المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 248 - بتاريخ: 04 - 04 - 1938 - مجلة الرسالة - جـ ٢٤٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 248

- بتاريخ: 04 - 04 - 1938

ص: -1

‌محنة شهر!!

ذلك الشهر كان مارس! ومارس في أساطير الأولين أله الحرب! ابتليت فيه مصر الوديعة بسطوة الهوى على الرأي، وعدوان الشهوة على الخلق، فجاءها بالخلاف وذهب بالأمن، وابتدأ بالصراع وانتهى إلى الفجيعة. فليت شعري ماذا جنى الزاعمون على الناس من بلايا الناس؟

كانت مصر طوال هذا الشهر كالبركان الجهنمي الثائر، يغلي بالحميم ويرمي بالحمم ويطغى بصهيره الخانق على المغاني والربوع فيهلك الأموال ويزهق الأنفس، ثم يكون ظلاماً في الأرض، وقتاماً في الجو، ونتناً في الهواء، ومواتاً في الطبيعة

وكانت الأمة المسكينة تنفق على معارك الانتخاب الدائرة بين الأحزاب اكرم ما تملك من المال والدم والخلق، وهي لا تدري لهذه الضحايا الغالية التي لا ثواب عليها ولا عوض منها، حكمة ظاهرة ولا ضرورة ملجئة

وكان المرشحون المتنافسون يتعاقبون على الدوائر الانتخابية تعاقب السنين المواحق، فلايتركون وراءهم إلا أُسَراً تتفرق، ووشائج تتمزق، وضمائر تشترى، وذمما تسرق، وعصبية تثور، وأحقاداً تبعث، وأموالا تهلك، ودماء تسفك، وأعمالاً تبور.

فتعالوا نناشدكم الله يا نوابنا وأحزابنا وزعماء الرأي فينا. هل تشعرون بثقل هذه الأوزار التي حملتموها في سبيل التكالب على النيابة والتسابق إلى الحكم؟

ألا تريدون أن تنسوا أن العضوية في مجلس النواب أو في أندية الأحزاب ليست إلا وصفاً يتمم العنوان، ومنصباً يلازم الغنى، ووسيلة تعين على العيش، وطريقة تؤدي إلى الجاه؟

ألا تحبون أن تذكروا أن النيابة عن الأمة معناها حلول أمة في فرد، واستيعاب فرد لامة؛ فهواها غالب على هواه، ورضاها مقدم على رضاه، ورأيها مستبد برأيه، وصوتها مجلجل في صوته، وهمها شاغل لفراغ باله؛ فإذا مثل النائب في المجلس دور الكمبرس، أو وقف في المناقشة موقف الإِمِّعة، كانت نيابته بعد انتخابه مصاباً بعد مصاب، وويلاً بعد عذاب وكفرا بعد خطيئة؟

ألا تودون أن تفهموا أن البرلمان بالأمس كان حسبه أن يكون مظهراً من مظاهر الاستقلال، وعنواناً من عناوين الدولة، وأن العضو فيه كان حسبه أن يشارك في أبهته، ويشرب أكواب الليمون في ردهته، ويفتح مغاليق الأمور بقوته؛ أما اليوم فهو تعبئة لكفايات

ص: 1

الشعب، وتجميع لرغبات الأمة، وتهيئة لقواها العاطلة وأسلحتها الكليلة أن تضمن لنا حق الحياة والكرامة، وللوطن حق العزة والسلامة؟

الأسود الروابض على الوادي تتحلب أفواهها شرهاً إلى افتراسه، والنسور الحوائم على حواشي الوطن تترقب الفرصلانتهاسه، وطاغية روما الطموح ينذر الناس أنه يرصد الاهوب في البر والبحر والسماء لحرب جديدة. فهل يشق عليكم أن تدركوا أن للنائب في هذا الوقت العصيب عملاً غير الحفلات والوساطات والغنيمة، وأنه إذا دخل المجلس من غير مبدأ، وجرى فيه إلى غير غاية واستغل حقوقه من غير عمل، كان داخلاً في غير أهله، ونازلاً في غير ملجئه؟

أحزابنا متعددة كتعدد الأحزاب الأوربية في البرلمانات الديمقراطية العظيمة، ولها بمقتضى هذا التعدد أندية وصحف واتباع؛ ولكنها تختلف عن أحزاب الأمم بأن ليس لها خطة في الإصلاح مرسومة، ولا غاية في السياسة معلومة؛ فهي إلى اليوم تتميز بالأسماء لا بالبرامج، وتتقارع بالمقالات لا بالخطط، وتتنافس في بلوغ الحكومة لا في خدمة الأمة

من اجل ذلك كان مرشحوا الأحزاب لا يجدون ما يقولون في خطبهم الانتخابية غير الجمل الجوف، والوعود المبهمة، والتهم الجريئة والدعاوى العريضة والعيوب الخاصة، حتى تركوا البلاد من صعيدها إلى ريفها ضجة من البذاء، وغمة من البلاء، ومزقاً من الأعراض والخلق

على أننا نرجو أن تكون هذه المحنة آخر المحن، وان تموت في سبيل الوطن الحزازات والإحن، وأن تنكشف حماية الحيرة من عيون الأمة فتبصر وجه الرأي الذي تستقيم به الحال، ويستقر عليه الأمر؛ فقد عودنا شهر مارس أن يكون حميد الأثر في الحياة المصرية. ففي مارس من عام 1919 استيقظ أبو الهول، وشبت ثورة النهضة، وتنافس في الجهاد النساء والرجال، وتعانق على الوداد الصليب والهلال، وتسابق إلى الاستشهاد الشيوخ والأطفال، وسالت انفس الشباب ضحايا على مذبح الحرية!

وفي شهر مارس من عام 1922 ألغيت الحماية، وأعلن الاستقلال، وصدر الدستور!

وفي شهر مارس من كل عام تتجدد الحياة، وتهتز الأرض، ويورق الشجر السليب، ويمرع الوادي الجديب، وينشد الربيع الباكر أناشيد الجمال والحب والأمل!

ص: 2

احمد حسن الزيات

ص: 3

‌داء الشعور بالحقارة أيضاً

للأستاذ عبد الرحمن شكري

قرأ أديب مقالة داء الشعور بالحقارة فقال إن الصفات التي ذكرتها صفات شائعة في النفس الإنسانية. وكأنه بهذا القول يريد أن ينكر أن في النفس ما يصح أن يسمي داء الشعور بالحقارة فذكرت الأديب بأن صفات الخير والشر كلها موجودة في كل نفس، فلكل نفس منها نصيب قل أو كثر، ولكن هذه الحقيقة لا تمنع من تفاوت النفس تفاوتاً عظيماً حسب نصيبها من صفات الخير أو الشر. ولا نريد أن ننكر أن جرثومة الحقارة تلفي حتى في النفوس العظيمة؛ هذا أمر نريد أن نثبته وإلا ما استطاع القارئ أن يعترف بما ذكرناه في مقالتا من أن داء الشعور بالحقارة قد يصير وباء في بعض البيئات، وأن له عدوى كعدوى الأمراض الجثمانية؛ فلولا هذه الجرثومة التي تشترك فيها النفوس قاطبة ما استطاعت نفس أن تؤثر في نفس أخرى وأن تحملها على محاكاتها في الأفعال أو الأقوال الناشئة من شعورها بالحقارة

إن صفات الخير أو الشر شائعة في النفوس الإنسانية؛ وهذا سبب العدوى وسبب المحاكاة. ولكن شيوع صفة من الصفات في النفوس لا يجعلها مرضاً مزمناً، وإنما تصير تلك الصفة مرضاً إذا غلبت على النفس وصارت محور أعمالها وأقوالها وطغت على كل صفة أخرى أو حاولت هذا الطغيان وتملكت المشاعر. وفي هذه الحالة يكون الداء النفسي في اشد حالاته، ولكن له حالات أخف وأهون

وقد ذكرنا أن ذيوع داء الشعور بالحقارة يكون أعظم في الأمم التي ظلت مغلوبة على أمرها عصوراً طويلة، غلبة تشعرها الذلة والمسكنة سواء أكان الغالب قاهراً أتاها من الخارج أو حاكماً من أبنائها. وتظهر أعراض هذا الداء إذا قَلت تلك الغلبة أو زالت أسبابها وزادت الحرية، فتبرز وتعظم صفات القلق والألم والحقد والحسد خشية أن يفطن أحد إلى ما يشعر به صاحب داء الشعور بالحقارة في سريرة نفسه. وقد يكون شعوراً غامضاً لا يتبينه تماماً فيتعاظم تعاظماً لا اطمئنان فيه، لأنه تساوره الأحقاد والحسد فيتم تعاظمه عما يبطنه من الشعور وما يعالجه من داء الحقارة. وفي بعض النفوس يظهر الداء بمظهر التواضع وتحقير النفس تحقيراً يخالطه الحقد والحسد والقلق، فتنم هذه الصفات أيضاً عما

ص: 4

يعالجه المرء في سريرة نفسه من الشعور بالحقارة. وقد يعالج هذا الشعور وهو لا يدركه ولا يفطن له تماماً، وقد يدعي المتواضع المصاب بداء الحقارة أنه أكرم خلقاً من المتعاظم بهذا الداء. ولم نقل أن داء الشعور بالحقارة لا يظهر إلا في تلك الأمم التي ظلت مغلوبة على أمرها عصوراً طويلة، وإنما قلنا إن ذيوعه فيها أكثر، وصفاته ومظاهره أكثر تنوعاً وتعدداً، وأعراضه أشد: من حب للظهور ومن دس وكيد وحقد وحسد. ولم نقل إن الكيد والحقد والحسد والتنافر ليس لها إلا هذا السبب وإلا هذا المصدر، فلها أيضاً أسباب اخرى، ولكن إذا ظهرت الصلة بينها وبين داء الشعور بالحقارة في مثل تلك الأمة أو البيئة الموصوفة كان هذا الداء هو سببها، وحتى في حالات الأفراد المصابين بهذا الداء في بيئة سليمة منه قد تظهر صلات هذه الصفات بداء الشعور بالحقارة ظهوراً ليس مثله ظهور. أما في البيئات الموبوءة فليست الصعوبة في معرفة صلات هذه الصفات والمظاهر بالداء، وإنما الصعوبة في حصرها وعدها ولم شعثها وتشعبها تشعباً عظيماً؛ وهذا التشعب والتفرع قد يبعدها عن اصلها لكثرة الفروع وفروع الفروع حتى يخيل للرائي أن لها أسباباً أخرى غير داء الشعور بالحقارة الذي هو منبتها وجذرها وجزعها في تلك البيئة، فتتكاثر صفاتها أمام الباحث تكاثر الظباء على خراش. على أن العقل لا يجد صعوبة في أن يفهم منشأ هذا الداء التي ظلت مغلوبة على أمرها عصوراً طويلة تشعرها الذلة والمسكنة، ثم جاءت الحرية. ومن لوازمها أن يخفى الحر ما يشعر به من صفات متوارثة أو غير متوارثة، وهذه الرغبة في إخفاء ما في نفسه من داء الشعور بالحقارة قد تصير داء يتلمس كل وسيلة شريفة أو دنيئة، وقد يشرف بصاحبه على الجنون أو يبلغه، وقد يدفع إلى الجرم. وفي اعتقادي أن مباهاة التعس للتعس من فقراء الفلاحين مباهاة ربما دعت إلى الجرم الإثم من اجل سبب تافه إنما تنشأ من هذا الداء ومن هذه المؤثرات الاجتماعية القديمة الحديثة. وكذلك حب الظهور الذي قد يؤدي بالأملاك ويؤدي إلى خراب الأسر إنما هو داء الشعور بالحقارة الخفي يبرز في شكل تعاظم مصحوب بالقلق والحقد والحسد. وهذه المظاهر تشاهد أيضاً في نفوس بعض الموظفين والطلبة وسكان المدن الكبيرة. ولابد أن نقول مرة ثانية إن صلات هذه الصفات بداء الشعور بالحقارة في بيئة اعتورها ذل ثم حرية بعد ذل طويل، صلات ظاهرة لا تنكر، وإن تلك الصفات ليست في شكلها الذي تشترك فيه النفوس

ص: 5

البشرية عامة بل زادت واشتدت حتى صارت داء، وإنه لا يرجى رقي ولا تصلح تربية ولا يصلح تعليم ولا ترجى ثمراته كلها إلا إذا عولج داء الشعور بالحقارة وأعراضه

وكانت الحرية الكاشفة عن هذه الصفات الكامنة أشبه الأشياء في فعلها بالخمر التي تظهر الصفات الكامنة؛ فإذا كانت في طبع المرء شراسة أظهرتها الخمر إذا سكر، وإذا كان في طبعه إسراف زادته الخمر إسرافاً حتى يكاد السكران يخلع كل ثيابه ويتصدق بها على الناس؛ وإذا كان في طبعه ميل إلى الإجرام دفعته الخمر إلى ارتكاب الكبائر

وليس بين القراء من لم يشاهد مريضاً بداء الشعور بالحقارة، ولكن ذيوع هذا الداء في بيئة يجعله مألوفاً ألفة تفقده الغرابة، فلا يشعر به الإنسان في تلك البيئة إلا إذا بحث عنه وتعمد الفطنة له

وكلما كان المصاب بداء الشعور بالحقارة مفلساً من العلم أو الذكاء كانت لجاجته في جداله وحديثه اعظم، وكان غضبه إذا خولف أشد، وكان ادعاؤه العلم بكل شيء أوفى وأتم ادعاء، وكان حقده على من يخالف رأيه ابعد أثراً وأطول عمرا واعمق مقرا من نفسه، حتى ليكاد يأتي ربه يوم القيامة وأوضح أثر في نفسه حقده على من خالفه في رأيه في الحياة الدنيا. والويل لك إذا عاشرت من اشتد به داء الشعور بالحقارة، فإنك إذا عاونته حقد عليك من اجل فضلك عليه الذي يهيج شعوره بدائه، وإذا لم تعاونه حقد عليك أيضاً من اجل حاجته إليك التي تهيج شعوره بدائه. وكلما كان المصاب بداء الشعور بالحقارة مفلساً من المال ادعى الثروة، وقد يبلغ به داء الشعور بالحقارة منزلة يضن فيها بما معه من المال على عياله كي يظهر في المجالس والنوادي وبين الغرباء، بمظاهر الأريحية والسخاء والثروة. وهو يتلطف، وقد يتذلل لمن يريد أن يقنعه أن صفات الأريحية والسخاء من صفاته وإن لم يكن من طبعه إلا الشراسة والحقد. وهو يحقد على كل من لا يمكنه من الظهور بمظهر التعاظم والأريحية ومن لا يهيئ له السبيل إلى ذلك، وعلى من لا يضحي بكل شيء في سبيل تهيئة وسائل الظهور له، وعبثاً تحاول أن تظفر لدى من اشتد به هذا الداء بوفاء أو ود، وعبثاً تحاول أن تفهمه حقيقة الأمر، فإنه يخادع نفسه حتى يعتقد أنك تحسده على ماله من مظاهر العظمة أو الأريحية أو الذكاء النادر أو على منزلته في قلوب الناس. وفي البيئة التي يذيع فيها داء الشعور بالحقارة يعتقد كل إنسان أنه عظيم الشأن، أو يحاول أن يعتقد

ص: 6

هذا المعتقد وأن يحمل الناس على اعتقاده، ويرى أن اكبر جريمة في العالم هي أن يجيد إنسان أو أن يظن أن إنساناً أجاد (وان لم يكن قد أجاد) في عمل أو قول أو جهد أو رأي أو صنع، سواء أكانت الأعمال والأقوال مما يرجى فيه الخير للجميع أو مما فيه خير خاص، وسواء أكان فيها نفع للمريض بداء الشعور بالحقارة أو لم يكن فيها نفع، وهذا الحقد الذي يشعر به هؤلاء قد يخفى نفسه ويظهر بمظهر العبث؛ وقد لا يخفى نفسه. وقد يدعي الغيرة على الخير والفضل، وقد لا يدعي، وهو دائماً كالحيوان في الغابة متحفز للوثوب والظهور إذا أتيحت الفرص، فإذا لم تتح الفرص لم يثب. وكثيراً ما تراه في اوجه أصحابه عبوساً خاصاً ينم عن جنون الحقد، وفي مثل هذه البيئة لا يعد المريض بداء الشعور بالحقارة المشقة مشقة إذا كانت من أجل إحباط عمل زميل أو غير زميل، كأنما تلك البيئة رقعة الشطرنج بين يدي لاعبين ماهرين لا يبقى كل منهما ولا يذر.

ولعل السبب في أن الإنسان في تلك البيئة التي اعتورها ذل طويل ثم حرية لا هم له إلا منع غيره من الظهور (وكلما كان الظهور بالإجادة في صنع أو قول كان الخوف منه أعظم) أقول لعل السبب هو الرجوع بالسريرة وبالنفس إلى عهود ذلك الذل الطويل وطغيان الذين ظهروا في تلك العهود طغياناً سبب ذلك الذل الطويل وسبب داء الشعور بالحقارة؛ وربما ظهر الظاهرون في تلك العهود بقدرة أو إجادة فأصبح المرضى بداء الشعور بالحقارة، حتى بعد تلك العهود القديمة البائدة، يكرهون كل ظهور بقدرة أو إجادة لأن فيه مذلة لأنفسهم

وهؤلاء الناس قد يتعاونون في إظهار من برز بقدرة أو إجادة ولكنهم قلما يفعلون ذلك ألا إذا كانوا يرجون في إظهاره إظهاراً لأنفسهم وإبرازاً لها واكتساباً لأنفسهم شيئاً من الشهرة بالإجادة التي لصاحبهم، أو إذا كانوا يرجون منه أن يعاونهم بقدرته على الظهور وإشباع نهمتهم منه

ويبدو داء الشعور بالحقارة أيضاً بين طائفة الخدم والحشم والرعاع فيحسبون انهم يخفون ما يشعرون به من ضعة منزلتهم الاجتماعية بمحاكاة من هم ارفع منهم منزلة في اللباس أو في فتل الشارب أو في التنحنح أو في الفكاهة أو في التعالي والتعاظم على أصحاب الحاجات وكل من يريد مقابلة مخدوميهم. وإذا كان المخدوم أيضاً مصاباً بداء الشعور

ص: 7

بالحقارة ويخفيه بالسفاهة حرت وصرت لا تدري أياخذ الخادم من أخلاق مخدومه أم يأخذ المخدوم من أخلاق خادمه. وكثيراً ما يتخذ كل منهما الآخر نصيراً في خصوماته التي يخلقها من اجل شعوره بالحقارة. والفلاح الذي يغري المجرمين والأشرار بمن لا يحييه وهو جالس على المصطبة ولا يتزلف إليه مثل الموظف الصغير المنزلة أو كبيرها الذي يغري الأشرار ممن لا يتزلف إليه

وهذه الطوائف كلها تجني على الصغار بتأثير قدوتها فيهم. وكثيراً ما يكون سبب إساءة التلميذ أدبه رغبته في حب الظهور الناشئة من هذا الداء. وحب الظهور صفة عامة في النفوس كما قلنا، ولكنها في البيئات المريضة بداء الشعور بالحقارة تتخذ شكلاً وضيعاً خاصاً وهي تكون مصحوبة بالصفات النفسية الوضيعة التي ذكرناها. ومما يدل على أن داء الشعور بالحقارة ينشأ بسبب عصور الغلبة التي تشعر بالذلة والمسكنة أن صفاته تكثر وتشيع بين العبيد وأبناء الأرقاء، أو من كان أجدادهم أرقاء في العصور الغابرة وبين أبناء الشعوب التي ظلت مغلوبة على أمرها عصوراً طويلة خلقت التواء في الخلق ولؤماً. ولعل هذا الأمر يفسر ما نقرأ في محاكمات قضايا الروسيا من أعمال أبالسة أدنياء كانوا أرقاء أو مغلوبين على أمرهم عصوراً طويلة، فلما نالوا الحرية أظهرت ما كمن في نفوسهم، وهذا سواء أكانت هذه الأعمال قد فعلها من نسبت إليهم أم انهم حملوا على الاعتراف بها كدباً بوسائل جهنمية، ولا ينفي هذا الاستنتاج أن السياسة الدولية وعمالها السريين قد يستبيحون كل جريمة ضرورية وغير ضرورية في تنفيذ أغراض السياسة السرية وملحقات تلك الأغراض.

ومن التلاميذ الصغار من يصاحب أهل الفساد أو المصابين بداء الشعور بالحقارة، فيريد أن يخفي التلميذ شعوره بالنقص أو الفساد الذي لحقه بإساءة أدبه. وكثيراً ما يحاكي الصغار هذه الطوائف حتى من كان منها من الرعاع فيحاكونهم في مشيتهم وإشاراتهم وأقوالهم، ويحسبون أن تلك المحاكاة تكسبهم رجولة وبطولة من غير أن يشعروا أن الرعاع أو منهم اكبر منهم منزلة واعظم علماً من المصابين بداء الشعور بالحقارة يصدرون ويردون في أقوالهم وأعمالهم إشاراتهم وحركاتهم وهم مسيرون لا مخيرون، وانهم في كل هذه الأحوال طوع شعورهم بالحقارة وطوع الرغبة في ستر ذلك الشعور فكأنهم لعب خيال الظل يحركها

ص: 8

المحرك من وراء ستار

عبد الرحمن شكري

ص: 9

‌صفات النساء النفسية

بين سذاجة الطفولة وعبقرية الفكر

للدكتور جميل صليبا

كثيراً ما بحث الأدباء في النساء وصفاتهن وما يحمد ويذم من أخلاقهن، فوصفوا المرأة الصالحة والزوجة الموافقة، كما أفاضوا في ذكر صفة المرأة السوء وشرها. فاحسن النساء عندهم من كانت شريفة في قومها، كاملة في عقلها، فصيحة اللسان صادقة محبة لزوجها، حافظة لسرها؛ وشرهن من كان كلامها وعيداً وصوتها شديداً، تدفن الحسنات وتفشي السيئات، صخوب غضوب ضيقة الباء. إلا أن هذه الصفات التي ذكروها لم تبن على استقراء علمي ولا تحليل نفسي. فما هي صفات النساء وما هي أنواعهن عند العلماء؟

بينما كنت ذات مرة القي درساً في علم النفس على تلاميذ لم يتجاوزوا الثامنة عشر من سنهم قال لي أحدهم بعد أن ذكرت صفات الحوادث النفسية: هل تنطبق هذه الصفات على المرأة، أم في الأرواح تذكير وتأنيث؟ إن هذا السؤال - بالرغم من سذاجته - يتضمن شبه فلسفية عميقة. فهل تشعر المرأة كما يشعر الرجل؟ وهل تفكر كما يفكر أو تريد كما يريد؟ وهل تختلف مشاعرها عن مشاعر الرجل كما يختلف جسمها عن جسمه؟

قال بعضهم: إن الفرق بين المرأة والرجل في الحس والفكر والإرادة عظيم جداً، وإن المرأة كانت في الجماعات الابتدائية للرجل لا فرق بينهما وبين العبد، حتى لقد ذكر أن أحد المجامع المقدسة في القرون الوسطى تناقش في هذا السؤال: هل للمرأة نفس أم ينفرد الرجل وحده بهذه الصفة الإلهية؟ وقد ساقهم إلى هذه المناقشة ما جاء في التوراة عن خلق المرأة من ضلع من أضلاع الرجل، وقول آدم: هذه عظم من عظامي ولحم من لحمي، وعدم قوله إنها ذات نفس شبيه بنفسه.

وزعم آخرون أنه لا فرق بين الرجل والمرأة في الحس والعقل والإرادة، وأن الفرق بين الرجال أنفسهم اكثر من الفرق بينهم وبين النساء. فمما قاله أفلاطون: لا فرق بين الرجال والنساء. يجب أن يكون عدد النساء في جيش الجمهورية مساوياً لعدد الرجال. ويجب عليهن أن يتعلمن استعمال السلاح وركوب الخيل. وينبغي لهن أن ينزعن ثيابهن لممارسة الرياضة البدنية وألا يخجلن من ذلك كله لأن احسن ثوب يصون المرأة هو ثوب الفضيلة.

ص: 10

ومما قاله كوندورسه: يجب أن يكون التعليم واحداً بالنسبة إلى الجنسين لأن المرأة مساوية للرجل. ومما قالته مدام (نكردوسوسور): إن البنات لا يختلفن عن الصبيان أبداً قبل العاشرة من السن

فالباحث عن حقيقة المرأة أما أن يكون مثل بوسوية الهازئ بزينة النساء وزهوهن فيقول لهن: لا تنسين يا سيداتي إنكن خلقتن من ضلع زائد من أضلاع أدم؛ وأما أن يكوم مثل أفلاطون الخيالي فيتصور مدينة فاضلة قائمة على سواعد الرجال والنساء معاً. وهذه المباحث الأولية لا تكشف الغطاء عن حقيقة المرأة، بل هي على مثال ما ذكره سائر الأدباء أقوال خطابية لا توضح الأمر بل تزيده ظلاماً، حتى لقد قال (ريدرو) في ذلك:(إذا كتبت عن المرأة فاغمس ريشتك في قوس قزح ثم رش على أوراقك غبار أجنحة الفراشة، لان المرأة هو موجود الهي)

فلنرجع إلى علم النفس ولنسأل ما هي حقيقة المرأة ولندرس أحوالها النفسية على ضوء العلم الحديث.

إن تحليل صفات النساء يكشف لنا عن أنواع مختلفة، ويمكننا إرجاع هذه الأنواع إلى أربعة:

1 -

المرأة الطفل

2 -

المرأة الحساسة

3 -

المرأة الحساسة الذكية

4 -

المرأة المفكرة

ولنبحث في كل من هذه الأنواع على حدة:

1 -

المرأة الطفل: إن هذا النوع من النساء مشتت الفكر والقلب معاً؛ فلا هو منظم الحكم، ولا هو ثابت الحس، بل يتبدل من صورة إلى أخرى بحسب الأهواء والعواطف. وقد وصفه (ديكنس) في روايته دوريت الصغيرة وبين العلماء أن له نوعين: المرضي والطبيعي. فالمرضي يعرف بشدة قبوله للتلقين، والطبيعي يشتمل على النساء الخفيفات العقل الكثيرات الزهو اللواتي يتنقلن كالطير من فنن إلى آخر؛ أو يشتمل على النساء الواسعات الخيال الكثيرات القلق والعظيمات الأمل؛ فإذا تكلمن مزجن الحقيقة بالخيال

ص: 11

أسرعن في التعبير عن أفكارهن أو تقدمت الألفاظ عندهن على الفكر. وقد يملن إلى الاطلاع ويرغبن في الكشف عن خوافي الأمور، إلا أن ميلهن هذا بعيد جداً عن محبةالعلم، فهن يرغبن في المعرفة لا للمعرفة نفسها بل لحاجة في نفوسهن تدفعهن إلى الحديث. وإذا رغبن في شيء مجرداً عن المنفعة المباشرة رضين بالقليل منه واكتفين باليسير. قلت لطفل مرة: إذا أعطيتك ثلاث برتقالات وأخذت منها واحدة فكم يبقى معك منها؟ فقال على الفور: كيف تقول لي انك أعطيتني ثلاث برتقالات وأنت حتى الآن لم تعطني شيئاً؟ فالمرأة الطفل لا تختلف عن هذا الطفل في طلب العلم. إنها تفضل المحسوس على المجرد، والقريب النفع على البعيد القصد. فهي إذا مثل هذا الطفل الذي لا يعرف الحساب إلا إذا تذوق حلاوة البرتقالة

2 -

المرأة الحساسة: يختلف هذا النوع عن الأول بشدة العاطفة وعمق الشعور وتغلب القلب على العقل. إن المرأة الحساسة لا تقيس الأشياء إلا بمقياس العاطفة ولا تزنها إلا بميزان الهوى. فكل ما وافق هوى من نفسها صحيح، وكل ما أعرضت عنه فاسد. لقد جاء في بعض روايات (جورج ساند) شيء من صفات هذه المرأة. إنها تنسى هواها القديم عند وقوعها في الهوى الجديد، ولا تهتم بوقوعها في التناقض وانتقالها من ضد إلى آخر. نعم إن الرجل نفسه خاضع لمنطق العواطف ولكنه يحاول في كل حال من أحواله أن يبرر عواطفه ويجعل هواه معقولاً. مثال ذلك: أن (ألسست) يقول عن نفسه انه لا يحب سيليمين إلا ليرجع إليها الفضيلة المفقودة، فهو إذا يجد لهواه سبباً معقولا. أما المرأة فلا تهتم بهذه الوسواس ولا تميل إلى سفسطة التشكك، بل تعلن الأمر كما هو؛ فإذا كرهت رجلاً كان قلبها وحده مبرراً لها في كرهها، وإذا أحبت شخصاً لن تبحث عن الأسباب الباعثة على تعلقها به، بل تصغي إلى نداء قلبها من غير أن تجد حاجة لتحكيم العقل. إن هذا النوع من النساء شبيه بالنوع الأول في خوفه من التجريد، وعدم ميله إلى الحق. إن فكرة العدالة مفقودة عند هذين النوعين، والنساء على الأغلب لا يملن إلى العدالة المجردة، بل يفضلن عليها عدالة القلب. من ذا الذي يستطيع أن يقنع الوالدة أن ابنها لا يستحق النجاح في الفحص؟ العدالة ضيقة النطاق، وقلب المرأة أوسع من أن يتقيد بهذه الحدود الضيقة. قد تكون العواطف للعقل نوراً وللإرادة قوة، وقد يبعث الهوى على التضحية

ص: 12

الخالصة فيذهب إلى ما وراء العدالة ويكشف الحجاب عن ذخائر القلب فينشرها ويذيعها ولكنه كثيراً ما يشوش أحكام العقل فيملأها ظلاماً.

3 -

المرأة الحساسة الذكية: وقد تكون العاطفة مصحوبة بقوة من الذكاء خفية لا تخلو من الدقة وحدس الحياة، فتربط المرأة عواطفها بأفكارها وتريد أن تتغلب بها على مشاكل الحياة. إن هذا النوع من النساء قوي الملاحظة والانتباه والذاكرة، واسع الخيال شديد الحس، إلا أن قوة الحكم عنده مشوبة بدخان العاطفة وسائق الغريزة. لذلك تجده قوي الشعور بالمنفعة كثير الميل إلى العمل. كالزوجة التي تشعر بالرابط الاجتماعي وتقدره حق قدره وتبدل بعواطفها العفوية بالفكرة الاجتماعية أو الخلقية أو الدينية؛ وكالوالدة التي تدرك نظام الحياة فتتصور مثلا أعلى له ثم تهيئ أولادها للفوز في هذا النظام الجديد؛ فهي تشعر بمشاكل الحياة وتريد أن تتغلب عليها بقوة الذكاء والإرادة. فكم شاب لم يتطلع إلى المعالي إلا بتأثير والدته! وكم رجل لم يقدم على المغامرات السياسية أو المالية إلا بدافع من زوجته! وكثيراً ما تكون المرأة هي القوة المحركة والدماغ المفكر والعقل المدبر، ويكون الرجل هو الإله المتحركة والواسطة المبلغة.

4 -

المرأة المفكرة: إن هذا النوع الأخير اقرب إلى الاهتمام بالمباحث العلمية من الأنواع السابقة فهو محب للاطلاع ميال إلى المعرفة؛ إلا أنه كثيراً ما يضطرب أمام إشراق الفكر ويعجز جسمه اللطيف عن تحمل أعباء البحث. والسبب في ذلك أن النساء عشن حقباً طويلة تحت وصاية الرجال بعيدات عن الحرية والحياة، فلا غرو إذا ترددن في البحث وشعرن بالقلق في فضاء الفكر. وبالرغم من ذلك فان البنات اكثر اتباعاً للنظام من الصبيان. وقلما تجد فتاة تفضل الكسل عن الاجتهاد، بل إن اكثر البنات يصغين إلى أساتذتهن ويكتبن الامالي، ويحفظن دروسهن؛ إلا أنهن لا يزلن حتى الآن اقل جرأة فكرية من الصبيان، لأنهن يعتمدن على الذاكرة اكثر مما يعتمدن على قوة الحكم. وقد تبين لعلماء العصر أن استعداد المرأة للرياضيات قوي جداً وأن في وسعها أن تتعود التفكير المجرد، إلا أنها لا تزال قليلة الثقة بنفسها فلا تبحث إلا في الأشياء العملية النافعة أو في الأمور المحددة. ومع أن مدام بير كوري قد توصلت في العلوم التجريبية إلى درجة عالية فأن تلميذات فرع العلوم في الجامعات اقل ثقة بنفوسهن من التلاميذ، لان التجريب العلمي

ص: 13

يحتاج إلى جرأة وتنظيم، وهذان الأمران لا يزالان حتى الآن بعيدين المرأة.

ومما يؤيد هذا أيضاً أن النساء اللواتي اشتهرن بالفلسفة (كهيباتيا) وغيرها لم يبدعن مذاهب جديدة بل اتبعن المذاهب القديمة وحللنها وهذبنها. فالمرأة اقرب إلى الاتباع منها إلى الإبداع. وهي لا تقبل الحقائق المؤقتة، بل تريد أن يكون كل شيء نهائيا فتسبغ على الحقائق العلمية حلة دينية وتقلب النسبي إلى مطلق. إن تلاميذ الفلسفة يفضلون الكليات الفلسفية على الجزئيات، فيضخمون الفكر البسيطة ويعممونها حتى تشمل الكون كله. أما تلميذات الفلسفة فيملن إلى الجزئيات ويرغبن في التحليل دون التركيب: فعقل المرأة عقل تحليلي، أما عقل الرجل فعقل تركيبي. نعم إن المرأة واسعة الخيال ومن صفات الخيال الواسع أن ينشئ ويبدع، إلا أن خيال المرأة يصلح لتبديل صور الأشياء وتغيير حقائقها لا لإنتاج الفرضيات المنظمة وإصلاح الواقع بها.

تلك هي أنواع النساء من الوجهة النفسية. فالمرأة الحساسة تصلح للشعر والموسيقى والتصوير والتمثيل، والمرأة الحساسة الذكية تصلح للحياة العملية من تجارة وإدارة، والمرأة المفكرة تصلح للعلم والفلسفة. وقد تمتزج هذه الصفات فتجتمع في امرأة واحدة فيكون منها نوع معتدل صالح للقيام بجميع الأعمال.

وقد أخذت صفات المرأة تتبدل في الهيئة الاجتماعية الحديثة لأنها قد شاركت الرجل في جميع الأعمال من تجارة وصناعة وإدارة واقتصاد وسياسة، فساقها التطور إلى استبدال كثير من صفاتها القديمة بصفات جديدة، فاستبدلت بالحياء الجرأة وبالخشية الاقدام، وبالسكون الحركة، وبالسذاجة الحيلة، وبالعبودية الحرية، وبالعاطفة العقل. واعتقد أن هذه الصفات الجديدة لا تفسد جمال المرأة بل تزيد سحرها قوة، لان العلم لا يجفف القلب بل يبدد ظلمات الغريزة، وينير طرائق العقل، ويكشف عن جمال الأشياء ويولد في المرأة صفات نفسية مشابهة لصفات الرجل في تفكيره وانفعاله وفعله؛ ويقلب حياة المرأة الاتباعية إلى حياة مفعمة بالحرية والإبداع. وما ادري لعل التطور يكشف لنا في المستقبل عن نوع جديد اكمل من هذه الأنواع الأربعة تتحد فيه العاطفة بالفكر والإرادة بالعقل. إن الأحلام ليست اقل تأثيراً في التطور من اشتباك الأسباب الحقيقية واختلافها.

جميل صليبا

ص: 14

رئيس التعليم الثانوي بدمشق

ص: 15

‌من برجنا العاجي

رأيت في نومي البارحة رؤيا أفزعتني: رأيت أني تزوجت. ولم تبين الرؤيا كيف تم ذلك، ولكن وجدت نفسي على فرش وثيرة من الدمقس الأزرق في حجرة جميلة ذات سجف من حرير متألق متماوج الألوان كرقبة اليمامة. وسمعت حولي من يقول:

- هذا جهازها

- جهاز من؟

- عروسك

- ومن الذي زوجني؟ وممن العروس؟

- من بيت حسب ونسب. ذات جمال ومال وحلاوة لسان. وهي فرصة كان لا بد من انتهازها. وقد علت بك السن وكاد يفوت أوان الزواج

- ومن انتهز لي هذه الفرصة؟

- أولاد الحلال، من قرائك المعجبين الذين يهتمون لأمرك

- شيء لطيف. وهؤلاء القراء المعجبون الذين زوجوني، كيف فعلوا ذلك؟ وأين وجدوا لي هذه العروس. .؟

- لا شأن لك بكل هذه التفاصيل. ولا تشغل بالك إلا بما أنت فيه من نعيم مقيم

- والعروس؟ أسبق لي رؤيتها؟

- لا. ستراها الليلة

- عجباً! وكيف يزوجوني ممن لم أرها ونحن في القرن العشرين؟ آه أيها الناس! إن هذا جاوز الحدود. . .

- هي أيضاً لم ترك

- أقرأت كتبي؟

- لو كانت قرأت كتبك لما تزوجتك

- وكيف إذن أقنعوها؟

- قالوا لها عنك كل شيء إلا الأدب والتأليف. فقد وجدوا من الحكمة وأصالة الرأي كتمان ذلك عنها إلى أن يتم العقد ويتعذر النقص

وفتحت عيني في الصباح وأنا أقول: (اللهم أحمدك على استيقاظي قبل تمام العقد، وقبل

ص: 16

مواجهة الفتاة بذلك العيب الذي لا يغتفر! نعم إن المرأة لن تتغير. إن شئون الفكر عندها شيء مخيف، وكم من شعراء وأدباء أخفوا على نسائهم كنوز عقولهم ولم يظهروا لهن إلا كما يردنهم: رجالاً مبتذلين كبقية الرجال!)

توفيق الحكيم

ص: 17

‌ليلى المريضة في العراق

للدكتور زكي مبارك

- 14 -

نحن في اليوم الرابع من أيام المؤتمر الطبي العربي الذي بث الابتهاج والانشراح في أرجاء بغداد، وأنا امضي إلى مدرج كلية الطب لألقي محاضرتي عن المصطلحات الطبية فأجد اسمي فوق اللوحة آخر الأسماء؛ وأتلفت فأرى فتاة من قريبات ليلى جاءت لتسمع محاضرتي فأحقد على منظم المنهج، لأن هذه الفتاة قد تضجر فتنصرف قبل أن تسمع صوتي، فأنتهز أقرب فرصة وأدخل في مناقشة حامية مع الدكتور فؤاد غصن؛ وينهزم الدكتور فؤاد غصن، فتصفق تلك الفتاة. وما اسعد الخطيب الذي تصفق له فتاة بغدادية ساجية الطرف مصقولة الجبين!

رباه! متى يعقد المؤتمر الطبي مرة ثانية ولو في الصين؟!

ويقوم سعادة الأستاذ علي الجارم بك فيلقي محاضرته في صوت مطلول كأنداء الصباح

ثم يقوم فضيلة الشيخ السكندري فيلقي محاضرة نفيسة جدا تضج لها الأرض وتطرب السماء، ويصيح الدكتور القيسي: تحيا مصر! تحيا مصر!

واقبل عليه اشكره على التحية التي وجهها إلى مصر فيقول: كنت اضن الذكاء المصري خرافة أذاعها المصريون. واليوم رأيت وتحققت أن المصريين أذكياء وعلماء، وقد تبددت الصورة المشوهة التي ارتسمت في ذهني بسبب الجموح الذي شهدته فيمن عرفت من الطلبة المصريين في باريس

وأعتذر عن جموح شبابنا فأقول: لا تلم شبابنا على المرح والطرب، فنحن شعب طال عهده بالهموم والأرزاء فهو يروح عن نفسه بتكلف السرور والارتياح. أما سمعت قول شاعركم الزهاوي في مخاطبة أم كلثوم:

يا أم كلثوم إنّا أمةُ رزحتْ

تحت المصائب أحقاباً فسلٌينا

ويجئ دوري في الخطابة فأعتلي المنبر في زهو وخيلاء. ثم يروعني أن أرى الناس ينصرفون، فأذكر أن الموعد حان للغداء في مضارب بني تميم، وأن المستمعين الكرام يفهمون جيداً أن الغرق في المرق أشهى وأطيب من بلاغة سحبان!

ص: 18

ويرى سعادة الدكتور عبد الواحد الوكيل بك أني متألم متوجع فيهمس في أذني أن المدرج لم تبق فيه فتاة واحدة. فأسأل: وكيف؟ فيجيب بأن وعورة البحث الذي ألقاه الشيخ السكندري أملتْ جميع الفتيات فانصرفن عابسات. ويسرني ألا تشهد فتاه هزيمتي فأقول: إلى الغد، إلى الغد، يا حضرات الزملاء!

وقبل أن أدخل في تفاصيل ما سأراه، أذكر أني زرت ليلى شفاها الله في مساء ذلك اليوم فحدثتني أن خطبة الشيخ السكندري ملأت مسامع أهل بغداد، ولكنها أنكرت أن يتحذلق الشيخ السكندري فيقول:

إن الأوكسجين مثنى أوكسيج، وإنه يرفع بالألف وينصب ويجر بالياء

فأصرخ في وجه ليلى: هذا كذب، هذا افتراء!

ثم أعرف بعد ذلك أن هذه دعابة ثقيلة أذاعها مصري خبيث يقيم في بغداد

ولم انجح في إقناع ليلى بأن هذا افتراء على الشيخ السكندري إلا بعد أن هددتها بالغرق في دجلة، وليلى تحبني يا بني أدم، فلا تستغربوا أن يهولها هذا التهديد.

ثم أخرج للبحث عن سيارة تنقلني إلى مضارب بني تميم، فلا أجد غير سيارة بالأجرة، فأتردد، لأني لم أدخر درهماً واحداً في بغداد، فقد أنفقت مالي على المطابع، وعند الله جزائي

واهم بالزهد في الوليمية التميمية فأسمع صوتاً يقول: سيارتي في خدمتك يا دكتور زكي. فأنظر فإذا طبيب لا اعرف اسمه، ولو عرفته لشرفت به هذه المذكرات، فأقول: ولكن معي صديقان فضيلة الشيخ السكندري والأستاذ عبد المنعم خلاف. فيقول: سيارتي في خدمتكم جميعاً يا مولاي

وقبل أن أدخل في التفاصيل أذكر أني أعطف على عبد المنعم خلاف لسببين: أما السبب الأول فلا اذكره، وهو يعرف ما اعني. وأما السبب الثاني فهو أن الشقي يشغل نفسه منذ أشهر طوال بالبحث عن مصدر الوحي: الوحي الهائل الخطير الذي جعل الدكتور زكي مبارك يكتب ثلاث مقالات في كل يوم بالرغم من اشتغاله بالتدريس والتأليف. وسيموت الشقي قبل أن يعرف مصدر الوحي. وسيموت قبله مصريون آخرون يهمهم أن يعرفوا كيف استطاع الدكتور زكي مبارك أن يكون أصدق من استرقتْ بغداد.

ص: 19

ونمضي في السيارة على غير هدى في صحبة الطبيب النبيل الذي ينقلنا إلى مضارب بني تميم؛ ثم نتلفت فجأة فنرى نحو عشرين سيارة تتعقبنا فنعرف أننا ضللنا مع أننا في رحاب عقرقوف الذي خلد اسمه أبو نؤاس في رحلته إلى مصر، مصر التي فيها الزمالك ومصر الجديدة وحلوان، والتي تسدل ستائرها على الجدائل المعطرة التي تشعثت بعد رحيلي إلى العراق

رباه! إنك تعلم أن الظلام في مصر الجديدة أندى وأطيب من النور الوهاج، فمتى ترجعني إليه!

ونصل إلى مضارب بني تميم فنرى أفواجاً من الفرسان ينتظروننا على طول الطريق وهم يحيوننا بأناشيد كلها رفق وحنان. وفي زحمة الاحتفال يجئ طبيب نبيل فيدعوني للتسليم على سيدتين كريمتين، لا اذكر اسمهما تأدباً، ولو شئت لقلت انهما من النفحات الربانية، وقد رحلت الأولى إلى القاهرة وبقيت الثانية في بغداد. فإليهما أقدم تحيتي وثنائي، والأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف. ويمد السماط، أو السماطان، أو الأسمطة، كما يشاء كرم الشيخ حسن سهيل ثم يشيع بين الجمهور أن رجلاً غرق في المرق، فيصيح الطفل الجميل الذي اسمه عمر: بابا، بابا، أحب أن اطمئن على الدكتور زكي مبارك. فيقول سعادة وزير مصر المفوض في العراق: اطمئن يا بني، فان الدكتور مبارك من كبار السابحين!

ويقف عميد بني تميم ليخطب فيشتد التصفيق؛ ويقف الشيخ السكندري ليخطب فيشتد الهتاف؛ ثم يقول صديق كريم بصوت جهوري: الدكتور زكي مبارك يلقي كلمة العراق، فيتلفت وزير المعارف قائلا: ماذا؟ ماذا؟ فيجيب الصديق الكريم: الدكتور زكي مبارك يخطب باسم العراق: فيقول معالي الوزير: نعم، نعم، من حق الدكتور زكي مبارك أن يخطب باسم العراق وألقى خطبة رنانة أشكر فيها إخواني المصريين وأقول إن حياتي طابت في العراق وإنني لا أحب الرجوع إلى مصر، فأرى دموع الشيخ السكندري تنحدر واسمعه يقول: وهل نسيت سنتريس؟!

فأقول بصوت صاخب: ونسيت سنتريس! ومن واجبي أن أسجل في هذه المذكرات أني لم أر في حياتي أياماً أطيب من أيام العراق. وسأظل من أنصار العراق فيما بقي من حياتي.

ص: 20

حيا الله العراق، ونصر الله العراق!

أما بعد فنحن في منتصف الساعة التاسعة من مساء 12 فبراير سنة 1938 وهو مساء لم تشهد مثله بغداد منذ أجيال. وهذه سهرة في بهو أمانة العاصمة أقامها الطبيب الشاب الدكتور شوكت الزهاوي. وهذا الدكتور زكي مبارك الملحد الفاجر فيما يزعمون، يتلفت عن صاحبة العينين فلا يرى صاحبة العينين. ولكنه يرى الطبيب النبيل الذي سيقبل من اجله ثرى بغداد يوم يفارق بغداد، فيستشير صديقه فيما يأتي وما يدع، فيعرف أن السهرة تنقسم إلى قسمين: قسم عربي وقسم إفرنجي، فأقول: النبي عربي، ولسان أهل الجنة في الجنة عربي.

وأمضي إلى القسم العربي فأجد الوزراء جميعاً وعلى رأسهم فخامة الرئيس. واخرج عن وقاري فأمضى إلى رئيس الوزراء وأقول: سيدي، أتسمح بان أسجل في مذكراتي أن إيثارك الجلوس في المرقص العربي وفي ذاته تزكية نبيلة للثقافة الذوقية في حياه العروبة؟ فيبتسم ابتسامة القبول

وأعود إلى مكاني واجعل مكاني كله المرقص، وما هو في الحقيقة بمرقص، ولكنه مغنى كما يعبر المصريون. وانظر فإذا فتاة مليحة جداً تجلس بين القيان وعليها سيما الذل، فيزعجني أن تعجز عيونها الساحرة عن الاستبداد بألباب الناس، فأنظر إليها بترفق وارفع الكأس، فتنظر بحنان وترفع الكأس، ولا يكفيني ذلك، بل اصنع الصنيع نفسه مع سائر الفتيان؛ ويتقدم رجل لم تذهب الكأس بوقاره فيقول: يا دكتور مبارك، إن مكانك قريب جداً من فخامة رئيس الوزراء ولعله يتأذى مع مداعبة الفتيان، وأنا أرى أن ما تصنع لا يليق بمقامك

فقلت في عبارة صريحة: إنما اصنع هو الذي يليق بمقامي فتلعثم الرجل وقال: لطفاً ياسيدي، لطفاً! ولكن هل أتستطيع أن اعرف جوهر رأيك في هذه القضية؟

فقلت وأنا أجد كل الجد: لست يا سيدي بفاجر ولا أثيم وإنما أنا رجل مؤمن، ومن واجب المؤمن أن يتوجع لألام المنكوبين، وهؤلاء المغنيات والراقصات يعانين ابشع نكبة قاستها الإنسانية، فهن مسؤولات عن الوصول إلى قلوب الناس. يا ويل من يحكم عليه الزمن بأن يكون من صنعته أن يرضي الناس؛ والناس يا سيدي يغلب عليهم اللوم فلا يقابلون من

ص: 21

يخطب رضاهم بغير الجحود، فهل يسوؤك وأنت عراقي كريم أن أكون من الكرماء؟ هل يسؤوك أن أُدخل السرور على قلب فتاة بائسة قضى عليها الزمن الجائر بأن تطلب رضاي ورضاك؟

فهدأ الرجل قليلا ثم قال: وما رأيك في هذا؟

فقلت: وما هذا؟

فقال: أما رأيت الراقصة ترفع الثوب عن فخذيها في وقاحة وسفاهة؟

فقلت: نعم رأيت، ثم رأيت؛ ولكن من الملوم؟ أن الراقصات يعرفن أن فينا الغوي والسفيه والمجرم، فهن يتقربن إلينا بتزين الرجس والدعارة والفحش. ولو كنّ يعرفن أننا جميعاً نغار على الكرامة لما جاز لإحداهن أن تكشف عن قدم أو ساق ويقوم المغني المطرب محمد القبانجي فينشد:

أأحبابنا قد فرق الدهر بيننا

فأصيح: قد جمع الدهر بيننا

فيعرف أنه لم يراع المقام ثم تكون أغانيه بعد ذلك ضرباً من الارتجال

وانتقل من مكاني لأرى كيف تموج الدنيا في المرقص الإفرنجي فأعثر على الراقصة التي كنت أداعبها بالكأس منذ لحظات، واحييها فلا ترد التحية، كأنها ظنت أنني كنت في مداعبتها من الماجنين

أنني أفهم حالك أيتها الصبية المسكينة، ويسرني أن أراك تتمنعين فالناس كلهم وحوش. ولا استثني نفسي فلتحذري وليحذر أمثالك من حسن الظن بالناس

طوفت بالمرقص الإفرنجي لحظات لأرى صاحبة العينين، ولم أجدها فأين ذهبت؟ أين ذهبت؟ دلوني فقد عيل صبري. وفوق أي مخدة نام ذلك الخد الأسيل؟ يرحمك الحب يا قلبي!

تحيا إنجلترا!!

كذلك قلتُ، فدهش السامرون

تحيا بريطانيا!!

كذلك قلتُ، فتعجب السامرون

ص: 22

تحيا بريطانيا العظمى!!

كذلك قلتُ، فضج السامرون

وماليَ من ذنبٍ إليهم علمته

سوى أنني قد قلت يا سرحة اسلمي

نعم فاسلمي ثم اسلمي ثمة اسلمي

ثلاث تحيات وإن لم تَكلمي

لقد كنت من أعضاء الحزب الوطني، وكنت من أوفى الناس لمبادئ مصطفى كامل ومحمد فريد وعبد العزيز جاويش. وكنت أذيع مبادئ الحزب الوطني بلباقة في الجرائد الوفدية، وكان الوفديون يعرفون صدقي وإخلاصي ونزاهتي فيتسامحون ويدعونني أذيع في جرائدهم ما أشاء. ولما أمضيت معاهدة التحالف بين إنجلترا وبين مصر قررت أن أولف كتاباً أدعو فيه المصريين إلى أن يتذكروا دائما أن إنجلترا كانت غزت مصر ورزأتها بالاحتلال.

فما الذي جد في أفق السياسة حتى أهتف بحياة إنجلترا في بغداد؟

ما الذي جد حتى يتغير زكي مبارك الذي أضاع نفسه في مصر بفضل حرصه على مبادئه الوطنية وانعزاله عن الأحزاب التي تملك مصاير الأمور في أكثر الشؤون؟

فقد كنت ألمح من بعد فتاة تسارقني النظر بعينين زرقاوين، وكنت لا املك الانتقال إليها ولا تملك الانتقال إلي؛ وكان جاري رجلاً ظريفاً كسائر البغدادين، فترك مقعده عمداً لأستطيع دعوة الفتاة إلى جواري. ولم تنتظر الفتاة الدعوة، فما هي إلا لمحة طرف حتى كان وجهها إلى وجهي، وكلمتني بالإنجليزية فلم أفهم، فاستوضحتها بالفرنسية فلم تفهم، فقالت بلسان عربي ملحون ما معناه: أرجوك أن تطلب من سليمة باشا أن تغني:

على بلد المحبوب وديني

ودار الصوت على الحاضرين ويدها في يدي، وعينها في عيني؛ وتلطف الكرام الكاتبون فلم يسجلوا غير الجميل

وبعد لحظات همت الفتاة بالانصراف، فجذبتُ يدها أقبلها فسمحت بعد تمنع واستحياء

ولم يكُ غير موقفنا فطارتْ

بكل قبيلةٍ منا نَواها

فواهاً كيف تجمعنا الليالي

وآهاً من تفرقنا وآها

ثم يجئ اليوم الخامس فألقي محاضرتي في كلية الطب، وأُعربد على الدكتور عبد الواحد

ص: 23

الوكيل وعلى الأطباء المصريين، وأزعم أن أساتذة الطب في مصر من أكسل الناس، ولولا ذلك لنقلوا علوم الطب إلى اللغة العربية. ويصفق الحاضرون، ويقبل الجارم لتهنئتي فأقول: أنا تلميذك. فيقول: لقد بذذت أساتذتك.

ويجئ المساء فأذهب إلى الحفلة التي تقيمها الجمعية الطبية المصرية فأراها وا أسفاه حفلة مصرية حقاً وصدقاً، فلا شراب ولا رقص ولا غناء، فأقول في نفسي فضحتمونا يا ناس!

ولكن الدكتور عبد الواحد الوكيل ينقذ الموقف فيلقي خطبة يقول فيها إن الجمعية الطبية المصرية عرفت أنها تعجز عن إقامة حفلة كالتي أقامها معالي أمين العاصمة، أو حفلة كالتي أقامها سعادة رئيس الجمعية الطبية العراقية، فقررت أن تقيم حفلة ترقص فيها الخطب ويغني فيها البيان

الله أكبر! الله أكبر!

وكذلك قضينا ثلاث ساعات في سماع الخطب والقصائد، ثلاث ساعات قضيتها في كرب، لولا الخطبة الظريفة التي ألقاها سعادة العشماوي بك، ولولا الوجه الأصبح الذي كنت أتعزى بالنظر إليه

ويجئ اليوم السادس وهو رحلة إلى السدة الهندية وأطلال بابل وأصل إلى القطار في آخر ثانية، فقد كنت في شواغل غرامية عاقتني عن مراعاة الموعد؛ ولكن حظي كان سعيداً، ولا أذكر كيف، فقد تتأذى بذلك بعض الوجوه الصباح. ويمر القطار على قرية اسمها الإسكندرية فأقول: لعل هذه هي البلدة التي ينسب إليها أبو الفتح الإسكندري الذي يروي عنه عيسى ابن هشام في مقامات بديع الزمان؛ وأملأ عيني من نخيلها وأكواخها لأكتب عنها كلمة في الطبعة الثانية من كتاب (النثر الفني)

ثم يقذفنا القطار إلى السدة الهندية، وليتنا غرقنا هناك! والسدة الهندية قنطرة ظريفة على الفرات؛ وللفرات فيها هدير جذاب يذكر بهدير النيل على الرياح المنوفي بالقناطر الخيرية. وقد وقفت على السدة الهندية لحظات ظفرت فيها بموعد سأنعم به يوم أعود إلى وطني، إن كان لي إلى ارض الوطن معاد

لا تحزن يا قلبي، فليست هذه أول غربة، فقد كنت غربياً في كل أرض حتى في سنتريس!

لا تحزن يا قلبي، فأقرب الناس إلى الله هم الغرباء، لأن الغريب يؤدي امتحاناً في كل

ص: 24

لحظة، وتدرسه العيون في كل مكان، ويؤدي حساباً إلى كل مخلوق، ويعجز عن إصلاح ما يفسد المفترون

لا تحزن يا قلبي، فكل غيم يتلوه صحو، وكل ليل يعقبه صباح.

لا تحزن يا قلبي، فأنا بجانبك أرعاك وأواسيك، وسأكفنك بدموعي إن قضى الله أن تموت غريباً بين القلوب

لا تحزن يا قلبي، لا تحزن يا قلبي!

ما هذا؟ ما هذا؟

أتريد أن تفر من قفص الضلوع؟

والى أين؟ حدثني إلى أين؟ إلى أين يا جاهل؟ فأنت تجمح إلى قلوب عرفت من بعدك كيف يحلو اللهو، وكيف تقرع الكأس بالكأس، وكيف تطيب الأسمار والأحاديث. إلى أين؟ حدثني إلى أين؟ وهل لك وطن أيها القلب؟

حدثني أين وطنك فقد نسيت! أيكون وطنك بين تلك القلوب الغوادر التي تضن عليك بخطاب تكاليفه عشرة فلوس؟ أيكون وطنك عند تلك الإنسانة الغادرة التي قطعت حبل الود لأني دعوتها لزيارتك متنكرة في بغداد؟

أين وطنك يا قلبي؟ أحب أن أعرف أين وطنك لأمضي معك إليه. أهو مصر؟ كذبت، ثم كذبت، فلو عرفتك مصر حق معرفتك لكان لك اليوم مكان مرموق، ولكنك في مصر منبوذ مجهول

قلبي! قلبي! رحمه الله عليك، فقد سعد ناس بالرفق المزيف، وشقيت أنت بالرفق الصحيح

وقد وصل ناس لأنهم كذبوا، وتخلفت أنت لأنك صدقت.

ونَعمَ ناسُ لأنهم خانوا، وشقيت أنت لأنك وفيت

وتقدم ناس لأنهم هزلوا، وتأخرت أنت لأنك جَدَدْت. وانتفع ناس لأنهم غدروا، وخسرت أنت لأنك وفيت

قلبي! قلبي! أحسن الله إليك!

أنظر يا جاحد! فها نحن أولاء في رحاب أسد بابل؛ وهذه صاحبة العينين. نعم هذه صاحبة العينين أما ترى يا قلبي؟ أما ترى يا جاهل أن صاحبة العينين تُنحّي زوجها بعنف لتظهر

ص: 25

في الصورة بجانبك؟ اعترف يا جاهل بأن الله رعاك حين كتب أن تظهر في صورة عالمية في رحاب أسد بابل وفي جوار صاحبة العينين. اعترف يا جاهل بأنك كنت في إحدى لحظاتك أسعد القلوب

مولاتي صاحبة العينين:

أعترف بأني آذيتك بعض الإيذاء، أو كل الإيذاء؛ ولكن الشاعر مغفور الذنوب، لو تعلمين؛ وقد قرأ الناس مذكراتي في مجلة الرسالة فعرفوا من أنت. فهل أطمع يوماً في أن تعرفي من أنا؟ وهل يعرف زوجك المفاضل أنني شاعر لا يهمه غير أنس الروح بالروح؟

المهم عندي يا مولاتي أن يعرف أبناء العروبة أن الجمال غير مقصور على من أنجبت لندن وباريس وبرلين، وأن في بغداد ودمشق وبيروت ومكة والمدينة وصنعاء والقاهرة والإسكندرية والمنصورة ودمياط وتونس ومراكش والمقدس وما شاء الهوى من الحواضر العربية أروحاً فيها جمال وصفاء

مولاتي صاحبة العينين:

لست بالرجل الفاجر، كما يزعم المرجفون، وإنما أنا رجل شاعر يؤمن بأن من الوطنية أن يحبب العرب في بلادهم بالإشادة بما فيها من صباحة وملاحة وأخلاق

فهل أستطيع أن أمر على بلدكم الجميل في طريقي إلى مصر، مصر التي فيها الزمالك وحلوان؟ مصر التي فيها شارع فؤاد، والتي فيها الزيات ومحمد الهراوي ومحمد عبد الوهاب ومدحت عاصم والمخلوق السخيف الذي اسمه عبد الله حبيب؟ مصر التي فيها أحمد فريد رفاعي وطه حسين وإبراهيم مصطفى وأمين الخولي وعبد الحميد العبادي واحمد أمين؟ مصر التي فيها المكتبة التجارية والجامعة المصرية؟ مصر التي فيها هوى القلب وشفاء الفؤاد؟

مولاتي صاحبة العينين:

أنا أشرف من العصابة التي حرستك مني، فاسمحي لي بتقبيل قدميك قبل أن أموت، ولكن. . . ولكن. . . .

ولكن أينسيني حديث العينين وصاحبة العينين ما شهدت يوم زيارة القوة الجوية العراقية؟

إن تلك الزيارة تمثل روح العصر أصدق تمثيل، فقد كان المفروض أن يحلق في الجو

ص: 26

بعض أعضاء المؤتمر الطبي، وكان المظنون ألا تظهر هذه الرغبة إلا عند عدد قليل من الأعضاء

ثم ظهر أن الناس كلهم يريدون امتطاء الطيارات حتى خشينا ألا يمر ذلك اليوم بسلام

وما كان يهمني أن أشترك في هذه النزهة فقد عرفت أمثالها من قبل وسجلتها في كتاب ذكريات باريس، ولكني رجوت أن يكون هذا الزحام فرصة أداعب فيها فتاة أو فتاتين أو ثلاث فتيات، ثم هالني ألا أرى غير جماعات من (الخناشير) كلهم شعثُ غبرٌ كأنهم قدموا من البيداء، ومزاحمة هؤلاء ضرب من الضياع

ومع ذلك صممت على الاشتراك في هذه النزهة، ولكني لم افلح، فما كانت طيارة تنزل حتى يهجم عليها الناس كالوحوش ورجعت أتعثر في أذيال الخيبة فما كدت اصل إلى باب المطار حتى سمعت رجلاً يقول:

- أتريد أن تطير يا دكتور؟

- نعم، يا سيدي احب أن أطير!

فدعاني إلى سيارته فركبت ومضينا إلى ناحية قصية فطلب طيارة وقال: (هذه في خدمتك فأدع إلى مصاحبتك من تشاء) فنظرت فإذا سيدة (تائهة) فأخذتها معي وطرت

وعند النزول رأيت السيارة وصاحبها في انتظاري فركبت معه إلى المقصف وأجلسني مع جماعة من الضباط، ثم قال بعد تناول الشاي والحلوى والفاكهة:(خذ حريتك يا دكتور وطوِّف حيث شئت)

فلما تركته كان أكبر همي أن أعرف من هو، فسألت فعرفت أنه سعادة أمير اللواء حسين فوزي باشا رئيس أركان الجيش ومع هذا يعجب ناس حين يرونني أطيل القول في الثناء على العراق وأهل العراق

انتهت أيام المؤتمر، سقاها الغيث، ولكن جد ما لم يكن في الحسبان، فقد أذاع رئيس الجمعية الطبية العراقية أن البصرة هي المدينة التي ولدت فيها ليلى المريضة في العراق. وكنت خليقاً بأن أعرف ذلك من قبل، ولكن ليلى لم تحدثني عن وطنها الأول، ولم أسال عنه ظمياء، فرأيت الفرصة سانحة لأن أمضى مع أعضاء المؤتمر لرؤية الثرى المندى بالعطر والريحان، الثرى الطاهر الذي عرف النعيم يوم كان يتخطر فوقه ذلك القد الرشيق

ص: 27

إلى وطنك يا ليلاي، إلى البصرة، إلى النخيل، إلى شط العرب الذي تحترب في سبيله أمم وشعوب، إلى وطن الجاحظ، إلى وطن المبرد، إلى وطن مولاي الحسن البصري امتطي القطار في ظلام الليل

(للحديث شجون)

زكي مبارك

ص: 28

‌قضية اللغة العربية

للأستاذ احمد خاكي

1 -

التقدم واللغة:

يذهب الجمهرة من المربين في العصر الحديث إلى أن الغاية من التربية ينبغي أن ترمي إلى تدريب الطفل على أكثر أنواع المهارة التي تتطلبها حياته الحاضرة والمستقبلة، والتي تقتضيها الحضارة وطلب الرزق. بل لقد آمن الكثير منهم بأن الحضارة في نفسها تقوم على المهارة فحسب، وأن العصر الحالي يمتاز فيما يمتاز به بتلك الوجهة الآلية التي تلزمنا بها حاجات الحياة، وأن التقدم رهين بما تحسنه الجماعة من أنواع المهارة، وأننا لن نبلغ المثل الأعلى الذي يحدونا إلى التقدم حتى نتقن أكبر عدد منها

ويذهب أصحاب اللغات إلى هذا الرأي فيما يتصل بتعليمها. فقد أمن هؤلاء على كل ذلك وزادوا عليه أن تعليم اللغات هو في نفسه ضرب من ضروب المهارة التي يجب أن يكسبها المتعلم حتى يوفق بين نفسه وبين البيئة التي يعيش فيها. بل هو لا بد مرغم على كسبها إذا هو تطلع إلى لون من ألوان الحياة أزهى من ذلك الذي اعتاده آباؤه وأجداده. فاللغة عند هؤلاء شبيهة بالمشي أو الجري أو تناول الطعام أو إحسان الرماية أو الطيران. فهي لا محيص للناشئ من أن يتلقنها في بيئته، بل هو مجبول على تلقنها ما دام يرى أن حياته تقوم على الاجتماع بسائر الأفراد، وان اتصاله الفكري مع من حوله لا يستقيم إلا إذا تلقن لغتهم كتابة وقراءة وحديثاً. واللغة فوق ذلك مهارة سامية جديرة بالإحسان ولأنها تتحمل في اطوائها تراث المدنيات التي تحدرت إلينا، ولأنها - إذا كانت أجنبية - مفتاح لمدنيات أخرى تغلغلت في تاريخ البشرية نفسه واللغة بعد ذلك دليل على التقدم الفكري لأنها الوسيط الذي تتجسد فيه الأفكار والآراء. وليست اللغة من ذلك الوجه إلا رموزاً أطلقت على المعاني التي تتدفع في نفس الإنسان. وهي التي تسيطر على موارد تلك المعاني ومصادرها. فكل كسب لتلك المهارة التي نسميها (اللغة) إنما هو تحديد لغذائنا الفكري. وكل تحديد لتفكيرنا إنما هو فتح جديد للمنطق والفلسفة بل فتح لسائر العلوم

فإذا كانت اللغة تفيض بالمفردات التي تصف كل فكرة دقيقة من تلك الأفكار، وإذا كانت ألفاظها قد تطورت مع الحضارة حتى كان كفيلة بأن تصف المعاني التي تنثال في خواطر

ص: 29

المتحضرين، كان ذلك دليلاً على كفايتها في مسايرة التقدم العقلي. وليست قضية اللغة عندنا قضية ألفاظ فحسب، ولا هي قضية تراكيب، إنما القضية عندنا في كفاية تلك الألفاظ وهذه التراكيب. فهل استطاعت هذه أن تساير الحضارة الحديثة؟ وهل استطاعت أن تنقل معانيها إلينا؟ ذلك ما نشك فيه ونحن نشك في شيء آخر غير ذلك. انه لا يمكن لغة أن تساير الحضارة أو الثقافة إلا إذا كانت مرنة تتسع لكل معنى حديث. وتلك المرونة التي تظهر بجلاء في لغة كالإنجليزية قد فقدت مكانها في لغة كالعربية. وهي قد فقدت مكانها في لغات أخرى قبل لغتنا ألانها قعدت عن أن تماشي الحضارة في تقدمها. وأخص ما تمتاز به الإنجليزية هو ذلك الاستيعاب الذي يظهر في كل وجه من وجوهها؛ فهي قد استوعبت ألفاظاً من كل قطر حلت فيه فئة من الإنجليز. وألفاظها تواتي المتحدث بها في كل موضوع يطرق، لكننا نتشكك كثيراً فيما إذا كانت العربية والإنجليزية سواء. فالعربية غير مرنة؛ وهي لغة تقليدية تتولى عن الألفاظ الدخيلة؛ وقد بدأت تساير الحضارة الحديثة منذ وقت قليل لما يكف لتغذيتها بألفاظ تطلق على المعاني التي تجدد في كل ساعة من ساعات الحضارة

لم يكن لنا أن نذكر كل ذلك لولا أننا نؤمن بأن في اللغة استعدادًا لقبول كثير من الإصلاح. ولعل افعل إصلاح اللغة أن نبدأ بتفهم طرق التدريس التي من شأنها أن تجعل اللغة لغة أفكار ومعان قبل أن تكون لغة ألفاظ ومفردات، وتفهم طرق التربية التي تكسبها مرونة اللغات الأخرى. ويستطيع المعلمون أن يتغلبوا على تلك العقبات التي يلقونها إذا هم وجدوا أمة من أهل الرأي تجاهد معهم في هذا السبيل. على أننا سوف نكتفي في مقالنا هذا بذكر وجه آخر من علاقة اللغات، ثم بتحديد أغراضنا من دراستها. وسوف نعالج في مقال آخر الوسائل التي نراها

2 -

وحدة اللغة:

وفي كل الذي أسلفنا اكثر من دليل على أن عنايتنا بالغة ينبغي أن تحل عندنا المكانة الأولى بين مختلف المواد التي نعلمها. فهي حقيقة بالتقدير إذا تحدثنا عن أي مثل أعلى عالمي؛ وفي دراستها توحيد للمعنى السامي الذي ما زال يلعب بخيال الإنسانية، والتقدم الفكري رهين بالتقدم اللغوي، ولان اللغة أساس صالح لتلك المواد، ولأنها تتحكم في تلقينها

ص: 30

وفي تلقنها، فإنا نرى أن إصلاح التعليم في مصر رهين بإصلاح أساليبنا في تعليم اللغة العربية وفي تغير وجهتنا فيما يختص بالأغراض التي نرمي إليها بل اللغة العربية متصلة وثيق الاتصال باللغات الأجنبية التي نعلمها اتصالها بتعليم المواد الأخرى. وإذا نحن نظرنا إلى تلك المواد نظرتنا إلى مجموعات متوافقة من الأفكار والمعاني استطعنا أن نرى كيف تحدد اللغة تفكيرنا، وكيف تواتينا المقدرة على تفهم تلك المواد إذا كانت اللغة مهارة مكسوبة أحسناها. فاللغة في مفرداتها وصيغها تكون وحدة عامة متصلة الحلقات مشتبكة الاطراف، وهي في نفسها نتيجة لنماء العقل ونشاط التفكير. وليست مفردات اللغة كما قدمنا إلا رموزاً للأفكار التي يلتف بعضها حول بعض في حياة الإنسان العقلية، والتي تتألف حولها كثير من شعاب الدواعي. وحين يدرج الناشئ في السنين الأولى من طفولته يكسب كثيراً من تلك الأفكار التي يحاول أن يعبر عنها، فما تزال حائرة تتردد في نفسه حتى تستقر في تلك الرموز التي تواضع عليها الناس، وتصبح بعد ذلك مادة للحديث والتفكير والكتابة، وتصبح سبيلا إلى تفهم التاريخ والجغرافية والطبيعة وغير ذلك

ولعل الطفل في حياته اللغوية يمثل الإنسان الأول في كسب اللغة واصطناع ألفاظها، فهو يتدرج في تعلمها من المحسوسات إلى المعقولات، وهو يحسن كل الإحسان أسماء المرئيات، لكنه يعاني غير قليل من الجهد في تفهم المعاني. وقد مر الإنسان الأول في مثل عصر الطفولة حينما كان العالم نفسه طفلاً، وحين دفعته الحاجة إلى أن يتعلم الأسماء كلها. وتعقدت اللغة في أطوار الإنسانية حتى انحدرت إلينا وهي على ما هي عليه من التعمق والإغراق؛ وحتى أصبحت دراستها تقتضي نصيباً كبيراً من الحس المرهف والتفطن الدقيق

فلغة الإنسان إذن وحدة في ذاتها تتألف من شتات من الجزيئات، ولغته الأصلية هي التي صاحبت تكوينه العقلي. منها يستمد أفكاره ومنها يكون صوره العقلية، بل هي التي توحي إليه ما توحيه الكلمات من حب وبغض وسرور وحزن. ففي ألفاظها كل المعاني التي تجيش بصدره، وفي أعطافها ما يحرك قلبه ويهز فؤاده

ولان اللغة وحدة في ذاتها تجد بين لغة الإنسان الأصيلة وبين لغته الدخيلة أو الأجنبية كثيراً من الوشائج والأسباب، فلا يستطيع متحدث أن يعالج الكلام عن الثانية إلا إذا بدأ

ص: 31

بالأولى، ولا يستطيع متعلم أن يقرب لغة أجنبية حتى يتخذ الأصيلة عوناً على تفهمها. فاللغة الأصيلة هي سجل الذي تتنظر فيه مراحل تفكيره، وهي المرآة التي تنعكس عليها حياته العقلية والحسية في وقت معاً

من اجل ذلك كانت اللغة الدخيلة عالة في أفكارها ومعانيها على اللغة الأصيلة، وكان حرياً بها أن تكون كذلك عند الناشئين؛ فالحق أن الأفكار والمعاني لا تعرف ألفاظاً تحدها في موضع ضيق تتقيد به؛ ولأن اللغة الأصيلة نتيجة لتفكير الإنسان، ولأنها ثمرة لتقدمه العقلي كانت خليقة أن تكون أساساً لتعليم اللغة الأجنبية كما كانت الأساس في الدراسات الأخرى، وخليقة أن تمتاز بالجلاء والوضوح، وان يعني بها المربون أول شيء لأنها تتدخل في تعلم اللغات الأخرى وفي إحسان العلوم، بل في نمو الإنسان وتفكيره

ولقد ذهب إلى هذا الرأي كثير من الذين بحثوا دراسة اللغة وأخرجوه للناس كما لو كان كشفاً من كشوف العلم الحديث، وكانت الجمهرة من علماء التربية يرون منذ بضع سنين أن اللغات منفصلة، وان الإنجليزية مثلا لا تستقيم إلا إذا حسبنا تفكير الناشئ عن العربية في دروس الإنجليزية. وقد كان يشوب ذلك كثير من الخطأ، فلم يكن يعترف عقل المتعلم بتلك الحدود المفروضة التي ضربت عليه، وقد كان يخترق تلك الحدود، وكانت اللغة العربية تلتقي بالإنجليزية في تفكير الطفل مهما حاولنا المباعدة بينهما. وقام في السنين الأخيرة علماء مثل الدكتور (وست) صاحب الطريقة المشهورة يعترفون بتلك الصلة ويستعينون بها في تعليم الإنجليزية. وحدث على اثر ذلك انقلاب سريع في أساليب التعليم عندنا، وغدا للعربية وزن في تعليم الإنجليزية في الست السنوات الدراسية الأولى

وعندنا أن موطن الإصلاح الأول هو اللغة العربية. وإصلاح مثل ذلك لن يتناول طرائق التعليم، ولا أساليب الدراسة فحسب بل لا بد له أن يتأصل في مادة التفكير التي يتغذى بها التلاميذ. إصلاح مثل هذا سوف تتأثر به الجغرافية والتاريخ والكيمياء والفلسفة والمنطق، وكذلك سوف تستقيم به طرق التدريس التي نجاهد في إدخالها على اللغة الإنجليزية. ولعلنا لا نغلو كثيراً إذا قلنا انه أساس كل إصلاح آخر

3 -

الأغراض من تعليم اللغات:

ولأن يكون كلامنا محدداً، ولئلا نخلط بين اللغة الأصيلة واللغة الدخيلة، نرى أن نعالج

ص: 32

الغرض الذي ينبغي أن نلتزمه في تعلم اللغة العربية والغرض الذي ينبغي أن نلتزمه في تعلم اللغة الإنجليزية فإذا كان بين اللغة الأصيلة واللغة الدخيلة مثل تلك الصلات الفكرية، فإن بين الاثنتين فروقاً تحدد السبل التي نتخذها في تعليم كل منهما. فللغة كما قدمنا آثار تختلف على حياة الإنسان لها أثر عقلي عميق يكاد يحكم نمو إدراكه وتطور تفكيره. ولها بعد ذلك أثر حسي يتصل اتصالاً وثيقاً بفكرة الجمال التي يكسبها من الشعر والأدب. ثم إن لها أثراً عملياً أو نفعياً يغير منه في حياته كأي مهارة أخرى. وهذه الأنواع الثلاثة من الآثار هي التي تختلف على متعلم اللغة إذا أحسنت تنشئته على الأصول النفسية التي جهد في استنتاجها الذين أوتوا العلم من المعلمين والمربين.

ونحن في حديثنا عن اللغات يجب أن نفرق بين هذه الآثار وارتباطها باللغة العربية أو باللغة الأجنبية. أما اللغة العربية فإنه يتمثل فيها كل الآثار التي ذكرنا. لها أثر عقلي يصاحب الإنسان عند النشأة الأولى ويلازمه في كل طور من أطوار حياته، ولها كذلك اثر حسي يمحضه الشعور بالجمال ويفيض عليه كثيراً من ألوان السرور، ولها اثر ثالث عملي لأنهما وسيلة الكتابة والحديث بين الأفراد والجماعات. أما أثر اللغة الأجنبية عندنا فهو نفعي أو قل عملي. حقاً قد يكون لها أثر عقلي إذ تتدخل في تربية الإنسان ونمائه، وقد يكون لها أثر حسي إذا أحسن تعلمها. ولكن وجهها النفعي أوضح وجوهها، وإنما يتعلم المرء اللغة الأجنبية لتكون صلة بينه وبين فروع المعرفة التي اتسعت لها، وحسبه أن يحسن قراءتها. ولعلها تصبح مادة زاخرة توحي إليه العواطف، وربما أصبح بينها وبين تفكيره صلات ولكنها على الحالين لن تدرك ما تبلغه لغته الأولى التي درج عليها والتي كانت أقرب إلى عقله وقلبه ووجدانه.

فاللغة الأصيلة واللغة الدخيلة تختلفان في تقديرنا اختلافاً شاسعاً. الأولى صاحبة الأثر العقلي الذي يدفع بتفكير المتعلم إلى نواحي التقدم، والثانية تستمد وجودها كأداة للتفكير من اللغة الأولى. واللغة الأصيلة ذخيرة تتجلى فيها آيات الجمال بما في تراثها من أدب وحكمة، وتنبلج فيها بدائع الشعر بما تتحمله من وحي والهام. أما الثانية فلن تبلغ هذا الأثر إلا إذا أحسنها المتعلم كل الإحسان؛ وليس يبلغ ذلك إلا الخاصة الذين لا يقعون للمعلم في حسبان. وهي عند كافة المتعلمين بعيدة عن نطاق الجمال والإلهام غير قريبة من مواطن

ص: 33

التفكير الدقيق أو جادة التفطن والتفصيل. واللغة الأصيلة واللغة الدخيلة بعد كل ذلك جديرتان أن نحسنهما قراءة ومطالعة، لأن إحسان قراءة الأولى واجب حتم، ولأن قراءة الثانية هو سبيل الاتصال بحضارة أصحابها.

وفيما أسلفنا من حديث عن آثار اللغات مواضع نتعرف منها الغاية من تعلم اللغات كل منها على حدة، فالمطالعة أو قل القراءة المستوعبة هي الغاية من تعلم اللغة الأجنبية، لأن إتقانها هو السبيل إلى فهم ما يكتب فيها، ولأننا في تعليمنا اللغة الأجنبية نرمي إلى أن نفتح للمتعلم أبواب تلك اللغة حتى يتصل بثقافتها. نحن نتعلم اللغة الإنجليزية لنقرأ مؤلفاتها، ونحن نحسن الفرنسية لكي نلم بحضارة الفرنسيين؛ وليست الفرنسية ولا الإنجليزية إحداهما ولا كلتاهما بضرورة لازمة لحياتنا العقلية أو لتربيتنا النفسية؛ وإذن فيجب أن تدور جهودنا في تعليم إحدى هاتين اللغتين حول تلك الغاية المثلى: يجب أن تدور حول المطالعة لأنها الغاية النفعية التي تحدثنا عنها. وليست الكتابة ولا الخطابة ولا تذوق الأدب بما فيه من قصص وتمثيل من شأننا في تعليم الإنجليزية، فإذا جاء كل هؤلاء فإنما يأتي بعد المطالعة لا قبلها

أما اللغة الأصيلة - وهي العربية عندنا - فينبغي أن تكون الغاية من تعليمها فوق ما ذكرت. إن القراءة جزء من الغاية التي ننشدها إذ نعلمها. نحن نعلم العربية لنخرج مفكرين يحسنون تصور الكلام ويجيدون التعبير عما في نفوسهم. بل يجب أن نعلمها حتى يتذوقوا التراث الأدبي الذي تزخر به اللغة نفسها. وأذن فدراسة العربية ينبغي أن تكون تدريباً فكرياً وتدريباً نفسياً وتدريباً عملياً أيضاً، وتتشعب هذه الأغراض وتتعقد ويكون من مظاهرها الكتابة والقراءة والخطابة. ولكل من هذه الغايات أصول تمتد إلى أعماق الفكر وتتصل بأطوار النفس

أما الأغراض التي نرمي إليها اليوم فهي قاصرة لأنها تقف عن أن تدرك كل تلك الغايات.

إن تعليم العربية عندنا يقتصر على تلقين ألفاظ غير محددة وهو يخلو من الرياضة الجمالية التي ينبغي أن نرمي إليها. أما وجهتها النفعية فهي لا تعلو إلى أن تكافئ حاجات كل يوم فضلاً عن حاجات النفس العميقة. ولا يستطيع معلم أن يقول أنه يتجه اتجاهاً فكرياً في تعليم الألفاظ ولا إنه يصطنع الدقة في تلقينها إلا قليلاً

ص: 34

أغراضنا إذن من تعليم العربية كما نعلمها الآن غير واضحة. وهي في الحق شعبة من اتجاه الكتاب والمفكرين عندنا عامة. ولكننا نلخص الأغراض التي يجب أن تحل عندنا في التدريب العقلي أولاً وفي الرياضة الجمالية الحسية ثانياً وفي الانتفاع بها ثالثاً

احمد خاكي

ص: 35

‌فلسفة التربية

تطبيقات على التربية في مصر

للأستاذ محمد حسن ظاظا

- 13 -

(إن مصر لتدين لعظمائها الفلاحين بأكثر مما تدين لغيرهم!)

(جاكسون)

(ولابد من أن يطلب غداً أولئك الذين يخلقون ثروة الأمة شيئاً أكثر من الكلمات!)

(جاكسون)

(قد تستطيع أن تسوق الجواد إلى النهر؛ ولكنك لا تستطيع أن تجعله يشرب منه)

(مثل سائر)

3 -

التعليم الإلزامي والديمقراطية

رأيت في المقال الماضي انقسام عقلية المثقفين القلائل في الأمة إلى معسكرين متباعدين، وتبينت ما في ذلك الانقسام من ضعف يؤثر في وحدة الأمة ويعرقل نهضتها، وسترى اليوم ناحية أخرى هامة وخطيرة هي ناحية التعليم الإلزامي. . .

1 -

كلمة الديمقراطية

وأحسب أنك تدري تماماً كلمة الديمقراطية في ذلك المجال بعد كل ما قدمنا من قول! بل وأحسب أنك تذكر يقيناً عبارة الرئيس (وشنطن) في المقال الماضي، وما فيها من مبدأ عظيم يجعل مقياس نجاح الحكومة منحصراً في دائرة زيادة خير أولئك الذين لا تكاد توجد عندهم ضرورات الحياة الأولية فحسب، لا أولئك الذين عندهم الكثير وأكثر من الكثير!! وإذا فلن تعجب إذا عرفت أن الديمقراطية تطالب هنا بمساواة (الجميع) في فرصة إظهار الكفايات، وتنظر للتربية كوسيلة جوهرية تقوم للشعب مقام الصلاحية للبقاء عند الحيوان، وترتقي به من مستوى العجماوات إلى مستوى الإنسان، وتسد ما بينه وبين الطبقات الراقية من هوة سحيقة مليئة بالبؤس والشقاء، والفوضى والاضطراب؛ وتؤهله أخيراً لأن يحقق معنى الديمقراطية بمطالبها الاجتماعية والسياسية على أصح وجه تنشده هذه الحياة!

ص: 36

2 -

التعليم الحاضر

فترى هل حقق التعليم الإلزامي المصري الحاضر مطالب الديمقراطية الصحيحة أو نهج على الأقل نهجاً قويماً نحو تحقيقها؟ ذلك هو السؤال الذي يجب أن نسأله، والذي ينبغي أن نستمع فيه لإجابة النظار والمدرسين والفلاحين قبل أن نستمع لإجابة النواحي الأخرى، والذي يجب أن نستوحي في فحصه مبادئ الديمقراطية أكثر مما نستوحيها في غيره، فترى ماذا عسى أن يكون الجواب؟

أحسب الأمر واضحاً لا يحتاج إلى جلاء، فأكثر من خمسة وثمانين في المائة من سكان هذا البلد أميون بكل ما في الأمية من معنى الفقر الأدبي المروع، وميزانية التعليم الإلزامي ضئيلة إذا قيست بميزانية بعض النواحي الأخرى التي تقل عنها في الضرورة والخطورة؛ هذا إلى أننا كثيراً ما نبعثر ألوف الجنيهات في الكماليات التافهة غير ناظرين إلى حاجة مثل هذا التعليم إليها، ومع ذلك فتعلمنا الإلزامي الحاضر ما يزال مشوباً بألوان من النقص يسيرة وعسيرة، وحسبك أن تعلم أولا أن (مبدأ المساواة في فرصة إظهار الكفايات) مهدوم حياله من أساسه لأن المتخرج منه لا يستطيع قط أن يطرق باب التعليم الابتدائي وما بعده من فني أو ثانوي أو جامعي إلا فيما شذ وندر، وبذلك أصبح الذكاء الشعبي محروماً من الدخول في حومة الثقافة الراقية الواسعة والتلذذ بما فيها من نعيم، وخدمة الوطن عن طريقها خدمة نافعة! ثم حسبك أن تعلم أن أحد نظار مدارس هذا التعليم قد كتب إلي مقرراً أشياء كثيرة خطيرة، أهمها قلة مرتبات المدرسين بالقياس إلى عملهم المرهق الذي كثيراً ما يقفز إلى 48 حصة في الأسبوع!! وكثرة أعمال الناظر (أو رئيس المكتب) الإدارية إلى جانب أعماله كمدرس مما يحول بينه وبين القيام بواجبه على النحو المنشود، وسوء أماكن الدراسة وقذارتها وعدم وجود الأفنية والمظلات، وتعسف حضرات المفتشين أحياناً وأخذهم المدرس باللوم أمام التلاميذ!! وجمع الكتب من الأولاد في آخر الدرس، وعدم اتفاق بعض هذه الكتب ومادة المنهج المرسوم!! ثم خروج المتخرج منها أخيراً دون أن يحذق ابسط تعاليمها وهي القراءة والكتابة، نظراً لحشو المنهج بالمعلومات غير اللازمة من ناحية، ولعدم استطاعة المدرسين البؤساء التعساء القيام بمهنتهم كما ينبغي من ناحية أخرى. . .!!

هذا وقد بحث الأستاذ (جاكسون) تلك الناحية في رسالته الآنفة فراح يقول: كيف يكون

ص: 37

التعليم مجدياً وهو إلزامي بكل ما في الإلزام من معنى؟ إن التعليم الحق هو ما أتى من (الداخل) فحسب، وكل تعليم لم يأت من هذه الناحية لا يكون أكثر من طلاء خارجي كله تشدق بالألفاظ وغرور وكبرياء لا يجديان فتيلا. ولذلك ما يلبث أن يسقط غير تارك وراءه إلا المكر والإجرام إذا لم يحل محله غرس خلقي متين، وإذاً فكان الأفضل أن يترك القروي في مثل هذه الحال ليتعلم من الرياح والنجوم والذوق العام، وأن يبقى أمياً بريئاً ساذجاً لا يعرف كيف يعلو على أهله ويحتقر الفأس والأرض، ولا كيف ينزح إلى المدينة ليعيش عيشة أرقى وأنظف!!

لذلك كله لم يستسغ الآباء بعد هذا التعليم ولم يشعروا شعوراً كافياً بالحاجة القصوى إليه، ويساعدهم على ذلك ضعف الدعاية اللازمة، وعدم جاذبية المدرسة، واشتراك الناظر والمدرسين في صب هذا (الإلزام) على رؤوسهم ورؤوس أولادهم

3 -

العلاج

وينحصر العلاج الناجع الذي يراه الدكتور (جاكسون) لتدارك هذا الموقف في ناحيتين. الأولى تغيير المنهج بحيث يلائم حاجات البيئة ولا يبدو كأنه مفروض من سلطة متعسفة؛ ويتأتى ذلك باشتماله على دراسة عملية للتربة أو الدورة الزراعية، وأنواع الأسمدة، وحياة الحشرات والنباتات والزهور، والقيم الغذائية للمواد المختلفة، وأصول صحة المنزل في الدائرة القروية الممكنة؛ كل ذلك إلى جانب القراءة والكتابة والمعلومات الأخرى التي تقرب بينه وبين الطبقات الأرقى وتحببه في العمل والعاملين، وتسد الهوة بينه وبين أبناء الأثرياء المنعمين!

أما الناحية الثانية: فتتلخص في دعاية واسعة النطاق غايتها تحبيب الشعب في ذلك التعليم بكل الوسائل حتى لا يكون هناك إلزام بالمعنى المكروه. ويحسن أن تكون هذه الدعاية عن طريق زعماء الشعب أنفسهم ونوابه وكل من يجلهم ويقدر كلمتهم، آناً بالحضور الشخصي وآناً بالإذاعة، كما يحسن أن يشترك في هذه الدعاية أغنياء القرى وذوو النفوذ بها، وأن تصطحب الدعوة فكرة دينية أو وطنية، وأن يقضي فيها نهائياً على القول القائل بأن معنى التعليم هو إلقاء الفأس وإمساك القلم؛ وبهذا وبغيره يصبح التعليم ضرورة لدى الفلاح، فيسعى إليه بنفسه، ويعتبره فريضة دينية أو وطنية!

ص: 38

4 -

الحاجة إلى مدارس جديدة

على أن الإصلاح لا ينبغي أن يقف عند هذا الحد. إذ يجب أن يختلف تعليم القرية تماماً تبعاً لاختلاف بيئتها، ويجب أن يكون المحور الأساسي فيه هو ربط عمل المدرسة بعمل الحقل، ويجب أن تتجدد المدرسة ذاتها في نظامها العام والخاص تجدداً يزيل طابعها القديم في نفوس الفلاحين. يجب أن يكون البناء جذاباً ويجب أن تزداد الثقافة الفنية للمدرسين على نحو خاص يمكنهم من النجاح التام في أداء مهمتهم العظيمة الخطيرة ويجب أن يكون بالمدرسة استعداد تام للخدمة الطبية، وأن يكون التعليم الديني بها على وجه منتج ومفيد لا مجرد آيات تقرأ وتحفظ فحسب؛ هذا إلى وجوب نزول المدرسين بها إلى العمل مع التلاميذ حتى يضربوا لهم المثل الصالح في حب العمل وتقديره، والى وجوب تزويد كل ولد أو بنت بكتب الحفظ كالدين والأدب والعلم، على أن يكون بالمدرسة ذاتها مكتبة عامة للتلاميذ والأهالي والخريجين جميعاً. . .

ذلك من ناحية، ومن ناحية أخرى ماذا يمنع أن تكون المدرسة مركزاً لتعليم الآباء والأمهات تعليماً خاصاً، ولإدخال السرور والابتهاج على أهالي القرية بما تقيمه في الآن بعد الآخر من مباريات طريفة؟ وماذا يحول بين رجالها وبين جمع الحكم والأغاني والذكريات والأشغال المحلية بين جدرانها حتى يخرج التلميذ عارفاً بحياة بيئته وبتاريخها وبشتى نواحي النشاط فيها؟ إننا بهذه الطريقة نجعل المدرسة خير صديق للقرية، ونجعل الحياة في القرية ذاتها محبوبة لا تدعو إلى تفضيل حياة المدينة عليها

قد يقول قائل إن هذا مشروع ضخم وفي القطر حوالي ثلاثة آلاف وأربعمائة قرية! وهو بالفعل كذلك ولكنه بعد ضرورة ملحة في القرن العشرين! قرن المدينة والنور! وإذا فلتضغط الحكومة مصروفاتها الكمالية ضغطاً، فإنها إن فعلت استطاعت - مع الخطة الحكيمة - أن تنفذ هذا المشروع في بضع سنين!

5 -

تعليم البالغين في السويد وإنجلترا

أما تعليم البالغين فيتطلب مجهوداً آخر. وهاهي السويد قد أسست حوالي 54 مدرسة لإشغال فراغهم بدراسة اللغة والاقتصاد المنزلي والرياضة والموسيقى وأشغال الإبرة

ص: 39

والخشب والمعادن. وهاهي إنجلترا تبعث بمحاضر كفؤ ليحاضر طلبة أمثال هذه المدارس بها في شئون عامة كالطفولة والتمريض، وآداب اللياقة ونحوها، وكثيراً ما يستعان هناك بالراديو في نشر الثقافة القروية الملائمة

فنرى ماذا يمنع مصر من الأخذ بمثل هذا النظام؟ وكيف السبيل إلى الاستفادة من مشروع (المجموعات القروية) مثلا إذا لم توجد أولا العقول المتهيئة للاستفادة والفهم؟

خاتمة

يجب إذاً أن نتيح للفلاح حياة أرقى، وألا نتخذ من عدم شكواه وسيلة إلى إهماله. أن النور سيطرق بابه عاجلا أو آجلا، وسوف لا يرضى حينئذ بحظه الراهن قط. بل هو على النقيض سيطالب بحياة اكثر تنوعاً، وبعمل اقل ارهاقاً، وبفرصة لكفاح أبنائه اكثر اتساعاً. نعم لا بد من يطلب غداً أولئك الذين يخلقون ثروة الأمة شيئاً اكثر من الكلمات!.

(يتبع)

محمد حسن ظاظا

مدرس الفلسفة بالمدارس الثانوية الأميرية

ص: 40

‌رسالة الأديب إلى الحياة العربية

للكاتبة النابغة الآنسة (مي)

(نبشر أصدقاء (مي) وعشاق أدبها بانكشاف الغمة عن صحتها وحريتها؛ فقد استطاعت أن تلقي هذه المحاضرة القيمة في 22 من شهر مارس في العروة الوثقى بالجامعة الأمريكية على حفل حاشد من أعيان الفضل والأدب فكانت أقطع الحجج على ما أرجف به المرجفون من أصحاب الهوى والطمع. وإنا ليسرنا أن ننقل إلى قراء الرسالة هذه المحاضرة عن جريدة المكشوف اللبنانية ليروا أن (مي) لا تزال على عهدهم بها تشع بالنور، وتنفح بالعطر، وتنبض بالحياة)

سلاماً يا وست هول، يا موطن الفكر والرأي والحياة المنظمة في كرامة وحرية! كم من مرة جلست بالخيال بين جدرانك أتبادل والجمع الحاشد قوة الحيوية، وآخذ قسطي مما يعج في فضائك من فائدة علمية واجتماعية! كم من مرة عدت بالذكرى إليك وأصغي بخشوع إلى رسالات الفضل والعلم والتهذيب يتلوها هنا العلماء والمفكرون والمصلحون!

سلاماً أيتها (العروة الوثقى)، الساهرة على وظيفتك في تنوير الأفهام، الحريصة على غايتك في أحكام الرابطة العلمية والأدبية بين أقطار الشرق العربي! كم من صيحة أرسلها أقطابك وأتباعك وأنصارك من على هذا المنبر المضياف، فمضت كالطير تسبح في القريب والبعيد من الأجواء حاملة رسالة العلم الصادق والبحث الرصين والخير العميم، فكونت في أوساط قضية مواطن للفكر والرأي والحياة المنظمة في كرامة وحرية!

ولئن أنا شكرت لك تشريفي بدعوتك واقتراح الموضوع، فإني كذلك شاكرة لأنك أفسحت لي مكاناً كريماً بين كرام ضيوفك، عاملة بيدك القوية الوفية على أحكام الرابطة بيني وبين قومي؛ وأشكر لكم أيها السادة والسيدات تفضلكم بالحضور.

إن اسم (العروة الوثقى) يلهم الفرد أنه ينقلب أمة عندما يخاطب الأمة

وما أجمله موعداً موعدنا الليلة! فنحن في مطلع الربيع، إذ باشرت الأرض إخراج زينتها وعرض مباهجها، ونشرت السماء كواكبها وشموسها وأقمارها وضاءة في رحيب الأفلاك، وسرت الحياة نامية في فتى الغصون، واهتزت الأرواح مترنحة لاستيعاب جديد النفحات. كذلك الشعوب العربية استيقضت من شتاء حالك الظلام طويل الأمد، وانبرت تستقبل

ص: 41

الفصل الجديد من حياتها، متعهدة براعم الأمل والمجد في نهضتها، ساعية إلى ازدهار ثقافتها ازدهاراً عامراً بهيجاً

الربيع يزف إلى الأرض رسالته، ووست هول اليوم كما في الأمس وفي الغد، يؤدي إلى المجتمع رسالته، و (العروة الوثقى) تواصل العالم العربي برسالتها، فماذا ترى تكون رسالة الأديب إلى الحياة العربية؟

أيها السادة والسيدات:

إذا نحن تنحينا في بحثنا عن الرسالة المثلى، رسالة الأنبياء، وجدنا أن الرسالة في معناها الضيق هي الصفحة التي يكتب فيها الكلام المرسل؛ بيد أن معنى الرسالة أرحب من ذلك وأشمل، إذ لكل فرد، وكل كائن، وكل شئ، رسالته في معرض الوجود: فالشمس تؤدي رسالتها نوراً وحياة والزهرة تؤدي رسالتها عطراً ووسامة، والجبال والوهاد تؤدي رسالتها تبياناً لطبقات الأرض وتنوع الخليقة، والمروج والسهول تؤدي رسالتها خصباً وغذاء، والسبل تؤدي رسالة الحركة والانتقال، والانتقال يؤدي رسالة الأخذ والعطاء والتعاون المتبادل بين الأحياء

ولكل جمهرة من الناس في كل بقعة من بقاع الأرض شؤون عدة، إذا ما عولجت واستثمرت ونظمت وحسن التصرف فيها، أصبحت تلك الجمهرة شعباً فأمة، وصارت تلك البقعة بلداً فدولة، وفي كل بلد صناعة، وتجارة، وعمارة، وميكانيكا، وإدارة، وقوانين

ولكل أمة عادات وتقاليد وتاريخ وتربية وحكمة وثقافة وآداب وفنون. الشؤون المحسوسة، على تعددها وعلى ما بينها من فروق، متشابهة واحدة في كل قطر؛ وأخص خصائص الوحدة والتشابه نجده في التقدم العلمي والميكانيكي، وفي الحضارة الآلية السائدة في كل مكان

ترى ما هو الفرق بين مخاطب بالتلفون، ومخاطب بالتلفون؟ بين مستمع إلى إذاعة راديو، ومستمع إلى إذاعة راديو؟ وبين راكب دراجة أو سيارة أو طيارة، وراكب دراجة أو سيارة أو طيارة؟ ليس من فرق بينهما من حيث الخدمة التي تؤديها الآلة. أجل، ثمة فرق في الغرض الذي نستخدم له الآلة؛ وهذا ليس موضوع البحث؛ إنما الفرق كل الفرق في الشخصية التي تستعمل الآلة؛ والشخصية لا تتكون إلا من العوامل الأدبية: التاريخ،

ص: 42

الاختبار، الذكرى، اللغة، الفن، الأدب.

الأدب إذن من أهم المقومات للشخصية؛ وربما كان الأصح أن أقول انه حجر الزاوية في تكوين الذاتية الفردية والذاتية القومية بالتبع. والفرق بين الشخصية والذاتية فيما أظن هو أن الشخصية تتكون مما يحيط بنا ويتقلب علينا من شؤون وأحوال، في حين أن الذاتية هي ما نظل عليه دائماً في صميمنا في جميع الشؤون وفي جميع الأحوال. فما أبعدنا بهذا التعريف عن التعريف الشائع أن الأدب هو المستظرف من الشعر والنثر، وأنه صناعة لفظية حذقت حيلة النكتة والتورية، واستسيغت منها البلاغة والحلاوة في وصف مجالس الانس، وتصوير جمال النساء، وشرح لواعج الحب والغرام. كل هذا من الأدب بلا ريب، وله أهميته، وهو ذو إغراء؛ ولكنه وجه فقط من الوجوه العديدة في الأدب. ولئن اقتصر كل من العلوم والمعارف على نفسه دون غيره تقريبا، فميزة الأدب في أنه يحتضن الكثير من المعارف والعلوم، وله أن يتغذى بها جميعاً ليعالجها على طريقته الخاصة، فلا يكون بعد إلا أدباً.

ولكم كانت المنتجات الأدبية والصور الخيالية سابقة للبحث العلمي ومعينته على الخروج من حيز القياس والافتراض إلى حيز التطبيق العملي والاختراع! أليس أن شاعرية الشعراء طارت إلى أجواز الفضاء قروناً طوالاً قبل اختراع الطيارات؟ وفيالق العشاق (والعشاق شعراء وأدباء دواماً)، ألم تناج أرواح الأحباب برغم شاسع الأبعاد قبل أن يصبح الراديو أداة من أدوات المنزل؟ ومن ذا الذي يقرأ ولو كتاباً واحداً من كتب الأديب الفرنسي جول فرن الذي وصف الانطلاق من الأرض إلى القمر وصفاً علمياً قبل أن يقوم علماء الستراتوسفير برحلاتهم الجوية، وحدث عن سلك أعماق البحار في سفن ذات أجهزة ميكانيكية دقيقة قبل أن تحتوي أساطيل الدول على غواصات ترقب ما يجري في قلب اليم وعلى صفحة الماء؟ من ذا الذي لا يذكر الكاتب الإنكليزي المعاصر ولز، ومؤلفاته ذات الصبغة العلمية المتنبئة بمستقبل حياة ميكانيكية صرفة تترتب عليها حياة اجتماعية متوافقة؟ لست من أشياع ولز، ولكني أشير إلى نظرياته شاهداً على رحاب الميدان للأدب

وإذا نحن عدنا إلى الكتب الدينية الثلاثة: التوراة، والإنجيل، والقرآن، وجدناها متفقة على جعل الفردوس الأرضي في شرقنا الأدنى. فكان لنا أن نقول إن مجد الآداب كمجد النبوات

ص: 43

وكمجد الحضارات اشرق من بلادنا، وكانت اللغات السامية أول أداة للإفصاح عنه.

التوراة مليئة باللهجة الأدبية. والتوراة كتبت أولا باللغة العبرية. والإنجيل ملئ باللهجة الأدبية؛ والسيد المسيح تكلم بالآرامية والسريانية والعبرية، قبل أن يكتب الإنجيل باليونانية واللاتينية لينقل بعدئذ إلى مختلف اللغات. والقرآن ملئ باللهجة الأدبية؛ والقرآن هو الكتاب العربي المبين والمستودع الخالد لهذه اللغة التي لا تموت مهما توالت عليها القرون وتناهبتها تصاريف الحدثان

ترون من كل هذا معشر الشرقيين عريقون في الأدب، وإن أدياننا عمدت إلى اللهجة الأدبية لتكون أسرع اتصالاً بالنفوس وأبرع استيلاء على المشاعر. ولئن أجمع نفر من علماء اللغات في الغرب على أن اللغات السامية حماسية، غنائية، بيانية، خطابية، أكثر منها اختصاصية علمية ميكانيكية، فنحن نعتز بذلك. لأن اللغة الأدبية هي لغة النفس، لغة الجوهر، لغة البقاء. واللغة المحتوية على الجوهر لا تضيق دون العرض والطارئ والإضافي. وليس لنا إلا أن نتابع الجهود التي باشرناها أفراداً وجماعات علمية - ناهجين نهج أسلافنا الذين نسخوا وترجموا ونحتوا واشتقوا وعربوا - لنجعل أداة اللغة كافية وافية في تأدية كل مستحدث من المعاني والمسميات والاختراعات العصرية. ولنا من اتساع اللغة ومرونتها ما يمكننا من صوغ المفردات وسبك القوالب على طريقة ترضي من الناحية الواحدة مولانا سيبويه، وترضي الواقع والذوق من الناحية الأخرى، فلا يكون اسم الراديو مثلاً: الطمطمان، ولا يكون التلفون: أرريزاً

ومعلوم أن الأدب كاللغة، حليف التقهقر والتطور في الشعوب التي تعالجه. وآدابنا في تاريخها الطويل أصدق شاهد على صحة هذه النظرية لأنها ازدهرت ثم لازمها الجمود وفقاً لارتفاع الدول العربية وهبوطها. وصدق تلك النظرية أظهر ما يكون في عصرنا الحاضر.

نظرة إلى البلدان العربية، فماذا نرى؟ بعد هجعة ثلاثة قرون أو تزيد استيقضت الشعوب العربية، وحركات اليقظة لا تكون منتظمة في بادئ الأمر، وإرادة المستيقظ لا تكون مستقرة ثابته، وبصيرته تظل وقتاً ما غائمة غير صافية ولا نافذة. المستيقظ يلبث حيناً حائراً بين خيالات الليل وحقائق النهار، ولكن كم في خيالات الليل من حقيقة، وكم في حقائق النهار من خيال شعوبنا على همتها وتحفزها ما زالت قلقة مضطربة، وأدبنا على

ص: 44

وفرة جهوده وغزارة مادته ما فتئ مضعضعاً، غير واثق من نفسه، غير مستقر. فما هي حاجتنا اليوم من الناحية الأدبية؟

إذا كان الأدب صورة للشخصية العامة من خلال الشخصية الفردية الخاصة بحسناتها وسيئاتها، بحوافزها ومعلوماتها، بنورها وظلامها، بتقاليدها وأوهامها، بخوالجها وممكناتها، بيأسها ورجائها - إذا صح ذلك، وهو صحيح - فنحن نحتاج اليوم إلى صوت الأديب والى رسالة الأديب.

المعترضون يقولون: ولكن الأقطار العربية متعددة ولكل قطر حياته الخاصة ولهجته الخاصة. أفيكون إذن لكل قطر أدبه الخاص؟

كيف لا؟ وهل غير ذلك في الامكان؟ أو ليس هذا هو شأن سائر الآداب؟ أو تتكون الثروة الأدبية واسعة في اللغة الواحدة إلا بتعداد الآداب المحلية وتنوعها؟ أو ليس لكل من أمريكا، مثلا، وإنكلترا واسكوتلاندا وإيرلندا، أدب خاص مجموعها يكون آداب اللغة الإنكليزية عموماً؟ وفي كل هاتيك الأقطار الغربية لهجة محلية هي اللغة الإنكليزية، والشعب يتخاطب بلهجته وباللغة الإنكليزية، ويكتب بهذه اللغة وبتلك اللهجة على السواء. فعلام نحن نشكو مما يراه الآخرون شيئاً جد عادي؟ ومن المشاكل والمصالح والآلام والآمال ما هو مشترك بين جميع البلاد العربية. فرب زفرة حزن أو صيحة استبسال وجدت صداها متردداً في ملايين القلوب العربية ورب رسالة أدبية انطلقت من قطر واحد، فاجتاحت عديد الأقطار العربية المتناثرة من شواطئ الاطلانطيقي إلى خليج العجم أجل، نحن في حاجة إلى أقلام تخاطبنا باللغة العربية ببيان جميل يصور شخصية الأديب، ويشرح حالة الأمم، وينشر أمامنا صحيفة الأزمنة الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل. فالماضي ينبثق انبثاق الينبوع فيخصب النفوس. وكما يكتنه الأديب ذخائر الماضي فكذلك هو يطلع على شؤون الحاضر، متصلا بكبار الحوادث التي تهز قومه في النقمة وفي النعمة، في السخط وفي الرضى، وإذ يرى الحوادث داخلة في دور الغليان، والشعوب فوارة صاخبة كالحمم في فوهة البركان، وإذ يشهد الظلم والعذاب والمرض والنفاق فيبحث عن الإنصاف والصحة والصدق والانشراح - عندئذ تتم في داخله عملية عجيبة، ولا العمليات الكيميائية. يخيل إليه أن موسيقى شائعة رائعة تنطلق من الأزمنة والحوادث والشعوب موحية إليه سر الفن الجميل

ص: 45

فينقل إلينا منها ماينقل، جاعلا لكل شئ أهمية خاصة تهز منا المشاعر، وتستثير الحماسة، وتكيف الآراء. ومن معالجة الأديب للأزمنة والحوادث والشعوب ينبعث لنا الهزيج الفتان فيلفتنا إلى أن طبيعتنا رحاباً لم نكتشفها وإن في أرواحنا ممكنات توسع أمامنا أفق الحياة.

وإذ يحدثنا الأديب عن النظريات والمذاهب والشخصيات نتحزب مختارين لها أو عليها، فننكر نظرية ونؤيد نظرية، نمقت شخصية ونحب أخرى محاولين الاندماج فيها، ندحر مذهباً وننتصر لغيره تائقين إلى نشره في الملأ مع رفاق نوليهم الثقة. كذلك الأديب يجوز بنا بحر الحياة المكفهر كسفينة استغنت عن الشراع والقلوع وعن الرياح المؤاتية، لأن له من نفسه القوة التي تسوقه إلى الأمام. وليس من اختبار يمر به إلا تأثرت به كتاباته، فلا نفتأ نتطلع إلى كل ما يحدث له متسائلين عن سر قوته في المناعة، وعن سر قدرته في الإبداع، ذلك السر الدفين، ذلك الجوهر المكنون المعرض عن كل تأويل وتفسير، السباق إلى أجواء من التفكير والإحساس والتكوين، لا نأبه لوجودها إلا بعد أن يجول جولته فيها

وسرعان ما يتصل الحاضر بالمستقبل في فن الأديب: جيل جديد يتخرج على أثاره وعلى مؤثراته، فيشب حاملاً معه الفكرة التي تنيل الحياة قيمة في تذوق الجمال الحسي والأدبي، وفي ممارسة الجمال تأملاً وسعياً وجهاداً، رافعاً بيده مشعل الحب العتيد للوطن، وللرجاء وللتقدم، وللشهامة وللبطولة، ولإرضاء غريزة الحرية!

رسالة الأديب تعلمنا أن لكل قطر من الأقطار العربية حضارة غابرة حلت محلها الحضارة العربية ناسخة عنها وعن غيرها لتسبكها في قالبها وتدمغها بطابعها الخاص. رسالة الأديب تعلمنا أن الغرب الحاذق عرف كيف يقتبس عن حضارتنا يوم كانت حضارته وثقافته وشيكة. ولكن ما أغزر ما استفاد وما أخصب ما انتج، وما أبدع ما ابتكر! وأن الحضارة العربية كانت الصلة المتينة بين الغرب الجديد وحضارة اللاتين والأغارقة. وهاهو ذا الغرب يرد إلينا الآن دينه كشعاع من الشكر بما ينشره بيننا من ثقافة، فعلينا أن نأخذ عنه بمثل المهارة التي أخذ بها عنا!

رسالة الأديب تعلمنا أن الحضارة الميكانيكية أدوات نستعبدها ونستخدمها، لا أدوات تستخدمنا وتستعبدنا. وأنه لا يكفي أن يضغط أمرؤ على الزر الكهربائي فينال سحري النتائج، وأن يمتطي سيارة أو طيارة فيطوى شاسع الابعاد، وأن يرقص رقصة ويصغي

ص: 46

إلى إذاعة ويتعمل التأنق والحذلقة متكلما بخليط من لغتين أو ثلاث - لا يكفي كل ذلك ليكون شخصية ممتازة ترهب هيبتها الأكوان

رسالة الأديب تعلمنا أن الحضارة الآلية التي ألفناها ولم يكن يحلم بها أجدادنا تجعلنا اليوم أشد احتياجاً منا في الماضي إلى ثقافة أدبية تدعم الحضارة الآلية وتكون لها ركناً ركيناً. وإن هذه الحضارة الآلية المنتقلة بسرعة من بلد إلى بلد ومن جيل إلى جيل، ننعم بها - ونشقى! - دون أن يكون لنا يد فيها. أما الثقافة الأدبية فيجب أن يحصلها كل فرد يوماً فيوماً، وساعة فساعة، مدى الحياة

رسالة الأديب تعلمنا أن للعالم العربي على تعدد أقطاره وحدة واحدة تشغل مكانا فسيحاً في القارتين الآسيوية والأفريقية. ويستطيع أن يقول هذا القول علماء الجغرافيا وعلماء التاريخ وغيرهم. ولكن للأديب فناً مغرياً ينيلنا الثقافة والفائدة، بينا نحن نرتع في بحبوحة من اللذة والمتعة في جو ممغنط أخاذ هو في الواقع جو الحياة

رسالة الأديب تعلمنا أن نفاخر بلغتنا العربية الممتازة على سائر اللغات بأنها ولدت قبل لغات قديمة اندثرت منذ قرون، وما زالت العربية تفيض حياة، مجارية حتى أحدث اللغات بالقوة والمرونة والجزالة والرشاقة. كل أمة تسعى الآن إلى نشر لغتها بين الأمم الأخرى، باذلة في سبيل ذلك المال والإغراء والدعاية والجهود. أما نحن فانتشار لغتنا شئ واقع، وميزتها هذه تربط بين الأقوام العربية برباط قوي جاعلة الفرد الواحد منا ملايين

رسالة الأديب تعلمنا كيف نخلق حضارة أدبية، إذ بها لا بغيرها تقاس مواهبنا، ويسبر غور طبيعتها، وهي التي تثبت وجودنا، وتنطلق بلساننا مترجمة عن مبلغ الإنسانية فينا

رسالة الأديب تعلمنا حب العزلة والسكون، وترجعنا عن الفخفخة وهوس الظهور، فنعتكف على أنفسنا نعالج ممكناتها للظفر بمحمود النتائج. فالسنبلة المتمايلة على صفحة المروج، حاملة بشائر الحياة، لا تولد حبتها ولا تنضج إلا في أحشاء الأرض، في جو الوحدة والهدوء والكتمان

رسالة الأديب تعلمنا ألا نخشى كارثة، ولا نتهيب مغامرة. كل زمن خطير في التاريخ كان زمن اضطراب وكوارث، وأعظم فوائد الإنسانية نجمت عن عصور العذاب والخطر. الخطر مرهف، ولا يعرف شأن ذي الشأن إلا يوم الكريهة. والعاصفة لا تقتلع إلا ضعيف

ص: 47

الأغراس؛ أما الأشجار ذات الحيوية العصية فالأعاصير تلح عليها وتهزها هزاً عنيفاً فلا تزيدها إلا قوة ومناعة

رسالة الأديب تردنا عن عديد الشخصيات القومية التي تجذبنا من كل صوب لتركزنا في شخصياتنا القومية الأبية

رسالة الأديب تعلمنا كيف نفهم كل شئ ونستفيد من كل شئ، باحثين عن الصواب والكمال خلال كل نقص وكل زلل، نازعين إلى الجمال الحسي والأدبي حيال كل دمامة خَلقية وخُلقية مساجلين النفوس والعناصر، مناجين المنظور وغير المنظور، لنجعل من حياة متناثرة متداعية، حياةً متناسقة متماسكة

أي شئ لا تعلمنا رسالة الأديب؟

أنها قوة تستفز قوتنا، وموهبة تحفز مواهبنا، وصرامة تردنا عن الحقارة، وبسالة تدفعنا إلى البسالة، وعذوبة تؤاسي أحزاننا، وأغرودة تطرب أشجاننا؛ وهي عالم مستقل متماسك يسوقنا إلى تكوين عالمنا المتآلف المستقل!

نحتاج إلى الأديب يأخذ منا ويعطينا، فيرسل صوته أريباً رصيناً مسيطراً أخاذاً حضاناً!

ونحتاج إلى رسالة الأديب قويمة غنية عنيدة ملهمة لتوقف قوميتنا في مكانها المشروع في معرض القوميات بميدان العمران العظيم!

(مي)

ص: 48

‌التاريخ في سير أبطاله

إبراهام لنكولن

هدية الاحراج إلى عالم المدنية

للأستاذ محمود الخفيف

- 6 -

يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من سيرة هذا العصامي العظيم

وما حيلة الطب في توازٍ توبق الروح، وهواجس تعمي القلب؛ وإن بدت آثار هذه وتلك في نواحي البدن عجز الطبيب، ولا عجب أن يعجز، وجاء الصديق ليفعل ما لم يستطيع الطبيب أن يفعل، وهو خبير بالعلة عليم بموضعها من نفس صاحبه

باع سبيد حانوته وعول على الرحيل إلى كنتوكي فعرض على صاحبه لنكولن أن يذهب معه إلى هناك عله يشفى مما به في تلك الاحراج التي درج منها أول ما درج. دعاه سبيد ان ينزع نفسه وجسمه من ذلك البلد الذي يكربه العيش فيه بعد أن كان منتجع آماله ومهوى خواطره، ورحل ابراهام مع صديقه وقد اخترم الهم جسده فزاده نحولاً على نحول، وزين له الشيطان أن يطلب النجاة من الحياة. . .!

ولبث في كنتوكي أياماً، لقي فيها من كرم صاحبه وكرم أمه وأخته ما هون عليه أمره شيئاً قليلاً، وصاحبه لا يفتأ يسري عنه وينصح له، وهو يشكو إليه اضطراب أعصابه ويظهره على هواجس نفسه، ويذكر له والألم يبرح به فعلته التي فعل وكان فيها غير كريم، بل وكان من الضالين. . . بيد أنه لم يلبث وقد كان يلتمس العون من صديقه أن رأى ذلك الصديق في حاجة إلى من يعينه، فقد طاف به على حين غفلة طائف من الحب ملك عليه قلبه وعقله!

وأنقلب الأمر فغدا لنكولن هو الناصح، فراح يجهد أن يهدي صاحبه حينما وسوست إليه نفسه معاني كتلك التي كانت تجول في خاطره هو: معاني الحيرة والتردد والشك. فلقد اصبح سبيد يحار في أمر حبه كما اصبح ينتابه الخور كلما اتجه فكره إلى الزواج شأنه في ذلك شأن ناصحه. وكان فيما يسديه ابراهام من نصح لصاحبه مسلاة له أو شاغل يشغله

ص: 49

عن وجده؛ على انه وهو في كنتوكي كتب رسالة في الانتحار ترينا أن الغمة أو اليأس كان قد أوشك أن يذهب عنه. خذ لذلك مثلا قوله: (إني لم اصنع في الحياة شيئاً يذكر أي إنسان أني عشت. ومع هذا فأن ما أعيش من اجله هو أن اربط اسمي بحوادث يومي وجيلي، وأن أقرن ذلك الاسم بصنيع فيه لمن حولي من الناس جدوى)

ولما عاد إلى سبرنجفيلد ظلت كتبه مدة اكثر من عام تترى على صاحبه، وفيها من حسن النصيحة وقوة الإقناع ورقة العاطفة ما يكشف لنا عن حقيقة نفسه ويصور نزعات وجدانه. كان يعزو ما بات صاحبه يشكو منه إلى اعتلال أعصابه والى ما تحدثه الوحشة والبعد عن الخلان وأحاديثهم في مجالس لهوهم من انقباض وضيق، والى ما تركته الوراثة في طبعه من شدة التأثر وقوة الانفعال؛ وكان يكتب ذلك في جلاء وقوة حجة هما من أبرز صفاته. وكان عجباً أن نرى مثل ذلك من لنكولن، فترى فيه العالم النفساني، والشاعر الرقيق العاطفة، وهو الذي علم نفسه بنفسه. . .!

وتزوج سبيد بعد ذلك وبقى لنكولن حيث هو، موقفه من ماري عين موقفه عقب ذلك الفرار الشائن؛ فعاد إليه بذلك ما شغلته قصة صاحبه زمناً من هموم نفسه! واصبح فإذا ضائق بوساوسه. وزاده تبرما بحاله وإنكاراً لشأنه ما كان يسمعه من صاحبه عن سعادته الجديدة بين يدي زوجه. . . لذلك لم يكن عجيباً أن يلتمس السكينة من جديد عند فتاه ناهد كان قد عرفها قبل أن يعرف ماري. بيد أنه كان يتجه بينه وبين نفسه إلى ماري، فهو لا يستطيع أن يبتعد بخياله عنها. قال في كتاب من كتبه:(يخيل إلي أنه ينبغي أن أكون جد سعيد لولا تلك الفكرة الملازمة لي، ألا وهي أن هناك شخصاً غير سعيد عملت أنا على أن يكون كذلك. أن تلك الفكرة ما تزال تريق روحي؛ ولا معدي لي عن أن ألوم نفسي حتى على مجرد الأمل في السعادة في حين أنها على ما هي عليه)

وكان لنكولن يحدث نفسه أنها لا تزال على الرغم مما حدث بحيث يتأنى لهما أن يتصلا أنهما أرادا ذلك. وكانت هي من جانبها تحس أن ما كان منه من هجران وقطيعة قبيل ما استعدا له من زفاف قبل ذلك بعام ونصف عام لم يصل على شناعته إلى مثل الصدمة القاضية. . .

ودبر رجل من صحابتهما وزوجه أن يدعواهما إلى مأدبة على جهل كل منهما بدعوة

ص: 50

الآخر. وتم ذلك فالتقيا وتضاحكوا جميعاً بعد أن ذهبت عن ابراهام وصاحبته ربكة المفاجأة. وكان ذلك اللقاء والخطوة الأولى نحو التئام الصدع واجتماع الشمل؛ إذ اصبح لنكولن يرى حقاً عليه أن يصلح ما افسد وأن يضع حداً لما هو فيه من ضيق وشقاء

وحدث بعد ذلك أمر غريب في ذاته، على قدر غير قليل من الأهمية من حيث نتيجته: ذلك أن إبراهام، وهو الرجل الذي ملك القلوب بدماثته ورقة حاشيته، قد دخل غير متردد ولا هياب في مبارزة تدور على السيف! وكان لتلك المبارزة سبب يدهش له الإنسان أن كان مبعثه شخص مثل لنكولن! فلقد نشر ابراهام في إحدى الصحف كتاباً على لسان أرملة وجهته إلى أحد رجال السياسة تسفه فيه آراءه التي أذاعها، وكان التهكم لاذعاً والنقد قاطعاً، فأثار الكتاب فضول الناس كما أثار ضحكهم وإعجابهم؛ ووردت على الصحيفة ردود قوامها المجانة والمعابثة وكلها غفلاء من أسماء أصحابها. . . وكان لماري في هذه الردود نصيب. وثارت ثائرة ذلك السياسي وراح في المدينة يتهدد ويتوعد! وجاء صاحب الصحيفة فعنفه وتهدده بالانتقام إلا أن يعرف صاحب هذه المجانة. وعرض صاحب الصحيفة الأمر على لنكولن فقال له في غير وناء ولا استخذاء: إنه يأخذ الأمر على عاتقه، وإنه لذلك في حل من أن يذيع أسمه. وتم ذلك فكانت المبارزة. . . فلقد تحداه ذلك الساسي أن ينازله، وشاع أمر ذلك في الناس فاحتشدوا ليشهدوا ما يكون بينهما. . .

وكان لإبراهام من طوله وفتوته وقوة ساعديه ما يضمن له الفوز على منازله القصير؛ فتناول سيفاً طويلاً ولم يزد - والناس يتطلعون - على أن ضرب به غصناً فوق رأسه فألقى به بعيداً. ثم جلس وفي عينيه أنه يريد أن يلقي إليهم حديثاً وراح يحكي ويستجمع الأمثال. . .! وتداخل الناس وسووا ما كان بين المتخاصمين، وأنقلب الجد الصارم إلى فكاهة عابثة

بيد أن للحادث نصيبه من الأهمية؛ فلقد ترك في حياة لنكولن صفحة ظل يندى لها جبينه أبداً، كما حق لماري أن تتحدث

إلى الناس أن إبراهام ما فعل هذا إلا دفعاً عنها وحفاظاً أن ينالها شيء من غضب ذلك السياسي. وطاب إبراهام بذلك نفساً. وقربت الأيام بينهما حتى باتا من جديد يأخذان الأهبة للزواج. وما هي إلا أيام حتى ربطهما ذلك الرباط المقدس وهو يومئذ في الثالثة والثلاثين

ص: 51

واستنشى ابراهام نسيم الراحة أن أخذت تتزايل هواجسه ويتضاءل هوانه على نفسه، وأخذت تعود إليه ثقته بتلك النفس سيرتها الأولى، وأن كان الذين شهدوا العروسين حين عُقدَ قرانهما رأوا لنكولن وعلى وجه سحابة من الكآبة والوجوم كانت تتقشع حيناً على ما يتكلف من بشاشة ثم تعود فتنعقد!

وأقام لنكولن أول الأمر وعروسه الطموح المستعظمة في حجرتين صغيرتين في نزل كانا يدفعان أجراً لهما أربع دولارات كل أسبوع. وعظم ذلك على ماري فشكت إلى زوجها ولم يمض على زواجهما غير قليل، وهو يلقي إليها المعاذير مشيراً إلى ضيق رزقه والى ما لا يزال يقتضيه الوفاء من ديونه. . . وبسط الله له رزقه بعض البسط، فأنتقل الزوجان إلى بيت صغير استطاعا أن يدفعا في غير عسر أجر إقامتهما فيه

وأخذت ماري في بيتها الجديد تدبر شؤونه وترعى امره، وقد اتخذت لنفسها سلطة ربة البيت لا تتنازل عنها فيما عظم أو هان من الأمور، حتى لقد كانت تأخذ زوجها بألوان من الشدة والعنف حينما كانت تدعوه إلى كيت وتصرفه عن كيت، ورائدها في ذلك النظام كأدق ما يكون النظام. وكان يصل بها الغضب أحياناً إلى هياج شديد، وذلك حين كانت ترى من بعلها أن يأبى إلا أن يرسل نفسه عن سجيتها، فكثيراً ما لا يعبأ بما صالح الناس عليه أذواقهم من أوضاع وتقاليد يلزمونها وهم جلوس إلى مائدة الطعام، أو وهم سامرون في الثوى. وهل كان يستطيع ابن الاحراج أن يتكلف ما لم يجر في طبعه؟ ولكن امرأته لا تفتأ توجهه إلى العناية بهندامه وتحثه على النظام وانه ذلك خليق به وله في الناس مكانته؛ وهي تريده على أن يحمل الأمر على الجد وهو يجاريها ليخفف من حدتها ثم لا يستطيع بعد ذلك أن يغير من طبعه. وكان إذا اشتد بها الغضب يلاطفها ويضاحكها ليصرف عنها غيظها، فإن عجز عن ذلك خرج من المنزل فمشى ساعة أو بعض ساعة. . . وحق لزوجه أحياناً أن تغضب منه؛ فهو سخي اليد وأن كانت به خصاصة، وهي لا تريد أن تبسط يدها إلا بقدر ما تستطيع. وهو يلقي الناس في البيت في هيئة تنم على عدم المبالاة، فثيابه متهدلة وشعره أشعث، وعباراته ساذجة، وهو يستلقي على ظهره أحياناً ويتمدد على الأرض وفي يده كتاب لا يصرف وجه عنه؛ ويتدخل أحياناً فيما ليس من أمره فيحلب البقر في الحديقة، ويحمل اللبن في وعائه بين يديه ويهرول به إلى الدار على أعين السابلة

ص: 52

والجيران!

ولكن زوجه على الرغم من ذلك تحبه وتكبره، وتنتظر ما يخبئه له الغد من جاه وسلطان كأنها تعلم الغيب أو كأنها ترى ما لا يراه الناس. وكتب لنكولن إلى صديقه سبيد ينبئه أنه رضي النفس قرير العين، ويعتذر له من عدم زيارته إياه بفقره وشواغله، ثم يبشره أن قد صار لهما غلام. . .

ذلك ما كان من أمر لنكولن فيما هو متصل بحياته الشخصية؛ بيد أن زواجه من تلك المرأة كان حادثاً عظيم الأهمية في حياته؛ فلقد مر بك من صفاتها أنها امرأة ذات طمع وطموح. وأنها كانت ترى بما يشبه اللقانة الطريق المؤدية إلى عليا المراتب، وما كانت تقنع بما هو دون مرتبة الرياسة! لذلك كانت خير معين حين تقدمت خطواته في ميدان السياسة. وكثيراً ما كانت ترده إلى الطريق السوي إن هو أوشك أن يتنكبها. ويتجلى ذلك في عدة مواقف سيأتي حديثها بعد حين. . . نرجع بالحديث بعد ذلك إلى حياته العامة في السياسة والمحاماة. أما في السياسة فقد ظل ينتخب نائباً عن سنجمون، كلما تجدد الانتخاب، حتى لقد ظفر بثقة الناس أربع مرات متوالية. وأما في المحاماة فقد تركه شريكه ستيوارت إلى وشنطن حيث اتخذ مقعده في المجلس العام للولايات؛ فعمل مع شريك آخر قبل زواجه من ماري بثلاث سنوات؛ وكان هذا الشريك يدعى لوجان، وكان لوجان من أكبر المحامين شهرة في المدينة، وكان له من صفات النظام والدقة والإلمام بأوضاع المهنة ومطالبها ما كان يعوز صاحبه لنكولن. وكانت له في العمل الرياسة. ورضى لنكولن بمكانه منه ولم يجد في ذلك غضاضة إذ لم يكن منه بد؛ وأخذ يتعلم عنه ويكتسب بمصاحبته المرانة والخبرة؛ وهو قانع بنصيبه من الأجر، وأن كان يرى من زميله أنه لا يعدل في ذلك وأن كان لا يميل كل الميل. ولم يكن ثمة ما يحول دون استمرارهما معاً لولا أن فرقت بينهما ريح السياسة إذ كان كل منهما ينتمي إلى حزب يخالف الحزب الآخر. . .

ولما قضي الأمر بينه وبين لوجان، دخل له زميلاً آخر. وكان هذا الزميل شاباً دونه في العمر بعشرة أعوام اسمه هرندن. وكان هرندن هذا من أشد الناس إعجاباً بأبراهام ومن أعظمهم محبة له وإكباراً، فتوثقت عرى الصداقة. وكانت لإبراهام الرياسة هذه المرة، وعظمت ثقة كل من الرجلين بصاحبه. وكان أصغرهما موفور الحظ من النشاط والذكاء،

ص: 53

كما كان كزميله في مذهبه السياسي ومن الداعين إلى القضاء على العبيد. . .

وعرف ابراهام في المحاماة بما لم يعرف به أحد قبله في المدينة؛ فهو بسيط في كل شئ، يجعل الأمر أمر ذمة وإخلاص قبل أن يكون أمر قانون ومغالبة؛ وينظر في تنازع الناس نظرات يوحي بها قلبه قبل أن يرسمها عقله. يرد كل شئ إلى طبيعته إذ كان يقيس الأمور بما كان يدور في نفسه، ولا يتردد أن يفصل بين المتنازعين بما لو فكر فيه غيره لعده من ضروب الخيال والوهن. . . ولكن لنكولن كان له من إنسانيته خير سند، ومن حسن طويته خيرها

جاءه ذات مرة رجل يطلب إليه أن يدافع عنه ليرد له مبلغاً من المال عند خصم له؛ فلما سمع لنكولن قضيته قال: (أني أستطيع أن اربح قضيتك وأعيد إليك تلك الدولارات الستمائة، ولكني أن فعلت ذلك جلبت الشقاء إلى أسرة أمينة، ولن أستطيع أن أتبين سبيلي إلى ذلك. لذلك أحس فيّ الميل إلى أن أنصرف عن قضيتك وأجرك. على أني أبثك نصيحة لا أسألك عليها أجراً: اذهب إلى بيتك ففكر في طريقة نزيهة تكسب بها ستمائة دولار). . . بذلك وبأمثاله اتخذ ايب الأمين سبيله إلى قلوب الناس، فما منهم إلا مكبره ومحبه. وكان الناس يجيئونه ليحكموه فيما شجر بينهم، وكلا الخصمين يعلن أنه راض بما يقول سلفاً؛ وسرعان ما كان يحسم النزاع بينهم كأنهم منه حيال قاض لا محام! وهو لا يسألهم أجراً على ذلك، وحسبه من الأجر منزلته في قلوبهم. . .

وكان يرفع الكلفة بينه وبين الناس كأنه أحدهم مهما كانت درجتهم؛ وكذلك كان يفعل مع صاحبه هريدن، فهو لا يستحي أن يسأله ويستفهمه أن أشكل عليه أمر أو التوت عليه فكرة كأنه تابعه! فإذا ساق إليه الله رزقاً عده وقسمه نصفين ونادى صاحبه:(هذا نصفك)؛ كل ذلك دون أن يكتب شيئاً أو يطلب من صاحبه كتابة، فما كانت بهما حاجة إلى ذلك وكلاهما يبذل من الإخلاص والود بقدر ما يبذل صديقه

وكان صديقه يراه الناس في المحكمة يدس أوراقه في جيبه حتى لينبعج وينتفخ، ويرونه يدسها في قبعته كأنه يجعل منها قبعة وحقيبة. كان لا يعني في شيء بمظهر وإن حرص كل الحرص في كل شيء على الجوهر. . . وكان في عمله كما كان في منزله، يأبى إلا أن يرسل النفس على سجيتها؛ وسيظل كذلك حتى تتحقق له كبرى الرياسات. . ولله ما كان

ص: 54

اعظم تلك البساطة منه في كل شيء! وهل ثمة بين المتكلف المتصنع وبين الصعلوك من كبير فرق؟ إن أمرهما واحد فيما أرى وإن بلغ من تمويه أولهما ما يكفي لأن يحجب عن الأعين حقيقته. . .

(يتبع)

الخفيف

ص: 55

‌حلبي يزور باريس

في سنة 1867

للدكتور حسين فوزي

تتمة ما نشر في العدد 245

وينتقل بنا الخواجا فرنسيس من أشور لمصر ليونان لروما، فيقول في فلاسفة الإغريق:

فذاك أرسطو وذا إقليدس

ذو منطق هذا وذا مهندس

وهو ذا سقراط ذاك الأنفس

من كان للآداب دوماً يغرس

ثم يكون من سوء حظ ديوجنيس أن يجئ في الشطرة الخامسة، فتسلبه القافية الرائية مصباحه، ولا يبقى له من فلسفته الكاتبة إلا أن يكون:

وذا ديوجنيس ذو التعرّي!

ورحالتنا رجل حساس بجمال فن التصوير، فهو يأمرنا:

أن نعرج نحو مكان الصور

حتى نرى أجمل صنع البشر

حيث عينه الفنانة لا تخفي عليها خافية:

فهاك كل بطل مبارز

يلوح في أعضائه البوارز

وكل خود ذات طرف غامز

وأجفن عن الهوى روامز

وطلعة تخسف وجه البدر

لا شك أنك تعبت من التجوال - أو من الشعر! - والخواجا فرنسيس يشعر بذلك تواً، فهو يلاحقك بشعره الفلسفي إذ يقول:

تبا لنفس حظها يصرعها

وكل ما يلزها (كذا!) يلذعها

آفتها تضجر يتبعها

فأينما سارت أتى يصفعها

وربما يلحقها للقبر

أظن أننا لن ننتهي بسلام من خمسمائية المعلم فرنسيس، وقد تكفي الإشارة إلى أنه ينتقل بك فيها من حديقة (اللوكسمبور) إلى متحف (كلسوني) ومن دار البلدية إلى (بولفار ميخائيل إلى لقا ينبوعه الجميل). ولا ينسى أن يعرج بك على حديقة النبات ومتحف

ص: 56

التاريخ الطبيعي حيث يدور شعراً في أقسامه من الجيولوجيا، إلى المعادن، إلى النبات، إلى الحيوان. ثم هو يأخذ بيدك إلى متحف (الفنون والصناعات)، وينتهي بك إلى باريس في الليل حيث يرى (الكل يمشون بها أزواجاً - ويدخلون في الصفا أزواجاً)

والآن وقد اجتزنا محنة شعر الخواجا فرنسيس، يمكننا أن نتمتع دون وجل ببقية نثره. فنعود إليه في أول وصوله إلى باريس عند (انفلاق الصباح) تلك المدينة ذات الشوارع (رحبة العرض، مستقيمة الطول، حسنة التمهيد والتخطيط. . . جامعة لكل شروط النظافة والإتقان. فلا يقوم هناك للجيف الطاعونية انبعاث، ولا للأقزاز (كذا) الوبائية حشر) - لا شك أن صورة عمران العثمانيون لسوريا ماثلة لعين الحلبي المسكين وهو يكتب هذه الفقرة!

ودخل رحالتنا إلى مسارح باريس التمثيلية منها والغنائية، فوجد الفرنسيين فيها (جامعين إلى دست واحد ما تفرقت قطعه في رقاع السنين. وهكذا يحلون هذه الاستحضارات (ليفكرن صاحبنا بالمندل) والاستظهارات بقلايد الآداب، وفصاحة اللغة ويرخمونها بآلات الطرب وحسن الصوت، بحيث أن المشاهد لا يعود يدري بأي حاسة يستقبل وقوع الطرب (بحاسة الشم غالباً!) أبعينه أم بأذنه. فيرحل حاملا في دماغه نهاراً من الأدوار الأدبية، وفي أعينه انبهاراً من الأضواء الطبيعية، وفي قلبه أنهاراً من ينابيع الطرب والحبور)

ولا شك أن ضوضاء باريس في 1867 كانت شديدة على آذان هذا الحلبي - ليت شعري ماذا يقول لو عاد إلى باريس سنة 1938! - (حينما تكون الأعين راتعة في تلك الآفاق الزاهرة، تكون الآذان عرضة لالتطام تموجات الضوضاء الباريسية، واصطدام تلك الرجات التي تبتلع لعلعات الرعود، وتهتضم طلقات الصواعق. فهناك ألوف المركبات مندفعة على الدوام اندفاع الأمواج إزاء مهب العواصف، وألوف صنوف العربات منسحبة وراء خيولها الجامحة (تصور ألوف الخيول الجامحة وسط المدينة العامرة!) انسحاب السحاب بأزمة الرياح)

وعن العمل والعمال والنشاط البادي في كل مظاهر الحياة: (وهناك لا يفتر صياح ربوات أعمال الأيدي مطلوقاً من أفواه الآلات والأجهزة، ولا تكف ألوف المعامل البخارية صافرة بأبواقها النارية لتدعو فرسان العقول - لاحظ اللغة التصويرية! - إلى مواصلة النزال في

ص: 57

حومة الإبداع والاختراع، تسديداً لواجبات القرايح، وتشييداً لنظام الجماعة. وهناك الجميع يجرون إلى الامام، الجميع يحركون، الجميع يتسارعون، الجميع يشتغلون، الجميع متعاضدون سوية، منضمون إلى قوة واحدة، للركض إلى اقتحام كل المصاعب، والوصول إلى قمة الكمال والجمال. . . فكم سرور واندهاش للأعين إذا، عندما ترى هذه الأمة الفرنساوية تتموج على بعضها كقصعة واحدة، بدون نزاع في جزئياتها، ولا انقسام في كلياتها، سابحة في بحور الأمن والسلام، بدون خوف من واثب أجنبي أو حسود غادر) ونسى الخواجا فرنسيس سياسياً في برلين اسمه بسمارك يتربص بفرنسا؛ ويرسل (أولان) بروسيا يقتحمون باريس بعد أربع سنوات من كلاعه عن (الواثب الأجنبي، والحسود الغادر)، ويعقدون تاج الإمبراطورية الألمانية على رأس غليوم الأول في قصر فرساي. لذا واصل رحالتنا كلامه عن (عدم خوف الأمة الفرنساوية من وحش مفترس، أو جبار مختلس - بالذات! - رافلة بأذيال الحرية الكاملة) - في عهد الإمبراطور نابليون الثالث تلك الحرية الكاملة!

أما عن أنوار باريس - ويقينا باريس كانت جديرة باسم (مدينة النور) حتى في ذلك الوقت - فالخواجا يحدثنا عن (الأنوار الغازية المندفعة من أفواه ربوات أنابيبها تحت أشكال ألسن نارية تدعو باردي الروح إلى الدخول في كرة التمدن المتوقدة بلهيب الحكمة والآداب)

ورحالتنا الحلبي مدرك تمام الإدراك أن (كل هذا العجيب والكمال الغريب الذي رقت إليه هذه المدينة المعظمة) إنما هو نتيجة ارتقاء (العقل عندهم في طريق التقدم والنجاح، ولم يصعد العقل إلى القمة العالية إلا بدرج المدارس التي لا يفتر تشييدها، ولا يكف نظامها. فيوجد عندهم لكل قسم من العلوم مدرسة تحيط به وتجمع شمله جمعاً لا يقبل التفريق)

ثم هم (أقاموا في كل جانب من المدينة مكتبة عظيمة، معدة لقبول الجمهور مطلقاً. فيدخلون الناس إليها أفواجاً، ويقرءون ما يريدون، وينسخون ما يشتهون بكل راحة وهدوء بال. . .

ولما كان يوجد جانب كبير من العلوم يستلزم كونه عملياً وعيانياً بعد كونه نظرياً، فقد شادوا لذلك محلات مخصوصة يسمونها بالموزيوم، وأشحنوها من كل المواد الضرورية لدراسة موضوعها) وقد وجدها الخواجا فرنسيس مقسمة إلى ما يشتمل على (الاستحضارات التاريخية جيلاً فجيلاً، وأمة فأمة، إن يكن بالنظر إلى أعمال الأيدي، أو

ص: 58

إلى الأديان والعقايد، أو إلى العادات. . وما يشتمل على المواد التي يتألف منها جسم الأرض وما يشتمل منها على الأجسام المشرحة مع كل أعضائها وأجهزتها حيث يتأمل الإنسان كل نواميس نموه منذ كونه دودة وليس بإنسان، إلى كونه إنسانا عظيما. . . وما يشتمل على العالم النباتي بكل طوايفه. . . أو العالم الحيواني بكل أجناسه وأنواعه. . . حتى يدرك نظام حيوة كل نوع وفرد، فيعلم أخيراً أن الحيوان كلما انتصب هيكله ارتفع نوعه. حتى إذا ما وقع رأسه عموداً على محور سلسلته كان إنساناً)

وقد رأى أن (هجوم الناس على العلوم والمعارف يشبه انحدارا الغدران من أعالي الجبال. فترى الأباء يسرعون إلى وضع أولادهم في المكاتب حالا بعد فطامهم (أي والله!).)

ومن أدق ما لاحظه المعلم فرنسيس اهتمام الفرنسيين بدراسة لغتهم، إذ يجب (أن يعلم كل منهم قواعد لغته وفهم أصولها. والذي يجهل ذلك يعتبر عندهم كالحيوان العديم النطق، لعدم معرفته صحة النطق. . . وكلما ازداد الشخص معرفة وتعميقاً بلغته، ازداد اعتباراً وكرامة وارتقاء، إلى أن يجعلوه قاضياً في محكمة اللغة أقرأ: '

وكيف يرى الخواجا فرنسيس الحلبي كل ذلك ولا يفكر في ضعة الشرق وانحطاطه، أو لا يقارن بين ما ينال العالم في فرنسا وبينما يصيب من له في الشرق (هوس في العلم، فيعيش مقطوع الخرج، وربما يحتقر ويهان. ولا يحصل على شيء من الجوايز سوى قول الناس عنه: هذا نحوي بارد، أو شاعر مشعر، أو بعرفينو، أو فلفوس. وإذا كان يروي شيئاً من التاريخ يقول عنه: هذا حكاكاتي). وخواجتنا العلامة لا يدعك تتساءل عن أصل هذه الكلمات، فهو يفتح قوساً ليقول لك بأنه (يوجد كثيرون يقبلون شاعر إلى مشعر، وعارف إلى بعرفينو، وفيلسوف إلى فلفوس، وحكاياتي (كذا!) إلى حكاكاتي!)

ولقد لاحظ رحالتنا والألم يحز في فؤاده أن مركز الطلبة غير محترم في باريس. وتفسير ذلك عنده (أنه ما لم يحصل الدارس أولا على شهادة مدرسية، فأنه لا يمكنه الحصول على ثمرة دراسته وجايزة أتعابه. كما أنه بدون رنين هذه الشهادة لا يسمع أحد به، فلا يوجد له اعتبار، وربما كان ساقطاً من أعين الناس لكونه دارساً. سيما إذا كان يدرس الطب أو الشريعة). وسترى أن طلبة الطب والحقوق في عصرنا إنما يحتفظون بسمعة قدمائهم السيئة. واليك تفسير الخواجا فرنسيس، وهو ينطبق في بعضه على العصر الحاضر:

ص: 59

(وما ذاك إلا لأن صيت درسة (طلبة) هاتين الصنعتين لا يوجد عندهم اقبح منه. ولا جرم في شيوع هذا الصيت الردى لأنه يوجد حقيقة قسم كبير من هؤلاء الدارسين مطلوق العنان إلى ارتكاب الكباير والجرايم، عوض الانكباب على الدراسة والمطالعة. فترى جماعة هذا القسم تايهين في عالم الشهوات، وضاربين في أودية المعاصي. فهم يطوون النهار ويحيون الليل ما بين الدساكر والخمارات ومحلات الانهماك على الفساد. . . فتراهم هناك مفصومي العرى، محلولي الثياب، مشوشي الشعر. وبرانيطهم مقلوبة إلى الوراء كأنها مجفلة من إماراتهم)

وكان من سوء حظ المعلم فرنسيس أن يشهد جامعياً في داخل قاعة المحاضرات: (وقد شهدت شيئاً من ذلك ضد أعظم معلمي النباتات عندهم. وهو أنني دخلت إلى القاعة المعدة للخطابات، حينما كان المعلم مزمعاً أن يفتح كلامه على النباتات. فرأيت المحفل مضاعف الاحتفال. أي أنني وجدت عدداً وافراً من الدارسين الذين لم أصادفهم قط في محلات الدراسة. فحالما دخل المعلم لابساً ثيابه الرسمية، وصعد على منبر الخطابة، أخذ هؤلاء الدارسون يصيحون ضده، ويصفرون ويزمرون ويدبديون بأرجلهم حتى لم يتركوا له سبيلا للفظ كلمة. وكلما رأوا شفتيه تتحرك أو تهم على الحركة أزادوا الضوضاء والصراخات. وفي أثناء ذلك دخل رئيس المدرسة نفسه ليرجوهم أن يستمعوا لهذا المعلم. فما نجم عن دخوله سوى تضاعف مربع الحركة، ولم يلبثوا أن هبط الخطيب من منبره فانفض المجلس).

لا حاجة إلى وصف الخواجا فرنسيس بأنه رجل ساذج فقد (عرته حينئذ جمودة البهتة وصار مهوى لتيار الاقشعرار، وكان قلبه يقابل ارتجاف المحل بارتجاف الرعدة). ولدى خروجه سأل البعض عن (سبب اندفاع هذا البركان البليغ، فقيل له إن هؤلاء الدرسة يمقتون كل معلم يدقق مسايل الامتحان لكونهم لا يدرسون إلا نادراً وقليلاً. ولذلك يريدون عزل هذا المعلم أو تنكيس أعلامه لشدة تدقيقه عليهم في الامتحان النباتي بحيث لا يمكنهم احتمال ذلك لضعف دراستهم). ويغلب على ظني أن السبب في هذا الـ كان سياسياً. وأقرب الحوادث من نوعه إلى أذهاننا مظاهرة طلبة الحقوق ضد البرفسور جيز أيام كان يدافع عن قضية النجاشى في عصبة الأمم. نعم إن قسوة الأستاذ في الامتحان ربما ساعدت

ص: 60

على تظاهر الطلبة، ولكنها لا يمكن أن تكون سبباً بعينها. وما رآه الخواجا فرنسيس يرجع في ظني إلى الشعور الجمهوري الذي كان ينفجر من آن لآخر بعد قلب الجمهورية الثانية وتنصيب البرنس نابليون إمبراطوراً باسم نابليون الثالث

وواضح أن الخواجا فرنسيس رجل قليل التسامح. فهو الدارس - برغم الثلاثين وبلغها - يجاري الرأي العام في الزاوية بالدرسة حتى لينتقد لباسهم. ولا شك أن هذا الحلبي لابس القنباز كان آخر الناس أهلية للحكم على لباس الطلبة في باريس؛ وهذا الشرقي كان آخر من يحق له أن يحجر على حرية الطالب الباريسي؛ ومع ذلك يقول: (والنظر الساذج إلى أولئك الدارسين يوشي بقبح سلوكهم، لأن ملابسهم تعبر عن منافسهم، فهم يلبسون بنطلونات هكذا ضيقة حتى يكاد تتمزق بين أفخاذهم، وسترات هكذا قصيرة حتى لا تخفي شيئاً من الإليتين إلا قليلاً، وشعورهم طويلة منفوشة، وبرانيطهم عريضة كثيرة الانفراج هضيمة الكشح. وكلما كانت البرنيطة تامة في هذا الشكل كان صاحبها أكثر تقدما في ذلك الضرب، حتى تخال البعض من هذه البرانيط نظير غمامة سوداء على رأس حاملها، فمتى لاح هكذا شخص قال الناس: هو ذا الدارس!) فالمعلم فرنسيس يأسف على وجود (هكذا سرب بين دُرس الطب والشريعة أوجب سقوط الجميع من أعين العامة مدة الدراسة مع أن جماعة القسم الأكبر - والذي عليه المعول - لا يسلكون تلك الطريق، بل يسيرون في سبيل مضاد على الخط المستقيم، وعوض أن يطفئوا بمياه الشباب لهبات الشهوات إنما يستقطرونها بأنابيق أدمغتهم المضطرمة بنار الاجتهاد والحمية)

ويستطرق رحالتنا من كلام عن الدرسة المجتهدين إلى ختام وصفه النثري لباريس حيث له حديث طويل عن (بحار التمدن المتدفقة من محابر رجالها، وانهار الأدب جارية من ينابيع أفكارهم) وعن (ممالك الأباطيل والأضاليل، وعروش الحقائق والهدى). ثم يتحدث في لغة سامية عن الفكر (وقوته التي تغلب جميع القوات، ولا تعرف راداً إذا جمحت، ولا صادماً إذا اندفعت). ويضرب لهذه القوة أمثلة أجاد اختيارها حقاً، فهو يقول:(أي قوة أوقفت حركة الأرض بعد ما أدارها غاليلي (جاليلو) على محورها، ودفعها تكر على محيط دايرة البروج. وأي قوة هدمت بناية الإصلاح بعد ما أشادها فكرهوس ، وأي قوة أوقعت دوران الدم في أوعيته بعد ما أجراه فكر هارفي مع أن ذلك حبس وذاك حرق (جان هوس

ص: 61

احرق على ما أذكر) وذا اضطهد)

(ولما عرف بنو المغرب كونهم محملين بقوة الفكر، أخذوا يهذبونها ويثقفونها، ويستظهرون نتائجها بدون التفات إلى تهديدات المغرضين، أو معارضات المبغضين). وبذلك (بلغوا هذا المبلغ العظيم من الفلاح والنجاح، وتركوا بقية العالم يتقهقر وراءهم، ويتساقط تحت أحمال كبرائه، وأثقال ثقلائه، فاقد التفكير وعديم النطق)

وهذه الإشارة المستترة إلى (تساقط الشرق تحت أحمال كبرائه وأثقال ثقلائه، فاقد الفكر وعديم النطق) تشترى كل كبوات الأسلوب عند الخواجا فرنسيس، فهو رجل سليم التفكير جدير بالتهنئة على كتابه الساذج، ولو أن هذه التهنئة (تشيح بوجهها) أمام شعره، وإذا كان نثره (يصدمنا) بصوره العنيفة المزدحمة، فإن خلوه من التسجيع الذي كان ضرورة من ضرورات الكتابة في عصره، يشهد للخواجا فرنسيس بروح استقلالية مشكورة، كنا نود أن نراها تعمل على إقصائه نهائياً عن الشعر بعد أن عصمته من السجع

ويختتم الرحالة كتابه بفصل إضافي عن معرض باريس العام في سنة 1867. ولكن هذا الفصل لا يمكن أن يزيد معرفتنا بالخواجا فرنسيس. . . حتى ولا بذلك المعرض

حسين فوزي

ص: 62

‌ربيع!

للأديب صلاح الأسير

حَلِمَ الوردُ بالصباحِ، وجُنَّ ال

غصنُ شوقاً لزقزقاتِ الطيورِ

وارتمى العصفُ حائراً يتلوّى

في دروبٍ محفوفةٍ بالعطورِ

يرقبُ القاصِفَ السخيَّ من الرعدِ

ترامى على يدِ الزمهريرِ

ورُؤى النورِ هوَّمتْ في الروابي

تحملُ الفجرَ في الفم المقرور

أتعبتها الرياحُ، أتعبها البر

دُ فلاحتْ مزرورقاتِ الثغور

فإذا الغابُ قطعةٌ من سوادٍ

وإذا الأفقُ مكفهرُّ الستورِ

وإذا الناسُ تائهون حيارى

رهبوا غمرة الظلام الضرير

وإذا النهرُ صاخبٌ يدفعُ الصخ

رَ، ويرمي بنفسه في الصخور

وتراءى الربيعُ، في الرونقِِ الضا

حي سخيَّ الأجواءِ رحبَ المرادِ

يزرعُ الدفء في الفضاء ويهفو

خاضباً بالطيوبِ وجهَ الوهادِ

ويريقُ الهناَء ملَء مرادِ ال

أرضِ خصباً وملء ظنَّ العبادِ

فترى الدوحَ واثباً في الأعالي

أخضرَ الزهو ضاحكَ الميلادِ

يحضنُ الطائرَ الذي ضاق ذرعاً

ببروقِ الشتاءِ والأرعادِ

ويطيبُ الهواء في موكبِ الصحوِ

ويسري العبيرُ في كلَّ وادِ

فترى الغابَ نضرةً والورودَ ال

حمرَ عرساً يغصَّ بالأورادِ

وإذا الكونُ حالم النعم الخض

ر تعالت صلاته في النجادِ

يا بنات الربيع غنينَ أحلا

مي وغنينَ بالهوى والهناءِ

واستبقنَ الشعاعَ في الروضِ والثم

نَ خفافاً بواكرَ الأنداءِ

ما تريْنَ الفراشَ يرقصُ في الز

هرِ خفوق الجناح غضَّ الرواءِ

واثباً يلتقي المنى تتهادى

دون أجوائه الرحابِ النوائي

والنسيمُ الندىُّ ينفحُ بالطي

ب وجوه العرائس الزهراءِ

يا بنات الربيع رفرفن في الجوِّ

وداعبنَ رفرفاتِ الهواءِ

والتقين الربى تضيعُ بها الع

ينُ نداءً لغفوةٍ خضراءِ

ص: 63

فكرةٌ أنتِ حارَ في فهمها الكو

نُ وأعيا بها رحيبُ الفضاءِ

ياربيعي تنامُ أنتَ وفي الكو

ن ربيع يموج حلوَ البرودِ

وعذارى الربيع في القرية الول

هى يغنين خافقاتِ النهودِ

يا ربيعي أفقْ ودعْ لي صباحي

تائهاً في رحابه والنجودِ

حالم ألتقيكَ في ولهِ الحي

رةِ رؤيا على الربيع الجديدِ

أنتَ منى هوايَ أنت أغانيَّ

حلمٌ رأيتُ قبلَ وجوديِ

أنتَ طيفُ الإله في عالمي البك

ر وأسطورة الزمان البعيدِ

قمْ بنا نحضنُ الربيع وأغدو

في ربيعين، يافعٍ ووليدِ

وأنا أبنُ الربيع إلفُ الضياءِ الس

مح وابنُ الجمالِ، تربُ الخلودِ

(بيروت)

صلاح الأسير

ص: 64

‌إلى.

. .

للأستاذ إبراهيم العريض

تعالَيْ فأن الليلَ يبسطُ ظله

لكي يتمّلى ناشئُ الزهرِ حِلَّه

وإن فؤادي برعُم في يدِ الصِبا

سأعدمُ نشراً منه إن لم أطله

وثَمّة سرٌّ كامنٌ فيه كالشذا

ولم أتنشَّقْ منه إلا أقله

طوى باكياً كالزهرِ أوّلَ صفحةٍ

من العمرِ حتّى يضحكَ العمرَ كله

ولحنٍ كترجيع الرباب إذا انثنى

عليه بخمس مُطربٌ فاستهله

يوقِّعه قلبي على وترِ الهوى

تباعاً. . . فأقضي ليلتي أتوله

ولا من نجيٍّ إذ أحاول بثَّه

كأَحسنِ ما بثَّ المحبُّ هوىً له

سوى شبَحٍ أن يطرفِ العين لمحه

أيُنكِرُ دمعي في الضلوعِ محله

إبراهيم العريض

ص: 65

‌القصص

شارلس لام يروي عن شاكسبير

قصة الشتاء

للأستاذ دريني خشبة

أحب ليونْتس ملك صقلية زوجه الحسناء الفاضلة هرميون حباً يقرب من العبادة

وكان صديقه بوليكسينز ملك بوهيميا أحب الناس إليه بعد هرميون، لأنه رفيق الصبا وخِدن الشباب وزميل المدرسة. . . فلما فصلت الأيام بينهما لارتقائهما أريكة الملك، ظلا يسقيان فروض الصداقة، ويرعيان عهود المودة، ويتبادلان الهدايا والتذكارات والُّهي

ثم دعا ليونتس صديقه لزيارته، وألح في دعوته، فأقبل بوليكسينز ليحل ضيفاً على البلاط الصقلي، ولقيه الملك لقاء المشوق المستهام، وقدمه إلى زوجه هرميون أعز صديق بل أعز شقيق

وأخذا يتنادران في النهار ويسمران في الليل، ويقص أحدهما على الآخر ذكرياته، ويستعيدان ملح الطفولة ورقائقها، ويستعرضان صور الشباب الوارف الفينان، وهرميون أثناء ذلك تصغي إليهما وتقبل على حديثهما وتسرّ به، وكان زوجها يوصيها خيراً بضيفه فكانت تحتفي به، وتبتكر الأساليب لإدخال السرور على نفسه

وأستأذن ملك بوهيميا صديقه في الأوبة، فأبى ملك صقلية إلا أن يتلبث. . . فألح ملك بوهيميا وأبى إلا أن يعود. . . وهنا سأل ليونتس زوجه هرميون أن تطلب إلى بوليكسينز أن يبقى. . . فلما فعلت لبى ملك بوهيميا، ونزل عند رجائها، وأجل سفره إلى موعد آخر

وا أسفاه!!

لقد نفثت ثعابين الغيرة سمومها في قلب الملك، واحتلكت الحياة في عينيه، ولم يفتأ يسائل نفسه لِمَ قَبِل ملك بوهيميا رجاء هرميون بمجرد أن كلمته، مع أنه لم يقبل رجاءه هو؟!

(إن في الأمر شيئاً، وان وراء الأكمة ما وراءها. . هذا لا ريب فيه! لقد زاد عطف هرميون على هذا الضيف الثقيل، حتى شككت في أن يكون العطف حباً. . . وهذه النظرات التي كانا يتخالسانها في حضرتي. . . وهذه الضحكات الفضية التي كانت

ص: 66

هرميون تسقسق بها في هواء المكان الذي كان يجمعنا وبوليكسينز. . .!)

وعلى هذا النحو راح الملك يجتر شكوكه ويوسع آفاقها ويلقي في نارها وقود الظن حتى أنضجت فؤاده، وحتى غدا بسببها وحشاً مغيظاً محنقاً، ينظر إلى هرميون الجميلة المفتان الحصان الطهور، نظرته إلى المرأة الفاسقة المسافحة الهلوك وينظر إلى صديقه العف الحبيب، كما ينظر إلى عدوه الفاجر اللدود

وأرسل الملك إلى أحد رجالات بلاطه - السيد كاميللو - فبث إليه خبيئة صدره، وأمره أن يدس السم لملك بوهيميا في طعامه

وشاءت العناية ألا يمتثل كاميللو أمر مولاه، وشاءت كذلك أن يلقي كاميللو بالسر كله إلى ملك بوهيميا، وأن يحذره مغبة البقاء في ضيافة ليونتس؛ فيدبران الأمر معاً، ويفران في جنح الظلام إلى بوهيميا

ويثور ثائر الملك لهذا الفرار، ويكبر في روعه فيكون برهاناً جديداً لما دار في خلده من شكوك وريب، فيذهب من فوره إلى مخدع الملكة، حيث جلست تصغي إلى قصة ظريفة يلقيها عليها ابنها مارميللوس. . . الطفل اليافع الجميل. . .

وكان الملك مقطب الجبين عابس الوجه، يضطرب في قلبه بركان من الغضب، وتتدفق في أعصابه سيول من الححم، فتقدم كالوحش المجروح فأنتزع مارميللوس، وأسلمه لمن يُعنى به. . . ثم أمر فسيقت الملكة إلى غيابة السجن

وأرسل الملك سيدين من رجاله - كليومين وديون - إلى دلفوس ليستوحيا له كهنة أبوللو في أمر زوجته، وفي حقيقة ما اتهمها به. . . هل صحيح أنها خانته مع صديقه، أم هي براء من هذه الجريمة الشنعاء؟

في تلك اللجة من الدموع، وفي هذا الليل الزاخر من الأحزان، وضعت هرميون في سجنها السحيق أنثى. . . كانت سلوى باكية لأمها المشجونة؟

وهكذا ضم السجن ضحية أخرى. . . مولودة شقية لا ذنب لها ولا جريرة ولا إثم. . . أرسلتها المقادير إلى هذه الدنيا المعوجة القاسية لتكون حياتها مأساة!

وكان للملكة صديقة من نساء سادة البلاط تحبها وتخلص لها الود، تدعى ليدي بولينا، زوجة انتيجونوس الصقلي

ص: 67

فلما علمت بما أجاء الملكة في سجنها من المخاض، وما تلا المخاض من وضع، ترقرقت دموع الألم في أغوار قلبها من اجل مولاتها، وانطلقت إلى السجن خفية، فقالت لليدي اميليا؛ السيدة الطيبة القلب المنوط بها السهر على الملكة:(أحسبك ياعزيزتي الليدي تشركينني في الألم لما أصاب الملكة!) فلم يكن إلا أن تفجرت الدموع من عيني اميليا جواباً على ما قالت بولينا. . فقالت لها وقد سرها ما رأت من بكائها: (إذن تذكرين لها أنني هنا. . . وأنني مستعدة لان اذهب بالطفلة إلى الملك فأدافع عن هرميون، والقي إليه بابنته عسى إن هو رآها أن ترقق ما قسى من قلبه، وتنير ما تدجى من نفسه، وتظهر له ما خفي عليه من برهان ربه) فأجهشت أميليا، ودعت للسيدة، وشكرت لها مجازفتها، ثم ذكرت أن الملكة كانت تفكر في مثل هذا

ودفعت الملكة بطفلتها إلى بولينا فذهبت بها إلى الملك رغم ما حذرها به زوجها من مغبة الإقدام على هذا الجنون، خشية أن يبطش بها؛ فلما مثلت بين يديه كشفت عن المولودة البائسة فصاحت وأعولت، ثم وضعتها عند قدميه، وانطلقت تدفع عن صديقتها الملكة ما رماها به من الفحش، وطلبت إليه أن يرحم الطفلة بالعطف على أمها. . . وكانت تتدفق في دفاعها كالسيل، وترق في استعطافها كالنسيم، ساكبة أثناء هذا وذاك دموعها تنثرها على كلماتها، وتنضج بها عباراتها، عسى أن يلين فؤاد الملك

ولكن الملك وا سفاه لم يزدد إلا عتوا ولم يزده ما صنعت بولينا إلا استكبارا، فأمر زوجها أن يذهب بها من بلاطه وان يتركاه إلى شيطانه.

ثم دعا الملك إليه انتيجونوس - وهو زوج بولينا - فأمر أن يحمل الطفلة إلى البحر وان يقلع بها ليتركها عند أول شاطئ وديعة مظلومة بين أيدي القضاء والقدر

وأتمر الرجل الغبي بأمر الملك، فحمل المولودة في يديه الجبارتين وألقاها على صدره الصخري، ومضى بها إلى. . . البحر!

وهكذا فصل الملك بينه وبين قطعة فؤاده في ثورة الغضب الجامح، غير منتظر عودة رسوليه بنبوءة أبوللو من دلفوس

ولم يكن بحسبه هذا، بل أمر بقضاة المملكة وذوي الرأي فيها فاجتمعوا في حشد عظيم لمحاكمة الملكة. . لمحاكمة هرميون. . بأعين الرعية، وعلى ملأ من الجمهور

ص: 68

ولغطت ألسن السوء بما اتهم به الملك زوجته، وراجت، شائعات الضلالة، واهرع الناس من كل فج ليشهدوا مليكتهم التقية النقية تقف موقف الاتهام الوضيع، والشك المزري، ثم لتسمع بعد هذا الحكم الذي لا تدري هل يكون عليها أم لها

وصمت الناس حتى لكأن على رؤوسهم الطير

وجلس القضاة فوق المنصة الكبرى وليس في خد أحدهم قطرة من دم

وصدئ البريق في عيونهم فانبعث منها ظلمات من ورائها ظلمات!

وفغر الناس أفواههم حين شاهدوا الملكة المظلومة تبكي، وهي برغم بكائها جميلة فينانة ريانه رائعة. . . لأنها بريئة

وحضر الملك فلم يتحرك أحد للقائه. . . وجلس فوق عرشه الصلف، وأخذت نظراته تزيغ هنا ثم تشرد هناك. . . كنظرات الذئب قد فجأه ضبع!!

وحينما دق كبير القضاة بيده على المنضدة مؤذناً ببدء المحاكمة، شهد الناس سيدين من خيرة ساداتهم يشقان الجموع المحتشدة، ويذهبان إلى هيئة المحاكمة صعدا، ثم يتجهان ناحية الملك

أوه!! إنهما كليومين وديون قد عادا من دلفى!

ترى ماذا في هذا الظرف الكبير المختوم بخاتم كاهن أبوللو الأكبر؟!

قال الملك: (افتح يا كليومين بإذني، واتل على الناس نبوءة دلفى!!

وفض كليومين الظرف الكبير، ونشر الصحيفة البردية، وراح يتلو:

(بريئة هرميون)

(لا وزر على بوليكسينز)

(كاميللو من الرعايا المخلصين)

(ليونتس ظالم غيران)

(سيعيش الملك بلا وارث إن لم تعد طفلته المفقودة!!)

وتبسم الملك مستهزئاً، وظن ظان النبوءة رجس من عمل هرميون وتلفيق أصدقائها، ثم أمر القاضي الأكبر أن يأخذ في المحاكمة ليتبين الرشد من الغي

وحينما دق القاضي بيده مؤذنا بدء المحاكمة، إذا رجل طويل يقدم حتى يقف تلقاء الملك

ص: 69

وهو يلهث، فيقول

- مولاي! الأمير يا مولاي! ماميللوس!

- ما له يا رجل؟

- ما. . . ما. . . ت!!

- مات؟ ولمه؟

- حزناً على أمه الملكة يا مولاي! لقد هاله أن تقف هذا الموقف لتفضح ظلماً في شرفها وعرضها. . . آه يا حبيبي الأمير. . . آه يا اعز الناس علي!!)

وزاغت الأبصار كلها. . . واستخرط الناس في البكاء. . . ووجم القضاة فلم ينبسوا بكلمة

أما الملكة، أما هرميون المسكينة، فقد ذاب قلبها، ووهى جلدها، ولم تطق أن تسمع أن ولدها الوحيد الحبيب قد لفظ نفسه الأخير وجداً عليها، ورثاء لها، فنظرت إلى الدنيا كأنها تسوخ تحت قدميها، والى السماء كأنها تطوى من فوقها، والى الناس كأنهم عيون ودموع وقلوب كسيرة مفجعة. . . فخرت مغشياً عليها

وانتفض قلب الملك!

وتفجرت في أغواره شآبيب الرحمة، وانسرقت عبرة من عينه تغلي كالمهل لتكفر عن خطيئته. . . فأشار إلى بولينا ومن معها من وصيفات الملكة، فحملنها، وأوصاهن بها خيراً

واخذ الجمع الحاشد يتمزق أباديد

ولم يمض غير قليل حتى عادت بولينا وفي وجهها سحابة حزينة باكية، وفي جسمها رجفة عظيمة، وفي عينيها دموع سخينة حرار. . . وفي فمها نعي هرميون!!

ماتت هرميون إذن، وخلفت هذه الدنيا السمجة المملوءة بالرذيلة وراءها. . . خلفتها للملك المغيار المسكين الذي لم تنفعه أن تتحرك الشفقة في فؤاده حينما سمع بموت وليه ما ميللوس، ولم ينتفع كذلك أن يؤمن ببراءة هرميون بعد إذ رماها بأم الموبقات

وذكر ليونتس طفلته التي نفاها وراء البحر مما جلبت عليه مظنة السوء في أمها من خبال، فصار شجوه شجوين، واعتلج فؤاده بهمين، وود لو يعطي عرشه وملكه لمن يرد إليه المولودة التي لا يعرف لها اسماً ولا يكاد يذكر لها رسماً

ولكن هيهات! فهاهي ذي السنين تمر، والأيام تكر والملك المسكين يتلظى بنار الشجو

ص: 70

والشجن، ويغص بآلام الأسى والحزن فهو من عيشه في سجن، ومن قصره في قبر، ومن ضميره في عناء، ومن ذكرياته في بلاء، ومن رعيته في شهود عليه بما قدمت يداه!!

أما انتيجونوس الذي ذهب بالطفلة وراء البحر، فقد اقلع في سفينة دفعتها الرياح، وما زالت تدفعها، حتى أرست على شاطئ بوهيميا! حيث يحكم الملك بوليكسينز بأمره. . . وهنا. . . نزل الرسول الشقي بالأميرة الصغيرة إلى البر وما كاد يصعد في حدوره حتى لمح غابة قريبة فجعل يدلف نحوها، وفي ذراعيه الوديعة المسكينة تبكي وتصيح من الجوع. . . أو. . . من هذا الصدر البارد الذي لم يعرف حنان الام، ولم يجش فيه لبنها ومحبتها!

وتحت دوحة باسقة وارفة الظلال وضع انتيجونوس الأميرة الصقلية، وعاد أدراجه إلى البحر. . . لكنه لم يبلغه. . . وكيف يبلغه وهذا الدب المنتقم قد ترصده، حتى إذا بعد عن الطفلة انقض عليه، واعمل فيه أنيابه ومخالبه، وطهر ظهر الأرض من روحه المظلمة الظالمة التي لا تعرف الحنان!

وذهب الدب بعد إذ اغتذى وشبع

وبرز من الغابة رجل راع مجدود طيب القلب كان مختبئاً ثمة من الدب؛ وكان بكاء الطفلة يحز في صدره ويذيبه وجداً عليها. . .

وأحتملها في يديه الرحيمتين، وراح ينظر في وجهها الصغير ويتعجب، وينظر إلى لفائف الحرير الجميل والدمقس المفتل ويطرب. . . ثم جلس ليصلح من شأنها ما علمته الأبوة الساذجة فاكتشف كنزا من در وياقوت وجوهر، وورقة كانت هرميون قد شبكتها في صدر ثوبها بدبوس وكتبت عليها. . . برديتا. . . وكليمات أخريات عرف منهن الراعي أن اسم لقيته برديتا وأنها من نسل الملوك الصيد

وخفق قلب الرجل واشتد وجيبه وابتسم للدنيا وابتسمت الدنيا له، وطبع قبلة على جبين الطفلة فسكنت. . . وهرول بها إلى كوخه. . . وهناك. . .

(لها بقية)

دريني خشبة

ص: 71

‌البريد الأدبي

محاضر ألماني في القاهرة

دعت كلية الآداب بالجامعة الأستاذ الدكتور أدولف جروهمان لإلقاء بعض محاضرات عن (الإدارة العربية في مصر في القرون الثلاثة الأولى للهجرة) والمحاضر من أعلام الاستشراق في ألمانيا، وأستاذ الثقافة الإسلامية واللغات السامية بجامعة براغ بتشكوسلوفاكيا، وهو يعنى بناحية دقيقة في التاريخ الإسلامي وهي دراسة أوراق البردي العربية، وعلى الرغم مما يكتنف هذه الناحية من البحث من الصعوبات الجمة فقد ذلها ببحوثه التي نشرها في مؤلفاته وفي المجلات الكبرى التي تعنى بالدراسات الشرقية. ومن ثم عهدت إليه الحكومة المصرية بدراسة أوراق البردي العربية المحفوظة في دار الكتب في القاهرة وهو ينوي إصدارها في سبعة مجلدات مع التعليق عليها، نشر منها حتى الآن ثلاثة باللغة الإنجليزية مع مقارنتها بأوراق البردي اليونانية المتعلقة بهذه الناحية الجديرة بالبحث في تاريخ مصر الإسلامية وقد ترجم الجزءين الأولين منها الدكتور حسن إبراهيم أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب.

وقد تناول الدكتور جروهمان في محاضرته الأولى كُوَرَ مصر كما كانت إبان مجيء العرب معتمداً في ذلك على ما جاء في المصادر اليونانية والسريانية وما عثر عليه في أوراق البردي العربية الموجودة في مصر وفي دور الكتب الأوربية ومكاتبها الكبرى كالمتحف البريطاني ومكتبة بودليان وأكسفورد وسُنْ وليبزج وغيرها

ومصر كما صورها الدكتور جروهمان في هذه المحاضرة تختلف عن مصر الحالية تمام الاختلاف في كورها وبلدانها، وتختلف عن مصر القديمة التي وصفها ستانلي ليبدبول في كتابه (سيرة القاهرة)

وألم الدكتور أدولف في المحاضرة الثانية بالجزية عند العرب وهو يسوق رأياً ظريفاً في الصلة بين كلمة (جزية) و (كسية) ويتناول فيها نظام الضرائب والحركة المالية في مصر في عهد عمرو ابن العاص ومن خلفه وفي العصر الأموي

والمحاضر الدكتور جروهمان واسع الاطلاع في الثقافات العربية والأوروبية الحديثة منها والقديمة، وقد ذلل له بحثه الشائك نظرُه في كثير من المصادر الجمة في مختلف اللغات

ص: 72

الخاصة بهذه الناحية

ميزانية التعليم في إنجلترا لسنة 38 - 39

قدرت ميزانية التعليم في إنجلترا للعام الدراسي 38 - 39 بهذا الرقم العجيب: (51. 002. 330) أي بما يزيد على مجموع ميزانية الحكومة المصرية كلها بأحد عشر مليوناً من الجنيهات. . وبما يزيد على ميزانية التعليم في إنجلترا للعام المنصرم (37 - 38) بمبلغ 2. 161. 413 من الجنيهات؛ وهاك بعض الأرقام العجيبة في توزيع هذه الملايين الضخمة من الجنيهات

35.

513. 000للتعليم الأولي

11.

680. 000للتعليم العالي

7.

887. 000 لمعاشات المدرسين

514.

650للرياضة البدنية والرحلات

ولم يسبق أن أرصدت إنجلترا مبلغاً كهذا للتعليم إلا في سنة 1921 - 22 وبزيادة 12. 335 جنيهاً على المبلغ الحالي

مجلة لكلية الآداب

لا تكاد توجد جامعة في أوروبا أو أمريكا إلا ولجميع كلياتها مجلات راقية تمثل الحياة الجامعية وتحدد مدى النشاط الجامعي وتسجله؛ والجامعة الأمريكية المصرية تصدر مجلة التربية الحديثة مقتدية في ذلك بجامعات أوروبا، ولسنا ندري ماذا يمنع كلية الآداب المصرية من إصدار صحيفة دورية وهي بهذا العمل أولى دور العلم في مصر؛ وهذه صحيفة دار العلوم تصدر حافلةً بالبحوث القيمة وتتبارى فيها أقلام المجدين

أما كلية اللغة العربية فقد علمنا إنها جادة في إصدار صحيفة باسمها. . . ولا غرو، ففيها وفي دار العلوم تحيا العربية وتتجدد

ضرائب الأطيان في مصر الرومانية

لعل كثيرين من القراء يحسبون أن بدعة تعداد الأمم هي سنة مستحدثة لم تعرفها إلا الشعوب الحديثة. لا. ليس الأمر كذلك. فقد ثبت أن قدماء المصريين كانوا أول من وضع

ص: 73

نظام التعداد، وكانوا يجرونه كل أربع عشرة سنة. ولم يكونوا يقتصرون على تعداد الأنفس فقط، بل كانوا يحصون كل شئ في الوطن المصري: الناس والحيوان والمنازل والحدائق ودور الصناعة والمدارس والعاهات. . . الخ، وكانوا يتخذون من هذا التعداد ميزاناً لفرض الضرائب التي كانت في الغالب قاصرة على الأرض وتجارة الوارد. وكانت ضرائب الأطيان في مصر القديمة مضبوطة عادلة، لكنها لم تبلغ الدقة المتناهية إلا في زمن البطالسة - فلما غزا الرومان مصر اعتمدوا في ربط الأموال على الأرض على النظام البطليموسي، وبهرهم هذا النظام فاستعملوه في إيطاليا وطبقوه في كل مستعمراتهم، مستعينين في ذلك بموظفين من المصريين. وقد تنبه العلماء العصريون إلى هذا الموضوع فألفوا فيه كتباً جيدة وأول هذه الكتب ألفه الأستاذ ولكن سنه 1899، وفي سنة 1936 خصص له الأستاذ جونس هوبكنز مجلداً من كتابه (التخطيط الاقتصادي في رومة القديمة). وقد صدر هذا الشهر كتاب (الضرائب في مصر - من عهد أغسطس إلى عهد ديوقليانوس) لمؤلفه العلامة شرمان لي روي ولاس. والكتاب يتناول غير هذا عصراً من أسود العصور التي رزحت تحتها مصر والتي تعتبر فيها بقرة حلوباً للدولة المستعمرة أو كما كان يتبجح الرومان فيقولون (القمح في مصر!)

فتاة إنكليزية تكتب عن مصر

تناولنا في عدد مضى كتاب المستر روم لاندو (البحث عن الغد) الذي تناول فيه مؤلفه أثر التدين في الشرق الأدنى، وبخاصة في مصر والأقطار العربية، والذي نقل منه الأستاذ العقاد صوراً سريعة لقراء الرسالة في عددها الهجري. . . وقد كنا نقرأ عنه فصلاً في إحدى المجلات الإنجليزية فراقنا من المحرر أن يستدرك على المؤلف أنه لم يندمج في الشعوب التي زارها، بل قصر مقابلاته على الفئة الراقية، أو أعلام المثقفين، الذين يهمهم بالطبع أن يعطوا لمحدثهم صورة جميلة عن بلادهم قد لا تكون صادقة. وأشارت المجلة بهذه المناسبة إلى كتاب طريف عن الفتاة المصرية يسد النقص الكبير الذي أخذته على كتاب المستر روم لاندو. والكتاب للمؤلفة الاجتماعية النابغة باربارا أتت إلى مصر لتشهد حفلات زفاف حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول، والتي لم تنزل في فنادق القاهرة الفخمة كما يفعل سائر السياح، بل نزلت ضيفة على عائلة من الفلاحين في بيت ريفي

ص: 74

مطل على النيل فكانت تتغلغل منه في صميم الحياة المصرية التي تمثلها غالبية من المصريين الفلاحين. ثم ذهبت المؤلفة من ذلك البيت في رحلة طويلة إلى. . . الخرطوم! فاختلطت ببنات جنسها في جميع المدن والقرى المصرية، ووصفت طبائعهن وأفراحهن وأحزانهن، وتكلمت طويلا عن الفوكلور المصري وترجمت منه كثيراً من النكات والأغاني والمواويل وأغاني الزار وأناشيد الذكر وأغاني الكنائس البروتستنتية. . .

ولم تهمل المؤلفة نهضة الفتاة المصرية المتعلمة، بل تناولتها في إسهاب وإطناب وإعجاب

تيسير قواعد النحو وإشراك البلاد العربية فيه

اقترحت إحدى الدوائر المختصة بدراسات اللغة العربية في وزارة المعارف على الوزارة أن تعنى منذ الان، وقبل أن تمضي اللجنة التي تألفت لتيسير قواعد النحو والصرف وغيرها من علوم اللغة في عملها، بإشراك الأقطار العربية في أعمال تلك اللجنة منذ بدايتها

وبررت هذا المقترح بأن مسألة القواعد مسألة لا تتعلق بالمصريين وحدهم، وإنما هي مسالة جميع الأقطار العربية والمشتغلين بلغة العرب في متباين أنحاء العالم؛ وإذا أقدمت الوزارة على استدعاء أئمة اللغة، وذلك بتوجيه الدعوة الرسمية إلى وزارات المعارف في الأقطار التي يعنيها الاقتراح، فان الوزارة تكون قد وفرت على نفسها عناء عرض المقترحات التي تقرها لجنة التيسير على الناطقين بالضاد في المستقبل، وحتى إذا ما تم عرض القرارات يكون المشتغلون بمثل تلك الشؤون على بينة من الأبحاث والدراسات، وبهذا يتم تنفيذ ما يقترح في اقرب فرصة

وينتظر أن يكون هذا الاقتراح موضع النظر والدراسة حتى إذا وافقت الوزارة عليه وجهت الدعوة إلى الحكومات العربية بندب الذين يقع عليهم الاختيار لتمثيلها في اللجنة المشار إليها

حصة مصر!

من أمتع الكتب التي أخرجتها المطابع الإنجليزية في الأسبوع الفارط كتابان، أحدهما عن اليابان وعنوانه:(إلى أين أنت ذاهب: إلى اليابان؟) للكاتب اللبق وللاردبرس والآخر عن الولايات المتحدة واسمه (نهضة أمريكا نحو القوة) أو تاريخ حديث لأمريكا: للكاتب

ص: 75

المحقق و. ا. وودوارد. والكتابان متشابهان من حيث الموضوع، وكل منهما يبشر بالوطنية الإنجليزية بين الإنجليز مع ضرب المثل من الخارج كما يعبرون. ومن أروع ما قرأناه في الكتاب الأول ما ذكره المؤلف عن طرائق وزارة المعارف اليابانية في بث روح الوطنية في نفوس النشء. واحسن ما ذكره في هذا الباب هو أن هذه الوزارة حتمت أن يكون في صلب جداول توزيع الحصص في المدارس اليابانية حصتان يطلق على كل منهما (حصة اليابان!) كما نقول حصة الحساب وحصة اللغة وحصة التاريخ. . . الخ. وفي هذه الحصة يتناول المدرس أحاديث حرة عن الوطن الياباني وعن روح التضحية وعن الإمبراطور وعن أعداء اليابان وعن الجيش وعن الأسطول والطيران. وقد لوحظ أن هاتين الحصتين صارتا احب الحصص إلى نفوس الطلاب لما يتناوله المعلمون من هذه الأحاديث الحرة، ولأن امتحاناً لا يعقد فيما يلقنه التلاميذ فيهما

فما قول رجال التربية عندنا في إدخال هذا النظام في المدارس المصرية فتكون في جداول توزيع الحصص (حصة لمصر؟)

الوعظ السلبي في المساجد المصرية

ما تزال طائفة كبيرة من خطباء المنابر في المساجد المصرية تخطب المصلين خطباً سلبية عقيمة تضيق بها نفوس المصلين، واقبح شيء في هؤلاء الخطباء انهم لا ينون يسبون المصلين الذين يخطبونهم سباً قد يصرف المتمردين منهم عن غشيان المساجد بسبب هؤلاء الخطباء الذين يتهمون المصلين بالزنا ومعاقرة الخمر وسوء الفهم وقلة الصلاة. . . الخ، ويبدو أن شيئاً من التبعة في هذا، إن لم يكن أكثرها، واقع على عواتق هذه الفئة المستنيرة المثقفة من وعاظ الأزهر العلماء. . . ذلك انهم لا يعنون بالاتصال بهؤلاء الخطباء أو جمعهم في صعيد واحد وتلقينهم مبادئ الوعظ الحديث وأساليب الخطابة وطرق الإلقاء، ثم معاونتهم في تحضير خطبهم ليلحظوا أن يتفوق الجانب الإيجابي فيها على الجانب السلبي. وحبذا لو تعاون الأزهر ووزارة الأوقاف فيعملا على تجديد عقلية هؤلاء الخطباء

الحسين بن علي

مقالة الأديب الشيخ ضياء الدين الدخيلي: (مقتل الحسين وأثره في الأدب العربي) في

ص: 76

(الرسالة الغراء) - ذكرتني ببيتين من قصيدة لزيد الموصلي النحوي المعروف بـ (مَرْزَ كَّه) في أبي الضيم (الحسين بن علي) - رضى الله عنهما - فرأيت روايتهما في (الرسالة):

فلولا بكاء المزن حزناً لفقده

لما جاءنا بعد (الحسين) غمامُ

ولو لم يشق الليل جلبابه أسىً

لما إنجاب من بعد (الحسين) ظلام

(الإسكندرية)

مستشرق فرنسي كبير يحاضر بالجامعة المصرية

يلقي العلامة المستشرق الأستاذ ليفي بروفنسال أستاذ (تاريخ الغرب الإسلامي) بجامعة الجزائر والسوربون ونزيل مصر الآن محاضراته عن (الحضارة الإسلامية في أسبانيا) تحت رعاية كلية الآداب

والأستاذ بروفنسال متخصص في تاريخ المغرب والأندلس وله في ذلك عدة مؤلفات وبحوث قيمة نذكر منها (تاريخ أسبانيا في القرن العاشر) و (النقوش العربية في إسبانيا) وهما بالفرنسية و (فهرس المجموعة العربية بمكتبة الاسكوريال) كذلك وفق الأستاذ بروفنسال إلى إصدار طبعة جديدة لتاريخ دوزي الشهير عن الأندلس وإصدار الجزء الثالث من تاريخ البيان المغرب لابن عذارى، وهو الآن يعنى بنشر مؤلف أندلسي نفيس برعاية الجامعة المصرية هو (كتاب الذخيرة) لابن بسام عن نسخة كاملة وفق إلى اكتشافها

وسيبقى الأستاذ بمصر بضعة أسابيع أخرى إجابة لدعوة الجامعة المصرية

المجلس الدولي للاتحادات العلمية

طلب المجلس الدولي للاتحادات العلمية في لاهاي إلى الحكومة المصرية أن تتخذ التدابير لكي تكون الهيئات العلمية في مصر على اتصال به، تأييداً للروابط العلمية والثقافية، ورغبة في تبادل الآراء والنظريات

وقد أحيل هذا الطلب إلى وزارة المالية، فوقع اختيارها على الدكتور حسن صادق بك المدير العام لمصلحة المناجم والمساحة ليكون رابطة الاتصال العلمية بين مصر وهيئة هذا المجلس الدولي

ص: 77

ومما يذكر أن هذه الهيئة تبحث في العلوم المختلفة كالفلك وطبقات الأرض والجغرافيا وغيرها

خطأ في نسبة شاهد نثري

ذكروا من شواهد الأسلوب الحكيم قول القبعثري للحجاج (مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب) وقد قال له الحجاج متوعداً (لأحملنك على الأدهم) يريد به القيد لا الفرس الأدهم، وأول من نسب هذا إلى القبعثري الخطيب القزويني في كتابيه (تلخيص المفتاح، والإيضاح) وتبعه في ذلك أصحاب الشروح والحواشي، وذكروا أن القبعثري كان من رؤساء العرب وفصحائهم، ومن جملة الخوارج الذين خرجوا على الإمام علي رضي الله عنه

والحقيقة أن هذه النسبة خطأ، وان هذه المحاورة كانت بين الحجاج والغضبان بن القبعثري الشيباني، لا القبعثري نفسه، وقد ذكر هذا أبو العباس احمد بن عبد المؤمن الشريشي في شرح مقامات الحريري (127 ج2) وذكره الجاحظ في البيان والتبيين (200 ج1)

والحقيقة أيضاً أن الغضبان بن القبعثري لم يكن من الخوارج المعروفين، وإنما كانت تهمته عند الحجاج انه أرسله إلى عبد الرحمن ابن محمد بن الأشعث ليأتيه بخبره حينما بلغه خروجه عليه، وقد كان مع عبد الرحمن سعيد بن جبير والشعبي وغيرهما ممن لم يكن من أولئك الخوارج الذين خرجوا على الإمام علي وغيره، فلما وصل عبد الرحمن قال له: ما وراءك يا غضبان؟ قال: شر طويل، تغد الحجاج قبل أن يتعشاك، ثم انصرف إلى الحجاج وكانت مقالته قد وصلته من جواسيسه قبل أن يصل إليه، فأمر به فوضع القيد في رجليه ثم سجنه

عبد المتعال الصعيدي

تصويب

وقع في قصة (هجرة معلم) للأستاذ علي الطنطاوي في العدد الممتاز أخطاء مطبعية غيرت المعنى هذا صوابها:

الصفحة العمود السطر

ص: 78

510229فيكون (صوابها) فيبلسون

5141 7 الصلداء (صوابها) الصلدة

515123بأشجارها المزهرة، وطيبها وعطرها (سقطت منها جملة

هذا صوابها): بأشجارها المزهرة المتعانقة، وأدواحها

الباسقة، وعيونها الدافقة، وأنهارها الرائقة، وورودها

وزهرها، وعنبها وخمرها، وطيبها وعطرها، وفتونها

وسحرها

516125الغاية الساذجة (صوابها) الغاية السامية

517226أين هذا من ذاك (صوابها) أين هذا من دارك

ص: 79

‌المسرح والسينما

الفرقة القومية

برنامجها ورواية طيف الشباب

عادت الفرقة القومية إلى إتمام موسمها الثالث وقد افتتحته بتمثيل رواية (طيف الشباب) لمؤلفها الأديب الذائع الصيت مارسيل بانيول ترجمة الأستاذ احمد بدر خان

أرجئ الكلام عن موضوع هذه الرواية، لان ظاهرة غريبة ظهرت في الفرقة حملتني على الوقوف حيالها موقف الواجم المبهوت. وبيان الاستغراب في هذه الظاهرة أن الفرقة بشرتنا بأنها ستتحفنا بتمثيل اثنتي عشرة رواية في الفترة الباقية من الموسم وهي لا تزيد على الشهر الواحد إلا بضعة أيام فقط، وان أربعا من هذه الروايات وضعت وترجمت حديثاً، والثماني الروايات الباقية مثلت من قبل

للإدارة الفنية في الفرقة القومية الحرية في استعادة تمثيل الروايات الناجحة، ولكن ما بالك بالروايات الموضوعة التي سيعاد تمثيلها وهي التي بلغت من تفاهة المعنى وسخف المبنى، وهزال الفن مبلغاً حفز جميع النقاد المسرحيين بدون استثناء إلى إبداء استهجانهم لها وعدوا قبول الفرقة إياها لا يتفق وتقدير فن التمثيل، ولا يحقق الغرض الثقافي الذي رمت إليه وزارة المعارف من إنشاء الفرقة؟

ما هو السر يا ترى في عودة الفرقة إلى احتضان هذه الروايات وإحيائها من جديد؟ بل هو الباعث على جمع رمم روايتي (اليتيمة، وبناتنا سنة 1937) وكان الواجب أن تبقى مدفونة في الرماد؟ أهو تحدي للنقاد وإهمال آرائهم ودراساتهم أم الاستهتار بالغاية الثقافية التي أسست الفرقة من اجلها؟

نحاول أن نجل الفرقة عن هذا التدهور، ونؤثر لها السلامة على التورط في الغمرات، ولكن الواقع صارخ لا سبيل إلى السكوت عنه

ليس الطريق إلى معرفة نجاح الرواية أو فشلها هي القروش التي يجمعها بائع التذاكر، أو حشر ردهة الأوبرا ومقاصيرها بمعارف هذا الممثل أو أصدقاء ذاك الموظف، ولا بالمقالات المأجورة التي تنشر كالإعلانات

لا، ليس السبيل إلى ذلك إلا بالاستماع إلى أقوال الناقدين والأخذ بالرأي الناضج

ص: 80

كنت أوثر الكلام عن رواية (طيف الشباب) لسببين: الأول أن المترجم متشبع بروح المؤلف، لم يجنح عن البساطة في الكلام الذي يعرب به عن الغاية من الفكرة الاساسية، ولم يطمس معالمها بالألفاظ المتقعرة النابية التي يتوسل بها فقراء الذهن عشاق التزمت

والسبب الثاني أن المترجم فنان سينمائي، يحسن الاختيار ويقدر ما هو صالح ونافع تقدير فنان خبير، يصطفى بعقل وتدبر الرواية التي تجمع بين المعنى والمبنى، والفكر والصيغة

كان يطيب لي أن أهيب بالفرقة أن توكل اختيار الروايات الغربية إلى أمثال الأستاذ احمد بدر خان وتترجم بسلاسة وبساطة كما ترجمها هو، وان أقول لها أشياء أخرى عن الروايات الموضوعة التي تتخبط فيها تخبط الضال في غابة كثيفة بليل مدلهم الظلام

ولكن مالي انصح الفرقة واهديها، ما فائدة الكلام في إدارتها ورجال لجانها، في ممثليها وممثلاتها؟ لم العناء في ذلك؟ بل ما الفائدة منه ما دامت تعمل وفق البداوات والنزوات؟ ولم لا أقول لها أنت خير الفرق التي ماتت وافضل الفرق السائرة في طريق الموت؟

حبيب الزحلاوي

كيف تكتب قصة الفلم؟

بقلم محمد علي ناصف

قصة الفلم: تعتبر قصة الفلم أهم النواحي الفنية فيه؛ فان من الميسور الآن أن تجد لأي فلم المخرج الذي يموله، والمدير الذي يتفهم ادارته، والممثل الذي يحسن تمثيله، ولكن ليس من السهل أن توفق إلى السيناريو الجيد الذي يبنى عليه عمل كل هؤلاء؛ ويقولون إن القصة الضعيفة تقتل النجم الكبير ومثل هذا القول لم يكن على هذه الدرجة في بدء صناعة السينما حيث كان الممثل هو أول وآخر من يحفل به؛ ولكن أهمية الكاتب أصبحت ملموسة بعد أن صار الفلم ناطقاً؛ وبعد أن ارتقت السينما وأخذت اتجاها أدبياً رفيعاً يظهر أثره يوماً بعد يوم

فمن نتائج الفلم الناطق انه أشرك الأذن مع العين في تذوق فائدة السينما؛ والإذن - علمياً - اشد انتقاداً من العين، لأنه من الجائز ألا تلمح عينك قبح وجه يخفيه طلاء متقن جميل، ولكنك لن تستطيع أن تحمل أذنك على الإعجاب بقول قبيح تستمعه في مناسبة جميلة

ص: 81

وقد اصبح الحوار في الأفلام بعد تثقيفها من الخطورة بمكان لأنه يساعد الصورة على التعبير، وقد يكون في كثير من الأحيان أهم من نقس الصورة؛ ولقد شاهدنا فلم (روميو وجوليت) فكان إخراجه قوياً وتمثيله رائعاً وتصويره جميلاً، ولكن كان أهم ما بالفلم حكم شكسبير التي انطق بها أشخاص روايته الخالدة

كاتب الفلم: يخطئ من يحسب أن كل من له دراية بكتابة الرواية أو المسرحية أو كل من له اسم كبير في عالم الأدب يمكن الاستفادة منه في كتابة قصة الفلم؛ وقد وقع في هذا الخطأ كثير من المشتغلين بالأفلام في بدء عهودها فتعاقد هؤلاء مع موريس مترلنك، ارنولد بنيت، سير جلبرت باركر، سومرست موغام، الينور جلين، كدنان دويل وغيرهم؛ ولكن واحداً من هذه العقود لم يجدد مرة أخرى؛ وقد أصبحت حقيقة ملموسة أن اشهر كتاب القصة السينمائية ليسوا من الأسماء المعروفة في عالم الأدب إلا أن تكون الشهرة الأدبية قد جاءت ملحقة بالشهرة السينمائية

ولقد اقتنع جميع الكتاب المعاصرين الذين تخرج مؤلفاتهم في السينما بان كتابة الأفلام شئ يختلف عن كتابة الكتب فسلم أكثرهم مؤلفاتهم إلى أيدي كتاب الاستديو من غير قيد ولا شرط

محمد علي ناصف

ص: 82