الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 247
- بتاريخ: 28 - 03 - 1938
حول الكعبة
للدكتور الحاج عبد الوهاب عزام
الليل مهودَّ وسننْان، ترى العين سكونه، ويُحس القلب سكينته؛ ونسيم السَّحر يسري رفيقاً ينفح الخليقة لا أدري أيبغي إيقاظها أم إنامتها؛ والقمر ينضح الكون بأشعته يخفق مع النسيم نوره؛ وقد أصحت السماء إلا قَزعاً في الأرجاء؛ وتبدو في سكون الليل ونور القمر قمم الجبال: غندمة وأبي قبيس وأجياد.
استغرقت الخليقة في أحلامها الجميلة، وشُغل الليل بشعره البليغ، ففيه إصاخة الشاعر للمعنى الجميل المخترع.
ولكن طرق مكة لا تنام، ولا تفتر عنها الأقدام، فأنظر في ضوء القمر، وفي ظلال الدور، زرافات متمهلة أو مسرعة، ذاكرة أو صامتة، تؤم البيت الحرام.
الليل هاجع، والخليقة نائمة، ولكن هذه القلوب الوالهة لا تهجع؛ ولكن هذه العيون الباكية لا تغمض، ولكن هذه الزفرات المردّدة لا تسكن، ولكن هذه الألسنة الذاكرة لاتفتر. قد استوى ليلها ونهارها، وعشيها وإبكارها.
هذا هو المسجد الحرام! فهل تقع العين إلا على مُصَلٍ خاشع، وطائف بالكعبة واله، وقارئ تنطق بضراعته الآيات، وداع يرسل قلبه في كلمات؟
كم قلب محزون حمل إلى هذا الجناب شكواه، وفؤاد معذب يبث في هذه الساحة نجواه! وكم آثم حط في هذا الفناء الأوزار، ليمحقها بالتوبة والاستغفار! وكم دَنِس جاء ليتطهر من هذا النهر، وكم يائس ورد يستقي الرجاء، ومحروم أقبل يستدر العطاء! وكم نفس مظلومة ترفع ظلاماتها، وأخرى ظالمة تعترف بجناياتها! وكم مكلوم جاء بجراحاته، وأرسل آهاته وأناته! وكم ثاكل يحمل قلبه كسيراً، ويسيل دمعه غزيراً. كل ضارع على هذا الباب، ضائع عند هذه السدّة، يهاب هذا العِظَم، ويرجو هذا الكرم. أكداس من الآلام والآمال، وأشتات من الهموم والأمانيّ، والشكران والشكوى، والدعاء والنجوى، والتضرع والحمد!
ووراء هؤلاء في المشرق والغرب قلوب توجهت شطر هذا البيت كما تتوجه الإبر إلى القطب، وتنزع إليه نزوع الغريب إلى ولده وداره. فكم مصلٍّ في أرجاء الأرض ولّي هذا الجناب وجهه وقلبه! وكم داع قصد هذا القصد على بعد المزار ونأى الديار! أترى
الدعوات تهفو على الكعبة مع هذا النسيم، والصلوات تتنزل عليها في هذا الضوء، وأسراب الآمال طارت من المغرب والصين لتطوف مع الطائفين؟ أترى سوداوات القلوب اجتمعت فكانت هذا البناء، أم أناسيّ العيون تراكمت فكانت هذه البنيَّة السوداء؟
انظرُ فلا أجد في هذا البناء تمثالاً ولا صنماً ولا وثناً ولا صورة ولا نقشاً. إنما هو التوحيد في خلوصه، والعقيدة في يسرها، والإسلام في فطرته. بيت لعبادة الله يؤمه عباد الله، تجتمع حوله القلوب، وتلتقي في الدعوات! بيت من التوحيد يحسّ، وبناء من الأخوة يُلمس.
ما أروع هذا مشهداً! صلاة ودعاء، وطواف وبكاء، يسيل بها الإصباح والإمساء. من لي بالخلوة في هذا الزحام، والوحدة في هذه الكثرة، والسكون في هذا العباب، والقرار في هذا المحشر! بل من لي بأن أقف على الساحل من هذا البحر لأرى واسمع!!
صعدت إلى مصلى الشافعي فوق زمزم فإذا هو خلاء، فأشرفت على هذا الجمع أرى جموعاً متوحدة، ودعوات متجسدة، وألفاظاً تنطق بمعنى واحد، وظلالاً يمدها نور واحد. وكان للقلب مجال بين الكثرة والوحدة، والظهور والخفاء، والوجود والفناء. وليت اللحظات امتدت فاتصلت بالأزل والأبد!
وينبعث في هذا الدويّ، بل يشع بين هذه الأصوات صوت الأذان:(الله اكبر. الله أكبر)، وينتظم شعار التوحيد هذه الأصوات؛ فإذا الدعاء صمت، والحركة سكون، وإذا هذا الجمع نفس واحدة تصيخ إلى صوت واحد.
ما أجمل هذا الصوت وما أروعه! عظمة الله تغشى هذا المشهد، وكلمة التوحيد تملأ هذا المسجد. قلت لنفسي:(ليت الإنسان يستمع أبدا إلى آذان الفجر في جوار الكعبة!) قالت: (أما الأذان فهو دائم موصول لا تخلو منه ساعة من ليل أو نهار. فالأوقات في أقطار الإسلام مختلفة، فما يسكن أذان في بلد إلا ارتفع أذان في آخر ابد الدهر. تكبير دائم لمن كان له سمع، وذكر مستمر لمن كان له قلب. وأما الكعبة فأنت في جوارها كل حين إن لم تكن أسير البقاع ورهن الحجب).
هلم إلى الرحيل! طفت طواف الوداع، وأديت مع الجماعة صلاة الصبح، وقد أُعدت السيارات والرفاق ينتظرون؛ ولكن النهار لم يسفر فما يعجلني عن هذا المكان؟ هلم قد حان الرحيل وليس من الذهاب بد. ولكن الرحيل يمكن إرجاؤه لأتزود للبين نظرات، واجمع
للفراق ذكريات. . . قد حان الرحيل ولا مناص:
خرجت امشي يقول قلبي
…
للرِّجل: بالله أَنظِريني
رحم الله حافظاً الشيرازي الذي يقول:
وكيف يطيب العيش في منزل المنى
…
وأجراس هذا السَّفْر للبين تقرع
عبد الوهاب عزام
مجد العرب والإسلام
للأستاذ إسماعيل مظهر
كانت رومية قد لفظت آخر أنفاسها عندما اقتلع زعيم حربي من الهمج المتبربرة تاج الإمبراطورية الرومانية من رأس إمبراطور صبيٍْ ابيض الوجه، وضَّاح الجبين، ليضعه فوق رأسه الكث الشعر، الملبَّد الفودين.
أما الزمان فسنة 476 بعد الميلاد. وأما المسرح فدرجات فدرجات قصر رافِنَّا الرخامية.
كان الانحلال قد امتد إلى عظام رومية ينخرها منذ سنين، فأخذت مِرَّتها تضعف وقواها تتبدد شيئاً بعد شيء. أما آخر مشهد من مشاهد هذه المأساة التي مثلتها رومية على المسرح هذه الدنيا، فقد مرَّ مرور الحلم ولم يأبه له إنسان. وهنالك انسدل الستار على تلك المدينة القديمة وانطوت صفحاتها الخالدة. أما المستقبل فكان طوع يمين تلك الشعوب الفتية القوية التي انحدرت من الشمال.
خرجت تلك الشعوب من خلال المفاوز الجبلية المثلوجة، وانحدرت من هضاب الشمال الهاوية، وشقت طريقها إلى الجنوب حيث الأراضي الشامسة والحقول الخصبة. ولقد ركب بعضهم متن العباب على سفائن أشبه بالحيتان الضخام، وامتطى آخرون عجلات من ذلك الصنف الذي يستخدمه البدو إذ يرعون إنعامهم. ولقد اتخذوا في جوانب الطرق المرمرية التي أنشأها القياصرة العظام محاطَّ يضربون فيها مخايمهم، وكان البحر المتوسط مرمى أنظارهم؛ ذلك بأن رومية لم تجمع ثروتها الضخمة إلا من شطآنه
مضوا يهيمون في كل واد غاصبين مقاتلين، فنشروا الرعب والفوضى في ربوع المدائن القيصرية؛ وكانوا في جهالة؛ فساء تصرفهم، وفسدت أعمالهم؛ وقد تمضي عليهم فترة يتفرقون فيها أشتاتاً، ثم تنجدهم موجات جديدة من الهمج أمثالهم هابطة من الشمال أو من الشرق. ونُسِيَ القانون الروماني فأصبح الحق للأقوى، واحتكمت تقاليد العشيرة البدائية في الجماهير، تقاليد أولئك الذين نشَّأتهم صحراء غوبي المجدبة في جوف الصين.
وظل العالم الحاف بالبحر المتوسط خمسة قرون ميدانياً لتنقل تلك القبائل الهمجية ووحداتها الحربية. على إنهم إن ظلوا أمناء لتقاليد حياتهم البدائية، واحتفظوا بروح العشيرة، فإنهم في خلال لك الخمسمائة من السنين كانوا قد تقبلوا أثارة مما خلف العالم الروماني الإغريقي
من صور الثقافة.
طوى رومية ظلام القرون؛ فلما طواها خيم على أوربا ظلام الجهل والهمجية. ذلك الجهل وتلك الهمجية كان طابع الشمال، فعملت رومية جاهدة في أن تصد طغيانهما عن الجنوب قروناً عديدة؛ فلما لفظت آخر أنفاسها، استباحت فوضى الشمال حضارة الجنوب.
وكانت الغابات المرطوبة على عهدها لم تتغير، والخرائب المغبرة الحزينة على سابق حالها مذ سكنها البوم وأخذت تسبح في أفنيتها وتنتقل في كرومها القديمة. ولقد ألفتها الذئاب الجارحة تعيش جماعات متعاونة على الصيد والافتراس. أما المزارع فكانت رقعاً تتخلل الأرض الحجرية، حيث القرى بأكواخها المشيدة في لبنات ملَاطها الطين وسقوفها من البوص والهشيم، تقوم هنالك في سفح قصر منيف ذي أبراج ضخام لسيد من أسياد القطائع.
أما الرعاة فكانوا ينامون في العراء، وفي الوديان المخيفة الموحشة؛ ما يؤنسهم من شيء إلا المفترس من الحيوان والجارح من الطير. ذلك لأن مفاوز الغابات كانت مآهلهم الأمينة ومرابيهم الأصيلة
وهنا وهنالك كنت تقع على ذلك التراب الأبيض السافي تتخلله قطع من الأحجار، إن نمت عن شيء فعن أن التراب والأحجار إنما هي بقايا طريق روماني براه الزمان
بين الفينة والفينة كان يمر بذلك الطريق يهودي من بني إسرائيل ومن ورائه شرذمة من الخيل؛ أو تاجر تحيط به كتيبة من حملة الحراب، وأقل ما يكون حدوثاً أن يثير غبار ذلك الطريق كتيبة لسيد من أسياد القطائع، فإذا مرت اجتمع من حولها أهل الحقول ينظرون مأخوذين من رجال تلك الكتيبة الأشداء، يؤخذون بمرأى الدروع السود المصفحة بالحديد، والملافع الكبيرة التي يغشى أطرافها الفراء.
قلّ من أهل الريف من رأى اكثر من ذلك؛ اللهم إلا أن يكونوا قد رأوا علامة الصليب الكبيرة التي تشير إلى التقاء الطرق وتفرعها في نهاية الوادي. أما ما وراء التلال فكان مجهولاً بل كان عدواً مخيفاً. ولم يكن لهم اتصال بالعالم الخارجي عن عالمهم هذا، اللهم إلا عن طريق الرهبان لابسي المسوح، أولئك الذين كانوا يجوبون الأنحاء حُفاة من دير إلى دير، أو عن طريق شاعر من مؤلفي الأغنيات، يمر عجلان إلى البهو ليتناول وجبة فاته
أوانها.
ذلك بأن أهل أوربا في عصور الظلام عاشوا مدفونين في وديانهم التي نشأتهم ولم يروا مما ورائها شيئاً. قال حراث من أهل ذلك العصر انحدرت إلينا كلماته: (إذا تنفس الصبح خرجت تواً أقود الثيران إلى الحقل، ثم أضعها في المحراث، لأن واجبي أن أحرث كل يوم حقلاً، وإلى جانبي ولد لي أبحَّ صوته البرد والصياح. فإذا فرغت من عملي ذاك ملأت المذاود بالدريس وسقيت النَّعَم ثم أخرجت الرَّوث. يا الله! إن هذا العمل المرهق شاق، ولكني لست حراً).
وكثيراً ما كان القحط يحط عليهم. فأيام ممطرة حين البذار، أو فساد في المحصول، أو سوس ينخر القمح، أو جفاف أو حرب، كل سبب من أولئك كان كافياً وحده أن ينشر الجوع والبلاء
قيل: (كان الطباشير يطلب من الأرض ويمزج بالدقيق ليصنع خبزا. لقد اصفرت وجوههم وانحطت قواهم، حتى لقد عجزوا عن أن يجروا أنفسهم من فوق الأرض جراً. وهيئت حفر ليسحب إليها المحتفرون ويلقون في جوفها. وكانت هذه المصائب تلابسها مصائب أكبر وكوارث أعظم. فإن الذئاب وقد أنسوا على جوانب الطريق كثيراً من الجثث، ملكتهم الشجاعة وأغواهم ضعف الناس، فراحوا يهاجمون الأحياء. أما مواد الطعام فقد خص بها الأقوياء ليظلوا قادرين على العمل، لعل الحقول تزرع ولا تبور)
وقيل: (رئى رجل في سوق (تونير) حاملاً لحماً مطبوخاً ليبيعه في سوق المدينة. فلما سئل فيه ادعى أنه لحم حيوان. ولكن ذلك لم ينجه فسيق إلى السؤال، وهنالك لم ينكر جريمته فأحرق حياً. أما اللحم البشري الذي أتى به الرجل فقد دفن باسم العدل والقانون. غير أن رجلاً غيره نبش ذلك اللحم وأكل منه، فكان جزاؤه الموت إحراقاً)
وفي مثل تلك الفترات كان الطاعون من بلايا الأحياء. فإنهم كانوا يزحمون الأكواخ والدساكر، حتى إن أسراً برمتها كثيراً ما كانت تذهب فريسة ذلك المرض، فيتركها الباقون ويهجرون المنازل والربوع فزعاً من الموت وفراراً من البلاء. وكان المرضى يحملون إلى الكنائس ابتغاء الشفاء، فتنتشر العدوى في أولئك الذين أتوا ليؤدوا فريضة الصلاة عبادة خالصة لوجه الله.
قال أردريكوس فيتالس أحد مؤرخي القساوسة: (عمَّ بلاء المرض فمضى بأهل بيوت كثيرة، كما إن الجوع قد أفنى المرض؛ فلما أن خربت النيران الأرض، خرج الأكثرون هائمين على وجوههم. فلما رأوا أن الأبْرَشيات قد طمست معالمها ودرست آثارها، فروا من الكنائس الخاوية هرباً إلى حيث لا يعلمون)
هذه صورة مما كان في أوربا الغربية، لما انفلق صبح الزمان عن غلام يتيم من أبناء قريش؛ فلما شب وترعرع، ثم تفتى وكاد يكتهل نزل عليه الوحي ليبشر بدين جديد، وليؤدي الرسالة الربانية للناس أجمعين، وكانوا من الهمجية على مثل ما رأيت في أوربا، يقتلون أولادهم خشية الإملاق ويئدون البنات ويعبدون أصناماً كثيرة تبول الثعالب برؤوسها، ويدينون بقوى سحرية، ويؤمنون بظواهر الطبيعة كآلهة. غير إنهم بالرغم من هذا صدقوا وآمنوا بما أُنزل إليهم. فإن صلابة محمد في نصرة الحق شدخت يافوخ الشرك والوثنية.
أدى محمد رسالته على خير ما تؤدى رسائل الوحي، فلما قبض كان نور الإسلام قد أنبلج فأعتنق أكثر العرب ذلك الدين القيم وأمنوا بالقرآن وآيتهما:(أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله)
وما لم يتح لنبي قريش أن يتم في حياته، أتمه من بعده خلفاؤه العظام. فإن رجال تلك الصحراء، وعلى رؤوسهم خوذات الحرب، قد امتطوا صهوات جياد قضيفة صغيرة الحجوم، أو ظهور إبلٍ عجاف، وخرجوا من فضائهم الأرحب ليغزوا ويمعنوا في الغزو، تعزيزاً للإسلام ونشراً لكلمة الله. ولقد اتقدت في جوانحهم نار الحمية فانتشروا في الأرض ومشوا في مناكبها، وتنقلوا فيها من مكان إلى مكان، بسرعة أقلقت أهل العالم القديم.
بدأت الغزوات في حكم الخلفاء الراشدين، أصحاب محمد المقربين. وفي أقل من قرن من الزمان رفعت راية الإسلام على الدنيا جميعاً من السند إلى جوف الصين، ولمعت سيوفه في مفاوز القوقاز وأغوارها، وسقطت مصر في يد العرب، وتبعها شمال أفريقيا، ثم الأندلس.
ومنذ فاتحة تلك الغزوات طغى مدها العظيم على وديان أورشليم الصخرية فاكتسحها، وأحاط الإسلام بهيكل المسيح أما طغيان الإسلام على أوربا جميعاً فلم يصده في الظاهر
غير عقبتين: شارل مارتل في الغرب، وحصون بوزنطية في الشرق. أما السبب الحقيقي في وقوف ذلك المدَّ الإسلامي العظيم عند ذلك الحد، وهبوطه بعد أنه كاد يبلغ الذروة العليا، فيرجع إلى أن أصحاب محمد قد انقسموا أحزاباً وتفرقوا شيعاً، وأختص كل حزب منهم بجزء من الأرض المغزوة. ولو إنهم ظلوا مجمعين على كلمة الإسلام إذن لأندحر شارل مارتل، وإذن لاندكت حصون بوزنطية، وتحقق بذلك وعيد معاوية للإمبراطور الروماني إذ قال له في كتاب أرسل به إليه لما علم بعزمه على غزو الشام إبان خلافه مع علي بن أبي طالب:(لئن تمْمت على ما بلغني لأصالحنَّ صاحبي، ولأكوننَّ على رأس طلائعه إليك، ولأجعلن القسطنطينية الحمراءُ حمامة سوداء، ولأخلعنك عن عرشك خلع الإسطفليتة، ولأرسلنك في الجبال ترعى الإبل)
لو لم ينشق المسلمون لتحقق هذا: (ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم)
ولقد كانت تلك الغزوات سبباً في أن يقف العرب، وهم يحملون أرقى الأديان وأمجد المدنيات، وجهاً لوجه أمام أولئك الهمج الذين ثبتوا أقدامهم في خرائب الإمبراطورية الرومانية، واعتنقوا دين عيسى فأصبحوا نصارى. وتجاورت قوات أوربا وقوات آسيا. فإن طلائع قوى النصارى كانت تلحظ عن كثب مقدمة معاقل الإسلام.
أما في الغرب، حيث شهدت الأندلس معارك أوربا والإسلام، فإن نصارى الفرنجة، وقد انتهزوا فرصة اضطرام نار الخلاف والموروث بين القبائل منذ الجاهلية، كانوا قد استردوا مفاوز (البرنيز)، ومضوا يتقدمون بتؤدة، مثبتين أقدامهم في شبه الجزيرة خطوة بعد أخرى. ذلك على الضد مما كان في الشرق. فإن المسلمين كانوا قد تقدموا نحو أوربا مخترقين آسيا الصغرى.
فيما بين هذين الطرفين: الأندلس غرباً، وآسيا الصغرى شرقاً؛ وفي وسط تلك الشقة، كان للإسلام اليد العليا: في الأرض كما في البحر. ذلك بأن العرب قد ألفوا البحر بسهولة، وشقوا عبابه مرحين. وابتنوا البوارج الفخام، فتحولوا شيئاً بعد شيء من غزاة فاتحين بحد السيف، إلى غزاة فاتحين بسلاح التجارة. ومن ثم ثبتوا أقدامهم في جزر البحر المتوسط، وبخاصة صقلية، وركبوا متن نهر (التيبر) حتى بلغوا جدران رومية.
ولم يمض غير قليل حتى أخذ العرب عن الشعوب التي غزوها مبادئ الثقافة القديمة،
واخترقت قوافلهم تلك الصحارى الشاسعات من بلاد الهند إلى أسواق حلب والإسكندرية؛ وإزدانت قرطبة والقاهرة بالقصور الشامخة ودور العلم الفخمة، وحكم هارون الرشيد في بغداد.
وهدأت الحالة واستقرت الأمور على امتداد التخوم. ذلك بان المسلمين كانوا أحد ذكاء وأكثر معرفة وأعرق مدنية واعظم قوة من جيرانهم همج النصارى.
حوالي ذلك الزمن بدت في أوربا بوادر جديدة، فان شارلمان ملك الفرنجة وحفيد شارل مارتل قد بدأ في تنفيذ خطته. فإن متابعة الحرب والمغازي المتتالية، واستئثار رجل واحد بالحكم كان سبباً في أن تكون إمبراطورية لم يدم بقاؤها أكثر من جيل واحد، وفي أثناء ذلك اتجه شارلمان ونبلاء جيشه نحو الشرق، ونصب أعينهم مدينة بوزنطية.
أما الذين اتزنت عقولهم فقد اعتقدوا أن عمل شارلمان إنما هو بداءة النظام وفاتحة حكم القانون، ذلك بأن آخر حكومة منظمة كانوا يذكرون قيامها، إنما هي حكومة الإمبراطورية الرومانية. ولذا اعتقدوا أنه ما من حاكم يصلح للحكم إلا عاهل قيصري، يملك زمام الأمر ويجمعه في يده. ولقد صحت نظرتهم فإن موت شارلمان كان سبباً في أن تتمزق تلك الإمبراطورية وتذهب بدداً.
بذهاب الإمبراطورية التي شيدها شارلمان عادت لأوربا عصور الظلام. فتفرقت الأمم وتنازعت الشعوب، من غير أن تعرف أمة أو يفقه شعب للخلاص طريقاً. لقد اقتتلوا كما اقتتل آباؤهم، بشراهة الذئاب. وفيما هم على حالهم تلك، ممزقة وحدتهم متفرقة كلمتهم، هبطت عليهم من الشمال عشائر من الهمج هم الدانيون والنورمان ممتطين عباب الماء.
برزوا إلى مسرح الحوادث العالمية، وكأنهم برزوا من أغوار البحار المجللة بالظلام والضباب، متلهفين إلى أرض مشمسة خصبة، هي أرض الجنوب، وكانوا غر مدجنين، يلبسون جلود الثعالب وإهاب الحيتان، ومن فوقها الذهب اللامع، وفي أيديهم سيوفهم الطويلة وحرابهم المسنونة وفؤوسهم الغليظة، فخربوا ودمروا وأحرقوا. واستقروا في النهاية حذاء الشواطئ.
ظلام من فوقه ظلام، ومن فوقه ظلام. وفي ذلك الوقت تخيل إنسان من طيبي النصارى خيالاً، واعتقد بأن نهاية العالم أي القيامة ستكون سنة ألف، أي في اليوم الأخير من القرن
العاشر الميلادي، وارتقب الناس ذلك اليوم، وأمضوا الليلة الأخيرة ساهرين، يتوقعون النفخة في الصور، ليهرعوا جميعاً إلى موقف الحساب، ولكن ذُكاء بزغت في نهاية الأفق صامتة كعادتها، منعشة كعهدها، وظهرت الأرض لابسة حليتها المعروفة، فلم يتغير بها من شيء.
ظلام في العقيدة وظلام في الفكر وظلام في الحضارة. تلك كانت حال تلك البقعة التي نعرفها باسم أوربا في أواخر القرن الحادي عشر المسيحي. فكيف كان العرب والإسلام؟
في أواسط القرن التاسع الميلادي أي في عهد الخليفة المأمون العبَّاسي، عاش محمد بن موسى الذي ألَّف في علم الجبر وعنه أخذت أوربا في أواسط القرن الرابع عشر، فإن مقالته في ذلك العلم قد ترجمت إلى اللاتينية واتخذت أساساً لتدريس الجبر في عصر النهضة العلمية في أوربا. وعقب عليه محمد بن جابر البتَّاني المتوفى سنة 929 ميلادية وهو صاحب الزيج المشهور المعروف باسم الزيج الصابي، وله عدا الزيج شروح على المجسطي وشرح مقالات بطليموس ومقالة في الفلك والجغرافية؛ ويقول فيه المؤرخ أوليري:(كان زيجه أضبط ما وجد من نوعه عند العرب، وله عدة مستكشفات رياضية وفلكية ظلت العمدة في علم الفلك عهداً طويلاً في القرون الوسطى وفي مدارس أوربا على الأخص؛ وكان يلقب بطليموس العرب لثبات قدمه في علم الفلك وتضلعه فيه)
وفي حدود سنة 828 للميلاد أمر الخليفة المأمون بقياس درجة من الهاجرة لاستقراء جرم الكرة الأرضية، وقام بهذا العمل أربعة من علماء الهيئة مدونة أسمائهم في صفحات التاريخ.
قال أبو الفدا:
(قام بتحقيق حصة الدرجة طائفة من القدماء لبطليموس صاحب المجسطي وغيره، فوجدوا حصة الدرجة الواحدة من العظيمة المتوَّهمة على الأرض ستة وثلاثين ميلاً وثلثي ميل. ثم قام بتحقيقه طائفة من الحكماء المحدثين في عهد المأمون وحضروا بأمره في برية سنجار وافترقوا فرقتين بعد أن أخذوا ارتفاع القطب محرَّراً في المكان الذي افترقوا منه. وأخذت إحدى الفرقتين تسير نحو القطب الشمالي والأخرى نحو القطب الجنوبي، وساروا على أشد ما أمكنهم من الاستقامة حتى أرتفع القطب للسائرين في الشمال وانحط للسائرين في
الجنوب درجة واحدة. ثم اجتمعوا عند المفترق وقابلوا على ما وجدوه فكان مع إحداهما ستة وخمسون ميلاً وثلث ميل، ومع الأخرى ستة وخمسون ميلاً بلا كسر، فأخذ بالأقل)
قيل: (واشتغل الرازي بالكيمياء وأستكشف ما أسماه (زيت الزاج) وهو الحامض الكبريتيك والكحول. أستحضر الأول بإستقطار كبريتات الحديد واسمه في العربية الزاج الأخضر فلما استقطره خرج منه سائل سماه زيت الزاج. ولا تزال الطريقة التي اتبعها الرازي في استخراج ذلك الحامض متبعة في استخراجه إلى اليوم. أما الكحول فقد استحضره بإستقطار المواد نشوية وسكرية مختمرة.
وقيل: (أسس المأمون الخليفة العباسي مدرسة بغداد سنة 217هـ (832م) وسماها بيت الحكمة وعهد بها إلى عناية يحيى بن ماسويه الذي توفي سنة 857م. وكان من المؤلفين في السريانية والعربية. أما مقالته في الحميات فقد كانت العمدة في دراسة تلك الأمراض زمناً طويلاً. وقد نقلت من بعد إلى اللاتينية والعبرية.
ويعتقد المؤرخون إن أكبر الأعمال التي قام بها بيت الحكمة شأناً ترجع إلى الجهود التي بذلها تلاميذ يحيى بن ماسويه ومنهم الرجل الفذ أبو زيد حنين بن إسحاق العبادي المتوفى سنة 876م فقد نقل فضلاً عما نقل من المؤلفات الطبية، جزءاً من منطق أرسطو (الأورغانون) وبعد أن درس أبو زيد في بغداد رحل إلى الإسكندرية، وعاد منها مزوداً بكل ثمار الدرس التي كانت شائعة في عهده متقناً للغة اليونانية التي استخدمها في النقل إلى السريانية والعربية.
ثم قيل: واجتمع معه في بيت الحكمة ابنه إسحاق وابن أخته حبيش الأعسم الدمشقي. وترجم حنين إلى العربية مقالات إقليدس وبضعة مؤلفات عن جالينوس وأبقراط وأرخميدس وايولونيوس الفرغايوسى، وهو أكبر من اشتغل بالهندسة في العالم اليوناني بعد اقليدس. ولقد ترجم أبو زيد عن غير هؤلاء كما ترجم الجمهورية، وكتاب طيماوس لأفلاطون وقاطيغورياس والموسيقا والماغتاموراليا أي الأخلاق الكبير عن أرسطوطاليس وتعليقات طيموستيوس على المقال الثلاثين من الفيزيقا. كذلك ترجم كتاب أرسطوطاليس في المعادن، وهو كتاب ظلَّ زماناً طويلاً مرجعاً من أهم المراجع في درس الكيمياء، وعن اصله اليوناني أخذ بولس الأجانيطي.
ومما انحدر إلينا؟ أن إسحاق بن حنين قد ترجم إلى العربية - فضلاً عن الطب - كتباً من أشهر ما حوت حكمة الأقدمين؛ منها السوفسطائي لأفلاطون، والميتافيزيقا والروح (ده أينما) والكون والفساد، وإرمانوطيقا، أو باري أرمانياس أي العبارة لأرسطوطاليس؛ كما نقل تعليقات عن فرفوريوس الصوري والاسكندر الأفروديسي وأمونيوس.
وقيل: كان من عظماء المشارقة في عهد نهضتهم قسطا بن لوقا وأبو بشر متي بن يونس ويحيى ابن عدي وابن ناعمة وثابت بن قرة وجابر بن حيان والفارابي وابن سينا والغزالي وغيرهم.
هذه إثارة مما كان في الشرق، بل إشارة إلى بعض ما وصل إلينا من أخبارهم وما انحدر إلينا من أحوالهم بعد أن اتخذ هولاكو من كتبهم قنطرة عبر عليها أحد الرافدين.
ولك أن تقيس ما انبعث على يد العرب والإسلام من أنوار العلم والمدنية، على ما بعث أهل أوربا في ذلك العهد من ظلام على أهل الشمال.
أما في الغرب - أي في بلاد الأندلس - فقد أرسل العرب على ذلك العالم الميت المظلم الذي نعرفه الآن باسم أوربا أول شعاع من أشعة النور. وليس لنا أن نأتي من عندنا بكلام نبين به عن أثرهم في تحضير العالم الحديث بل نترك الكلام للأستاذ (درابر) في كتابه (نماء أوربا العقلي ص30 ج2) قال:
لما ثبت قدم العرب في بلاد الأندلس، بادروا إلى العمل على نشر العلم والحضارة، وقد نقلوا معهم إلى الغرب جميع المبادئ التي قامت عليها حضارتهم في أسيا. وكان أول ما التفتوا إليه نشر المعرفة وتظليلها بحمايتهم. وقد ازدهرت في عهدهم المدن وأقرب مثال لها قرطبة، فقد كانت تتألف من مائتي ألف بيت ويسكنها مليون من النسمات. ويكفي أن تعرف أن شارعها الأكبر كان يطول عشرة أميال ويضاء ليلاً للمارة بمصابيح كبيرة، وذلك مشهد من مشاهد الحضارة لم تعرفه مدينة لندن إلا بعد ذلك العهد بسبعمائة عام. وكانت طرقاتها مرصوفة بالأحجار في حين أن باريس ظلت قروناً بعد حضارة العرب في الأندلس مبركاً للمياه والأوحال التي تغوص فيها الأرجل إلى الركب في فصل الشتاء. ولم يقتصر الأمر على قرطبة، بل إن غرناطة وأشبيلية وطليطلة كانت مدناً تعد أشباهاً لقرطبة ونظائر. وكانت قصور الأمراء مثلاً من الفخامة الشرقية، بل كانت متاحف للفنون الرفيعة وعنواناً
على حضارة عريقة، في حين أن المنازل التي سكنها أمراء ألمانيا وفرنسا وإنجلترا لم تكن تفضل حظائر الماشية في شيء، فهي بلا مداخن أو نوافذ، وكان المخرج الوحيد الذي يسلم إلى فضاء الجو كوة في أعلى السقف يتصرف منها الدخان)
ولقد وصف المؤرخون قصور أمراء الأندلس وصفاً يقصر عن إدراك حقيقته الخيال؛ فهل علمت أن قصورهم كانت مجهزة بأنابيب معدنية لتوزيع الماء على الأجنحة المختلفة، وأن الماء كان يجري دافئاً في أثناء الشتاء وبارداً مثلوجاً في أثناء الصيف، وأن جهازات التهوية الصناعية كانت في الأشياء التي اخترعها العرب في فن البناء واستخدمت لأول مرة في قصور الأندلس؟ قيل إن من المفاخر التي كان يزهى بها أصحاب القصور ما تحوي من المكتبات النادرة. ويكفي أن نعرف أن مكتبة الخليفة الحاكم رصدت كتبها في فهرس بلغت مجلداته أربعين مجلدا
كان قصر الحمراء مقر عبد الرحمن الثالث وما تزال آثاره حتى اليوم تحفة نادرة من تحف الفن العالي. كانت واجهته مقامه على 1200 عمود من الرخام جلبت من مختلف بقاع العالم المتمدين: من اليونان وإيطاليا وأفريقية؛ وكان البهو الأكبر مغشى بالذهب الخالص؛ وكان بالقصر 6300 من الحاشية والخدم، ومن حوله ثكنات بها 12. 000 من الحرَّاس لباسهم من الحرير ومعاطفهم مطرزة بالذهب.
كل هذا المجد يصغر ويتضاءل إلى جانب ما خلف ابن باجة، وابن الطفيل، وابن رشد وغيرهم من صور الفكر التي أصبحت بعد زمان النور الذي استهدى به العقل الأوربي وعنه أخذ ليؤسس نهضة أوربا الحديثة.
ثم نمنا واستيقظ الزمان، ورحنا في سبات وعجلة الدهر من حولنا تدور، حتى أصبحنا ولسان حالنا يقول مع شاعرنا حافظ:
لم يبق شيء من الدنيا بأيدينا
…
إلاَّ بقية دمع في مآقينا
كنا قلادةَ هذا الدهر فانفرطت
…
وفي يمن العلا كنَّا رياحينا
كانت منازلنا بالعز شامخة
…
لا تطلع الشمس إلا في مغانينا
والشهب لو أنها كانت مسخرة
…
لرجم من كان يبدو من أعادينا
فلم نزل وصروف الدهر ترمقنا
…
شَزْراً وتخدعنا الدنيا وتلهينا
حتى غدونا ولا مال ولا نشب
…
ولا صديق ولا خل يواسينا
هذا طرف من مجد العرب والإسلام وصورة تذكرنا أننا كنا منائر الأرض وحماة الحضارة والعلم والثقافة والمعرفة. فلنذكر هذا ولنذكره دائماً عسى أن تنفعنا الذكريات.
إسماعيل مظهر
من برجنا العاجي
تمر بي في الحياة لحظات أود فيها لو أسأل الله أن يفك أجزائي ويعيد بنائي، (طبقاً لشروط أخرى ومواصفات جديدة) كما يقال في لغة أهل العمارة والهندسة؛ ولكن. . . سرعان ما اذكر كلمة (باسكال):(لو أن أنف كليوباترا كان أكبر قليلاً مما كان لتغير وجه التاريخ). هذا صحيح. ومن يدريني. لعل قائلاً يقول في أمري غداً: (لو أن أنفه كان أصغر قليلاً مما كان لتغير وجه الأدب العربي الحديث). ولكن الواقع الذي أوقن به أن تركيب الإنسان كتركيب العقاقير. فقليل من (السلامكي) على قليل من الشمر والينسون ينتج (مليناً) للأمعاء. كذلك حياة كحياتي مع قليل من ميولي وقليل من مطالعاتي. . . ينتج أدباً كأدبي. . . فكيف إذاً يغير الله بعض عناصر تركيبي دون أن تتغير النتيجة كل التغيير. وما الذي يحمله على ذلك، إلا رغبتي؟ ومتى كنا نخلق طبقاً لرغباتنا؟ لقد قرأت يوماً كلمة عني في إحدى الصحف قيل فيها:(إني أريد أن أعيش لفني، ولفني فقط). فابتسمت وقلت: (أنا أريد؟) كلمة أريد (تبدو ساذجة مضحكة من أفواه البشر وهم في حضرة (القدر)! ما أنا إلا تركيب كيميائي مثل ذلك الملين (لابد له) بهذه العناصر مجتمعة) أن ينتج هذا (المفعول) الذي يسمونه (الفن) أو (الأدب).
لا فرق في نظر (الطبيعة) بين (النحلة) و (الأديب). كلاهما مخلوق
يتنقل بين أزهار، لينتج عسلاً آخر النهار. ومن هذه (المادة) الحلوة
يصنع أحدهما بناء فصيلته، ويقيم الآخر بناء أمته. ولو سألت (نحلة)
عن رأيها فيما تفعل لما وجدت عندها رأياً ولا إرادة. إنما هي تفعل ما
تفعل بدافع من تركيبها (البيولوجي). كذلك (الأديب) مدفوع إلى التفكير
والإنتاج بحكم هذا التركيب. ولطالما تفجرت ثائراً: (لماذا ولمن أقتل
نفسي بهذا العمل المضني؟). فأسمع الجواب من أعماقي: (إنك لا تنتج
لشيء ولا لأحد، ولكن لأنك لا تستطيع أن تفعل غير ذلك. ما أنت إلا
نحلة تفرز الأدب شاءت أو كرهت).
توفيق الحكيم
الهجرة المحمدية أساس الحضارة الإسلامية
للأستاذ محمد لطفي جمعة
- 1 -
دعا نبينا محمد عليه الصلاة والسلام العرب فلبى دعوته الكثير، وتلكأ القليل ممن أعمتهم الأغراض والمنافع وأضلهم تنازع السلطان والسيادة. وقد أتى محمد بكتاب وآيات بينات ومبادئ كانت عقول العرب وطبائعهم مستعدة لقبولها وفهمها قبل نقدها نقداً ينتهي بالقبول والانضمام إليها. وكان نبأ ظهوره (عم يتسائلون؟ عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون!) النبأ الأعجب، مما سجل في تاريخ الإنسانية. ولم ينقض عليه جيل من الزمان حتى ثلَّ عروشاً كانت ثابتة الأركان، وحطم دولاً عالية البنيان، واكتسح ممالك وإمبراطوريات رفيعة الذرى مترامية الأطراف، ومحا معتقدات عريقة في القدم، وهدم ديانات مرت عليها الأجيال والحقب ولم تنل منها ما ناله الإسلام في عشرين سنة. ويدهش المؤرخ العصري أن يعلم أن سائر الأديان نمت وترعرت في ظل حاكم ناصر أو ملك قاهر، اعتز به الدين وتأيد حتى رسخت قوائمه وثبت سلطانه، ما عدا الإسلام. فكان الملوك والأمراء والأقوياء يقاومونه فيتغلب عليهم، ثم يحمي المنسوبين إليه فيعتزون به ويستظلون بظله ويعظمون في أكنافه، وكان أول من علا شأنه بذلك الدين العرب أنفسهم، فلم يكونوا قبله في المكان الأرفع ولا المنزلة السامية من الوجود التاريخي، فنصرهم نصراً خارقاً، حتى أصبح علمهم عالياً خافقاً، في آسيا وأفريقية وأوربا. وإن سر هذا النجاح وسببه وأساسه هو الهجرة المحمدية التي انتقل بها محمد من مكة الجامدة الآسنة الراكدة العاصية المستغرقة في الماديات المتشبثة بالسلطة الدنيوية الآخذة من الملذات والأسمار بأوفر نصيب، إلى المدينة الهادئة الهينة اللينة التقية النقية العفيفة المتعلقة بالمعاني والأرواح والمثل العليا الطاهرة.
- 2 -
يفني البرايا ويأتي الوقت مختلفاً
…
ليخرج الدهر تاريخاً من الأمم
يدل استقراء التاريخ الخاص والعام على صدق القانون السبعي، ومقتضاه أن تكون الفترة الفاصلة بين جسام الحوادث سبعمائة عام تقريباً. وقد حددت أعمار تلك الفترات تحديداً دقيقاً في كثير من كتب التاريخ كتجارب الأمم لأبن مسكويه، ومروج الذهب للمسعودي، ومقدمة ابن خلدون، وابن الأثير؛ ومن كتب الإفرنج حوليات تاسيت الروماني وتاريخ انحلال رومة لجيبون. ومن قبل هذه التواريخ العالمية أشارت التوراة والتلمود والمشناة وتفاسير الأحبار إلى هذا القانون. يقول بلاكنهيم:(إن تاريخ العالم مقسم إلى فترات قد تدوم الواحدة منها حوالي سبعة قرون، وقد تنقص أو تزيد قليلاً. فقد أسست روما قبل المسيح بسبعة قرون ودام سلطانها ونفوذها سبعمائة عام، وفي نهايتها ظهر المسيح بدين جديد ينطوي على حياة جديدة، وكان ظهوره مؤذناً بزوال تلك الدولة الرومانية العظمى التي حكمت العالم بالحديد والنار بعد أن فتحته بالقوة والحيلة. وظهر الإسلام في نهاية القرن السابع المسيحي ودامت عظمة الدول الإسلامية سبعة قرون. وفي سنة 750م نقلت الخلافة إلى بغداد بقيام دولة بني العباس، ثم هاجمها المغول وقضوا عليها وعلى حضارتها) اهـ
ولم يظهر المغول وحدهم لمناوأة الإسلام، فقد ظهر الصليبيون ونهضت أوروبا الحديثة تلك النهضة التي دامت سبعة قرون كانت نهايتها الحرب العظمى في أوائل هذا القرن. وقد بدأت نهضة الإسلام الحديثة في أوائل القرن الرابع عشر للهجرة. ومن العجيب أن تطبيق هذه النظرية السبعية أو القانون السبعي صحيح في حياة الأمم إذا أخذت كل منها على حِدَة، فقد استمرت عظمة الإغريق الحربية والبحرية وعهد الفلاسفة سبعمائة عام، ودولة الفرس عمرت سبعة قرون من أول تأسيسها لعهد كسرى، ومضى على حكم الملوك في إنجلترا سبعة قرون، وبقيت ايرلندا تحت الإنجليز مثلها. ونحن نذكر هذا القانون السبعي لا لأهمية خاصة به، وإن كان في ذاته ظاهرة تاريخية عجيبة تدل على دقة نظام الكون والعالم وخضوع حياة الأمم لمقاييس من الزمان وموازين في الأعمال، ولكن نذكره لعلاقته بظهور الإسلام ونهضته وهبوطه، ثم بداية عهد الأحياء الذي ينبئ بالتجدد والبعث في المائة الرابعة عشرة. وقد أوضح صحة هذا القانون أوزقالد شبنجلر في كتابه (انحلال الغرب) وهستن شمبرلين في (أسسالقرن التاسع عشر) وولز في كتابه (صورة العالم في المستقبل) فليرجع إليها من يشاء من القراء
- 3 -
إذن كانت بعثة الرسول وهجرته حادثين محتمين، فكتب لهما التوفيق والنجاح على الرغم مما اكتنفهما من مظاهر الضعف. وقد أخطأ من ظن عداوة قريش للنبي وصحابته هزيلة أو وهمية، أو أن زعماء الوثنية كانوا ضعفاء النكاية، فقد كان المجتمع القرشي تام التكوين الاقتصادي والسياسي بالنسبة لحالة الحضارة المعاصرة، وذا نظم حكومية وإدارية بارعة. من ذلك أنهم جعلوا جائزة مالية لمن يطارد المهاجرين ويظفر بهما وهو ما تلجأ إليه شرطة الحكومات الغربية الحديثة. ومن الثابت أن محمداً وأبا بكر كانا منفردين لا ثالث لهما بعد أن تركا بطل الإسلام وسيفه ولسانه علي ابن أبي طالب في فراش النبي ليخدع المتآمرين بأن النبي مازال في داره ولم يغادر فراشه. وإن شجاعة علي في إيثاره وإقدامه على التضحية بنفسه لا تقل عن شجاعة أبي بكر في مصاحبته. وكان من المستطاع أن يُغتال عليّ في فراش محمد ظناً من أهل الوثنية أنه المقصود بأسيافهم وخناجرهم. ولكن حياة عليّ كانت ضرورية للإسلام فأنقذه الله وهو الفرد الراقد المستسلم لقضائه وقدره. أما محمد وأبو بكر فلم يكونا هاربين ولا مدبرين لينجوا بحياتهما من أخطار محققة محدقة، ولكنهما كانا قاصدين إلى طيبة ليفتتحا عهداً جديداً ويستهلا عصر كفاح وجهاد وجلاد وسلسلة انتصارات لم يسبق لها مثيل في تاريخ المعتقدات الدينية.
- 4 -
فطن القرشيون بما ركب في غريزتهم من الذكاء وبعد النظر وسعة الحيلة إلى أن ظهور هذا النبي قرين زوال دولتهم المدنية التي نظموها على نسق يشبه نسق المدن الإغريقية. وكان اليونان زعماء النقل البحري كما كان العرب زعماء النقل البري وحلقة الاتصال بين الشرقين الأقصى والأدنى، وإبلهم سفائن الصحراء حقيقة لا مجازاً، كما كانوا مخالطين لكل شعوب البحر الأبيض وشواطئ المحيط الهندي والخليج الفارسي والبحر الأحمر، ومطلعين على شؤون الأمم. فلما أدرك سادتهم وحكامهم أن دولتهم قد آذنت بزوال حصروا همهم في ملاينة النبي وإغرائه؛ فلما لم ينفع الإغراء والاستدراج لجأوا إلى التهديد والوعيد، ثم إلى المقاطعة والتضييق في شعاب مكة وغيرها، ثم التآمر والانتقام، فهاجر النبي من مكة، لأن
الله هداه إلى أن ما بقي من عمره المبارك كاف لتعميم الدعوة ومقاومة ذلك البلد القوي الشكيمة الذي تألب نساؤه ورجاله على النكاية به، ليحتفظوا بكيانهم القومي. كان المكيون محافظين ورجعيين فلم يرقهم أن يسلموا قيادهم للأحرار والمتطرفين من حزب محمد وأبي بكر وعلي وعمر وعثمان. وقد تعجب الأجيال التالية وأنسال المستقبل وأخلافهم كيف لم يقبل عرب قريش وخصوصاً أهل مكة على العقيدة الجديدة. والسر في ذلك أن أرستقراطية مكة حرصت على مالها وسلطتها ونفوذها وقوتها، ورأت في القرآن والدعوة المحمدية ما يزعزع أركان كيانهم الاقتصادي ويهدمه وهم أصحاب رؤوس أموال وعباد للمادة، حتى إن معبودهم هُبل لم يكن يتكهن إلا بعد أن يدفع السائل لسادته سلفاً دراهم معدودة. وكان للمال وأرباح التجارة وفوائد الربا واكتناز الذهب والفضة أكبر الشأن، ولكن محمداً وأصحاب محمد جعلوا المال في الدرجة الأخيرة من الاكتراث، واتخذوه وسيلة لا غاية (وقد روى عن حاتم الأصم تلميذ شقيق البلخي أنه سار إلى المدينة فاستقبله أهلها، فقال أين قصر رسول الله حتى أصلي فيه؟ قالوا ما كان له قصر، إنما كان له بيت لاطيء بالأرض. قال فأين قصور أصحابه رضى الله عنهم؟ قالوا ما كان لهم قصور، إنما كان لهم بيوت لاطئة بالأرض) وكثير من المؤرخين يغفلون العامل الاقتصادي في حياة العرب قبل الإسلام وبعده، مع أنه بجانب الثورة الاجتماعية التي أحدثها الإسلام قلب نظام المال رأساً على عقب، وحارب الرأسمالية، وحرم الربا، وقدح في البخل، وشرع الصدقة والزكاة، وحض على صلة ذوي القربى، ونظم المواريث ورتب حقوق المرأة، وألف القلوب بالبذل وبسط اليد للبعيد والقريب. وبالجملة أوجد طبقة جديدة من أوساط الناس لمقاومة عبادة المال، وحطم المثل العليا التي كان المكيون يمجدونها. ولم يكن هذا الانقلاب بالشيء القليل. والذي أغاظ أهل مكة وأحنقهم وأحرق أكبادهم أن محمداً بلغهم أن هذا التبديل ليس من عنده، ولكنه من عند الله، فهو أمر محتوم واجب التنفيذ، لأن إرادته أقوى من إرادة كل هذه الأوثان المعسكرة في الكعبة والمنتشرة في الحواضر والبوادي العربية.
- 5 -
يدهش المؤرخ من قدرة محمد على مواجهة الشدائد والاضطلاع بأعقد المشاكل، فهذه المدينة التي هاجر إليها ولم يكن يعرفها من قبل إلا بالوصف والتصور بعد زيارته الأولى
وهو طفل في حضانة أمه، كانت تضم إلى جانب الأنصار عناصر قوية وعنيدة من اليهود والمنافقين والمعادين من المترددين وغيرهم، وهي طبقات ثلاث يستطيعون أن يتغلبوا على المهاجرين والأنصار. وكان المنافقون واليهود والمعادون من حلفاء قريش أقوياء وأغنياء، والمهاجرون والأنصار ضعفاء وفقراء، حتى اضطر محمد لوضع نظام المؤاخاة. وقد اضطر بعض المهاجرين للعمل البدني لقاء أجور من الثمر، ولكن محمداً رأى أشد الخطر في اليهود الذين جمعوا بين المال والذكاء والجمال ودين منزل سابق لدين محمد ودين سلفه الناصري، إلى حيلة واسعة، ثم خيبة أمل يعقبها حقد دفين ورغبة شديدة في الانتقام. فقد عرف اليهود في محمد النبي المنتظر، ولكن كبرياءهم أبت أن يطأطئوا رؤوسهم أمامه، لان القرآن أذاع حقيقتهم فامتدح أنبيائهم وانتقد أطماعهم وعرض بأخلاقهم. وقد أعماهم مالهم، وأضلتهم شهواتهم، وأصبحوا لا يقدرون الرجال إلا تبعاً (للرصيد) الذي يملكه أحدهم. ولم يكن محمداً عميلاً لهم إلا في الاقتراض منهم ولو برهن بعض دروعه. ولم تكن له في صناديقهم وخزائنهم ودائع ضخمة ولا هزيلة، لأن كل ما كان يصل إلى يده ينفقه في سبيل الله وفي حشد الجيوش وإعداد الحملات الموفقة؛ فما زال يمالئهم حسب أمر ربه وطاعة لوحيه، حتى حاربوه في السر والعلن، فدسوا له السم، وأعانوا عليه أعداءه، وحرضوا جيشه على الفتنة، وألفوا حزباً من (دعاة التردد والهزيمة) وهم المنافقون ومن لف لهم وتواطئوا على خذلانه؛ قلم ير بداً من ضرورة طردهم من الجزيرة وإقصائهم وقطع دابرهم، فسبق حكام ألمانيا الحديثة بألف وأربعمائة عام في الوصول إلى الحقيقة المطلقة، وهي أن العنصر المعادي في الوطن يعمل على تدميره وتخريبه ويعطل حياته بعرقلة التعاون. فكانت موقعة خيبر موقعة حاسمة في تاريخ الإسلام بل في تاريخ العالم. أما النصارى فقد أوصى بهم خيراً. وكان بيت المقدس في أيدي المسلمين منذ الفتح العربي؛ وكان الخليفة عمر يرعى حرمة الأماكن المقدسة النصرانية أيما رعاية وقد سار خلفاؤه م بعده على آثاره وسننه.
قد ندهش لتسامح الإسلام مع المعتقدات الأخرى في حين أنهم لم يألوا جهداً في النيل منه. وفي الحق أن محمداً جاء بالقرآن مصدقاً للتوراة والإنجيل وقال الله عنه أنه خاتم الأنبياء والمرسلين؛ وقد أمر باحترام النصارى واليهود وسماهم أهل الكتاب تمييزاً لهم عن عبدة
الأوثان؛ وقد اتبع المسلمون ما أمرهم به نبيهم حتى هذا العهد الأخير. وكان ضلع المسلمين في صدر الإسلام مع النصارى بالتخصيص بدليل آية (غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين) وقد نال اليهود ما استحقوا بعد أن خانوا أمانة الله ونكثوا بالعهود وحاربوا نبيه.
حرمت الشريعة الإسلامية الربا كما أن الشريعة المسيحية حرمته تحريماً لا يوصف، وكانت متشددة في ذلك ما استطاعت، فكانت النتيجة أن اليهود انبروا في الميدان وظلوا قروناً عديدة محتازين التجارة يجنون ثمارها، لا يشاركهم في ذلك مشارك ولا يزاحمهم مزاحم. وكانت الشريعة الإسلامية قائمة على تكريم العلم والقرآن حافل بالآيات التي تحث عليه، وكذلك الحديث، فقد جاء فيه:(اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد. واطلبوا العلم ولو في الصين. والحكمة ضالة المؤمن. ويوزن مداد الحكماء بدم الشهداء يوم القيامة. والعلماء ورثة الأنبياء. وما خلق الله شيئاً أفضل من العقل).
- 6 -
من أعمال نبينا عليه الصلاة والسلام تأسيس الرابطة الإسلامية التي جمعت بين قلوب المسلمين في أنحاء العالم جمعاً إنسانياً، فجعل العقيدة الروحية فوق الرابطة الجنسية، وجعل للإنسانية مثلاً أعلى بجانب حب الوطن فقال إنه من الإيمان، وحض على الإخاء وحب البشرية. وما كانت تلك الجامعة الإسلامية سوى الشعور بالوحدة العامة المثقفة مع فكرة التوحيد ووحدة الوجود. نعم كانت الجامعة الإسلامية العروة الوثقى لا انفصام لها، وقد أنشأها النبي منذ شرع يجاهد بالمدينة فالتف حوله المهاجرون والأنصار والمؤمنونمن كل طبقات المجتمع، ففيهم الرقيق أمثال بلال، والسادة الأعيان كعثمان بن عفان، والأبطال كخالد بن الوليد. وقد ولدت تلك الجامعة التي ربطت بين قلوب المسلمين في المدينة المنورة وهي التي أعانت على هزيمة المشركين بعد قتالهم وتأسيس الحضارة الإسلامية التي يفخر بها العالم.
وفي أثناء الهجرة المحمدية اعد محمد وسائل الاستيلاء على مكة، فقبل صلح الحديبية ونفذ بنوده بالدقة، ونغص حياة القرشيين بالحرب والحيلة، وقلب هزيمة أُحد انتصاراً سياسياً باهراً، واستعمل سلاح الدعاية فغزا عقولهم وقلوبهم وأخلاقهم قبل أن يغزو بلدهم، وهزم
جنودهم، وهدم حصون نفوسهم، وحطم مثلهم العليا البالية قبل أن يهدم قلاعهم أو يحطم أصنامهم وأوثانهم طائعاً للوحي الإلهي، وتابعاً للمشورة الحسنة من صحابته حتى الأجانب منهم كسلمان الفارسي الذي وهب لقب الإمارة، كما فعل بعده ملوك أوربا إذ جعلوا بيسمارك (برنساً) أو أميراً، فقال محمد:(سلمان منا آل البيت). وكان في كل هذا إنساناً سامي الأخلاق كيَساً، مهذباً ناضج الرأي، لين العريكة سمحاً، لم يجد فيه خصومه عيباً. وهكذا اشهد له الأغيار بعد انقضاء الأجيال فقال ويلز في تاريخه العام:(كان محمداً أكثر الأنبياء نجاحاً) ولا عجب ولا غرابة فمحمد هو الإنسان الكامل.
- 7 -
كان محمد عليه الصلاة والسلام نبياً مرسلاً ومصلحاً ومشترعاً، وجاء دينه وهو الأوحد الذي انطوى على شرائع وقوانين سياسية واجتماعية اقتصادية تقوم اعوجاج الفطرية البشرية، وتؤهل الفرد للعيشة في المجتمع الإنساني عيشة راضية راقية، ومكنت لتابعيه تأسيس أعظم دولة عرفها الشرق والغرب. وقد طبقت قواه وظهرت مزاياه الصالحة في الحروب والمعاهدات والمعاملات الدولية أثناء السلم؛ ولو نفذ بنصوصه لأغنى العالم عن نزاع الرأسمالية والعمال، ولانمحت المشاكل من الوجود، لأن أحزاب الشمال في أوربا ولاسيما روسيا لا يعلقون إلا ببعض قواعده التي تقر العدل والرحمة والمساواة وضمان حرية الفرد وسعادته.
وما كان يبغض شيئاً بغضه الشرائع والقوانين الجامدة التي تقيد العقل فتقوده صاغراً أعمى. وليس القرآن إلا كتاب هدى للمؤمنين ورحمة وليس عثرة في سبيل ترقي المجتمع والآداب والشرائع والقوانين والمدارك العقلية. ونحن الآن في القرن الرابع عشر الهجري وقد بدأت فيه نهضة الإسلام حقاً كما بدأت نهضة أوروبا في القرن الرابع عشر المسيحي. ومتى وضع الإسلام في البوتقة وأخرج منه ما علق من الأباطيل الخداعة، عاد إلى أصله وهو توحيد الله تعالى والإيمان بأن محمداً هو رسول الله عليه الصلاة والسلام.
محمد لطفي جمعة.
إلى الأمة الإسلامية في عامها الجديد
للأستاذ محمد عرفة
أستاذ بكلية اللغة العربية
للشعوب أخطاء كما للأفراد أخطاء، وشر هذه الأخطاء ما يقع في القواعد الاجتماعية، إذ الخطأ تكون له نتائج سيئة الأثر تتجرع الأمم غصصها ما دامت فيها هذه الأخطاء وخير ما يسديه إلى أممهم رجال الاجتماع والعلماء بروح الجماعات وطبائع الشعوب أن يصلحوا لهم هذه الأخطاء ليجنبوهم شرورها، ويصلحوهم بإصلاحها. إن لكل خطأ مهما كان أضراره، فالرجل إذا أخطأت الجادة تردى صاحبها في الحفرة أو تعثر بحجر، والمرء إذا أخطأ في تجارته منيت بالبوار، وصاحبها بالخسارة؛ وإذا أخطأ في طعامه وشرابه ولباسه فقد الصحة وعاودته الأوجاع والأسقام.
هذه أضرار تنشأ عن الأخطاء، وهي وإن كانت شديدة ولكنها لا تبلغ ضرر خطأ الجماعة في قاعدة اجتماعية، لأن الضرر يكون عاماً بقدر ما في هذه الجماعة من عموم دائم بقدر ما في الخطأ من مكث، بالغ في الشدة بقدر ما في الخطأ من انحراف عن الصواب. وإن الأمة الإسلامية لها أخطاء في القواعد الاجتماعية تجني منها الألم والحسرة. وقد رأيت أن أصلح لها خطأ من هذه الأخطاء وأجعل ذلك هدية مني إليها في مستهل هذا العام الجديد. وسأذكر هذا الأخطاء وإصلاحه بعد أن اذكر بين يديه مقدمة.
إن كل شيء في الكون يتنازع الوجود، والبقاء في هذا التنازع للأقوى، وقد كان الفرد قبل تكون الجماعات ينازع الفرد، ثم ألتمس أسباب القوة بالاجتماع، وقد أخذ الاجتماع أشكالاً عدة من الأسرة والعشيرة والبطن والقبيلة، وقد كان النزاع بين الأسرة والأسرة القبيلة والقبيلة نتيجة غلبة الأقوى تبعاً لقانون إنما العزة للكاثر؛ ثم أخذ الاجتماع شكلاً أوسع بالمدينة والمملكة فكان أهل كل مملكة يكونون وحدة مستقلة تجلب لنفسها الخير وتدفع عنها الضير، ثم جاء الدين الإسلامي فكون وحدة إسلامية لم تبلغ وحدة من العظم والتجانس ما بلغته هذه الوحدة.
عمل الإسلام على غرس المحبة والتضامن بين أجزاء هذه الوحدة فقال: لن يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
وقال: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً.
وقال: ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
أحب المسلم أخاه المسلم وساد على المملكة الإسلامية المحبة والسلام فتعاونوا على جلب المنافع ودفع المضار.
لقد آتت هذه الوحدة بالمعجزة الاجتماعية العظمى فقد كان العرب قبل الإسلام ينتقصون من أطرافهم، وكان من بجوار الشام عمالاً للروم، ومن بجوار الفرس عمالاً للفرس. فلما جاء الإسلام أعز الله به العرب والمسلمين، فلم تمض عشرون سنة من عمره حتى هدد هؤلاء الأقلون المملكتين المتاخمتين الفرس والروم وانتقصوهما من أطرافهما، ثم عقب ذلك أن ورث ملك الأكاسرة ومعظم ملك القياصرة.
هذه المعجزة الاجتماعية إذا بحث المرء عن سببها وجدها الوحدة الإسلامية، فقد يدل الإسلام تفرقهم اجتماعاً، وبغضهم حباً، وحربهم سلماً، وبعد أن كان بأسهم بينهم شديداً حول هذا البأس إلى الآخرين، لذلك منَّ الله على المسلمين بهذه الألفة (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبَينَّ الله لكم آياته لعلكم تهتدون).
(لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم)
للغرب طمع في الشرق من قديم، وقد غالبه مرات وهو يخفق. قامت الحروب الصليبية، ونزح الغرب على الشرق وهاجمه في عدة من ثغوره وبلدانه ولكنه لم تجده هذه المحاولة وهذه المهاجمة، فعاد إلى الحيلة ورأى أنه يستطيع أن يدرك بالحيلة ما عجزت عنه القوة.
الغرب عالم واسع العلم لا يسير إلا ومصباح العلم أمامه يهديه السبيل، ويبصره مواقع أقدامه، نظر إلى الجسم الإسلامي فرأى أنه ليس يضيره أن يبتر منه عضو من أعضائه. إنما الذي يضير ويقدره عليه هو إضعاف روحه؛ وقد رأى روحه الوحدة الإسلامية فعمد إليها وسماها تعصباً دينياً ممقوتاً، وسمى التعاون الديني تعصباً إسلامياً همجياً، وأسبغ عليه ما شاء من نعوت الذم والوحشية، فدخل ذلك على الشرق - وهنا وصلنا إلى ما نريده من الخطأ الذي وقعت فيه الأمة الإسلامية - فآمنت بنظرية الغرب، وسمتها تعصباً دينياً،
وخجلت من أن توصم بالتعصب الديني، فتركت هذه الوحدة المقدسة، ونفرت من هذا التعاون الإسلامي، فلما ضعفت الروح سهل التغلب على الجسم.
كان على المسلمين أن يعلموا أنه لا مقاومة في الوجود إلا بوحدة. وقد ظهرت هذه الوحدة بمظاهر مختلفة منها الوحدة الجنسية ومنها الوحدة الوطنية، ومنها الوحدة الدينية، وإذا استمسك الغرب بالوحدة الجنسية أو الوطنية لما فيها من الإقدار على الكفاح في هذه الحياة، فعلى المسلمين أن يستمسكوا بما صبوا فيه من وحدة إسلامية ليقدروا أيضاً على الكفاح في هذه الحياة.
كان على المسلمين أن يعلموا أن التعصب الديني موجود في أمم الغرب التي تعيب المسلمين بالتعصب الديني، يظهر ذلك في أعمالهم وكثير من نواحي حياتهم، وأقرب ذلك تطوع بعض الأوربيين والأمريكيين في جيوش الأسبانيين، والفرنسيين ضد الريفيين المسلمين الذين كانوا يدافعون عن وجودهم، فلو أن التعاون الديني كان نقيصة كما يزعمون لما نهوا عنه غيرهم وأتوه هم.
كان على المسلمين أن يعلموا أن الوحدة الجنسية والوطنية في أوربا قد أتت من الفظائع ما لم تأت بمثله ولا بأقل منه الوحدة الإسلامية في الإسلام، وآية ذلك معاملة الألمان لليهود، وتلك الحروب الطاحنة تؤجج نارها العصبيات القومية أو الجنسية. ليس في الوحدة الدينية ما يمكن أن تؤخذ به إلا أنه قد يكون في الوطن الواحد أديان مختلفة؛ والوحدة الدينية ربما عادت بين هذه الوحدات، ولكن الإسلام قد احتاط لذلك، وأوصى المسلمين بهم وأوجب أن يكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم.
حافظ الإسلام على أهل الذمة وذوي العهود والمواثيق من ذوي الأديان المخالفة (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون).
على الأمم الإسلامية أن تقلع بعد اليوم عن هذا الخطأ وأن تعلم أنها وقعت فيه بعض تلك الموجات التي تغمر الأمم فتلهيها عن مصالحها، ولا يخافن أهل الذمة في بلاد المسلمين وذوو العهود مع المسلمين من إحياء الوحدة الإسلامية فأنها تقوي جيرانهم وأهل عهدهم ولا
تصيبهم بأذى لأن الإسلام كما قدمت يوصي بأهل الذمة وبالوفاء بالعهود.
محمد عرفة
من ثمرات الهجرة
جهاد شهيد
للأستاذ سعيد الأفغاني
كلما أظل الكون عام جديد التفت المسلمون إلى الماضي البعيد يستوحونه العبرة ويتلقون منه الدرس. وكم في صدر الإسلام من عظات، وكم فيه من دروس ينقضي الزمان وهي لا تنفد وإنها لتجود على كل ناظر فيها بما يحفز الهمة ويوقظ الوجدان ويملأ النفس حمية والقلب خشوعاَ. وما أحرى الأقطار العربية عامة أن تتأمل في تاريخها المجيد وخاصة ما حف بحادث الهجرة الكبرى من أذى واضطهاد، ظفر من بعدهما المؤمنون الصابرون، لتستشعر القوة والإقدام وهي تكافح من طغيان المحتلين وكيدهم ما ينفذ معه الصبر وتعيا الحيلة وتكل القوى. ومتى رأوا ما فعلت العقيدة والإخلاص في نفوس أسلافهم، الذين كانوا أضعف منهم اليوم وأفقر وأقل عدداً، مضوا في جهادهم مستعينين بالله، وليس بينهم وبين النصر إلا أن يفعلوا ما فعل الأولون.
سمع دعوة الإسلام فأنشرح لها صدره، وطرب قلبه، ودخل في الدين الحق فأشرب حبه والإخلاص له والاستماتة من أجله، وشمل أهل بيته ما شمله من رحمة الله فاغتبطوا ذكوراً وإناثاً بما ساق إليهم ربهم من خير.
وكان نعيمه من الدنيا أن يرى الرسول أو يجلس معه أو يستمع إليه، وهو يجد في ذلك لذة تغمر وجوده كله فيذهل عن الدنيا وما فيها من متاع ولهو ليغرق في غيبوبة روحية سامية، بحماسة جامحة تثير عاطفة الخير في كل قلب. وكان في سيرته مثلاً كاملاً للمسلم الحق الذي آمن بالله فعبده مجتهداً حق العبادة، وأحب الخلق جميعاً فمنحهم من نفسه الرحمة والخير والحب والإحسان.
ولقد رقق من نفسه ما كان بلغه من سيرة الرسول في مكة، وما تحمل هو وأصحابه من أذى المشركين واضطهادهم في سبيل الله، حين دعاهم إلى الخير فصدوا عنه مستكبرين، وعرض عليهم الإسلام فأسمعوه في دينه وإله ما يكره، ثم زادت وقاحتهم فرجموه وشتموه وأخرجوه وأجاعوه؛ وهو مع أصحابه الأخيار صابر ساكت يدعو لهم وينتظر فرج ربه
وكان أنس بن النضر على عقيدة في الله راسخة وإيمان صليب، ملك عليه الإسلام لبه
وتمكن حب الله وحب رسوله من قلبه، وهو مع كونه من خيار الأنصار قولاً وعملاً ومع فرط محبة النبي له، شديد الحسرة على أنه لم يكن ممن أوذي في الله بمكة، وأنه فاته بذلك شرف عظيم استأثر به المهاجرون الأولون؛ ولم يكن يعزيه إلا أنه يتلبث حتى تكون فرصة سعيدة يخرج فيها عن حق الله في ماله وأهله ودمه
وكانت النفرة الأولى إلى بدر، حيث تصاول الخير والشر كفاحاً، وحيث وقف المؤمنون صفاً واحداً سلاحهم التقوى وإيمان بالله لا يتزعزع، واثقين بأنه لا بد ناصرهم مع قلتهم وضعفهم على الشرك وأهله الذين خرجوا بطرين مستطيلين، عادين على الله وعلى رسوله والمسلمين. ولقد صدق المسلمون يومئذ الحملة وأخلصوا النية، وأرخصوا في سبيل الله دماءهم وأموالهم فنصرهم الله النصر المؤزر، ورجعوا إلى المدينة مغتبطين بما أذل الله من الباطل ورفع من الحق، وما مكّن لهم من صناديد قريش حتى أوسعوهم قتلاً وأسراً.
وكان صاحبنا أنس قد عاقته العوائق عن شهود بدر، فلما بلغه ما كان ثمة من جهاد واستماتة، وما حل بالقوم من رحمة الله ورضوانه، حزن حزناً ما حزنه أحد قط، وكلما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم ما خص الله به أهل بدر من الفضل والخير، تقطع قلبه حسرات على ما أخطئه من فرصة كان يترقبها بفارغ الصبر منذ عرف الإسلام، لذلك أراد أن يأخذ على نفسه عهداً يشهد عليه الله والنبي والمسلمين، حتى لا يصيبه في المستقبل ما أصابه في الماضي؛ فهرع إلى رسول الله مُنصرفَه من بدر وإن سيماءه لتفصح عن ندم شديد وعزيمة صادقة وحماسة متأججة، عرف ذلك في وجهه كل من رآه، فلما وقف على النبي في أصحابه قال له:
(يا رسول الله! غبت عن أول قتال قاتلت به المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرينّ ما أصنع).
لبث أنس ينتظر الفرص حتى بلغ أهل المدينة ما جمع لهم أبو سفيان من الخيل والرجلْ، وما طابت به نفوس المشركين من ربحهم في العير لينفق على حرب النبي وأصحابه، وكان ذلك خمسين ألف دينار. وما كانت قريش ولا حلفاؤها لتسمح بهذا وهم التجار الحراص على المال، لولا ما ملأ صدورهم من الغيظ والحنق والكره للمسلمين على ما فعلوا بهم يوم بدر.
شاور الرسول أصحابه فيما يصنع فكان الرأي أن يتحصنوا بالمدينة، حتى إذا أتوهم قاتلوهم عنها. وكان من قول عبد الله بن أبي:(يا رسول الله أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منهم. فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا).
وأنى لهم أن يجمعوا على هذا الرأي وفيهم من يتلهف شوقاً إلى حرب المشركين (فقد كان رجال من المسلمين أسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر لما سمعوا النبي يخبر بفضل من شهدها وعظيم ثوابه، فودوا غزوة ينالون بها مثل ما ناله البدريون وإن استشهدوا)؛ فلم يعجبهم ما قال المجربون من الرأي الهادئ الخمير، وتغلبت عواطفهم الجياشة، واشتد بهم الظمأ إلى الشهادة حتى قالت طائفة منهم:
(إنا نخشى أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج جبناً عن لقائهم فيكون هذا جراءة منهم علينا).
وقال حمزة: (والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم اليوم طعاماً حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة).
وقال النعمان بن مالك: (يا رسول الله لا تحرمنا الجنة، فوالذي نفسي بيده لأدخلنها) الخ.
ووافق هؤلاء مشيخة من المهاجرين والأنصار فكانت غزوة أحد، وكان أول الناس إسراعاً إليها وأشدهم فرحاً بها أنس وأخته، وخرج إليها الكثير من الأحداث والنساء، فأبلوا فيها البلاء المحمود، دفاعاً عن دينهم وذياداً عن نبيهم وشوقاً إلى ما عند الله.
شب القتال؛ وكان المشركون ثلاثة أمثال المسلمين أو يزيدون، ونصر الله المسلمين أول الأمر، حتى إذا ترك الرماة مواقفهم التي أمرهم الرسول بلزومها كان ما هو معلوم للجميع، وزلزل المسلمون زلزالاً شديداً وكثر فيهم القتل وانهزم فريق وثبت فريق وأشيع أن رسول الله قد قتل وأسقط في أيديهم. هنالك كان الامتحان الأعظم للبطولة والإخلاص فمحص الله للشهادة الأخيار، وذاد القرومُ البواسل عن الرسول ذياد المستميت، وعمد النساء إلى السلاح يأخذنه من المنهزمين فقاتلن به حتى كانت ضروب الشجاعة والبسالة التي أتاها النساء فقط، صفحة مجيدة تتقطع دون الظفر بها رقاب الفحول المذاويد الأبطال؛ وكان من ثبت
من الصحابة نفراً ضئيلاً وقع عليهم نعي الرسول وقوع الصاعقة فحاروا في أمرهم بعد أن ترك أكثرهم القتال ووهنت نفوسهم وألقوا بأيديهم؛ إذ ذاك، يدركهم الله بهذا البطل المجاهد المغوار، أنس ابن النضر يسألهم فيم جلوسهم والحرب قائمة؟ فيقولون: قتل رسول الله! فيزداد حمية واستبسالاً ويهتز من فرعه إلى قدمه وتتجسد فيه معاني الجهاد السامية فتتألق عيناه ويلتمع وجهه ويكاد دمه ينفر من عروقه وترتسم عليه سمات الصلابة والعزيمة والاندفاع ويفتر ثغره عن هذه الكلمات الملهمات تذكرهم بالواجب الذي ذهلوا عنه، وتحفزهم إلى الشهادة، وتدفع أجبن الناس إلى اقتحام الغمرات.
(فما تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه، أفلا تقاتلون على دينكم وعلى ما كان عليه نبيكم حتى تلقوا الله عز وجل شهداء) ثم قال: (اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء (يعني أصحابه) وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء (يعني المشركين) انقضت على سامعيه لحظة كانوا منها في مثل لجج النور من كلماته، فألهبهم ودفعهم إلى الموت دفعاً؛ ثم انطلق نحو جموع المشركين فلقي في طريقه سعد بن معاذ فقال له:(يا سعد؛ الجنة! ورب النضر إني لأجد ريحها من دون أحد) ورمى بنفسه وسط الجموع الحانقة الظافرة، ضارباً وطاعناً، فأشرعت إليه الرماح وأصلتت عليه السيوف وسالت منه الدماء على جوانبه، وهو لا يحس لتلك وخزاً ولا يشعر لهذه بألم، ولا ينفك منقضاً على الأعداء مقتحماً صفوفهم، يوسعهم تقتيلاً وإثخاناً، غير آبه للرماح تتناوشه، ولا للسهام تنفذ فيه، ولا للسيوف تقطّع منه، وإنه مع هذا كله لا يرى انه بذل في الله طائلاً، وكلما ازداد الدم منه انصباباً زاد على أعدائه كراً وإقداماً حتى أكرم الله هذه الروح الزكية فسالت على قِصَد القنا وظُبي السيوف فأستأثر سبحانه بها، وأنالها ما تمنت من الشهادة لتنعم بلقائه وجواره في عليين.
ولقد أحمى بكلماته تلك أنوف المهاجرين والأنصار، فمشوا على أثره وكروا ثانية على العدو، واجتهدوا في القتال؛ إلا أن أحداً ما بلغ مبلغ أنس رحمه الله ورضي عنه، حتى إن سعد ابن معاذ - على ما أبلى في العدو يومئذ - ليحدث عنه بعد الحرب فيقول:(ما استطعت يا رسول الله ما صنع).
انقضت المعركة حافلة بضروب البطولة، وطفق المسلمون يتحرون قتلاهم لمواراتهم التراب؛ وإنهم لفي شأنهم إذ وقفوا على جثة لم يعرفوا صاحبها لأن السيوف والرماح لم
تبقعلى شيء من ملامحه قط. يا للهول ويا للبسالة! بضع وثمانون بين طعنة برمح أو ضربة بسيف أو رمية بسهم، يتلقاها رجل واحد فقط، ثم هو بعد ذلك لم يشف صدور أعدائه الحنقين عليه لما ملاء قلوبهم حرداً وغيظا من كثرة ما فعلّ فيهم، لم يُبرد أكبادهم كلُّ ما نالوا منه ولم يُذهب غيظ قلوبهم قتله، بل شوهوا الجثة ومثلوا بها، لقد بلغ من المسلمين هذا المنظر أمداً بعيداً ونفضهم نفضاً من شدة التأثر، وعظمت رغبتهم في معرفة صاحب الجثة، ولبثوا مدة لا يهتدون إليه، حتى تقدمت امرأة جاهدة تحدَّرت منها العبرات الحرار، وهي تحدق في أنامل الشهيد ثم قالت:(هو أخي أنس بن النضر، عرفته ببنانه!).
رجع المجاهدون الأبرار، الذين اصطفاهم الله رسلاً إلى الإنسانية المعذبة يفيضون فيها الرحمة، ويشيعون العدل والإحسان، رجعوا إلى المدينة يحفهم رضوان الله وتتنزل عليهم رحمته؛ وقد خلفوا في أحد سبعين بطلاً استماتوا بإخلاص ليجعلوا كلمة الله هي العليا، فنعمت أرواحهم بالشهادة. ولئن كان من بقى منهم على قيد الحياة قد أبلى البلاء الحسن وبذل طاقته ومجهوده. فإن الحسرة لتذيب كبده على أنه لم يحظ بما حظي به إخوانه من شرف الشهادة، ولم يخفف من حسرتهم إلا أملهم في أن يكرمهم الله بها فيما ينتظرهم من معارك.
لكن الله سبحانه رضي عن هؤلاء وأولئك، وأنزل فيهم قرآناً ما يزال الناس يتلونه والعبرات تجري غزاراً من مآقيهم، وما زال هذا الصوت الإلهي المقدس يهيب بالمسلمين والمستضعفين مدوياً في الآفاق:
(إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يُقاتلون في سبيل الله فيقتُلوَن ويُقْتَلونْ، وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم).
ونحمد الله على أن هذا الفيض المقدس من شرف الدفاع، ما زالت إمداده متصلة باستمرار، وما زال الشهداء يتوافدون على ميادين الجهاد؛ وما برحت هذه الطائفة المختارة من المسلمين تتكالب عليه الأعداء من كل جانب، وما انفكت عرضة لتألبهم وهمجيتهم وضراوتهم والله يمتحن الخلف بما امتحن به السلف، ويخص من شاء منهم بكرامته. ففي كل بلد إسلامي ميدان جهاد وشهداء دفاع، وفي كل بقعة عربية عدد مستبيح وقافلة تستشهد
ولن نزال إلى قيام الساعة نستشهد، ولن نزال إلى قيام الساعة نتأسى بتلك العصبة الطاهرة من شهداء أُحد ومجاهديها، ولا تفتأ منا طوائف تتري على آثار من سلف من أولينا كلما خلت مواضع في الصف احتلها فوج؛ ولم ينس الناس بعد تلك الأرواح البريئة التي صعدت إلى بارئها في العراق وسوريا وفلسطين ومصر وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش، وهي تكافح أحفاد الصليبيين من بريطان وفرنسيس وطليان وإن هذه القوافل لتستمر في تلبية نداء ربها بتهافتها على الشهادة، كلما ردَّدَت المحاريب ما أنزل الله في أبطال أُحد:
(من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا).
فيا أيها الشهداء المخلصون الأبرار من لدن أُحد وبدر إلى معارك فلسطين وساحات المغرب الأقصى اليوم!
ويا أيتها الحلقة النورانية التي انتظم فيها أنس بن النضر وعبد الرحمن الغافقي. . . حتى عمر المختار وعز الدين القسام وفرحان السعدي ومن يخلف هؤلاء وأولئك في مشارق الأرض ومغاربها!
هنيئاً لكم الكرامة في دار الخلد، فقد غضبتم للحق وحميتم الحرمة وحفظتم البيضة، وجردتم سيوفكم تذودون لصوص الأعراض والأموال والأديان من ذئاب البشر الجائعة الضارية، وتدافعون عن الشرف والنبل والخير والمثل السامية، حتى أسلمتم أرواحكم وقدمتم على ربكم بدمائكم تشكون وحشية الطامعين وفظائع المحتلين.
يا أيها الشهداءُ المجاهدون: لا حرم الله دنيانا من أمثالكم فأنتم منار الهدى ومصابيح الظلام. وعليكم رحمة الله ورضوانه.
دمشق.
سعيد الأفغاني
محمد في أطوار حياته
دراسة تحليلية
للأستاذ عَبد المَتعال الصعيدي
(قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم
عمراً من قبله أفلا تعقلون)
(سورة يونس - 16)
بعث الله محمد صلى الله عليه وسلم فكانت معجزته الكبرى هذا القرآن الكريم بفصاحته الباهرة وما جاء به من تشريع قويم في أصول الدين وفروعه، على أنه كان مع هذا يلجأ إلى العقل فيستعين به في تأييد رسالته، وإلى العلم فيستخدمه في إثبات نبوته، وإلى هذا تشير تلك الآية الكريمة من سورة يونس (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون).
فهو يقيم في هذه الآية دليلاً على صحة نبوته يستند إلى دراسة تاريخه قبل النبوة وبعدها، وإلى دراسة نفسه في هذين الحالين، والدراسة الأولى فرع من علم التاريخ، والدراسة الثانية فرع من علم النفس، وسنقوم الآن بهاتين الدراستين، ونتتبع فيهما أطوار حياته صلى الله عليه وسلم.
الطور الأول: ولد صلى الله عليه وسلم يتيماً عائلاً، لم يرث من والده شيئاً، لأن أباه مات قبل جده عبد المطلب وهو شاب لا يكاد يجاوز حد العشرين، فلم يرث شيئاً من مال أبيه، ولم يتمكن من أن يجمع شيئاً لأبنه. بل مات بعد شهرين من حمله، ثم لم تلبث أمه أن ماتت بعد موت أبيه، فكفله جده عبد المطلب، ثم كفله بعد وفاة جده عمه أبو طالب.
وكانت قريش تعيش في مكة عيشة متحضرة تعتمد على العمل والكسب، ولا تعرف ما تستنه البادية العربية في معيشتها من الغزو والنهب، فنشأ محمد صلى الله عليه وسلم على غريزة قومه، محباً للعمل، راغباً في الكسب الحلال، وهو الذي قال بعد هذا في رسالته: أطيب الحلال أن يأكل الرجل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده
فلما بلغ مبلغاً يمكنه معه أن يعمل عملاً أخذ يرعى الغنم مع أخوته من الرضاع في البادية،
ثم مضى في هذا العمل بعد أن رجع إلى مكة، فكان يرعى الغنم لأهلها على قراريط يأخذها منهم، كما روى هذا الإمام البخاري في صحيحه.
وكان في هذا الطور يميل إلى شيء من اللهو البريء، وتدركه عناية الله فيه كما تدرك كل شاب موفق، وقد حكى عن نفسه في ذلك بعد رسالته فقال: لما نشأت بُغَضت إليَّ الأوثان وبُغِضَ إليَّ الشعر، ولم أهمُّ بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين، كلُ ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك، ثم ما هممت بسوء بعدهما حتى أكرمني الله برسالته، قلتُ ليلة لغلام كان يرعى معي: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمرَ كما يَسمر الشباب، فخرجت لذلك حتى جئت أول دار من مكة أسمع عزفاً بالدُفوف والمزامير لعُرْس بعضهم، فجلست لذلك فضرب الله على أذني فنمت، فما أيقظني إلا مسُّ الشمس، ولم أقض شيئاً، ثم عراني مرّة أخرى مثلً ذلك.
الطور الثاني: فلما بلغ صلى الله عليه وسلم اثنتي عشر سنة أخذ يعمل في التجارة مع عمه أبي طالب، فسافر معه إلى الشام للتجارة وهو في هذه السن، ولما حذق التجارة انفرد بنفسه عنه. وكان في مكة سيدة تاجرة ذات شرف ومال تدعى خديجة بنت خويلد من بني أسد بن عبد العزي بن قصي، وكانت تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه، فسمعت عنه من الأمانة والصدق ما رغبها في أن تستأجره للتجارة في مالها، وكانت سنه في ذلك الوقت خمساً وعشرين سنة، فاستأجرته ليخرج في مالها إلى الشام للتجارة، على أن تعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره، فسافر إلى الشام مع غلامها ميسرة، فباعا وابتاعا وربحا ربحاً عظيماً، فسرت به تلك السيدة الكريمة، وكان زوجها قد توفي ولم تتزوج بعده فأرسلت إليه تخطبه لنفسها وكانت سنها نحو الأربعين، فقام مع أعمامه حتى دخل على عمها عمر بن أسد فخطبها له منه عمه أبو طالب، فزوجها عمها له، وصارت بهذا زوجه خمساً وعشرين سنة، وكان يعمل في مالها ويأكل من نتيجة عمله، على إنها ما كانت تضن عليه بشيء منه.
الطور الثالث: وكان في نفسه صلى الله عليه وسلم ميل إلى عبادة ربه، وإلى العزلة عن ذلك المجتمع الموبوء برذائل الجاهلية، فلما رزقه الله بتلك الزوجة الكريمة، وصار له مال يساعده على قضاء حاجة نفسه من عبادة ربه، كان يقصد كل سنة في شهر رمضان إلى
غار حِرَاءَ، فينقطع فيه للعبادة، وكانت قريش تفعل ذلك في جاهليتها، ولم يبتدع منه صلى الله عليه وسلم شيئاً جديداً لم يكن يفعله أحد من قومه.
وكان يخلو بهذا الغار فيتعبد فه الليالي ذوات العدد، فتارة عشراً، وتارة أكثر إلى شهر، ويأخذ لذلك زاده، فإذا فرغ رجع إلى زوجه فيتزود لمثلها.
وهذا الطور آخر أطواره قبل النبوة، فإذا أردنا أن نستخلص منها شيئاً من خصائصه صلى الله عليه وسلم فيها وجدناه رجل عمل يعتمد على نفسه، ويأخذ في ذلك بما اشتهر به قومه من الحذق في التجارة، والرحلة فيها إلى الأقطار القريبة والنائية، لا يشغلهم عنها شاغل، ولا يهتمون بغيرها مما كان يهتم به غيرهم من العرب، حتى عيرهم بهذا بعض شعرائهم فقال:
ألهي قُصيًّا عن المجد الأساطيرُ
…
ورشوةٌ مثل ما ترشى السفاسيرُ
وأكلها اللحم بحتاً لا خليط له
…
وقولها رحلت عيرٌ أتتْ عيرُ
وكان في هذه الحياة العملية من أحسن قومه خلقاً، واصدقهم حديثاً، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم عن الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، حتى كان من أفضلهم مروءة، وأكرمهم مخالطة، وخيرهم جواراً، وأعظمهم حلماً، فأحبوه وركنوا إليه ولقبوه الأمين حتى غلب على اسمه هذا اللقب.
وكان على علمه بفساد ما عليه قومه من عبادة الأصنام وما إليها يكتفي من هذا بالعزلة التي أخذ نفسه بها، ويأخذ بما يأخذ به بعض الناس من الاهتمام بإصلاح نفسه وعدم الاهتمام بإصلاح غيره، وكأنه كان يضن بذلك الحب الذي يحبوه قومه به أن يفسده بتخطئتهم، وتسفيه ما ألفوه من عبادة أصنامهم، فمضى لا يهمه إلا أمر نفسه، ولا يعني بشيء من أمر غيره، اللهم إلا بعض الأعمال الصالحة التي كان يقوم قومه بها، فكان يشاركهم فيها ويقوم بنصيبه منها، كما حصل منه في حلف الفضول بدار عبد الله بن جُدْعان التَّيمي، وكان المتحالفون فيه بني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف، وبني أسد بن عبد العزّى، وبني زهرة ابن كلاب، وبني تيم بن مرَّة؛ تحالفوا وتعاقدوا ألا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو غيرهم من سائر الناس ألا قاموا معه حتى ترد إليه مظلمته، فحضر محمد صلى الله عليه وسلم هذا الحلف مع أعمامه وقال فيه بعد رسالته: (لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار
عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حُمُرَ النَّعَم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت)
ولم يعن صلى الله عليه وسلم في هذه الأطوار بشيء من الفصاحة والبلاغة، ولم يحاول أن يكون بين قومه خطيباً أو شاعراً، بل يكره الشعر كرهه لعبادة الأصنام، مع أن الجزيرة العربية كانت تعج في ذلك الوقت بالشعراء والخطباء، ولكن قريشاً كانت لا تعني بشيء من ذلك، وإنما كانت تعني بالمال والتجارة عناية أبناء عمومتهم من اليهود، حتى كان حظها من الشعر دون حظ غيرها من القبائل، وإن كانت لغتها أفصح اللغات العربية، وإن كانت مواسم الأدب وأسواقها لا تقوم إلا في بلادها.
وقد قضى محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الأطوار أربعين سنة من عمره، قضاها على ما وصفناه في حياة هادئة، وعيشة مطمئنة، لا تحدثه نفسه فيها بشيء مما حصل منه بعدها، ولا تطمح في أميتها وقناعتها إلى أكثر مما وصلت إليه فيها.
الطور الرابع: وقد بلغ صلى الله عليه وسلم أربعين سنة فإذا به ينتقل فجأة من تلك الحياة الهادئة إلى حياة عنيفة يشتد فيها الخصام بينه وبين قومه، وينقلب ما كان فيه من عدم المبالاة بأمرهم حرصاً على مودتهم إلى اندفاع شديد نحو الاهتمام بأمرهم، وإن أدى هذا إلى انقطاع تلك المودة التي كان يحرص عليها، وكان في أهنأ ما يكون من العيشة بها بينهم؛ وإذا به وهو ذلك الأمي الذي لم يجلس إلى معلم، ولم يشتغل في تلك الأربعين سنة إلا بما ذكرناه من التجارة ورعي الغنم، ينقلب إلى خطيب لا يدانيه خطيب في فصاحته، وعالم لا يدانيه عالم في علمه، وبيده كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يدعو به الناس أجمعين، ويهديهم إلى دين الله الصحيح، وترك ما دخله من التغيير والتبديل والتحريف، ويجلب على نفسه بهذا عداء الوثنية وزعمائها من قومه، وعداء المجوسية وزعمائها من الفرس وأكاسرتها، وعداء النصرانية وزعمائها من الروم وقياصرتها، وعداء اليهودية وزعمائها من اليهود وأحبارها.
فما هذا كله؟ وما هذا الذي جعل من محمد الأمين بين قومه عدوهم اللدود وخصمهم العنيد؟ لقد اختلفوا عند بناء الكعبة وهو ابن خمس وثلاثين سنة في الحجر الأسود أيهم يرجعه إلى موضعه من الكعبة، ثم اتفقوا على أن يحكموا بينهم أول داخل إليهم، فلما دخل إليهم قالوا: هذا الأمين رضيناه، هذا محمد، فبسط رداءه ووضع الحجر عليه، وقال: لتأخذ كل قبيلة
بناحية من الثوب، وأمرهم برفعه حتى انتهوا إلى موضعه، فأخذه ووضعه فيه.
فما هذا الذي جعله بعد هذا يعرض نفسه لأن يتهموه بكل شنيعة من القول؟ فيقولوا عنه مرة إنه ساح، ومرة إنه شاعر، ومرة إنه كاهن، ومرة إنه مجنون.
إنه لم يفعل هذا من نفسه، ولو أنه خلى ونفسه لمضى في تلك الحياة الهادئة إلى نهاية أمره، وإنما كان يعمل في هذه الحياة الجديدة بأمر طرأ عليه، وغير من نفسه ما شبت عليه في تلك الأربعين السنة.
فبينما هو في غار حراء قائم في بعض الأيام على الجبل إذ ظهر له شخص وقال: أبشر يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله إلى هذه الأمة، ثم قال له أقرأ، قال: ما أنا بقارئ، لأنه كان أُمياً كما سبق، فأخذه فغَطّهُ بالنمَطِ الذي كان ينام عليه حتى بلغ منه الَجهْد، ثم أرسله، فقال: أقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، فأخذه فغطه ثانية ثم أرسله فقال: أقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، فأخذه فغطه الثالثة ثم أرسله فقال:(أقرأْ باسم ربكَ الذي خلقَ، خلقَ الإنسان من علقٍ، أقرأْ وربكَ الأكرمُ، الذي علمَ بالقلَم، علمَ الإنسانَ ما لمْ يعلمْ).
فرجع بها صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده مما ألم به من الروع، فدخل على خديجة زوجه فقال: زمّلوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه روعه، فأخبرها الخبر، وقال لها: لقد خشيت على نفسي، فقالت له: كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصِل الرَّحِم، وتحمل الكلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فلا يسلط الله عليك الشياطين أو الأوهام، ولا مراء أن الله اختارك لهداية قومك.
ثم ذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان امرءاً قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فكان يكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره خبر ما رأى، فقال له: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، ثم قال: يا ليتني فيها جذعاً إذ يخرجك قومك، فقال: أو مخرجي هم؟ قال: لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي.
وقد حقق الله نبوءة ورقة بهذه الهجرة التي نحيي ذكراها كل سنة.
وهذا هو حكم التاريخ وعلم النفس في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا يا إلهي بعض جهادي في نصر دينك أشكو إليك ما ألقاه بسببه من أذى، وهو لذتي في هذه الدنيا إذا
التذ قوم بمتاعها، وأنت حسبي ونعم الوكيل.
عبد المتعال الصعيدي
دراسات أدبية
مقتل الحسين وأثره في الأدب العربي
للأستاذ ضياء الدين الدخيلي
هذا المحرم قد وافتك صارخة
…
مما استحلوا به أيامُه الحرم
يملأن سمعك من أصوات ناعية
…
في مسمع الدهر من إعوالها صمم
تنعى إليك دماءً غاب ناصرها
…
حتى أريقت ولم يرفع لكم علم
جاء المحرم فالمساجد العراقية مجللة بالسواد، والوجوه تعلوها الكآبة، هنا وهناك عويل ونواح يكربان القلب. الصدور موجعة بضرب الأيدي، والمتون مكلومة باللدم بالسلاسل النحاسية، والنفوس فزعة جزعة قد تملكها الهلع إذ خلبتها الألسن الذلقة التي لم تدع أسلوباً لتهويل فاجعة كربلاء إلا ركبت سبيله الأوعر والأشد إيلاماً والأنكى لذعة ولوعة. مواكب تجلببت السرابيل المضاعفة من الحزن خنقها الأسى فلا تأسى، ورؤوس تشج بحد السيوف، ودماء تراق على مذبح فاجعة كربلاء، فما قيمة العبرات والزفرات والدموع المنصبة على أقدام هذه المأساة المؤلمة التي لم يع التاريخ أفجع منها ولا أكثر جلبة من تبعاتها. ففي إيران والعراق والهند وسورية والحجاز وهنا وهناك مآتم ومناحات تعقد لتكسب العبرات وتنفث الزفرات، فكأن نفس الشرقي الحالمة بالأشباح والرؤى، المفعمة بالطموح وأحلام الغيب، المتبرمة بالحياة وأحكامها التي ترزح بأعبائها - وجدت في هذه المأساة مجالاً واسعاً لإعلان عويلها والتنفيس عن كربها.
وإن شيعة العلويين التي لم تهيمن على مقدرات البلاد ولم تسيطر على أزمة الحكم وتقبض على السلطة الزمنية إلا قليلاً، بقيت طوال الدهر ناقمة ساخطة على الدهر الهازل، ساخرة من أقداره المملوءة بالمهازل، فشاعرها (السيد جعفر الحلي صاحب ديوان سحر بابل وسجع البلابل) يقول:
وجه الصباح عليّ ليل مظلم
…
وربيع أيامي علي محرم
بي قرحة لو أنها بيلملم
…
نسفت جوانبه وساخ يلملم
ما خلت أن الدهر من عاداته
…
تروي الكلاب به ويظما الضيغم
ويقدم الأموي وهو مؤخر
…
ويؤخر العلوي وهو مقدم
مثل ابن فاطمة يبيت مشرداً
…
ويزيد في لذاته متنعم
ويضيق الدنيا على ابن محمد
…
حتى تقاذفه الفضاء الأعظم
خرج الحسين من المدينة خائفاً
…
كخروج موسى خائفاً يتكتم
وقد صبغ المحرم أدب الشيعة بصبغة سوداء قاتمة بالكآبة، حمراء ملطخة بدم الشهداء، كالحة تعلوها شارات التكدر والانزعاج من الوضع الراهن الواقعي، وهذا الأدب الباكي تسوده الأحلام بفردوس مفقود أسسه العدالة، يرجع فيه حق الحكم إلى أهله وذويه الشرعيين، لذلك فهو أبداً يندب (صاحب الزمان) الذي غاب عن الأنظار ليعود فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملأت جوراً وعسفاً. وسوف يعم في عهده الأمان ويسود السلام المجتمع حتى ترعى الشاة مع الذئب، فاسمع السيد حيدر الحلي يندب الإمام الغائب:
مات التصبر في انتظا
…
رك أيها المحيي الشريعة
بك تستغيث وقلبها
…
لك عن جوى يشكو صدوعه
ماذا يهيجك إن صبر
…
ت لوقعة الطعن الفجيعه
حيث الحسين بكربلا
…
خيل العدى طحنت ضلوعه
والشيعة تعتقد أن حكم اليوم مضرج بدماء الأبرياء، ملطخ ببقع سوداء من قضاء الجور والشبهات. وفي الحق أن الأدب الشيعي خير مثال لأدب التشاؤم الساخط على الحياة الحالم بالمثل الأعلى. ولا أريد أن أصدر حكماً عاماً شاملاً على أدباء الشيعة وأكسوهم بهذه الصبغة الحالكة، فمن قرأ غزليات السيد محمد السعيد الحبوبي الشاعر النجفي (طبع ديوانه في بيروت) وأسام سرح الطرف بين موشحاته الرقيقة وروضياته وخمرياته وجدها ضاحكة متهللة طروباً، ومن خير ما يمثل الحياة المرحة البهيجة (وعسانا أن نتحدث إلى قراء الرسالة الكرام عن أدب هذا الشاعر العبقري). إنما أعني هذا القبيل الذي أترع أدبه بالعويل والنياحة. وعلى رأس هذا الرعيل السيد حيدر الحلي، وهاشم الكعبي، وصالح الكواز، وصالح القزويني العلوي، وإبراهيم الطباطبائي، وجعفر الحلي، ورضا الهندي، وكاظم الأزري، وعبد المطلب الحلي، وعبد الحسين الأعسم، وهؤلاء شعراء مطبوعون لهم دواوين مفعمة بالأدب المشبع قوة وحيوية؛ وقد أقاموا على شواطئ الفرات في غضون عصر النهضة دولة للشعر يدعمها خصب القرائح ورصانة الأساليب ومتانة السبك ودقة
المعنى وسمو الخيال. وإنه لمن العقوق أن تتغافل عن دراسة أدبهم الأقلام العربية النزيهة بمصر، وإنك إذا تصفحت ما خلفوه من شعر محكم الأثر، قوي البيان، فخم التعابير، جزل الألفاظ، وجدته طافحاً بالتهريج والتنديد بالأمويين وما استباحوه من الدماء المحرمة في كربلاء، وما انتهكوه من حرمة ذرية الرسول، فترى المحرم قد صبغ أدبهم بصبغة خاصة لا تجد نظيرها في كثير من الآداب العالمية، وقد مزجوا بشعرهم الوجداني قصصاً ووقائع تاريخية فاستحدثوا لوناً يختلف عما ألفناه في أقسام الأدب العربي من قبل. وقد قرأت للأستاذ الزيات في كتابه (في أصول الأدب) كلمته الآتية، قال عند استعراضه العوامل المؤثرة في الأدب:(وتأثير الأديان في الأدب أمر ثابت بأدلة الطبع والسمع فإنها تخلق موضوعات جديدة لمصنفات جديدة، وتؤثر في الأخلاق والعواطف تأثيراً يتردد صداه في مناحي الأدب. . . فأن في كل دين من الأديان السماوية قسماً وجدانياً اجتهادياً يختلف أبناؤه في فهمه اختلافهم في الطبائع والمنازع والغاية، فأشعار الخوارج مثلاً تنضح بالدماء وتطفح بالحماسة لتعصبهم وتصلبهم وجعلهم غاية الإِسلام جهاد مخالفيهم في الرأي، وأشعار الشيعة تفيض بإجلال زوج البتول وصهر الرسول وتمجيد ذكرى بنيه وتمثيل آلامهم ورثاء من قتل من أعلامهم).
وما لوَّح إليه الأستاذ الزيات حقيقة راهنة تعضدها قواعد علم النفس وأصول التربية الحديثة وقواميس الاجتماع ويدعمها الوجدان بأنصع برهان؛ فهاهي ذي المجاميع المشحونة بالقصائد العصماء التي تتفجر حزناً لمقتل سيدنا الحسين عليه السلام، ومن أحدثها (لواعج الأشجان) تأليف العلامة السيد محسن العاملي، و (مثير الأحزان) وحسبك بأسمائها معرفاً بما انطوت عليه صدورها من مآسٍ.
هذا عدا الدواوين المسودة بنعي شهداء هذه الواقعة، وقد كان حامل لواء هذه السرايا هو الشريف الرضي (موضوع دراسة الدكتور زكي المبارك ضيف العراق الكريم فقد أخذ اليوم في تحليل أدبه الخالد فكانت أبحاثاً ممتعة أصبحت محور الحديث والمناقشة في الأوساط الأدبية هنا)، وقد كان الشريف الرضي مفجوعاً كليم الفؤاد فتجد شعره في رثاء الحسين طافحاً بالأنين والحنين، قال في قصيدة مقصورة:
وضيوف لفلاةٍ قفرة
…
نزلوا فيها على غير قرى
لم يذوقوا الماء حتى اجتمعوا
…
بحِدا السيف على ورد الردى
ووجوه كالمصابيح فمن
…
قمر غاب ونجم قد هوى
غيرتهن الليالي وغدا
…
جائرَ الحكم عليهن البِلى
يا رسول الله لو عاينتهم
…
وهم ما بين قتالٍ وسِبا
من رميض يمنع الظل ومن
…
عاطش يُسقي أنابيب القنا
ومَسوقٍ عاثر يسعى به
…
خلف محمول على غيروطا
جزَرُوا جزر الأضاحي نسله
…
ثم ساقوا أهله سوق الإما
وا قتيلاً قوّض الدهر به
…
عُمُد الدين وأعلام الهدى
غسلوه بدم الطعن وما
…
كّفنوه غير بوغاء الثرى
وشاعر علوي آخر لا يقل في جودة شعره وروعة شوارده عن أبي الطيب المتنبي، ولربما يجوزه في حماسة الملتهب وطموحه المتوثب المتحفز للانتقام في المستقبل الغامض، ذلك هو السيد حيدر الحلي ولد عام 1246 وتوفي سنة 1304، وبلده الحلة مدينة كبيرة تقع على أحدد فروع نهر الفرات قرب موقع بابل التاريخية، وقد نبغ فيها عدد غفير من الشعراء النابغين. وإن شاعرْنا هذا يمتاز بفخامة التعابير وروعة الأحلام ودقة الوصف والتصوير والمقدرة على التهويل وإلباس الحوادث جلباب الضخامة والجسامة ونحت هياكل الأشباح والأخيلة من مادة الواقع ولكن بتكبير وتعظيم، وله براعة ممتازة في استنهاض الراقد وتحذير الغافل عن الخطر الداهم ولو كان موهوماً، وقد عاش مفجوعاً بواقعة كربلاء التي تركت في نفسه أثراً عميقاً فظهر هذا الانفعال النفساني جلياً في مراثيه. فأسمعه ينوح على شهيد الإباء، وديوانه كما سلف نواح وتهديد وزمجرة ووعيد:
وادعت حولي الشجا ذات طوق
…
مات منها على النياح الهجوع
شاطرتني بزعمها الداء حزناً
…
حين أنّت وقلبي المفجوع
يا طروب العشيّ خلفك عني
…
لم يهجني صبابة وولوع
لم يرعني نوى الخليط ولكن
…
من جوف الطف راعني ما يروع
أي يوم بشفرة البغي فيه
…
عاد أنف الإسلام وهو جديع
أينما طارت النفوس شعاعاً
…
فلطير الردى عليه وقوع
قد تواصت بالصبر فيه رجال
…
في حشا الموت من لقاها صدوع
سكنت منهم النفوس جسوماً
…
هي بأساً حفائظ ودروع
وقوله يعرض بالهاشميين وتثاقلهم عن نصرته:
لتل لوي الجيد ناكسة الطرف
…
فهاشمها في الطرف مهشومة الأنف
ويا مضر الحمراء لا تنشري اللوا
…
فإن لواكِ اليوم أجدر باللف
ألستم إذا عن ساقها الحرب شمَّرت
…
وعن نابها قد قلصت شفة الحتف
سحبتم إليها ذيل كل مفاضة
…
ترد الظبا باللثم والسمر بالقصف
فكيف رضيتم من حرارة وترها
…
بماء الطلى منكم ظبا القوم تستشفي
ثم يتجه إلى الإمام علي بن أبي طالب ويخاطبه مخاطبة الأحياء على الأساليب الشعرية المتبعة
أبا حسن أبناؤك اليوم حلّقت
…
بقادمة الأسياف عن خطة الخسف
لقد حشدت حشد العطاش على الردى
…
عطاش وما بلّت حشاً بسوي اللهف
فتلك على الرمضاء صرعى جسومهم
…
ونسوتهم هاتيك أسرى على العجف
وهل زحف هذا اليوم أبقى لحيهم
…
عميد وغى يستنهض الحي للزحف
وله من أخرى:
عثر الدهر ويرجو أن يقالا
…
تربت كفك من راج محالا
لا أقالتني المقادير إذا
…
كنت ممن لك يا دهر أقالا
وتسمع هنا لكبرياء نفس الشاعر قعقعة وجلجلة، وأي تعاظم يطاول بالمرء الدهر ويجعله عرضة لسخط الشاعر وغضبه بحيث يوقف موقف الذل والاستكانة حتى يطلب إقالته من عثرته
أزلال العفو تبغي وعلى
…
أهل حوض الله حرمت الزلالا
المطاعين إذا شبت وغى
…
والمطاعيم إذا هبت شمالا
إن دعوا خفوا إلى داعي الوغى
…
وإذا النادي احتبى كانوا ثقالا
وقفوا والموت في قارعة
…
لو بها أُرسى ثهلان لزالا
وقوله حرمت الزلال يلوح إلى قتل الحسين وأصحابه عطاشاً وذلك من مآسي الواقعة التي
أخذت مجالا لمناحة الشعراء.
وقوله من أخرى:
وخائضين غمار الموت طافحة
…
أمواجها البيض بالهامات تلتطم
مشوا إلى الحرب مشي الضاريات لها
…
فصارعوا الموت فيها والقنا أجم
ولا غضاضة يوم الطف إن قتلوا
…
صبراً بهيجاء لم تثبت لها قدم
فالحرب تعلم إن ماتوا بها فلقد
…
ماتت بها منهم الأسياف لا الهمم
أبكيهم لعوادي الخيل إن ركبت
…
رؤوسها لم يكفكف عزمها اللجم
وللسيوف إذا الموت الزؤام غدا
…
في حدها هو والأرواح يختصم
تنعى إليك دماء غاب ناصرها
…
حتى أريقت ولم يرفع لكم علم
مسفوحة لم تجب عند استغاثتها
…
إلا بأدمع ثكلى شفها الألم
حنت وبين يديها فتية شربت
…
من نحرها نصب عينيها الظبا الخذم
موسدين على الرمضاء تنظرهم
…
حرى القلوب على ورد الردى ازدحموا
سقياً لثاوين لن تبلل مضاجعهم
…
إلا الدماء وإلا الأدمع السجم
أفناهم صبرهم تحت الظبا كرماً
…
حتى مضوا ورداهم ملؤه كرم
وقد افتتح هذه القصيدة بحماسة تذكر بفخر المتنبي وتهديده ووعده ووعيده قال:
إن لم أقف حيث جيش الموت يزدحم
…
فلا سعت بي في طرق العلى قدم
لا بد أن أتداوى بالقنا فلقد
…
صبرت حتى فؤادي كله ألم
عندي من العزم سر لا أبوح به
…
حتى تبوح به الهندية الخذم
لا أرضعت لي العلا ابنا صفو درتها
…
إن هكذا ظل رمحي وهو منفطم
ولربما أكثرنا من الاستشهاد بالمقطوعات الرثائية التي هي من هذا الفرع الغض النضير بشعريته وإهابه الجهم الكالح بمؤداه الباكي بمغزاه ومعناه، ونظن أن في هذا النوع طرافة وجدّة عند قراء (الرسالة) الكرام.
وبعد فإنك واجد هذه الوقعة قد أثرت أثرها في الأدب وأنشأت جانباً خاصاً له مميزاته ومزاياه تربطه صلة قوية العرى محكمة الحلقات، وليس هذا القسم من الشعر ثمرة الأيام الأخيرة، كلا فإنه يمتد إلى عهد دعبل الخزاعي وتائيته التي مطلعها:
مدارس آيات خلت من تلاوة
…
ومنزل وحي مقفر العرصات
والحسن بن الضحاك الذي يقول:
ومما شجا قلبي وكفكف عبرتي
…
محارم من آل النبيَّ استحلتِ
وجعفر بن عفان الشاعر العباسي الذي يقول من قصيدة:
لبيك على الإسلام من كان باكياً
…
فقد ضيعت أحكامه واستحلت
غداة حسين للرماح درية
…
وقد نهلت منه السيوف وعلت
وغودر في الصحراء لحماً مبدداً
…
عليه عتاق الطير باتت وظلت
وسليمان بن قتة العدوى مولى بن تميم وذلك حين مرَّ بكربلا بعد قتل الحسين بثلاث، فنظر إلى مصارعهم واتكأ على فرس له عربية وأنشأ يقول، وقيل إنها لأبي الرجح الخزاعي، وقال ابن الأثير إنها للتميمي تيم مرة قال وكان منقطعاً لبني هاشم:
مررت على أبيات آل محمد
…
فلم أرها أمثالها يوم حلتِ
ألم تر أن الشمس أضحت مريضة
…
لفقد حسين والبلاد اقشعرت
وكانوا غياثا ثم أضحوا رزية
…
لقد عظمت تلك الرزايا وجلت
وإن قتيل الطف من آل هاشم
…
أذل رقاب المسلمين فذلت
وقد أعولت تبكي السماء لفقده
…
وأنجمنا ناحت عليه وصلت
وعقبة بن عمرو العبسي وهو أول من رثى الحسين فيما حكاه سبط ابن الجوزي عن السدي:
مررت على قبر الحسين بكربلا
…
فغاض عليه من دموعي غزيرها
وما زلت أبكيه وارثيه لشجوه
…
ويسعد عيني دمعها وزفيرها
وآخر من عبد القيس قتل أخوه مع الحسين:
يا فرو قومي فاندبي
…
خير البرية في القبور
ذاك الحسين مع التأوه
…
والتفجع والزفير
والفضل بن عباس:
أعيني إن لا تبكيا لمصيبتي
…
فكل عيون الناس عني أصبر
وبديع الزمان الهمذاني:
يا لمة ضرب الزما - ن على معرسها خيامه
لله درك من خُزا - مي رمضة عادت ثغامه
لرزية قامت بها
…
للدين أشراط القيامه
لمضرج بدم النبوة
…
ضارب بيد الأمامه
متقسم بظبا السيوف
…
مجرع فيها حمامه
والسيد الحميري:
أمرر على جدث الحس
…
ين وقل لأعظمه الزكية
يا أعظما لا زلت من
…
وطفاء ساكبة روية
وبعد فهذه الصفحات من أدبنا القومي طوى معارك المفرقة بين أمة الضاد التي أثارت دخان هذا الشعر - ما دهمنا من خطر الغرب، فنحن ندرسها للتاريخ لا أكثر، فقد دثر الهاشميون والأمويون وقبرت معهم منازعاتهم حول الملك.
العراق - النجف الأشرف
ضياء الدين الدخيلي
مقالة تذكارية
ابن سينا
بمناسبة انقضاء تسعمائة سنة على وفاته
للدكتور زكي علي
في سنة 1932 خطر لكاتب هذه السطور بينما كان يقوم ببعض الأبحاث في معهد تاريخ الطب بفينا أن يُحيي ذكرى طبيب الإسلام الأشهر (ابن سينا) في الوقت المناسب بنشر بعض الرسائل العلمية عن حياته في المجلات الطبية وغيرها.
وجرى وقتئذ بيني وبين الأستاذ ماكس نويبرجر - وهو من أشهر علماء تاريخ الطب اليوم - حديث في هذا الشأن لفت نظري في سياقه إلى رسالة لأحد الأطباء من الأتراك الكماليين حاول فيها أن ينسب ابن سينا إلى العنصر التركي تمشياً مع نعرة الجنس التي تغلغلت في تركيا الكمالية وشوّهت في كثير من الأحيان وجه الحقائق التاريخية تبريراً لغاية قومية.
وقد نشرت (الرسالة) في أحد أعدادها في الصيف الماضي نبأ مؤداه أن جامعة استنبول احتفلت بإحياء ذكرى (ابن سينا) أنبغ طبيب في الإسلام. ولما كان ابن سينا فارسي الأصل فقد أراد الكماليون بعملهم هذا تجريده من فارسيته وإقامة الدعوى الباطلة على انه ينتمي إلى الجنس التركي، وبذلك تكون عبقريته النادرة من مفاخر القومية التركية؛ وفي هذا افتيات على التاريخ والعلم لا تبرره العصبية الجنسية.
يلقب ابن سينا في الشرق (بالشيخ الرئيس) وفي الغرب (بأمير الأطباء) حيث عرفته أوروبا باسم واسمه الكامل أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا، وقد اجمع المؤرخون على اعتبار شخصيته إحدى الظواهر الفكرية العجيبة التي سجلها تاريخ الطب والفلسفة كما أنه من اعظم العلماء الذين أنجبهم الشرق إذ جمع في نفسه شخصية الطبيب والفيلسوف والشاعر والفلكي والسياسي والعالم بطبقات الأرض، وبلغ بذلك ذروة النبوغ وقمة الشهرة بين علماء الإسلام شرقاً وغرباً؛ وحسبك ما ذكره عنه الطبيب المؤرخ الأمريكي كامستون إذ قال: (يعتبر ابن سينا معجزة من معجزات العقل الراجح ويجوز أنه لم يسبقه ولم يظهر بعده من العلماء من يدانيه في حدة الذكاء وسرعة نبوغ العقل بالنسبة
للعمر مع عزم ونشاط لا يعرف الملل وهمة شاسعة الحدود).
ولد ابن سينا بقرية تسمى (أفشنة) بالقرب من (حرميثن) من أعمال بخارى وذلك سنة 980م (370هـ) وكان أبوه من بلخ ثم انتقل إلى مملكة بخارى في زمن نوح بن منصور من الدولة السامانية وكانت يومئذ غاصة بالعلماء فوجهه أبوه إلى من حفَّظَه القرآن وعلوم الأدب.
وظهرت بوادر نبوغ ابن سينا وعبقريته منذ الطفولة فما بلغ العاشرة من عمره حتى حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب ودرس النحو والأدب والفقه، ثم تعمق الفتى في دراسة شتى العلوم بحماسة وجد بالغين، فأتى على منطق أرسطو وفلسفته وأكب على تحصيل الهندسة والطبيعة والفلك فأتقن ذلك كله ولم يتجاوز السادسة عشرة. وكان من نعومة أظافره يحس من نفسه ميلاً خاصاً إلى دراسة الطب فأقبل على تعلمه بسرعة غريبة إذ أكمل معارفه فيه واشتهر أمره كطبيب بارع ونطاسي ماهر بعد أن جاوز عمره الثامنة عشرة بقليل. وصادف إذ ذاك أن مرض السلطان نوح بن منصور حاكم بخارى لذلك العهد ورأى أطباؤه أن يستشيروا ابن سينا في أمر معالجته، فأستدعى صاحب الترجمة فأشار بعلاج حاسم كان فيه شفاء السلطان فأحسن مكافأته وسمح له بالإطلاع على نفائس مكتبته الخاصة التي حوت كثيراً من الكتب العلمية النادرة فوعى ابن سينا زبدة ما فيها وعكف على الدرس والبحث سنوات ما كان يذوق فيها طعم النوم إلا غراراً، ومما قاله عن نفسه:(لازمت العلم وكنت كلما أحار في مسألة ترددت إلى الجامع وصليت وابتهلت إلى مبدع الكل حتى يفتح لي المنغلق منه ويتيسر المتعسر. وكنت أشتغل ليلاً في داري بالكتابة والقراءة فإن غلبني النوم أو شعرت بضعف عدلت إلى شرب قدح من الشراب ريثما تعود إليّ قوتي ثم أرجع إلى القراءة، فإن غلبني النوم حلمت بالمسائل التي كنت أعالج حلها حتى إن كثيراً منها اتضح لي بالمنام).
وأخذ ابن سينا في التأليف وهو في الحادية والعشرين من عمره فصنف موسوعة علمية ضمنها كثيراً من العلوم الطبيعية وكتب في الفلسفة وما وراء الطبيعة (الميتافيزيقيا) عدة رسائل.
وفي غضون تلك المدة صار ابن سينا مضرب الأمثال في البراعة الطبية وذاع صيته لما
أوتيه من النجاح في علاج المرضى الذين كانوا يفدون إليه من فجاج الأرض، وله في ذلك كثير من النوادر العجيبة التي تناقلها الرواة والمؤلفون.
ثم لما بلغ صاحب الترجمة الثانية والعشرين من عمره نكب بوفاة والده فانتابته بعد ذلك الشدائد، وزاد في محنته وأهواله أن اضمحلت الدولة السامانية وكانوا حماته الذين تعهدوه بالرعاية والتشجيع، فخرج من مملكة بخارى قاصداً (كركانج) عاصمة (خوارزم) التي كان يحكمها الأمير علي بن مأمون، غير أن الضيق لازمه فتنقل في البلاد شريداً ثم ألقى عصا الترحال في (جرجان) حيث كان يقصد أميرها (قابوس) الذي اشتهر بتأييده للعلماء فصادف وصوله سقوط قابوس عن عرشه وحبسه في بعض القلاع وما لبث أن مات، فتألم ابن سينا لذلك ألماً شديداً وأنشأ قصيدة قال فيها:
لما عظمت فليس مصرٌ واسعي
…
لما غلا ثمني عدمتُ المشترى
ثم هام على وجهه في الآفاق إلى أن وصل أخيراً إلى (حمدان) ودخل في خدمة أميرها شمس الدولة وعالجه علاجاً ناجحاً إذ كان يشكو من مرضاً شديداً بالمعدة، فأحسن الأمير صلته وقلده الوزارة ولم تمنعه أعمال الدولة ومهام المنصب عن مواصلة نشاطه الطبي وأبحاثه العلمية، فألف في ذلك الوقت الجزء الأول من كتابه الأشهر (القانون في الطب)، وكان يقضي النهار في مباشرة شئون الدولة ويحي الليل بالمحاضرة والتدريس وإملاء المذكرات على تلاميذه، فإذا انتهى من محاضرته استبقى مستمعيه وهيئ مجلس الغناء والأُنس والموسيقى ترويحاً للنفوس من عناء الدرس.
على أن هذه الحياة الحافلة بالعلم والعمل والنشاط ما لبثت أن عصفت بها رياح الفتن السياسية ودَّس أعداء صاحب الترجمة له واتهم بأن له صلة سياسية وثيقة بأمير أصفهان وسجِن في أحد القلاع وهناك لازم التأليف. ثم إنه أفلح أخيراً في الفرار من سجنه بعد أن تنكر في زي الصوفية وقصد أصفهان حيث استقبله أميرها بكل أنواع الحفاوة والإكرام وصار موضع إكبار الجميع وصحب السلطان في كثير من غزواته إذ كان طبيبه الخاص ووزيراً للدولة وعكف على إنجاز مؤلفاته العديدة في مختلف العلوم وفي مقدمتها كتابه (القانون في الطب) الذي أذاع اسمه وخلّد شهرته في الشرق والغرب مدى ستة قرون، ودوّن كتبه في الفلسفة والفلك وعلم النفس وفقه اللغة والعلوم الطبيعية والكيماوية وغيرها،
ولم ينقطع برغم هذا كله عن ممارسة مهنة الطب التي فاق فيها كل معاصريه وأوصله نبوغه فيها إلى مكانة ليس وراءها غاية.
وقد أنهكت الجهود الجبارة والعمل الشديد المتواصل قواه فمات ولم يتجاوز عمره السابعة والخمسين سنة 1037م.
ويمتاز ابن سينا بغزارة مادته الأصلية في التأليف، وتنوع العلوم والفنون التي ترك فيها آثاراً قيمة، وضخامة كثيرة من كتبه النفيسة التي كانت بمثابة دوائر معارف شاملة.
ولا جدال في أن كتابه (القانون في الطب) - وهو أهم مؤلفاته، وأضخمها إذ يحتوي على نحو مليون كلمة - الفضل الأكبر في ذيوع تعاليم ابن سينا وآرائه الطبية في كل الأقطار، ثم في بقاء تأثيره نافذاً متسلطاً على مصير الطب في الشرق والغرب مدى عدة قرون. وقد نوه الطبيب المؤرخ الإيطالي كاستليوني في كتابه (تاريخ الطب) المطبوع سنة 1931 بأن تميز (قانون ابن سينا) على كل ما سواه من كتب الطب في العصور الوسطى راجع إلى دقة ابن سينا في الشرح والتحليل بطريقة تهذيبية تعليمية بارعة، وإلى إتقان تبويبه وتقسيمه وترتيب المواضيع الطبية التي عالجها بحيث كفى الأطباء في ذلك العصر مؤونة البحث فيما عداه).
وقد دون ابن سينا في (قانونه) كل علوم الطب إلى زمنه، ونقحها وزاد عليها آراءه وملاحظاته ومشاهداته الإكلينيكية، ويقع في خمسة كتب أساسية. وبقي هذا الكتاب يدرس في جامعات أوربا زهاء ستة قرون، واستمر المرجع الأساسي في تدريس الطب بجامعتي مونبلييه ولوفان حتى ختام القرن السابع عشر.
وترجم (القانون) إلى اللاتينية في طليطلة في القرن الثاني عشر نقله جيراردي كريمونا ثم ظهرت له بعد ذلك طبعات لاتينية أخرى تعد بالعشرات. ونشرت منه طبعة عربية في روما سنة 1593، وفي بولاق بمصر سنة 1877، وظهرت له في أوربا عدة شروح، كما ترجمت أجزاء منه إلى الفرنسية والألمانية والإنجليزية وغيرها من لغات أوربا، وترجم أيضاً إلى التركية والفارسية.
وقد أحصى العلامة الألماني وستنفلد من مؤلفات ابن سينا مائة وخمسة في علوم الطب والفلسفة والدين والفلك واللغة والأدب والموسيقى والهندسة والمنطق والعلوم الطبيعية
وغيرها، ونكتفي هنا بذكر أسماء بعضها: فمن كتبه التي نقلت إلى اللاتينية وغيرها من لغات أوربا، بعد (القانون) كتاب (قلب الإنسان) و (الأرجوزة في الطب) و (الشراب) و (مختصر الحيوان) و (الحجر الفلسفي) و (السماء والعالم) و (النفس) و (ما بعد الطبيعة) و (الطبيعيات) و (الكيمياء) و (المنطق) و (الحدود) و (التعريفات) و (الفلسفة الأولى).
ثم كتاب (الشفاء) في الفلسفة وترجم إلى اللاتينية بعنوان ولا يزال الأصل العربي موجوداً. وله في الفلسفة أيضاً كتاب (النجاة) و (الإشارات) ورسائل في الإنصاف والمسائل العشرين، والمباحثات، والجوهر الذي لا يتحرك، وتقسيم العلوم الفلسفية، وحد الجسم، وشرح كتاب النفس لأرسطو وما بعد الطبيعة، وكل هذه لا تزال باقية.
ومن كتبه في الفقه والتوحيد الإلهيات والجمانة الإلهية ثم له القصيدة العينية الشهيرة في النفس التي مطلعها:
هبطت إليك من المحل الأرفع
…
ورقاء ذات تعزز وتمنع
وفيها يقول:
إن كان أرسلها الإله لحكمة
…
طويت عن الفطن اللبيب الأروع
فهبوطها إن كان ضرة لازب
…
لتكون سامعة بما لم تسمع
وتعود عالمة بكل خفية
…
في العالمين فخرقها لم يرقع
وهي التي قطع الزمان طريقها
…
حتى لقد غربت بغير المطلع
فكأنها برق تألق للحمى
…
ثم انطوى فكأنه لم يلمع
وفي المنطق كتاب الإشارة وكتاب المشرقيين ورسالة العروس؛ وله في العلوم الطبيعية والرياضية والآداب والسياسة والفقه والموسيقى واللغة العربية وعلومها مؤلفات كثيرة بعضها موجود في مكاتب أوروبا وبعضها مفقود.
وقد ترك ابن سينا وصفاً علمياً صحيحاً لتكوين الجبال، ذكره درابر ووثنجتون، واعتبره جاريسون الأمريكي مبرراً لتسمية ابن سينا (أبا علم طبقات الأرض)(الجيولوجي).
ويضيق بنا المقام هنا عن ذكر آراء ابن سينا الفلسفية ولهذا نقتصر على إيراد المهم من مشاهداته واكتشافاته الطبية.
امتاز ابن سينا على أبقراط وأرسطو وجالينوس بدقته في مناقشة الحالات المرضية
ومهارته في فن تشخيص الأمراض ومبحث أسباب المرض وهو أول من وصف مرض الالتهاب السحائي (السرسام الحار) وصفاً صحيحاً وميزه عن الأمراض الحادة المصحوبة بالهذيان، وكان ذلك يلتبس على أطباء اليونان؛ كما أنه أتقن وصف سير هذا المرض والإنذار فيه. ومما يدل على دقة ملاحظاته الإكلينيكية ذكره أن التهاب البلورا (ذات الجنب) والتهاب الرئة (ذات الرئة) قد تنتج عنهما أعراض سرسامية بهيئة مضاعفات، وأن التهاب السحايا في تلك الحالات يعتبر نذيراً سيئاً إذ تعقبه الوفاة عادة.
وأجاد ابن سينا أيضاً في شرح أمراض الجهاز التنفسي، وقال بضرورة التمييز عن تشخيص ذات الجنب بين التهاب البلورا الحقيقي، وبين الالتهاب البسيط للعضلات بين الضلوع وبين التهاب المنصف الصدري (الحْيزوم) وخراج السطح الأعلى للكبد.
وأتقن ابن سينا وصف الأمراض العصبية، وبوجه خاص الأشكال المختلفة للشلل وللفالج النصفي ولشلل الوجه (اللقْوة) واهتدى إلى التمييز بين نوعي اللقْوة: المركزي والموضعي وشرح بإسهاب التشخيص التمييزي بينهما.
ومما أشار إليه ابن سينا أن المخ والعظام خلافاً لرأي القدماء قد تكون مقراً للأورام.
وكان يعالج تشوهات السلسلة الفقرية بالرد العنيف وهي طريقة أعاد إدخالها في العلاج الجراح الفرنسي كالو سنة 1896. ولابن سينا طريقة شائقة طريفة في وصف الأمراض العقلية، وله الفضل في ابتكار كثير من طرق العلاج النفساني.
وكان جالينوس يقول بأن السكتة (ضربة الدم أو النقطة) يندر أن تكون مسببة عن البليثورا وهذا خطأ، فخالفه ابن سينا وقال بالعكس، مستنداً إلى مشاهدته الإكلينيكية، بأن البليثورا من أكثر الأسباب المهيئة لحدوث السكتة.
ومما ذكره ابن سينا ولم يسبقه إليه أحد أن الحصبة أكثر ما تكون عدواها في الربيع والخريف وأنها أكثر وقوعاً في هذين الفصلين، كما ذكر أن الأطفال يصابون بها أكثر من البالغين.
ودرس ابن سينا بدقة أمراض الكبد وطريقة فحصه ووصف بمهارة أعراض اليرقان بأنواعه بما يتفق والأوصاف الحديثة؛ وشرح عند الكلام على أمراض المعدة، أعراض ضيق البّواب والقرحة المعدية وأفاض في شرح أضرار إدمان الكحول على الكبد، وعلّل
السبب الفيزيولوجي لتلافيف الأمعاء. وتكلم ابن سينا طويلاً عن استطالة عنق الرحم وعن أورام الرحم وسقوطه وصلابته وعن خطر سرطان عنق الرحم.
ووصف طريقة لعلاج البواسير بالشق، وأشار عند الكلام على الذُبَيلة (تجمع الصديد في جوف البلورا أو الإمبييما) بعلاجها بالشق عليها لتفريغ الصديد، وذكر طريقة رد خلع الكتف بالضغط المباشر. وأما في علم الديدان فهو أول من وصف الدودة المعروفة باسم الفرْتيت أو العِرقْ المديني
ثم إن أوصاف ابن سينا في التشريح أكمل في بعض الأحيان من أوصاف جالينوس. وذكر بُورْتال أن ابن سينا كان ذا معرفة تامة بتشريح القزحية وإنسان العين والقناة الدمعية وأنه أول من اكتشف إندغام عضلات العين.
وقد أدخل ابن سينا في مادة الأدوية عدداً كبيراً من العقاقير الطبية التي لم تكن مستعملة من قبل.
(جنيف)
زكي علي
العداء والفناء
للأستاذ عبد الحمن شكري
عفا الجاني وقد بلغ التشفي
…
وبعض العفو من فرح الشَّمات
(للناظم)
قد يُعَزِّيك شامت يتشفى
…
باجتلاء الآلام لا بالعزاء
(للناظم)
مقدمة القصيدة:
إن العفو لا يكون من المظلوم المجني عليه وحده بل قد يكون أيضاً من الجاني الظالم إذا أقنع نفسه أنه المظلوم، أو إذا أقنع الناس كي ينال عطفهم ومساعدتهم له في ظلمه وشره. وكثيراً ما يساعد الناس الشرير في شره اعتقاداً منهم أنه هو المظلوم أو. لأن مساعدته في الشر ضد المظلوم فرصة لإراحة ميل الكثير من الناس لالتذاذ القسوة كما هو الحال في مرض السادزم عند إطلاق هذا المصطلح عليه في المعنى الأعم؛ وهذا النوع من العفو الذي يجود الظالم إنما هو من فرحة الشماتة، وهذا الشعور يشبه شعور الشامت الذي يعزي المصاب ويخفي فرح الشامت ويظهر الأسف، وهو إنما يعزي كي يرى آلام المصاب أثناء التعزية. وهذه القصيدة تصف النفس الإنسانية بين عواطف الخير والشر، وقد تجتمع الأضداد منها في نفس واحدة من غفران وشمات، ومن حقد الحياة وصفح الممات، كما تصف عبث شقاء الحروب بين الأمم التي يتحالف بعدها الخصوم ويتعادى الأصدقاء
القصيدة:
إذا ما دنا الموت من هالك
…
وأيقن أَلا يطول البقاءْ
وقد زال ما كان مِنْ نشوة
…
ومن شِرَّةٍ نال عنها العَزاء
ولاح له عيشه ماثلا
…
وقد بُزَّ عما جناه الرياء
وأُفْهِمَ ما كان من حرصه
…
وأبصر ما قد طواه الخفاء
يُرَى آسفاً أَنْ عدا أو جنى
…
وأَنْ كان منه الأذى والعداء
وليس يُرَى آسفاً لاغتفار
…
دعاه قديماً فَلَبَّى الدعاء
فليس على صفحه آسفاً
…
ولكنْ على النَّيْلِ ممن أساء
أيأسف أَنْ ضاع ثأر سُدًى
…
ومُتِّعَ خصم له بالبقاء
عدوان عاشا على إحنة
…
وباعا السماحة بيع الإِماء
أباحا النَِّفاقَ وكيد اللئام
…
لنيل الحطام وكسب الهباء
إذا ما دنا الموت من واحد
…
أيشمت خصم له بالفناء
أيفرح مثل الجبان استراح
…
وبُشِّرَ بالأَمن بعد العداء
أيطعنه طعن نذل خصيما
…
صريع التراب مُراق الدماء
ومرأى الحِمام كمرأى السَّقَام
…
يُذِلُّ العُتُلَّ ويُخْزِي الجفاء
هو الموت يَشْفِي قلوب العدى
…
ويختم بالصلح حرب البقاء
وقد يُطْلَبُ الصلح من فرحة
…
تعير الشماتة ثوب السخاء
وكم من عداء غدا أُلْفَةً
…
فيا عبثا إذ تراق الدماء
كم احتربت أمم ثم عادت
…
كأَنْ لم تذق في الحروب الشقاء
ألم تسمع الأرض نوح الجريح
…
يُوَدِّع حتى جنون الرجاء
أما اختلطت بالصديد الدماء
…
أما أفعم الموت نَتْنَ الهواء
وكم عُنُقٍ لقتيل، به
…
عضاضُ عدو صريع العداء
عضاضٌ يحاول خلد الضغائ
…
ن في جسد خَلْقُهُ للفناء
فيا عبثاً لجهود الأنام
…
سيمضي الرخاء ويمضي العناء
ويُصْبِحُ من كان خصماً لدودا
…
عزيزاً ويُبْغَضُ إِلْفُ المساء
عبد الرحمن شكري
القصص
مقهى صورات
للفيلسوف الروسي تولستوي
كان في بلدة صورات من أعمال الهند مقهى يجتمع فيه المسافرون من جميع أطراف العالم فيتحاورون ويتسامرون.
وفي يوم من الأيام هبط إلى هذا المقهى عالم روحاني فارسي أفنى حياته في درس اللاهوت وفي التأليف فيه. ومن كثرة ما فكر وقرأ وكتب وناقش اختلط عليه الأمر وأصبح لا يعتقد حتى بوجود إله. فلما سمع الشاه بذلك نفاه عن بلاد فارس.
وكان لهذا الرجل عبد أفريقي لا يفارقه لحظة، فلما دخل سيده المقهى جلس هو على صخرة بجانب الباب تحت أشعة الشمس يطرد عنه الذباب. فلما استوى الفارسي على أحد المقاعد طلب من النادل كوباً من الأفيون. ولم يكد يفرغ من شربه حتى أخذ الأفيون يعمل عمله في رأسه، فقال يخاطب عبده من الباب وقد كان مفتوحاً:
(قل لي أيها العبد البائس هل تعتقد بوجود إله؟)
فأجاب العبد: (طبعاً). وفي لمح البصر أخرج من منطقته تمثالاً صغيراً من الخشب وقال: هاهو ذا. ذلك الإله الذي حماني وحرسني من يوم ولدت. وكل واحد من بلدنا يعبد الشجرة التي منها صنع هذا الإله.
دهش كل من كان في المقهى لهذه المحاورة الشاذة بين الفارسي وعبده. وما أتم العبد كلامه حتى انبرى له واحد وكان من أتباع برهمة إله الهنود وقال: (أيها الغبي الحقير! أتعتقد أن في الإمكان أن يحمل الله في منطقة رجل؟ لا يوجد غير إله واحد هو برهمة، إنه أعظم من جميع العالم، لأنه خلقه. برهمة هو وحده الإله العظيم، ولأجله شيدت المعابد على ضفاف الكانج وفيها يعبد البراهمة كهنته الحقيقيون الذين هم وحدهم يعرفون الإله الحقيقي دون سواهم. لقد مضي عشرون ألف سنة على ظهوره، وبالرغم من الفتن والثورات المتوالية ظل هؤلاء الكهنة قابضين على ناصية الأمور، وما ذلك إلا لأن برهمة قد حرسهم وحماهم طول هذه السنين).
قال ذلك البرهمي وهو يعتقد إنه أقنعهم جميعاً، إلا أن صيرفياً يهودياً كان حاضراً فأجابه
قائلاً: (كلا، ثم كلا. إن معبد الإله الحقيقي ليس في الهند، والإله الحقيقي ليس إله البراهمة، وإنما هو إله إبراهيم واسحق ويعقوب، ولا يحمي أحداً غير شعبه المختار. . . بني إسرائيل. إن شعبنا هو شعبه الذي يحبه، وما تشردنا في أنحاء العالم إلا لأنه يريد تجربتنا. ولقد وعد بجمع شتات شعبه في أورشليم، وعندئذ - في معبد أورشليم، أعجوبة العالم القديم بعد رده إلى سالف عزه ورونقه - سوف يحكم الإسرائيليون جميع الأمم).
وهنا أجهش اليهودي بالبكاء، وأراد أن يستمر في الكلام إلا أن مبشراً إيطالياً قاطعه قائلاً:(إن هذا الذي تقوله ليس حقاً، لأنك تنسب الظلم إلى الله جل جلاله. وإنه لمن المستحيل أن يحب الله شعبك أكثر من بقية الشعوب. إن كان حقّاً ما يقال من أن الله في القديم قد فضل الإسرائيليين واصطفاهم على باقي العالمين، فإنه قد مضى ألف وتسعمائة سنة على خروجهم عليه وإغضابهم إياه، مما أدى إلى هلاكهم وتشريدهم في بقاع الأرض حتى لا ينتشر مذهبهم. ولقد اضمحل إلا من بعض أنفاس تصعد هنا وهناك. إن الله سبحانه وتعالى لا يفضل أحداً على أحد، ولكنه يدعو هؤلاء الذين يبغون الخلاص إلى أحضان كنيسة روما الكاثوليكية، ولا خلاص لمن كان خارج حدودها).
فألتفت قسيس بروتستانتي - اتفق إن كان حاضراً - إلى المبشر الإيطالي بوجه ممتقع وأخذ يقول له:
(كيف جاز لك أن تقول أن لا خلاص إلا لمن كان تابعاً لمذهبكم؟ لا يخلص إلا هؤلاء الذين يخدمون الله من صميم قلوبهم كما جاء في الإنجيل وكما أشار به المسيح).
عندئذ التفت إلى هذين المسيحيين، تركي من موظفي الكمارك في صورات، وقد كان جالساً في المقهى يدخن في (غليون)، وقال لهما بلهجة المسيطر:
(اعتقادكم في الديانة المسيحية باطل. لقد حل محلها قبل ألف ومائتي سنة دين صحيح هو دين محمد (ص). ليس لك إلا أن تجيل بصرك في أرجاء العالم لترى انتشار هذا الدين الصحيح في أوربا وآسيا، حتى في بلاد الصين المستنيرة. لقد قلتما أنتما إن الله غضب على اليهود وازدراهم. وذكرتما على سبيل المثال حالة اليهود الآن وما يقاسونه من ذلة ومسكنة، فما أحرى بكما أن تعترفا بصحة دين محمد لأنه هو الوحيد الظافر المنتشر طولاً وعرضاً. لا ينجو سوى تابعي محمد (ص) خاتم أنبياء الله).
وهنا أراد الفارسي، وهو من أتباع الرسول العربي (ص) أن يتكلم؛ إلا أن جدالاً عنيفاً شجر بين جميع الأجانب الموجودين المنتمين إلى مذاهب شتى، فقد كان بينهم مسيحيون من الحبشة، ولاميون من تيبت، واسماعيليون ومجوس؛ وكان جدالهم في الله وكيف يجب أن يعبد؛ وكل يؤكد أن الله الحقيقي لم يعرف ولم يعبد إلا في بلده.
لم يبق واحد في المقهى لم يشترك في هذا الجدال والصياح إلا صينياً من أتباع كونفوشيوس. كان جالساً يرشف الشاي ويستمع إلى المتكلمين دون أن ينبس ببنت شفة. فلما رآه التركي جالساً على هذه الحالة تقدم إليه محاولاً اجتذابه إلى رأيه بهذه الكلمات: (أنت لم تنطق أيها الصيني العزيز حتى الآن بكلمة، ولم يكدر صفوك كل هذا الصخب، ولكنك إن تكلمت ففي وسعك أن تؤيد ما أقول. لقد حكى لي بعض التجار الصينيين الذين يطلبون مني المعونة، أنكم معشر الصينيين تعتقدون على كثرة ما عندكم من الأديان والمذاهب أن الديانة الإسلامية هي أفضل الديانات وأنكم تعتنقونها عن طيبة خاطر. أيّد إذن كلماتي وأبن لنا رأيك في الله الحقيقي ونبيه).
فهتف القوم صائحين: (حسن، حسن) ثم التفتوا إلى الصيني وقالوا (أسمعنا رأيك في هذا الموضوع).
فاغمض الصيني عينيه وأخذ يفكر ثم فتحهما ثانية وأخرج يديه من كمي ردائه العريضين وطواهما على صدره وأخذ يتكلم بصوت هادئ رزين:
سادتي: يظهر لي أن الذي يحول دون اتفاق الناس في قضايا الدين يرجع خاصة إلى الزهو الفارغ. فإن تفضلتم فأصغيتم إلي فسأقص عليكم قصة توضح لكم ما غمض من هذه المشكلة:
تركت الصين قاصداً هذه البلاد على ظهر باخرة إنكليزية طافت حول العالم. وقد رست هذه بنا الباخرة على الساحل الشرقي من جزيرة صومترا لنفاد الماء. وكنا جماعة من مختلف الأجناس، وكان الوقت ظهراً، فنزلنا إلى البر وجلسنا تحت شجرة من شجر جوز الهند على شاطئ قريب من القرية. ولما جلسنا تقدم نحونا رجل أعمى علمنا بعدئذٍ انه فقد بصره من كثرة ما حدق في الشمس محاولاً سبر أسرارها ومعرفة كنهها. سعى كثيراً للوصول إلى مبتغاه وأطال التحديق في الشمس دون أن يدركه إعياء حتى احرق وهج
الشمس عينيه فاصبح أعمى. وبعدما فقد بصره صار يكلم نفسه: (نور الشمس ليس سائلا، إذ لو كان كذلك لكان في الإمكان صبه من آنية في أخرى وتحريكه كما يحرك الهواء الماء؛ ولا هو نار، إذ لو كان ناراً لأطفئه الماء، ثم هو ليس روحاً لأنه منظور، ولا هو مادة لان المادة تنقل، وبما أن نور الشمس ليس سائلا ولا نارا ولا روحاً ولا مادة فهو إذن لا شيء).
على هذه الطريقة كان يحاور. وبنتيجة تحديقه المستمر في الشمس وكثرة التفكير فيها كما أسلفنا فقد بصره وعقله وأصبح لا يعتقد بوجود الشمس.
وكان لهذا الأعمى عبد يقوده، فلما اقتربا منا أجلس العبد صاحبه تحت شجرة وارفة، ثم التقط جوزة من الأرض وأخذ يصنع منها سراجاً: أبتدأ أولا بتقشير الجوزة، ثم أخذ ليفة فبرمها ثم عصر دهناً من الجوزة في القشرة، ثم نقع الفتيلة فيها فاصبح له من ذلك سراج يضيء له الظلام.
وهنا تنهد الأعمى وقال لعبده: (ألم أكن على حق حين قلت لك يا عبد أن لا وجود للشمس؟ ألا ترى هذا الظلام الدامس؟ ومع ذلك يقول الناس بوجود الشمس! إذا كان صحيحاً ما يقولون، فما هي؟)
قال العبد: (لا أعرف ما هي الشمس. تلك ليست مصلحتي، ولكني أعرف ما هو النور ها قد صنعت نوراً أستطيع به أن أخدمك وأن أجد كل ما أطلبه في الكوخ).
وهنا التقط العبد قشرة الجوز قائلاً: (هذه شمسي) وكان رجلاً اعرج جالساً وإلى جانبه عكازه ينصت إلى هذا الحوار الشائق، وما كاد يلفظ العبد كلمته الأخيرة حتى أغرق في الضحك وقال يخاطب الأعمى:
يظهر انك ولدت أعمى! ولما كنت لا تعرف ما هي الشمس فسأقول لك ما هي. الشمس كتلة من نار تخرج من البحر كل صباح، وترتفع ثم تهبط كل مساء، وتتوارى بين جبال جزيرتنا. لقد رأى الناس جميعاً هذا، ولو كنت بصيراً لرأيتها أنت أيضاً.
ثم أعقبه سماك كان يستمع إلى الحديث موجهاً الكلام إلى الأعرج:
(يظهر لي أنك لم تر ما وراء جزيرتك. ولو طفت كما طفت أنا في زوق الصيد لعلمت أن الشمس لا تغيب في جبال جزيرتنا، ولكنها كما تشرق من البحر كل صباح، تغيب في البحر كل مساء. إن هذا الذي أقوله لك صحيح لا شك فيه لأني أشاهده بعيني كل يوم).
وهنا قاطعه هندي كان من جماعتنا قائلاً: لشدَّ ما يدهشني أن أسمع هذا الهراء من رجل عاقل مثلك! كيف يجوز لكتلة نار أن تهبط في الماء ولا تنطفئ؟ الشمس ليست كتلة نار أبداً بل هي إله يدعى (ديفا) وهو ما ينفك يركب عجلة يدور بها حول جبل فيدو الذهبي فتهجم عليه في بعض الأحيان الحيتان المشئومتان (راكو وكيتو) وتبتلعانه؛ وعند ذلك تصبح الأرض في ظلام. إلا أن كهنتنا لا ينفكون يصلون ويضرعون لذلك الإله حتى يطلق سراحه. لا يظن أن الشمس تضيء بلدته وحدها إلا من كان غبياً مثلك لم يبرح جزيرته قط).
فقاطعه ربان سفينة مصرية وقال له: (أنت أيضاً مخطئ، ليست الشمس إلهاً ولا هي تدور حول الهند ولا حول جبلها الذهبي فحسب) لقد طوفت كثيراً في البحر الأسود وعلى طول سواحل جزيرة العرب، ورأيت أيضاً مدغشقر وجزائر الفلبين، وفي كل هذه الأماكن تبزغ فيها الشمس، مما يدل على أن الشمس لا تضيء الهند وحدها ولكن تضيء الأرض كلها؛ ولا هي تدور حول جبل واحد وإنما تشرق في الشرق الأقصى وراء جزر اليابان، ثم تغرب بعيداً. . . بعيداً في الغرب وراء الجزيرة البريطانية. ولهذا السبب يسمي اليابانيون بلدتهم (نيبون) ومعناه (مولد الشمس). أعرف هذا جيداً لأني رأيت كثيراً، وسمعت اكثر من جدي الذي ركب البحار كلها).
وكان يريد المصري أن يستمر في حديثه لو لم يقاطعه بحار إنكليزي كان في سفينتنا قائلاً:
(لا يعرف أحد عن حركات الشمس قدر ما يعرفه الناس في إنكلترا. ليس للشمس مشرق ولا مغرب، وإنما هي تدور دائماً حول الأرض. إن هذا الذي أقوله لا شك فيه. ألم ننته الآن من طوافنا حول العالم ومع ذلك لم نصطدم بالشمس؟ أينما حللنا وجدنا الشمس تطلع صباحاً وتغيب مساء كشأنها هنا!.
وأخذ الإنكليزي عصاً وراح يرسم دوائر على الرمل ليرينا حركات الشمس وكيف تدور حول الأرض، إلا أنه لم يستطع شرحها بوضوح فقال مشيراً إلى ربان السفينة: اترك شرحها إلى هذا الرجل فهو أعلم بذلك مني)
وكان ربان الفينة رجلا ذكياً يصغي إلى الحديث بسكون دون أن ينبس بكلمة، فلما طلب منه الكلام اتجهت الأنظار إليه وبدأ يقول:
(أنتم تحاولون التضليل وما تضلون سوى أنفسكم. إن الشمس لا تدور حول الأرض، بل الأرض هي التي تدور حول الشمس مرة في كل سنة، وتدور حول نفسها مرة في كل أربع وعشرين ساعة. فيتضح من هذا أن لا فرق بين اليابان وجزر الفلبين وسومطرا وأفريقيا وأمريكا وأوربا وغيرها، فإن نصيب الجميع من أشعة الشمس واحد. فالشمس إذاً لا ترسل نورها على جبل واحد ولا جزيرة واحدة ولا بحر واحد حتى ولا على أرض واحدة، وإنما تستضيء بنورها جميع الكواكب أيضاً. فلو نظرتم في السموات عوضاً عن نظركم إلى الأرض لأدركتم كل هذا ولما زعمتم بعد ذلك بأن الشمس تضيء لكم أو لمدينتكم فقط).
هكذا تكلم الربّان الحكيم، وإذا تكلم فإنما يتكلم عن خبرة واسعة من كثرة ما ساح في البحار ومن طول ما حدّق في السموات.
هذا الذي قيل في الشمس يقال أيضاً في الدين. إن السبب الذي يحول دون اتفاق الناس في مسألة الدين إنما هو التفاخر وما يسببه من شحناء. كل رجل يريد إلهاً له، أو على الأقل إلهاً خاصاً لأمته، وكل أمة تريد أن تحصر في معبدها الله الذي لا يسعه العالم.
وما هذه المعابد بالنسبة إلى العالم الذي خلقه الله ليجعل فيه الناس أمة واحدة وديانة واحدة ألا وهي الإنسانية؟
لقد شيدت المعابد الإنسانية على غرار هذا المعبد الذي شيده الله للناس، كل معبد له أحواضه وأقبيته وصوره ونحوته ونقوشه وكتبه ومذابحه ومحاريبه وكهنته. ولكن أيوجد معبد له حوض كحوض الأقيانوس أو قبو كقبو السموات؟ وأين تلك المصابيح الباهتة التي تضيء المعابد الإنسانية من الشمس والقمر والنجوم؟ أو تلك الصور الجامدة من رجال أحياء تغمر قلوبهم بالحب؟
وهل يوجد وصف في أي سفر من الأسفار عن كمال الله وحسنه أروع وأبسط من هذه النعم التي أسبغها الله على عباده لخيرهم وسعادتهم؟ وهل من تضحيات أسمى وأرفع من هذه التي يقدمها الرجال والنساء على مذبح الحب؟ ثم ما هذه المذابح المنصوبة في الكنائس إذ قيست بقلب رجل كريم يطفح حباً وحناناً وقد رضى الله به مذبحاً لتقديم القرابين له.
كلما سما الإنسان في فهم الله ازداد به علماً، وكلما ازداد به علماً اقترب منه، وذلك باحتذائه إياه في إحسانه وعطفه وحبه.
ليكف إذن ذلك الذي يرى نور الشمس يغمر العالم عن احتقار ذلك الرجل الخرافي الذي يرى في معبوده قبساً من هذا النور. ليكف حتى عن ازدراء الكافر، لأنه أعمى ولا يرى الشمس البتة).
هكذا تكلم الصيني تابع كونفوشيوس، فصمت كل من كان في المقهى ولم يعد أحد يدعي أن ديانته هي الفضلى.
يوسف روشا
البريد الأدبي
توحيد برامج التعليم في الشرق
علمنا أن الأستاذ الجليل محمد العشماوي بك وكيل وزارة المعارف يفكر في عقد مؤتمر عربي شرقي في القاهرة لدراسة الحالة العلمية والثقافية في البلاد الشرقية لمعالجة مشاكل التعليم معالجة تقوم على أساس صالح، وتستند إلى هدى القواعد التي تقررت في التربية الحديثة بما يلائم روح الشرق ويتمشى مع شخصيته. ولعل الباعث لهذه الفكرة ما لقيه المؤتمر الطبي العربي الذي عقد أخيراً في بغداد من النجاح وما ترتب عليه من النتائج الطيبة التي قوّت الروابط وأحكمت الأواصر.
وتتجه الفكرة لعقد هذا المؤتمر على أن تقوم هيئات المعلمين في مصر بتوجيه الدعوة إلى مثيلاتها في أنحاء الأقطار الشرقية، على أن تقوم الحكومة المصرية برعاية المؤتمر من الناحية المادية، وبكل ما يتصل بتكاليف المؤتمر. وقد علمنا كذلك أن بعض الهيئات المشتغلة بشؤون التعليم مهتمة جد الاهتمام بإخراج هذه الفكرة إلى حيز الوجود في وقت قريب، ولا شك أن انعقاد هذا المؤتمر سيكون له شأن كبير في التقريب بين الأمم الشرقية، وأن اتحاد برامج التعليم فيها سيكون أكبر عامل في إيجاد الوحدة العربية التي تتلهف عليها النفوس منذ أزمان.
المؤتمر الدولي للجذام
انعقد في يوم 21 مارس في مدينة القاهرة المؤتمر الدولي للجذام، وهو المؤتمر الذي نظمته الحكومة المصرية بالاشتراك مع الجمعية الدولية للجذام، فكان أول مؤتمر من نوعه وفي أهميته وخصوصاً أن مرض الجذام مرض خبيث لم يكتشف للآن المصل الواقي من شره، وكل وسائل العلاج المعمول بها الآن إنما هي عزل المرض وهي في الواقع طريقة للوقاية لا للعلاج، فمن صالح الإنسانية ومن البر بها أن يجتمع أعلام الطب من كل دولة للبحث في شأن هذا المرض العضال.
ولقد تفضل جلالة الملك فافتتح الجلسة الأولى للمؤتمر، وقد رفعت بهذه المناسبة أعلام الدول التي اشتركت فيه على دار الأوبرا الملكية، ويبلغ عدد تلك الدول 55 دولة ويبلغ عدد الأعضاء الذين اشتركوا فيه حوالي ثلاثمائة. وقد أقام معالي وزير المعارف حفلة
تعارف بين الأعضاء بفندق الكونتننتال، ثم أقام الوفد الفرنسي حفلة أخرى ألقى فيها (عمدة باريس) خطبة نوه فيها بأهمية عقد الاجتماعات العلمية الدولية لخير الإنسانية عامة وخصوصاً لبحث الأمراض المستعصية مثل الجذام، وأشاد بفضل مصر في كرمها ودعوتها، ثم وجه الدعوة للمؤتمرين بالنيابة عن الحكومة الفرنسية وعن بلدية باريس أن يكون الاجتماع الثاني للمؤتمر في مدينة باريس أملا أن تجاب الدعوة.
وقد شكر له الدكتور محمد خليل عبد الخالق بك سكرتير عام المؤتمر تلك الدعوة ووعد بعرضها على لجنة تنظيم المؤتمر المصرية
القرآن في نظر الغربيين
ألقى الدكتور خالد شلدريك محاضرته الثالثة بقاعة المحاضرات بدار المركز العام لجمعيات الشبان المسلمين بالقاهرة في موضوع (القرآن الكريم في نظر الغربيين)، وقد بدأ محاضرته بالكلام عن الأناجيل والكتب السماوية المنزلة، ثم تكلم عن الحروب الصليبية وتأثيرها في نهضة الغرب وإيقاظ الشعوب الأوربية، فإن الصليبيين نقلوا من فلسطين المدنية والثقافة وكثيراً من المعارف والمظاهر التي لم تكن تعرفها أوربا في ذلك العهد، حتى لقد كانت تغط في نوم عميق من الجهل، وترسف في قيود التعصب الممقوت والتدهور الأخلاقي. ثم أنتقل الأستاذ المحاضر إلى الكلام عن ضعف الدعاية الإسلامية في أوربا، وعدم وجود تراجم صحيحة للقرآن غير ترجمة (بكتول) الذي اعتنق الديانة الإسلامية عام 1909، وقد أطلق على كتابه أسم (ترجمة معاني القرآن)، ولكن من المتعذر على كل أوربي اقتناء نسخة من هذه الترجمة لفداحة قيمتها، ثم ألمع إلى استعداد الأوربيين والأمريكيين لدرس تعاليم الدين الحنيف إذا ما وجدوا إلى ذلك سبيل.
ثم ختم محاضرته بالإشارة إلى إيجاد جبهة دينية منيعة لصد التيارات الشيوعية والاشتراكية وغيرها من المذاهب الاجتماعية الجديدة التي تخالف الأديان السماوية، وتهدد المبادئ الصالحة، والأخلاق والعقائد. وبهذه المناسبة نقول: إن القائمين بالأمر في مصر قد عادوا يهتمون بمسألة ترجمة معاني القرآن، وهم يرون إدخال عناصر جديدة مهمة في اللجنة التي كانت قد تألفت لذلك من قبل.
اللغة الإيرانية والحروف اللاتينية
تريد الدولة الإيرانية أن تصنع بلغتها صنيع تركيا الجديدة، فهي تعمل على أن تخلص معجمها من الألفاظ المستعارة والدخيلة وأن تكتبها بحروف لاتينية كما فعلت الحكومة التركية منذ سنوات. وقد عقد في 18 الجاري مؤتمر لغوي برياسة جلالة الشاه، وجرى البحث حول تنقية اللغة الإيرانية من الألفاظ الأجنبية، وقد استعان المؤتمر ببعض المعمرين على انتقاء ألفاظ إيرانية قديمة لتستعمل مكان الكلمات الأجنبية؛ ولكن لما طرحت على بساط البحث قضية استبدال الحروف اللاتينية بالحروف الإيرانية الفارسية، لاقت معارضة قوية بحجة أن هذا التغيير يفقد اللغة الإيرانية قيمة مؤلفات أثرية واجتماعية لا يمكن نقلها إلى الإيرانية بحروف لاتينية؛ ولذلك تأجل البحث في هذه المسألة إلى وقت آخر حتى يتم النظر في هذا الاعتراض القائم
ترجمة القرآن في ألبانيا
اتجهت الأفكار في بولونيا إلى تعريب القرآن ونقله إلى لغة البلاد وهي اللغة الأرناؤوطية، وقد جاء في البريد الأخير أن الحكومة هناك دعت رؤساء الدين إلى اجتماع عام في دار الحكومة حضره جلالة الملك أحمد زوغو، وقد تناول البحث ترجمة القرآن، ولعل من المعلوم أن اللغة الأرناؤوطية تكتب بحروف لاتينية من قبل الحرب العالمية، وليست مسألة ترجمة القرآن إلا مظهراً من مظاهر نهضة شاملة في النواحي الإسلامية تقوم بها الحكومة في تلك البلاد.
الكشف عن مسجد الحجاج
كانت دار الآثار في بغداد قد قررت في السنة الماضية أن تأخذ على عاتقها القيام بأعمال التنقيب في أطلال (واسط)
وقد جاء في البريد الأخير من بغداد أن التنقيبات التي أجريت كشفت عن مسجد صغير ومسجد كبير ومقبرة وضريح وحصن وسوق، وقد عرضت الآثار التي استخرجت من الآثار المذكورة في غرفتين من غرف دار الآثار العربية
ولم تترك هذه التنقيبات مجالاً للشك في أن المسجد الذي كان قد اكتشف في السنة الماضية هو المسجد الذي شيده الحجاج بن يوسف الثقفي عند تأسيس المدينة، وقد أسفرت أعمال
الحفر عن وجود ثمانية صفوف من الأعمدة الحجرية الضخمة، ويبلغ قطر كل منها تسعين سنتيمتراً، والقسم الأعظم منها منحوت ومزخرف بأشكال بديعة. وقد أدى اكتشاف مسجد الحجاج بهذه الصورة إلى تعيين موقع قصر الإمارة، وتتوقع دار الآثار أن التنقيبات التي ستجري خلال هذا الموسم وفي المواسم القادمة ستسفر عن نتائج علمية مهمة تتصل بتاريخ القرن الأول للهجرة.
تذكارات مدام كوري
أذاعت الآنسة إيف كوري من لندن عن والدتها مدام كوري مكتشفة الراديوم، فذكرت كيف كان والداها يدينان بالعلم ويخلصان له، ويعرضان حياتهما للخطر الشديد في سبيل استكناه أسراره؛ فلما اكتشف اثنان من العلماء الألمان عنصر الراديوم سنة 1900 ظل اكتشافهما بدون قيمة حتى أجرى آل كوري تجاربهما في جسميهما فوجداه يحرق ويحترق. ولم يقف فقر آل كوري في سبيل النجاح المنشود، بل كانا يجريان تجاربهما في بيت خرب (غير مبلط) ذي شبابيك مهشمة (بدون زجاج) وكانت لهما طفلة غير إيف، كانت صرخاتها تشحذ فيهما همة العلماء الراسخين في العلم، وقد حدث أن منحت إحدى الجمعيات آل كوري ميدالية علمية ذهبية، فسخر بها الوالد العالم، ودفع بها إلى الطفلة تلعب بها، وهو ينظرإلى جدران غرفته وشبابيكها ويتنهد من أعماقه، ولولا أن أسعفه الحظ فنال جائزة نوبل للعلوم مرة ونالتها زوجته مرة أخرى، لما عرف العالم قيمة الراديوم إلى اليوم.
الإذاعة المصرية
أخذت محطة الإذاعة المصرية تنشط من سباتها قليلاً، وأخذت تعني بنواحي الجد من الحياة، لكنها لم تنتبه بعد إلى أنها أداة هامة من أدوات تربية الذوق المصري من جهة وأداة هامة من أدوات الإعلان عن مصر من جهة أخرى - فهي ما تزال تذيع الاسطوانات الرقيعة وما تزال تحجم عن معاملة المغنين الذين هم من الطبقة الأولى كما يقولون.
والمزعج أنه قد تقرر أن يكون لمصر موجة خاصة قوية (100 كيلو) يمكن بها أن تسمع مصر في اليابان وأمريكا، فماذا تذيع مصر على هذه الموجة وزعماء الأدب والفكر لا يزالون بعيدين عن هذه المحطة؟ ويجمل أن ننبه محطتنا إلى إذاعاتها من قاعة يورت، وما
تجره هذه الإذاعات من أوخم العواقب على سمعة الأخلاق في مصر، فإنه يقصد إلى هذه القاعة أناس من المهرجين الصاخبين، وهم يذهبون إليها ثملين عادةً، فإذا أخذتهم النشوة خرجت من أفواههم عبارات وأصوات نحسبها لا تشرف مصر في آفاق العالم. . . فلتفهم محطة الإذاعة هذا.
ولقد نشرت الإذاعة البريطانية تقريرها عن سنة 1937، فإذا دخلها 3. 356. 074 جنيهاً، أفيدري القارئ كم من هذه الملايين خصص (للبروجرام فقط) إنه 51 ? من مجموع الدخل أي 1. 729. 615 جنيهاً، والجمهور مع ذاك يطلب المزيد!
هل قتل جوركي؟
حوكم في روسيا في الأيام الأخيرة طائفة من كبار الأطباء الذين كانت تستعملهم الحكومة في طبها القضائي. وقد صدر الحكم بإعدامهم رمياً بالرصاص. والتهمة التي وجهت إليهم هي أنهم قتلوا أو تسببوا في قتل جوركي العظيم (أديب الصعاليك) الذي توفى منذ عامين والذي كان أعظم رجل يعيش في روسيا إن لم يكن في العالم أجمع، كما تسببوا في قتل ولده وقتل كثيرين من عظماء روسيا. وقد ذكرنا في هذا الباب كيف استعبدت الحكومة المخرج الكبير ماير هولد حين أحست أن هواه ليس في صفها فيما ينتجه للمسرح السوفيتي - وهذا دليل على أنه المتهم الأصلي في هذه المحاكمات الأخيرة لم يؤخذ بجرمه، لأنه الحكومة نفسها. وفي الحق لقد كنا دائماً ندهش لموقف جوركي من الطاغية ستالين ومن الثورة البلشفية نفسها، وكنا نجزم أنه موقف منافق لا ينطوي إلا على التسليم الذي يشبه تسليم العجائز، ولا يبعد أن يكون ستالين قد عرف ذلك من سيد أدباء الروس فدبر له هذه القتلة الشنيعة بأيدي أولئك الأطباء المساكين.
مصر والثقافة العربية في اليمن
أوفدت الجامعة المصرية منذ عامين بعثة من أعضاء هيئة التدريس بكليتي العلوم والآداب إلى اليمن، وقد انتهت من دراسة طائفة كبيرة من المسائل التي وقفت عليها في بلاد اليمن دراسة علمية بحتة، ولا تزال بعض تلك المسائل قيد البحث والدراسة
وقد أعدت البعثة تقريراً أولياً عن الأعمال التي قامت بها في بلاد اليمن، والأبحاث التي
وفقت إليها وقامت بها على الهضاب المرتفعة وداخل وديان حضرموت.
أما فيما يتصل بالثقافة العربية في تلك البلاد، فإن عضو كلية الآداب يضع تقريراً في هذا الشأن، ومما قال فيه: أن العراق اكثر عناية بإذاعة الثقافة العربية في تلك البلاد، وإن المستقبل لها في اليمن، على أن في إمكان مصر أن تنشئ العلاقات بينهما وبين اليمن بتقوية المحطة الإذاعة اللاسلكية المصرية، ووضع برنامج تعني فيه الحكومة بأمر الثقافة التي تلائم اليمنيين؛ وفي إمكان مصر كذلك أن توفد البعثات العلمية إلى تلك البلاد، وأن تعد برنامجاً لمحاضرات تلقى في مصر عن اليمن يتناول فيها المحاضرون حال تلك البلاد من مختلف الوجوه.
ومما يجمل ذكره أن بعثة من مختلف المعاهد الإنجليزية قد زارت اليمن، وقامت بعدة أبحاث ودراسات وأن النتائج التي انتهت إليها هذه البعثة تتفق تماماً والنتائج التي انتهت إليها بعثة الجامعة المصرية التي أذيعت منذ حين في الأوساط العالمية العلمية والأدبية
محاضرات في النبات المصري القديم
تقيم في مصر الآن السيدة فيفي لورنت تكهولم، إحدى الأجنبيات المشتغلات بالنباتات المصرية القديمة والحديثة. وهي زوج المرحوم العلامة جنار تكهولم أستاذ علم النبات بكلية العلوم الأسبق بالجامعة المصرية، ومؤسس هذا العلم فيها سنة 1925.
وقد دعت الجامعة هذه السيدة لإلقاء محاضرات في هذا العلم على طلاب السنتين الثالثة والرابعة بكلية العلوم
وكان زوجها قد حضر إلى مصر بعد أن رشحته جامعة سويدية لكرسي النبات في الجامعة المصرية، وبعد وفاته ظلت زوجه تقوم بأبحاثها في هذا الموضوع، وقد زارت مختلف الممالك الأوربية استزادة في هذا الباب، ووفقت لطائفة من المجموعات النباتية النادرة التي تعد ذات قيمة فنية كبيرة في الأوساط العلمية
وقد أعدت طائفة من البحوث في هذا الموضوع واعتزمت تضمينها عدة مؤلفات، فرأت الجامعة إزاء القيمة العلمية التي تعود على مصر سواء في الدراسات الجامعية أم في الدعاية في الخارج، أن تطبع هذه الكتب على نفقتها.
وقد هيأت المؤلفة، مجلدها الأول، ويقع في حوالي 600 صفحة، على أن توالي هذا العمل
العظيم.
موسوعة ثقافية عند الهند
صدرت بالإنجليزية موسوعة ثقافية عن الهند اشترك في تأليفها كبار الأدباء الهنود وفلاسفتهم وعلماؤهم وكهنتهم وموسيقيوهم، وساعدهم على ذلك أدباء وعلماء عالميون. فمن الهنود الشاعر الكبير رابندرانات طاغور، والفيلسوف راضا كرشنان، والموسيقي ديليب روي. ومن الأجانب رومان رولان، والسيرجون مارشال. . . الخ. وقد تناولت الموسوعة ديانات الهند وكتبها المقدسة وتاريخها القديم والحديث وعلومها وآدابها وفنونها، وقد خصت كاهنها الأكبر (راما كرشنا) بجزء عظيم من مجلداتها الثلاثة، وقد أثار صدور هذه الموسوعة الحافلة البحث القديم المتعلق بمنشأ الحضارة على وجه الأرض، أهو العراق كما برهن على ذلك الأستاذ الأثري ليوناردولي الذي اكتشف آثار أور، والذي أيده في هذا الرأي الدكتور محمد عوض محمد، أم كان منشأ هذه الحضارة في مصر كما برهن على ذلك أكثر علماء الآثار وفي مقدمتهم المرحوم الدكتور أليوت سميث الأستاذ بمدرسة الطب المصرية (قبل ثلاثين سنة)، أم أن تلك الحضارة قد نشأت في الهند في مقاطعة البنجاب وحوض نهر السند كما يقول بذلك أحد محرري الموسوعة الهندية وهو السيرجون مارشال؟
والعجيب في ذلك الحوار أن كلا من محبذي إحدى هذه النظريات يستند في صحة ما ذهب إليه إلى تقدير السنين العددي لعمر الحضارة التي نشأت في إحدى هذه الجهات، والجميع لا يرجعون بها إلى أكثر من ستة آلاف سنة. فهل فاتهم أنه قد اكتشف في البداري (المدينة المصرية ذات التاريخ المعروف) مجموعة أثرية من أدوات الإنسان الأول يرجع تاريخها إلى ما قبل 12. 000 سنة؟
نسبة بيت شعري
فضيلة الأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي:
اطلعت على كلمتك في بريد الرسالة الغراء عدد (245) تسائل فيها قراء الرسالة عن نسبة البيت:
له حاجب عن كل أمر يشينه
…
وليس له عن طالب العرف حاجب
فأعجبني منك تلك الدقة الأدبية. والبيت كما يقول أبو هلال العسكري في كتابه ديوان المعاني (ج 1 ص 23) لأبي الطمحان مولى ابن أبي السمط. قال أبو هلال: وقول أبي الطمحان مولى ابن أبي السمط:
فتى لا يبالي المدلجون بنوره
…
إلى ما به ألاَّ تضيء الكواكب
له حاجب عن كل أمر يشينه
…
وليس له عن طالب العرف حاجب
والحق ما يقوله أبو هلال فقد عرف مروان بن أبي حفصة وروى له في ديوانه ولقبه بأبي السمط (ج 1 ص 65) فلو كانت الأبيات له لما خفي عليه، وقد اتفق مع الرواة في رواية البيتين معاً، وأبو هلال أحق بالقبول من كتاب البلاغة في هذا المقام. أما أبو الطمحان فهو حنظلة بن الشرقي القيني أدرك الإسلام ومات قبل الهجرة: ذكره أبو تمام في حماسته وابن حجر في الإصابة وضبطه القاموس.
عبد الحسيب طه
تطور يتطور تطوراً
الألفاظ العربي قسمان: قسم نبت في (الجزيرة) في الجاهلية وقسم نشأ فيها وفي غيرها من البلاد الإسلامية في وقت (الحضارة العربية). وكتب اللغة المعروفة بالمعجمات حرصت على تقييد القسم الأول. والقسم الثاني (أي جلّ الكلمات العربية) إنما هو في مؤلفات العلم والأدب والمصنفات الخاصة، وهو ينتظر معجماً عاماً شاملاً ينتظمه - وهمة العرب تلك الهمة - يوم القيامة إن شاء الله تعالى. . .
ومن هذا القسم لفظة (التطور) وقد حسب الأستاذ أسعد خليل داغر صاحب (تذكرة الكاتب) وفاضل معروف من مراسلي (الرسالة) في (دار السلام) في هذه الأيام - أنها عصرية جردَيّة، فغلّطاها.
قال الأول: (ويبنون فعلاً من الطور بمعنى الحال على تفعّل فيقولون تطورت الأمور وهم في غنى عن مخالفة المنقول والمسموع بما في اللغة من الأفعال التي تفيد هذا المعنى).
وقال الثاني: (ورأيته يمر على كلمة تطور في دفاتر التلاميذ فلا يصححها، فحاسبته أشد الحساب، فقال: إن الله يقول في كتابه العزيز: (وخلقناكم أطواراً) فقلت: نعم إن الله خلقنا
أطواراً ومن أجل ذلك لا يصح أن نتطور يا أستاذ).
وهذه اللفظة - التي غلط هذان الفاضلان في تغليطها - عربية كّيسة حضرية من (بنات الحضارة) وشيخة مسنة عمرها ألف سنة
قال السبكي في (طبقاته الكبرى): (من كرامات هذه الأمة التطور بأطوار مختلفة وهذا الذي تسميه الصوفية بعالم المثال)
وقال ابن خلدون في كتاب (العبر وديوان المبتدأ والخبر): وتطوروا - يعني العرب - بطور الحضارة والترف في الأحوال)
وقال أبو البقاء في (كلياته): (وإيجاد شيء لا عن شيء محال بل لا بد من سنخ للمعلول قابل لأن يتطور بأطوار مختلفة)
وقال الشوكاني في (البدر الطالع) في سيرة أبي الفضل المجدالي: (ثم رحل نحو المملكة المصرية وتطور على أنحاء مختلفة)
فوجب - وهذه أقوال القوم - أن يقبل الأديب العربي (التطور) غير متوقف ولا متلوّم
(* * *)
الوصل والفصل
قال أحد الفضلاء في الجزء (245) من (الرسالة الغراء): (طابت السهرة وطابت ثم طابت) والقائل من الأساتذة الأدباء فكيف عطف (طابت) الثانية على (طابت) الأولى وبين الجملتين كمال الاتصال وهو ظاهر مثل الشمس في اليوم غير المغيم فكيف هذا العطف والاتصال الكامل؟!
ومن أمثلة الفصل عند كمال الاتصال في كلام الله: (أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون)(فمهّل الكافرين أمهلهم رويدا)
وقد قالوا فيما نحن في لخطر شأنه، وعظم قدره:(قيل لبعضهم: ما البلاغة؟ قال: (معرفة الوصل من الفصل) وهذا القول في (العقد). وفي (دلائل الإعجاز): (العلم بما ينبغي أن يصنع في الجمل من عطف بعضها على بعض أو ترك العطف فيها قد بلغ من قوة الأمر أن جعلوه حداً للبلاغة؛ ذلك لغموضه ودقة مسلكه، وإنه لا يكمل للإحراز الفضيلة فيه أحد
إلا كمل لسائر معاني البلاغة. وأعلم أنه إنما يعرض الإشكال في (الواو) دون غيرها من حروف العطف).
وعبد القاهر في طبّ الكلام حذام
فالأديب الأريب لا يصل ما يجب فصله، ولا يقطع (من) يجب وصلها أو وصله. . .
(الإسكندرية)
(* * *)
تصحيح
في النقلة (356): (كأن دنيته عليه) وهي: كأن دنية عليه. وفي النقلة (358): (حرمته مأواة ومرعاه) وهي: حرمته ماءه ومرعاه.
الكتب
نوابغ الشباب
للأستاذ قاسم جودة
يشتمل هذا الكتاب على عشرة تراجم من سير الأبطال والعباقرة (الذين كان الشباب صفة بارزة تقترن بما قدموا من خير أو بذلوا من جهد، أو بلغوا من نجاح، أو أبدوا من وطنية وشجاعة، أو كسبوا لأنفسهم من فخر التضحية، وشرف الجهاد) وقد أحسن المؤلف الفاضل إذ حرص على أن يكون هؤلاء النوابغ (من آفاق متباعدة، وأجناس مختلفة، وأزمان متباينة، ففيهم رجل السياسة، ورجل الحرب، ورجل الموسيقى ورجل الشعر، وفيهم العربي والمصري والإنجليزي والفرنسي واليوناني، وقد تفاوت بينهم الزمن من عهد الحضارة الإغريقية القديمة، إلى عهد الحضارة الآلية في القرن العشرين)
فأنت في استجلاء هذا الكتاب تستجلي ألواناً من الرغبات والأهواء في نفس الشباب العبقري، وتتبين وجوهاً واتجاهات تتباعد في أشكالها بعوامل الزمان والمكان، وتقف على عبقريات فنية تتوزع في نواحٍ مختلفة من نواحي الحياة، ثم أنت بعد هذا كله إزاء صورة دقيقة رائعة كلها الفن والإتقان. وناهيك بصور تتجلى فيها شخصيات الإسكندر المقدوني الفاتح العظيم، وطرفة بن العبد الشاعر القتيل، وموتسارت طفل المعجزات، وتوماس تشانرتون شهيد الأنفة وصريع الفاقة، ووليم بت السياسي العنيف، ومصطفى كامل فخر الشباب المصري في الوطنية وكيتس شاعر الحق والجمال، وجان دارك رمز الإيمان والتضحية وأندريه شنييه نصير الحرية والدستور، وجينمر فارس الهواء الأعظم.
ولقد نهض المؤلف بموضوع كتابه خير نهوض وأكمله، فإنه شاب يتوثب للمستقبل، ويتحفز للغد، ولا شك أن الشباب خير من يفهم الشباب ويقدره حق قدره، ثم هو أديب واسع الثقافة، شامل المعرفة، تتصل دراسته واطلاعه بكثير من الثقافات الأوربية الحية، ومن ثم أمكنه أن يوفي القول عن شخصيات كتابه وهم - كما قال - من آفاق متباعدة، وأجناس مختلفة، وأزمان متباينة؛ وإذا كانت التراجم بطبيعتها - كما قال كارليل - أكمل الموضوعات نفعاً، وأعمها لذة ومتعة للنفوس، فإن لهذا الكتاب ميزة ظاهرة يتميز بها في نهجه وأسلوبه وتراجمه، إذ جمع مؤلفه الفاضل (بين البحث التحليلي العميق، وبين الجانب
القصصي الطريف، فليست فصول الكتاب بالتحليل العلمي الجاف، ولا بالقصص التاريخي البحت، ولكنها تجمع بين الفضيلتين، ففيها نصيب للباحث المدقق الذي يطلب الحقيقة التاريخية في مصادرها الثابتة، وفيها حظ آخر للقارئ السطحي الذي ينشد المتعة الخفيفة وتزجية الفراغ) ومن هذه الناحية كان الكتاب رغبة كل قارئ، وقد أحسنت دار الهلال في اختياره هدية لقرائها الكرام.
السير
للأستاذ محمد سعيد لطفي
نقرأ في هذا الكتاب نخبة طيبة من المحاضرات التي أذاعها الأستاذ الفاضل محمد سعيد لطفي من دار الإذاعة المصرية على جمهور المستمعين، وهي محاضرات تدور على سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسير بعض أصحابه وقرابته، ومن جاء بعده من الخلفاء الراشدين ورجال بني أمية وبني العباس حتى نهاية الخليفة الأمين، وما كان بينه وبين أخيه المأمون من حروب على الملك، وتطاحن على السلطان.
ولقد عنى الأستاذ الفاضل وهو يتحدث عن سير هؤلاء الأشخاص بالكشف عن مواهبهم الشخصية، ونزعاتهم الذاتية، وخصائصهم التي تميزوا بها في حكمهم وسياستهم، وما قاموا به من الأعمال الجليلة، والأحداث الحافلة، فجاء كتابه من وراء هذا صفحة مشرقة رائعة من التاريخ العربي، تكشف عن كثير من النواحي القوية فيه، وتعطي القارئ فكرة شاملة عن هذا التاريخ الحافل بالجلائل والأحداث
أما أسلوب الكتاب فأسلوب عربي سليم، جزل متدفق، تطل من شخصية الأستاذ سعيد لطفي، وتظهر فيه روحه ومشربه، وهي روح تفيض بالدين واليقين، وتمجد القومية العربية. ولقد أعجبني الأستاذ إذ راعى في مسلكه أقدار المخاطبين؛ فتنكب التعسف والأثقال، وابتعد عن الحشو في الرواية التاريخية على نحو ما هو شائع في المصادر القديمة، بل نهج نهجاً قصصياً سائغاً يصفه هو لك إذ يقول:(رويت التاريخ كما نتحدث ساعات التسلية، فلم أرهق المستمعين، ولم أذكر اسماً إلا لضرورة، ولا بلداً إلا لحادث جلل، ونزهت من تناولت سيرهم جميعاً عما لهج به الحاسدون، وأدخله عليهم الأعداء والموتورون).
وقد أحسن المؤلف الفاضل إذ عنى بإيراد كثير من الخطب والأشعار والرسائل والوصايا التي تعتبر من وثائق التاريخ العربي، ثم في الوقت نفسه تعتبر من النصوص الأدبية الرائعة، ومن ثم لم يكن الكتاب كتاب تاريخ وسير فحسب! بل كتاب أدب وتاريخ، ينفع الأديب كما يفيد المؤرخ، ولا شك أن في الكتاب هفوات ولكنها طفيفة، ولعل الوقت ينفسح لنا فيما بعد فنتناول الكتاب بفصل شامل على صفحات الرسالة.
محمد فهمي عبد اللطيف