وقد أقر المؤرخ دريبر في كتاب (نحو الفكر الأوربي) بهذا التعصب ضد الحضارة الإسلامية كما أقر به ماكاب في كتاب

ص: 29

(مجد إسبانيا العربية). وقد ظهر أثر العرب في التحاق أبناء الأغنياء الأوربيين بمدارسهم، وكانوا يتجشمون الأسفار من أجل ذلك. وقد تعلم في مدارس العرب بعض رجال الدين المسيحي ومنهم البابا سلفستر؛ ونشر العرب مبادئ الفروسية وأخلاقها وسجاياها من شهامة ونجدة ظهرت في بدء عصر الفروسية، وكان لهم أثر في تكوين آداب اللغات الأوربية الحديثة، فظهر أثرهم في شعراء الرومانس والتروفر والتروبادور كما ظهر في آراء المصلحين الدينين وفي رحلات الكشوف

وللمؤرخ (ماكاب) رأي يتفق ورأيه الديني وهو أن الحضارة العربية في الأندلس لم يقض عليها الترف والتنعيم والضعف، وإنما قضى عليها التعصب الديني من جانب الأسبان المسيحيين بعد أن أضعفها التعصب من جانب المرابطين والموحدين وإن صدوا الأسبان عنها زمناً. ولا يقصر هذا المؤلف وصفه على الحضارة العربية في الأندلس، بل يصف الحضارات العربية في بقاع أخرى

ولم يكن العرب وحدهم بناة هذا المجد وهذه الحضارة، بل اشترك في بنائهما الأمم التي اعتنقت الإسلام وتعلمت اللغة العربية حتى صارت لغة لها

عبد الرحمن شكري

ص: 30

‌إلى حجاج الجامعة المصرية

محمد يرجع!

للأستاذ عبد المنعم خلاف

محمد يرجع ويعمل عمله من جديد في نفوس الشباب ويناديهم إليه ليربيهم في المهد الذي أنشأ فيه نفوس أبوتهم الأولى

وهم يلبون نداءه سراعاً، خفافاً وثقالا، وفي طليعتهم ملك. . . لأنهم أدركوا ببداهة الشباب وإحساسه بحاجات زمانه أنه نداء لا يمكن أن يعلو عليه لغو أو يحجبه ضجيج

وقد سارت إليه جماعات منذ سنوات تسمعه ينطق في القرن العشرين جديداً عجيباً غريباً كما كان جديداً عجيباً غريباً منذ ألف وثلثمائة

بيد أن أَدعى جماعة إلى الالتفات إليها هي هذه الجماعة الجامعية التي يحدو لها عقل (أمين) وروح (عزام) وخلق (العبادي)

لقد افتتحت الجامعة حياتها بروح تمرد وثورة على محمد. . . ولكن مَن هذا الذي يغالب محمداً ولا يُغلب، ويحتك بروحه ولا يمفطس ويجذب؟! لقد استطاع روح الحق الذي تمثل فيه أن يكب كل عنيد على ذقنه ساجداً، ويأخذه إليه طائعاً أو كارهاً. وقد عودنا تاريخ دعوته أنها تنمو حين تقاوَم، وتبدو حين تحجب

ألم يغزُ التتار دياره، ويخربوا آثاره، فغزا قلوبهم ودوخ رءوسهم؟

ألم يرد الصليبيون محوه فمحا خرافاتهم وضلالاتهم وفتح أعينهم على مبادئ الحياة الجديدة؟

ألم يعزم المستعمرون على تكبيل أهله بالقيود الأبدية فأضرم من ناره على الحديد فأساله، وأذاب أغلاله؟

ألم يحاول المخدوعون الحالمون أن يهدموه في نفوسهم ونفوس أمتهم فإذا به يعلو ويعلو فيخنق أصواتهم ويحطم معاولهم ثم يضطرهم أخيراً إلى البناء فيه؟

من معجزات الإسلام أنه عزته اليوم تبنى على أيدي أحرار الفكر الذين أعلنوا في كل مناسبة أنهم يؤمنون بحرية البحث. وكأن القدر يقول للناس: هؤلاء الذين تظنونهم سبب شكوكم قد آمَنوا فآمِنوا

ومن العجيب أيضاً أن الحج الذي هو منطقة كثير من التعبديات والرموز يكون أول

ص: 31

مظاهرة روحية عملية تقوم بها الجامعة العقلية!

والأعجب أن تنبت الفكرة في الجامعة لا في الأزهر!

حادث عظيم في طريقنا إلى الحياة القويمة لا ريب!

حج مبرور من بُناة العقل إلى أرض الروح. الروح الذي لم يجدوه في الدفاتر والمخابر فراحوا يبحثون عنه في الصحراء. . . الكتاب الكبير المسطور بالرمال الخالدة والكلمات الصامتة التي قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شاب مثلهم ففهم بها خبر السماء وطلاسم الوحي

لا أستاذية ولا (دكترة) ولا مخابر ومنابر، وإنما هناك هياكل خالدة عامرة أبداً بالنجوم، ومحاريب يسجد فيها الصباحَ والمساء، ومنصات تقف عليها الطبيعة صامتة متجردة لا تتشح (بالروب) ولا تهز ذقنها كما يهز العلماء لحاهم حين يلقون الدروس!

عشتم أياماً في التاريخ، على هامش الحياة، في مركز الأرض، في مهد الإنسان، في حضن الأم الوالدة، في مكان الخمائر، في البدائيات

التفتت إليكم الجبال والرمال والآثار التي تعرف محمداً وأصحاب محمد من الشباب، إذ كنتم أول فوج عجيب زارها في القرن العشرين، فعرفت أن الزمان يتمخض عن شيء

ناقلتم الخطا على مواقع أقدام رسولكم الأعظم وتلاميذه الأبطال. . . فأحاطت بكم الأرواح والأطياف لتنظر براعم الربيع الجديد وتربيها، وتعمل سحرها فيها

سيكون لكم في التاريخ الجديد ما كان لنقباء (بيعة العقبة) في التاريخ القديم، يا نقباء الجامعة. فافهموا ما يشير إليه الزمان

وقفتم في مركز الدائرة التي يقف المسلمون على محيطها بالاعتقاد في الله الواحد، وبالمساواة في الشرع الواحد، وبالأخوة في الدين الواحد، وجباه المسلمين في المشرقين والمغربين تحيط بكم من جميع الآفاق ساجدة يصعد إلى الله الأعلى كلمها الطيب وعفرها الطاهر. . . وتسافر إليكم نظراتها مخترقة الحجب والسدود حتى ترى في الغيب ما ترون في الشهادة. . .

تجردتم عن المخيط من الثياب وعن الزينة والنعومة والتطرية وخرجتم نساكا شُعثاً غبراً طالت لأظفاركم وتهدلت شعوركم، وكل منكم ناحل ضامر في استغراق روحي عميق،

ص: 32

نظيف المادة طاهر الخلق. . . إنه مشهد (سينمائي) جميل تمثلون به حياة الأنبياء. . فصلوات الله عليكم!

نقل الله لكم ناس الدنيا جميعها لتسمعوا النشيد الخالد يرتلونه مجتمعين بلغة (الكتاب) لغة الأمة الأمية الخالدة. . . ولتعرفوا معنى التوحيد الذي أراد الإسلام أن يطبع الإنسانية عليه. . . ولتروا الأحلام الكبيرة التي طافت بعقول الفلاسفة، حقائق وأجساد تمشي على الأرض في (المدينة الفاضلة) الآمنة. . . أم القرى

هل يمكن أن يخرج مثل هذا أكبر فنان؟ لا فالواقع هنا أكثر من الخيال، فلا حاجة إلى الكلام أو الأصباغ. . .

رأيتم بدء النور في (غار حراء. . .)، وبدء المحنة في شعاب مكة. . . وبدء الفرج في (غار ثور)، وبدء الأمل في (بدر) وبدء البَذْل في (أُحُد). . . وبدء النصر في (الحديبية)، وبدء الوحدة في مكة

ورأيتم نهاية النبوات وخاتمة الرسالات تسكن أشباراً من الأرض القاحلة بعد أن صاحت في آفاق المشرق والمغرب والشمال والجنوب (بالكلمة العليا) التي قام عليها صلاح العالم، وبأن (الزمن قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض) فيجب أن تبدأ الإنسانية عهداً جديداً

وحقيق على من رأى معالم البدء والنهاية من جهاد الرسول الأعظم أن ينقل صورها إلى كل نفس، وأن يحافظ على حياتها دائماً في قلوب الناس وأفكارهم حتى لا يطمسها جهل أو عقوق

ومسألة المسائل أمامنا وأمامكم أن نؤمن وأن نعلم وأن نعمل.

فاعملوا لذلك عمل المنقذين الذين يدركون شقاء الناس والعلاج الذي في مواريث الرسول الأعظم

ليس يغنينا علم ولا فلاسفة إذا لم يكن لنا إيمان. . . لأن العلم والفلسفة من مخلوقات الإنسان. . ولن يعبد الإنسان ما قد خلق ويسعد به. . . أما الإِيمان فهو الكنز الخفي الذي ننفق منه سراً وجهراً ولا ينفَد، فنحن به في غنى دائم لأننا منه في فيض دائم. وقد تتحطم الإنسانية بالعلم، وقد تهذي بالفلسفة وتتفرق بها شيعاً وقبائل، ولكنها تُبنى دائماً بالإيمان

ص: 33

وتلتقي في قدسه ورحابه

فزاوجوا بين ثلاثة الأقانيم هذه وأخرجوا منها معنى الحياة الخالدة للإنسانية الفانية التي تأتي إلى الدنيا ولا تعرف لماذا أتت. . وتمضي إلى الأخرى وهي تحسب أن كل تاريخها في الأرض قبر من القبور. . .

أشبعوا الكفايات الإنسانية الثلاث التي أشار إليها (برتداندرسل). . أشبعوا (كفاية الاعتقاد) بالدين، (وكفاية الإثبات) بالعلم، (وكفاية التأمل) بالفلسفة حتى توجدوا النفس الكاملة

وتلك رسالة الجامعة وهي تدركها لا ريب.

(بغداد)

عبد المنعم خلاف

ص: 34

‌ذكرى الهجرة

طريق الجهاد

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

قم باسم ربك للجهاد وناضلِ

واصدع بصوت الحقِّ صوتَ الباطلِ

لا ترهبنك من قريش عصبةٌ

ما بين لاهٍ في الضلال وغافلِ

أترك منازلهم وخلِّ ديارهم

حُشدْاً تعجُّ بجمعها المتطاول. .

دعهم يثيرون القلوبَ سخائما

ويؤلبون عليك كلَّ مُصاول

ويجرِّئون عليك كلَّ مُسَفَّهٍ

دانٍ إلى الإِسفاف أرعنَ جاهلِ

هيهات ما لحقوا مَداك بطالع

منهم ولا خَبَأوا سناك بآفل

(الشِّرك) لم تفلح لديك شراكهُ

يوماً ولم تظفر لديك بطائل. .

يا أيها الواعي رسالةَ ربه

اللهُ سيفك في القتال فقاتل

قَوِّم بهذا السيف ركن المنحني

وأقم بهذا الرمح عودَ المائل

واهجم على الباغي بغير تهجم

واحمل على العادي بغير تحامل

وأضئ سبيل المشركين ولقِّهم

وَحيَ النبيِّ وملهمات الكامل

واطلع كما طلع الربيع مبشراً

بالخير في البلد الجديب الماحل

وانشر على الدنيا السلام وقل لها

طيبي بأمن في رباعك شامل

واجمع من الشمل المفرَّق أمةً

قد أُحكمت بوشائج ووصائل

قامت إلى (كسرى) تدك بناَءه

وتهدُّ من (إيوانه) بمعاول

ومشت (لقيصر) في علاه كأنها

قَدَرٌ يصول بعزة وتطاول

البَرُّ سيَّال الأباطح حافلٌ

والبحر عالي المتن حشدُ الساحل

آذاك قومك فاحتملت لأجلهم

عَنَتَ اللجوج وسَوَْءةَ المتحامل

وصبرت والدنيا تهونُ لصابرٍ

وحملت والبلوى تخف لحامل

يا أوسع الدنيا العريضة فكرةً

أيضيق صدرك بالخيال الزائل؟

من كان في الله الكريم جهادُه

لم يَعْيَ من عبء الحياة بكاهل

عاداك أهلك في الديار وأسرفوا

واستنجد المخذول بالمتخاذل!

ص: 35

نَفَسوا عليك بأنفس مشبوبة

تغلي بنار الحقد غليَ مراجل

عادَوْك لما كنت أكمل عقدهم

والناس أعداء المثال الكامل

اضرب بسيف الله كل منافق

واغلب بمكر الله كل مخاتل

واصدع بأمر الله إن سبيله

وضح المعالم مستقيم الداخل

واظهر فإن الله جارك في الوغى

وسهامُ قوسك في الزحام النابل

لا تخش من تلك الجموع فإنها

عند اشتباك الأمر جد قلائل. .

يا أيها الهادي بذلت على رضىً

والنصر عاقبة الكريم الباذل

وضحتْ دلائلُ من هداك وضوَّأتْ

(وقريشُ) سائرٌ بغير دلائل

يمشون في الجهل القديم وقيده

وظلامه كالعاثر المتثاقل

ما ضر لو تبعوا خطاك وأخلدوا

للسلم في الربع الأمين الآهل؟

لكنهم رجعوا إلى أجدادهم. .

واستعصموا منهم بركن مائل. .

يا أيها المعصوم حسبك قَوْمةً

لله ما لقي الهدى من جاهل

مالت (قريشُ) إلى الهوى وتآمرت

وأساء جاهلها الكبير لعاقل

كان (الإله) بها صناعة ناحت

ووليد أنملة وطُعمة آكل!

عميتْ محجاتُ البيان وأشكلت

وتشابه الصوَّال بالمتصاول. . .

وطغى على أرض الجزيرة جارف

كالسيل في إثر الغمام الهاطل

غطَّى على (قيس) فأغطش ليلها

واجتاح ما أبقى الزمان (بوائل)

فوضى. . فما سعدوا برأي صالح

فيهم ولا ظفروا بحكم عادل

جاهدت لله الكريم فلم تمل

لهوىً ولم تنجح لرأي باطل

حتى إذا آذاك قومك لم تجد

غير الرحيل فكنتَ أشرف راحل

يومُ بدأتَ به الحياة جديدةً

لله واستأنفتها منْ قابل. . .

(الفتح) جاءك فيه بين أسنَّةٍ

(والنصر) جاءك فيه تحت عوامل. .

ذكرى سنحييها لعل طريقها

يَهدي الشبابَ إلى الطريق الحافل!

مدرسة بالمنصورة الثانوية

محمد عبد الغني حسن

ص: 36

‌الحكومة الإسلامية الأولى

للأستاذ الشيخ علي الخفيف

مدير المساجد

دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه. فبدأ دعوته في مكة حيث نشأ، ومكث بها داعياً ثلاث عشرة سنة تبعه فيها السابقون الأولون من المؤمنين وهم قليل. فأوذوا في أنفسهم وأموالهم وفتنوا في دينهم. وحيل بين الدعوة وبين ظهورها ونشرها، كما منع الناس من أن يطرق الحق آذانهم أو تصل الذكرى إلى قلوبهم. وكان ذلك بأيدي أولي القوة والحماية، وبأعين أهل الحكم والولاية. وكان المؤمنون يومئذ فئة قليلة لا يملكون قوة ولا يستطيعون دفاعاً ولا يجدون أمناً ولا عدلاً. فلم يجدوا سبيلاً لحياتهم إلى الهجرة من ديارهم

هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهاجر إليها المؤمنون من قبله ومن بعده يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله، فحلوا على الرحب والسعة بين إخوانهم وحلفائهم من الأوس والخزرج الذين آزروهم ونصروهم وأشركوهم في ديارهم وأموالهم، وعقدوا معهم أخوة كونت منهم جميعاً جماعة لها من الأسرة توادها وتراحمها وتعاطفها واجتماعها على زعيم رءوف بها حريص عليها، وفيها كل خصائص الدولة من التماسك والمنعة والخضوع لنظام واحد، والسعي إلى غاية مشتركة، والاختصاص بوطن معلوم

لقد كانت الهجرة النبوية بداية لعهد جديد افتتح به العالم طريق كماله الإنساني، وحياته المفكرة، ونظره المستقل؛ فتغيرت لذلك وجهة الأمن، وتبدل مجرى الحوادث، وبدأ التاريخ فصلاً جديداً لتطور فكري منشؤه البحث والنظر، وانقلاب اجتماعي أساسه المساواة والتعاون، وانكشاف ديني غايته تزكية النفس وتكميل الخلق. ولم يكن للهجرة ذلك الأثر إلا لأنها هيأت للمسلمين قيام دولة إسلامية قامت بنشر الدعوة وحمايتها وإيصالها إلى من كان محجوباً عنها. ثم دافعت عن كل من دان بها، فإذا الناس بهديها مهتدون، وبنورها مستضيئون، وبتهذيبها مفلحون، وبآثارها متمتعون

بدأت هذه الدولة يوم أن دخل النبي (ص) المدينة المنورة، واستقر بها زعيما الأوس والخزرج ومن هاجر إليهم من قريش ومن لازمهم من مسلمي العرب، فتألفت منهم جماعة

ص: 38

متحدة جعلت المدينة مقراً لها ووطناً، واتخذت أوامر النبي (ص) ونواهيه نظاماً وحكما، فكانت منهم دولة يحكمها الرسول له فيها سلطان الحكومة كاملاً؛ فهو صاحب الولاية العامة، وهو مصدر التشريع، وله القضاء وإليه التنفيذ، يدير الشؤون ويقود الجيوش، ويجبي الأموال وينفقها في وجوهها ويوزعها على مستحقيها، ويعقد العهود ويقوم على الوفاء بها وينبذ إلى من نقضها، ويحمل الناس على الخطة المثلى ويهديهم صراطاً مستقيماً

وكانت هذه الشؤون على عهد الرسول قريبة الغور بسيطة التركيب رقيقة الحاشية قليلة العدد محدودة المكان ترجع في بساطتها ورقتها إلى ما ألفوه يومئذ من معيشة بدوية، واعتادوه من عادات فطرية، وتوارثوه من تقاليد طبيعية، إذ كان نظام الحكم مستمداً من نظمهم المألوفة عندهم المعروفة لديهم، ولن استمداده لم يتجاوز الصور والأوضاع إلى ما كانت تحويه تلك النظم الجاهلية من هضم لحقوق الضعفاء، وظلم للأبرياء، وأخذ بالشبهات، وتصديق بالخرافات، واعتماد على الترهات، بل كان خالصاً من الظلم، نقياً من الدنس، بريئاً من العيب، صالحاً لزمانه، ملائماً لأهله، كفيلاً بتحقيق مصالحهم وتوفير طمأنينتهم وسد حاجاتهم. ذلك بأن أمره كان إلى الرسول يتلقى فيه وحي ربه، ويهتدي في ترتيبه وتدبيره بهديه، ويجتهد في تكميله بحكمته ونظره، حسبما تقتضيه المصلحة والحاجة، وعلى ضوء ما يدعو إليه التطور الجديد وتهدي إليه الحوادث

من ذلك يتبين أن نظام الحكومة الإسلامية الأولى لم يكن نتيجة خالصة لتطورات حكمية سالفة، ولا أثراً لثورات ماضية، كما لم يكن فكرة أفضت إليها أزمات استعصى حلها، أو حاجات تعذر قضاؤها، أو اختلاف في طرق الحكم لم ينته إلا بانكشافها، وإنما كان هدياً نبوياً وتوفيقاً إلهياً أخذ من النظم المألوفة والتقاليد الموروثة ما لاءم الفطر وصلح على الزمن وأوصل إلى الغاية، ثم نفى منها الفاسد الخبيث مما ساير الأهواء وأورثته المطامع والشهوات، ولم يعلُ فيما ابتدعه من ترتيب ووضعه من أسس ومبادئ عن مستوى الزمن ومدارك العامة من أهله واستعدادهم الاجتماعي وبيئاتهم الحاضرة، بل راعى في تشريعه جميع ما يلابسهم ويتصل بهم من ثقافة وتربية وعادات ووطن ودين اختير لإعلاء كلمته ونشر دعوته، وكذلك راعى الزمن وسيرة الحوادث وتقلباتها، والجماعات وتطوراتها، والحاجات وتغيراتها

ص: 39

لهذا جاءت أسس الحكومة الإسلامية قواعد كلية ومبادئ عامة جديدة لا يبليها الزمن، ومستقيمة لا يقومها التطور، ومثبتة لا تنال منها الحوادث، صارمة صريحة صالحة لكل أمة، ملائمة لكل زمن، قائمة في كل مكان. وهذه بعض تلك القواعد نكتفي بذكر أهمها لأن استيعابها لا يتسع له المقام ولا يناسب الحال:

1 -

العدل: أمر الإسلام بإقامته وكرر الأمر به في صور شتى تارة بذكره كقوله تعالى: (اعدلوا هو أقرب للتقوى)، وقوله:(وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)، وتارة بالنهي عن الظلم وكراهة أهله كقوله:(إن الله لا يظلم مثقال ذرة، إن الله لا يحب الظالمين)، وقوله عليه السلام:(إن الناس إذا رأوا الظلم فلم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده)

2 -

المساواة: قرر الإسلام مبدأ المساواة في قوله تعالى: (إنما المؤمنون اخوة) وقوله: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وقوله عليه السلام: (المسلمون كأسنان المشط) وقوله: (المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم)

3 -

التآلف والوحدة: دعا الإسلام في أكثر من موضع إلى الوحدة وعدم الفرقة، فقال تعالى:(ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) وقال: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً) وامتن بها فقال لرسوله: (لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) وقال عليه السلام: (المسلمون يد على من سواهم)

4 -

الشورى: حض الإسلام عليها فأمر بها نبيه بقوله: (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله)، ومدح بها المؤمنين إذ وصفهم بها فقال:(وأمرهم شورى بينهم)

5 -

النصيحة: ويدخل فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد عني بأمرها الإسلام فجعلها من الدين، قال عليه الصلاة والسلام: الدين النصيحة، قالوا لمن يا رسول الله؟ قال لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. ولعن الله بني إسرائيل لأنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، وقال لبئس ما كانوا يفعلون. وقال عليه السلام: إن الله يرضى لكم ثلاثاً ثم ذكر منها: أن تناصحوا من ولاه الله أمركم

ص: 40

6 -

التعاون: فقد أمر به الكتاب فقال: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)

على هذه القواعد التي تقيم الحكم على أساس متين وتكفل له تحقيق أكمل غاياته قامت حكومة الرسول (ص) في المدينة المنورة وفيما جاورها من الأماكن القريبة. ولبساطتها وقلة التفرع في شؤونها وبعدها عن التشعب وعدم سعة أرضها كان أمر تدبيرها في جميع نواحيها إليه صلى الله عليه وسلم مباشرة. وساعد في ذلك أن أصحابه كانوا لأوامره مطيعين، ولأقواله حافظين، وبأفعاله مقتدين، ينشدون العدل ويطلبون الحق، يرون سعادتهم في طاعته وترسم آثاره، وشقاءهم في مخالفته وتنكب طريقه

وكانت الولايات على عهد الرسول تكاد تنحصر في قيادة الجند وولاية الصلاة والتعليم، وولاية الصدقات والأموال، وولاية القضاء والمظالم، وولاية التشريع

فأما قيادة الجند فكانت إليه. يدعو إلى الجهاد ويعبئ الجيش ثم يقوده بنفسه، ويشرف على ترتيبه وخططه، فإذا لم يخرج معه عهد إلى بعض أصحابه في ذلك ممن عرف بالكفاية في الحروب والحذق بفنونها والبصر بمكايدها. ولم يكن له عليه السلام جيش خاص يقوم بذلك دون بقية المسلمين، بل كان جميع المسلمين جنداً محاربين لا يعفى من الخروج إلا من أقعده المرض أو الضعف أو العجز، أو لم يجد نفقة، وكان في ذلك حزنهم وعظيم كربهم، حتى أنزل الله تعالى قوله:(ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا الله ورسوله، ما على المحسنين من سبيل، والله غفور رحيم. ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه، تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون). كذلك كان يعفى من الخروج من عهد إليه بعمل عام في المدينة أو لحقته ضرورة لا فكاك منها، على أن يكون له سهمه في الغنائم. وكانت نفقاتهم في أموالهم وأرزاقهم من مال الله الذي آتاهم أو في أموال المحسنين منهم ممن كانوا يخرجون عن بعض أموالهم لهذه الأغراض. ولم يكونوا محصورين في ديوان لعدم الحاجة إلى هذا الإحصاء لأنهم كانوا جميعاً محاربين، ولم تتخذ سجلات الجيوش إلا في عهد عمر رضي الله عنه

وأما ولاية الصلاة والتعليم فكان عليه السلام يؤمهم في المدينة ويعنى بتعليمهم دينهم

ص: 41

وإرشادهم أشد عناية، لأن ذلك كان من أهم أغراض الرسالة. كان يعلمهم بنفسه، يقوم بذلك في المسجد، وفي كل مجلس يجلسه، وفي كل مقام يقومه، في الحضر والسفر، والسلم والحرب؛ وكان يحض المتعلم من أصحابه على أن يعلم الناس، ويشجع من قام بذلك بقيامه على حلقته في المسجد. وكان يستعين في ذلك بأمثل أصحابه يرسلهم إلى الجهات النائية أو القبائل التي دانت بالإسلام ليؤموهم ويرشدوهم ويعلموهم القرآن وأحكام دينهم. ومن عنايته صلى الله عليه وسلم بالتعليم أن جعل فداء المعسر من أسرى بدر إذا كان قارئاً كاتباً تعليم عشرة من غلمان المدينة

وأما ولاية الصدقات والأموال فكانت جبايتها إلى من يختارهم من أصحابه العالمين بأحكامها، يجمعونها من أهلها في بلادهم المختلفة ويحضرون بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيوزعها لوقتها دون أن يدخر منها شيئاً. ولذا لم تكن لهذه الأموال على عهده خزائن لحفظها ولا سجلات لقيدها، وإنما وجد ذلك بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. وذلك يرجع إلى قلة ما كان يجمع منها على عهده وحاجة المسلمين إليه وقيامهم جميعاً بالدفاع والغزو. ولم تكن موارد هذه الأموال يومئذ تتعدى الصدقات والغنائم والجزية؛ وكانت مصارفها ما بينه الكتاب الحكيم في قوله تعالى:(إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل) وفي قوله تعالى: (واعلموا أن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل).

وأما ولاية القضاء والمظالم فكانت إليه في المدينة المنورة وما جاورها من الأماكن، إذ لم تكن الخصومات كثيرة إلى الدرجة التي تدعو إلى الاستعانة بغيره. ولم تكن مع ذلك خصومات حقيقية، بل كان أكثرها لا يعدو أن يكون اشتباهاً في وجه الحق، فإذا بينه عليه السلام بعد الترافع إليه فما أسرعهم إلى الرضا والتنفيذ دون حاجة إلى دافع أو ملجئ. على أنه عليه الصلاة والسلام لم يستغن عن معاونة غيره في الحوادث التي تتطلب الانتقال، وفي البلاد النائية التي فتحها الله عليه كاليمن والبحرين ومكة وغيرها، فولى فيها ولاة جمع لهم بين ولاية القضاء والصلاة والصدقات والحرب، وربما فرق بينها حسبما تدعو إليه الظروف والمصالح

ص: 42

وأما ولاية التشريع فكانت له وحده لأنه إنما أرسل ليشرع للناس دينهم ويهديهم إلى ربهم، ويسلك بهم طريق سعادتهم وفلاحهم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، لا ينطق فيه عن هوى، وإنما يصدر فيه عن الوحي ينزل به الروح الأمين على قلبه فيقرؤه على الناس قرآناً مبيناً، أو يحدثهم به حديثاً نبوياً، أو يعلمهم إياه بفعل يأتيه أمامهم فيقتدون به؛ فإن لم يكن وحي صدر عن البحث والنظر ينتهيان إلى استنباطه الحكم المطلوب معتمداً في ذلك على ما استقر في نفسه من روح الوحي وما يراعيه من مصالح الناس. وليس لغير الرسول أن يتولاه، وليس له إلا الاجتهاد في تفهم النصوص وتطبيقها على الحوادث، وإذا صدر منه ما أقره النبي كان شرعاً بإقراره عليه السلام لا بصدوره من صاحبه؛ غير أن ما كان يليه الرسول أو يأتيه لم يكن كله دينا بل كان للدنيا منه كثير؛ وما شرعه في النوع الأول يجب اتباعه ولا يجوز فيه تغيير، وما اتبعه في النوع الثاني يصح أن يناله التغيير والتبديل تبعاً لتطور الزمن وتغير الناس واختلاف العادات، لأن الشأن فيه أن يسير مع المصلحة ويتقيد بالمنفعة، فجاز أن يتسع للبحث وأن يتقبل الخلاف. وكثيراً ما عدل الرسول عن رأيه إلى رأي أصحابه، وغير من رأيه حين اقتضت المصلحة التغيير. وقد ولى عليه السلام كثيراً من أمور الدنيا بحكم ولايته العامة فسلك فيها سياسة دعت إليها حاجات حاضرة وعادات قائمة ومصالح يومئذ مطلوبة، فإذا ما انتهت تلك الحاجات وتغيرت تلك المصالح وتطورت تلك العادات كان على المسلمين من بعده أن يغيروا فيها تبعاً لذلك؛ وقد حصل منهم ذلك فعلا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم في كثير من النظم

هذه هي أهم الولايات على عهد الرسول ولم تقتصر أعمال الحكومة في عهده عليها بل تجاوزتها إلى كثير من الأعمال التي دعت إليها الحاجة واقتضاها ضبط الأمور وتنظيم العمل مثل الكتابة، والمحاسبة، والترجمة، وحفظ الختم، وحفظ السر، والعسس بالليل والحراسة فيه، فكان لكل هذه الأعمال عمال من أصحابه يقومون بها تحت رقابته وإرشاده

كان عليه الصلاة والسلام المرجع في كل هذه الأعمال يقوم على تدبيرها وتصريف شؤونها بما يوحى إليه في ذلك من ربه أو بما يهديه إليه رأيه بعد بحث ونظر ومشورة يختص بها أولي الرأي والبصيرة من صحابته كحمزة بن عبد المطلب وأبي بكر وعمر وعلي وغيرهم؛ فكان عليه السلام يستشيرهم في كثير مما يعن من الأمور التي لم ينزل

ص: 43

عليه فيها كتاب، وبخاصة ما كان منها متصلاً أو متعلقاً بالغزو والدفاع، فاستشار الأنصار يوم بدر في قتال المشركين، فقال له سيد الأوس سعد بن معاذ:(والله لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لنخوضنه معك). وأخذ برأي الحباب ابن المنذر الأنصاري حين رآه ينزل عند أدنى ماء من بدر فقال له: (أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم عنه أو نتأخر أم هو الرأي والحرب والمكيدة) فقال له عليه السلام: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة) فقال: (يا رسول الله ليس لك هذا بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فننزله) فقل عليه السلام: (قد أشرت بالرأي) ثم استشار أصحابه في أسرى بدر وأخذ برأي من أشار عليه بقبول الفداء فعاتبه الله في ذلك وأقره. واستشارهم في إطلاق زوج ابنته زينب ورد قلادتها التي أرسلت بها فداء إليها. واستشارهم في غزوة أُحد أيقيم بالمدينة حتى يلقى العدو على أبوابها أم يخرج إليه، وكان يرى المقام، ولكنه أخذ برأي الجمهرة منهم. واستشارهم في طريقة الدفاع عن المدينة يوم الخندق. ولو أردنا أن نعدد ما استشار فيه عليه السلام أصحابه لطال بنا القول وما أحصينا أكثره؛ وإن ذلك ليكفي في أنه عليه السلام وهو الموحي إليه المعصوم كان يعتمد في حكومته على مشورة أصحابه يبحث معهم الأمر، يحزبهم ويناقشهم فيه حتى ينتهوا فيه إلى الحق، فلا يكون لأحد بعد ذلك خلاف. وذلك ما أدبه ربه عز وجل بقوله: وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله). وكان عليه السلام إلى هذا عادلا لا يميز بين أصحابه ولا يكرم عليه من بينهم قريب لقرابة أو ذو جاه لجاهه، بل أنه ليسوي بينهم وبينه فيرضى أن يقاد من نفسه. لقد تقدم إليه بعض صحابته يوماً ما بشفاعة في قطع يد امرأة مخزومية فقال عليه الصلاة والسلام: أشفاعة في حد من حدود الله؟ والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها. ولقد أتاه يوماً رجل يتقاضاه ديناً فأغلظ له، فهم به بعض أصحابه، فقال عليه السلام: دعوه فإن لصاحب الحق مقالا. وقال له أحد الأعراب وقد رآه يقسم بعض الغنائم: اعدل. فأجابه بقوله: فمن يعدل إن لم أعدل؟ خبت وخسرت إن لم أعدل. ومر عليه السلام بسواد بن غزية في غزوة بدر وهو خارج عن الصف فضربه بالقضيب في بطنه وقال له استقم يا سواد. فقال سواد أوجعتني يا رسول الله وقد بعثت بالحق والعدل فأقدني من نفسك. فكشف له الرسول عن بطنه وقال: استقد يا سواد. فاعتنقه سواد وقبل بطنه وقال إنما أردت أن يكون آخر العهد أن يمس

ص: 44

جلدي جلدك؛ فدعا له بخير

يرى مما ذكرنا أن حكومته صلى الله عليه وسلم كانت شورية ما أمكن أن يكون للمشورة محل، لأنها كانت في كثير من الأمور تستند إلى الوحي، ولم تكن عصمة الرسول وما أعطيه من الدرجة الرفيعة ليمنعه من أن يستشير أصحابه، وذلك ليعلمهم البحث ويهديهم إلى النظر الصحيح، والى وسائل الحكم الصالح المنتج، ويشعرهم بوجودهم ويعودهم تحمل نتائج بحثهم وتفكيرهم وفي ذلك تطبيب لنفوسهم وتوفير لمرضاتهم. وقد كانت رياستها إليه وحده بحكم رسالته واختياره من ربه لإظهار دينه ونشر تعاليمه. فلما توفى كان لابد للمسلمين من أن ينظروا فيمن يخلفه في تلك الرياسة العامة، فكان أول من بادر إلى التفكير في ذلك جماعة الأنصار من الأوس والخزرج، فاجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، ولم يكد يلتئم اجتماعهم حتى وصل نبؤه إلى أبي بكر وعمر فأسرعا إليهم، وكان بينهم نقاش وجدل فيمن هو أولى بالخلافة. أيليها أحد الأنصار أم أحد المهاجرين الأولين من قريش، أم تكون شركة بينهم من الأنصار أمير، ومن المهاجرين أمير؟

لم يكن القوم يومئذ داعين إلى عصبية ولا طامعين في تغلب وجاه، ولا نافسين بعضهم على بعض مراكزهم، ولكنهم فوجئوا بوفاة الرسول دون أن يستخلف أو يسن لهم فيه سنناً أو يشرع لهم فيه شرعاً، يستبين به وجه الحق ويتعين به الخليفة؛ فأسرعوا إلى بحث ذلك خشية الفرقة، يبتغون الحق، ويتبينون الصواب، ويستجلون المصلحة، فما إن خطبهم أبو بكر حتى ظهر لهم جميعاً الحق واندفعوا وراء عمر رضي الله عنه مبايعين أبا بكر، حتى لقد سبقه بعضهم إلى يده وإن كان أسبقهم إلى طلب بيعته. لقد اتفقوا في ذلك الاجتماع على أن يكون خليفة يخلف الرسول إمامته، وعلى أن يكون الخليفة واحداً لا متعدداً، وعلى أن يكون أبا بكر رضي الله عنه. وما ذاع ذلك حتى كان فيه رضا أولي الرأي من بقية المهاجرين والأنصار، فأقبلوا على أبي بكر بالمسجد مغتبطين مبايعين، ولم يتريث إلا بعض بني هاشم، تباطئوا ثم بعد ذلك بايعوا، ولم يكن تباطؤهم مانعاً دون تمام خلافته وأخذه في مباشرة أسبابها في سيره في حكومته على نهج الرسول

ولقد انتهى المسلمون في أمر إقامة الخليفة إلى نتائج قيمة وثمرات صالحة طيبة، أضاعها الخلف فحرموا طيباتها، ومنوا بشرور تجنبها وويلات مجافاتها، فأصابهم ما أصابهم مما هم

ص: 45

فيه من الضعف والمهانة حتى أصبحوا أمماً مستعبدين أو جماعات متخاذلين

أولها - أن الخليفة نائب عن الأمة وولايته مستمدة من ولايتها، وسلطانه فرع من سلطانها، فقد اختار المسلمون أبا بكر بعد وفاة الرسول من بينهم وأقاموه خليفة عليهم ليسوموهم ويدبر أمورهم وفق كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومهتدياً في ذلك بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعتضداً بمشورة أولي الرأي منهم، فهو وكيلهم في ذلك ومعقد نظامهم ورأس وحدتهم؛ وهو في هذا الأمر كما كان الرسول، غير أنه لا يأتيه الوحي ولا يزيد في الدين ولا ينقص منه، ولا يمتاز فيه عن سائر أمته إلا بما قد يمتاز به أي فرد من أفرادها من سعة في العلم وزيادة في الفقه وتعمق في النظر وإجادة في الاستنباط

ثانيها - أن الخليفة لا يكون إلا واحداً حتى لا يكون تعدده مثار خلاف أو فرقة بسبب ما قد يحدث لكل من شيعة تتشيع له أو حزب ينتصر لرأيه، وحتى لا يكون في تصريف الأمور اختلاف يعوق دون الإسراع في تدبيرها وتلافي الأخطار التي قد تتعرض لها الدولة

ثالثها - أن اختيار الخليفة وانتخابه ليس إلا لمن يقدر خطر الخلافة ويزن نتائجها ويعرف ما يجب أن يتوفر في الخليفة من جدارة وأهلية وقدرة وكفاية. وهؤلاء هم أولي الرأي في الأمة المعروفون في الصدر الأول بأهل الحل والعقد؛ أما غيرهم فالشر كل الشر في إيكال ذلك إليهم، لأنهم يستمعون لكل صيحة، ويهبون مع كل ناعق، يخدعهم الرياء والسمعة، ويغريهم الطلاء والبهرج، وتطمعهم الأكاذيب ويعميهم الجاه والثراء. وأهم ما يلاحظ اليوم على المجالس النيابية من عيوب عدم كفاية أعضائها، ووجودهم إنما يرجع إلى سوء اختيارهم، وذلك بإيكاله إلى من لا يحسنه

رابعها - خضوع الأقلية في ذلك لرأي الأكثرية حتى لا يتفرق الأمر وينقطع الحبل

وهناك نتائج أخرى لا يتسع المقام لتفصيلها، ولذا نكتفي بهذا البيان عسى أن يكون فاتحة بحث جديد في تفصيل أسس الحكم الإسلامي، ومبدأ اتجاه في إقامة الحكومات الإسلامية اليوم على سنن الحكومة الإسلامية الأولى حتى يعود للمسلمين على أيدي حكوماتهم ما كان لهم أيام حكومتهم الأولى من عزة ومجد وسؤدد.

علي الخفيف

ص: 46

‌محمد الزوج

مؤامرة في بيت الرسول

للأستاذ محمود غنيم

- 1 -

دنت الرءوس من الرءوس، وهمست الأفواه في الآذان أن رسول الله غاضب. ورسول الله غاضب حقاً، غاضب على نسائه جميعهن حتى عائشة - كم لعائشة من دالة عليه! - لقد كان يطوف بأبوابهن أصيل كل يوم، فما باله الآن في عزلة تامة لا يطرق لإحداهن باباً، ولا يكشف لها حجاباً؟

طال غضب الرسول، وطال احتجابه، فلم يعد الأمر سراً يحبس في الصدور، أو يتناجى به اثنان في همس، ولكنه تجاوز الصدور إلى الشفاه، والإسرار إلى الإعلان، والاثنين إلى الجماعة، حتى أصبح حديث الأندية في يثرب، وموضع التكهنات والتخرصات؛ والغمرة لا تنجلي، والغمام يتراكم في الأفق، واللازبة تشتد، حتى ترددت على الألسن كلمة (الطلاق) بما تحمل في طياتها من بشاعة وهول، وحتى أشيع أنه على وشك الوقوع، أو أنه وقع فعلا وقضي الأمر

ولكن أين أبو بكر وعمر؟ أين كبار المهاجرين والأنصار؟ ألا يقابلوا الرسول فيضعوا حداً لهذه التخرصات؟ كلهم تحدثه نفسه بذلك، ولكنه لا يقدم عليه. إن رسول الله ملء العيون، ملء القلوب، فلا يكلم إلا حين يبتسم؛ ولكنه عابس الوجه متغضن الأسارير، فمن هو الشجاع الذي يغامر بنفسه في هذا الميدان؟ لهم أن يخوضوا المعامع، ويقتحموا على اليهود حصونهم، ويرووا ذباب سيوفهم من دماء المشركين في بدر؛ أما أمام الرسول فهم عيون خاسئة، ورءوس منكسة، وأفئدة هواء

إيه يا نساء النبي، ويا أمهات المؤمنين، ما فعلتن برسول الله؟

- 2 -

عجباً لرسول الله! تجبى إليه الأموال من كل فج في جزيرة العرب، ويضع يده على كنوز خيبر وقريظة والنضير، وتنصهر خزائن اليهود في لظى الحروب التي شنها عليهم، ثم

ص: 48

يعود إلينا صفر اليدين، طاوي البطن، ونحن نشاركه الطوى، ونقاسمه ألم الحرمان، أيرضيك هذا يا عائشة؟ وأنت يا حفصة؟ أجيبي يا سودة. وأنت يا أم سلمة مالك لا تتكلمين؟

على هذا النحو من الحديث جرت الألسنة في بيت عائشة، وقد انعقد المؤتمر من أمهات المؤمنين، وكلهن تائق إلى شيء من الترف يرجو أن يساهم فيما أفاء الله على رسوله، بعد أن حملت إليه الجزي، ووصلت إليه هدايا أرباب التيجان؛ فإذا هو يبعثر النضار ذات اليمين وذات اليسار، ثم يقنع بالعيش الظليف، والمأكل الطفيف، وينام بجانب زوجاته على بساط من أدم حشوه ليف

أوَ ليس من حق نساء النبي أن يطمحن إلى ما هو فوق هذا المستوى من المعيشة، ويتطلعن إلى لون آخر من ألوان الحياة؟ ولم لا يفعلن وفيهن بنت أبي سفيان، وأبو سفيان زعيم قريش، وفيهن بنت حي بن أخطب، وحي كبير بني النضير، وفيهن غير هاتين ممن كن يرفلن في مطارف النعيم، ويجررن أذيال الرفه في بيوت آبائهن؟ فكيف لا يتبرمن بهذا اللون من الحياة الذي يعالجنه في بيت رسول الله؟

ولقد كن يلتمسن له شيئاً من العذر لو لم يكن هذا الشظف من صنع يده، ووليد زهده، وعزوفه عن الدنيا؛ أما والأمر ليس كذلك، فما هن والصبر عليه؟

لقد اتسعت آفاق معلوماتهن عن الدنيا، وعرفن كثيراً عن قيصر في الروم، وكسرى في الفرس، والنجاشي في الحبشة، والمقوقس في مصر؛ وهن يرين أنفسهن تحت أمير تدين له جزيرة العرب بالطاعة لا يقل خطراً عن هؤلاء الأمراء

وهل المرأة إلا المرأة منذ تحدرت من أعماق التاريخ إلى أحدث عصور المدنية والنور؛ امرأة البدو، هي هي امرأة الحاضرة؛ همها الأول زينتها. هي من ناحيتها تريد أن تساعد الطبيعة التي سلحتها بالنعومة والجمال أداتي جاذبية وإغراء لحفظ النسل، كما سلحت الزهرة بطيب العرف وألوان الطيف، حتى تجتذب الطيور فتكون رسلاً تحمل حبوب التلقيح

لم يكن بدعاً إذن من نساء الرسول أن يأتمرن به على هذا النحو، حتى إذا دخل عليهن أحطن به إحاطة السوار بالمعصم، وانطلقت ألسنتهن في حماس

ص: 49

ولكن سيد الرسل يعتصم بسيد الأخلاق، ويقابل الأمر بابتسامة هادئة، ثم، ثم لا يفعل شيئاً

- 3 -

ما بال رسول الله يبطئ في بيت زينب؟ ألم يأته نبأ عائشة وسائر زوجاته وهن ينتظرنه على أحر من الجمر، ويعددن له الثواني والدقائق؟

اعتاد الرسول أن يطوف ببيوت نسائه غب صلاة العصر، ولكنه اليوم يحتبس في بيت زينب زمناً طويلا، وعقارب الغيرة تنفث لعابها في نفوس عائشة وصواحبها. وهل تسلم المرأة من الغيرة وإن كانت زوجة رسول؟

انعقد المؤتمر في بيت عائشة، وطرح المسألة على بساط البحث، ثم قرر قراراً طابت به نفوس الجميع

لقد تعودت زينب أن تسقي الرسول عسلا ذات رائحة حادة، فما ضر المؤتمرات أن يتخذن من حلاوة هذا العسل أداة انتقام مرة، وسلاحاً يشهرنه في وجه الرسول؟ إيه يا حفصة! إيه يا سودة! إذا انصرف الرسول عن زينب إلى أيتنا فلتبد شيئاً من الاشمئزاز، ولتقل إني أشم ريح مغافير. ونساء الرسول يعلمن مبلغ حرصه على النظافة، وعلى طيب نكهة فيه، ويعلمن أن الطيب إحدى ثلاث حببن إليه، وأن النظافة وتطهير الجسد حجران يقوم عليها دينه الجديد، فما ضرهن أن يستغللن هذه الناحية في هذا الظرف؟

ثم يتم الرسول طوافه فإذا برائحة المغافير تدخل كل أنف، وتخرج من كل فم، فيحرمه على نفسه، ثم ينكشف له السر

ولكن سيد الرسل يعتصم بسيد الأخلاق، ويقابل الأمر بابتسامة هادئة

- 4 -

زادت العَلاَّت واحدة بميلاد الطفل إبراهيم، وارتفعت مارية الجارية المصرية إلى مصاف زوجات الرسول من الحرائر العربيات. هاهو ذا يأمر أن يقام لها بيت يتاخم بيوت نسائه، بعد أن كانت تقيم بمكان ناء، وينظر إليها نظرة القرين إلى القرين، لا نظرة السيد إلى ملك اليمين. وهاهو ذا يغدو ويروح وطفله على ذراعه يدلله ويناغيه، ويمطر جبينه بوابل من قبلات لا تستشعر لذتها إلا شفاه الآباء، ولم لا يفعل؟ أليس محمد بشراً قبل أن يكون

ص: 50

رسولا؟ لقد هدف محمد للستين أو نيف عليها وليس له ابن من صلبه، ولقد تزوج بعد خديجة غير واحدة فلم تبشر إحداهن بخصب. وهاهو ذا يرى حياته تبدأ من جديد، وصفحة طفولته تنشر من جديد في شخص الطفل إبراهيم. فلم لا تقر عينه بطفل، ويرفع أمه إلى مقام الحرية من أجله، ودين محمد يمقت الرق الذي ورثه جيله عن القرون البائدة، ويتشوف إلى الحرية ويتمحل لها الأسباب؟

ولكن عقارب الغيرة تعاود دبيبها من جديد. لقد كانت كل واحدة من أمهات المؤمنين تشتهي أن تكون أم الغلام، فأبت المقادير عليهن ذلك، ومنحته جارية لا تمت إلى العرب بنسب

لا غرو أن يحدث ذلك في نفوسهن غيرة، وإن شئت فقل حفيظة على أم ذلك الغلام. ولعل تلك الحفيظة تجاوزت أم الغلام إلى الغلام نفسه. ولعلهن أسرفن في ذلك حتى هممن بأمر جلل، هممن أن يشككن الرسول في صحة نسبة الغلام إليه حتى أنه ليدخل به يوماً على عائشة، فيوجه نظرها إلى ما بينهما من شبه، فتهز كتفيها هزة النفي والإنكار، بل تصرح بذلك في مواجهة الرسول، فلا يسعه إلا أن يرميها بالغيرة، ثم ينصرف

بيد أن الأمر لم يقف عند هذا الحد

هذه حفصة تغادر بيت بعلها إلى بيت أهلها لبعض الشؤون. وهذا رسول الله في بيت حفصة. وهذه مارية أم الغلام تدخل عليه، ثم يكون بينهما ما يكون بين المرء وزوجه، ولكن حفصة تعود في وقت كان من الخير ألا تعود فيه، فترى مشهداً مريباً، أو تعده هي مريباً، فتعاتب الرسول قائلة:(لولا هواني عليك ما فعلتها) ولكن الرسول يهدئ من روعها، ثم يعتذر، ثم يستكتمها الأمر، فتعد، ولكن متى كان للمرأة - وإن كانت زوجة رسول الله - أن تمسك لسانها عن سر إلا كما يمسك الماء الغرابيل؟

أصبح الرسول فإذا سره أذيع من يوم حليمة، وإذا سائر نسائه يتحدثن به، ويعلقن عليه بما يحلو لهن

وهنا لا يعتصم سيد الرسل بسيد الأخلاق، ولا يبتسم ابتسامته الهادئة، ولكن يغضب الرجل الحليم، وتكون القطرة التي فاضت بها الكأس، والقشة التي قصمت ظهر البعير

لابد من درس قاس يقف هذا التيار، ويعيد إلى منزل الرسول صرح السعادة المنهار، ثم، ثم تكون العزلة

ص: 51

ولكن، ليت شعري إلى أي حد كان تأثير هذا الدرس في نفوس أمهات المؤمنين؟

- 5 -

أرأيت ندامة الكسعى على قوسه؟ أرأيت رسول الله وقد فتر عنه الوحي ثلاث سنوات، ذهبت فيها نفسه حسرات، حتى ليكاد يردي نفسه من شاهق؟

تلك هي حال نساء الرسول مدة عزلته - شهر أو قرابته - يقرعن السن، ويعضضن البنان، وتتنصل كل منهن، وتلقي إحداهن التبعة على غيرها، وينحين باللائمة على أنفسهن. ما بالنا نحرج رسول الله؟ أيكون هذا جزاء نصير المرأة من المرأة؟

أي والله ما برزت شخصية المرأة، ولا أخلى لها مكانها في المجتمع إلا محمد؛ محمد الذي انتشل المرأة من الهوان الذي تحدر إليها من أعماق التاريخ. لقد حرم وأدها صغيرة، وجعل لها حق اختيار الزوج كبيرة، وجعل لها نصيباً من الميراث بعد أن كانت العرب لا تورث من يحمل السلاح، ويقدر على الكفاح من الرجال دون النساء، بله الأطفال

أما كانت المرأة عند الأثينيين معدودة من سقط المتاع، حتى أنها لتباع وتشترى في الأسواق؟ أما كان الإسبرطيون يبيحون لأي عدد من الرجال الاشتراك في زوجة واحدة؟ أما كانت بعض طوائف اليهود يعتدون البنت في مرتبة الخادم، ويجيزون لأبيها بيعها، ويحرمونها الميراث إلا عند فقد الذكور؟ أما كانت المرأة تعتبر عند بعض الجاهلية ميراثاُ يورث، حتى أن المرأة لتؤول ملكيتها إلى ابنها بعد وفاة زوجها؟

كان طبيعياً أن يذكرن نساء النبي ذلك كله، وأن يتحدثن مدة عزلة الرسول التي كان وقعها شديداً على أنفسهن. وكيف لا تكون كذلك وقد كان الرسول في بيته نمطاً وحده، يعامل نساءه على أسلوب لم تألفه العرب؟ هو في بيته مثال الدعة والأريحية كثير التدليل والمداعبة لنسائه، حتى ليجترئن عليه بما لا يجترئن به على آبائهن واخوتهن. قال عمر:(راجعتني امرأتي في شأن من الشؤون، فانتهرتها فقالت: عجباً لك يا ابن الخطاب! ما تريد أن أراجعك في أمر وإن ابنتك لتراجع رسول الله حتى يظل يومه غضبان)

كان النبي صاحب الغزوات والملاحم ينقلب في بيته ملاكاً وديعاً، حتى أنه ليصلي فيتسلق ظهره الحسن بن علي، فيطيل سجوده، حتى يترجل الغلام من تلقاء نفسه. وكان رحيماً بنسائه، حتى أنه لفي بعض رحلاته، ببعض زوجاته، فيغذ قائد راحلتهن السير، فيقول له:

ص: 52

(رفقاً أنجشة بالقوارير)

هكذا كانت معاملة النبي لنسائه، فمن لهن بالجلد على جفائه؟ ومن الذي يخرجه من عزلته، ويعيد إليهن سيرته الأولى؟ إنه عمر

- 6 -

ما كان عمر ليسعده التجلد على عزلة النبي أكثر من شهر؛ عمر الرجل الصريح، الشجاع في الحق، الذي ليس أقرب إليه من حسامه ينتضيه في كل موقف، والذي تسلل المسلمون إلى المدينة لواذاً فخرج هو جهاراً نهاراً يقول: من أراد أن تثكله أمه، أو ييتم ولده فليتبعني)

أخذ عمر سمته إلى معتزل الرسول لا يلوي على شيء؛ حتى إذا كان منه عن كثب نادى رَباحا غلام الرسول: يا رباح استأذن لي مولاك في الدخول؛ بيد أن الغلام يدخل ثم يعود بلا إذن. فيعاود عمر الكرة، فيعود الغلام بلا إذن، فيهتاج عمر، فيقتحم المكان داخلا قائلا: يا رسول الله، إن كنت ظننت أنني جئت من أجل حفصة ابنتي، فوالذي بعثك بالحق، لولا رهبتي إياك لوجأت عنقها، ولكني أريد أن تضع حداً لتخرصات المتخرصين

ثم يلتفت عمر، فلا يرى غير قبضة من شعير، وجسد طاهر أثر فيه الحصير، فيبكي حتى تخضل لحيته، ولكن رسول الله يهش لعمر، ويهدئ من روعه، ثم يغادر المكان إلى حجرات أمهات المؤمنين، ثم يأمر بهن، فيدخلن واحدة واحدة، ويبدأ بعائشة:

إيه يا عائشة! إنه قد ألقي قول كريم (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلا. وإن كنتن تردن الله ورسول والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيما. . . الآيات) فأيهما تختارين؟

أيهما تختار! وهل يحتاج الأمر إلى الروية وكد الذهن؟ ما كان لعائشة أن تختار غير الله ورسوله، وما لغيرها من أمهات المؤمنين أن يخالف عائشة في الاختيار

وبذلك عاود بيت النبي صفاؤه وسكونه، وانقشعت عن أفقه تلك السحابة التي أظلته ردحاً من الزمن، وكان الدرس ناجحاً

- 7 -

ص: 53

وبعد، فإنما أردت بهذا الفصل أن أعرض لحياة النبي المنزلية ولبعض المشاكل الزوجية التي كانت تعترضه، ولأسلوبه في معالجة تلك المشاكل، حتى نعرف محمداً الزوج، كما عرفناه محمداً القائد ومحمداً المشرع، وما أكثر عظمة النبي التي تحتاج إلى الدرس والتمحيص. على أن الناحية الزوجية ليست أقل خطراً إذا لاحظنا أن حياة الرسول في بيته كانت بمثابة الحجر الأساسي لكل بيت مسلم، وأن الأمة تتكون من مجموع بيوتها

ولعل القارئ لا يرتاع لتلك المؤامرات التي كانت تدير في بيت الرسول، فقد تكون هينة لينة إذا قيست بما اعتيد تدبيره في بيوت الأمراء من المؤامرات التي تنضح بالدماء

ولقد كانت حياة النبي فترة انتقال في كل ظاهرة من ظواهر الحياة العربية، وكانت المرأة حديثة العهد بالحرية. وقلما يحسن استعمال الحرية من هو حديث العهد بها، كما يحسنه الناشئ عليها الدارج في بحبوحتها

على أن توفيق النبي في إدارة شؤون بيته لم يكن دون توفيقه في حروبه؛ ولعل مما يسترعي النظر أن كثيراً من القواد البارزين الذين عرفوا كيف يديرون دفة السياسة في أممهم، قد عجزوا عن إدارة بيوتهم. ولست أحدثك عن امرأة نوح أو امرأة لوط اللتين ورد ذكرهما في التوراة والقرآن، ولكني أستطيع أن أذكر لك طائفة من أبطال التاريخ الحديث. ولعل من هؤلاء (نابليون) عاهل فرنسا و (مصطفى كمال) عاهل تركيا

ولعل حكمة الرسول في إدارة شؤون بيته تتجلى بشكل أوضح، إذا لاحظت أن سقفه كان يظل أمشاجا من الزوجات، تفصلهن عنه فوارق بعيدة المدى، كما تفصل بعضهن عن بعض أمثال تلك الفوارق، فلقد كان فيهن من تصغره بنيف وأربعين عاما، ومنهن ثيبات كن تحت أزواج قبله، وكان بينهن من اعتنقت الإسلام بعد اليهودية، ومن اعتنقته بعد المسيحية، ومن اعتنقته بعد الوثنية، وكان منهن ابنتا أصفى أصفيائه أبي بكر وعمر، وابنة أعدى أعدائه أبي سفيان، إلى غير ذلك من الفوارق التي تجعل إدارة دفة البيت أمراً عسيراً

وإني لأرجو بعد هذا ألا أكون قد تدخلت بين الرسول وزوجاته إلا بمقدار ما صورت العبرة. والحق أني أشعر في قرارة نفسي أن الموضوع وعر شائك، ولعل وعورته هي التي حببت إلي اقتحامه، وإن كنت أخشى أن يقال لي ما قالت (أم سلمة) أم المؤمنين لعمر بن الخطاب، حينما ذهب إلى بيتها ينحى عليها باللائمة في هذا الشأن فأجابته: (عجباً لك يا

ص: 54

ابن الخطاب تدس أنفك في كل شيء، حتى فيما بين الرسول وزوجاته!) فكأنما صبت عليه ذَنوبا من ماء بارد، فغادر بيتها، وانصرف، يقتلع رجليه من الأرض اقتلاعاً

(كوم حمادة)

محمود غنيم

ص: 55

‌يسر الإسلام

للأستاذ الشيخ عبد العزيز البشري

لقد كان يملك كثرة الناس العجب من تمام عظمة الإسلام في هذا الصدر اليسير من الزمن وبلوغه ما بلغ في غير عنف ولا مطاولة يكافئان هذا المجد كله ولا معظمه

ولست الآن بصدد ترديد ما أثر التاريخ ولا ما دون المؤرخون في فتوح الإسلام وانتشاره السريع العجيب في قواصي الأقطار وأدانيها، وما كان لأهله في كل مكان من منعة وعزة وسلطان، فذلك شيء قد فاضت به الكتب، واحتفلت بتفصيله الأسفار الضخام؛ وبحسبي - فيما جردت له هذا الكلام القصير - أن ألفت القارئ إلى أن أمة بادية جاهلة صائلة يكون منها في هذا الزمن ما كان من العرب بفضل الإسلام. هذا فتح، وهذه سيادة، وهذا تعمير وتثمير، وهذي علوم وفنون وصناعات، وهذي حضارة لا تتعلق بأذيالها أعلى حضارات التاريخ!

لعمري ما هذا كله؟ وكيف كان؟ وكيف تأتى بهذه السرعة لدولة الإسلام؟

اللهم إن أوثق يقيني أن مرجع هذا أجمعه إلى ما في هذا الدين من يسر عظيم

الدين يسر، وبفضل هذا اليسر كان من دولة الإسلام ما كان!

ستقول: إن الإسلام ما ساد إلا لأنه حق، وأقول لك: وهل ثمة أيسر من الحق أو أعسر من الباطل؟ ومتى احتاج الحق في تجليته إلى عنف أو إلى جهد؟ إن الباطل هو الذي يحتاج إلى هذا وهذا، وقل أن يثبت له معهما قرار!

وإذا قيل إن الإسلام دين الفطرة، فمعنى هذا أنه دين اليسر، لأن ما جاء على حكم الفطرة لا عسر فيه ولا مشقة. أما ما جاء على جهة التكلف والتصنع فذلك الذي يقتضي كثيراً أو قليلاً من الجهد والعناء

الدين يسر، وإن هذا اليسر ليغمره من جميع أقطاره. أرأيت أيسر من دعوته:(لا إله إلا الله، محمد رسول الله). وأي شيء لعمري في هذه الجملة ينشز على الفهم؛ بل أي شيء فيها يتعثر فيه الذهن وتضيق عنه مساحة أدنى التفكير؟

هذا اليسر في هذا الحق الذي ليس وراءه حق، هو الذي سلك أقطار الأرض بدعوة الإسلام، واستفتح لها قلوب الأمم والجماعات في غير علاج ولا استكراه!

ص: 56

هذه الدعوة اليسيرة الواضحة لقد تغنت بنفسها عن العنف والاضطرار: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي). بل لقد استغنت عن استدراج الناس بفنون الإغراء والاستهواء

وهذه تكاليف الإسلام، ما قامت فيها مشقة إلا قامت بازائها رخصة؛ ولا كان في أحدها على أحد عسر إلا ذلل بين يديه طريق العذر. وهل بعد ذلك اليسر كله يسر؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه). وقال تعالى في كتابه الكريم: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) صدق الله العظيم

لم يقتض الإسلام أحداً احتمال ما لا طاقة له باحتماله، فهذه تكاليفه، من استطاع القيام بها، وإلا تخفف منها في حدود أحكام الشرع الكريم، حتى تكافئ طاقاته ويتسع لها ذرعه، ولا يتحرج بها وسعه، مقبولاً عذره، مكفولاً عند الله أجره

ولعل من الخير أن أنبه في هذا المقام إلى شيء حقيق بالانتباه: ذلك بأن من القواعد المسلمة أن الضرورات تبيح المحظورات، (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا أثم عليه) فالتفريط في غير ضرورة، والتخفف من أحكام الشرع من غير داع جدي إثم من الآثام. ومن القواعد الأصولية المقررة أن الضرورة تقدر بقدرها. ولاشك بعد هذا في أن تتبع الرخص وتلمس المعاذير إنما هو ضرب من الاحتيال للتهرب من تكاليف الدين، وهيهات لا ينطلي على الله محال!

ومن يسر هذا الدين أنه لم يقم بينك وبين ربك أية واسطة. وليس من شك في أن ما تستطيع أن تتناوله بنفسك أيسر عليك وأدنى إليك مما لا تستطيع تناوله إلا بواسطة غيرك. فإذا زلت بك القدم، وقلبك الشيطان في المنكر، أقبلت على ربك، وسألته قبول توبك، والعفو عما أسلفت من ذنبك، مطمئناً إلى (أن الله يغفر الذنوب جميعاً). ليس بك حاجة إلى من يمهد بين يديك سبيل المعذرة، ولا من يعاني لك استخراج العفو والمغفرة

وبعد، فإن من يسر هذا الدين شدة تسامحه؛ ولا يذهب عنك أن هذا التسامح إنما كان من أبلغ الأسباب في عظمته

لا يدعوك الإسلام إلى كراهة ما يصدر عن مخالفك في الدين لأنه يخالفك في الدين، بل يدعوك إلى أن تكره منه ما يُكره، وتقر منه ما يُحب ويُؤثر، فهو وأخوك المسلم في هذا بمنزلة سواء

ص: 57

ولقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس جبة رومية، وقال تعالى في كتابه الكريم:(وطعام الذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم وطعامكم حلٌّ لهم)، ولا ريب في أن لهذا ولهذا دلالة كان لها أعظم الآثار في نهضة الإسلام!

لم ينفر المسلمون من مخالفيهم في الدين ولا في الجنس، ولم يحتجز بهم تعصب عن مخالطتهم والاتصال الوثيق بهم، والانتفاع بكفاياتهم والأخذ عنهم. ولم يكد يستقيم أمر الملك لهم حتى أقبلوا على علوم من سبقوهم فترجموها إلى لغتهم، وجعلوا يتروونها ويشيعون الأذهان فيها، ويطبعونها على غرار عقولهم، ويزيدون فيها ما فتق الرأي والذكاء لهم. كذلك كان شأنهم في الفنون، فقد حذقوها أتم الحذق، وبرعوا فيها أعظم البراعة، وأداروها على أذواقهم، حتى اتسق لهم منها فن خاص؛ وناهيك بالفن العربي الذي ما برحت آياته مسطورة على جبين الزمان

أرجو أن تكون قد اطمأننت بعد هذا، إلى أن اليسر في الإسلام، كان من أبلغ الأسباب في عظمة الإسلام

عبد العزيز البشري

ص: 58

‌بين الشك واليقين

للأستاذ أحمد خاكي

تطغى على العالم اليوم موجة من الشك تكاد تخترم بقية اليقين التي يحرص عليه الفلاسفة. وقد أسرفت الجماهير في الشك حتى لقد أصبح هو القاعدة لكل تفكير، وأصبح اليقين شذوذاً لهذه القاعدة؛ وحتى ليكاد الإنسان يجزم بأننا نجتاز عصراً من عصور السفسطة التي فقدت عندها المعاني والأمثلة العليا أكثر قيمتها. وقد عانت تلك المعاني وهذه المثل العليا ما عانت لاختلاف وجهات النظر بين فريق وفريق؛ وكل فريق يذهب إلى ما يذهب إليه لأنه يرضي حاجة ملحة في نفسه، فهو يتعلق به لأنه يرى فيه إرضاء لنزعاته الجامحة سواء أكانت نبيلة أم وضيعة. وقد أدى ذلك إلى أن تضعضعت قواعد الإيمان وحل الشك في كل بيئة سياسية أو اجتماعية يتذرع به كل مفكر حتى تستوي له الغاية التي يريد. ولعلنا لن ندرك حاجة العالم اليوم إلى اليقين حتى نبحث أصول الشك، ولأننا نريد أن نقيم مثلاً أعلى يتألف قلوبنا، فينبغي أن نتعمق البحث في أصل ذلك الاضطراب الذي يصطخب به العالم

والحق أن الشك في العصر الحاضر قد أدرك ما أدرك من القوة لأنه لبس لبوساً علمية خالصة. فقد ذهب كل فريق إلى الرأي الذي يرضيه، لكنه جاهد في إرضاء تفكيره بأن اتخذ من العلم مسوغاً يضعف ويقوى. وأصبح الشك لذلك علمياً يقوم على دراسات شتى. ووجد المفكرون والسياسيون في تلك الدراسات معيناً لا ينضب من القضايا يستدلون بها على ما يعملون مهما نبا عن جادة الخلق القويم. وسنحاول في هذه العجالة أن نفصل تلك الدراسات المتشككة حتى نرى سبيلا واضحة إلى دراسة المثل الأعلى الذي نحاول أن نقيمه في مصر

والشك قد ضرب في أطواء الفكر الحديث حينما حل علم النفس محل فلسفة الأخلاق. فقد اصبح هذا العلم بعد ذلك مورداً يستمد منه كل مفكر قواعد يفسر بها الظواهر العقلية والنفسية. ولقد أقامت الفلسفة قبل ذلك ما أقامت، يؤمن الناس والعلماء بأصولها، لكنهم لم يقفوا إلا قليلا يحاجون طبيعة الإيمان. ولم يكن هؤلاء ولا أولئك يفرقون بين مراتب العقيدة ولا ألوان التفكير، ولكن حينما أبديت للعالم أصول علم النفس بما تحملته من مباحث

ص: 59

التحليل النفسي، وبما تضمنته من وصف نفسية الجماعة، وبما فرقت بين العقل الواعي وبين العقل الباطن - حينما أبدى كل ذلك تطرق الشك في قيمة الفكرة، وأصبح الناس لا يرون للعقيدة نفس السلطان الذي كان لها فيما مضى، بل لقد ذهبت الكثرة من علماء النفس ووراءهم الجمهرة من سائر العلماء إلى أن الفكرة شيء والعمل شيء آخر

ويرجع الشك في قيمة الفكرة إلى أن علم النفس الحديث يرى أن الإنسان مسير أمام جملة من العوامل التي لا يحكمها العقل بل هي في الواقع مؤثرات ودوافع تدفع بالإنسان إلى أعمال أكثرها قد تحرر من سلطان التفكير القويم. وإنما يسير الإنسان عند هؤلاء الرغبة والعاطفة والمزاج قبل الفكرة والعقل والفلسفة. وقد كانت فلسفة الأخلاق تؤمن بأن لكل فكرة مسيراً تنتهجه، فهي لا تنتهي عند مجرد التفكير وإنما تمتد إلى العمل والتنفيذ. فالفكرة لها شطران من تعقل وسلوك، ولا يكون لها أثر خلقي حتى تنقلب إلى هذا السلوك. لكن علم النفس حل في تاريخ الفكر الحديث محل علم الخلاق، فباعد ما بين شطري الفكرة، وعالج الإحساس الضئيل مجرداً عن العمل، وباين ما بين العقيدة والسلوك. وقد أدى ذلك إلى ذلك التناكر الذي نشهده اليوم بين ظهرانينا.

وعلم النفس لا يستطيع أن يخلق لنا مثلا أعلى لأنه غير قادر على تثبيت قيم الأشياء. ذلك لأنه علم وصفي يسير في نطاق ضيق من التجارب التي تختلف على عقل الإنسان وحِسّه. ولأنه علم تجريبي، فقد عالج حالات شاذة أو غير شاذة من غير أن يقيم معايير يستطيع المرء أن يتخذها لنفسه غاية أو سبيلا. فحينما طغى علم النفس على فلسفة الأخلاق فَقَدَ العالم كثيراً من الغايات الفلسفية التي كان قد استقر على الإيمان بها. واستشرف قادة الفكر لحالة من الشك طافت بنفوسهم حتى أصبحوا يشكُّون في مبلغ عقائدهم هم أنفسهم.

وقد كان الفرد ضحية من ضحايا الدراسات النفسية، لأنه تضاءل ثم تضاءل أمام دراسة الجماعة حتى لم يعد له إلا المكان الأدنى. ومن العجز أن نطالب الديمقراطية بما نطالبها به من تقدير المسئولية إذا كانت قد أنكرت المدرسة الحديثة حدود الفرد هذا الإنكار. وإذن فالعبث بعينه هو أن نتهدّي بعلم النفس في سيرنا إلى المثل الأعلى؛ والعبث بعينه هو أن نحاول تأليف غاية نبيلة تتألف أصوله. فعلماء النفس يصفون حالات الجماعة ونفسية الجماهير بما يحكمها من عقلية الرعاع، وبما يشينها من العقل الباطن غير المفكر. وكان

ص: 60

حقيقاً بكل ذلك أن يدفع بالعالم إلى الشك، وأن يزعزع إيمان الناس في سمو المثل الأعلى. فقد أصبح الفرد يرى نفسه غير الملوم، لأنه يتخذ من وجوده في الجماعة ذريعة للتزكية والتبرؤ.

ولم ينفرد علم النفس بين العلوم في إنتاج ذلك الجو المتشكك الذي يكاد يعصف بالفكر الحديث؛ فالتاريخ وعلم الاجتماع كلاهما يعاونه في ذلك. أما التاريخ فقد حاول المؤرخون أن يطبقوا على حوادثه مقاييسهم العلمية. ومازالوا يفصلون فصوله ويؤصلون أصوله حتى خيل إليهم أنهم قد استخلصوا من صحائفه طرقاً علمية محددة. وفي كل ذلك غبن للفرد وتحيف من مكانه، لأن التاريخ العلمي تنكرَ لفلسفة الخلق، وجافى فكرة السلوك، وازورَّ عن تقدير الفرد، وحاول أن يقيم قواعد تستمد سلطانها من الجماعة. وقل مثل ذلك عن علم الاجتماع الذي ينكر مسئولية الفرد ويلاشيها في الإرادة العامة، والذي يخلو من أصول خلقية تنشئ الفكرة وتخرج منها عملاً نافعاً طيباً ينتجه الفرد

والحق أن علم النفس والتاريخ وعلم الاجتماع كل أولئك علوم تجريبية لا خير فيها إذا حاولنا أن نقيم منها مثلاً أعلى، فهي لن تزيد إيماننا في سمو الفكرة، ولا عقيدتنا في سيطرة العقل على العمل. وكلما أمعنا في دراستها زادتنا شكاً في أصول الخلق وفي فلسفة الحياة. فهي تعالج ظواهر نفسية أو اجتماعية أو اقتصادية، لكنها لا تأتي بجديد في قيم الأشياء، ولا تخلق ميزاناً عادلاً لحقائق الخلق؛ وإنما نفيد من هذه العلوم إفادة سلبية لأنها جميعاً تبسط لنا حالات النفس والاجتماع التي ينبغي أن نتجنبها؛ وهي لا تمحضنا الإيمان في فكرة من الأفكار، لأنها تبسط الشروح التي تؤيد كل فكرة. فعندنا أن الإغراق في دراسة مثل تلك العلوم هو السبب في حالة الشك العلمي التي ملكت مذاهب التفكير على كل مفكر، وهي التي وجهت كل فرد وجهة من لا يؤمن بشيء هو في نفسه حسن أو جميل نافع، حتى أصبحت الفكرة الحديثة ضرباً من ضروب السفسطة الخادعة. وذلك عندنا هو السبب في التناقض الذريع الذي خلق ذلك النضال الكاذب حول ألفاظ تكاد تخلو من المعاني، وحول معان لا يدين لها الناس بالولاء

وكما أن فلسفة الخلق قد تلاشت في علم النفس، فكذلك قد تلاشت الفلسفة السياسية في علم الاقتصاد. ذلك بأن العالم قد أعمته اقتصادياته عن المثل العليا التي أقامها الفلاسفة

ص: 61

والحكماء، وأسرف في اتخاذ مبادئ الاقتصاد إنجيلاً لا يكاد يؤمن إلا به. فكما أن الفرد يرى في أصول علم النفس أن إرضاء النزعات والرغبات فيه شفاء لما يحز في النفس من ألم ممض، كذلك ترى الجماعات أن في إرضاء رغباتها ونزعاتها الاقتصادية شفاء لما تعانيه من جفوة وشقاء. والاقتصاد كما هو الآن علم المنافسة الحادة على احتكار المادة والتطاحن على الكماليات؛ وليس يخفف من حدته أي فكرة واضحة عن المعاني الأولى؛ وليس ينهنه من شدته أي قوة دافعة إلى المثل الأعلى. وقد كان الاقتصاد نفسه معيناً يستمد منه المؤرخون وعلماء النفس ما يرونه من القضايا ليتشككوا في قيم الخلق العام

تلك إذن هي الدراسات التي نفخت روح الشك في العالم الحديث، وزلزلت اليقين الذي استهدى به الفلاسفة الخلقيون والسياسيون عندما كان العالم أشد من ذلك إيماناً. وقد اضطربت قوائم السياسة والاجتماع والاقتصاد لهذه الحالة المتشككة، لأن العلماء أنكروا قوة الخلق في الفرد، وأنكروا كذلك قوة الخلق في الجماعة، فأدى ذلك إلى حالة من الاستهتار بالمثل العليا يعاني منها الغرب ما يعاني اليوم. وحينما ينادي الفلاسفة في أوربا بفكرة السلام، وحينما يعلنون للملأ سخطهم على الحرب، فليس لنا إلا أن نسخر من كل ذلك، لأننا نعلم في نفس الوقت أن قادة الفكر عندهم قد سوّغوا الحرب بآلاف من الأدلة التي استخرجوها من علم النفس والاقتصاد والتاريخ والاجتماع. وإذا سمعنا بعد ذلك عن العدل والإخاء والمساواة والمحبة فينبغي علينا ألا نؤمن بأن أوربا شديدة الإيمان بكل ذلك، لأن مذاهب عملية تناقض كل هؤلاء قد شاركت حياة نظمهم الاجتماعية والاقتصادية. وشبت معها وهي مازالت تدرج في عنفوانها مع المدنية الحديثة

والسياسة التي يؤمن بها الجمهرة من الناس قد تأثرت تلك الفلسفة العلمية التي أنتجتها دراسة تلك العلوم. وقد مشت الحضارة الغربية بيننا بما تحملته من كل ذلك، فاشتعب الناس في مصر فئات متنافر يلاحون عن مذاهب لا أصل لها في صميم الفكرة. وكانت نتيجة كل ذلك فوضى اجتماعية ضربت بجرانها في كل وجه من وجوه الحياة عندنا. ولن نستطيع أن ندرس المثل الأعلى حتى نقرر المبادئ التي ينبغي أن نلتزمها في حياتنا العقلية والسياسية والاجتماعية، وحتى نقدر الحقائق التي نعنو لها ونستهدي بها. ينبغي علينا أن نقدر قبل كل شيء أصالة الرأي والشرف والصدق في حياة الفرد. وينبغي علينا أن نقدر مبادئ الحرية

ص: 62

والنظام والديمقراطية والقومية والعالمية في حياة الجماعة. يجب أن يكون ذلك الخطوة الأولى التي نخطوها لتنشئة المثل الأعلى - هل نؤمن بكل هؤلاء؟ أنؤمن ببعضها ولا نؤمن بالبعض الآخر؟ هل ينبغي أن يكون إيماننا من النوع الفلسفي الفعال أم من النوع النفسي الكاذب؟ كل ذلك يجب أن نقرره قبل أن نقيم بناءنا، فإذا استوت نفوسنا على الإيمان خلقنا فكرة لها أثر في العمل، وكونا عقيدة لها سلطان على السلوك

ولعل أول ما ينبغي أن نعني به في مثل هذا السبيل هو تنشئة الفرد. وقد أسلفنا أن تلك الدراسات المتشككة قد أنكرت ما للفرد من وزن في حياة الجماعة حتى لقد أصبح الفرد يحتمي في نتائج تلك الدراسات، فيرى نفسه غير مسئول عن الحالة السيئة التي وجد نفسه فيها. وإذا كان مثل هذا الاتجاه قد أساء إلى الحياة السياسية والاجتماعية في الغرب، فإنه يفسد حياتنا العامة نحن أيضاً. وهو عندنا أفدح أثراً، لأن الفرد من نفسه مضعضع مستضعف. فنحن إذن نبدأ بتنشئة الفرد، لأن التنظيم العقلي عند الفرد أساس للنظام الاجتماعي العام. فبين عقلية الفرد وبين نظام الجماعة صلات تتوثق وتتوافق كلما أحسنت تنشئة الفرد. ولذلك فلابد لنا من أن نلقنه فلسفة يقيم بها قيماً ثابتة في حياته. فلابد لنا من أن نكمل الدراسات التجريبية التي ذكرنا بدراسة الفلسفة الخلقية. ولابد لنا من أن نقيم أسساً لخلق الفرد من تربيتنا العامة ومن معايير خلقية خاصة نكمل بها دراساتنا في التاريخ والاقتصاد والاجتماع وعلم النفس

ثم علينا بعد ذلك أن نخفف كثيراً من غلوائنا في تقدير الجماعة ما لها وما عليها، لأن هذا في نظرنا قد بعث سورة الشك التي أخذت بأكظام السياسيين والمفكرين في العصر الحاضر. وإذا نحن حاولنا أن نتخذ طريقاً وسطاً بين الفرد والجماعة استطعنا أن نجد خطة مثلى تداول بين الطرفين. ولا مناص هنا أيضاً من أن نضم أصول الفلسفة السياسية إلى أصول الاقتصاد، وأن نتخذ من ذلك الائتلاف معايير نطبقها على مبادئ السياسة والخلق العام. فإذا نحن خلقنا من كل ذلك فلسفة خلقية أو سياسية عامة كان ذلك كسباً في سبيل المثل الأعلى

وبعد، فإننا إذا تصفحنا تاريخ العقائد، وإذا حاولنا أن نستخرج منها فلسفة خلقية أو سياسية، فلن نجد خيراُ من المثل العليا التي تنزل بها الإسلام. وقد بدأ الإسلام والعالم في مثل ما

ص: 63

عليه الآن من التبهّم والتشكيك؛ لكنه ما لبث أن فاض نوره على العالم من أقصى الأرض إلى أقصى الأرض، وتجسمت الفكرة الأولى في نظام خلقي للفرد ونظام خلقي للجماعة على أكمل ما يكون. فإذا نحن حاولنا دراسة المثل الأعلى فعلينا بتلك الرجعة إلى المعايير الخلقية التي قامت عليها سيادة المسلمين

وإذا قام قادة الفكر منا يوجهون حياتنا نحو قيم خاصة لحقائق الحياة، فإن الجمهرة وراء هؤلاء القادة سوف يهفون إلى القيم الصحيحة التي تنزل بها الدين. ذلك عندنا نهاية السفسطة الخبيثة التي نعانيها اليوم، وذلك تنظيم لحياتنا الاجتماعية التي زلزلتها الفوضى. والفرد عندنا في كل ذلك أساس ينبغي أن نبدأ به؛ وتربيته غاية في نفسها؛ والدين يعترف أول ما يعترف بسمو الفرد وخطره، ويجب أن نعترف نحن أيضاً بهذا السمو

ولعل الإسلام أكثر الأديان تحديداً لواجبات الفرد وحدوده؛ ولعله أشد الأديان احتفاء بخلق مثلٍ أعلى يحدو الجماعة. وفي الإسلام فلسفة خلقية واضحة ليس علينا إلا أن نجلوها، وفيه أيضاً فلسفة سياسة تعتمد على طائفة من المعاني. وإنما مال بنا عن كل تلك الأصول إيماننا بما حاول الغرب أن يقيمه من مثل عليا. ومثل الدراسات التي عالجنا تسيطر على حياة الغربيين. وإذا نحن حاولنا أن نقيم مثلا أعلى فعلينا أن نتخذ منها مُعيناً، ولكن علينا ألا نسمح لها بأن تكون أخاذة مسيطرة

والفلسفتان الخلقية والسياسية أفضل ما ندعو لهما، لكن دراستهما سوف تقتصر على القادة دون العامة، وعلى المتعلمين دون الجهلاء. ولكن الدين عندنا هو الذي يجمع بين الفلسفتين، ويوازن بين الفريقين، ويؤلف بين القلوب، ويبث في النفوس روحاً فعالة لا تستأني ولا تستريب. وهو بعد ذلك أشد ما نحتاج إليه ليقيم لنا قيماً أخرى غير التي أقامها الغرب، ومعايير أخرى غير التي فرضها علينا الغرب

أحمد خاكي

ص: 64

‌ابن دقيق العيد

للدكتور محمد مصطفى زيادة

الأستاذ المساعد بكلية الآداب

يظفر القارئ في تاريخ المماليك بمصر بشخصية رجل لا تربطه بغالبية أهل ذلك العصر العنيف صلة دنيوية، لتنزهه عن المادة، وعزوفه عن شهوة المناصب وزخرفها، ذلك هو قاضي القضاة ابن دقيق العيد (625 - 702هـ) وهو الشيخ تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري المنفلوطي الشافعي المالكي المصري

وكان أصل لقب (ابن دقيق العيد) الذي عُرف به في كتب التاريخ حسبما ورد في النويري أن جده وهْب بن مطيع لبس في يوم عيد ثياباً بيضاء، فرآه جماعة من أهل الريف فقال قائل منهم كأن ثيابه دقيق العيد لبياضها، فلزمه هذا اللقب، واشتهر به بيته وسلالته

تولى ابن دقيق العيد منصب قاضي القضاة بالديار المصرية سنة خمس وتسعين وستمائة هجرية، والسلطان يومئذ الملك العادل زين الدين كتبغا المنصوري؛ وكان قبل توليته تلك الوظيفة الكبرى قد درّس بالمدرسة الناصرية بالشافعي وبدار الحديث الكاملية وغيرهما، وصنّف التصانيف في فقه المذهبين المالكي والشافعي، وفي الحديث، وأفتى الفتاوي الكثيرة التي برهنت على أنه ثبت وحجة في علم الشريعة؛ وعُرف في جميع أدوار حياته بالشدة في الحق، والسير على مقتضى أصول الدين لا يحيد عنها قيد أنملة، مهما كلفه ذلك من غضب سلطان أو أمير. وقد نقل عنه حسبما ذكر ابن العماد أنه قال:(ما تكلمتُ بكلمة ولا فعلتُ فعلاً إلا أعددت له جواباً بين يدي الله تعالى)

ظل ابن دقيق العيد متولياً لمنصب قاضي القضاة بالديار المصرية حتى وفاته سنة 702هـ وكان كثير التطلع إلى أخبار نوابه بالأعمال المصرية، يبعث إليهم بكتبه المشتملة على المواعظ والتحذيرات من عواقب الغفلة والإهمال في الأحكام. وقد نقل النويري أحد هذه الكتب التي أنفذها ابن دقيق العيد سنة 697هـ ونصه:(بسم الله الرحمن الرحيم: الفقير إلى الله محمد بن علي (يا أيها الذين آمنوا قُوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة، عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) هذه المكاتبة إلى فلان وفقه الله لقبول النصيحة، وآتاه لما يقربه قصداً صالحاً ودنيا صحيحة.

ص: 65

أصدرناها إليه بعد حمد الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويمهل حتى يلتبس الإمهال بالإهمال على المغرور، تذكرة بأمر ربك، فإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون؛ ويحذره صفقة من باع الآخرة بالدنيا فما أحد سواه مغبون، عسى الله أن يرشده بهذا التذكار وينفعه، وتأخذه هذه النصائح بحجزته عن النار، فإِني أخاف أن يتردّى فيجر من ولاّه - والعياذ بالله - معه. والمقتضى لإصدارها ما لمحناه من الغفلة المستحكمة على القلوب، ومن تقاعد الهمم على ما يجب للرب على المربوب، ولاسيما القضاة الذين يحملون عبء الأمانة على كواهل ضعيفة، وظهروا بصور كبار وهي نحيفة. والله إن الأمر لعظيم، وإن الخطب لجسيم، ولا أرى مع ذلك أمناً ولا قراراً ولا راحة، وإلا رجلاً نبذ الآخرة وراءه، واتخذ إلهه هواه، وقصر همّه وهمته على حظ نفسه من دنياه، فَغَايُهُ مطلب الحياة والمنزلةُ في قلوب الناس وتحسين الرِّئى والملبس، والركبة والمجلس، غير مستشعر حاله ولا ركاكة مقصده، فهذا كلام معه، فإِنك لا تُسمع الموتى وما أنت بمسمع من في القبور. فاتق الله الذي يراك حين تقوم، واقصِرْ أملك عليه فالمحروم من أمله غير مرحوم. وما أنا وأنتم أيها النفر إلا كما قال حبيب العجمي، وقد قال له قائل:(ليتنا لم نخلق) فقال: (قد وقعتم فاحتالوا). وإن خفي عليك بعض هذا الخطر وشغلتك الدنيا أن تقضي من معرفته الوطر، فتأمل كتاب النبوّة: إن القضاة ثلاثة، وقوله صلى الله عليه وسلم لمن خاطبه مشفقاً عليه:(لا تأمرنّ على اثنين، ولا تَلِيَنَّ مال يتيم) ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم اهـ

وقد حدث في سنة 697هـ، والسلطانُ يومئذ الملك المنصور حسام الدين لاجين، أن نائب السلطنة منكوتمر أراد أن يستخلص من ابن دقيق العيد حكماً في قضية ميراث لأحد أصحابه بغير بيّنة شرعية، فامتنع قاضي القضاة من ذلك وهو عالم بأن منكوتمر أقوى شخصية في الدولة قاطبة، وتردّدت الرسل بينهما وابن دقيق العيد لا يتحرك عن موقفه؛ فأغاظ ذلك منكوتمر وأرسل أحد الأمراء الكبار إلى قاضي القضاة لعله يفوز منه بطائل. وقد أورد المقريزي قصة هذا الحادث في تفصيل، فذكر أن منكوتمر بعث إلى ابن دقيق العيد يعلمه أن تاجراً قد مات وترك أخاً ولم يخلف غيره ممن يرثه، وأراد أن يثبت استحقاقه الإرث بمجرد هذا الإخبار عنه، فلم يوافق قاضي القضاة على ذلك. وتردّدت

ص: 66

الرسل فخرج منكوتمر من ذلك وبعث إليه الأمير كُرْت الحاجب؛ فلما دخل كرت وقف بعدما سلم، فقام له القاضي نصف قومة، ورد عليه السلام وأجلسه. ، اخذ كُرْت يتلطف به في إثبات أخُوَّ التاجر بشهادة منكوتمر؛ فقال له ابن دقيق العيد:(وماذا ينبني على شهادة منكوتمر؟) فقال له: (يا سيدي! ما هو عندكم عدل؟) فقال: (سبحان الله!) ثم أنشد:

يقولون هذا عندنا غير جائزٍ

ومنْ أنتمُ حتى يكونَ لكم عِنْدُ؟

وكرر ذلك ثلاث مرات ثم قال: (والله متى لم تقم عندي بيّنة شرعية ثبتت عندي وإلاّ فلا حكمت له بشيء باسم الله) فقام كرت وهو يقول: (والله هذا هو الإسلام). وعاد إلى منكوتمر واعتذر إليه بأن: (هذا الأمر لابد فيه من اجتماعك بالقاضي إذا جاء دار العدل)

فلما كان يوم الخدمة ومر القاضي على دار النيابة بالقلعة، ومنكوتمر جالس في الشباك، تسارعت الحجاب واحداً بعد آخر إلى القاضي وهم يقولون:(يا سيدي! الأمير ولدك يختار الاجتماع بك لخدمتك) فلم يلتفت إلى أحد منهم. فلما ألحوا عليه قال لهم: (قولوا له: ما وجبت طاعتك عليّ) والتفت إلى من معه من القضاة وقال: (أشهدكم أني عزلت نفسي باسم الله. قولوا له يولّ غيري) وعاد إلى داره وأغلق بابه، وبعث نقباءه إلى النواب في الحكم وعقاد الأنكحة بمعنهم من الحكم وعقد الأنكحة

فلما بلغ السلطان ذلك أنكر على منكوتمر وبعث إلى القاضي يعتذر إليه ويستدعيه، فأبى واعتذر عن طلوعه. فبعث إليه الشيخ نجم الدين حسين بن محمد بن عبود والطواشي مرشداً، فمازالا به حتى صعدا به القلعة. فقام إليه السلطان وتلقاه، وعزم عليه أن يجلس في مرتبته، فبسط منديله - وكان خرقة كتان خَلِقة - فوق الحرير قبل أن يجلس كراهة أن ينظر إليه، ولم يجلس عليه. وما برح السلطان يتلطف به حتى قبل الولاية، ثم قال له:(يا سيدي، هذا ولدك منكوتمر خاطرك معه، أدعُ له) وكان منكوتمر ممن حضر، فنظر إليه قاضي القضاة ساعة وصار يفتح يده ويقبضها وهو يقول:(منكوتمر لا يجيء منه شيء) وكرّرها ثلاث مرات وقام. فأخذ السلطان الخرقة التي وضعها على المرتبة تبرّكا بها، وتفرقها الأمراء قطعة ليدّخروها عندهم رجاء بركتها

هذا هو ابن دقيق العيد وتلك شدة مراسه في الحق

محمد مصطفى زيادة

ص: 67

‌من صميم السيرة

الإسراء

للأستاذ أمجد الطرابلسي

رقدتْ ملَء عينها البيداءُ

واحتوتها في سرِّها الظلماءُ

وأوى موكبُ الطيورِ إلى النَّخ

لِ وحَنَّتْ لزُغْبِها الورقاءُ

والمها أَطبقتْ على الصَّفوِ عيني

ها، ومالت إلى الكناِسِ الظّباءُ

سكنَ اللّيلُ، لا هتافٌ ولا عَز

فٌ ولا آهةٌ ولا ضوضاء

ليس إلاّ النجومُ تهمسُ فرحى

في الرَّحابِ العُلى فَتُصغي الجِواء

وسَجَتْ مكَّةٌ، فلا اللَّهوٌ لهوٌ

في حِماها، ولا الغِناءُ غناء

أَطفأَت في الخيام كلَّ سِراج

رَقصتْ فوقَ ثغرهِ الأَضواء

وانقضى كلُّ سامرٍ أَثملته

بالفنونِ الرُّواةُ والشُّعراء

وتهادى النسيمُ بين الرّوابي

كلما هبّ هدّه الإعياء

ملءُ أعطافه أريج الخزامى

وبقايا الكؤوس، والأنداء

نامت البيد! هل رأيت سريراً

رقدتْ فوقَ صدرهِ عَذراء؟

الطُّيوفُ الفرحى تطوف حَوالَي

هِ كما طافَ بالقلوبِ الهناء

والمنى الضاحكاتُ تلثمُ خّدَّي

ها فيفتُّر ثغرُها الوَضَّاءُ

يا جمالَ البيداء! ماذا ينالُ ال

وصفُ منهُ، وما يُصيبُ الثناء؟!

كلُّها السِّحْرُ والرِّحيقُ المُصَفى

كلُّها الشّعرُ والهوى والبَهاءُ

كلُّها المجدُ والبُطولَةُ والسُّؤْ

دُدُ والعزُّ والنَّدى والإباء!

إيهِ يا منبعَ الصَّناديدِ يا بي

دُ إذا رَجَّ جانبيكِ نداءُ!

يا مهبَّ الفرسانِ إن صّرَّخ المج

دُ يناديهمُ وهُزَّ اللّواء!

نامَ يا بيدُ في سكونِكِ ندبٌ

حَفِظتهُ وهَدْهَدَتْهُ السماء

سَهِرتْ حولَه العِنايةُ ترعا

هُو وحامَتْ من فوقِهِ الآلاءُ

من ذُؤاباتِ هاشم كلهُ طُه

رٌ ونبلٌ ورحمةٌ ووفاءُ

أَروعٌ أينَ من عزيمتهِ السَّي

فُ ومن وجودِ كفّه الأنواء!

ص: 69

عَرَبيٌّ تهلَّلَ الكونُ لمّا

كرَّمتهُ النبوَّةُ الغرَّاء

شَعَّ منهُ الهدى فهاجتْ وماجتْ

حَنَقاً - جاهليَّةٌ رَعْناء

دينُها البغيُ والتناحُرُ والثا

راتُ والبطشُ والأذى والدّماء

فاحفظيه يا بيدُ فهو رَجاءُ ال

كونِ وسْطَ الظلام وهو الضّياء

ما يدومُ العمى إذا أَسْفَر الحَقّ

ولا النور والظَلام سواء!!

إيهِ يا نائماً تداعبُ جَفْني

هِ الخيالاتُ والرُّؤى الشمّاء!

يا نَبيّاً في صدرِهِ خفقَ الكو

نُ جميعاً، جراحُهُ والدَّواء!!

يا رسولاً ترنو لطلعته الامْ

لاءُ حَيْرى قد عَمَّها الإِدْجاءُ!

أيُّها النائمُ انتبهْ! قد أتاكَ ال

رُّوحُ يَحدوهُ من عُلاهُ القَضاءُ

والبُراقُ السَّعيدُ حَمْحَمَ في البا

بِ اشتياقاً فاهتزّتِ الصّحراءُ

طِرْ عليهِ تَمْضَ القفارُ سِراعاً

تَحتَ وَثباتِهِ ويُطْوَ الفَضاءُ

طِرْ عليهِ إنّ العَوالم نَشوى

مُذْ أَتتْها عن سعيِكَ الأَنباءُ

والسمواتُ تستعدُّ لمسرا

كَ وقد زغردتْ بها البُشَراء

تتغنَّى فيها الملائكُ فرحى

وتهادى البشائِرَ الأَنبياءُ

رفرفا في سماءِ مكةَ فالري

حُ ذَلولٌ تحتَ البراقِ رُخاءُ

وامضِيا تَمَّحِ الفَلا والمسافا

تُ كأنَّ ابتداَءهنّ انتهاءُ

فإذا شَمِتُما على البُعدِ سَينا

َء ولاحت كثُبانُها السَّمراءُ

فاهبطا، طَرْفَةَ العُيونِ، إليها

يا لَربّي لِما رأَتْ سيناء!!

يومَ ناجي الكليمُ في جانبيها

ربَّهُ، ملءُ أَصغريه الرّجاءُ

فهوى مُرْعشاً وقد هاله النّو

رُ وأعشى عيونه الأْلاءُ

ثمّ سيرا حتّى إذا (بَيْتُ لَحْمٍ)

دَوَّمَتْ منْ بُروجِها الأَصْداءُ

فاهبطا تُرْبَها الذَّكيَّ فمنه

(أسفرَ الرِّفقُ والهدى والحياء)

وأتيا المسجد الذي بارك الل

هُ حَوالَيهِ منذ كان البناء

فاسجدا فيه للّذي غمَرَ الكو

نَ نَدَاهُ وعطفُهُ والرضاء

صلِّيا يَبْسمِ المُصَلّى ابتهاجاً

لكما في الدُّجى ويَشْدُ الفِناء

ص: 70

واعرجا صاعدَيْن سبعاً طباقاً

لا حِجابٌ، لا دُجْيَة، لا عماء

أَلَقٌ باهرٌ، وبحرٌ من النّو

رِ خِضَمٌّ، وَرَوْعَةٌ، وصَفاء

ليس إلا ملائِكُ تحمل الب

شرى ورسْلٌ أَحِبَّةٌ أصفياء

اصعدا في الجمال حتَّى تجلّى

لكما سِدْرةُ العُلى العَصماءُ

وانظرا من عَلٍ إلى هذه الأَجْ

رامِ طُرّاً، يَجلُّ عنها الهباءُ

نظرةً تُنْظَمُ العوالمُ والآ

بادُ فيها وتَلتقي الأَملاء

اسموا، اسموا فما أعظم الأن

فُسَ تفَنْى من دونِها العليا!

ما أجلَّ الأرواحَ تَعلو وتَعلو

ثم تعلو، وإن تناهى العَلاء!

ما أحبَّ الفنَاَء في النُّور إمّا

كُرِهَ اللَّبثُ في الثرى والفَناء!

إيه مسرى النبيِّ! قد تُنكر الأنْ

وارَ والفجرَ مقلهٌ عمياءُ

ما على جاحديك لومٌ إذا ضَلُّ

وا، هلِ الناسُ كلُّهم أنبياء؟!

معرجَ المصطفى! إليكَ التَّحَايا

شَعشَتها دموعُنا والدّماء

بوركتْ أرضُكِ النَّدِيَّةُ يا قد

سُ ووشَّتْ رياضَك النَّعماء!

أنتِ أمُّ الدُّنى، ومهدُ النُّبُوَّا

تِ ومنكِ استفاءتِ الآناء

فيكِ موسى ألقى عصاهُ ارتياحاً

بعد أن طوّحتْ بهِ الأَرزاء

والمسيحُ العظيمُ فيكِ تجلى

يملأُ الأرضَ من هُداه السَّناء

علَّمَ الكونَ رحمةَ العبدِ للعب

دِ، فلا قسوةٌ ولا إيذاءُ

وغذاه الحبَّ الطَّهورَ فلا بغ

ضٌ، ولا نَفْرَةٌ، ولا أَعداء

يا حماةَ المسيحِ في القدسِ! ما في

دينهِ أن يعذَّبَ الضُّعفاء!

ليس فيه طردُ الهزارِ من الأي

كِ لتَحْتَلَّ وَكْرَهُ رقطاء!

يا جيوش الصليب في القدس! ما في

شرعِهِ أن تُقَتَّلُ الأبرياء!

ليس في شرعِهِ هوانُ المواثي

قِ، إذا ما تواثَقَ الشُّرَفاء!

ليس فيه أن يبذلَ العَرَبُ الأَنْ

فُسَ كي تسترِقَّها (الحلَفاء)!

يا لدمعِ المسيحِ ما كان أصفا

هـ! ولكنَّ روحَكم كدراء!

سائلوا مهدَهُ المُطَهَّرَ هل صا

نته إلا العُروبةُ العَرْباء؟!

ص: 71

سائلوه يا ناسُ عن عُمَرَ الفا

روقِ: (ما كانَ عدله والوفاء؟)

سائلوه عن ابنِ أَيُّوبَ لما

عصفتْ جُنَّةٌ بكم هَوجاء

يومَ جاءتْ جُيوشُكم مثلَما انحطَّ

تْ على المنهَلِ النُّسُور الظِّماء

تُغرِقُ المهدَ مثلَما تُغرقُ الم

جدَ منها الدِّماء والأَشْلاء

يوم ضاقت عنها الأَباطح في الب

رِّ وناءتْ بحمِلها الدَّأْماء

يُلهِبُ الحقدُ والعِداء مآقي

ها، وتَنْزو في صَدْرِها الأَدْواء

وابنُ أيُّوبَ يُطفئ النَّارَ بالحِلْ

مِ وتجري بنصرِهِ الأَنباء

ويفكُّ الملُوكَ صَفْحاً وَمَنّاً

بعدَ أَسْرٍ يعزُّ فيهِ الفِداء

أنتمُ تَعرفونَ عدلَ صلاحِ ال

دّينِ وسْطَ العجاجِ يا طُلقاء؟

لم يهجكم للنّار دينٌ، ولكنْ

جَشَعُ الذّئبِ أَثملَتْهُ الدّماء

أي دينٍ يُحلُّ ذبحَ اليتامى

أيُّ شرعٍ تُبادُ فيه النساء

الأحابيشُ دينُهم مثلكم سَمْ

حٌ كريمٌ، لكنَّهمْ ضُعفاء

وجلودُ الغُزاةِ بيضٌ لِطافٌ

أين منهنَّ جِلْدَةٌ سَوداء؟!

إنما العُرْبُ نعمةُ اللهِ في الأرْ

ضِ وهْم في ظَلامِها الأضْواء

لَهُمُ العزَّ والنَّبَوَّةُ فيها

ولَهُمْ دونَ أهلِها الكبرياء

حملوا مشعلَ الحضارةِ والكو

نُ ظلامٌ وحيرة وعَماء

هم شموسُ وصَفْوَة خلقِ اللّ

هـ والمُخلَصونَ والحُنَفاء

كلُّ مجدٍ لمجدِهم يخفضُ الرَّأْ

سَ خشوعاً ولو نَمته السَّماء!!

دمتِ قُدْسَ العُلى ودام لكِ العِزُّ

وذلَّتْ في غابكَ الدُّخَلاء

دمتِ فوقَ السُّها ودامَ لكِ العُرْ

بُ فداءً، وطابَ هذا الفِداء!

(دمشق)

أمجد الطرابلسي

ص: 72

‌قالت هلم إلى الحديث فقلتُ لا.

. .

للأستاذ أحمد الشايب

المدرس بكلية الآداب

- 1 -

قال الراوي: كانت السنة الثامنة منذ هاجر الرسول عليه السلام من مكة إلى المدينة، وكان صُلح الحُدَيبية الذي يقف الحرب بين المسلمين والمشركين سنوات عشرا يقطع عامه الثاني، ويتيح لقريش في مكة فرصة التروِّي لعلهم ينجون بكرامتهم وحياتهم من هذه الدعوة المحمدية، والنصرة الإلهية. وكان المسلمون في المدينة، مهاجرين وأنصار، يستبعدون مدى هذه الهدنة، ويعدونها نيلاً من عزتهم الدينية، وقد علموا (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخُلُن المسجد إن شاء الله آمنين) وما كان لهم أن ينقضوا عهداً في أعناقهم أو يفكوا عقداً للرسول بإذن الله تعالى. ولكن الله قدر وقضى - لتصدق الرؤيا توّاً ويكون الفتح المبين - أن تغدر قريش؛ فقد ثار بنو بكر ابن كنانة على خُزاعة، وهم على ماء لهم بأسفل مكة يقال له الوتير يطلبونهم بدماء قديمة، وكانت قريش ترفد بني بكر بالسلاح، وتقاتل معهم خزاعة مستخفين بالليل حتى جاوزوا خزاعة إلى الحرم. فلما انتهوا إليه قال بنو بكر لزعيمهم: يا نوفل، إنا قد دخلنا الحرم، إلهكَ! إلهكَ! فقال: كلمة عظيمة: لا إلهَ لَه اليومَ! يا بني بكر أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرفون في الحرم، أفلا تُصيبون ثأركم فيه؟!

قال الراوي: فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة وأصابوا منهم ما أصابوا ونقضوا ما كان بينهم وبين الرسول من العهد والميثاق بما استحلوا من خزاعة، وكانوا في عقده وعده، خرج عَمرو بن سالم الخزاعي، ثم أحدُ بني كعب، حتى قدم على الرسول المدينة، فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظَهراني الناس فقال:

إن قريشاً أخلفوك الموعِدَا

ونقضوا ميثاقك المؤكَّدا

فانصر هداك الله نصراً أَعْتدا

وادْعُ عبادَ الله يأتوا مَدَدا

فقال رسول الله: نُصرتَ يا عَمرو بن سالم. ثم عرض لرسول الله عَنان من السماء، فقال: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب. ثم خرج بُدَيل بن وَرْقاء في نفر من خزاعة حتى

ص: 73

قدموا على الرسول المدينة فأخبره بما أصيب منهم وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم انصرفوا راجعين إلى مكة. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد ويزيد في المدة! ومضى بُدَيل بن ورقاء وأصحابه حتى لقوا أبا سفيان بن حرب بعسفان قد بعثته قريش إلى الرسول ليشد العقد ويزيد في المدة، وقد رهبوا الذي صنعوا. فلما لقي أبو سفيان بُديل بن ورقاء قال: مِن أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنه قد أتى الرسول. قال سيّرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي. قال: أو ما جئت محمداً؟ قال: لا. فلما راح بُديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان جاء بُديل المدينة لقد علف بها النوى، فأتى مبرك راحلته فأخذ من بعرها فَفتَّهُ فرأى فيه النوى، فقال: أحلف بالله لقد جاء بُديل محمداً

ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فلما ذهب ليجلس على فراش الرسول طوته عنه. فقال: يا بُنية، ما أدري أرغِبتِ بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله وأنت رجل مشرك نجس، ولم أحب أن تجلس على فراش الرسول. قال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر. ثم خرج حتى أتى الرسول فكلمه فلم يرد عليه شيئاً. ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله، فقال: ما أنا بفاعل. ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال: أأنا أشفع لكم إلى الرسول؟! فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهتدكم به. ثم دخل على عليّ بن أبي طالب وعنده فاطمة بنت رسول الله وعندها الحسنُ بن علي يدب بين يديها، فقال: يا علي إنك أمسُّ القوم بي رَحِماً وإني قد جئت في حاجة فاشفع لي إلى رسول الله، فقال: ويحك يا أبا سفيان! والله لقد عزم الرسول على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. فالتفت إلى فاطمة فقال: يا ابنة محمد، هل لك أن تأمري بُنيّك هذا فيُجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما بلغ بنيّ ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت عليّ فانصحني. قال: والله ما أعرف لك شيئاً يغني عنك شيئاً، ولكنك سيدُ بني كنانة، فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك. قال: أو ترى ذلك مغنياً عني شيئا؟ قال: لا والله ما أظنه، ولكني لا أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد فقال: أيها الناس إني قد أجرت بين الناس، وركب

ص: 74

بعيره وانطلق. فلما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك؟ فقص عليهم ما جرى، فقالوا: ذلك لا يغني شيئاً، قال: ما وجدت غير ذلك

- 2 -

قال الراوي: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز وأمر أهله أن يجهزوه. فدخل أبو بكر على ابنته عائشة زوجة الرسول، وهي تحرك بعض جهازه عليه السلام، فقال: أي بنية، أأمركم رسول الله أن تجهزوه؟ قالت: نعم فتجهز. قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: والله ما أدري. ثم إن الرسول أعلم الناس أنه سائر إلى مكة وأمرهم بالجد والتهيؤ وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها. فلما أجمع السير إلى مكة كتب حاطب بن أبي بَلْتَعةَ اللخمي كتاباً إلى قريش يخبرهم أن الرسول إليهم سائر؛ ثم أعطاه امرأة وجعل لها جعلاً على أن تبلغه قريشاً فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها وخرجت به. ولكن الخبر قد أتى الرسول من السماء بما صنع حاطب، فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوّام فأدركا المرأة فالتمسا الكتاب في رحلها فلم يجدا شيئاً. فقال لها علي: إني أحلف بالله ما كذب رسول الله، ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك. فلما رأت الجد منه قالت: أعرض، فأعرض فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منه فدفعته إليه، فلما أتى به الرسول دعا حاطبا، فقال: يا حاطب: ما حملك على هذا؟ فقال: يا رسول الله أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله ما غيرت ولا بدلت، ولكني صانعت القوم لأهل وولد لي بين أظهرهم. فقال عمر ابن الخطاب: دعني فلأضرب عنقه فإن الرجل قد نافق. فقال الرسول: وما يدريك يا عمر، لعل الله قد أطلع على أصحاب بدر يوم بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم

ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره واستخلف على المدينة كلثوم بن حصين الغفاري. وخرج لعشر مضين من رمضان، فصام وصام الناس معه، حتى إذا كان بالكديد بين عسفان وأمج أفطر؛ ثم مضى حتى نزل مر الظهران - في عشرة آلاف من المسلمين - وهو واد قرب مكة، وقد عميت الأخبار عن قريش، فلا يأتيهم خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يدرون ما هو فاعل

وخرج في تلك الليالي أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، يتحسسون

ص: 75

الأخبار، وينظرون هل يجدون خبراً أو يسمعون به! وكان العباس بن عبد المطلب قد لقي الرسول ببعض الطريق مهاجراً بعياله، وكان قبل ذلك مقيماً بمكة على سقايته والرسول عنه راض. قال العباس فقلت: وا صباح قريش! والله لئن دخل رسول الله مكة عنوة دون أن يأتوه فيستأمنوه، فهو هلاك قريش إلى آخر الدهر. قال: فجلست على بغلة رسول الله البيضاء فخرجت عليها حتى جئت الأراك لعلي أجد من يأتي مكة فيخبرهم بمكان الرسول ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة. قال: فوالله إني لأسير عليها وألتمس ما خرجت له إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول له: ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً، فيقول بديل: هذه والله خزاعة حمشتها الحرب، فيقول أبو سفيان: خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها. قال العباس: فعرفت صوته، فقلت: يا أبا حنظلة، فعرف صوتي فقال: أبا الفضل؟ قلت: نعم. قال: ما لك فداك أبي وأمي؟! قال، قلت: ويحك يا أبا سفيان! هذا رسول الله في الناس، وا صباح قريش والله! قال: فما الحيلة؟ قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله فأستأمنه لك. قال: فركب خلفي ورجع صاحباه، فجئت به كلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة الرسول وأنا عليها، قالوا: عم رسول الله على بغلته؛ حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال: من هذا؟ وقام إلي، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان عدو الله! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد. ثم خرج يشتد نحو الرسول فلاحقته إليه، فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد فدعني فلأضرب عنقه. فقال العباس: إني قد أجرته يا رسول الله. فقال الرسول: يا عباس اذهب به إلى رحلك فإذا أصبحت فائتني به. قال: فلما أصبحت عدوت به إلى رسول الله فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئاً بعد. قال: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئاً. فقال له العباس: ويحك أسلم وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قبل أن تضرب عنقك. قال: فشهد شهادة الحق فأسلم. قال العباس:

ص: 76

قلت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر فاجعل له شيئاً. قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فلما ذهب لينصرف قال الرسول: يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها. قال: فخرجت حتى حبسته بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله أن أحبسه، ومرت القبائل على راياتها كلما مرت قبيلة قال: يا عباس من هذه؟ فأقول سليم، فيقول ما لي ولسليم؟ ثم تمر القبيلة فيقول يا عباس من هؤلاء؟ فأقول مزينة، فيقول: ما لي ولمزينة. حتى مر الرسول في كتيبته الخضراء فيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد. فقال سبحان الله يا عباس من هؤلاء؟ قلت: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما. قال العباس: قلت يا أبا سفيان إنها النبوة. قال: فنعم إذن. قلت: النجاء إلى قومك. فلما جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به. وأذاع فيهم ما جعل له الرسول فخراً، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد آمنين

- 3 -

قال الراوي: إن أسماء ابنة أبي بكر قالت: لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي طوى عند مكة قال أبو قحافة - والد أبي بكر وكان كفيف البصر - لابنة له من أصغر ولده: أي بُنيَّة اظهري بي على أبي قُبيس. قالت: فأشرفت به عليه فقال: ماذا ترين يا بنية؟ قالت: أرى سواداً مجتمعاً. قال: تلك الخيل. قالت: وأرى رجلاً يسعى بين يديه ذلك السواد مقبلاً ومدبراً. قال: ذلك الوازع الذي يأمر الخيل ويتقدم إليها ثم قالت: قد والله انتشر السواد. فقال: قد، والله دفعت الخيل فأسرعي بي إلى بيتي. فانحطت به الفتاة وتلقاه الخيل قبل أن يصل إلى بيته. قالت: وفي عنق الجارية طوق من ورق فيلقاها رجل فيقتطعه من عنقها، فلما دخل الرسول مكة ودخل المسجد أتى أبو بكر بأبيه يقوده. فلما رآه الرسول قال: هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه! قال أبو بكر: يا رسول الله هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي إليه أنت. قال: فأجلسه بين يديه ثم مسح صدره، وقال له: أسلِم فأسلَم. ثم قام أبو بكر فأخذ بيد أخته وقال: أنشد الله والإسلام طوق أختي! فلم يجيبه

ص: 77

أحد فقال: أي أُخَيّة احتسبي طوقك. ثم فرق الرسول جيشه من ذي طوى، فدخلت فِرقُة مكة من نواحيها ونزل الرسول بأعلى مكة وضربت له هناك قبة

وكان صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمر، قد جمعوا أناساً بالخَنْدَمة - جبل بمكة - ليقاتلوا المسلمين. وكان حِماس بن قيس من بني بكر يُعِدُّ سلاحا قبل دخول الرسول. فقالت له امرأته: لماذا تعد ما أرى؟ قال: لمحمد وأصحابه. قالت: والله ما أرى أنه يقوم لمحمد وأصحابه شيء. قال: والله إني لأرجو أن أُخدمَكِ بعضهم. ثم شهد الخندمَة مع صفوان وسهيل وعكرمة وأناس من المشركين فهزمتهم رجال خالد بن الوليد، فخرج حماس منهزماً حتى دخل بيته، ثم قال لامرأته: أغلقي عليّ بابي. قالت: فأين ما كنت تقول؟ فقال:

إنكِ لو شهدتِ يوم الخندمهْ

إذْ فر صَفوانُ وفر عكِرمهْ

وأبو يزيد قائمٌ كالمؤتَمَه

واستقبلتهم بالسيوفِ المسلمهْ

يَقطعن كلَّ ساعدٍ وجُمجمهْ

ضرباً فلا يسمعُ إلا غمغمهْ

لهمْ نهيتٌ خلفنا وهَمهمهْ

لم تنطِقي في اللوْم أدنى كلمهْ

لما نزل الرسول مكة واطمأن الناس خرج حتى جاء البيت فطاف به سبعاً على راحلته يستلم الركن بِمحجَن في يده. فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له، فدخلها فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها. ثم وقف على باب الكعبة فقال:(لا إله إلا الله، وحدَه لا شريك له، صَدقَ وعدَه، ونصرَ عبدَه، وهزم الأحزابَ وحده. ألا كلُّ مأثرة أو دم أو مال يُدعى فهو تحت قدَميَّ هاتين إلا سدنة البيت وسقاية الحاج إلا وقتيلَ الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا ففيه الدية مُغلَّظةً، مائة من الإبل. أربعون منها في بطونها أولادها. يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتَعظُّمَها بالآباء. الناس من آدم، وآدم من تراب. (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير) ثم قال: يا معشر قريش؛ ما ترون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطُّلقاء. ثم جلس رسول الله في المسجد فقام إليه علي بن أبي طالب، ومفتاح الكعبة في يده فقال: يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك. فقال الرسول: أين عثمان ابن طلحة؟ فدُعِيَ له، فقال: هاتِ مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء

ص: 78

قالوا: لما دخل عليه السلام البيت يوم الفتح رأى فيه صور الملائكة وغيرهم، فرأى إبراهيم عليه السلام مصوّراً في يده الأزلام يستقسم بها، فقال: قاتلهم الله! جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام! ما شأن إبراهيم والأزلام؟! (ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين). ثم أمر بتلك الصور كلها فطمست. وكان يقول وهو يشير إليها: (جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً)

قال الراوي: أراد فضالة بن عمير بن الملوّح الليثي ليقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا منه قال الرسول: أَفضالة؟ قال: نعم فضالة. يا رسول الله قال: ماذا كنت تحدث به نفسك؟ قال: لا شيء. كنت أذكر الله عز وجل. فضحك النبي، ثم قال: أستغفر الله! ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه. فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده من صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إليّ منه. قال فضالة: فرجعت إلى أهلي فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها، فقالت: هلمّ إلى الحديث، فقلت: لا، وانبعث فضالة يقول:

قالت: هلم إلى الحديث فقلت: لا

يأبى عليك الله والإسلام

لو ما رأيتِ محمداً وقبيلهُ

بالفتح يوم تُكسر الأصنام

لرأيت دين الله أضحى بيِّناً

والشرك يغشى وجهه الإظلام

قلت: هذه صفحة من أمجد صحف الإسلام ديناً، وخلقاً، وسياسة، وأدباً، وحماسة، ليس لي فيها إلا تخليصها من أطواء السيرة، وعرضها بأسلوبها، لعل في الذكرى نفعاً:

وإذا فاتك التفاتٌ إلى الما

ضي فقد غاب عنك وجهُ التأسِّي

أحمد الشايب

ص: 79

‌عقبة بن نافع

فاتح أفريقية وقاهر الروم والبربر

للأستاذ محمود الخفيف

فتى مات بين الضرب والطعن ميتة

تقوم مقام النصر إن فاته النصر

وما مات حتى مات مضرب سيفه

من الضرب واعتلت عليه القنا السمر

وقد كان فوت الموت سهلا فرده

إليه الحفاظ المر والخلق الوعر

لئن كان ابن الوليد بجهاده في الله قد سمي قاهر القياصرة، ولئن كان سعد بما رابط وصابر في أرض الفرس يوم التقى الجمعان قد استحق لقب مذل الأكاسرة، فإن البطل المجاهد عقبة ابن نافع الفهري قد كسب لنفسه تحت راية الإسلام مرتبة لن تنزل به فيما أرى عن مرتبة ذينك البطلين. فهو فاتح أفريقية، أمير المغرب، قاهر البيزنطيين والبربر

حارب خالد قوماً هدهم الغرور والترف، كانوا قبل لقاء المسلمين بأسهم بينهم شديد؛ فلم يكونوا حين ساقوا جموعهم يدافعون عن عقيدة أو يذودون عن مبدأ، بل لقد كانوا يقفون في وجه عقيدة منبعثة من الصحراء، الموت في سبيلها أحب إلى أصحابها من الحياة. وكان المسلمون تحت راية خالد وأبي عبيدة يقتلون ويُقتلون وقد باعوا أنفسهم وأموالهم من الله بأن لهم الجنة؛ كلمتهم كلمة أميرهم، ووجهتهم وجهة خليفة رسول الله فيهم، فلا تنازع بينهم ولا تنابذ ولا إحن ولا انقسام. . .

وكذلك كان المسلمون في القادسية كالبنيان المرصوص، لم يعرف الخلف سبيلاً إلى صفوفهم، ولا وجد الوهن طريقاً إلى قلوبهم، يسقطون عشرات ومئين ولا تسقط الراية؛ ويشترون الآخرة بالأولى في إيمان ويقين، وغاية المجاهد منهم أن يغلب أو يدفع عن نفسه الهزيمة بالموت!

أما عقبة فقد جاء دوره بعد أحقاد وأحداث فرّقت كلمة المسلمين وجعلتهم شيعاً وكادت تأتي على بنيانهم من القواعد. جاء دور عقبة في الجهاد بعدما كان في الإسلام من قتل عثمان، وبعدما كان من أمر الجمل والصفين. جاء دوره بعد أن عرف الإسلام الخوارج وغيرهم من الأحزاب، وبعد أن عرف المسلمون طريقة أخرى في الغنائم والأسلاب. . .

وكان عقبة يحارب الروم والبربر؛ وكان البربر أولي بأس وعناد. جبلوا الحرية فلا يكادون

ص: 80

يعرفون ما الخضوع، طبيعة نفوسهم كطبيعة بلادهم، فيها مناعة الجبال ووعورة الجبال، وفيها صرامة البيد وبساطة البيد؛ فهم لذلك في القوة كالعرب المهاجمين يطرحون نفوسهم تحت المنايا ولا يطرحونها تحت أقدام الفاتحين

وكانت البلاد التي اثخن فيها بخيله ورجله مترامية الأطراف مجدبة المطارح إلا واحة هنا أو غيضة هناك، وبقاعاً خضراء قليلة على شواطئ البحر حول مجاري السيول والأنهار. وكانت تلك البلاد لامتداد رقعتها وبعد ما بين أولها وآخرها أقساماً لكل منها اسم يميزه! فهذا هو أفريقية، ثم هذا هو المغرب الأدنى، ثم هناك من ورائه المغرب الأقصى. . . لذلك كان عقبة وجيشه يحاربون في هذه الفيافي المترامية عدوين: البربر الغلاظ، والطبيعة القاسية!

ولد عقبة بن نافع الفهري في عهد الرسول ولم تعرف له على الأرجح صحبة، فكان لذلك من التابعين. وكان عقبة - كما سيتجلى لنا من أعماله - يمثل الخلق العربي أحسن تمثيل. كان شجاعاً مقداماً بعيد الهمة، صليب العزيمة، صريم الخلق، شديد الإيمان لا يهاب قلبه الكبير الموت في أبشع صوره. وكان في إقدامه سريعاً ولكنه كان وثيق الخطو تذكرنا وثباته وثبات خالد حين كان يقطع البيد والمفاوز، وحين ذهب فحج ثم كان بعد قليل في ساقة الجيش

بعد أن تم للعرب إعلان كلمة الله في مصر واتجهوا نحو الغرب جاءوا برقة فأذعنت لهم بعد جهاد؛ وصالحهم أهل تلك البلاد على الجزية ودانوا لهم بالطاعة، ولكن الروم حين انحسر العرب عن برقة عادوا يبنون سلطانهم هناك من جديد، وقد أذاقوا البربر صنوفاً من العذاب فلم يستمعوا لهم إلى مظلمة أو يبالوا بما عسى أن تكون عاقبة أمرهم

وكان العرب فيما هم فيه يومئذ، بعد مقتل عثمان من بغضاء وتنازع؛ ومازالوا في شقاقهم حتى تم الأمر لمعاوية فوجههم من جديد وجهتهم الأولى ضد أعدائهم

ولقد كان لعقبة في فتح البلاد أول الأمر من مصر إلى برقة جهاد، وكانت له خطوات بارعة، ولكن أفعاله كانت لحقاً في ذلك الفتح إذ لم تكن له القيادة يومئذ. ولقد بقي عقبة فيمن بقي من العرب في حامية زويلا حتى كانت سنة خمسين للهجرة فأمده معاوية بعشرة آلاف ليغزو بهم أفريقيا!

أصبحت القيادة لعقبة، وذلك ما طال انتظاره إياه، وأحس هؤلاء الآلاف العشرة روحاً قوية

ص: 81

تغمرهم وتشحذ عزائمهم تحت لوائه، حتى كأن الواحد منهم بألف، فما منهم إلا محب للجهاد، مستهين بالأهوال، مرحب بالموت كقائده. وزحف بهم عقبة فما شهد الروم ولا البربر زحفاً أشد هولاً من هذا الزحف. لم تغن عنهم كثرتهم، ولم تغن عنهم عدتهم، وكانت أقواتهم في بلادهم موفورة لهم؛ ولا أقوات لهؤلاء العرب المستبسلين إلا ما يستلبون منهم من غنائم

وكانت الحرب طاحنة، وكان الجهاد مريراً، فالبربر أهل جلاد ومصابرة، وهم خبيرون ببلادهم عليمون بمسالكها؛ فكانوا إذا اشتدت عليهم وطأة محاربيهم اعتصموا بالبيد فضربوا في أرجائها، وبالكثبان فكمنوا من ورائها، حتى إذا زحف العرب وقد أخذ منهم الجهد بعد أن لم ينل منهم الخوف، وقد انطوت على السغب أحشاؤهم الضاوية، وتقرحت من الحر أكبادهم الصادية، برزوا لهم كأنما يخرجون من الأرض، ولكن ليتركوا من سلاحهم وزادهم بعد القتال شيئاً غير قليل في أيدي أعدائهم

وكان عقبة يقسو في قتال هؤلاء القوم لما خبر من طباعهم، ولما عرف من غدرهم ومكرهم، فهم إذا غلبوا على أمرهم يضعون السلاح ولكنهم لا يضعون الانتقام، فإذا واتتهم الفرصة نسوا كل عهد واستخفوا بكل ميثاق. وكانت سيوف العرب ونبالهم تفعل فعلها القوي في هؤلاء القوم كما كانت تفعل فيهم عزيمة العرب ومضاء العرب. وظل الحال كذلك وعقبة يرسل عليهم من جنده ذات اليمين وذات الشمال حتى تم له الأمر، على بعد الشقة وترامي البيد وصرامة القتال؛ فلما أشرف على موضع كان غير بعيد من موضع قرطاجنة القديمة ابتنى للعرب قاعدة جديدة

ابتنى عقبة القيروان ليقيم فيها المسلمون إذ لم يحب لهم أن يقيموا بين هؤلاء البربر. وكان موضعها بعيداً عن البحر حتى لا تطرقها مراكب الروم، وهي في البر بحيث تتوسط البلاد وتكون معقلا لصد البربر. وكان الموضع الذي اختاره أجمة عظيمة تسكنها السباع والحيات والأراقم؛ ولعل هذه الخلائق روعت، وقد أحاط جيش عقبة بالمكان، فنفرت أسراباً تحمل صغارها هاربة إلى الصحراء، وكان عقبة قد دعا الله أن ترحل؛ وأسلم من البربر كثير ممن شاهدوا هذا الرحيل؛ وهل يكونون من الوحوش والأفاعي أشد قسوة؟ واختطت المدينة وشيد بها عقبة داراً للأمارة، وبنى مسجداً، وبنى الناس بيوتاً لهم؛ واستقامت المدينة سنة

ص: 82

خمس وخمسين وصارت تجاوب مآذنها مآذن الكوفة ودمشق والفسطاط، كلما أذن المؤذنون ورفعوا أصواتهم يذكرون اسم الله. . .

وهل كان لعقبة أن يقنع بما وصل إليه من فتوح وقد ضاقت البيد عن همته؟ لقد عول على مواصلة الزحف ليحمل كلمة الله، ويعلن اسم الله في مواطن جديدة؛ ولكن معاوية يجعل أمر مصر وأفريقية لمسلمة بن مخلد؛ ويستعمل مسلمة على أفريقية مولى له أبو المهاجر؛ ويقبل أبو المهاجر فلا يرعى لعقبة مقاماً فيوثقه ويسيء إليه كأن بينهما ترات! ولكن الليث في الحديد لن تنخلع عنه طبيعته، فما يزال عقبة صبوراً لا يعرف استخذاء ولا مسكنة. ويطلقه أبو المهاجر ليرحل عن تلك البلاد، فيرحل عقبة وفي نفسه حنق أي حنق، وقد تعاظمه الأمر وهو الفاتح القاهر؛ ولكن الأرض لله يورثها من يشاء، والأيام دول بين الناس. رحل عقبة برغمه وقطع بلاداً دانت من قبل لسيفه حتى جاء دمشق فعاتب معاوية عتاباً شديداً على ما كان من أمره بعد ما أبلى في الله من بلاء؛ وأراد معاوية أن يخفف عنه بعض ما به فوعده أن يرسله بعد حين إلى القيروان من جديد

وإنا لنحار فيما صنع معاوية! هل كان يخشى قوة عقبة ويشفق أن يعظم ويعظم حتى يخرج عن سلطانه؟ أم كانت تلك هي فعلة مسلمة جازت على معاوية دون أن يتدبر لها؟ الحق أنا لفي حيرة مما صنع. . .

وكانت لأبي المهاجر سياسة في أفريقية غير سياسة عقبة؛ جعل السياسة والملاينة في موضع السيف، واتصل بكبراء البربر وخفض لهم جناحه وصانعهم في أكثر الأمور. وكان يسفه آراء عقبة عندهم كما كان يسفهها عند المسلمين، وكان لا يقر له بفضل أو يترك أحداً من شيعته دون أن يلحق به أذى حتى عظم ذلك على الناس. ولكن البربر أحبوا سياسته وصانعوه مثلما صانعهم. وكان كبيرهم في ذلك رجل اعتنق الإسلام من قبل يقال له كسيلة؛ وكان كسيلة هذا به كبرة مبعثها الفظاظة والغلطة، وكان بطبعه أنوفا عيوفا لا يطيق أن يغلب على أمره.

وراح أبو المهاجر يمد الفتوح إلى المغرب وقد انحاز إليه البربر، فحارب الروم في قرطاجة ولكنه لم يقو عليهم؛ على أنه مد سلطان المسلمين قليلا إلى الغرب، ولبث في تلك البلاد بضع سنين أقرب إلى الدعة منها إلى الجهاد، وقد فترت في المسلمين حميتهم إلا

ص: 83

قليلا؛ وكانوا يذكرون أيام عقبة وإقدام عقبة فتنطوي على الهم قلوبهم. وهم لا يعلمون ما تأتي به الأيام. . .

ولكن الدهر صروفه وتقلباته، فقد مات معاوية وصارت الخلافة لابنه يزيد. وفي سنة ثنتين وستين للهجرة أعيد عقبة إلى أفريقية. وجاء يسعى إليها يطوي البلاد طيا، وفي قلبه من الحماسة للجهاد مثل ما فيه من الكيد لأبي المهاجر. وهل كان يستطيع عقبة أن ينسى ما كان من أبي المهاجر، وقد كان يحز في نفسه ما صنعه به منذ أخرج من أفريقية؟ أوثقه اليوم عقبة كما أوثقه هو من قبل، وشد عقبة وثاقه، وبالغ في الكيد له فكان يحمله في غزواته مقرناً في الأصفاد!

وفرح المسلمون للقاء قائدهم، وانبعثت في قلوبهم الحمية، واجتمعوا تحت لوائه يبدءون الزحف من جديد؛ وعاد للقيروان عزها ومنعتها؛ وألقى الرعب في قلوب البربر والروم وهم كما علموا لا قبل لهم بعقبة؛ وكان عقبة يضمر الحقد لكل من كانت له صلة بأبي المهاجر، وفي طليعة هؤلاء كسيلة رأس البربر

رفع اللواء واستؤنف الزحف، وحلا الجهاد للصابرين. أنظر إلى عقبة يستخلف بالقيروان زهير بن قيس البلوي ويحضر أولاده فيقول:(إني قد بعت نفسي من الله عز وجل فلا أزال أجاهد من كفر بالله) ثم يوصي بما يفعل بعده ويتقدم على رأس جيشه يخوضها حروباً مستعرة متوالية. . .

الشقة بعيدة، والعدد متكاثر له في الشعاب والقلل مخابئ. رفقاً يا عقبة بالبواسل القليلين! ولكنهم على قلتهم كالسيل على قلتهم كالسيل الأتي لا يصرفهم عن وجهتهم شيء، ولا تقف من دونهم عقبة. هاهم أولاء يقربون من مدينة باغاية وفيها من الروم حشد عظيم، والبربر من ورائهم يعركونهم ويتربصون بهم الدوائر؛ ولكن العزم المصمم لا يعرف الحوائل. لقد التقى الجمعان واشتد القتال وزلزل الروم زلزالاً شديداً؛ وكثرت مغانم المسلمين وكثر عدد صرعاهم، واعتصم الروم بالمدينة فحاصرها عقبة ثم كره المقام عليها فاستأنف الزحف

رفقاً بالبواسل القليلين! بعدت الشقة وقلت القلة! ولكن عقبة لا يعرف النكوص ولا يخاف الموت وقد باع نفسه من الله؛ ميدانه بعد باغاية بلاد الزاب، وهي بلاد واسعة بها مدن وقرى. سار عقبة وجيشه حتى جاءوا مدينة أربة قصبة تلك الديار، فوقف له الروم

ص: 84

وظاهرهم عليه البربر واعتصموا بالجبال، ثم التحموا بالعرب في عدة معارك آثروا بعدها الفرار من الموت، تاركين الكثير من أسلحتهم وخيلهم. . .

إلى أين يا عقبة بعدها بالكرام الصابرين؟ إلى تاهوت، ويا للهول ما كان في تاهوت! تكاثر العدد واستقتل البربر، ولكن العرب صابرون؛ أحدق الخطر بالبواسل الأنجاد، ولكن لهم في عقبة وبلاء عقبة الحصن القوي والمعتصم الأمين. وما هي إلا غمرة ما لبثت أن انجلت على وميض السيوف والتماع الأسنة، وعاد النصر إلى صفوف المجاهدين المستبسلين

والقائد الظافر بعد هذا النصر يطفر من الحماسة والجيش من ورائه يهبط الوهاد ويركب النجاد، وقد عظم بعد ما بينه وبين القيروان؛ ولكن ماله وللقيروان الآن وقد أصبحت البلاد كلها له، وعرف الإسلام سبيله إلى قلوب المهتدين من أهلها؟ سار الجيش حتى نزل على طنجة، فأحسن يوليان بطريق الروم لقاء عقبة وقدم له الهدايا واستفهمه عقبة عن الأندلس، ولكن أين السفين ليحمل الفاتحين. . .؟

وماذا بعد طنجة للغرباء الظافرين؟ نزل بهم عقبة - أو نزل اسكندر العرب كما يسميه جيبون - على بلاد السوس الأدنى ومعظم أهلها من البربر ولهم بأس شديد، إذ لم يكن لهم كغيرهم في البلاد الأخرى كبير صلة بالروم؛ وكانوا كفاراً لم يعتنقوا النصرانية؛ فما زال بهم المسلمون حتى دانوا لهم، وآمن منهم من آمن بالكتاب وهرب من نجا من السيف إلى الجبال والمهامه، ثم إلى بلاد السوس الأقصى، وهي بلاد ذات خصب يكثر عدد ساكنيها من البربر. وأين المفر من عقبة وجيش عقبة، وهل ثمة ما يمنعه أن يغزو السوس الأقصى؟

احتشدت له البربر هناك في أقصى الأرض جموعاً هائلة، وقاتلوه قتالاً شديداً تجلى فيه بأسهم وشجاعتهم، ولكن عقبة لم يزل بهم حتى فرق جموعهم وأذهب ريحهم، وأرسل الخيل من ورائهم تطاردهم في الجبال والصحراوات وقد كثر ما غنمه منهم، وأخذ يعلن فيهم دين الله. وتقدم بعد ذلك فإذا الخضم الفسيح يمتد أمام بصره! أنظر إليه وقد وقف على شاطئ المحيط برهة ثم غمز جواده فنزل به في الماء حتى جاوز الماء صدره، وشهر سيفه ورفع إلى السماء بصره، ثم استمع إليه يقول:(يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك)

ص: 85

لولا البحر لمضى عقبة الفاتح مجاهداً في سبيل الله، وهل كانت به حاجة إلى هذا القول وله من غزواته ما هو أبلغ من كل كلام؟ إنها لعمري قصيدة رائعة لا يزال الدهر يرويها ولا تزال في سجل البطولة رائعة المقاطع رنانة القافية! وماذا أبلغ من تلك القلة تصل ما بين المشرق والمغرب، وتقاتل البربر والروم في بلاد مجهولة المسالك بعد ما بين قاصيها ودانيها؟ وأي بلاد هي بل وأي قوم! لم يلق المسلمون في أي موطن في مشرق الأرض مثل ما لاقوا هنا من عرك وبلاء؛ بل لم يلق غير المسلمين من الغزاة قبل بلاء هو أشد مما لقي العرب في بلاد المغرب من بلاء. كانت القبائل الموتورة تنزل من الجبال كما تنزل الكواسر فتنقض على جناحي الجيش الغازي مرة، أو تأتيه من خلفه مرة، بينما يتعرض القلب لقتال شديد من المتصدين له. ولو كان على رأسهم غير عقبة لما جاوزوا برقة إلا قليلاً

وقف البحر في وجه عقبة وما استعصى عليه غير البحر، فكان لابد من الرجوع. فأدار البواسل المجاهدون وجوههم يريدون القيروان ولم يلاقوا في أوبتهم عنتاً أول الأمر؛ حتى أمن عقبة واستخف بالأمر فأرسلهم إلى القيروان قبيلاً يتلوه قبيل

ولكن البربر قلوبهم مطوية على الحقد، كما كانت نفوسهم مفطورة على الغدر، وكان كبيرهم كسيلة يتحين الفرصة ويتهيأ للانتقام. كانت بينه وبين عقبة أشياء فهو من شيعة أبي المهاجر، أسلم في عهده وحسن إسلامه، فلما عاد عقبة استخف به وبالغ في إذائه؛ حتى لقد أمره مرة أن يسلخ الشياه مع السالخين وهو يقول هؤلاء غلماني يقومون بما تريد، ولكن عقبة يأبى إلا أن يذله. ولقد نصح له أبو المهاجر أن يحسن معاملة عقبة وقبح فعله على ما بينهما من خصومة، ولكنه أبى واستكبر استكباراً. وعاد أبو المهاجر فأشار عليه أن يوثقه ولكنه أعرض حتى عن هذا

ليت عقبة سمع ما أبدى له من نصح فرعاه واتبعه، أجل ليته تدبر ما أشار به أبو المهاجر، إذاً لنجا مما كان يدبر له.

قصد عقبة في أوبته تهوذا وفيها للروم جيش وحصن؛ لم يكن معه إلا بقية جيشه الفاتح، فاستهان الروم بالغازي وأغلظوا له القول، بل لقد وصل بهم الأمر إلى السباب وهو يدعوهم إلى الإسلام؛ فوقف ليذيقهم بأس سيفه، ولكنهم كانوا قد أخذوا للأمر عدته من قبل،

ص: 86

فبينهم وبين كسيلة مؤامرة محكمة. وأقبل كسيلة في هذا الموقف الذي يطيش فيه الكمى، فأصبح عقبة بين نارين: الروم من ورائه والبربر الأشداء من أمامه؛ ولكن قلبه لم يخلق له الفزع؛ تقدم ليلقى كسيلة ففر ريثما يتكاثر حوله البربر؛ وبلغه حينئذ من أبي المهاجر أنه ينشد في وثاقه:

كفى حزَناً أن ترتدي الخيل بالقنا

وأترك مشدوداً علي وثاقيا

إذا قمت عناني الحديد وأغلقت

مصارع من دوني تصم المناديا

سمع عقبة ذلك فغلبت عليه شيمته العربية وأطلق خصمه من وثاقه وقال له: (الحق بالمسلمين وقم على أمرهم وأنا أغتنم الشهادة)! ولكن أبا المهاجر يطمع في الشهادة كما يطمع عقبة فوقف يقاتل تحت لوائه، وكسر البطل المجاهد عقبة غمد سيفه على ركبتيه وحمل على الأعداء، واحتذى العرب حذوه وتكاثرت جموع الروم والبربر، ودارت رحى الحرب والتمعت البيض، وبرقت الأسنة، وتطاير العثير، وعلا الضجيج، وطاب الموت في سبيل الله، وانجلت الغمرة فإذا العرب جثث طريحة لم يفلت منهم إلا من أسر؛ واغتنم عقبة الشهادة، واغتنمها معه أبو المهاجر. وعرف ذلك البطل كيف يموت ميتة لا يدرك معناها إلا البسلاء

الخفيف

ص: 87

‌قبل انبثاق الفجر

للأستاذ محمد سعيد العريان

- (أبي!)

- (سلمان!)

- (ما أريد يا أبي أن أكون بعد اليوم قطين النار!)

- (وَيْ! ما تقول يا بني؟ لقد نذرتك للنار قبل أن تخرج إلى الحياة فأنت هبة الرب إلى أبيك، وأنت وفائي للرب بما نذرت. أضلالاً بعد هدى، وكفراً بعد إيمان. . .؟)

- (إن روحي لتتمرد على هذه العبودية؛ فما أرى هذه النار المعبودة تملك لي نفعاً أو تمنعه؛ إنني أنا أوقدها وأذكيها، ولو شئت لصببت عليها ذنوباً من ماء يردها رماداً رطبا!)

- (أي بني، إنه دينك ودين آبائك. أي نازية نزت بك فتمردت على ربك؟)

- (هيهات مني ما تريد يا أبي، وبرغمي هذا العصيان! إن في السماء إلهاً يقتضيني حقه من العبادة والتقديس، وإن صوته ليهتف بي في سدفة الليل، وفي وحدة القلق، وفي ظلمة اليأس؛ فما أجد لي طاقة على الإفلات من صوت الله. . .!)

جثا الشيخ الأصبهاني بين يدي ربه مطأطئاً رأسه في ذلة وانكسار، وبسط ذراعيه إلى النار في ضراعة واسترحام يسأل الهدى لولده الذي يؤثره بالحب من دون ما يتمتع به من زينة الحياة. وراح اللهب المتراقص يعكس على وجهه المتغضن أضواء تكشف عما يعتلج في نفس الشيخ من حسرة وأسى

وعلى مقربة من مجلس الشيخ جلس فتاه الأمرد (سلمان) معتمداً رأسه بين راحتيه وسبح في أحلامه. كان ما يزال يرن في أذنيه صدى تلك الأنغام الندية التي سمعها منذ قريب في معبد المسيحية على أطراف المدينة، فشغل بها عما أرسله أبوه لقضائه من حاجته. . . وهفت نفس الفتى إلى زورة ثانية لرهبان المعبد، يستمتع فيها بما استمتع منذ ليال من عذب الأناشيد وحلو النغم، وبما يسمع من أحاديث الرهبان عن الرب الموجود في كل مكان ولا تراه العين. . .

وغدا الفتى مع الصبح على الكنيسة، يشهد مع الرهبان صلاتهم ويستمع إلى أناشيدهم. لقد عاش قطين النار في المجوسية بضع عشرة سنة لم يحس فيها بمثل هذا الجلال الروحاني

ص: 88

الذي يغمره وهو يستمع إلى أناشيد النصرانية بين جدران هذا المعبد القائم على حدود الصحراء. فما فرغ الرهبان من صلاتهم حتى دلف الفتى إلى كبيرهم يسأله أن يعقد بينه وبين هذا الدين آصرة. . . وربت الراهب على كتف الفتى وهو يقول: (لله هذا الإيمان في فتى مثلك ريان لم تفتنه مباهج الحياة عن معرفة الرب الأعظم. . ما اسمك يا فتى؟)

- (سلمان الفارسي!)

- (ليباركك الله يا سلمان وليمنحك التوفيق والهدى!)

واعتنق سلمان النصرانية عن إيمان وتقى؛ ولكن الفتى لم يقنع بما أفاء الله عليه حتى يعرف أين أصل هذا الدين فيسعى إليه

وفارق الفتى أصبهان وخلف وراءه مولده ومرباه وأباً له جاه وسلطان ومال، لم يكن أحد أحب إليه من ولده. وتلفت الفتى إلى وراء، فتحدرت على خديه دمعتان وهو يقول:(وداعاً يا بلادي الحبيبة، وداعاً لا أدري متى ألقاك منه إلا أن يأذن الله. . .!) وتلاشت آخر كلماته في زفرة حزينة، ثم طأطأ رأسه ومسح دمعته وأستأنف سيره إلى دمشق، إلى حيث يعرف أصل هذا الدين. . .

والتقى سلمان وأسقف الكنيسة في دمشق، فلزمه يستمع إليه ويأخذ عنه ويصلي معه؛ ولكن سلمان لم يجد في الأسقف ما كان ينتظر أن يجد في رجل نذر نفسه لله؛ لقد كان رجل سوء يأمر بالصدقة ويرغب فيها، فإذا اجتمع إليه شيء منها اكتنزه لنفسه فلا يتصدق به، فإن المال عنده لأكداس، وإن المساكين لعلى الأبواب يستندون الأكف ويبيتون على الطوى؟

وضاقت نفس الفتى بما وجدت فلم يجد حيلة لنفسه مما يرهق نفسه؛ لقد فر من المجوسية إلى دين البر والرحمة والسلام، فما وجد عند أهله شيئاً من البر والرحمة والسلام؛ وعاد التمرد إلى الفتى وشغلته أشجانه فما يستبين طريق الرشاد. . .

- (أي ربي، إنك لتسمع دعائي، وإني لأراك في قلبي، ولكني لا أجد سبيلاً إليك. في بيت النار سلخت بضعة عشر عاماً من الشباب ألتمس الزلفى إليك بين البخور واللهب فما بلغت إليك؛ وفي معبد المسيحية بين الهيكل والصليب وتماثيل القديسين ركعت ألتمس الزلفى إليك فما بلغت إليك. . . تنزهت يا رب أن تأمر بعبادة النار وإنها لجمر ودخان، وتقدست يا إلهي أن تكون عبادتي لك سجوداً للتصاوير وركوعاً للصليب، وخشوعاً لتمثال العذراء،

ص: 89

وحرصاً على جمع المال في القلال ليحرم منه الفقير والمسكين. . .!)

(ربي، سألتك الهدى فأنر سبيلي!)

وكانت الفتنة تعصف عصفها في كل مكان، والشهوات يتسلط سلطانها على كل نفس؛ والناس في الشرق والغرب، في فارس وقسطنطينية، وفي بغداد ودمشق، وفي الحبشة وبلاد العرب، تعيش عيش البهم: لا وازع من دين، ولا حرج من ظلم؛ فلم ينج من فتنة الشهوات إلا من عصم الله. . . والفتى (سلمان) من أشجانه في همّ ناصب، يتوزعه الشك واليقين، ويتعاوره الإيمان والكفر، ويراوح القلق بين نفسيه في وحدته واجتماعه؛ فما يجد له منجاة من أشجانه إلا الصبر والاستسلام حتى يجد لنفسه فرجاً من ضيق. . .

وكان ثمة أربعة من الرهبان جمعتهم على دين الرب عقيدة راسخة، وقلوب عامرة، وإيمان بالله وطيد؛ وكان لهم في كل عام مزار يجتمعون إليه أياماً ثم يذهب كل إلى واديه. كانوا من الصلاح والخير وصفاء النفس بقية من الحواريين المخلصين، عرفوا دين السلام عرفان الحق، فأقاموا على هدى المسيح خالصاً يعبدون الله لا شريك له؛ فاطمأنت نفوسهم على قلق الحياة، واستراحت قلوبهم على شغب الفتنة، فأصموا آذانهم عما ابتدع الرهبان في الدين وما زادوا ونقصوا، فبقوا على المسيحية الأولى حنفاء لله، يدعون إلى الله ما قدروا على الدعوة، أو يلزمون صوامعهم لتسبيح الديان

واستجاب الله دعاء (سلمان) فوصل بهم حبْله ليهدوه سبيل الرشاد

كانوا أربعة تفرقت بهم البلاد: فراهب في دمشق، وراهب في الموصل، وثالث في نصيبين، ورابع في عمُّورية من أرض الروم. قد تقدمت بهم السن حتى أشرفوا على الآخرة، ولكنهم جِدُّ حِراصٍ على الحياة، لأن لهم في الحياة أمنية موروثة يستشرفون إليها من بعيد

ولقي (سلمان الأصبهاني) أولهم في دمشق فلزمه، فلما صفا بينهما المورد جلس الراهب يتحدث إلى فتاه:

- (أيْ بنيّ، إنها فتنة الحياة للأحياء، ولكن صبراً صبراً يا بني؛ إن شعاعة من النور تلوح من بعيد، وإنه ليوشك أن يشرق بعدها صبح أزهر. هنا من هذه الصحراء سينبثق النور الأعظم الذي يغمر الدنيا ويشرق بالخير والسلام على البشرية كلها، إنه نبي قد أظل زمانه.

ص: 90

يا ليتني فيها جذع. . .!)

وانتفض الفتى وقد غمرته موجة من السرور فهزت أعطافه فمال على الراهب وقد أمسك بكلتا يديه يهزهما في فرح ونشوة وهو يقول:

(. . . نبيّ قد أظلّ زمانه؟ من هذه البادية؟ حدثني يا أبي إن حديثك لينفذ إلى قلبي بكل مسرات الحياة:)

وابتسم الراهب وربت على ظهر الفتى وهو يقول: (صبراً، صبراً يا بنيَّ. . . إن حديث هذا النبي لمسطور في فؤادي، وإني به لمؤمن قبل مبعثه، إنها لأمنية الحياة يا بني أن أعيش حتى أراه. . .!)

ولكن الراهب الشيخ لم تمهله المنية حتى يحقق أمله، فلم يلبث أن ذهب إلى ربه!

عاد السلام والأمن إلى قلب الفتى الفارسي، وتقشعت ظلمات الشك والحيرة في نفسه، ولكن الأمل الجديد الذي بعثته في نفسه كلمات الشيخ لم تدعه له أن يستقر، فقرر رحلة ثانية من دمشق لعله يعرف جديداً من راهب الموصل عن النبي الذي أتى وقته ليرسم للإنسانية الضالة حدود سعادتها في معاني البر والرحمة والمساواة!

فتىً لدْن العود غض الإهاب، يهاجر هجرتين في سبيل الله، من أصبهان إلى دمشق، ومن دمشق إلى الموصل، وليس معه مال ولا زاد، إلا الإيمان والتقى وقلب عامر بمحبة الله؛ وقد خلف وراءه المال والأهل والسيادة، وأباً لم يكن أحد أحب إليه من ولده!

- (سيدي!)

- (ممن أنت يا فتى؟ إن في وجهك لَنَضْرةَ أبناء الدهاقين والسادة؛ ولكن عليك من وعثاء السفر مثل أبناء السبيل!)

- (سيدي!. . .)

- سمعاً يا بني!)

- (أنا رسول (فلان) إليك - يرحمه الله - أفتأذن لي أن أقيم عندك لآخذ عنك من أمور ديني. . .؟)

- (سهلاً وكرامة يا ولدي، بارك الله عليك!)

- (أبي، إن الفتنة لتعصف عصفها، وإن شهوات الناس لتبلغ بهم مبلغ الحيوان، أفترى

ص: 91

للإنسانية منقذاً من ضلالتها يهديها سواء السبيل؟)

- (أراك تعرف بعض ما أعرف يا بني؛ وإنك لتستشرف إلى أمل قريب. إن نبيَّا قد أظلّ أوانه، إن لم يكن فكأن قد. . . يا ليت لي فسحة في العمر حتى أراه فأومن به! إن موجة الإصلاح ستمد مدها عما قريب من هذه الجزيرة العربية حتى تفيض على البشرية جميعها من برها خيراً ورحمة، وستغسل هذه الموجة أدران البشرية وتمسح على قلبها بالطهر القدسي حتى يمتلئ العالم سلاماً ومحبة. . .

(سيمتد بك العمر يا بني - إن شاء الله - حتى ترى هذا النبي، فلا تتلبثْ في اتباع دعوته، إنه يدعو إلى خير الدنيا وخير الآخرة. . . أتراك ستعرفه يا بني حين تلقاه إن وصفتُ لك من خبره. . .؟)

وآثر راهب الموصل جوارَ الله، وخلف الفتى الفارسيَّ وليس معه إلا ربه؛ فأزمع الرحلة ثالثة إلى نصيبين

وأقام (سلمان) عند راهب نصيبين ما شاء الله أن يقيم، لا يشغله من دنياه إلا ذكر الله، وأمل جياش يخفق به قلبه الكبير، أن يرى ذلك النبي الكريم الذي تُنميه الصحراء لينشر الخصب والرخاء في ربوع البشرية ويغسل نفوس الإنسانية من أدران الشهوات

ثم هاجر هجرته الرابعة إلى عَمُّورية بعدما فارق صاحب نصيبين إلى جوار ربه. . .

(. . . أي بنيّ، والله ما أعلم اليوم أحداً على مثل ما كنا عليه من الناس آمرك أن تأتيه بعدي، ولكنه قد أظل زمان نبي، وهو مبعوث بدين إبراهيم عليه السلام يخرج بأرض العرب، مهاجَرُه إلى أرض بين حَرَّتين، بينهما نخل به علامات لا تخفى، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، وبين كتفيه خاتم النبوة. فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل. . .)

وأقام سلمانُ بأرض عمورية ما شاء الله وهو يعمل لمعاشه، وإن الأمل العذب في لقاء النبي العربي ليداعبه في يقظته وفي أحلامه؛ واجتمع له مما يعمل بقرات وغنيمة، فظل يترّبص حتى مر به نفر من تجار العرب، فساومهم أن يعطيهم بقراته وغنيمته ويحملوه إلى بلاد العرب. . . وسار الركب منطلقاً إلى الصحراء يحمل سلمان إلى أرض الميعاد. . .!

يا للفتى مما احتمل في سبيل الله!

خمس رحلات بلا زاد ولا مال، وليس له من أمل في دنياه إلا ربه، وكل شأن من شئون

ص: 92

الحياة يتصاغر في عينيه حتى أهله ووطنه وجاه أبيه. . .!

العثير تثيره الرياح إلى الحلقوم والخياشيم، وذرات الرمل الساخنة تلطم الوجوه بمثل أطراف الإبر، والشمس الحارة ترسل من أشعتها سهاماً من نار تشوي الوجوه والأقفاء، والماء في القرب يوشك أن يجف من حر الصحراء، والحادي يحدو البُعْران في طريق لم يذلَّل بعد للأسفار، والفتى على بعيره شارد الفكر مذهوب اللب. . .

هذه رحلته الخامسة في سبيل الله، وقد خلف الدنيا كلها وراءه لا يقيم لها وزناً ولا تخطر له على بال، لأنه مقبل على مهبط الوحي وأرض النبّوة. . . والحادي يحدو وفي نبراته حنين، وفي نغماته حزن وأسى؛ فهتف الفتى وقد هاج الحداءُ ذكرياته:

(يا لأبي الشيخ المسكين! يا لوطني الذي فارقته منذ سنوات ولا أدري متى أعود إليه. . .! ربّ، في سبيلك هجرتي وإليك وجهت وجهي، فاكتب لي الكرامة والظفر بلقاء نبيك المختار، وأسبغ رحمتك يا رب على أصبهان. إن في أصبهان أبي. . . وإن لي بأصبهان هوى الحبيب إلى الحبيب. . .!)

ومضى الركب إلى غايته، فلما بلغ وادي القرى، همس الركب بعضهم إلى بعض يتآمرون على الفتى الفارسيّ؛ فباعوه من رجل يهودي عبداً. . .!

لقد بلغوا بالفتى حيث أراد ولكنهم جعلوا غُلاًّ في رقبته، والفتى راضٍ صابر، لأنه مؤمن بقضاء الله، لأن له أملاً يريد أن يبلغ إليه فلا عليه مما يناله في سبيله. . . رحمة الله له!

وأرسل الفتى أذنه وراء كل أثنين يتهامسان، لعله يسمع نبأً عن النبي العربي. . . وبلغ في النهاية ما أراد: هذه هي الأرض الموعودة، أرض بين حَرَّتين، بينهما نخل به علامات لا تخفى. إنها هي، فأين هو؟ فإنه لفي رأس عزق يعمل فيه ذات يوم لسيده بعض العمل، وسيده جالس تحته، إذ جاءه النبأ:

هذا رجل قادم يتحدث إلى سيده حديثاً ذا بال: (إن بني فلانة مجتمعون اليوم بقباء على رجل قدم عليهم من مكة يزعم أنه نبي. . .!)

يا للبشرى! أيكون هو النبي الموعود؟

وسمعها الفتى فانتفض انتفاضة أوشك منها أن يسقط على سيده، فما هو إلا أن تمالك حتى نزل عن النخلة يستمع النبأ

ص: 93

- (ماذا تقول يا رجل؟)

هكذا أقبل سلمان على القادم يستنبئه وإن سيده ليشهد. فما إن سمعه يسأل حتى غضب فلكمه لكمة شديدة وهو يقول:

(ما لك ولهذا؟ أقبل على عملك!)

قال سلمان: (لا شيء، إنما أردت أن أستثبته عما قال!)

ثم دار على عقبه ليخفي عبرة تنحدر على خده، وإن صدره ليجيش بعواطف شتى. فلما كان المساء جمع شيئاً من طعام كان له ثم ذهب إلى محمد بقباء:

(سيدي، إنه قد بلغني أنك رجل صالح، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم. . .!)

وتناول النبي الكريم من يد الفتى الفارسي ما قدّم إليه، فدفعه لأصحابه لم يأخذ شيئاُ منه. وتحققت للفتى أمارة. . .

ثم انصرف الفتى فجمع شيئاً وعاد إلى رسول الله يقول:

(سيدي، إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة، فهذه هدية أكرمتك بها. . .!)

فمد النبي إليها يده فأكل وأكل أصحابه معه. وتحققت أمارة. . .

وطغى شعور الفرح على سلمان حتى أنساه قيد الرق وذل الإسار، فسار خلف النبي يتبعه لينظر منه شيئاً قد بقي من إمارات النبوة. فإن النبي ليمشي إذ انحسر رداؤه عن ظهره فرأى. . .

وتحقق الوعد المأمول فما تلبّث الفتى حتى أكب على النبي الكريم يقبله ويبكي. . .

وآمن سلمان الفارسي بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم. وانبثق الفجر الذي كان يرقب شروقه منذ سنوات وسنوات، وأضاء في قلبه النور الذي غمر البشرية كلها فحدَّد لها حدود سعادتها ورسم لها غايتها. ولم يمت سلمان حتى انتشر الصبح وأشرق على ربوع فارس وأصبهان، وانتظمتها الدولة الإسلامية فصارت جزءاً من الوطن الإسلامي الذي يعيش فيه سلمان الفارسي

ومازال النور ينتشر وينشر حتى عم أقطار الأرض. ومات محمد بن عبد الله ولكن شريعته ظلت باقية تمدُّ مدَّها ذات اليمين وذات الشمال، حتى عبرت المحيط، وجازت الجبال،

ص: 94

وحطَّمت الحدود، وأزالت السدود، ورسمت حدود (الدولة الإنسانية) التي مازال المصلحون يعملون جاهدين ليبلغوا إلى تحقيقها كي يعم السلامُ الأرض وينتشر الأمن والرخاء؛ ولن يبلغوا إلى تحقيق هذه (الوحدة الإنسانية) إلا أن يعملوا على شريعة محمد. حينئذ تمَّحى الجنسيات، وتزول العصبيات، ويذهب الطغيان، ويعيش الناس إخواناً متحابين كما ينبغي أن يعيش أبناء الإنسانية

(شبرا)

محمد سعيد العريان

ص: 95

‌البيئة الإسلامية

للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

يعجبني من عادة (الرسالة) في إخراج عددها الهجري الممتاز أنها توجه قراءها في أنحاء العالم الإسلامي العربي مرة في العام على الأقل إلى موضوع هو أجل ما ينبغي أن يشغل بال المسلم: موضوع الإسلام والحياة به وله والجهاد في سبيله

والمسلمون اليوم ينقصهم مذكر مؤثر يذكرهم بدين الله وبحقه عليهم: حق العمل وحق الجهاد. والعمل هو من الجهاد أو هو أكبره كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رجع من إحدى غزواته: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) والمسلمون اليوم قد أضاعوا الجهادين، فلا هم يجاهدون العدو فيؤدوا الجهاد الأصغر، ولا هم يجاهدون النفس ويقومون بحق الله في أنفسهم وفي الناس فيؤدوا الجهاد الأكبر. وليس ينقص المسلمين العلم بما عليهم لله في أنفسهم وفي إخوانهم، فإنهم يعلمون من ذلك ما إن عملوا به لكفاهم، ولكن ينقصهم العمل بما عندهم من العلم المستفيض فيهم

والعجيب من أمرهم اليوم أنه لا يحول بينهم وبين العمل المنجي إلا صغائر الشهوة يعجزون عن مخالفتها، وحقائر المغريات يضعفون عن مقاومتها. وأعجب من هذا أن كثيرين منهم حين يطيعون المغريات يظنون بأنفسهم الحكمة ويحسبون أنهم يتابعون الصواب. وهذا شر ما في الأمر كله وأفظعه وأهوله، فإنه يدل على مبلغ بعدهم عن الدين الذي ينتسبون إليه وقربهم من الشرك الذي يبرأون منه؛ وظنهم هذا بأنفسهم يزيد في يأس اليائس منهم ويجعل عبء المتصدي لهدايتهم ثقيلاً لا يقوم به من ولي العزم إلا من يلحظه الله بتوفيق وتأييد

وعبء رد العاصي إلى الطاعة والضال إلى الهدى والمخطئ إلى الصواب عبء ثقيل على أي حال، لكن شتان بين من يقر بخطئه أو بمعصيته يود لو خرج من كل ذلك، وبين من يجادل فيما هو عليه لا يرى به بأساً إن لم يره عين الخير. فالأول ليس بينه وبين الطاعة أو الهدى أو الصواب إلا العادة، وليس أمام الداعي إلا أن يحرك فيه دواعي التغلب على العادة ويدله على الطريق حتى يتغلب بالفعل، فتنقلب العادة عوناً له بعد أن كانت عوناً عليه. أما الآخر فأصعب الصعب في أمره إقناعه بخطئه أو ضلاله، وتحريك عوامل

ص: 96

الأسف والندم فيه حتى يصبح كأخيه ليس بينه وبين الاستقامة إلا أن يجاهد العادة حتى يصبح سلطانها معه بعد أن كان عليه

والصنف الأخير من المسلمين قد أخذ يكثر كثرة تضيق منها الصدور وترتاع لها القلوب، ولم يكن الحال كذلك منذ ثلاثين عاماً أو أقل. كان هذا الصنف موجوداً لكنه كان قليل العدد قليل الجرأة خافت الصوت؛ وكان ما يسمى بالرأي العام ضدهم إذ ذاك في الجملة؛ كان يدعهم وشأنهم ماداموا منزوين، لكنهم كانوا إذا حاولوا الظهور ولو باسم الإصلاح والتجديد لقوا منه عنتاً غير قليل

والرأي العام ليس وليد نفسه، ولكنه وليد بيئته. ولقد كانت البيئة في ذلك الحين لا تزال دينية الروح إسلامية النزعة إلى حد كبير؛ لكنها الآن قد تغير روحها وانعكست الآية فيها في المدن، ويوشك هذا التغير أن يتخطى المدن إلى القرى على أمواج الراديو وأفلام السينما وصفحات الصحف ولو بالتدريج. فهذه الثلاثة هي أهم مكونات البيئة اليوم، وقليل منها الآن ما لا يمكن أن يوصف بأن فيه من الإسلامية كثيراً أو قليلا

فالسينما أكثر أفلامها مصنوع في الغرب وأقلها مصنوع في الشرق. ومع أن هذا الأقل مصنوع في مصر التي تطمع أن تتزعم الأقطار الإسلامية إلى الخير والعزة والمجد، فإنه وذلك الأكثر المصنوع في الغرب سواء في مجافاته للدين ومنافاته لما يليق، بل قد يبذ الشرقي الغربي في ذلك كعادته في الإفراط والتفريط. لا يكاد الوالد الحريص يجد بين جميع ما يعرض في مصر من الأفلام ما يمكن أن يروح عن أولاده بأخذهم إليه من غير أن يعرضهم بذلك إلى تلويث الذهن وتدنيس الخاطر. بل لقد أصبحت السينما وخصوصاً ما تخرجه مصر من أفلامها خطراً حقيقياً على الأخلاق في هذا القطر وما يتأسى به من الأقطار. فلقد كانت هناك مسارح للتهتك والخلاعة منزوية في أماكنها التي كنا نحذرها ونحن صغار، فأصبحنا وليس يغني التحذير من مفاسدها شيئاً بعد أن أعطتها صناعة السينما قوة التكاثر كما تتكاثر الجراثيم فصارت تنتشر بأفلامها في المدن والقرى، تنشر عدوى الفساد الخلقي كما تنتقل الجراثيم فتنشر عدوى الأمراض

وما يقال في تأثير السينما يمكن أن يقال في مثله تأثير الراديو مع اختلاف في المقدار. فهو كالسينما من العوامل الفعالة الطارئة على البيئة الإسلامية، وهو جدير أن يغير منها إما إلى

ص: 97

الخير وإما إلى الشر، ولكنه الآن إلى الشر أقرب. فإنك إذا استثنيت ما يذاع من القرآن الكريم والقليل من محاضرات الإرشاد، تجد الغالب على إذاعاته المجون والخنوثة والاستهتار. خذ بيدك أي برنامج عادي للإذاعة في أي يوم واحسب ما للهزل فيه وما للجد، تجد ما للهزل أضعاف ما للجد، وتجد أكثر هزله هزلاً غير بريء، بل بعض جده جداً غير بريء كذلك

على أن المصيبة بالراديو أعظم من المصيبة بالسينما من بعض الوجوه، فإنك تستطيع أن تتقي شر السينما خاصة نفسك بالقعود عن الذهاب بأولادك إليها، وإن كان في ذلك شيء من العنت. لكن ماذا تصنع وهذا الذي تتهرب منه بحرمان نفسك من تسلية السينما يدخل عليك وسط دارك من الراديو وأنت بين أهلك وذويك؟ إن مجون الريحاني وأضرابه وخلاعة مصابني وأضرابها تلاحق المسلم بالراديو في عقر داره. وإذا أمكن التحرز من ذلك إلى حين بإغلاق الراديو فلابد أن يأتي يوم يمل الإنسان فيه الرقابة، ويترك الراديو كالورد الخبيث مل الراعي ذود القطيع عنه. على أن المسألة ليست مسألة فرد أو أفراد يعرفون الخطر ويستطيعون توقيه بشيء من كبت الرغبة وضبط النفس، ولكن المسألة مسألة الجماهير التي لا تستطيع تمييزاً ولا امتناعا. فإذا لم يكن ما يذيع الراديو سليماً طيباً كان الراديو شراً ووبالاً على الناس ينقلهم خلسة عما ألفوا من الخير إلى ما لا يريدون أن يألفوا من الشر ومذاهبه، وينبه فيهم من نزعات السوء ما لم يكن لولا الراديو ليتنبه فيهم. والراديو الآن يخلط الصالح بالسيئ إلا أن سيئه أكثر من صالحه، وهو على أي حال كان إلى الآن عاملاً على تغيير البيئة في الأقطار الإسلامية تغييراً يبعد بها عن الإسلام

وغير الراديو والسينما من مكونات البيئة الحديثة ينحو منحاهما وإن لم يبلغ مبلغهما من القوة والذيوع. ولعل أهم هذه هي الصحف وهي مثلهما قوة هائلة تعمل في كيان البيئة، إما بتعمير وإما بتدمير. ولقد كان عهد ليس للصحف في البيئة الإسلامية من أثر، ثم جاءت الصحف وعرفها الناس لكنها في أول عهدها لم تكن تجرؤ على الخروج عن مألوف الناس من فضيلة ودين. بل لقد كانت الكلمة العليا بين الصحف إذ ذاك للإسلامية منها أيام كان المؤيد واللواء ليس لهما في ميدان الصحافة قريع. وكانا رحم الله أيامها وعوض المسلمين خيراً منهما مهما اختلف بهما يبل السياسة لا تختلف بهما سبيل الدين. فكانا لا يكادان

ص: 98

يشيمان الخطر على الدين من ناحية ولو من بعيد حتى يهبا لاتقائه وتنبيه الناس إلى الاستعداد له قبل وقوعه. ثم ذهبت بهما الأيام فكأنما ذهبت بذهابهما ريح الدعوة لله والمنافحة عن الإسلام. وكثرت الصحف حتى صارت عشرات بعد آحاد، لكنها كانت حرباً على الإسلام في غالبها. كانت بين مهاجم له ومعين عليه بالسكوت أو بنشر الرد الضعيف بعد الهجوم العنيف؛ وقل بينها ما كان يهب للدفاع حيناً بعد حين. أما الثبات في الدفاع والصمود للخصم صمود المؤيد مثلا لرينان وهانوتو فلم يكن في القائمين على الصحف الإسلامية من يجشم نفسه ذلك. وكان من أثر توالي الهجوم وتلكؤ الدفاع أن دخل الخصم من حصون البيئة الإسلامية حصناً بعد حصن. فذهب الحجاب وكأنما ذهب بذهابه الحياء؛ وجاء السفور وكأنما جاء بمجيئه الفجور. وكان الفجور يكاد يكون وقفاً على الرجال فأصبحوا بعد أن فشا الرقص والاختلاط يغلبهم عليه النساء

إنا لله. لشد ما غفل عن دينهم المسلمون حتى أتوا من حيث يحتسبون ومن حيث لا يحتسبون! ماذا كان عليهم لو أنهم عملوا بدينهم وأطاعوه فكفوا أنفسهم كل هذه المصايب والويلات؟ إن الرجل اليوم ليأمر ابنه فلا يسمع له، ولا يجرؤ على أن يأمر ابنته خوفاً من أن تجترئ وتجاهر بالعصيان، كأنما إقراره إياها على خطأ لا يجعلها ترتكب غيره من الأخطاء، أو كأنما مجاراته إياها فيما لا يرضي الدين سيجنبها الهوة التي لابد أن يتردى فيها كل من يعصي الدين

لقد كانت البيئة الاجتماعية يغلب عليها الشر قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام طفق يجتث منها أصول الفساد، وطفق يصلح ويهذب ويطهر حتى ذهب عنها الرجس، وشاع فيها الطهر، وعم فيها النور؛ وأصبحت من ينشأ فيها ينشأ سليماً صحيحاً قويماً كالزرع في التربة الطيبة يأتيه النور من كل مكان. ثم أراد الله الذي يعلم أن الإنسان ابن بيئته أن يديم للإنسان نعمة إصلاحها فأقام حولها وفيها الحدود حداً بعد حد كحصن اجتماعي بعد حصن يقيها تطرق الفساد. فجلد على الخمر، وجلد ورجم على الزنا، وحرم الخلوة ومنع الاختلاط إلا للضرورة، واحتاط في المنع فضرب الحجاب. وقطع يد السارق بعد أن منع الربا، وأوجب الزكاة. فكانت بيئة طاهرة زكية يزكو فيها النشء كما يزكو النبات في البلد الطيب. فلما أصلحها للناس أمرهم أن يحافظوا على صلاحها بالأمر بالمعروف والنهي عن

ص: 99

المنكر وإقامة الحدود، وأنزل عليهم (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين) فأحسنوا وأطاعوا ما أقام بينهم الرسول. فلما علم صلى الله عليه وسلم أنه مفارقهم عن قريب حج بهم حجة الوداع وخطبهم خطبة الوداع التي لا يكاد يحفظها الآن مسلم:

(أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا

أيها الناس! إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. . .

أيها الناس! إنما المؤمنون اخوة فلا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفسه. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. فلا ترجعن بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا بعده: كتاب الله وسنة نبيه. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. . .)

هذا بعض ما عهد الرسول به إلى المسلمين في ذلك الموقف العظيم. فلما قبض صلى الله عليه وسلم أحسن المسلمون خلافته وأحسنوا السمع والطاعة لله ولرسوله وللخليفة الأول ومن بعده؛ وسار فيهم رضي الله عنه متأس بالرسول، حاملا أيهم على الحق ضارب لهم المثل بنفسه، جاعلاً طاعة الله أول الأمر وأخره (أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم. ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه)

فلما قبض رضي الله عنه خلفه في المسلمين من كان يرعاهم رعي الأم ولدها، ويذودهم عن المهالك ذود الراعي غنمه (اقدعوا هذه النفوس عن شهواتها فإنها طلعة، فإنكم إلا تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية. إن هذا الحق ثقيل مرئ، وإن الباطل خفيف وبيء؛ وترك الخطيئة خير من معالجة التوبة، ورب نظرة زرعت شهوة، وشهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً). وكان أكبر ما يحرص عليه رضي الله عنه ألا يتطرق إلى البيئة الإسلامية خلل أو فساد وأن بقي ضعيف النفس من المسلمين شر المغريات، حتى أنه لما سمع المتمنية تتمنى نصر بن حجاج دعا به، فلما رآه نفاه من الأرض، وأمر ألا يغيب رجل في الغزو عن بيته فوق أربعة أشهر كما أمر ألا ينزل المسلمون منازل المترفين في البلاد التي يفتحونها مخافة أن يخرجوا من أخلاقهم شيئاً فشيئاً إذا اختلفت بهم البيئات

ص: 100

ثم كان أن جاءت الفتن وتغير الحال ووجد الشيطان سبيلاً إلى تلك البيئة الإسلامية المصونة عن طريق الهوى. وترخص الخلفاء بعد عهد الراشدين واحتالوا على الجمع بين هواهم وبين الدين، وهيهات؛ فكان منهم من امتُدح وتمنى المادح عليه ألا يُحد في الخمر فقال ذلك حد من حدود الله لا سبيل إلى إبطاله، ولكن سأحتال لك فكتب إلى عامله على بلد الشاعر المتهتك: من أتاك بابن هرمة سكران فاجلده مائة واجلد ابن هرمة ثمانين! وظن ذلك الأحمق أنه لم يبطل حد الله حين أفتاه شيطانه بهذا وقد أبطله بالفعل أيما إبطال إذ كان الناس يمرون على ابن هرمة مطروحاً فلا يمسونه ويقولون: من يشتري ثمانين بمائة؟ ومع ذلك فقد كان ذلك الخليفة العباسي يوصف بفقه ويلحق بالعلماء

مثل هذا النوع من الحكام وهذا الضرب من الاحتيال على إبطال أحكام الله حين تخالف منهم هوى أو شهوة هو الذي أفسد البيئة الإسلامية بعد إصلاحها، ففسد بفسادها الناس، فذهبت عنهم العزة وذهب ملكهم عن أقطار استعمرها آباؤهم بالدين والحسن الطاعة لله والنزول على أمره. ولن يستقيم للناس حال حتى ترد البيئة إسلامية خالصة كما كانت (يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله)

محمد أحمد الغمراوي

ص: 101

‌التصوير التوضيحي في المخطوطات الإسلامية

للدكتور أحمد موسى

أتى على الباحثين في تاريخ الآثار والفنون الإسلامية حين من الدهر قصروا فيه جهودهم على درس ما كان بارزاً من تلك الفنون للعيان في المباني والآثار الظاهرة ذات الوجود المادي الضخم، مما شاهدوه من المساجد والمنائر والعمائر وكل ما بناه رجال التاريخ الإسلامي ليتخذ مكاناً بيناً في نظر الحاكمين والمحكومين؛ لأن الفنون الجميلة كانت ذات صفة يأبه لها الملوك والأمراء ويجيزون عليها أربابها؛ فلم يكن للفنان المسلم مجال يظهر به الفن لعامة الشعب، بل كان كل همه أن يتقدم إلى ملك عظيم بثمرة نبوغه الفني ليكافئه عليها. كما أن الملوك اتخذوا عادة تشييد البناء وما يتبعها من التزيين والتزويق والتأثيث تخليداً لأسمائهم وذكر عهودهم وما اشتهروا به من الغنى والقدرة على تسخير المواهب في تمجيد الدين تارة والمجد الدنيوي تارة أخرى

وعندما انبرى مؤرخو الفنون الإسلامية إلى تقسيمها وتبويبها وتحديدها بعد انتشار الاستشراق في أنحاء أوربا المتحضرة، وبعد أن طاف فريق كبير من علماء المشرقيات بلاد الإسلام وعادوا بدراسات متوافرة ومثل للآثار التي وقعت أبصارهم عليها ودروسها في حواضر الشرق القريبة والبعيدة - طبق فريق منهم على تلك الفنون القواعد التي اتبعها علماء الفن الأوربي في ترتيب الآثار، فجعلوا أقساماً خاصة للعمارة، وأخرى للنحت والرسم البارز والحفر، وثالثة للتصوير وغيرها لأنواع التحلية والنقش والزخرفة

وكان هؤلاء العلماء يزعمون أن الدين الإسلامي يحرم التصوير مع أنهم رأوا آثاره، ومع أن الدين لم يكن ليمنع هذا الفن إلا من ناحية واحدة خشية أن يتجه التأويل إلى عبادة الأصنام. هذا وفي الوقت الذي لا يوجد فيه نص يتنافى مع تقدير الجمال الخالص الذي كانت نفس النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم مشبعة به، بدليل ما ورد من الآيات والأحاديث والتفاسير في تمجيده

وجعل المؤرخون همهم مقصوراً على تلك الآثار؛ ثم فحصوا كثيراً من المباني الإسلامية بزخارفها وما فيها من نجارة وقيشاني وأشغال المعادن؛ كذلك ما كان على الحلي والحلل وفي الأقمشة من الخز والديباج والإستبرق من تطريز وكتابة وصور. هذا إلى جانب

ص: 102

دواوين الشعر التي لم يجد المسلمون مانعاً من تحليتها بتصاوير عجيبة للنبات الذي اتخذوا منه وحدات زخرفية كالأزهار والسنابل والأشجار، والحيوان كالسباع والغزلان والظباء وطيور البر والبحر والأسماك. ولكنه لوحظ أن الفنان أمسك يده حينما وصل إلى تصوير الإنسان، لا خشية الكفر ولكن خشية الملام والفتنة. واستمر الإمساك عن تصوير الإنسان حيناً حتى ازدهر الإسلام في بغداد، فترى أحد المصورين من الفرس يزين قصر أحد الملوك المسلمين في بغداد بفصول من قصة يوسف وزليخا توضيحاً وشرحاً لديوان الشيرازي الذي جعل من تلك السورة القرآنية ملحمة شعرية أتى فيها على وصف الغرام الذي كان مستولياً على فؤاد تلك الأميرة المصرية نحو ذلك النبي العبري

إلا أن هناك جانباً من الفن الإسلامي لم يلتفت إليه كثيراً قد اهتدينا إليه، وهو ما زينت به كتب العلماء والمؤرخين والأدباء من الصور التوضيحية في الكتب. وكان أولها القرآن الكريم الذي بذلت الجهود في تزويقه وتزيينه وتحليته، وإن لم يكن بنصوصه في حاجة إلى التجميل والتزويق. ولا تزال نسخ عدة منه الزينة الكبرى والحلية المثلى لكثير من المتاحف ودور الكتب في الشرق والغرب، التي اتخذت وجوده فيها مفخرة وبهجة ودليلا على الغنى الفني والثروة الأدبية.

ولم يكن في استطاعة بعض المتزمتين من رجال التفسير أن يمنع فريقاً من الفنانين من إدخال التصوير في الكتب، بدليل ما جاء في مقامات بديع الزمان المتوفى سنة 1007م ومقامات الحريري (1054 - 1121م) التي تجلى فيها التصوير بالألوان لتمثيل مغامرات البطل المشهور أبي زيد السروجي وغيره

وشمل غيرهما من الكتب ككليلة ودمنة، وبعض أجزاء الأغاني للأصفهاني (897 - 967م) وألف ليلة وليلة، كثيراً من الصور الرائعة التي دلت إلى حد بعيد على الدقة والتذوق.

ولا يمكننا أن ننكر أن فناني الفرس كانوا أسبق إلى التصوير من سواهم؛ فقد أعطاهم الشعراء الفحول كالفردوسي المولود سنة 939م، وعمر الخيام المولود في القرن الحادي عشر، والسعدي (1184 - 1291م) وحافظ المتوفى سنة 1389م وغيرهم، موضوعات منوعة توحي إلى المصور فكرة الرسم لتوضيح النصوص. فالشاهنامة وحدها وهي تنطوي

ص: 103

على جزء عظيم من تاريخ إيران، أشبه شيء بإلياذة هوميروس، وفيها من أخبار الملوك والأمراء وخدع الحروب وحيل السياسة ووصف الأقطار ومواقع البلدان وجمال التصور وفتنة الجبال والوديان ما جعل التصوير فيها أمراً محتما. وكذلك ما ورد في شعر السعدي من النوادر والقصص في بستان الورد. دع عنك رباعيات الخيام وما اقتضته من تصاوير تمثل الشاعر الفنان المحب للخمر المفتون بالجمال المسحور برشاقة التكوين الجسماني، وهو يطرق باب الحان ليوقظ رفاقه لمعاقرة أقداح الشراب قبل بزوغ ألوان الفجر، فلم يكن للمصور بد من الخضوع لذلك الإلهام الشعري الموسيقي القوي في سبيل الحب واندفاع النفس. وهذا هو الذي حدا بالمصورين إلى تصوير الإنسان في أوضاع مختلفة أهمها أوضاع الحرب والحب، ولا أجمل من تلك الصورة التي رسمت توضيحاً لقول الشاعر:

لم يخلق الرحمن أجمل منظرا

من عاشقين على فراش واحد

لأن المصور قد أوتي من نقاوة الإلهام وطهارة الروح وسمو الخيال وتمجيد الجمال ما جعل صورته آية في العفة وجميل الظن مع اجتماع الحسن والشغف الظاهر في أعين العاشقين.

من أجل هذا كله وجب على القارئ كلما قلب بين يديه كتاباً إفرنجياً مصوراً أو مزيناً بالرسوم؛ أن يتذكر أن هذا الفن وهو توضيح النصوص بالتصاوير، إنما هو اقتباس من فن شرقي قبل كل شيء، وأن الذي فكر في تزيين دواوين الشعراء وكتب القصص والتاريخ بالصور كانوا من أهل الشرق كالهنود والفرس وبعض السوريين، في الوقت الذي لا ننكر فيه على بعض علماء اليونان أنهم وضحوا كتباً من تأليفهم برسوم تعين على فهم النصوص دون أن يكون لهذا أثر كبير في ابتكار المشارقة لفنون تحلية الكتب

وإننا لا نذكر أن هذا البحث لا يزال بكراً، لم تتجه إليه الأنظار ولم يطرقه باحث، كما أننا لا نذكر أنه كتلك الموضوعات التي سبق البحث فيها فلا تكلف كاتبها مجهوداً كبيراً، إنما نذكر أنه قد آن لنا أن نختط خطة أخرى في دراسة الآثار الإسلامية؛ فندرس الطريف الجديد

ولما كانت العلوم التطبيقية أول ما اتجه إليه نظرنا في هذا البحث، وكان أقدم الكتب المخطوطة في هذا الموضوع حسب ما عثرنا عليه، كتاب أبي زيد البلخي (نسبة إلى بلخ في جنوب أفغانستان) رأينا أن نبدأ بتعريف إحدى صوره وهي صورة العراق في زمانه،

ص: 104

والتي قصد بها أن تكون خريطة لتلك البلاد، وهي الخريطة التي اصطحبها ياقوت الحموي الإغريقي الأصل (1179 - 1299م) أثناء رحلته في سوريا وفلسطين كما ذكر ذلك في كتابه إرشاد الأريب، عندما نوء بذكر كتاب البلخي، مما يدل على قيمته في عهده

وقد جعل البلخي للأنهار صورة تشبه الخطوط الغليظة المهشرة رمزاً للماء، وأحاط المدن والمعالم بدائرة تحدد القطر المقصود بالوصف، ورسم نهر دجلة وسطه فقسم البلاد إلى قسمين، وأظهر مصبه في الخليج الفارسي عند شط العرب، ورمز للمدائن بمربعات ومتوازيات أضلاع ودوائر ذات مساحات مختلفة تناسبت على ما يظهر مع قيمتها المدنية، ولا يضيره أنه جعل الخريطة بأكملها منحرفة نحو خمس وأربعين درجة عن الأفق. ومن المدن الواضحة على الخريطة بغداد والبصرة كما يتضح من النظر إليها

والخريطة الثانية مختارة من كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق للشريف الإدريسي المولود حوالي عام 1100، وهو من أمهات الكتب في علم وصف الأرض ومن أبرزها تأليفاً وأعرقها أثراً منذ القرون الوسطى. وقد نقل إلى كثير من اللغات الأوربية لاسيما اللاتينية والإيطالية والفرنسية، وضعه الإدريسي تلبية لرغبة الملك رودريجو (روجر الثاني 1097 - 1154م) ملك صقلية ونابولي، الذي كلفه بعد دعوته إلى بلاطه وضع هذا الكتاب، وفرغ من تأليفه في منتصف القرن الثاني عشر المسيحي. والمؤلف عالم مغربي من مواليد ثغر سويتا، ذو ثقافة عربية أندلسية وذهن أوربي، وكان في مقدمة الرحالة الجغرافيين الذين جابوا الأقطار، وهو سابق على الرحالة ليفنجستون (1813 - 1873) والرحالة ستانلي (1841 - 1904) وغيرهما من الذين قرروا أنهم كانوا أول من اكتشف منابع النيل، ووضعوا هم ومن سبقهم أسماء ملوكهم وأمرائهم على البحيرات التي رسمها الإدريسي في إحدى خرائطه الفذة (ش2) لسبعة قرون قبل مولد هؤلاء المستكشفين. فبينما ترى بحيرتي فيكتوريا نيانزا (أصلها أوكاريو نيانزا) وألبرت نيانزا (أصلها موتان نزيجا) اللتين تتكونان من المياه المنحدرة من جبال القمر قد تغير اسمها في الجغرافية الحديثة، لا ترى الإدريسي يفكر في إطلاق أسماء بعض خلفاء المسلمين أو أمرائهم على تلك البحيرات التي لا يبعد أن يكون قد رآهما بعينه كما رسمها بيده، وترى نهر النيل بعد تدفقه من تلك البحيرات والتفافه في وادي السودان وعبوره القطر المصري ينصب في البحر الأبيض

ص: 105

المتوسط الذي هو جزء من بحر هائل أحاط بالخريطة الشاملة لبقع بيضاء تمثل الجزائر وأشباهها.

وإذا انتقلنا إلى فنون المقاتلة التي كانت ولا تزال شاغلة لأذهان الملوك، نجد سفراً شاملا لطرقها وقواعدها، اسمه كتاب السؤال والأمنية في أعمال الفروسية لمحمد بن زين الدين العثماني، يرجع تاريخ تأليفه إلى القرن الخامس عشر الميلادي، وهو مزين بتصاوير توضح فصوله. والصورة (ش3) تبين فارسين وقد امتطى كل منهما ظهر جواده وربط ذيل كل منهما بالآخر حتى لا يفترا ولا يبتعدا؛ فيتمكن كل فارس من مبارزة خصمه، ووقف الجوادان على أرض مزروعة ذات زهر، وكان المصور حريصاً على تجميل الخيل وسروجها كما تلاحظ على اللوحة

ومما يثبت نجاح المسلمين في العلوم الفلكية والميكانيكية التي بنى عليها فن التوقيت بالساعات بعد المزاول، ما نراه في الصورة الرابعة المنقولة من كتاب علم الساعات والعمل بها تأليف رضوان ابن محمد الخرساني، والتي تمثل دائرة عليها ساعات النهار الإثنتا عشرة، وساعات الليل نظيرتها في النصف الأعلى من الدائرة حيث ترى قنديلاً معلقاً بسلك رفيع. والى اليسار ثقلان معلقان بسلك آخر، أحدهما توسط ارتفاع الصورة، والآخر قريب من أسفلها، وهما متصلان بالسلك المرتكز على بكرة في الركن الأعلى الأيسر. وعند الثقل الأسفل طيراً كان المقصود منه أن ينقر بمنقاره لتحديد الوقت. أما المجاري الرفيعة التي توسطت الصورة حيث النقط البيضاء المستديرة، فهذه كانت طريقا لأثقال تمر منها في أوقات معينة، مارة بفتحة في رأس الطائر الذي ترى عند قدميه وعاء نصف مستدير لجمع هذه الأثقال

والصورة الخامسة مأخوذة من فصل من كتاب السر الروحاني في علم الكيمياء القديمة الذي يرجع تاريخ تأليفه إلى القرن السابع عشر الميلادي، وكتب فيها السويد في الطبايع في العمل الأول، وبالنظر إليها ترى رأس الغول في الركن الأعلى الأيسر، وهو عبارة عن وجه مستدير لآدمي له عينان واسعتان مستديرتان وأنف أفطس وأسنان فظيعة، والى جانبه عقاب واقف على قوس وآخر على شجرة مثمرة وهو أسود اللون، قال المؤلف:(وقد طار الناس من هذا السواد الأول، وأما الغراب الثاني فمنقاره أحمر)، وفي وسط الصورة على

ص: 106

اليسار ترى رجلا قد وقف إلى فرن، ووضع على غطاء أشبه بالقاووق وأمسك بيسراه شيئاً يخيل إلينا أنه بوتقة ليصهر فيها المعادن الخسيسة بقصد تحويلها إلى ذهب، وفي الوسط غراب أسود حالك السواد، وطير مقفص على اليسار. وعند ذيله وعلى يمين الصورة تشاهد حوضاً رقد فيه إنسان بعينين مفتوحتين ورسمت أعضاؤه بكيفية لا تخرج عن طريقة رسم التوصيلات الكهربائية اليوم، وكتب إلى جانب الحوض حمام مارية حيث تسلب روح الإنسان بطريقة السالب والموجب، أما الركن الأيسر فهو مليء بصور الآلات والأدوات إلى جانب الرموز الكيميائية القديمة

ينتج مما تقدم أننا قد اهتدينا بالبحث إلى باب جديد من الفنون الإسلامية تناولناه بشيء مبسط من التسجيل العلمي، لم تشرئب أعناقنا إلى قباب المساجد، ولا إلى رؤوس المآذن، ولا إلى سقف العمائر لنجده، ولكننا وجدناه في الكتب المهملة والكنوز المتروكة، حيث نجد في البحث والتنقيب عن معالم جديدة للحضارة الإسلامية المسجلة عن طريق الفن في مؤلفات المسلمين، الشاملة لعلوم الطب والجراحة والنبات والحيوان مما لا يتسع المجال هنا لذكره وإيضاحه. فإن كتبنا اليوم لنفتتح هذا البحث فإننا نكتب ليكون استهلالاً لسلسلة بحوث تدل على عظمة الحضارة الإسلامية عن طريق التسجيل الفني، مؤملين أن يتناول المسلمون في نهضتهم مؤلفات أجدادهم بتلك الروح التي تناول بها أهل أوربا؛ فيكون لنا بعث وإحياء لا يقلان عن بعث وإحياء أوربا في عصر الرفعة أو ما يمهد السبيل إلى نظيره

أحمد موسى

الحائز على دبلوم الدراسات العليا لتاريخ الفن العام

وإجازة الدراسة الأركيولوجية الإغريقية

ودكتوراه الفلسفة من جامعة برلين

ص: 107

‌قتيبة الباهلي

البطل الفاتح

للمستشرق الإنجليزي هـ. أ. ر. جب

الأستاذ بجامعة إكسفورد

إن انتصار الجيوش الإسلامية في آسيا الوسطى أيام عهد الوليد الأول إنما يرجع قبل كل شيء إلى التعاون التام بين عبقرية الحجاج الحكيمة ومهارة قتيبة الحربية. ولقد بولغ - من بعض النواحي - في كفاية قتيبة بن مسلم الباهلي في قيادته الجحافل، وإن كانت المصادر العربية لا تنكر الحقيقة الواضحة في أن مقدرته لا ترتكز كل الارتكاز على العبقرية. ويتجلى لنا مراراً كثيرة إلى أي مدى كان دؤوب الوالي على الاهتمام بتقدم جيوشه، وما كان يأخذ به نفسه من وضع خطة القتال، ولو أن فضل إظهارها وانتهائها بالنصر المؤزر يرجع في الحقيقة إلى قتيبة. ويظهر أن الحجاج كان كبير الثقة في قائده إلى غير حد، وكما أنه لم يكن ليتوانى عن تعنيفه ولومه وتحذيره إذا جد ما استدعى ذلك، كذلك كان لا يحجم عن إظهار تقديره لنجاح قتيبة. وسرعان ما أدرك العرب في جميع البقاع أن مقدرة الحجاج تشد من أزر قائدهم وإن استترت، فكان ذلك الإدراك مبعث كثير من هذه الهيبة التي حالت دون حدوث أي خلف في حياته

أما العامل الثاني الذي ساعد في الواقع على تلك الروح فقد كان ما قام به قتيبة خلال متابعته الفتح من توحيد جهات خراسان، وتأليفه الفرس والعرب، وقيس واليمن. ولم يكن من الهين عليه أن يستبقي حماسة جنده - التي لا يعرف التخاذل إليها سبيلاً - إزاء معارك طويلة الأجل حامية الوطيس، وهيهات أن يقصر تفسير هذا الحماس على أنه الرغبة في الغنيمة الوفيرة فحسب. وليس من البعيد أن يكون مرجع نجاح قتيبة في الغالب إلى مقدرته الإدارية أكثر من رجوعه إلى حكمة قيادته. ويظهر أنه أدرك أن استتباب سلامة ودعائم الحكومة العربية في ولاية كخراسان ينبغي أن يقوم - طوال حكمها - على تعاون الشعب الفارسي الذي يؤلف الغالبية العظمى في الإقليم: الأمر الذي لم يقم به حتى الآن أمير عربي في الشرق

ص: 108

ولقد أظهرت حدة النضال الحزبي عظيم الخطورة في الاعتماد على عون العرب فحسب، وعلى الأخص في وجه حركة كتلك التي أضرم لهيبها يزيد. ومن ثم فقد اكتسب قتيبة - بعمله الإيجابي هذا - ثقة الفرس وكافأها من جانبه بالثقة أيضاً. حتى ليكاد يخيل إلينا أنه باستعماله - طول حكمه - لموظفين من الفرس وتقديمه الولاة الإيرانيين إنما كان يعدهم (العشيرة) التي كان يحتاج إليها بين العرب. وعلى الرغم من أن ذلك قد جلب عليه سخط العرب وكان عاملا قوياً في إسقاطه، إلا أنه في ذلك كان أول دافع لإثارة الشعور باسترجاع العاطفة القومية في نفوس خراسان.

كذلك كان مركز آسيا الوسطى مشجعاً للعودة إلى محاولة ضم بلاد ما وراء النهر الغنية إلى المستعمرات العربية، وإن كنا في شك غير قليل إزاء الأخبار المتعلقة بمدى اهتمام العرب بهذه الناحية. ففي سنة 682م، بينما دب الضعف الداخلي في الصين من جراء مكائد الإمبراطورة وبينما كانت يداها مصفدتين بحروبها مع التبت قام الأتراك الشماليون أو الشرقيون باستردادهم استقلالهم، ولم تفلح الإمبراطورة الجديدة مطلقاً في بسط نفوذها ثانية على الأقاليم الغربية في الخانات السابقين، غير أنها مدت حكمها - بواسطة الحملات المتواصلة - على القبائل العشر التي تنزل إيلي وتشو التي يقال إنها (قد تلاشت في أغلبها) وفي سنة 701م غزا الأتراك الشرقيون بيد أنه ليس ثمة داع للاهتمام جدياً بالقول بأن قوات الملهب قد تأثرت بهذه الغزوة، ولو أنه كثيراً ما ردد هذا القول، ولابد أن التدمير والخسارة اللذين كانت تتسم بهما هذه الغزوات بلا استثناء قد ساعدا على إضعاف موارد أمراء الرعية الذين كان لهم نصيب واهٍ في اختيار ابن الخان ليقود القبائل العشر. وعلى أية حال فإن الحرب الدائمة التي كان يثير ضرامها الأتراك الشرقيون ضد التركش من 699 إلى 711م قد حالت في الواقع بينهم وبين إرسال نجدات إجابة لاستغاثات كانت تصلهم من سجديانا بطلب العون منهم. كذلك لم يكن من المستحيل على التركش التدخل في سجديانا خلال هذا العهد نفسه

ويقصد مؤرخو العرب - بلا استثناء - بكلمة (الترك) جميع السكان المحليين الذين لا يستعبد أنه كانت فيهم إبان ذلك الوقت عناصر تركية. والواضح أن الإشارات العرضية إلى الخاقان إنما هي نعوت فخر (اللهم إلا إذا أمكن إرجاعها إلى الرؤساء المحليين وذلك

ص: 109

أمر بعيد الاحتمال)؛ وإن قصة 98هـ التي اتخذتها فكرة التدخل دعامة لها إنما هي من نسج خيال باهلي بحت، وخلاصة القول أن تجربة العرب في السنوات الأخيرة ترينا أنه كان من المحال على قتيبة أن ينعم بهذا المجد الباذخ من النصر لو أن كتائب كبيرة من الترك وقفت وراء سجديانا تشد من أزرها في مقاومتها. وتقع فتوح قتيبة بطبيعة الحال في أربعة أوقات هي:

1 -

سنة 86 هـ (705م) حيث استرد إقليم طخارستان الأدنى

2 -

فتح بخارى من 87 - 90هـ (706 - 709م)

3 -

تركيز نفوذ العرب في وادي جيمون وامتداده إلى صغد بين سنتي 91 و 93هـ (710 - 712م)

4 -

الحملات على ولايات تركستان، من 94 - 96هـ (713 - 715م)

أما عن إقليم طخارستان الأدنى فقد كان الجهد قبل قتيبة منصباً على كبت كل ثورة تنشب في هذا الإقليم. وفي ربيع السنة السابعة والثمانين للهجرة (705م) التأم الجيش وسار من (مرورود) وطالقان إلى بلخ، ولقد خضعت المدينة - كما ورد في إحدى روايات الطبري - دون نضال ما. وتشير رواية أخرى إلى شبوب ثورة بين بعض السكان، وقد يمكن عد هذه الرواية وإن لم تكن في وضوح الباهلية - كسابقتها لورودها على لسان أخي قتيبة ولأنه يرمي من ورائها لإقامة دعوى باهلية على البرامكة. ولقد يكون هذا الرأي هو الأدنى إلى الصحة ما دمنا نسمع من أن بلخ قد أضحت خربة بعد أربع سنوات من ذلك

وتلا إخضاع بلخ إخضاع تيش ملك شغانيان الذي يحتمل أنه تعاون مع المفضل في الهجوم على ترمذ قبل ذلك بعام واحد. ويظهر أن الدافع له على عمله هذا إنما هو الصراع مع ملك شوهان في الأودية العليا لنهري سرخان وألينجاليا، وكان يأمل أن يستخدم ضده الجيوش العربية جزاء مساعدته إياها. وحقيقة الواقع أن المفضل قد دبر حملة ضد شومان قبل استغاثته، وكانت قد خرجت تحت إمرة قتيبة الذي كان أكثر الجميع استعداداً للنهوض بها مادامت تؤكد سلامة الوصول إلى الطريق الجنوبي للبوابة الذهبية. وبعد أن فرغ قتيبة من إخضاع ملك غِسلَشْتان الذي كان من نبعة تركية كما يذكر يوان شوانج وآب قتيبة بمفرده إلى مرو تاركا جيشه يسير تحت إمرة أخيه صالح الذي قام بعدة غزوات صغيرة

ص: 110

أثناء الطريق.

وإنه لمن الواضح الجلي - على الرغم من زعم البلاذري - أن هذه الغزوات لابد أنها قد وقعت في الأقاليم المجاورة لنهر جيحون، ومع ذلك فإن في رواية الطبري نقصاً

وهكذا فإن قتيبة لما عزل (رينزك) في بادغيس قلب الثورة أمضى شهور الشتاء في مفاوضته عن طريق (سليم المشير) وهو فارسي نافذ الكلمة قد برهنت حنكته - أكثر من مرة - في تصريف أصعب المفاوضات على حاجة قتيبة القصوى إليه. وقد أغرى (نيزك) على التسليم، وسيق إلى مرو وقرت الأغماد على ألا يدخل قتيبة بادغيس بشخصه. ومع ذلك فإن الحاكم - من باب الاحتياط - قد أمر أن يصحبه (نيزك) في جميع حملاته، ومن ثم فإنه - على الأقل في هذه اللحظة - كان قد أمن من خطر اندلاع ثورة في خراسان بطريقة شريفة لكلا الجانبين؛ وقام ابن بيروز قافلاً إلى الصين ينتظر سنوح فرصة تكون أكثر مواتاة له.

أ. هـ. جب

ص: 111

‌مظاهر الحكم في مصر الأموية

للدكتور حسن إبراهيم حسن

أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب

كانت لمصر في العصر الأموي بعض مظاهر عامة لا يستطاع إغفالها كظهور الروح القومية بين المصريين، وعلى الأخص بعد كتابة الدواوين بالعربية في عهد الوليد بن عبد الملك ابن مروان سنة 87هـ بعد أن كانت تكتب بالقبطية، وما انطوى عليه هذا العمل من إقصاء القبط عن كثير من مناصب الدولة، وكانوا يقومون بجباية الخراج، وإليهم تسند الوظائف الكتابية؛ مما أدى إلى إحياء روح القومية عند القبط، ودفع بهم إلى الصياح والقيام في وجه الولاة، وما كان أيضاً من اشتداد العمال في جمع الخراج وظهور روح العصبية بين القبائل العربية، وكان لهذا العصر مزاياه ومظاهر حضارته، فقد امتاز بعض ولاته بعطفهم على القبط، فسمح مسلمة بن مخلد (47 - 62هـ) لهم بأن يبنوا كنيسة في الفسطاط

ولقد ولى مصر في هذا العصر رجال عرفوا بالكفاية والدراية وحسن السياسة فنشروا العدل بين الناس، وأتوا بضروب من الإصلاح تشهد بمبلغ اهتمامهم بترقية الزراعة والصناعة وفن العمارة وغيرها

ومن بين هؤلاء مسلمة بن مخلد فقد بنى بالروضة مقياساً للنيل وداراً للصناعة، ورد الروم على أعقابهم حينما نالوا البرلس، واهتم ببناء المساجد وإصلاحها، فأمر في سنة 53هـ بجامع عمرو ابن العاص فهدم وبني من جديد، وأمر في السنة نفسها بابتناء منارات المساجد كلها

ولقد وفى شروط النيابة عن الإمام فكان يقيم الصلاة بنفسه طول مدة ولايته، ونظم الآذان فكان مؤذنو الجامع العتيق يؤذنون الفجر إذا مضى نصف الليل، فإذا فرغوا من آذانهم أذن كل مؤذن في الفسطاط في وقت واحد، وأمر ألا يضرب بناقوس عند آذان الفجر.

وكان عبد العزيز بن مروان من أحسن الولاة الذين حكموا مصر في هذا العصر. جاء في صحبة أبيه مروان حين جاء لاسترداد هذه البلاد من عامل عبد الله بن الزبير، وبقي فيها شهرين. ولما عزم مروان على العودة إلى الشام جعل صلاة مصر وخراجها إلى ابنه عبد

ص: 112

العزيز، وكان بعض المصريين في ذلك الوقت على الشنآن لمروان ولبني أمية، فخاف عبد العزيز عاقبة مقامه في هذا البلد وأفضى بذلك إلى أبيه، فرسم له هذه الخطة المثلى التي ينبغي أن يسير عليها، فيتألف قلوب المصريين على اختلافهم. وتبين له أن هذا الأمر لا يمكن تحقيقه، إلا إذا أسرهم عبد العزيز بجوده وإحسانه، وجذبهم إليه بالمودة ولين الجانب والبشاشة، وبين لكل زعيم أنه من خاصته، وبهذا وحده يتفانى الجميع في خدمته، ويجمع الكل على طاعته. يقول الكندي قال عبد العزيز:(يا أمير المؤمنبن، كيف المقام ببلد ليس به أحد من بني أمية؟) فقال له مروان: (يا بني عمهم بإحسانك يكونوا كلهم بني أبيك، واجعل وجهك طلقاً تصف لك مودتهم، وأوقع إلى كل رئيس منهم أنه خاصتك دون غيره يكن عيناً لك على غيره وينقاد قومه إليك. وقد جعلت معك أخاك بشراً مؤنساً، وجعلت لك موسى ابن نصير وزيراً ومشيراً وما عليك يا بني أن تكون أميراً بأقصى الأرض. أليس ذلك أحسن من إغلاقك بابك وخمولك في منزلك؟)

هذه هي النصيحة الذهبية التي زود بها مروان ابنه عبد العزيز عند توليته أمر مصر. ولم يفت مروان أن يزيد ابنه من النصائح في وصية أخرى ما يكفل له الراحة والطمأنينة في هذا البلد عند رحيله إلى الشام، فلقد أوصاه بتقوى الله في السر والعلانية وبالبر بالفقراء، وبتنفيذ وعده إذا ما وعد ولو حال دون ذلك شوك القتاد، وأن تكون المشورة رائده قبل الفصل في أمور الدولة، وبذلك تلهج الألسنة بالدعاء له ويأمن الفتن والقلاقل

ولقد عمل عبد العزيز بنصائح أبيه فنجحت سياسته في مصر النجاح كله، وأتى في عهده بكثير من ضروب الإصلاح فبنى مقياساً للنيل، وزاد في الجامع العتيق من ناحية الغرب، وأدخل في شماله رحبة فسيحة وأقام على خليج أمير المؤمنين قنطرة عند الحمراء القصوى بطرف الفسطاط وكتب عليها اسمه وذلك سنة 69 هـ، واتخذ حلوان داراً لإقامته بعد أن أصيب بداء الجزام على ما يخالف قول المؤرخين من أنه انتقل إليها لتفشي الوباء في الفسطاط، وأنشأ بها بركة كبيرة ساق إليها الماء من العيون القريبة من المقطم على قناطر تصل عيون الماء بالبركة. وفي حلوان غرس عبد العزيز النخيل والأشجار وبنى المساجد والعمارات الفخمة. حتى قيل إنه بذل في سبيل ذلك مليون دينار ولقد بلغ من عنايته بفن العمارة والتماثيل أن ابتنى في الفسطاط حماما لابنه ذَبّان، وأقام على باب هذا الحمام تمثالاً

ص: 113

عجيباً من زجاج على شكل امرأة وأطلق عليه أبو مرة، وباسمه تسمت القيسارية التي كانت ملكا لعبد العزيز باسم قيسارية أبي مرة، وكانت تعرف في زمن ابن دقماق (المتوفى سنة 711هـ) بحمام بثينة

نعم! لقد طالت ولاية عبد العزيز على مصر فأتيح له أن يأتي بكثير من الإصلاح، واستطاعت البلاد في أيامه أن تظهر بمظهر النشاط الأدبي والمادي. ولقد بالغ الشعراء فيما أتاه هذا الوالي من أعمال البر والإحسان والكرم، فقال بعض المؤرخين إنه (كان له ألف جفنة تنصب حول داره، ومائة جفنة تحمل على العجلات ويطاف بها على قبائل مصر. وفي ذلك يقول الشاعر:

كلُّ يومٍ كأنه يومُ أضحى

عند عبد العزيز أو يومُ فِطر

وله ألف جفنة مترعاتٍ

كلَّ يوم تمدّها ألف قِدْرِ

هذا وبالرغم من أن خراج مصر كان إلى عبد العزيز بن مروان، فقد قيل إنه لم يترك عند وفاته من المال غير سبعة آلاف دينار عدا أملاكه في حلوان، وقيسارية أبي مرة وما خلفه من الثياب والخيل والرقيق. فلا غرو إذا أجمع الناس على محبته ورضوا عنه وعن ولايته. ورثاه الشعراء أحسن رثاء فقال سليمان ابن أبان الأنصاري:

فمن ذا الذي يبني المكارم والعُلا

ومن ذا الذي يُهْدَى له بعدَك السِّفر

فكنتَ حليف العرف والخير والندى

فمتْن جميعاً حين غَيَّبكَ القَبْرُ

فبعدك لا يُرْجى وليدٌ لنفعةٍ

وبعدك لا ترجى عوان ولا بكر

تلك هي مصر في فترة من حياتها الإسلامية الزاهرة في عهد عبد العزيز بن مروان من بني أمية.

حسن إبراهيم حسن

ص: 114

‌التصوف الإسلامي

نشأته وأصوله

للمستشرق الإنجليزي الدكتور ريولد نيكلسون

الأستاذ بجامعة كمبردج

يعد الصوفيون الحسن البصري واحداً من جماعتهم. والواقع أنه كان إلى حد بعيد يعلق أهمية عظمى على الاستقامة النفسية، ولم يكن قانعاً بالعبادات الظاهرية فحسب. ولقد قال:(مثقال ذرة من الورع السالم خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة) بيد أنه على الرغم من أن بعض أقواله الواردة في التراجم المتأخرة تؤيد الزعم القائل بأنه كان صوفياً عميقاً، إلا أنه ليس ثمة شك في أن تصوفه - إذا جاز أن ينعت بهذا الاسم - كان من النوع الشديد الاعتدال؛ وأنه كان في حاجة قصوى إلى الحمية والهيام الذي نجدهما عند الصديقة الورعة رابعة العدوية التي تربطها به الأقاصيص

ولقد اختلف الصوفية أنفسهم في تفسير أصل اسم (الصوفي) وذهبوا في ذلك مذاهب شتى متباينة، ومن بين الاشتقاقات التي ذكرت ثلاثة تستحق عناية الباحث وهي التي تربطها بكلمة (سوفوس) اليونانية (المقابلة لـ في الإنجليزية) أو صفا أو (صوف)

أما الاشتقاقان الأولان فلا يدعمهما أي أساس لغوي ولسنا بحاجة لنقاشهما. ولو أن الاشتقاق من (صفا) مقدم لدى من يعتد به من شيوخ الصوفية، ومقبول على العموم في الشرق. والسبب في هذا الترجيح يتضح لنا من مثل هذه التعاريف كقولهم:(الصوفي من يحفظ قلبه صافياً لله) و (الصوفية الاصطفاء) وإذا فهمناها على هذا الاعتبار فقد صارت للكلمة دلالة سامية هيأتها للاختيار دون سواها

ومهما يكن الأمر فإنه يمكن إرجاعها إلى أصل ضئيل، ذلك أنه كان من مألوف عادات المتقشفين والزهاد عادة في العصور الأولى من الإسلام وهي لبس الصوف لما كانوا عليه - كما يقول ابن خلدون - من مخالفة الناس الذين يرفلون في الثياب الغالية، ولهذا فإن اسم (صوفي) الذي يدل لأول وهلة على المتقشف المرتدي الصوف صار كمدلول القاووق على الرهبان الكابوشيين؛ وطبقاً لما يذكره القشيري أصبح هذا اللفظ شائع التداول قبل نهاية

ص: 115

القرن الثاني للهجرة أعني منذ عام 815م؛ مع أنه في خلال هذا الوقت أخذت حركة الزهد في الإسلام تصطبغ إلى حدٍ ما بصبغة جديدة. ولابد أن معنى صوفي - بفرض وجود الكلمة إذ ذاك - قد أصابه بعض التغيير. ويخيل إلي أن هذا اللقب الذي نحن بصدده الآن يعين نقطة انتقال من الزهد السني، وأنه - كما يقرر الجامي - قد أطلق أولاً على أبي هاشم الكوفي المتوفى قبل سنة 800م الذي أسس (خانقاه) للصوفية في الرملة بفلسطين. ومهما يكن الأمر، فإن الفارق بين الزهد والتصوف (ذلك الفارق الذي هو على وجه العموم كالتفرقة بين الحياة الطهرية وبين طريق الكشف في التصوف الغربي في القرون الوسطى) أقول إن هذا الفارق قد أخذ في الظهور قبل انصرام العهد الأموي، وسرعان ما تقدم في صدر العصر العباسي تحت تأثير الأفكار الأجنبية وعلى الأخص الفلسفة اليونانية. ولندع الكلام عن مدى تطور هذه الحركة الأخيرة للكلام عنها في فرصة أخرى وسنتناول الآن في إيجاز أصل الصوفية كما تسمى عادة، والظاهرة الأولى للدوافع الخاصة التي قامت عليها

أما فيما يتعلق بأصلها فلسنا نستطيع أكثر من نقل الملاحظات التي قدم بها ابن خلدون لفصله عن الصوفية في مقدمة كتابه التاريخي الجليل حيث يقول: (إن هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية، وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة، وكان ذلك عاماً في الصحابة والسلف، فلما نشأ الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوّفة)

من هذا يتضح لنا أن التصوف - إذا لم يكن في أصله تطوراً لحركة الزهد التي كان الحسن البصري ممثلها البارز كما رأينا - قد نشأ على كل حال من هذه الحركة وتفرع عنها. ولم يكن التصوف نظاماً تأملياً كهرطقة المعتزلة، ولكنه إيمان عملي وقاعدة للحياة، فيقول الجنيد:(ما أخذنا التصوف من القيل والقال ولكن من الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات)

ص: 116

وكان الصوفيون القدامى زهاداً نسّاكا، كما كانوا أيضاً أكثر من ذلك، ذلك أنهم إما طلعوا على الناس بالجوهر الروحي والرمزي الموجود في الإسلام، أو أنهم أدخلوه فيه إذا لم يكونوا قد وجدوا حينذاك. ويقول السهروردي:(التصوف غير الفقر، والتصوّف غير الزهد، والتصوف اسم جامع لمعاني الفقر ومعاني الزهد مع مزيد وإضافات لا يكون بدونها الرجل صوفيا وإن كان زاهداً فقيرا) ثم يمضي بعد قليل في شرح الخلاف في قوله: (الفقير في فقره متمسك به متحقق بفضله، يؤثره على الغنى متطلعاً إلى ما تحقق من العوض عند الله لحديث نبوي)، فكلما لاحظ العوض الباقي أمسك عن الحاصل الفاني، وعانق الفقر والقلة، وخشي زوال الفقر لفوات الفضيلة والعوض، وهذا عين الاعتدال في طريق الصوفية، لأنه تطلع إلى الأعواض وترك لأجلها، والصوفي يترك الأشياء لا للأعواض الموعودة، بل للأحوال الموجودة، فإنه ابن وقته، وأيضاً ترك الفقير الحظ العاجل، واغتنام الفقر اختيار منه وإرادة، والاختيار والإرادة علة في حال الصوفي، لأن الصوفي صار قائماً في الأشياء بإرادة الله لا بإرادة نفسه، فلا يرى فضيلة في صورة فقر ولا في صورة غنى، إنما يرى الفضيلة فيما يوفقه الحق فيه ويدخله عليه)

ومفتاح التصوف نكران الذات وعدم الأثرة أو بمعنى آخر (الحب) ومع أن هذه الفكرة ليست غريبة بأكملها، إلا أنها كانت بعيدة جداً عن أن تكون معروفة للمسلمين الأتقياء الذين كانوا متأثرين تماماً بقوة الله وبطشه أكثر من رحمته وغفرانه. . وإن جل تاريخ التصوف لهو مناهضة التفرقة غير الطبيعية بين الله والإنسان، وتبعاً لذلك لا أرى ثمة ضرورة تدعونا للبحث عن أصل المذاهب الصوفية في غير الإسلام، على الرغم من أنه من الخطل ألا نذكر الأثر المسيحي الذي أثر ولابد في الحركة في طورها الأول.

أما الطابع التفكيري الذي أُشربوه شيئاً فشيئاً، والذي بد لهم على مر الزمن فقد كان بين مد وجزر وارتفاع وانخفاض طوال العصر الأموي وطيلة قرن تقريباً بعد تقلد بني العباس مقاليد الخلافة والحكم. ولا يزال الصوفيون الأوائل ينهجون منهج السنة، فَصِلَتهم بالإسلام نسبياً كصلة متصوفي الأسبان في القرون الوسطى في الكنيسة الكاثوليكية. ذلك بأنهم كانوا يعلقون كبير أهمية على بعض النواحي الخاصة في التعاليم الإسلامية ويولونها جل اهتمامهم بدرجة تجعل النواحي الأخرى تكاد تكون في حيز العدم. وهم لا ينهمكون في علم

ص: 117

الكلام ولكنهم يكرسون أنفسهم لمسائل تتعلق باللاهوت العملي، وإن نكرانهم للذات وتقشفهم البالغ أقصى نهايته وتقواهم الحادة واعتزالهم. . . كل هذه الأمور جعلت خواص رسالتهم الأولية توصف بالذهول

ترجمة: ح. ح

ص: 118

‌من شهداء الإسلام

عمار بن ياسر

للأستاذ كامل محمود حبيب

(ابشروا آل عمار فإن موعدكم الجنة)

(حديث شريف)

وقف بباب دار الأرقم رجل آدم طوال أصلع أشهل العينين بعيد ما بين المنكبين. . . وقف يردد بصره فيما حوله وإن الشيطان ليوسوس له يريد أن يثنيه عن عزمه، وإن قلبه لينتفض مما استولى عليه من الرعب. وكيف لا يستلبه الفزع من بعض عقله وهو في هذا البلد وحيد؛ فما من عشيرة تحميه، وما من أهل يدفعون عنه الأذى؛ وقريش من ورائه في الصولة والسلطان أشداء على صحابة محمد ورفاقه، يصبون عليهم فنوناً من القسوة والعذاب في غير رحمة ولا شفقة؟ واصطرع في رأس الرجل عاملان: هنا النبي الكريم يشرق النور الإلهي من جبينه فيسطع متألقاً يجذب إليه جماعة ممن رضي الله عنهم، وهناك قريش لا تستطيع أن تنزل عن كبريائها في هوان وذلة وهم سادة القوم وأمراؤهم فكيف يلقون السلم في ضعة؟ كلا، بل أرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون

أفينكص الرجل على عقبيه ليتردى في الغواية مرة أخرى ويعكف على أصنام من حجارة لا حول لها ولا طول، أم يندفع فيلج باب دار الأرقم ليلقى محمداً. . . ثم يتلظى - بعد حين - بنار يؤج سعيرها وتنبعث من قلوب عليها أقفالها. . . قلوب قريش المغيظة المحنقة؟ وأطرق يفكر ما يطمئن إلى أمر. . .

وجذبه من أخيلته صوت أقدام تسير إليه في وناء وثبات. . . فإذا صهيب بن سنان أمامه، فاندفع يحدثه:(ما تريد يا صهيب؟) قال صهيب (بل ماذا تريد أنت يا عمار) قال: (أريد أن أدخل على محمد فأسمع كلامه) قال صهيب: (وأنا أيضاً، فوربي لقد دفعني قلبي إليه وإن خواطري لتضطرب في خيالي خشية مما ألاقي بعد) ثم انطلقا جنباً إلى جنب إلى حيث النبي فأسلما معاً، وما استطاعا أن يبرحا الدار حتى خيم الظلام على الأرض، فخرجا

ص: 119

يتسللان. . .

وأشرق نور الإيمان في قلب عمار بن ياسر فما استطاع أن يكتم نزوات الفرح والغبطة في قلبه، فراح إلى أبيه (ياسر) وأمه (سمية) يحبب إليهما الإسلام فأسلما. وانطلق هو يعلن عن إسلامه في جرأة لا يرهب القوة والثائرة، ولا يخاف العذاب الأليم

وأفتتن آل حذيفة في تعذيب آل ياسر - وما آل ياسر سوى عمار وأمه وأبيه - لا يتورعون من شر. . . لقد مات ياسر في العذاب، وماتت سمية إثر طعنة من يد أبي جهل؛ وعمار يشهد فما وهن وما استكان، فأغلظوا عليه وفي قلوبهم مراجل من الغيظ يحمى عليها بنار من الصلف كلما خبت زادها الشيطان سعيراً.

وفي ذات مرة أخذوا يغطونه في الماء المرة بعد المرة فما تركوه حتى نزل عند رأيهم وقد بلغ به الجهد مبلغه، وهم يقولون له:(اللاّت والعزى إلهك من دون الله) فيقول هو: (نعم) ويقولون له: (هذا الجعل إلهك) فيقول: (نعم). وحين انفلت من بين أيديهم استشعر وبال أمره فراح يكفر عن خطيئته بعبرات الأسى والندم، ويستغفر الله أن زل لسانه، وفي قلبه حسرات وحسرات. ولقيه رسول الله (ص) وهو في أحزانه ما يستطيع أن يكفكف بعض عبراته يمسح عن عينيه وهو يقول:(ما ورائك؟) قال عمار: (شر يا رسول الله، والله ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير) فقال: (وكيف تجد قلبك؟) قال: (مطمئن بالإيمان) قال (فإن عادوا فعد) فانطلق عمار وقد مسحت كلمات النبي (ص) على أحزانه

وانطلق الفوج الأول من المسلمين إلى الحبشة فراراً من أذى قريش وخوفاً من الهوان والفتنة، وعلى أثره الفوج الثاني وفي أكبادهم حرق أن نأوا عن وطنهم وأولادهم وعشيرتهم، وعمار صابر على أذى الكفار يتحمله في جلد وصمت على حين لا يستطيع أن يصبر عن مشرق النور والرحمة من وجه النبي (ص)، وما يزيده العذاب إلا إيماناً بمحمد (ص) ودين محمد

وهاجر عمار - فيمن هاجر - مع النبي (ص) إلى المدينة فهبطها ضحى، فما تلبث حتى أخذ يشيد للرسول مسجداً يقيم فيه الصلاة في غير حذر ولا رقبة، وفي نفسه اللذة والطرب وهو ينشد:(نحن المسلمون نبتني المساجدا) ورسول الله يردد: (المساجدا) واندفع القوم يشد بعضهم أزر بعض يحمل كل واحد منهم لبنة لبنة غير عمار فهو يحمل لبنتين لبنتين،

ص: 120

وراع القوم أن يجهد عمار نفسه فتنقل الحديث في همس: (إن عماراً يريد أن يقتل نفسه فهو يحملها فوق طاقتها!) وسمع النبي (ص) الحديث فراح ينفض التراب عن رأس عمار وهو يقول: (ويحك ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية!)

ولصق هو بالنبي ما ينأى عنه في سلم ولا حرب لأن قلبه وإيمانه لا يطاوعانه على أن يفعل. . .

ولحق النبي الكريم بالرفيق الأعلى فبكاه عمار - فيمن بكى - سحاً وتسكاباً، وفي قلبه - من أثر الفراق - جرح ما يندمل إلا أن يلحق بسيده، ثم هو لم يستشعر الوهن ولا الضعف في دينه

وارتد مسيلمة وقومه حين انفرجت الثغرة بموت الرسول فاندفع إليهم عمار - فيمن اندفع - ثائراً هائجاً يهدر يريد أن يؤدب قوماُ على عصيانهم، وحين وجد في المسلمين هوادة وفتوراً ارتقى هو شرفاً عالياً ثم أخذ ينادي وقد قطعت أذنه:(إلي، إلي يا معشر المسلمين، أنا عمار بن ياسر، أمن الجنة تفرون؟ هلموا إلي!) ثم اندفع إلى الصفوف يفرق ما اجتمع منها كأنه فتى في الثلاثين، وهو قد شارف السبعين من سني حياته

رحم الله عمر بن الخطاب فلقد كان بصيراً بأقدار الرجال حين أمر عمار بن ياسر على الكوفة وكتب إلى أهلها: (. . . أما بعد، فإني بعثت إليكم عمار بن ياسر أميراً وعبد الله بن مسعود وزيراً ومعلماً، وإنهما لمن النجباء من أصحاب محمد من أهل بدر فاسمعوا لهما وأطيعوا واقتدوا بهما. . .)

لقد تأمر عمار على الكوفة فما أخذته كبرياء المنصب، ولا روعة الإمارة؛ ثم عزله عمر فما استولى عليه اليأس، وما حمل لأمير المؤمنين في قلبه حفيظة ولا حقداً، بل قال:(والله لقد ساءتني الولاية بقدر ما ساءني العزل) واندفع على سننه لا يجد الخور ولا الفتور إلى نفسه سبيلاً

يا عجباً! يا عجباً! يتغلغل الإيمان في القلب فيحجب الإنسان عن لذاذات الحياة ومباهجها لينقله إلى لذاذات ومباهج أخر هي لذاذات قلبه ومباهج دينه؛ ثم ينزع عنه أطماع الدنيا وشهواتها فإذا سواء لديه أن يكون له ملك لا ينبغي لأحد من بعده، أو يكون فقيراً لا يستطيع السبيل إلى اللقمة يقيم بها صلبه إلا بشق الأنفس

ص: 121

ووقعت الفتنة الكبرى بين المسلمين، فانشقت العصا، وغدا كل حزب يزعمون أن الحق إلى جانبهم، فانضم عمار إلى عليّ وأصحابه وهو يقول:(تالله لو ضربنا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمتُ أنَّا على حق وأنهم على باطل) وراح يدفع عن الحق فما يهن ولا يستكين. وإنه في يوم صفين لعلى رأس رجال من أصحاب النبي كأنهم علم، إن تيامن تبعوه وإن تياسر تبعوه، وهو يحرضهم بقوله:(أتفرون من الجنة والجنة تحت البارقة. اليوم ألقى الأحبة: محمد وحزبه) وفي يده حربة ترعد وهو ينادي: (ألا مَنْ يبارز؟ ألا مَنْ يبارز؟)

(ويحك ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية!)

وشهد هذا اليوم مشهداً مروعاً من مشاهد الحرب تنفطر له الأكباد، هو قتل عمار بن ياسر! لقد رماه أبو العادية المزني بالرمح على حين غفلة منه فهو إلى الأرض. . . ثم أكب عليه آخر فاحتز رأسه في غلظة وجفاء. . . وانطلقا يختصمان لدى معاوية في رأس عمار وكل واحد منهم يقول:(أنا قتلته) علهما يصيبان أجراً. وعند معاوية عمرو بن العاص وابنه عبد الله ورجال من خاصته والمقربين إليه، فقال عبد الله:(ليطب به أحدكما نفساً لصاحبه، فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: تقتله الفئة الباغية) وقال عمرو بن العاص: (والله إنهما ما يختصمان إلا في النار، ووالله لوددت أني مت قبل هذا بعشرين سنة) فأربد وجه معاوية وهو ما يستطيع أن يدفع عن نفسه بعض ما أصابها، وفي قرارة نفسه أن جيشاً من أقوياء المسلمين وأشدائهم ما يقدر على أن ينال منه بعض ما يناله حديث عمرو بن العاص وابنه إن هو شاع بين جنوده

وهناك في العراء وقف علي بن أبي طالب عليه السلام بازاء جثمان عمار بن ياسر يقول وفي قلبه الأسى والحزن على أن فقد صاحب الرسول الله وحبيبه: (إن امرءوا من المسلمين لم يعظم عليه قتل ابن ياسر، وتدخل به عليه المصيبة الموجعة لغير رشيد. رحم الله عماراً يوم أسلم، ورحم الله عماراً يوم قتل، ورحم الله عماراً يوم يبعث؛ لقد رأيت عماراً وما يذكر من أصحاب رسول الله (ص) أربعة إلا كان رابعاً ولا خمسة إلا كان خامساً، وما كان أحد من قدماء أصحاب رسول الله يشك أن عماراً قد وجبت له الجنة في غير موطن ولا اثنين، فهنيئاً لعمار بالجنة. . .)

ص: 122

وانطوت صفحة بيضاء ناصعة من صفحات الإسلام وانقض ركن من أركان الإيمان الثابت. . . فرحم الله عماراً

كامل محمود حبيب

ص: 123

‌ابن البناء المراكشي

للأستاذ قدري حافظ طوقان

كان ابن البناء من علماء القرن الرابع عشر للميلاد، نبغ في الرياضيات والفلك وله فيهما مؤلفات قيمة ورسائل نفيسة تجعله في عداد الخالدين المقدمين في تاريخ تقدم العلم

ومن المؤسف ألا يُعطى نتاجه حقه من البحث والتنقيب، ولولا بعض كتبه التي أظهرها المستشرقون الذين يعنون بالتراث العربي لما استطعنا أن نعرف شيئاً عن مآثره في العلوم. وعلى الرغم من قلة المصادر فقد استطعنا أن نجمع بعض المعلومات عن حياته وآثاره، ورأينا أن الإخلاص للحقيقة يدعونا إلى إنصافه وعرض سيرته على الباحثين فقد يكون في هذا العرض ما يحفز البعض إلى الاهتمام بتراث ابن البناء وإزالة ما أحاط هذا التراث من غيوم الغموض والإهمال

وُلد ابن البناء في غرناطة في النصف الأخير من القرن الثالث عشر للميلاد؛ واسمه أبو العباس أحمد بن محمد بن عثمان الأزدي وكني بابن البناء لأن أباه كان (بناء) كما اشتهر بلقب المراكشي لأنه أقام مدة في مراكش ودرّس فيها العلوم الرياضية. وقد نبغ على يديه كثيرون لمعوا في ميادين العلوم وكان أحدهم أستاذاً للمؤرخ الشهير ابن خلدون

كان ابن البناء منتجاً وكان عالماً مثمراً، فقد أخرج أكثر من سبعين كتاباً ورسالة في العدد والحساب والهندسة والجبر والفلك والتنجيم ضاع معظمها ولم يعثر العلماء الإفرنج والعرب إلا على عدد قليل منها، نقلوا بعضه إلى لغاتهم. وقد تجلى لهم منها فضل ابن البناء على بعض البحوث والنظريات في الحساب والجبر والفلك

لقد قامت شهرة ابن البناء على كتابه المعروف بـ (كتاب تلخيص أعمال الحساب) الذي يعد من أشهر مؤلفاته وأنفسها؛ وبقي هذا الكتاب معمولا به في المغرب حتى نهاية القرن السادس عشر للميلاد كما حاز على اهتمام علماء القرن التاسع عشر والقرن العشرين. ويعترف سمث وسارطون بأنه من أحسن الكتب التي ظهرت في الحساب، وهو يحتوي على بحوث مختلفة تمكن ابن البناء من جعلها (على الرغم من صعوبة بعضها) قريبة التناول والمأخذ. أوضح النظريات العويصة والقواعد المستعصية إيضاحاً لم يسبق إليه فلا تجد فيها التواء ولا تعقيداً

ص: 124

في هذا الكتاب بحوث مستفيضة عن الكسور وقواعد لجمع مربعات الأعداد ومكعباتها، وقاعدة الخطأ لحل المعادلات ذات الدرجة الأولى والأعمال الحسابية. ولولا أن الإتيان على هذه القاعدة يستدعي استعمال خطوات قد لا يجد فيها الكثيرون طرافة أو متاعاً لأتينا عليها تفصيلا. وفي هذا الكتاب أيضاً طرق لإيجاد القيم التقريبية للجذور الصماء، فلقد أعطى قيماً تقريبية للجذور التربيعية لبعض المقادير. وكانت هذه القيم موضع دهشة العلماء الرياضيين وإعجابهم

وهناك قيم أخرى تقريبية للجذور التكعيبية لمقادير جبرية أخرى، وهذه العمليات بالإضافة إلى عمليات القلصادي أبانت طرقاً لبيان الجذور الصماء بكسور متسلسلة

وكتاب التلخيص هذا كان موضع عناية علماء العرب واهتمامهم يدلنا على ذلك كثرة الشروح التي وضعوها له، فلقد وضع عبد العزيز علي بن داود الهوازي أحد تلاميذ ابن البناء شرحاً. وكذلك لأحمد بن المجدي شرح ظهر في النصف الثاني من القرن الرابع عشر للميلاد. ولابن زكريا محمد الأشبيلي شرح موجود في مكتبة أكسفورد.

وللقلصادي شرحان أحدهما كبير والآخر صغير؛ وقد زاد على شرحه الكبير خاتمة تبحث في الأعداد التامة والزائدة والناقصة. وظهر لنا في أثناء مطالعاتنا في مقدمة ابن خلدون أن هناك شرحا لكتاب التلخيص وضعه ابن البناء اسمه كتاب رفع الحجاب، (وهو مستغلق على المبتدئ بما فيه من البراهين الوثيقة المباني. وهو كتاب جليل القدر أدركنا المشيخة تعظمه، وهو كتاب جدير بذلك، وإنما جاءه الاستغلاق من طريق البرهان ببيان علوم التعاليم لأن مسائلها وأعمالها واضحة كلها وإذا قصد شرحها فإنما هو إعطاء العلل في تلك الأعمال وفي ذلك من العسر على الفهم ما لا يوجد في أعمال المسائل. . .)

وقد رغب العالم (ووبكه) أن ينقل محتويات كتاب التلخيص إلى الفرنسية فحال موته دون ذلك. وأخيراً نقله (أريستيد مار) إلى الفرنسية في النصف الأخير من القرن التاسع عشر للميلاد. ويقضي علينا الواجب العلمي أن نشير إلى أن بعض علماء الغرب أغاروا على الكتاب المذكور وادعوا لأنفسهم دون أن يذكروا المصدر الذي اعتمدوا عليه ونقلوا عنه. وكان الرياضي الفرنسي الشهير (شال) أول من أشار إلى هذا في رسالة قدمها إلى المجمع العلمي في أوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر للميلاد

ص: 125

ولابن البناء كتب ورسائل في الحساب كرسائل (مقالات في الحساب) التي تبحث في الأعداد الصحيحة الكسور والجذور والتناسب، وكتاب تنبيه الألباب، ورسالة في الجذور الصماء وجمعها وطرحها، وكذلك له رسائل خاصة بالتناسب ومسائل الإرث

ولم يقف نتاج ابن البناء عند هذا الحد، بل وضع كتابين في الجبر أحدهما يسمى كتاب الأصول والمقدمات في الجبر والمقابلة، والثاني كتاب الجبر والمقابلة

وفي الهندسة له رسالة في المساحات، أما في الفلك فله مؤلفات وأزياج عديدة، منها كتاب اليسارة في تقويم الكواكب السيارة، وكتاب تحديد القبلة، وكتاب القانون لترحيل الشمس والقمر في المنازل ومعرفة أوقات الليل والنهار، وكتاب الإسطرلاب واستعماله، وكتاب منهاج الطالب لتعديل الكواكب. ويقول ابن خلدون إن ابن البناء اعتمد في هذا الكتاب على ازياج ابن اسحق وأرصاد أخرى لفلكي كان يسكن صقلية. وقد توفق ابن البناء في هذا الكتاب إذا استطاع وضع بحوثه في قالب حبب إليه الناس في المغرب ورغبهم فيه وجعلهم يتهافتون عليه ويسيرون بموجبه في بحوثهم الفلكية وعمل الأزياج

أما في التنجيم فله مؤلفات كثيرة عُرف منها مدخل النجوم وطبائع الحروف وكتاب أحكام النجوم وكتاب في التنجيم القضائي وله كتاب اسمه (كتاب المناخ) ويقول الدكتور سارطون إن كلمة مأخوذة عن هذه الكلمة (المناخ) والله أعلم

(نابلس)

قدري حافظ طوقان

ص: 126

‌من التاريخ الإسلامي

هجرة معلم

للأستاذ علي الطنطاوي

يرى كلّ من يعبر البادية من شرقها إلى غربها (إذا هو قارب الساحل) سلسلة طويلة من الجبال تلوح له، من مسيرة أيام، زرقاء كأنها معلقة فوق الأفق، أو غارقة في السماء. ولكن هذه الجبال تضِح كلما دنا منها وتستبين، حتى إذا بلغها ألفاها بناءاً عظيماً من الصخر الأصم، إذا حاول أن يتقصى بنظره أعاليه سقط عقاله عن رأسه ولم ير شيئاً، لأن أعاليه غائب وسط السحاب المتراكم، فيقر في وهمه إنما هو جدار قائم يمسك السماء أن تقع على الأرض، ويقف حياله خاشعاً خاضعاً شاعراً بالمذلة والهوان

هذه هي السلسلة الهائلة التي تخرج من الجنوب (من البحر) ثم تضطجع على الرمال بصخورها وجلاميدها، وأوديتها التي لا قرار لها، وذراها التي ليس لها عدد، وسفوحها التي يضل فيها الهدى، وثناياها التي تموت فيها الحياة، وصمتها المهول، وجلالها الخالد. . . تضطجع متمددة بهذا الجسم الأزلي الجبار، حتى تصاقب الشام وتبلغ مشارفه، فتهبط سفوحها مترفقة سهلة متتالية حتى تفنى في تلك السهول الخضراء. . .

إذا قدر لك أن تتوغل في هذه الأودية العميقة الموحشة، ثم تتسلق هذه الجبال ترتقي من ذروة إلى ذروة حتى تبلغ تلك القُنن الشامخة التي لا يعلوها شيء، رأيت فيها طورداً باذخاً قد شهق واستطال في السماء واستعرض حتى ضاعت جوانبه في هذه الجبال التي تتشعب من حوله صاعدة منحدرة في تسلسل واتساق كأنها الأمواج العظيمة في البحر الهائج الغضوب لولا أن ماءها الرمل والحصى وجلمد الصخر، وأن عمر الموج ساعة وأنها من لدات الدهر. . . كما ضاعت أعاليه في الغمام المسخر بين السماء والأرض. . .

على ظهر هذا الطود فوق قلعة من تلك القلعات الراسيات كانت ترقد القرية ببيوتها ودروبها وبساتينها متوازية مختبئة ضالة في فلوات السماء، تشرف على الأرض من فوق السحاب فلا ترى منها إلا خيال هذه الصحارى الواسعة، يبدو من بعيد موشى بالرمال الخالدة المتسعرة الملتهبة، والسراب الذي يظل أبداً لامعاً خادعاً كأنه الحياة الدنيا. . .

هذه الصخور وهذه الأودية وهذه الصحراء. . . هي عند أهل هذه القرية الوجود كله!

ص: 127

في طرف من أطراف هذه القرية كان يجثم بيت صغير منفرد قائم على شفير الوادي. . . إذا أنت دخلته لم تجد فيه إلا طائفة من الأولاد يجلسون على حصير قد مات وفني وتقطعت أوصاله من قبل أن يولدوا. . . وشابا على حشية قد طعنها الزمان فنثر أحشائها. والشاب غض الاهاب، لدن العود، حديث السن، ولكن نظرة واحدة إلى عينيه تريك أنه قوي الإرادة، ماضي العزيمة، وأن له وقار شيخ في السبعين من عمره. . .

وبيد الشاب عصا طويلة يشير بها ويهزها فوق رءوس الصبية، وينال بها من أبشارهم، على حين يجيل فيهم نظرات مشتعلة يتطاير منها الشرر الأحمر، تلذع أفئدتهم كلذع العصا أجسامهم. . .

تلك هي مدرسة القرية، وهؤلاء هم تلاميذها؛ أما الأساتيذ فعقيل صاحب المدرسة، وزميله الشاب: كليب!

وكانت أمسية طلقة أراق عليها الربيع بهاءه ورواءه، فصرف كليب التلاميذ، ووقف على باب المدرسة - على عادته في كل مساء - ينظر إليهم وهم يقفزون من عتبتها، مفاريح بالنجاة من المعلم وعصاه الطويلة، وسحنته المنكفئة المقلوبة أبداً، مماريح يضحكون للحرية والجمال والانطلاق، يعدون إلى القرية عدواً. . . حتى إذا غيبتهم هذه الجدران في أطوائها، ولم يبق منهم في الرحبة أحد، وسكنت الحركة فيها وسكتت الضوضاء التي انبعثت من أفواههم الصغيرة، وحناجرهم الدقيقة الرنانة. . . زفر كليب (المعلم الشاب) زفرة أليمة اقتلعها من أعماق صدره، وألقى عصاه وولى وجهه شطر الصحارى البعيدة، يفتش فيها عن الطريق إلى أمنيته التي طالما جاشت في نفسه، وعاودته وكرت عليه، حتى أمست له فكرة لازمة وبات لا يعرف غيرها، ولا يفكر إلى فيها، ولا يعيش إلا لتحقيقها، وطالما حلم في نومه وفي يقظته أنه قد بلغ أمنيته، فتنعم بها ومرح في جناتها، ولكن الحلم يتصرم وتعود الحقيقة الواقعة بوجهها الكالح القبيح، فيرى أنه لم يصل إلى شيء

ولى وجهه شطر الصحارى، ولكنه لم ينظر إليها، وإنما جاز به خياله فيافيها المهلكة، وقفارها الواسعة، إلى تلك البلاد التي يسمع عنها ويتسقط أحاديثها، ويحمل لها في نفسه أجمل صورة تنفرج عنها مخيلة شاعر ملهم، أو مصور فنان، إلى البلاد التي يعرش فيها الياسمين، وينمو الآس، ويزهر التفاح والسفرجل، وتسيل الينابيع متحدرة من أعالي الجبال

ص: 128

الشجراء. . . فوقف يحلم بالوصول إليها، ويتأمل صورتها التي صنعها خياله، وأقامها أمام عينيه، خاشعاً خشوع العابد في محرابه، مشوقاً شوق المحب المتيم إلى صاحبته، مستغرقاً استغراق الصوفي في مراقبته، والحالم في أحلامه، لا يحس مما حوله شيئا!

وظل واقفاً شاخصاً إلى الأفق، غارقاً في تأملاته، حتى لاح على الأفق من ناحية المشرق سواد خفيف، لم يلبث أن اشتد حتى شمل الصحارى النائية، ثم امتد حتى عم القفر كله، ثم تسلق السفوح حتى غمر القمم الواطية، ثم وصل إلى الذرى العالية فلفها هي والقرية في ثوبه القاتم، وأحال الكون كله كتلة من الظلام. . . عند ذلك انتبه كليب، وأفاق من ذهلته، فذهب إلى منزله خائبا يجرّ رجله جرّاً وبات أرقا مسهداً ينتظر انبلاج الفجر، ليحمل عصاه ويعود إلى صبيانه. . .

لم يكن كليب جاهلا ولا محمقا، وإنما كان أديباً أريباً فطناً ذكياً من أبلغ الناس لسانا، وأجرئهم جناناً، وكان من أحفظهم لكتاب الله، وأبصرهم بالشعر، وكان فتى بادي الفتوة، قوياً ظاهراً القوة، لا يعرف اللهو، ولا يميل إلى اللعب، ولكنه يعرف الجد في أموره كلها ويحب النظام، ويميل إلى الصدق، ويأخذ تلاميذه وأصحابه بشيء من القسوة أحياناً، واللين حيناً، وكان يجنح إلى الحزم ولو اضطره الحزم إلى كثير من الشدة والصرامة، ولم يكن يؤخذ عليه إلا هذه الأمنية التي كانت تخرج به في كثير من أيامه عن الوقار والحزم، وتدنو به أحياناً من اليأس والضعف وتعرضه على عيون الناس خفيفاً طياشاً، وهو الرزين الوقور، وتلقى الخلاف بينه وبين شريكه وزميله عقيل الذي كان أعرق منه في الصناعة، وأعلى في السن وأكثر اختباراً للحياة، وإن كان دونه في مضاء عزيمته، وقوة شخصيته، حتى لقد اضطر عقيل إلى لومه مراراً. وحاول مرة أن يسخر من هذه الحماقة التي ملأت رأسه، وأن يصرفه عنها، وأن ينتزع من نفسه الرغبة الأمارة والسلطان. . . فكان يستمع إليه ساكتاً جامداً كالصحراء. . . فتجف الكلمات على شفتي عقيل، ولا يجد ما يقوله فيصمت هو أيضاً ويعاودان العمل

وكثيراً ما كانت تطغى على كليب أحلامه فتغلب عليه وتستأثر به فينسى حاضره الواقع، ويعيش في مستقبله المأمول، فيحس كأنه في دست الملك لا على حشية المعلم، وأن أمامه الحاشية والأعوان، لا الأولاد والصبيان. فيرفع صوته آمراً ناهياً، ويستغرق في أمره

ص: 129

ونهيه، ويعجب التلاميذ وتتحرك في نفوسهم طبائعهم العابثة فتستبق القهقهات إلى شفاههم ثم تجمد عليها يردها خوفهم من هذا المعلم العابس وخشيتهم إياه؛ ثم تغلبهم طبائعهم فينفجرون ضاحكين صائحين. . . فينتبه المعلم الشاب، ويزعق فيهم فيبكون ويسكتون، ويتكرر ذلك ويقصه الأولاد على آبائهم وأهليهم فيكذبونه بادي الرأي، ثم يصدقونه ثم يشيعونه في البلد، فيصبح ملء الأفواه والأسماع أن كليباً المعلم الشاب قد أصابه طائف من الجن، فيأسفون ويحزنون لما عرفوا فيه من البلاغة وما آنسوا فيه من الرجولة والحزم، ولكنهم لا يعجبون وهل يعجب الناس من معلم يجن؟ إنما يعجب الناس من المعلم إذا بقي عاقلا وهو يعاشر أبداً هؤلاء التلاميذ. . .

وفي ذات صباح غدا التلاميذ على مدرستهم فلم يجدوا معلمهم الشاب، وكان من دأبه أن يسبقهم. فانتظروه فلم يحضر، فذهبوا يطلبونه في بيته. فعلموا أنه باع بيته ليلاً وقبض ثمنه، ففتشوا عنه في كل مكان يظنون أنه يأوي إليه. فتشوا في كل زقاق من أزقة القرية، وفي كل ذروة من هذه الذرى القريبة منها، وكل صخرة من هذه الصخور القائمة من حولها. فلم يجدوا له أثراً!

ولما راح الرعاة في المساء سألوهم عنه، فقالوا: لقد رأيناه منذ الصباح ينحدر وحده، يقفز من حجر إلى حجر، فحييناه فلم يرد علينا تحيتنا لأنه كان ذاهلاً، قد تعلق بصره بالأفق النائي. . . ونظن أنه سار يومه كله، ولن تدركوه أبداً لأنكم لا تدرون أي سبيل سلك!

فاسترجع أهل القرية واستعبروا أسفاً على أن جُن هذا المعلم الشاب، وأيقنوا أنه سيموت في هذه البادية وحيداً فريداً شريداً. . .

سار كليب يومين كاملين على غير ما طريق مسلوك أو جادة واضحة، يبتغي المنازل والمنحدرات، تسلمه كل ذروة إلى التي تحتها، وكل سفح إلى الذي يليه، لا يحس تعباً ولا يخشى أذى لأن آماله قد ملأته شجاعة وصبراً؛ ثم إنه كان في أول الطريق فهو لا يزال نشيطاً قوياً، ولا يزال زاده كاملاً؛ ثم إن الحر لم يكن قد غمر هذه الجبال وهي بعد في أواسط الربيع. فلما بلغ الصحراء - والصحراء لا تعرف، إذا تسعرت شمسها وحميت رمالها، ربيعاً ولا خريفاً - ولما أوغل فيها واحتواه جوفها، ونفد ما حمل من الزاد، والتهبت شمس الضحا التهاباً، وغلى الهواء غلياناً. . . جففت هذه الشمس أحلامه الندية،

ص: 130

وأحالتها بخاراً، وطيرت أمانيه من رأسه ووضعت عقله في جلده ومعدته، فواجه الحقيقة الواقعة؛ فإذا الصحراء الرحيبة الرهيبة تضيق به، وإذا هو يرى حيثما تلفت شبح الموت المروع بعظامه البادية وفكيه المرعبين وجمجمته الفارغة، يتراءى له على الأفق البعيد، يرقب أن يعانقه قبل أن يصل إليه، ويتمثل ذلك في خاطره فيشعر ببرودة هذه العظام البادية تسري في جسمه، ويتصورها ملتفة حول عنقه فيحس بالقشعريرة تمشي في أعضائه، فيغض بصره عن الأفق فيتراءى له الشبح في هذه الرمال، ويخيل لنفسه أنها ليست إلا قبراً مفتوحاً، فيكاد الخوف من الموت يهوي به ويقصف ركبتيه، فيرفع نظره عن الأرض فيتراءى له الشبح في هذه الشمس التي تسكب عليه وعلى البادية وهج جهنم، فيغمض عينيه فيتراءى له الشبح في الجوع الذي يلهب أمعاءه والعطش الذي يحرق جوفه والضلال يملأ يومه وغده. . . ثم يزول النهار ويشتد أوار الشمس، ويبلغ لسان لهيبها قرارة دماغه، فينسى الجوع والعطش ولا يبغي إلا شبراً من ظل. . . فيعدو كالمجنون هاهنا وهاهناك؛ والصحراء مبسوطة كالكف ليس فيها غار يأوي إليه، ولا صخرة يستظل بها، ولا بشر يلجأ إليهم، ولا شجرة يستذري بها؛ فينبش في الرمل بيديه وأظافره ليجد في بطن الأرض رطوبة يدس فيها أنفه ليربح رائحة الحياة، ويوالي النبش بجنون ثم يطمر رأسه في الرمل فلا يزيد على أن يدفن نفسه حيّاً في رماد حار. . . فيجفو الرمل وينطلق يعدو حتى ينقطع ويعلوه البهر ويحس بأنه سيختنق، فيقبل من ضيقه يلطم وجهه بكفيه، وينتف شعره بيديه. . . ويلعن المجد والسلطان ويلعن هذه الصحراء ويلعن نفسه حين استجاب لهذه الحماقة فخاض الصحراء وألقى بنفسه في جوفه الملتهب. . . يندم أشد الندامة، ويتمنى لو وجد إلى العودة سبيلاً، وهيهات أن يجد إلى العودة من سبيل، لأن بينه وبين القرية هذه السفوح التي لا آخر لها، وهذه الصحراء وهذه الأودية، فإذا قطعها واستطاع أن يعرف طريقه بين آلاف التلال المتشابهة وآلاف الصخور المتشاكلة لم يعرف طريق النجاة من سخرية قومه وهزء صبيانه، وهو ما لا يطيقه أبداً ولا يصبر عليه، ويرى الموت أخف منه حملاً وأحلى مذاقاً. . . وراح يذكر تلاميذه الصغار وطاعتهم إياه وحبهم له، ويذكر بغضاءهم وعصيانهم، ويذكر براءتهم وسذاجتهم، ويذكر خبثهم وشيطنتهم، ويذكر لينهم ويذكر قسوتهم؛ فإذا هو يشعر بالحب لهم، ويغمره هذا الحب

ص: 131

ويكون لقلبه برداً وسلاماً، ولمعدته ريّاً وشبعاً، ولروحه حياة، وينظر بعين الحب إلى قريته، ويعرضها كلها بطرقها وبيوتها وبساتينها، وهذه المعابر التي سلكها مرات لا يحصيها عد، ويرى داره ويبصر كل حجر فيها وكل زاوية منها. . . ثم ينظر إلى هذه الصحراء المترامية من حوله فإذا بها قد ابتلعت هذا الحب وجففته، وحياة الحب حياة قصيرة المدى. . . وإذا به يحس بالألم ويشم من حوله رائحة الموت ويرى نفسه نبتة اجتثت من الأرض وقطعت جذورها، ثم ألقيت على هذه الرمال التي يشوى عليها اللحم لتجف وتعود حطبة يابسة، بعد إذ هي غصن مورق فينان، ويخيل إليه أنه فقد حياته كلها حين فقد بلده وأهله وسعادته، فيلقي نظره على هذه الجبال التي خلفها بعد يومين فإذا هي بعيدة، بعيدة جداً تبدو له من خلال السراب اللامع كأنها صورة الأمل المنير لا تكاد تظهر. . . فيسترجع نظرته اليائسة مغسولة بدموع الندم، ويوغل في جحيم الصحراء تائهاً يائساً يمشي إلى. . . الموت!

حتى إذا أطفلت الشمس، ثم ضعفت وشحب لونها، ثم أسلمت الروح، فلبس الكون كله ثوب الحداد، ثم برد الرمل واستحال إلى فراش لين جميل، ولاحت في السماء النجوم واضحة قوية. . . شعر المعلم الشاب بالراحة، فاستلقى على قفاه يتنفس الصعداء من هول هذا اليوم. . . ويتأمل النجوم. . . ويبصر امتداد الأرض والسماء من حوله، فيعجب من جمال الصحراء وبهائها، وينتشي بنسيمها الرخي الناعش، وسكونها الشامل، وجلالها المهيب، ولا يستطيع أن يتصور كيف كان هذا العالم الجميل الفتان، يموج قبل ساعات بأشباح الموت، وتهاويل العذاب!

ورجع الليل إلى الفتى المعلم حماسته ونشاطه، وأترع نفسه قوة وحياة، فرأى أمله الذي بخرته شمس الضحا قد عاد رطباً ندياً، فجلس وحيداً بين هذه المخلوقات العظيمة: النجوم والسماء، والليل والصحراء، يناجي أمانيه، ويرسم طريقه إليها. . . وكان الليل ساكناً هذا السكون العميق، الذي لا تعرفه المدن، ولا تدريه القرى، ولا يقدر عليه البحر، وإنما تعرفه الصحراء العظيمة بصمتها وضجيجها، وقسوتها ولينها، فراقه هذا السكون، وملك عليه لبه، فأصغى إليه إصغاءً شديداً، فكان يسمع فيه نشيداً سرمدياً متصلاً، له من الروعة في القلب، والأثر في النفس، ما لا يكون لهذه الموسيقى المتكلمة الهزيلة، الصاخبة الضاوية، التي

ص: 132

تخرج من أفواه ضيقة، أو آلات حقيرة جامدة، وإن هي عظمت فإنما مخرجها أغصان الدوح الذي يرتل ترتيلة العاصفة، أو السحاب الذي يغني أغنية الرعد، أو البركان الذي يزأر زئير الموت. . . أما الصمت فهو نشيد الصحراء الخالد، وأغنية الوجود كله!

غير أن هذا الصمت ينقطع فجُاءَةً، ويحمل نسيم الليل الهادئ إلى أذن المعلم الشاب صدى أصوات بعيدة وعميقة، كأنها خارجة من أجواف الغيران، أو من بطون القبور. . . فلم يدر أهي من صنع الواقع، أم هي من تزوير الخيال. . . ولم يحفلها، لولا أن النسيم حملها إليه كرة أخرى، وهي أقوى وأشد وضوحاً، ثم تبين فيها حداء حلواً، فتخيل القافلة، وهي تضرب في الرمل الناعم البارد، والإبل قد راقها هذا الحداء، فمدت أعناقها وأوسعت خطوها، وهي طربة سكرى بخمرة الألحان، ولمس الفرج يأتيه من حيث تأتي القافلة، وأرهف أذنيه يتسمع هذا الصوت الذي يدنو أبداً يحمل إليه الأمل والسعادة، فإذا بالصوت يتخافت ثم يضمحل، وهو أشد ما يكون طرباً به وسروراً، ويسيطر على البادية هذا الصمت العميق، فيألم المعلم الشاب ويحس بالخيبة تحز في قلبه، ويضيق بهذا الصمت الذي كان ينعم به منذ لحظات. تنعقد السحب فتحجب عن عينيه هذه النجوم المتلألئة، أو يخيل إليه أنها حجبت عنه، فيدور ببصره فلا يرى إلا مخلوقاً واحداً هائلاً يحف به من كل مكان، فيحس بالرعب، وتثقل عليه هذه الوحدة الموحشة تحت ظلمات ثلاث: ظلمة الليل، وظلمة الصمت وظلمة الخيبة. . . ويهم بالتصريخ، ولكنه يقر ويسكن حين يرى هذه النجوم قد ظهرت دانية قريبة، كأنما هي قد استقرت على الأرض، على قيد ذراعين منه، تتراقص على ظهر اللجة السوداء، تحاول أن تخترق حجب الظلام بأشعتها الكابية الكليلة، ولا ينفك يحدق فيها، حتى تختلط أفكاره في رأسه، ويحس بأنه قد هوى في واد مظلم سحيق. . . ثم لا يحس بعد ذلك شيئاً، لأن النوم قد غلب عليه وهو في مكانه!

ويشعر المعلم الشاب بيد قوية تهزه هزاً فتقف كل شعرة في جسمه، ويفيق مذعوراً يظن أن الجن تداعبه وتوقظه، فيضغط جفنيه ضغطاً شديداً، ويستر وجهه بكفيه، ولكن هذه اليد تقبض على كفيه فتنترهما نترا، وتخالط أذنه أصوات عجيبة ولغط وضوضاء، فلا يشك في أنها أصوات الجن، ويفتح عينيه مضطراً فإذا هو مسحور، قد بلغ منه السحر أن حجب عن عينيه هذه الظلمة الثقيلة التي كان يغيب في أثنائها، وطمس أضواء القافلة الكليلة التي

ص: 133

كانت تتراقص أما عينيه، وبدل كل شيء في لحظة واحدة. . . فإذا الدنيا ممتلئة إشراقاً وضياء، وإذا هو قد انتقل من الصحراء القاحلة الجرداء، إلى دنيا تمور بالأحياء، وتموج بالناس، فيبالغ في فتح عينيه، وقد كاد يجن لفرط الدهشة. . . ولا يشك أن هؤلاء الذي يرى طائفة من الجن. . . ثم يعود إليه وعيه، ويصحو من نومه، فيتلو قول الله تعالى (يراكم هو قبيله من حيث لا ترونهم)، فيعلم أن ليس هؤلاء جناً، لأن الجن لا يمكن أن يراهم بشر، ولكنه لا يزال على شكه؛ أين هو؟ وما هذا الذي يرى؟ فيقول لمن كان يوقظه:

- أسألك بالذي تحلف به، إلا ما أخبرتني أين أنا؟

- أين أنت؟ أنت في هذه البادية!

- في هذه البادية؟! وما هذا الـ. . .

- ويحك يا رجل لقد حبست القافلة

- اسقوني شربة ماء

فيمضي الرجل ليأتيه بالماء، ويحدث كليب نفسه:

- إذن، فأنا قد نمت إلى الصباح

- خذ اشرب. . .

- الحمد لله! أشكركم

- لقد حبست القافلة

- وماذا تريدون مني؟

- نريد أن نعرف من أنت. . . إنا لنظنك عيناً للعدو، فمن أين أتيت؟

- أتيت من أعالي هذه الجبال أريد الشام فضللت ونفد زادي، وصهرت دماغي شمس الأمس، فعدت أركض على غير هدى حتى انتهيت إلى هذا المكان. . . ولست عدوّاً لأحد

- وما اسمك؟

- اسمي كليب، من آل أبي عقيل. . . وأريد الشام، فهل تمنون علي فتحملوني معكم؟ هذه هي دراهمي!

ويفرغ كيسه على الرمل، فتتكوم الدراهم والدنانير، تنعكس عليها أشعة الشمس فيخطف بريقها البصر!

ص: 134

- وفر عليك دراهمك، إنا لا نرزؤك شيئاً، أنت في حمى هذا السيد، فاركب جملك راشداً

ويطغى الفرح على نفس المعلم الشاب، حين يقدمون إليه هذا الجمل القوي البازل، وينسيه أن يسأل عن هذا السيد الذي أصبح في حماه، وأن يشكره. ويعلو متن الجمل ببراعة الأعرابي وخفة الشاب. . . ويسير به الجمل، وهو يقلب بصره في هذه القافلة العظيمة، فلا يستطيع أن يدرك به آخرها، أو يحيط بها، ويأخذه العجب حين يرى من حوله مدينة كاملة برجالها ونسائها وبيوتها وحاجاتها وجندها وحماتها، تنتقل تحت عين الشمس. . . ثم يشرع الحادي بأغنيته فيصغي إليها كليب حالماً مأخوذاً. . .

طوت القافلة الفلوات، تتجنب الطرق المسلوكة، وتنأى عن القرى القليلة، القائمة في الصحراء بين دمشق ويثرب، لئلا تجد فيها ما تخشاه في هذه الأيام المضطربة الحافلة بالثورات والحروب. . . وكان أصحابها دائبين ينزلون النهار إلا أقله، ويمشون أكثر الليل وجانباً من النهار، يتجنبون حر البادية، ووهج الشمس، حتى رأوا (بصرى) تلوح لهم في اليوم السادس عشر، يبسم طيفها خلال أشعة الطفل، فوثبت إليها قلوبهم، وطارت أمانيهم، وجدت القافلة المسير، دأب المسافر إذا دنا من بلد، أو شارف غاية. وكان المعلم الشاب أشدهم طرباً وفرحاً، فطفق يحدق في هذا الطيف، ويتأمل هذه الرمال، يستمتع بأحلامه البهيجة الحبيبة، فيرى الرمال إذ تمتد في اتزان عجيب، من قلب الجزيرة إلى أسوار (بصرى) يحملها هذا التيار المنبثق من قلب بلاد العرب، فيصبها في أرض الشام فتغمرها بروح الجزيرة، وتعلمها معاني الرمل، ومن معاني الرمل أن تكون الأمة مجتمعة كالرمل، كثيرة كالرمل، خالدة كالرمل، صابرة كالرمل. . .

ويغيم طيف المدينة ويظلم ثم يختفي في ثنايا الليل، ولكن المعلم الشاب لا يزال ممعناً في التحديق، قد نسي القافلة، وغفل عن الزمان، فلم يبصر اختفاء المدينة، وإنما كان يبصر أحلام الجزيرة، التي استهوته حتى استسلم إليها. ووضع في يدها قياده فساقته إلى عالم ناء لا يدرك العقل قراراته، ولا يبلغ غوره، عالم يفيض بالفتون والجمال والسحر، فظل يستمتع بفتونه وجماله أمداً طويلاً. . . ثم قادته الذكرى إلى ماضي الجزيرة، فإذا هو يراها ممحلة جدبة، قد تعرت من الخضرة، كما تعرت من الحضارة، وغاضت فيها ينابيع الماء، كما غاضت ينابيع العلم. . . ثم يرى رجلين يسيران من (أم القرى) إلى تلك (المدينة)

ص: 135

النائمة بين الحرتين فينبت الزهر تحت أقدامهما، وتخضر الرمال التي يطؤونها، وتكتسي البادية من حولهما أثواب الحياة، ويرى هذا الرجل يستقر في تلك (المدينة) فيبعث من بين حريتها صيحته القوية، فيوقظ النيام، ويحيي الجماد، ويبعث في النفوس الفضائل والأمجاد، فإذا الجزيرة برملها وصخرها، وشمسها المحرقة، وجبالها الصلداء، تسير وراء محمد (أعظم إنسان، وأفضل نبي) لتحمل الحياة إلى سهول الشام والعراق. . . يا عجباً! يا عجبا. . . الصحراء القاحلة، تمنح الحياة والبساتين؟!

رأى الجزيرة تمشي وراء محمد صلى الله عليه وسلم لتكون موقدة المعركة الحمراء التي أكلت الظلم والرذيلة والطغيان. . . ثم تمشي مرة ثانية لتكون رمالها بذور الأزاهير والأشجار في السهول الخضراء. . . ثم تمشي مرة ثالثة لتكون قرائحها وأدمغتها مادة هذه الصحف المجيدة البيضاء، ثم. . . ثم. . . ثم بالغ رفيقه في هزه، فانتبه كليب

- أفي كل يوم إغفاءة، أو إغماءة؟ ما لك أيها الرجل؟

-. . .

- انزل، هذه أسوار بصرى!

نزلت القافلة تحت أسوار (بصرى) في موهن من الليل، فلم تبصر في بصرى إلا قطعة من الظلام الراكد، ولم تجد أثراً لذلك الطيف البرّاق الزاهي، الذي كان يتراءى لها راقصاً على أشعة الطفل. . . فهجعت مكانها تنظر الصباح

نامت القافلة يحرسها الحراس، ونام كليب نوماً عميقاً لا يطفو على وجهه حُلم، حتى أحس بأنفاس الفجر الباردة على خديه ففتح عينيه، فرأى طلائع الفجر تضطرب تلقاء المشرق في خطوط ضعيفة، كأنها أضواء المصابيح الكليلة، فراقته وتعلق بها بصره وما شيء يمتلك لب الرائي، ويأخذ عليه مشاعره مثل انبلاج الفجر في الصحراء، حين يكون سفير النور، ومهبط الآمال على هذه النفوس التي ملّت ظلام الليل، وما يعيش في الظلام من مصائب وأوهام. . . ولم يستطيع كليب أن يحمل وحده كل هذا الجمال، وأحب أن يجد صديقاً يشاركه حمل الشعور، فكان يلقي على رفيقه النائم، من غير أن يحوّل وجهه عن المشرق:

- ما أجمل هذا!

ص: 136

وكان صوته هامساً خافتاً، كأنه كان يناجي نفسه، فإذا لم يجبه أحد، وطغى عليه شعوره، عاد يقول:

- ما أجمل هذا! ألا ترى؟

وكان الفجر قد انبلج، واستوى عموده، وامتدت خيوطه فإذا هي تملأ الفلاة كلها، وتحسر عن هذه المشاهد التي كانت مخبوءة وراء حجاب الليل، فإذا هي بارعة فتانة، ولم يكن صاحبنا المعلم قد رآها من قبل، فشده حين ظهرت له بغتة، كأنها لوحة فنية أزيح عنها غطاؤها، أو كنز فتح له بابه، أو متحف فيه كل جميل أخاذ أضيئت له جوانبه، فلم يدر أين كان هذا كله مخبوءاً، وحارت نفسه بين خضرة البساتين التي تحف بالبلد، أينعم النظر إليها ويذوق حلاوتها بعد هذه الأيام الطويلة التي ذاق فيها مرارة البادية، ويصغي إلى تهامس أوراقها المتلاصقة، ونجوى أفنانها المتعانقة، أم يتأمل هذه البنى العظيمة التي أودعها الفنانون من البيزنطيين أبدع ثمرة من جني قرائحهم الخصبة، ونزلوا لها عن أجمل نتاج لعبقريتهم ونبوغهم، لتكون عروس البادية، تخطر بعظمتها وجمالها، وتتهادى بزخرفها وزينتها على الرمال الخالدة. . .

وكان الفجر قد امتد إلى نفس المعلم الشاب، فأضاء له عوالمها كما أضاء هذا العالم، وحسر له عن آماله التي كانت مختفية في ظلام الأسفار، كما كانت هذه المشاهد غائبة في سواد الليل، فعاد إليها، وتمثلها قوية ظاهرة، وأحس كأن فجر حياته الماجدة قد انبثق، فختم صفحة هذا الليل الأسود الذي قضاه معلماً في أعالي الجبال، ليفتح صفحة النهار الوضاء الذي يقضيه في المدن الكبيرة أميراً عظيما، وتلهى بأحلامه عن هاتين اللوحتين اللتين حار بينهما أولاً: اللوحة التي وشاها الربيع، واللوحة التي زينها الفن، وانطلق يفكر في دمشق، ماذا تكون إذا كان هذا كله لقرية من قراها؟

بقيت القافلة في (بصرى) ريثما باعت واشترت، وقضى تجارها وطراً من الربح والكسب، ثم توجهت تلقاء دمشق، وكان المعلم الشاب يكلف ذهنه ضروباً من الكد ليمثل له صورة لدمشق تشبه ما كان يسمع عنها من الأخبار التي كانت تشيع في الأرض حتى تبلغ تلك الذرى العالية التي لا تهجع عليها قريته فتنشر فيها مكبرة منفوخة مكسوة بأنواع المبالغات، تصور له دمشق جنة كالتي وعد المتقون، لها من العظمة والجلال ما تتضاءل أمامه عظمة

ص: 137

(المدائن) التي كان يتحدث بها العجائز من قومه عن العجائز، وتخيل له من جلال الخليفة وضخامة سلطانه ما يصغر معه ملك كسرى ويهون. . . ولم لا؟ وملك كسرى كله عمالة من عمالات الخليفة، وولاية من ولاياته!

كان المعلم الشاب يكد ذهنه ليتصور دمشق، ويتبين طريقه إلى النجاح فيها، وكان يحسب لطول ما عزم على السفر وتردد فيه، ولعظم ما لاقى من الأهوال والمشاق، أنه ليس بينه وبين المجد والولاية إلا أن يهبط دمشق، فإذا هو والٍ أو أمير. . .

وكانت القافلة قد علت نشزاً من الأرض فانكشفت أمامها دمشق العظيمة أقدم بلدان الأرض وأجملها، وهي في مثل حلة العروس يضحك في أعطافها الجمال تميس بثوب العرس الأبيض الشفاف الذي نسجته أكف الربيع من زهر المشمش الهفهاف تموج في خديها دماء الشباب ظاهرة في زهر الدرّاق الأحمر الفاتن، وعبق أزهارها يعطر الجو كله، الأرض والسماء والجبال والصحارى المجاورة. . . فأخذ كليب بها أخذاً ورقص لها قلبه، وفتن بها فتوناً. ومنذ الذي يرى غوطة دمشق - وهي في ثوب الربيع - ثم لا يرقص لها قلبه ولا يفتن بها فتوناً؟ ومنذا الذي يقطع عرض الفلاة حيث يعتد ظل الصخرة القائمة جنة حادرة، ويرى الحشيشة الخضراء روضة ناضرة، ويرى البئر الآسنة مورداً صافياً. . . ثم يطل على الغوطة جنة الأرض حقاً وروضة الدنيا بأشجارها المزهرة، وطيبها وعطرها، وفتونها وسحرها، ثم لا يجن بها جنوناً؟ وهل عد العرب الغوطة إحدى الروائع الأربع ' في متحف الطبيعة إلا بعد نظر وفكر؟ كان كليب سابحاً في أحلامه، وهو أشد ما يكون بها استمتاعاً حينما ارتفع هذا الغبار من ناحية الشرق عالياً عريضاً. راع القافلة فوقفت تنظر إليه مذعورة، فجفا أحلامه ووقف مع القافلة ينظر، فإذا الغبار يعلو ثم تضربه الرياح فيتفرق، ثم يعود فيجتمع. . . ويفزع رجال القافلة الكبيرة، ويظنون الظنون، ويصغي كليب إلى حديثهم فيفهم منه أنهم لا يدرون ماذا يراد بهم. ولا يعلمون ما هذا الغبار، ويوغلون في الحديث ويتشقق بينهم، فيكشف لكليب عن أشياء كثيرة لم يكن يعرفها وهو في قريته العالية. . . يعلم كليب أن الدولة في أزمة من هذه الأزمات الخطرة التي تعرفها الدول حين تعصف بها عواصف الانقسام والحرب الداخلية، وأن عبد الملك قلق مسهد لا ينام الليل إلا لماماً، فإذا هجع رأى شبح ابن الزبير ينقض عليه فقام مرتاعاً يخشى أن ينتزع منه الشام

ص: 138

ومصر كما انتزع الجزيرة كلها والعراق وخراسان، وصار الحاكم المطاع في شرق البلاد وجنوبها وطالت مدته وامتد كلمته. . .

ثم تنقطع أحاديث القوم، وينظرون إلى الغبار الداني وسيوفهم في أيديهم، ومقاتلتهم أمامهم مستعدون للقتال، فينشق الغبار عن الراية الأموية التي يبعث مشهدها الطمأنينة في نفوسهم، ويخرج من تحته بضع مئات من جند الشام يخلطون القافلة الكبيرة ويكشفون أمرهم على عجل، فيعلم رجال القافلة أنهم حيال فرقة من حرس الصحراء، خرجت من دمشق منذ أسبوع لتجول في هذه الفلوات القريبة، تقيم العواصم والمخافر ثم تعود لتفسح المجال لفرقة أخرى، فتجاوزت حدها، وأمعنت في الضرب إلى الجنوب حتى دخلت في أرض ابن الزبير والتقت بهذه الفرقة الحجازية التي كسرتها وردتها على أعقابها، ولحقتها لتقضي عليها

وهز هذا الحديث القصير رجال القافلة، فاصطفوا للقاء الفرقة الحجازية التي دنا غبارها، وتلفتوا يفتشون عن الرجل الذي يقودهم إلى المعركة ويشق لهم طريق الظفر، ويلزمهم طاعته إلزاماً، ولن يكون هذا الإلزام إلا بقوة الشخصية، وبلاغة اللسان، وكبر النفس. وكانت ساعة انتظار وتردد توجهت فيها الأنظار إلى كثير من السادة، فخيبوا رجاء الناس فيهم، وأوشكت الفرقة الحجازية أن تصل. وهم على جمودهم وانتظارهم، عند ذلك تقدم كليب الذي كان يغالب نفسه ويقسرها على السكون ويمسك بركان حماسته أن ينفجر، تقدم حين عجز عن ضبط نفسه، ففتح له طريقاً وسط الفرسان، وقد رأى أمانيه أدنى إليه من أنفه، ومضى فيه مضي السهم حتى صار في رأس القوم، وهم يعجبون منه، وينتظرون أن يقودهم كل رجل في القافلة إلا هذا الشاب الذي أمضى طريقه كله صامتاً حالماً لم يتحدث بحديث، ولم ينطق بكلمة، والذي يظنونه عيياً لا يبين ولا يعرب عن نفسه. ولكن عجبهم لم يطل، فإن الفتى انطلق يخطب فيهم خطبة صارخة مجلجلة تلتهب كلماتها التهاباً، وتحرك جملها الجلاميد الصم، وتدع الجبان المخلوع القلب وهو البطل الحلاحل. وكان صوته القوي يدخل إلى حبات القلوب فتصيبها منه رجفة كما يرتجف الرجل يمسك بسلكة الكهرباء؛ وكانت إشارات يده وسمات وجهه تنطق بمعانيه قبل أن ينطق بها لسانه، فتحرك الناس وتقودهم حتى كأنهم معلقون بإصبعه. ولم ينته المعلم الشاب من خطابه حتى كان

ص: 139

القوم قد خلعوا نفوسهم التي أضناها طول السفر، وأرمضها حر الصحراء، وأضعفها التردد والإحجام، ولبسوا نفوساً جديدة ماضية لا تعرف التردد، قوية لا تعرف التعب، مؤمنة بالظفر لاشك عندها فيه. ولم ينته من خطابه حتى كان الجند الحجازيون قد وصلوا. فأطلق من فيه صرخة الحرب، وأغار كالقضاء النازل ينشد أنشودة الموت والجند ومسلحة القافلة من ورائه تردد النشيد فتميد له البيد. فلم تكن إلا جولة واحدة حتى آثر الحجازيون السلامة، ففروا لا يلوون على شيء. واستراحت القافلة حيناً. ثم أخذت طريقها إلى دمشق يقدمها كليب (المعلم البطل)

كانت دمشق في زلزال شديد، وكان أهلها في هيجان واضطراب، ينتظرون المعركة الفاصلة بينهم وبين ابن الزبير، لينجوا العالم الإسلامي من هذا الانقسام الذي ينكره الإسلام ويأباه أشد الإباء؛ وليعود إلى الوحدة التي جعلها أساس الحياة الدنيوية للمسلمين، كما جعل التوحيد أساس الدين. . . ولكن أهل دمشق فزعون مشفقون على الخلافة الأموية أن تنهار وتتحطم وهم بُناتها وحُماتها، يرقبون الأحداث، ويتسقطون الأخبار، ويُعدون نفوسهم للتضحية الكبرى في سبيل المبدأ القويم، والغاية الساذجة كدأب المسلمين في كل عصر وآن.

وكان (قصر الخضراء) مثوى الخلافة، وسرة الأرض، في حركة دائمة؛ فمن مجلس يجمع للشورى، إلى ألوية تعقد للدفاع. وكذلك كان قصر (مستشار الدولة روح بن زنباع) الذي أَمّه كليب المعلم الشاب صبيحة وصوله إلى دمشق، يقوده إليه زعيم الجند الذين أنقذهم كليب، وأعانهم على عدوهم، ليلقى عنده روح جزاءه.

وكان قصر روح قائماً في ظل المسجد، دانياً من باب الفراديس يجري من تحته بردى متوارياً في حمى القصر، ثم يظهر كرة أخرى، يتحدر ويهدر هديراً سائغاً عذبا، وسط جنة دانية القطوف متشابكة الأفنان، قد اتخذ فيها مجلس يقوم على سيقان من خشب الجوز المنقوش، منغمسة في بردى تغسلها أمواهه دائماً وتداعبها أمواجه الصغيرة، فتقرصها ثم ترتد عنها ضاحكة مقهقهة، وسماء هذا المجلس أغصان الأشجار قد تعاطفت وتعانقت، يزينها الياسمين بزهره الناعم العطر، وحول هذا المجلس إطار من الورد والنسرين والسَّيْسنبر والنرجس والبنفسج، فهو جنة تنعم فيها العين بهذه الأزاهير المؤتلفة الألوان،

ص: 140

المختلفة الأشكال، تتمايل وتتهادى حين يمسها هذا النسيم الرخيّ، فيفوح من أعطافها هذا الشذا الطيب، الذي ينعم الأنف بريّاه، كنعيم الأذن بهذه (الاوركستر) الإلهية، التي تعزف ألحان الفطرة الجميلة الساحرة على حناجر البلابل والشحارير؛ وبردى فوق هذا كله يعزف لحنه السرمدي، وتنعكس على صفحته المتموجة ألوان الزهر، فيكون منها لوحة فنية تزري بألوان الغروب في لجةّ البحر.

والقصر طبقتان من الرخام الأبيض والأسود والمجزّع، له رواق على بابه، قائم على أساطين من المرمر قد استفرغ صنعها وتزينها عبقرية البنائين والمهندسين فبدت آية معجزة في لغة البناء تحس لدقتها وأحكامها كأنها هي حية ناطقة نَشوى بخمرة هذا الأريج العطر الذي يفوح من أشجار البرتقال والليمون المطلة بالزهر التي تنافس بعطرها الورد والياسمين، وأشجار المشمش التي تظهر بزهرها الأبيض الشفاف كأنما هي في حلّة في الثلج الحيّ المعطر، وأشجار الدرّاق التي تبدو بزهرها الأحمر كأنما هي محبّ ورّد وجنتيه الخجل، وأشجار الحور سكرى تميس بثوبها الجديد الذي خلعته عليها أيدي الربيع. . . يتوّج هذا كله منارة المسجد الشاهقة في السماء، تنشر في الدنيا كلها العطر السماوي الخالد، وتريق عليها السمو والجلال، فتتطهر الأرض من الشرك والرذائل، وتتطهر النفوس من المطامع والشهوات، وتهبُّ على الوجود نسمة من نسمات الجنة حين يخرج منها النداء:(الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله!)

كانت دمشق (وما تزال، وستبقى دمشق) جنة الأرض، ودرّة تاجها، وواسطة عقدها، ليس في الأرض أجمل منها ولا أحفل بكل محبوب ساحر أخاذ، مما يشمّ أو يرى أو يسمع. . . وكان قصر روح من أجمل ما في دمشق، وكان فوق الجمال جليلاً فخوراً بساكنيه، يملؤه الحجاب والجند وذوو الحاجات، فلا ينصرفون إلا وافرين غانمين شاكرين. كان محط الجمال والجلال، ولكن كليباً (المعلم البطل) لم يحفل شيئاً من هذا، ولم ينظر إليه، لأن من عادته ألا ينظر إلا أمامه، لا يلتفت يمنة ولا يسرة لئلا يشغله عن غايته شاغل، أو يعوقه معوق. وكانت آماله هي غايته، فمضى إليها قُدُماً، لا يبصر إلا ظهر الجندي الذي سبقه ليدّله على الطريق في هذا العالم الصغير، حتى دخل على المستشار. .

ندع كليباً في حضرة روح بن زنباع مستشار الدولة، ونقفز قفزة واحدة إلى واسط مدينة

ص: 141

الحجاج، نقطع في هذه القفزة سنوات طويلة مليئة بالأحداث الجسام، من قتل مصعب وعبد الله ابني الزبير، إلى عودة الوحدة الإسلامية على يد البطلين عبد الملك والحجاج. . . فنرى في شوارع واسط الفسيحة شيخاً أعرابياً جافياً يتلفت تلفت المشدوه الذي لم يبصر في عمره مدينة كبيرة، يتوسم في وجوه الناس بفضول ظاهر، فيفرون منه حتى زال النهار، وكلّت رجلاه من المسير فجلس في ظل دار من هذه الدور الجديدة، كئيباً حزيناً

- ما لك يا عمّ؟

-. . . . . .

- ما لك؟ أخبرني ما شأنك؟

فيرفع الأعرابي رأسه ويحدّق في وجه الرجل، حتى يطمئن إليه، ولا يرى فيه ما يريبه، فيقول له:

- أريد أن تدلني على رجل يدعى كليب بن يوسف الثقفي، من الطائف

فيضطرب الرجل، ويسأله:

- أتدري ويحك ما تقول؟ ابن يوسف الثقفي؟ أخو الحجاج؟ فلا يسمع الأعرابي هذه الكلمة حتى يسري عنه، وينطلق ضاحكاً بملء فيه، ويقول:

- بل هو والله الحجاج، كنا نسميه كليباً، قاتله الله ما أشد عقوقه. . . ألا تخبرني أين هو هذا الخبيث؟

- قبحك الله من أعرابي جاهل، أبهذا تصف الأمير؟

ويتلفت إلى كل جهة، وقلبه يكاد ينخلع من الرعب يخشى أن يسمع حديثهما أحد، ثم يقول للأعرابي هامساً:

- اخفض من صوتك. . . سألتك بالله!

- ولم ويحك؟

- ألا تعرف من هو الحجاج. . .؟ ألست من سكان هذه الأرض؟

فيعود الأعرابي إلى الضحك وقد راقه ما يسمع ويقول له: - بل أنا من سكان السماء؛ هبطت الساعة من أعالي جبال الطائف؛ أما الحجاج فأنا أعرف الناس به: معلم صبيان أحمق!

ص: 142

- ويلك يا أعرابي، هو والله أمير العراقيين، وقاتل ابن الزبير، وسيف الخلافة الأموية وثبت أركانه

- إنك تهزل!

- وهل في هذا هزل؟ سل ويلك من شئت!

- كليب أمير العراقيين؟ يا ضيعة شيبتك يا عقيل!. . . ويلك يا هذا، دلني عليه. . . دلني عليه. . .

-. . . . . . . . . . . .

-. . . . . . . . . . . .

- أدن يا عقيل!

- أو قد عرفتني؟

- وهل ينكر الحجاج أصدقاء كليب؟ كيف تركت صبياننا؟

- ما أنت والصبيان؟ أنت أمير العراقيين. . . ولكن خبرني ويحك يا كليب، كيف بلغت هذا كله؟

- بلغته لأني (أردت) أن أبلغه

ولم يدرك عقيل ما شأن الإرادة هنا؛ فانطلق يضحك يحسبها نكتة، ثم سكت فجأة وقال:

- ولكنه شيء عظيم والله يا كليب! أين هذا من ذاك في الطائف؟

- وا شوقاه إلى داري في الطائف، والى أيامي مع الصبيان! لقد خلفت فيها ربيع حياتي يا عقيل، لقد خلفت فيها ربيع حياتي. . . والآن يا مرحباً، يا مرحباً برفيق الشباب. . . . . .

(بيروت)

علي الطنطاوي

ص: 143

‌خالد بن الوليد وأمير حمص

رواية شعرية في فصل واحد

بقلم السيد محيي الدين الدرويش

(قواد العرب المسلمون مجتمعون للمداولة في حرب الرومان)

أبو عبيدة:

أرى الرومان قد حشدوا جنوداً

يضيق السهل عنها والفضاء

كأن الليل يزحف وهو داجٍ

ونحن على جوانبه ضياء

ولولا الصبرُ والإقدام فازت

جيوش الشرك وانكشف الغطاء

عمرو:

صدقت (أبا عبيدة) ما ونينا

ولم يُفْلَلْ لضرمتنا مضاء

وكنا كالصواعق غاضبات

تميد الأرضُ منها والسماء

ولكن كان جمعهم عديدا

فلم يوهنْ صفوفهم اللقاء

ولو أوتوا قلوباً لا تبالي

لحاق بقومنا منهم بلاء

رأيت الجند بالعزمات يسمو

وحقَّ له مع اليأس الشقاء

و (خالد) لِمْ تأخر؟

أبو عبيدة:

لست أدري

سأصبر علَّ يحمله المساء

أتاني من (أبي بكر) كتابٍ

فزال الكرب عني والعناء

يبشرني بمقدمه نصيراً

بروحي منه ذّياك السناء

هو البطل الذي قهر الأعادي

وليس له سوى التقوى وقاء

تعالى الله حين مضى سريعاً

ووجه الأرض تخفيه الدماء

رأينا كيف تُنْزَعُ المعالي

ويرفع في السماء لنا لواء

(تسمع ضجة)

ماذا؟ هتاف؟ ما لخبر؟

ص: 144

عمرو:

لعل (خالداً) حضر

أبو عبيدة:

تبينوا ماذا جرى

لم يبق لي من مصطبر

(تهليل من الدخل ونشيد من قبل القادمين)

الجنود:

جردوا البيض وسيروا للكفاح

فمنادي الحرب بالأعراب صاح

إن نيل المجد في الدنيا متاح

لشعوب زانها العزم الخطير

سوف يلقى (الروم) أنواع البلاء

من كماة نافسوا الشهب علاء

نحن سر المجد بل رمز الإباء

لا نبالي ما حيينا بعسير

أنتم الأبطال آساد العرين

من رأى الآساد يوماً تستكين

فاشحذوا العزم ولبوا مسرعين

لبناء المجد والعز الأثير

(خالدٌ) قائدنا يوم اللقاء

ولنا من سيفه أقوى مضاء

زلزل الفرس فمغناهم خلاء

ومضى في نهجه غير حسير

خالد:

سلام عليكم ليوث العرين

ونسل الكرام من الفاتحين

أبو عبيدة:

عليك السلام زعيم النضال

وسيف الإله على الكافرين

أطلت علينا الغياب فأمست

تسافر نحو (العراق) العيون

علام التأخر؟

خالد:

شأنٌ عجيبٌ

وشكٌ تغلغل فيه اليقين

أبو عبيدة:

فديتك هات الحديث العجيب

وأدل برأيك للمسلمين

خالد:

ص: 145

الله أكبر تم الفتح وارتفعت

على (العراق) بنود النصر والظفر

خضعنا معارك يرتاع الحديد لها

حيث المنية لا تبقي على بشر

فاهتزت الأرض لما ثار ثائرنا

وأصبحت دولة الأوثان في سقر

رام الأعادي بنا كيداً وما علموا

أن العروبة لا تخشى من الخطر

وعدت نحوكم بالجيش مرتقياً

صحراء تزخر بالويلات والغير

لا ماء فيها ولا رغد يلوح بها

أبو عبيدة:

ماذا شربتم إذن؟

خالد:

كنا على حذر

أعطشت أنيقنا ثم ارتوت عَلَلاً

وكنت أنحرها في وقدةِ السُّعُر

سريت خمس ليال ما شكا تعباً

منا امرؤٌ

أبو عبيدة:

يا لكم من فتية صُبُر

خالد:

أصليت (بهراء) حرباً فاستكان لنا

قوم سما مجدهم في سالف العُصُر

و (مرج راهط) قد ريعت فوارسه

من بأسنا وكذا (بصرى) على الأثر

أبو عبيدة:

يحيا البطل سيف الله

الجميع:

يحيا يحيا يحيا يحيا

خالد:

نبئوني عن حالكم إن قلبي

يتنزى شوقاً إلى الهيجاء

أبو عبيدة

قد قهرنا الرومان في (أجنادين)

وأضحى (اليرموك) مثوى العناء

ص: 146

داهمونا بجيشهم فغدونا

نتراءى كالشامة البيضاء

قد قسمنا جنودنا وصمدنا

فملأنا الوهاد بالأشلاء

خالد:

ما أراكم قد أصبتم بانقسام

إنما الانقسام رأس البلاء

أجمعوا أمركم وكونوا بناء

هازئاً بالعواصف الهوجاء

إنما الفوز للقوي فسيروا

نبتن العز في ذرا الحوزاء

وامهروا المجد بالدماء تفوزا

في جنان الخلود بالآلاء

السلاح السلاح يا قوم إني

سوف أغدو أمير هذا اللواء

أبو عبيدة:

يحيا القائد يحيا خالد

الجميع: يحيا يحيا يحيا يحيا

(يذهبون إلى الحرب وتنشب المعركة ثم يعود خالد بعد جلاء العدو)

خالد:

لك الحمد رب الكون تم لنا النصر

وقام عمود الحق وانقمع الكفر

ورف على الأكوان نور (محمد)

فأشرقت الدنيا ولاح بها الفجر

فعاد لنفسي زهوها ورجاؤها

وقرت بي العينان وابتسم الثغر

تمنيت أن ألقى الشهادة راضياً

ولله أمر لا يغالبه أمر

وأوردت نفسي مورداً دونه الردى

فأخطأني وا لهفتا ذلك الأجر

عجبت من (الرومان) هانت نفوسهم

فلم يثبتوا عند اللقاء وهم كثر

لئن هيمن الضعف المهين على امرئ

فأجدى لهذا المرء من عيشه القبر

(دمشق) عروس الشام دانت لحكمنا

وأرجو (بحمص) أن يطالعنا النصر

جندي:

سيدي قد أتى من الرومان

فارس لا تملُّه العينان

يرتجي أن يراك

خالد:

أدخله حالاً

لنرى ما يرومه من شان

ص: 147

(يدخل أمير حمص)

الأمير:

أيها القائد رفقاً بِشَجٍ

فلقد كنت نصير البائسين

إنني سيد (حمص)

خالد:

مرحباً

بفتى (غسان) وضاح الجبين

أوضح الأمر وقل لي ما الذي

تشتكيه كي أبيد الغاشمين

صلة تجمعنا من (يعرب)

لم يبدد عقدها مر السنين

الأمير:

قد أتيت اليوم أشكو ملكا

آثر البغي وراع الآمنين

قيصر الروم (هرقل)

خالد:

ويله

سيرى في الغد عقبى الظالمين

الأمير:

قد بنى في (حمص) قصراً شامخاً

يتعايا عن ذراه الناظرون

دوحة (الميماس) تهفو حوله

ومياه النهر تروي الظامئين

ومضى يمعن في آثامه

لا يبالي بانتقاد اللائمين

فاستثارت (حمص) من أعماله

كيف ترضى (حمص) فعل الجاهلين؟

إنما (حمص) منارٌ للألى

عزمهم في الرَّوع يأبى أن يلين

لم يكن يدري (هرقل) أننا

لا نبالي ما حيينا بالمنون

عرب من آل (غسان) لنا

طأطأ الناس جميعاً خاشعين

أنتم إخواننا أهلاً بكم

وليمت في كيده ذاك اللعين

إن يُفرق بيننا الدين فقد

وحَّد الجنس قلوب المخلصين

قد أتينا اليوم نرجو عطفكم

وغدونا في ذَراكم لاجئين

أنتم السادة

ص: 148

خالد:

لا تخشى الأذى

قد وجدت الأهل

الأمير:

دمتم فائزين

خالد:

قد نهى الإسلام عن إيذائكم=وقضى ذلك خير المرسلين

الأمير:

سوف نُمضي معكم عهداً على

أن تصونوا دمنا

خالد:

لنا نَمين

شيعة العرب وفاء بالذي

وعدوا لا درَّ درُّ الناكَثين

أيُّ شأن لعهود قُطعت

ثم أضحت تُرَّهات بعد حين!

لا تغُرَّنك قصاصات غدت

شَركاً تنصبُ للمستضعفين!

ارجع الآن (لحمص) إنني

قد تصبَّاني لمرآها الحنين

بشر الأقوام أنا في غد

سوف نبدو في رباكم فاتحين

(يذهب الأمير ويدخل القواد)

أبو عبيدة:

سلام يا أمير المسلمينا

له أرَجٌ يفوق الياسمينا

عمرو:

لقد خضعت لعزتك البرايا

ودان لك الأعادي صاغرينا

فكنت القائد النَّدْب المرجَّى

وكنت أمامَنا حصناَ حصينا

قائد:

وكيف نخاف للأعداء بأساً

وسيف الله والإِسلام فينا؟

خالد:

أراكم قد بلغتم فيَّ حدّاً

تسامى فوق وصف الواصفينا

ص: 149

ألستم عدتي عند الرزايا

ألستم في الحوادث لي يمينا

حمدت جهادكم والهول باد

وقد جنت بوادره جنونا

وزلزلتم صروح الكفر لما

أتيتم كالصواعق راعدينا

تفرَّدت العروبة بالمعالِي

سلوا الأحقاب عنها والسنينا

ألم تملأ زمازمها البرايا

وتتركْ في الزمان لها رنينا

فويلُ للألى غمزوا قناها

لقد سلكوا سبيل الجاهلينا

إليك (أبا عبيدة) خذ كتابا

أتاني من أمير المؤمنينا

أتانِي ناعياً

أبو عبيدة:

من ذا توارى؟

خالد:

(أبو بكر) إمام المصلحينا

هوى طودٌ من الإسلام فابكوا

معي الأخلاق والحلم الرزينا

أبو عبيدة:

سنذكره على مَرِّ الليالي

ونذرف بعده الدمع السخينا

وأيُّ خليفة أضحى بديلاً

لخير الناس أخلاقاً وديناً؟

خالد:

هو الفاروق منضور السجايا

إمام لا يرى في الحق لينا

أناط بك القيادة فاستلمها

فإنك كنت في الدنيا أمينا

وأعلمه بأمر الفتح حالاً

أبو عبيدة:

معاذ الله أن أنسى الجهودا

أأغدو قائد الأبطال حقَّا

و (خالد) يملأ الدنيا رعودا

وكيف أرى البنود عليَّ تهفو

وسيف الله قد هزَّ البنودا؟

تقدم أيها البطل المفدَّى

فقد ذللت بالعزم الحديدا

ص: 150

أشر للدهر يخضع للمعالي

وأومئ للأنام تكن عبيدا

وسر بالمسلمين إلى الثريا

فقد كنا ولم نبرح جنودا

خالد:

(أبا عبيدة) ما حاربت مرتقباً

طيب الثناء ولم أطمح إلى الرتب

ولا صبوت إلى الدنيا وزخرفها

ولا سموت إلى مال ولا نشب

في ذمة الله ما قدمت من عمل

تبقى مآثره دوماً على الحقب

عساه ينفعني إما قدمت إلى

ربي ويعصمني من سورة الكرب

بذلت نفسي قرير العين مغتبطاً

حتى تعالى لواء العرب في السحب

ولم أكن غير جندي أهاب به

إلى الجهاد يقينٌ غير مضطرب

والآن سيروا إلى (حمص) فإن بها

هان العسير وتم النصر للعرب

(حمص)

محي الدين الدرويش

ص: 151