الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 249
- بتاريخ: 11 - 04 - 1938
كلمة في أوانها
ليس من دأبنا أن نعرض للسياسة إلا من حيث اتصالها بالخلق أو
الأدب. والخلق والأدب موضوع السياسة العليا التي لا تتحزب ولا
تتعصب ولا تعرف تخوم المكان ولا حدود الزمن! ولكن بينهما وبين
السياسة الدنيا تفاعلاً وتبادلاً لا يفتران! فهي تؤثر فيهما وهما يؤثران
فيها؛ وهي تغير منهما وهما يغيران منها. والخلق بخاصة مساك الأمة
وملاك الأمر. ولم تؤت النهضات القومية في الشرق إلا من جهة
فساده. ذلك لأن الحال في الأمة العائدة أو الناشئة التي يخرج أهلها
وحداناً من ظلام الجهل والغفلة، أن يسعى المرء فيها ليغنى، ويغنى
ليتزعم، ويتزعم ليحكم، ويحكم ليستبد، ليطغى، ويطغى ليتأله، سلسلة
من الغرائز الجافية الرذيلة حلقاتها الشهوة والطمع والغلبة والأثرة
والجموح والبغي، يصل بينها جميعاً أنانية غالبة وفردية أصيلة. فالأهل
والأصحاب والأحزاب إنما يتعاملون بغير الحق ويتجادلون بغير
المنطق، ابتغاء الفوز من وراء الباطل، والغلبة من طريق القوة؛ لأن
(الأنا) لا يعرف (الغير)، والذات لا تدرك المعنى، إلا إذا أضاء العلم
ما حولهما فظهرت الأشخاص، وبانت الفروق، ووضحت الحقوق،
وتميزت المعالم. وحينئذ يقول كل امرئ لنفسه أول مرة: إن في العالم
ناساً غيري، وإن لهم حقاً كحقي. ومتى شعر المرء بالناس، وفطن إلى
وجود الحق، تولدت فيه معاني الإنسانية والديمقراطية والحرية والعدل،
فيصبح خالصاً للجماعة إذا سعى، وللوطن إذا تزعم، وللدولة إذا حكم.
نحن إلى اليوم لم نخرج عن ذواتنا في العمل والسياسة والحكومة. نقيس كل شيء بمقياس
الفائدة الخاصة، ونحمل كل أمر على محمل الهوى الفرد، ونغلب إرادتنا على إرادة الأمة في الحق المشاع، حتى أقتنع المستريب بأننا تعلمنا الكلام ولم نتعلم العمل، وحذقنا فنون الدعاية ولم نحذق أصول الحكم، وحفظنا مصطلحات الدستور ونسينا مبادئ الشورى.
كان ذلك محمولاً والجهل غاش على العيون رائن على الأفئدة؛ أما الآن فقد تنبه الغفلان وتذكر الناسي. تنبه الغفلان إلى أن من استطاع أن يرفع المظلوم يسهل عليه أن يخفض الظالم؛ وتذكر الناسي أن له دستوراً يجعل مصدر السلطات في فم المحكوم لا في يد الحاكم. فمن ذا الذي يوسوس إليه شيطانه أن يرفع في وجه الأسود وأشبال الأسود عصا القطيع؟ ومن ذا الذي يسول له طغيانه أن يرتفع على كواهل الشعب ليقول: أنا سيد الجميع!
لقد كان لبعضكم يا زعماء الساعة أخطاء على الأمة في بعض الأمور ملكت عليها الصبر ولم تملك لها المغفرة. وقد أتاح لكم القدر العجيب هذه الفرصة لتصححوا بصواب اليوم خطأ الأمس، وتبددوا بيقين الحاضر ظنون المستقبل. فهل تدعونها تمر كما يمر أريج الطيب بالرجل الأخشم؟ إن بعضكم بلغ ساحل الحياة، وبعضكم جاوز حد الثروة، وكلكم تفرع ذروة الجاه، فماذا يخزلكم عن ابتناء المجد المؤثل وابتغاء الذكر الخالد؟
نريد أن يكون الزعيم لجنسه لا لنفسه، ولشعبه دون حزبه، ولغده قبل يومه، حتى يتذوق هذا الشعب المجهود لذة الأخوة في ظل الوطن، وعزة الحرية في كنف الدستور، وجمال المساواة في حمى الحكم الصالح.
نريد أن تلغوا سياسة الخطب، وتقصروا ألسنة الوعود، وتخفتوا ضجيج المظاهر، وتكفوا عن كرامة الناس صلف المنصب وزهو السلطان وبطر الجاه؛ فإن المصري أكره الناس للزعيم المغرور والوزير المتغطرس والنائب الأثر.
نريد أن تفتحوا لمصر عهداً جديداً من الهدوء والاستقرار، تدخلونه في ثياب الإحرام صدوركم نقية من أحقاد الحزبية، ونفوسكم بريئة من شهوات العصبية، وميولكم نزيهة عن خسيس المطامع، فتصرفون القوى إلى الإنتاج، وتوجهون الجهود إلى الهدف، وترصدون ملكات الأمة وكفاياتها لطرد الجهل منها، ودفع الفقر عنها، ومعالجة المرض فيها، لتعيش كما تعيش الأمم الحية صحيحة الجسم سليمة الروح متماسكة الوحدة.
إن الوزارة متسقة الأعضاء متحدة الهوى، وإن المعارضة نزيهة الأغراض مريرة القوى، وإن الأحزاب متقاربة الميول مستقلة الرأي، وإن الأمة يقظة الفؤاد كلوءة العين، وإن العرش من وراء كل أولئك محيط، يقوم الصعر، ويسدد الخطى، ويرقب الأمور، ويجمع الهوى الشتيت. فهل آن لنا أن نحيا حياة العاملين الأعزة في وطن صريح الاستقلال قوى الشوكة، لا سلطان لقوة خارجية عليه، ولا سيادة للغة أجنبية فيه، ولا استبداد لشركة أوربية به. وهل آن لنا أن نتمتع بحرية مهذبة الأطراف مأمونة السفه، ينعم الفرد فيها بنفسه، ويأمن بها على رأيه، في مجتمع راقي الطبقات مثقف النواحي، يؤلف نافره الخلق، ويرفه حياته الحب، ويؤويه إلى كنفه إله وعلم وملك؟
أحمد حسن الزيات
مع فتاة
حديث غير مفيد
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
دق التليفون قبيل الظهر، ودعيت إليه، فسمعت صوتاً كدت أنساه من طول العهد به يسألني:(هل تستطيع أن تهبني من وقتك الثمين دقائق؟ إن بي حاجة إليك فلا تخيب أملي فيك).
فشوقني ذلك إلى لقائها، وإن كانت قد جفتني ونبت بي بلا موجب أعرفه، فذهبت إليها، وقلت وأنا أحدق في وجهها متفرساً:
(والآن ما الذي زوى بين هاتين العينين الجميلتين مذ كنت هنا آخر مرة؟)
قالت وهي تبشم وتمد إلى يديها بصندوق السجاير:
(خمن وأراهن لن تقع على الصواب!)
قلت وأنا أشعل السيجارة على مهل:
(أهو شيء عجيب جداً إلى هذا الحد؟)
قالت: (نعم وجديد أيضاً)
وكانت مقطبة على الرغم من ابتسامها، ولكن وجهها كان كأنه في هالة. فقلت:(إن هذا الذي أطالعه في محياك الوضيء لا يكون إلا من شيء واحد. فمن هو؟ لا تطيلي عذابي)
قالت وهي تتنهد: (إنك لا تعرفه. . . شاب أصغر مني. . . قد يكون هذا جنوناً مني. . ولكنه هو أيضاً مجنون. . بالآثار. .)
قلت: (إن في الدنيا ضروباً شتى من الجنون، فلا تخشى أن أنكر عليك أو عليه شيئاً، ولكن الذي لا أستطيع أن أفهمه هو أن تضيعي وقتك معي وحقك أن تكوني معه)
قالت: (هذا ما أردت أن أتحدث معك فيه. . إن له صديقاً حميماً من علماء الآثار. . لا يفترقان. . . ولا كلام لهما إلا في هذه الآثار. . . وأنا أزعم أني لا أبالي. . . ولكنه يبدو لي أن هذا الحال غير طبيعي)
قلت: (غيري؟؟)
قالت: (نعم، إلى حد ما، وإنها لسخافة، ولكن هذا هو الواقع، ولا حيلة لي أراها)
قلت: (الحكمة القديمة تقول إن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده؛ أما الحكمة الجديدة فتقول إنه لا يحيا بالحب وحده)
قالت: (اعرف هذا ولكن. . .)
فقاطعتها وقلت: (ولكن يا فتاتي الغيرى يجب أن تعلمي أن للصداقة - كما للحب - مطالبها ومقتضياتها؛ ومن الجلي أن هذه الصداقة تنيله ما لا يسعك أنت أن تنيليه. وإذا كان لي رجاء، فهو ألا تحاولي أن تستحوذي على هذا الشاب، فإن من الخطأ الذي تقع فيه المرأة كثيراً أن تحاول أن تبلع الرجل. . ومن يدري. . لعل المرأة كانت أسبق من الرجل إلي أكل اللحم البشري، وعسى أن تكون هي التي علمته ذلك. . ولكنا ارتقينا يا فتاتي الجميلة. . خرجنا من عصور الاستيحاش. . . ثم أسمعي. . . لا تصدقي أن من الممكن إدماج حياة في حياة، وأن اثنين يمكن أن يكونا واحداً. . . تذكري ما تعلمت من علم الحساب. . . وخير من هذا، وأجلب للراحة أن توطن المرأة نفسها على أن للرجل حياته المستقلة. . . فان محاولتها الاستحواذ على الرجل تؤدي إلى جعل الحب آفة، والعكس أولى بأن يكون)
فقالت بلهجة مبطنة بالمرارة: (إن من الطبيعي ولا شك أن يكره الإنسان المشاركة)
قلت: (الرغبة في الاستحواذ مرة أخرى. . . ولكن هل أنت مشاركة فيه؟ هل في وسعك أن تغنيه عن صديقه وأن تحلي محله، وتشبعي الجوع الذي يحسه من هذه الناحية؟ لا أظن فاقنعي بنصيبك منه، ودعي له البقية التي لا يكون في مقدورك أن تسدى الفراغ فيها. . . إن من العسير أن تصبيه في القالب الذي يروقك. . . صعب جداً أن تغيري الناس. . . كل ما يمكن أن تنجحي فيه هو أن تسيئي إليه وتنفريه. . . فما دام يشعر بالحاجة إلى صديقه هذا فدعيه له، ولا تطمعي أن تسلبيه منه الآن. . . إنك جديدة عليه فاتركي الوقت الكافي للتكيف. . ومن يدري. . إنه لا يجد فيك الآن كل ما تصبو إليه نفسه. . . قد يستغني بك عن الدنيا قاطبة فيما بعد. . . بعد أن تتكشف له نواحي نفسك شيئاً فشيئاً. . . ولكن من يدري أيضاً. . . قد يتبين انك أنت أيضاً لا تجدين عنده كل ما تطلبين من الحياة. . . قد تجدين مثلاً مجرد مثل. . . أنك لا تستغنين عني، وأن بك حاجة ولو قليلة إلى صداقتي الفارغة. على كل حال، لقد احتجت اليوم إلي، ولو أنه كان حسبك من كل ناحية لما دعوتني إليك)
وتناولت فنجان القهوة، ورشفت منه رشفة ثم أعدته وقلت:(ويا سميحة، كلمة أخرى. . . إن من الخطر أن تتزوج المرأة رجلاً اصغر منها. . . واسمحي لي بأن أكون فظاً فان صداقتنا تعطيني هذا الحق، وأنت أعز علي من أن أهمل فتح عينيك على الحقائق. نعم، خطر كبير هذا، فان المرأة تفقد جمالها بأسرع مما تفتر عواطف الرجل وتضعف قواه)
قالت: (يكفي، فإني لا أجهل هذا)
قلت: (حسن. . . . إذن تعالي نتمشى)
ولكنها في الطريق لم تكن خيراً منها في البيت، كانت قلقة مضطربة على الرغم من تكلفها الابتسام، وحرصها على التظاهر بأن لا شيء يثقل عليها أو يكربها، فاضطررت أن أقول لها:(إن من واجب المرأة حين تحب رجلاً أن تحرص على إسعاده، كما تطلب أن يحرص هو على إسعادها، والرجل على كل حال لا يستطيع أن يفهم لماذا يكون هو المعطي والواهب والمضحي دائماً؟)
قالت: (إن كثيرين من الرجال يفعلون ذلك ولا يتململون)
قلت: (ندع انهم ليسوا رجالاً بخير معاني اللفظ، وندع أن فتاة مثلك لا يرضيها واحد من هؤلاء الرجال المهازيل، ويكفي أن أنبهك إلى أن هؤلاء الذين تذكرينني بأمرهم ساخطون ناقمون في قلوبهم، وانهم يحسون بأن عيشتهم سوداء، ولا يشعرون برضى حقيقي، وإن كانوا لضعفهم لا يجرءون أن يظهروا لنسائهم ما خفي من أمرهم عليهن، ولو أتيحت لواحد منهم فرصة التمرد لتمرد وجازف. . . وهذا يحدث كثيراً. . . ومجازفة الضعيف الخائف أفظع من مجازفة القوي المطمئن الواثق بنفسه. . . فلا تنسي هذا. . .)
قالت: (لماذا تتكلم هكذا. . . إني لا أحاول أن أتحكم فيه أو أسيطر عليه)
قلت: (قد يكون هذا صحيحاً، ولكنك تحاولين أن تمنعيه أن يرضى نفسه من ناحية لا تستطيعين أنت أن ترضيه منها. . . تحاولين أن تخطفيه من أصدقائه الذين يحس ويعرف أن به حاجة إليهم. . . إن الرجل ليس كالمرأة، وهو لا يفهم الحب كفهمها له، والحب ليس كل شيء في حياة الرجل، وإن كان كل شيء في حياة المرأة؛ ثم إنه شيء لا دوام له في الأغلب والفتور يعروه على الأيام؛ وهذا الاستحواذ الذي تغري به طبيعة المرأة ليست له ثمرة إلا إعلال من الجانبين. . . أظن أن كلامي ثقيل عليك جداً، ولكن ماذا أصنع وأنا
مدعو لأكون ثقيلاً؟ كالطبيب. . جعلت مني طبيباً لك لا صديقاً، وما حيلة الطبيب إلا أن يثقل على الناس بما يمليه عليه علمه وفنه؟)
ولكنها لم تسمع ولم تقتنع، وأبت إلا أن تطيع طبيعتها ولها العذر، وتزوجت الرجل، وفرقت ما بينه وبين صديقه العالم بالآثار.
وبعد سنتين اثنتين لا أكثر دقت لي التليفون مرة أخرى فأحسست بأن الصوت معروف، ولكني لم أذكره حتى قالت أسمها، ودعتني إليها، ولكن هذا حديث آخر يطوى، فلنرجئه إلى وقت غير هذا. . .
إبراهيم عبد القادر المازني
شق وسطيح
وابن خلدون والقرآن والعربانيون
لأستاذ جليل
طالعت في شبابي الجزء الأول من (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر) وهو المعروف عند الناس بمقدمة ابن خلدون. وقد وعيت يومئذ مباحثه، وقيدت الذاكرة ما استطاعت من فوائده - وإنها وأبيك لكثيرة - ثم فر جلها، وقر بعضها و (اختلاف النهار والليل ينسى) كما يقول شاعرنا (أحمد الثالث). فلما قرأت في مقالة (التنويم المغناطيسي وقراءة الأفكار في القديم) في (الرسالة) الهادية الموقظة هذه الجملة:(ولأبن خلدون بحث عن الكهانة خذله فيه التحقيق) تذكرت كتاب عبد الرحمن، ورجعت إليه أنشد حديثه عن الكهانة والكهان. وذهبت أتلوه تلاوة المتبصر، فلما تممته لم أتمالك أن كررت عبارة تلك المقالة:(. . . خذله فيه التحقيق) فقد ألفيت العبقري الألمعي إمام الباحثين الناقدين، ومعلن مغالط المؤرخين قد جره الضلال بجرير طويل، وقاده الوهم والخيال قود الذلول، فتقبل - مطمئن النفس - شعبذات الكهانة ومخارق العرافة وخزعبيلات العائفين، وآمن بشق وسطيح. وهذه طائفة مما قال:
(إنّا نجد في النوع الإنساني أشخاصاً يخبرون بالكائنات قبل وقوعها مثل العرافين والناظرين في الأجسام الشفافة كالمرايا وطساس الماء، والناظرين في قلوب الحيوانات وأكبادها وعظامها، وأهل الزجل في الطير والسباع، وأهل الطرق بالحصى والحبوب من الحنطة والنوى. وهذه كلها موجودة في عالم الإنسان لا يسع أحداً جحدها. . .)
(إن للنفس الإنسانية استعداداً للانسلاخ من البشرية إلى الروحانية التي فوقها، وإنه يحصل من ذلك لمحة للبشر في صنف الأنبياء)
(وإن هنا صنفاً آخر من البشر - يعني الكهان - ناقصاً عن رتبة الصنف الأول - يعني الأنبياء -)
(وهذه القوة التي فيهم مبدأ لذلك الإدراك هي الكهانة)
(ونفوس الكهنة لها خاصية الاطلاع على المغيبات)
(ثم إن هؤلاء الكهان إذا عاصروا زمن النبوة فإنهم عارفون بصدق النبي لأن لهم بعض الوجدان من أمر النبوة)
(قد كان العرب يفزعون إلى الكهان في تعرف الحوادث، ويتنافرون إليهم في الخصومات ليعرفوهم بالحق فيها من إدراك غيبهم، وفي كتب الأدب كثير من ذلك. وأشتهر منهم في الجاهلية شق بن أتمار وسطيح بن مازن، وكان يدرج كما يدرج الثوب، ولا عظم فيه إلا الجمجمة. . . ومن مشهور الحكايات عنهما تأويل رؤيا ربيعة بن نصر وما أخبره به من ملك الحبشة لليمن وملك مضر من بعدهم وظهور النبوة المحمدية في قريش. ورؤيا الموبذان التي أولها سطيح لما بعث إليه بها كسرى عبد المسيح فأخبره بشأن النبوة وخراب ملك فارس. وهذه كلها مشهورة، وكذلك العرافون كان في العرب منهم كثير وذكروهم في أشعارهم)
فهناك عند أبن خلدون الكهانة تعلم الغيب، وهي نبوة ناقصة، وهناك الكاهن كأنه مرشح نبي. . . وقد قال في تضاعيف كلامه متبجحاً على المسعودي بعلمه وتحقيقه:(وقد تكلم عليها المسعودي في (مروج الذهب) فما صادف تحقيقاً ولا إصابة، ويظهر من كلام الرجل أنه كان بعيداً عن الرسوخ في المعارف فينقل ما سمع من أهله ومن غير أهله)
ومن قول المسعودي في الكهانة في (المروج):
(ذهب كثير أن علة ذلك علل نفسانية، وأن النفس إذا قويت وزادت قهرت الطبيعة، وأبانت للإنسان كل سر لطيف، وخبرته بكل معنى شريف، وغاصت بلطافتها في انتخاب المعاني اللطيفة البديعة فاقتنصتها، وأبرزتها عن الكمال)
فإذا قال المسعودي مثل هذا فزل وضل فان أبن خلدون لم يهتد. وما حديث أحدهما بأصدق من حديث صاحبه. إنهما في باب الكهانة والكهان سيان.
وشق وسطيح اللذان آمن بهما ابن خلدون، وصدق كونهما وأسطورتيهما هذا بعض ما قيل فيهما:
قال الدميري في (حياة الحيوان الكبرى):
(كان شق شق إنسان، له يد واحدة، ورجل واحدة، وعين واحدة. وكان سطيح ليس له عظم ولا بنان، إنما كان يطوى مثل الحصير، وكان وجهه في صدره، ولم يكن له رأس ولا عنق)
وقال أبن منظور في (لسان العرب):
(سطيح هذا الكاهن الذئبي من بني ذئب كان يتكهن في الجاهلية، سمي بذلك لأنه لم يكن بين مفاصله قصب تعمده، فكان أبداً منبسطاً منسطحاً على الأرض لا يقدر على قيام ولا قعود، ويقال: كان لا عظم فيه سوى رأسه)
وقال الثعالبي في (ثمار القلوب في المضاف والمنسوب):
(سطيح الكاهن كان يطوى كما تطوى الحصير، ويتكلم بكل أعجوبة في الكهانة؛ وكذلك شق الكاهن، وكان نصف إنسان)
وقال الزبيدي في (تاج العروس): (شق كاهن قديم معروف قاله أبن دريد، وحديثه مستوفي في الروض للسهيلي، وإنما سمى لأنه شقاً واحداً، وكان في زمن كسرى أنوشروان)
وقال الشريشي في (شرح المقامات الحريرية)
(سطيح الغساني أكهن الناس، كان يدرج جسده كما يدرج الثوب خلا جمجمة رأسه، وإذا مست باليد أثرت فيه للين عظمها)
وقد زلق قلم أبن خلدون فقال: (كان سطيح يدرج كما يدرج الثوب، ولا عظم فيه إلا الجمجمة) وكأنه أستحي أن يذكر أن شقا كان شقا: ذا يد واحدة وعين واحدة ورجل واحدة. . . فلم يعرفه بلحيته.
وأسطورتا هذين الكائنين العجيبين اللتان أشار إليهما ابن خلدون - ذكرهما مؤرخون ضالون كثيرون، وأدباء ناقلون غير محققين، ومفسرون ومحدثون، منهم ابن اسحق صاحب السيرة، وابن عبد ربه في العقد، والماوردي في أعلام النبوة، والرازي في مفاتيح الغيب، وابن منظور في اللسان، وأبن عربي في محاضرة الأبرار، والألوسي في بلوغ الأرب وغيرهم. ومما قيل في الأسطورة الأولى، وهو من (سيرة) ابن هشام:
(إن ربيعة بن نصر ملك اليمن رأى رؤيا هالته، فقال سطيح في تأويلها: أحلف بما بين الحرتين من حنش، لتهبطن أرضكم الحبش، فليملكن ما بين أبين إلى جرش. فقال له الملك: فمتى هو كائن؟ أو في زماني هذا أم بعده؟ قال: لا، بل بعده بحين، أكثر من ستين أو سبعين، يمضين من السنين. قال: أفيدوم ذلك من ملكهم أم ينقطع؟ قال: لا، ينقطع لبضع وسبعين من السنين، ثم يقتلون ويخرجون منها هاربين. قال: ومن يلي ذلك من قتلهم وإخراجهم قال: يليه أرم بن ذي يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك أحداً منهم باليمن.
قال: أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع. قال: ومن يقطعه؟ قال: نبي زكي، يأتيه الوحي من قبل العلي. قال وممن هذا النبي؟ قال: رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر. قال: وهل للدهر من أخر؟ قال: نعم يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون ويشقى فيه المسيئون. قال: أحق ما تخبرني؟ قال: نعم، والشفق والغسق، والفلق إذا أتسق، إن ما أنبأتك به لحق)
وقال شق للملك مثل قول سطيح
ومما جاء في الأسطورة الثانية: (أن الموبذان رأى رؤيا أفزعت كسرى فسئل عنها عبد المسيح بن عمرو بن نفيلة الغساني فقال: علم هذا عند خالي سطيح. قيل: فأنه وسله وأت بجوابه. فقدم على سطيح، وقد أشفى على الموت فقال (أرجوزة) مطلعها:
أصم أم يسمع غطريف اليمن؟
…
يا فاصل الخطة أعيت من ومن.
فلما سمع سطيح شعره رفع رأسه فقال: عبد المسيح، على جمل مشيح، إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح. بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان. رأى إبلا صعاباً، تقود خيلاً عراباً، قد أقحمت في الواد، وانتشرت في البلاد. يا عبد المسيح، إذا كثرت التلاوة، وبعث صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس فليست بابل للفرس مقاماً، ولا الشام لسطيح شاما. يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت)
ذانك شق وسطيح، وتانك أسطورتاهما. والإسلامية غير مفتقرة إلى إعلام كاهن، وخبر عراف. إن ضياء الشمس مستغن عن شهادة (الدساسة) وهذا قول الإسلامية في الكهانة والغيب:
في الحديث: (من أتى كاهناً أو عرافاً فقد كفر بما أنزل على محمد، أي من صدقهم.
(من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم يقبل منه صلاة أربعين ليلة)
(نهى عن حلوان الكاهن) أي أجرته. وفي (النهج):
(أيها الناس! إياكم وتعلم النجوم إلا ما يهتدي به في برٍ أو بحر فإنها تدعو إلى الكهانة، والمنجم كالكاهن)
قال الشيخ محمد عبده في شرح هذا الكلام: (الكاهن من يدعي كشف الغيب، وكلام أمير
المؤمنين حجة حاسمة لخيالات المعتقدين بالرمل والجفر والتنجيم وما شاكلهما، ودليل واضح على عدم صحتها ومنافاتها للأصول الشرعية والعقلية)
وقال الشيخ محمد عبده في (شرح مقامات الهمذاني):
(ويروي لنا من شعره ما يمتزج بأجزاء النفس رقة، ويغمض عن أوهام الكهنة دقة - أراد بالكهنة أصحاب دعوى علم النجوم وأسرارها. واستطلاع المغيبات مما تفيضه أرواحها. وقد جاء الدين الإسلامي بتكذيبهم والنهي عن الاشتغال بمذاهبهم في أوهامهم غير أنه بقى ذكرهم في الكلام من قبيل ضروب الأمثال)
وقال أبن أبي الحديد في الشرح الكبير للنهج: (إن المعلوم ضرورة من دين رسول الله إبطال حكم النجوم وتحريم الاعتقاد بها، والزجر عن تصديق المنجمين)
وابن خلدون الذي آمن بالكهانة قد كفر بالنجامة وفند مقالة النجامين أو المنجمين في فصل طويل في كتابه - تفنيداً:
متكهٌن ومنجم ومعزِّ
…
وجميعُ ذاك تحيُّل لمعاش
نجئ إلى الغيب
في (مسند الربيع بن حبيب):
(عن عائشة: من زعم أن محمداً يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية، لأن الله تعالى يقول: (قُلْ لا يعلم من في السموات والأرض الغيبَ إلا الله وما يشعرون أيّانُ يبعثون)
وفي (كتاب الله):
(قُلْ لا أقولُ لكم عندي خزائنُ الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول إني ملك، إنْ أتبعُ إلا ما يوحي إليّ)
(ولا أقول لكم عندي خزائن الله، ولا اعلم الغيب، ولا أقول إني ملك)
(قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله، ولو كنت أعلم الغيبَ لاستكثرتُ من الخير وما مسني السوء، إنْ أنا إلا نذيرٌ وبشيرٌ لقوم يؤمنون)
(عالم الغيب فلا يُظهر على غيبه أحداً، إلا من أرتضى من رسول فانه يسُلك من بين يديه ومن خلفه رَصَداً ليعلمَ أن قد أبلغوا رسالات ربهم، وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيءٍ عدداً)
قال الكشاف: (أي هو (عالم الغيب) فلا (يظهر) فلا يطلع و (من رسول) تبيين لمن أرتضى، يعني أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضي الذي هو مصطفى للنبوة خاصة لا كل مرتضى، وفي هذا إبطال للكرامات لأن الذين تضاف إليهم - وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل، وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب. وإبطال الكهانة والتنجيم لأن أصحابها أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط (فانه يسلك من بين يديه) يدي من أرتضى للرسالة (ومن خلفه رصداً) حفظة يحفظونه من الشياطين يطردونهم عنه، ويعصمونه من وساوسهم وتخاليطهم حتى يبلغ ما أوحي به إليه (ليعلم) الله (أن قد أبلغوا رسالات ربهم) يعني الأنبياء ليبلغوا رسالات ربهم كما هي محروسة من الزيادة والنقصان)
والغيب في كلام الله هو الوحي، وحي النبوة كما قال الزمخشري:(حتى يبلغ ما أوحي به إليه) لا كل غيب كما يظهر من كلام (الكشاف) في أول تفسيره. وقد جاء في (فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير): (وهو ما يتعلق برسالته كالمعجزة وأحكام التكاليف وجزاء الأعمال وما بينه من أحوال الآخرة لا ما يتعلق برسالته من الغيوب كوقت قيام الساعة ونحوه) وجاء في (جامع البيان) - وهو تفسير أبن جرير الطبري: (فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من أرتضى من رسول فأعلم الله (سبحانه) الرسل من الغيب الوحي؛ أظهرهم عليه بما أوحي إليهم من غيبه، وما يحكم الله فانه لا يعلم ذلك غيره. قال أبن زيد:(ينزل من غيبه ما شاء على الأنبياء، أنزل على رسول الله الغيب القرآن، وحدثنا فيه بالغيب، بما يكون يوم القيامة)
وفي (موضوعات على القارئ):
(قد جاهر بالكذب بعض من يدعي العلم في زماننا وهو متشبع بما لم يعط أن رسول الله كان يعلم متى تقوم الساعة. وهؤلاء الغلاة عندهم أن رسول الله منطبق على علم الله سواء بسواء، فكل ما يعلمه الله يعلمه رسوله، والله تعالى يقول: (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مَرَدوا على النفاق لا تعلمهم، نحن نعلمهم؛ سنعذبهم مرتين ثم يُردُّون إلى عذاب عظيم) وهذا في (براءة) وهي من أواخر ما نزل من القرآن. هذا والمنافقون جيرانه في المدينة)
فإذا كان صفوة النوع الإنساني، وسيد المرسلين والنبيين والعظيمين هو كما قال الله، فهل يعلم الغيب رسول أو نبي أو صحابي أو (ولي) أو (غوث) من الأغواث أو (قطب) من الأقطاب أو (بدل) من الإبدال أو كاهن أو منجم أو دجال أو شق أو سطيح أو سقط أو مليص؟
أين عقول الناس؟ أين عقول الباحثين؟
وحديث الكاهنين (شق وسطيح) يبعثنا على أن نختم القول فيه بهذه السطور:
أسلوب القرآن هو أسلوب المبتدع، لا أسلوب المتبع، والدليل الديني انه وحي الله، والبرهان العقلي أنه الكتاب العبقري، والعبقري في الدنيا مقلد لا مقلد، ومتبوع لا تابع. قال أبو العلاء احمد بن سليمان في (رسالة الغفران):
(أجمع ملحد ومهتد، وناكب عن المحجة ومقتد، أن هذا الكتاب الذي جاء به محمد بهر بالإعجاز، ما حذي على مثال، ولا أشبه غريب الأمثال. ما هو من القصيد الموزون ولا الرجز، ولا شاكل خطابة العرب ولا سجع الكهنة، وجاء كالشمس اللائحة (وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) وإن الآية منه أو بعض الآية لتعترض في أفصح كلام يقدر عليه المخلوقون فيكون فيه كالشهاب المتلألئ في جنح غسق)
وقال أبو بكر محمد بن الطيب البلاقلاني في كتابه (إعجاز القرآن):
(إن نظم القرآن على تصرف وجوهه واختلاف مذاهبه، خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم - يعني العرب - ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به، ويتميز في تصرفه)
ذلك هو (الكتاب) وذلك - كما قال هذان الإمامان - أسلوبه، وقد أقبلت (أو أدبرت) طائفة من العربانيين - أعني المعروفين بالمستشرقين - تقول:(ليس أسلوب القرآن مبتدعاً وإنما قلد فيه سجع الكهان) وتلقف قولهم أو تخليطهم - جاهلين عمهين - متلقفون.
وقد قالت تلك الطائفة الغربية مقولتها وأئمتها من العربانيين المحققين يقولون كما قلت قدما وأقول اليوم: إنه لم يثبت من منثور الجاهلية شيء، فكيف اهتدت الفئة الضالة إلى أصل الأسلوب القرآني؟ وإلام استندت؟ وعلام بنت مزعمها؟؟
إن كان هادي القوم شق وسطيح وخنافر الحميري وسواد ابن قارب وطريفة وعفيراء
وأمثالهم من الكاهنين والكواهن وكانت الحجة تلكم الأساجيع - فقد ضل هاديهم، وأودى الدليل.
إن سجع الكهان إنما قلد مفتعلوه في الإسلام نهج القرآن كما كان يقلده الممخرق (المختار بن عبيد الثقفي) الكيساني. والقرآن - كما قال أبن خلدون - لا يقلد، فكان سجع الجماعة ذاك الكلام البهرج.
وإن القوة التي أبدعت في العربية ذلك (الكتاب) وأخرجت من العرب تلك الأمة فإن القوة التي فطرت من العدم وجوداً ومن العربية (قرآناً) ومن العرب أولئك (الأصحاب) صفوة الناس وجوهر البشرية - هي ربة ذلك الأسلوب.
إن نهج القرآن هو نهج المبدئ المبتدع، لا طريق المقلد المتبع، وإنه لوحي الله، وإنه لكتاب الدهر
القارئ
ليلى المريضة في العراق
للدكتور زكي مبارك
- 15 -
إلى البصرة، إلى البصرة! إلى المدينة التي تجري من تحتها الأنهار. إلى مهد ليلى يطيب الإسراء
ولكن لا بد من السلام على ليلى قبل الرحيل، فقد صبرت النفس عن لقائها ثلاثة أيام، بسبب حادثة وجدانية لا أجرؤ على تدوينها في هذه المذكرات، وهي حادثة ضجت لها أرجاء العراق؛ ولكن لا موجب لتدوينها، لأني أحب أن تموت وهي في المهد، فقد تطويني طياً فأخرج من خدمة الحكومة المصرية وأفتح مكتب تصوير في بغداد؛ وفي مصر رجل عظيم يعرف ما أعني، ويفهم كيف تستطيع هذه الحادثة أن تهدم ما بنيت من آمال.
وأشهد أني كنت املك نسيان ليلى أسبوعاً أو أسبوعين، ولكن وقع ما لم يكن في الحسبان
وتفصيل ذلك أني رجل محزون، محزون، محزون، ولو شئت لكررتها ألف مرة، ولكني من أقدر الناس على الفرار من أحزاني. ولعلي أشبه الرجال بالشاعر الذي يقول:
جنَت عليَّ الليالي غير ظالمةٍ
…
إني لأهلٌ لما ألقاه من زمني
فما رأيتُ من الأخطار عاديةً
…
إلا بنيت على أجوازها سكنى
ولا لمحتُ من الآمال بارقةً
…
إلا تقحّمتُ ما تجتاز من قُنن
أَحلْتُ دنياي معنًى لا قرار له
…
في ذمة المجد ما شرَّدت من وسن
ولكن أحزاني تحقد على تجلدي أبشع الحقد فتجمع جيوشها وتهجم علي من حين إلى حين، وقد انتصرت في هذا اليوم مع الأسف الموجع، فلم أجد مفراً من السلام على ليلى، علها تجفف دموعي وتبرد أحزاني
إليك يا ليلى المرجع، وإليك يا ليلى المآب
دخلت على ليلى في العصرية لأقضي في رعايتها أربع ساعات إلى أن يحين الموعد لقطار البصرة فماذا رأيت؟ ماذا رأيت من ليلى ربة العطف والحنان؟
تلقتني عاضبةً بعينين تقذفان بالجمر المتوقد، وتحت قدميها ظمياء.
- من أتى بك إلى هذه الدار؟
- من أتى بي إلى هذه الدار؟ هذه دار ليلاي!
- ليلاك؟ وهل يمكن لرجل مثلك أن يطمع في أن أكون ليلاه؟
- سيدتي، ماذا حدث؟ خبريني فقد طار صوابي
- وهل تجهل ما حدث؟ اسأل قلبك إن كان لمثلك قلب!
- إن قلبي يشهد بأنني وفي أمين
- وفي مثل ما صنعت تكون الأمانة، ويكون الوفاء!!
- سيدتي، ماذا حدث؟ خبريني فقد طار صوابي
- هل تنكر ما شاع عنك؟
- وما الذي شاع عني؟
- يقول أهل بغداد إنك كنت مثال السخف في سهرات المؤتمر الطبي. ويقولون إنك لم تترك سيدة إلا قبلت يديها، وربما أوغلت في السخف فقبلت جبينها وخديها
كذبوا، فأنا لم أغازل أكثر من عشرين سيدة
- ما هذا التظرف السخيف؟
- ليلى، أسمعي، أنت حمقاء
- أنت وحدك الأحمق
أنا وحدي الأحمق؟ صدقت يا ليلى، فلو كنت أعقل لرأيت لنفسي ألف مذهب في الحياة غير مداواة الملاح!
- قلت لك إني أبغض هذا التظرف السخيف
- وهو كذلك، تركت التظرف السخيف، تركت التظرف السخيف، ولكن اسمعي يا ليلى، سأرحل عن بلادكم بعد شهرين أو ثلاثة، وستبكين أيامي
- أبكي أيامك؟ وهل كانت لك معي أيام يطول عليها البكاء؟
- ليلى، اسمعي واعلقي، أنا لا أنكر ما وقع مني في سهرات المؤتمر الطبي، ولكني رجل حزين يداوي جراح قلبه بالعبث والمجون
- أعرف أنك حزين، لأني أعرف المرأة التي كوت قلبك
- ما كوى قلبي أحد، وإنما همومي هموم رجال لا تعرفينها يا حمقاء
- أنت وحدك الأحمق
- شيء غريب! أهذا أدب النساء في بغداد؟
- هذا هو أدب النساء في بغداد، وستعرف عواقبه بعد حين
- ليلى، يظهر انك امرأة كسائر النساء
- النساء أشرف من الرجال
- المرأة أجمل من الرجل، ولكن الرجل أشرف من المرأة، لأنه يحتمل مصاعب وأرزاء لا تحتملها المرأة، ولو كنت في مكاني يا لئيمة. . .
- أنت وحدك اللئيم
- من أين تعلمت هذه الألفاظ الغلاظ؟
- تعلمتها منك!
- هل يسرك أن نفترق؟
- في أمان الله!
وخرجت من غرفة ليلى والدمع في عيني، فهذه آخر مرة أرى فيها المرأة التي آنست وحشتي في بغداد. نعم هذه آخر مرة أرى فيها المرأة الجميلة التي عرفت بها كيف استطاع العراق أن يسيطر على الآداب العربية مئات من السنين. هذه آخر مرة أرى فيها المرأة الحلوة العذبة التي جعلت قلمي أطوع قلم، وجعلت بياني أعظم بيان. هذه آخر مرة أشرب فيها صبابة الكأس، وألقي سيفي وأطوي لوائي، إلى آخر الحياة، إن كان لمثلي بعد ليلى حياة!!
وفي تلك اللحظة بكت السماء على غير موعد فظننتها تبكي لبكائي، أنا العاشق المسكين الذي لم يحفظ له جميل
وقد سقطت على السلم مرتين، فرأيت من الحزم أن أجلس لحظة في الحجرة التي تقارب الباب إلى أن تجف دموعي وترجع قواي
وما كدت اجلس حتى أدركتني ظمياء وهي تقول في تلهف: عيوني! دكتور زكي! عيوني، تعال، تعال
ومدت يدها لترجعني إلى ليلى، فدفعتها بعنف، وخرجت
وفي أثناء الطريق عاد صوابي، وقد عجبت من أن يعود بهذه السرعة، ولكن قلب المحب له أحوال. . . وتذكرت أن ما وقع من ليلى غير مستغرب من النساء، فإن من هوى المرأة أن تجحد الجميل. تذكرت أن للمرأة يؤنسها ويعجبها ويرضيها أن تنكر على الرجل كل شيء، وهي تجد لذة في الجحود وتستروح به كما تستروح بعض الأفاعي بسواد الليل
وتذكرت أخطائي في معاملة النساء، فقد كنت دائماً أعامل النساء معاملة وحشية، لأنني عشت دهرى مدللاً بين الملاح، ولكن هذا الدلال كانت له عواقب سود، فقد أضاع علي فرصة سأندبها ما حييت: أضاع على المرأة الجميلة التي اتصلت بها منذ سنين بشارع الباطنية، المرأة التي قسم الله جسمها أجمل تقسيم، وصاغها على افضل نظام؛ المرأة التي كانت تقول في كل لحظة: إيش سويت لي؟ إيش صنعت لي؟ وكنت يومئذ جاهلاً. وأي جهل أقبح من دعوة المرأة إلى حفظ الجميل؟ وقد حملني هذا الجهل على هجر تلك المرأة بقسوة وعنف. . . ثم تطلع إليها القلب بعد ذلك، ولكني وأحر قلباه عرفت أن رجلاً تزوجها ونقلها إلى دمياط
وكانت تلك المرأة على جانب عظيم من العفاف؛ ولكني لا أزال أسأل: كيف كان يجوز في شريعتها أن تتمدد أمامي على السرير في غير ريبة؟ وكيف كان يطيب لها أن تعرض علي محاسن جسمها في غير سوء؟
أحب أن أعرف ما اختلف وما ائتلف من سرائر النساء، فمتى أعرف؟
أخشى أن يكون مصيري مصير الفراء الذي مات وفي نفسه شيء من حتى! والعشاق كالنحويين يموتون وفي أنفسهم أشياء
وحالي أغرب الأحوال، لأني نحوي وعاشق.
وتذكرت أن ليلى كانت قد رقت ولطفت في الأيام الأخيرة، فكنت أنعم منها بفنون من الأنس لا تحيط بها أوهام ولا ظنون. وتذكرت أني سأكون ألأم الناس إذا نسيت تلك المعاني الوجدانية التي كنت أتلقاها من عيني ليلى في كل لقاء، وتذكرت أنها عراقية، وأهل العراق كأهل بدر تغفر لهم جميع الذنوب
أرجع إلى ليلى؟ أرجع؟
لا. لن أرجع
ولكن ليلى مريضة، وهجر المريض لا يستبيحه طبيب أمين
أعود إلى ليلى أعود
أعود إلى ليلى، أعود
أعود إلى المرأة التي قالت أنها تشتهي أن تموت ورأسها إلى صدري. أعود إلى المرأة التي ملأت رأسي بالنور، وغمرت قلبي بالحنان. أعود إلى المرأة التي أعزتني أكرم إعزاز، ورعتني أشرف رعاية. أعود إلى ليلى، أعود إلى ليلاى
وفي أي قلب غير قلبي تحيا معاني الوفاء؟
سيموت الرفق يوم تموت ليلى، وسيموت الشعر يوم أموت أعود إلى ليلى، أعود
ولكن ليلى، أهانتني وجرحتني
لا بأس، فليس يعيب الرجل أن تهينه الملاح. وأي هوان أقبح مما استبحت لنفسي في حي الحلمية يوم رجوت إحدى معشوقاتي أن تسمح لي بتقبيل نعليها
وكانت قبلة شهية جداً
أعود إلى ليلى، أعود
أعود إلى الغرفة التي تزدان بمؤلفاتي وهي في صوان خاص، وقد وشيت بالذهب وأسدلت عليها ستائر الحرير الشفاف، ثم أرى ما تصنع ليلى، فعهدي بها تنظر إلى الصوان الذي يضم مؤلفاتي وتقول: هذا زكي مبارك العالم وهو رجل محترم، ثم تشير إلي وتقول: وهذا زكي مبارك العاشق وهو رجل سخيف:
عفا الله عن ليلى الغداة فإنها
…
إذا وُلِّيَتْ حُكما علىَّ تجورُ
وما هي إلا لمحة طرف حتى كنت عند ليلى فرأيت المسكينة في حالة تثير الدمع من أقسى الجفون
ونظرت إلي ظمياء في حنان وهي تقول: لقد صح أملي فيك فقد أكدت لليلى أنك سترجع وما كانت تصدق أنك سترجع وتسكت ليلى فلا تتكلم، كأنها تقاسي نوبة إغماء، ثم تفتح عينيها بتكلف وتقول:
- أنتم يا رجال ليس لكم أمان!
وأكاد أصعق، لأني سمعت هذه العبارة مليون مرة، ولعلها أول جملة سمعها آدم من حواء
- ليلى!
- مولاي!
- مولاك؟ وكنت من لحظات ترفضين أن تكوني ليلاي؟
- إن رجوعك بهذه السرعة يشهد بأنك عليل، وقد صدق خصومك في لبنان حين سموك (قيس المريض في العراق)
- سنفترق في حزيران
- ومن يضمن أن تحفظ العهد إلى حزيران؟
- تأدبي يا ليلى، فستبكين أيامي بالدمع
- تأدب أنت، فستبكي أيامي بالدم
- الرجل أوفى من المرأة
- لم يخلق الله أغدر من الرجال
- المرأة سخيفة
- الرجل أسخف
وعند هذا الحد تدخلت ظمياء وهي تقول: أتريدون أن تمثلوا الرواية من جديد؟ أنا لا أسمح لكم بهذا العبث، اسكتي يا ليلى اسكت يا زكي
وقد عجبت من أن تكون لظمياء هذه السيطرة، وأن ترفع الكلفة في مخاطبتي مع أني أستاذ عظيم. فقلت: وما شأنك أنت يا بنت؟
فأجابت: أحفظ أدبك، فأنا حارسة هذا البيت، وأنا ست الكل.
- ست الكل؟
- نعم ست الكل ألا تفهم؟
ثم رفعت يدها ولطمتني لطمة غارت منها ليلى، فنظرت إليها بغضب وقالت: الغزل ممنوع في هذا البيت!
وكانت ظمياء كالعصفورة التي يفزعها المطر فتفزع إلى نوافذ البيوت وتزقزق لترحمها القلوب، فتدخلت لإنصافها وقلت: ما هذا غزلاً، إن هذا إلا تأديب
- ولن أسمح ليد أن تؤدبك غير يدي
- شرع الله ولا شرعك يا ليلى
فلطمتني الشقية أحر وأعنف
ولم أفكر في الدفاع عن نفسي، وإنما أخذ قلبي يسأل: أي الكفين أندى وأرق؟ كف ليلى أم كف ظمياء؟
إن عيني تعودت كحل هند
…
جمعت كفها مع الرفق لينا
ومن الواضح أن هذا الاعتداء كان إيذاناً بانتهاء الخصام
وفي لحظة واحدة تحولت الدار إلى بحر يموج بالبهجة والانشراح
- ليلاي!
- مولاي!
- أنا أحبك!
- وأنا أبغضك!
- سمعت انك بصرية
- أبي بصري أما أمي فموصلية
- وأنا أستأذنك في زيارة البصرة
- لا تفعل
- ولماذا؟
- البصرة لا تزار في هذه الأيام، وإنما تزار في الموسم
أي موسم؟
- موسم التمر، حين تذهب الصبايا إلى النخيل مع تباشير الصباح، موسم العيون والقلوب، موسم الصيد يا جهول
- جهول؟ وأنا أستاذ عظيم؟
- الأساتذة أجهل الناس، لأنهم يكتفون بما في الكتب من وصف الأشياء، ويجهلون حقائق الأشياء
ولكن أنا أحاول الوصول إلى حقائق الأشياء
وإذاً فلن تصلح للأستاذية
- وكيف؟
- ألم تفهم يا غافل أن الرجل لا يصلح للأستاذية إلا إذا كان قطعة من الثلج؟ الأستاذ الحق في بلاد الشرق هو الرجل الذي يحفظ
- ولا يعقل؟
- ليس من الضروري أن يعقل، لأنه لا يشترط في الأساتذة عندنا أن يكونوا يعقلون. الأستاذ الحق يا غافل هو الرجل الذي يضيع نصف الوقت أو كل الوقت في التبرم بالمجتمع، ويقول في كل حين:
هذا الزمان الذي كنا نحاذره
…
في قول كعب وفي قول ابن مسعود
إن دام هذا ولم يحدث له عِوض
…
لم يُبك مَيت ولم يُفرح مولود
أو كما قال: يهمني أن أعرف شيئاً في هذا الموضوع يا ليلى، فانأ طبيب أضاعه الأدب ولم يبق أمامه غير احتراف التدريس
- زين، زين! وأنا أعلمك، ولكن أدفع الثمن
وما هو الثمن؟
- قبل يدي
- أقبل يديك ورجليك يا ليلى
- أسمع يا زكي
- أنا الدكتور زكي
- لن تكوني دكتوراً إلا يوم تصبح مثال الغباوة والجهل
- وهو كذلك. هاتي ما عندك يا داهية!
- أسمع أيها الطفل الكبير! إن الأمم المتأخرة تعيش بعقل القرن التاسع قبل الميلاد، يوم كانت الأستاذية وقفاً على الكهان، والكهان كانوا قوماً منافقين، وإليهم كان الأمر في التعلم والتثقيف؛ وهم اللذين سيطروا على المصريين والآشوريين والكلدانيين. ومن واجبي أن أحذرك عواقب الثقة بأهل عصرك من أهل الشرق، فهم يتظرفون ليقال إنهم متمدنون. والبرهان على ذلك انهم لا يشهدون لمحة من ضوء الفكر إلا أطفئوها بالبصق لا بالماء. فاحترس يا غافل من الثقة بأهل زمانك فإني أخشى أن أسمع من أخبارك ما يسوء بعد حين
- سيدتي! إن مصر تحضرت وهي تقود الشرق
- لن أصدق أن مصر تحضرت إلا يوم يقام المرقص في ميدان الأزهر كما يقام المرقص في ميدان السوربون
- أنت سخيفة يا ليلى!
- وأنت اسخف!
- أنت لئيمة
- أنا اعرف ما تريد، اعرف أنك تريد أن أعرك أذنك، ولكني لن افعل
- ولماذا يا شقية
- لأنك جهول
- أنا عالم علامة
- لو كنت عالماً لما فضحت نفسك بنشر أحاديث الحب في الجرائد والمجلات
- إذاً ماذا اصنع؟
- اكتم غرامك ونافق، كما يصنع فلان الذي يلقى الله بالفجور ويلقي الناس بالعفاف
- ولكن أنا أحب أن ألقي الناس بالفجور والقي الله بالعفاف
- غلبتني أيها المؤمن، فإن الذي يصلح ما بينه وبين الله لا يضره أن يفسد ما بينه وبين الناس
- وآية ذلك يا مولاتي أن تلاميذي لم يفسد رأيهم في أبداً، فما اشتغلت بالتدريس في معهد إلا شهدت أحجاره بأني أصدق من عرف من المدرسين
- أنت إذاً موفق
- تحبينني يا ليلى؟
- أنا أبغضك!
- ولكن أنا أحبك!
- أمامك دجلة، فاكرع منها كيف شئت!
- أستأذنك في السفر إلى البصرة
- في رعاية الله وأمان الهوى
- ألا تغارين من سفري إلى البصرة؟
- أنا لا أغار عليك!
- أنت إذاً لا تحبينني!
- ما أنكر أني أحبك بعض الحب، ولكن لا موجب للغيرة، فقد ضمنت أن تكون لي طول عمرك. ولقد قيدت قلبك بقيود من حديد. أما سمعت ما قال أحد فضلاء المحاضرين بمحطة الإذاعة الفلسطينية؟
- وماذا قال؟
- قال إنك تحبني، وأنني وهبتك الخلود، وما يقال في فلسطين تسجله السماء
- وأقول في البصرة إني أحب ليلى؟
- قل في البصرة إنك تعبد ليلى ليكرموك
- وأنت تحبينني؟
- أنا أبغضك
إلى البصرة، إلى البصرة! إلى وطن ليلى التي تبغضني أمتطي قطار المساء، وأنا على موعد مع صاحبة العينين، فما الذي سيحدث في القطار وفي البصرة؟ أمري إلى الله وإلى الحب!
(للحديث شجون)
زكي مبارك
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 -
1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 25 -
(معذرة إلى القراء من هذه الفترة التي انقطعت فيها عن الكتابة، وأشكر لهم. على العهد أن أوالي الكتابة حتى أفرغ من هذا التاريخ. ومعذرة ثانية إلى صديقي الأستاذ محمود أبو رية مما كان مني إليه، وسيأتيه ردي بعد قليل)
العريان
الرافعي والعقاد
لما مات المرحوم شوقي في خريف سنة 1932، اهتزت لموته المجامع الأدبية في مصر والشرق؛ فما تجد من كاتب أو أديب من أبناء العروبة إلا أهتم لهذا النبأ واحتفل به. وتهيأت (المقتطف) لكتابة فصل أدبي عن أمير الشعراء، فأفرغت بضع عشرة صفحة من العدد الذي كان موشكاً أن يصدر، وأبرقت إلى المرحوم الرافعي في طنطا أن يكتب هذا الفصل ويرسله إليها في أيام قبل أن يتم طبع العدد
ولم يكن بين الرافعي وشوقي من صلات الود ما يتيح له أن يعرف شيئاً من حياته يعينه على دراسة أدبه؛ ولا كان الرافعي مستعداً لهذه الدراسة ولا تهيأت له من قبل أسبابها ودواعيها لينشئ موضوعه على الوجه الذي يرضاه في ذلك الوقت العاجل. وإن الرافعي لكثير الأناة والتأنق فيما يكتب، فلا يبدأ في إنشاء موضوعه حتى يخلى له فكرة أياماً وليالي، يبحث ويوازن، ويزاوج ويستنبط؛ ثم يتهيأ للكتابة وقد استوى الموضوع في فكره كأنما قرأه لساعته في كتاب. ولكن كل أولئك لم يمنع الرافعي أن يجيب محرر المقتطف إلى ما طلب، وأرسل مقاله في الموعد المضروب. وكانت دراسةً أعتقد أن أحداً من كتاب العربية لم يكتب مثلها عن شوقي أو يبلغ ما بلغ الرافعي بمقاله، فأنصف شوقي، وجلى عبقريته، وكشف عن أدبه وفنه ومذهبه. دع عنك بعض هنوات قليلة لا تغض من قيمة هذا
البحث الفريد
وكان مما أخذ الرافعي على شوقي وسماه غلطات في النحو أو اللغة، أن شوقي أبتدأ بالنكرة في قوله:
ليلى! منادٍ دعا ليلى فخفّ له
…
نشوانُ في جنبات الصدر عربيد
وهي هناة صغيرة قد يجد لها بعض العلماء بقواعد العربية وجهاً من التعليل وباباً من العذر
والعقاد أديب له شهرته العريقة في عداوة شوقي والزراية بأدبه وفنه؛ فما يعرف أدباء العربية أحداً كان أبلغ عداوة لشوقي أو أحد لساناً في نقده من العقاد!
ولكن العقاد لم يكد يفرغ من قراءة مقالة الرافعي في المقتطف، حتى تناول قلمه ليكتب كلمة يرد بها رأي الرافعي في نقد هذا البيت ويعتذر عن شوقي. . . وكان للعقاد نصيب من التوفيق فيما كتب!
ليت شعري، أفعلها العقاد دفاعاً عن شوقي وهو من هو في عداوته، أم تحدياً للرافعي؟
أفلم يجد العقاد في بضع عشرة صفحة يكتبها الرافعي مباهياً بشوقي، مفاخراً بأدبه وفنه وعبقريته شيئاً يستحق الرد والتعليق غير هذه الكلمة؟ هذا سؤال سألته نفسي يومئذ، وأحسب أن كثيراً من القراء سألوه أنفسهم؛ ولكن جواب هذا السؤال معروف لكل من يعرف ما كان بين الرافعي والعقاد، ثم ما كان بين العقاد وشوقي منذ قريب!
وقال لي الرافعي: (ماذا ترى فيما كتب العقاد؟)
قلت: (أنا وهو على رأي واحد فيما يرد به!)
فمط شفتيه ساخراً وهو يقول: (أخطأت، وأخطأ العقاد، وأخطأ المتأخرون من علماء النحو في العربية. . . ليس الرأي ما يقول العقاد وتوافقه عليه. . .)
وتملكه عناده وكبرياؤه؛ فأنشأ مقالة طويلة مسهبة يرد بها رأي العقاد، ويصر على تخطئة شوقي في الابتداء بالنكرة، ويتهم المتأخرين من علماء النحو بالغفلة وقلة البصر بأساليب العربية؛ ثم يفيض ويسترسل في بيان أوجه الابتداء بالنكرة وما يصيب منها وما يخطئ.
وإذا لم يكن لي في هذا المجال أن أصرح بالرأي فيما كتب الرافعي في هذا الموضوع؛ فإن لي أرد كل شيء إلى أسبابه، فأزعم أن الرافعي لم يكتب ما كتب خالصاً لوجه العربية، ولكنها الكبرياء والاعتداد بالنفس وخوف الهزيمة أمام العقاد في معركة أدبية!. . .
ولست أكتم هنا أن الرافعي كان يسيء الظن بفهم العقاد لقواعد اللغة؛ فما يرى له شيئاً من مثل ما كتب في ذلك الموضوع مما يشير إلى بصره بقواعد العربية إلا اتهمه بأنه يستعين فيه بأصدقائه من أهل العلم بهذه اللغة. وأحسبه قال لي مرة: إن الذي يعين العقاد في ذلك هو صديقه الأستاذ عباس الجمل!
وانتهت هذه المعركة الصغيرة ولم تسفر عن أشلاء، ولكني أحسب أن الرافعي نفسه لم يكن مقتنعاً بما كتب في الرد على العقاد فبقي في نفسه شيء يحمسه إلى معركة جديدة، فلم يلبث إلا قليلاً ثم كانت المعركة الفاصلة. . .
وحي الأربعين
وكانت هدنة استمرت بضعة أشهر، ثم أصدر العقاد ديوانه (وحي الأربعين).
ومضى أسبوع أو أسابيع بعد صدور الديوان؛ ثم كان عيد من الأعياد، فغدوت على بيت الرافعي لأهنئه، ثم خرجنا نطوف ببيوت بعض الأصدقاء؛ حتى انتهى بنا الطواف إلى دار صديقنا الأديب الأستاذ حسنين مخلوف. والأستاذ مخلوف أديب مطلع، لا يفوته كتاب مما تخرج المطبعة العربية. فلم يكن ثمة بد من الحديث في الأدب، وفي الشعر، وفي المطبوعات الجديدة، وهو حديث يحلو للرافعي، ويحلو لمخلوف، ولو أستغرق هذا الحديث سحابة يوم العيد من الضحا إلى العصر، والبطن خاو يطلب الطعام، ورائحة الشواء تفوح في بيت المضيف وفي بيوت الجيران!
وسأل الرافعي مضيفه: (ماذا عندك من الجديد في الكتب؟)
وضحك مخلوف وهو يغمز بعينه ويقول: (وحي الأربعين!)
ووجد الرافعي طلبته، فدعا بالديوان الذي يود أن يقرأه منذ أيام ويمنعه من شرائه أنه كتاب العقاد. . .!
وجاء الديوان فوضعه الرافعي بين يديه وقال: (لست أريد أن أتجنى على العقاد الشاعر أو أحكم في ديوانه برأي قبل أن تتهيأ لي أسبابه؛ وإني لأخشى أن أفتح الكتاب فتقع عيني أول ما تقع على أردأ ما فيه فأحكم على الديوان ببعضه، وقد يكون فيه الجيد، وما هو أجود، وما تتقاصر أعناق شعراء العربية دون الوصول إليه. وإن بيني وبيني العقاد لسابق عداوة، وأنتما بريئان من التهمة وسوء الظن؛ فدونكما الديوان فقلبا فيه النظر، وتداولا فيه
الرأي، ثم دلاني على أجود ما فيه لنقرأه معاً فنحكم له أو عليه مجتمعين؛ ثم يكون ما اتفقنا عليه من الرأي في هذا الجيد المختار هو الرأي في الديوان كله، من غير أن يتغلب الهوى أو تتحكم الشهوة. . .!)
ورضينا رأي الرافعي، فأخذنا الديوان نقلبه صفحة صفحة، ونقرأه بيتاً بيتاً؛ والرافعي، منصرف عنا إلى كتاب بين يديه. . . ومضت فترة، واستبطأنا الرافعي فيما دعانا إليه فقال:(أحسبكما لم تجدا ما تطلبان! ولن تجدا. . . . . . إذن فلنقرأ الديوان معاً من فاتحته؛ فما أحسب الشاعر يختار فاتحة الديوان إلا من أجود شعره. . .!)
وتناول الديوان يقرأ منه ونستمع إليه. ووقفنا عند أشياء، وتداولنا الرأي في أشياء. وكان أكثرنا حماسة في النقد هو الأستاذ مخلوف. ومضت ساعات ونحن نقرأ، ولكل رأي بيديه. ثم طوينا الديوان وأخذ الأستاذ مخلوف يتحدث في موضعه. . .
وقال الرافعي يخاطبه: (. . . وما دمت على هذا الرأي في الديوان فلماذا لا تنشره؟ إن لك لساناً وبياناً، وإنه لنقد (يستحق أن يقرأه أدباء العربية. . .!)
وتردد مخلوف قليلاً ثم سمع مشورة الرافعي. . . وتهيأ لكتابة نقده. . .
ومضى أسبوع، ثم نشر (المقطم) في صدره مقالاً مجوداً للأستاذ مخلوف في نقد ديوان وحي الأربعين، تناوله بأدب وهدوء في بضعة عشر موضعاً، وأرجأ بقية النقد إلى عدد تال. . ومضى يومان وكتب العقاد في صحيفة الثلاثاء من جريدة الجهاد رده على مخلوف. . .
لم يكن مخلوف حين كتب مقاله الأول للمقطم مقدراً أن الأستاذ العقاد سيتناوله بهذه القسوة، ولكنه فوجئ مفاجأة شديدة بما كتب العقاد. . .
لم يرد العقاد على مخلوف رد الأديب على ناقده، ولكنه راح يتهكم عليه ويسخر منه ويستهزئ بعلمه وأدبه ومقدرته على فهم الشعر. وإذ كان مخلوف من مدرسي اللغة العربية في مدارس الحكومة، فإن العقاد قد أنتهزها سانحة لي ليطعن على مدرسي اللغة العربية في مدارس الحكومة، ويلحد في كفايتهم وعلمهم، ويعود بالسبب في ضعف اللغة العربية في المدارس على مخلوف وزملاء مخلوف. ولم تسلم مدرسة دار العلوم، ولا واحد من مدرسي اللغة العربية، من تهكم العقاد وسخريته في هذا المقال، لأن واحداً منهم كتب ينقده ويحاول
رده إلى الصواب فيما رآه أخطأ فيه. . .!
وكتب مخلوف مقاله الثاني يرد مطاعن العقاد، ويتمم ما بدأ في نقد وحي الأربعين؛ ولكن المقطم أغلقت دونه الباب ولم تنشره، كرامة للعقاد وحرصاً على مودته. . .
وغضب مخلوف وتألم، ولكنه طوى صدره على ما فيه. . . وكنا جماعة من مدرسي اللغة العربية نصلي الجمعة كل أسبوع في مسجد المنشاوي بطنطا، فلقينا هناك مخلوف؛ فما رآه المدرسون حتى انهالوا عليه وركبوه بالعتب القاسي، وكلهم قرأ مقال العقاد في الطعن على مدرسي اللغة العربية بسبب مخلوف، وما منهم من قرأ مقال مخلوف إلا قليل. وحاول مخلوف أن يعتذر، ولكن اعتذاره ضاع بين ضجيج إخوانه وحملتهم عليه فلم يستمع له أحد!
وقلت للرافعي مازحاً ولقد لقيته بعد ذلك: (لقد كنت أنت السبب فيما نال مخلوفاً من إخوانه، وفيما نال مدرسي اللغة العربية من لسان العقاد؛ فأنت الذي هجت مخلوفاً إلى هذه المعركة، فانتهت إلى ما انتهت إليه بينه وبين إخوانه؛ وكانت سبباً فيما كتب العقاد عن دار العلوم ومدرسي اللغة العربية. . .)
وكان لمخلوف عند الرافعي منزلة، ولدار العلوم في نفسه مكان. ولكنه أجابني:(وماذا علي أنا فيما كتب مخلوف، وفيما رد العقاد؟)
قلت: (لولاك لم يكتب مخلوف فيتعرض لما تعرض له من لسان العقاد ومن عتب إخوانه. ولولا ما كتب مخلوف لبقيت دار العلوم بريئة من العيب لم يطعن فيها العقاد ولا غير العقاد!)
وقصدت فيما قلت - ومعذرة إلى الأستاذ العقاد - أن أهيج الرافعي للكتابة عن العقاد، فيشهد أدباء العربية معركة جديدة بين الأديبين الكبيرين يكون لهم من ورائها نفع ومتاع ولذة. . . وبلغت ما قصدت إليه، ووعد الرافعي بأن يكتب ما في نفسه من ديوان وحي الأربعين، ولكن على شرط: أن أشتري له نسخة على حسابي من الديوان، لأن عليه قسماً من قبل ألا يدفع قرشاً من جيبه في كتاب من كتب العقاد. . .!
ونفذت الشرط، وتهيأ الرافعي للكتابة عن وحي الأربعين؛ ومضت أيام، ثم دعاني ليملي علي مقالة الأول في نقد وحي الأربعين.
(شبرا)
محمد سعيد العريان
من برجنا العاجي
كنت أشكو ذات يوم عسراً في الهضم وقلة في النوم، وأضيق ذرعاً بالأدب والأدباء، وإذا بزائر أديب يلح في طلب رؤيتي ولا يريد أن ينصرف حتى يجاب إلى ما طلب. وعلمت أنه ممن لم يسبق لهم أن رأوني؛ فخطر لي خاطر سريع: ناديت تابعاً لي وأجلسته إلى مكتبي وطلبت إليه أن يقابل الزائر باسمي، وانتحيت أنا جانباً أقرأ إحدى الصحف. ولم يلبث الزائر أن دخل وسلم على تابعي في احترام قائلاً:
- يا أستاذ! إني سعيد جداً إذ استطعت أن أراك. فأنا من قرائك المدمنين، اقتنيت كل كتبك، وطالما رسمت لك في مخيلتي صورة أراها الآن طبق الأصل. . . فالحمد لله لم يخب ضني في شيء. إني أراك الآن كما تخيلتك بين سطورك
فطرحت من يدي الصحيفة ونظرت إلى الرجل محملقاً. أهذا الرجل صادق؟ لا شك عندي في ذلك، فكلامه مفعم بالحرارة والإخلاص، ولكن كيف انطبقت تلك الصورة (طبق الأصل) على غير (الأصل) بهذه السهولة؟! وجعل هذا الزائر يكثر من ترديد اسمي ويسبغه في اقتناع على سكرتيري الجالس إلى مكتبي، فشعرت بخلجة من شك هزت نفسي. ماذا بقى مني إذاً؟ هذا هو (توفيق الحكيم) إلى مكتبه كما يعتقد الآن هذا الزائر، وتلك صورته كما ظهرت له من بين السطور. أما أنا فشيء لا علاقة له بهذا الرجل ولا بما قرأ. اسمي قد انفصل عني وانتزع مني في تلك اللحظة كما تنتزع الإمضاء عن (الكمبيالة). وما أنا في تلك الساعة إلا كتلة من لحم ودم ملقاة على مقعد! وقد خيل إلي أن لفظ (توفيق الحكيم) ليس أكثر من (ماركة) توضع فوق كتب، مثل ماركة (الفابريكة) فوق علب (الساردين). إن بعض (الأسماء) لتتخذ لها أحياناً حياة مستقلة عن أصحابها. وهذا (الاسم) هو وحده الذي يباع ويشرى في سوق المكاتب والوراقين، ولدى الصحف والمجلات؛ أما الشخص فقد لا يعني أمره كثيراً من الناس. ولأول مرة أدركت إني غير موجود في نظر الجمهور باعتباري (شخصية آدمية)؛ إنما الذي يعاملونه هو (الشخصية المعنوية)، فمثلي في ذلك إذن مثل شركة (النور) و (الغاز) و (المياه)
توفيق الحكيم
إبراهيم بك المويلحي
1844 -
1906
بقلم حفيدة إبراهيم المويلحي
السيد إبراهيم المويلحي بن السيد عبد الخالق بن السيد إبراهيم بن السيد أحمد بن السيد الشريف مصطفى وكيل المويلح. ينتهي نسبه إلى الحسين من جهة أبيه، والى الحسن من جهة أمه فأسره المويلحي يمتد نسبها إذن إلى الصادق (محمد صلى الله عليه وسلم وإلى الصديق (أبي بكر). وهذا النسب ثابت ثبوتاً قضائياً يرجع إلى أحكام شرعية مصرية، لا إلى مجرد (الثبوت الإداري) المعروف في مصر
والمويلحي نسبة إلى المويلح (بلدة في جزيرة العرب على شاطئ البحر الأحمر كانت تابعة لمصر في عهد (علي بك الكبير) حتى سنة 1892 ميلادية، ثم ضمت إلى ولاية الحجاز
وقد انقسمت هذه الأسرة قسمين أحدهما في مصر والآخر في المويلح
وأول من وفد إلى مصر من المويلحيين السيد أحمد المويلحي بعد خدمة أداها لمحمد علي باشا الكبير في تسكين فتنة الوهابيين ثم أقام بها، وأسس بيتاً تجارياً بجهة التربيعة بالقاهرة
ورزق السيد أحمد المويلحي بالسيد إبراهيم المويلحي جد صاحب هذه الترجمة، فشب على حب الأدب وأولع به. وكان لا يخلو مجلسه من الأدباء والشعراء يطارحهم ويذاكرهم، فكانت ألسنة الوجهاء تلهج بذكر أدبه وشعره، حتى بلغ أمره (حبيب أفندي) كخيا المغفور له (محمد علي باشا) فجعله كاتبه
ولقد أدى إبراهيم خدمة جليلة لوالي مصر (محمد علي) فحفظها له البيت الخديوي، فانتفع بها المترجم له حالة عسره كما سيتبين لك فيما بعد
ورزق السيد إبراهيم بالسيد عبد الخالق الذي انتحى ناحية الاشتغال بالتجارة فشب على حبها وأفرغ همه فيها، فذاعت شهرته بصناعة نسج الحرير التي كانت رائجة بمصر في ذاك الوقت فجمع ثروة طائلة
ثم انجب ولدين هما (إبراهيم) صاحب هذه الترجمة، و (عبد السلام) وأستقر رأيه على أن يجعل من إبراهيم رجلاً تجارياً. فبعد تعليمه العلوم الابتدائية في البيت، أخذ يوجه نحو الاشتغال بالتجارة، وأبقاه في محله التجاري وأرسل أخاه (عبد السلام) إلى الأزهر ليكون
عالماً. ولكن شاءت إرادة الله أن يكون إبراهيم هو العالم والأديب، وأن يتفرغ عبد السلام فيما بعد للتجارة ومزاولتها، فنهض فيها نهضة إبراهيم في العلم والأدب
فكان إبراهيم مولعاً بالأدب والشعر منذ حداثة سنه، وقد ورث ذلك عن جده إبراهيم، ومن حسن حظه أن كان بجوار محله التجاري عطار لم يحضرني أسمه كان من العلماء الأعلام الذين لم تتغلب عليهم التجارة فتنسيهم العلم، فتتلمذ عليه إبراهيم بغير علم من والده، فدرس عليه علوم الأدب والبلاغة والنحو والعروض حتى نبغ فيها
ومن نوادر ما يروي عن رغبته في العلم والتحايل على الحصول، عليه أنه كان معه بواب للمحل يدعى (علي الأشموني) فكان يتفق معه على أن يقف على ناصية الطريق حتى إذا ما رأى والده السيد عبد الخالق مقبلا نحو متجره راكباً مطيته يهرع إلى السيد إبراهيم المنشغل بدرسه ليقطع عليه لذة الدرس وينبهه إلى حضور والده السيد عبد الخالق، فيذهب إلى المتجر متظاهراً بمداومة العمل
وما كان يخطر له ولا والده أنه سيجعل الأدب مهنته، وهي يومئذ مهنة الفقراء، ولكن الأقدار ساقته إلى الاشتغال بها. فكان من اعظم نوابغها
وظل إبراهيم في حجره والده آمناً سعيداً حتى توفي الوالد سنة 1282 هجرية (1865 ميلادية) فتولى هو تجارة أبيه وقبض على ثروته التي تبلغ ثمانين ألفاً من الجنيهات، وجرى على خطته في العمل حيناً فازداد تقدماً وصار عضواً في مجلس التجار وعضواً في مجلس مصر الابتدائي
ولا يفوتن القارئ أن كل هذه المشاغل لم تحل دون ميله للأدب والشعر إذ كانت هذه الملكة تنمو فيه شيئاً فشيئاً بين مشاغل السياسة والإدارة والتجارة، فاتفق مع المرحوم (عارف باشا) أحد أعضاء مجلس الأحكام وصاحب المآثر الكبرى في نشر الكتب على تأسيس (جمعية المعارف) وكانت جل همها نشر الكتب النافعة وتسهيل إقتنائها، ثم أنشأ (إبراهيم بك) مطبعة باسمه سنة 1285 هجرية (1868 ميلادية) لتطبع تلك الكتب، وتعد من أقدم المطابع المصرية، وكانت كثرة العمل فيها تدفع الجمعية إلى طبع جزء من كتبها في بعض الأحيان بمطابع أخرى ولا سيما (المطبعة الوهبية)
ولا شك في أن هذه الجمعية كانت صاحبت اليد الطولى في نشر كثير من الكتب القيمة
ككتاب (تاج العروس) و (أسد الغابة) و (رسائل بديع الزمان) و (سلوك المماليك) و (ألف با) و (محاورات الأدباء والشعراء والبلغاء) وغيرهما مما جعل لهذه الجمعية شأناً في تاريخ النهضة الدبية الحديثة
أما صاحب الترجمة ففي السنة الثانية من إنشاء مطبعته اتحد مع (محمد عثمان جلال بك) لإصدار جريدة عربية سماها (نزهة الأفكار) ولم يكن من الصحف العربية يومئذ بمصر إلا (جريدة وادي النيل) و (الجريدة الرسمية)
ولسوء الحظ لم يصدر منها إلا عددان، ثم اظهر المرحوم (شاهين باشا) للخديو إسماعيل تخوفه مما سوف تثيره مقالاتها من الأفكار وتولده من الفتن، فأصدر الخديو أمراً بإلغائها. وظلت المطبعة على ما هي عليه من طبع الكتب الأدبية والتاريخية والفقهية لجمعية المعارف، كما كان يطبع المترجم كتباً على نفقته الخاصة
وكانت مضاربات البورصة حديثة العهد بمصر، وقد تشدق الناس بمعجزاتها في سرعة الإثراء. ولما كان إبراهيم طلاباً للعلا لم يكتف بما عنده من الرزق الواسع وحدثته نفسه بطلب المزيد، فاندمج في صف المضاربين، يربح تارة فيطمع في المزيد، ويخسر أخرى فيطلب التعويض. وما هلت سنة 1289 هجرية (1872 ميلادية) حتى أستنزف ثروته، وأثقل بالديون وكاد البيت يتزعزع، فرأى الخديو إسماعيل من اللازم أن يقيم أود ذلك البيت المشهور بعزة وجاهه فقال لشريف باشا وثابت باشا:(إن ما سأصنعه لهذا البيت واجب على ذمتنا، فإن جدهم خدم جدي خدمات جليلة)
ثم طلب استدعاء إبراهيم وعبد السلام، فلما مثلاً بين يديه قال: من منكما الأكبر؟ فقال إبراهيم: عبدكم يا مولاي. فسأله: كيف تسير أعمالكما التجارية بعد موت أبيكما؟ فقال إبراهيم: إن علمها عند عبد السلام (وقد ذكرنا من قبل أنه هو الذي مارس التجارة وأدارها) لأني انقطعت للعلم والأدب. فالتفت الخديو إلى عبد السلام، فتقدم وبسط الحالة التجارية والمالية. وهنا تناول الخديو ورقة وخط فيها بيده الكريمة سطرين وناولها إبراهيم ليسلمها لرئيس الديوان
وبعد أن قام الأخوان بواجب الشكر ذهبا تواً إلى حيث أمرا وهما لا يعلمان ما خبأته لهما الأقدار!
وكم كانت دهشتهما عند ما علما أن بالورقة أمراً كريماً بتعيين إبراهيم عضواً في مجلس الاستئناف براتب شهري قدره أربعون جنيهاً، وبصرف أربعة آلاف جنيه لعبد السلام ليسدد ما عليهما من ديون، وليتمكن من إقامة ما أعوج من شئون التجارة، وبالإنعام على كل منهما برتبة بك من الدرجة الثانية
ولم يكتف إسماعيل باشا بكل هذا، بل أبى عليه كرمه إلا أن يصدر أوامره إلى جميع من في قصوره من النساء بأن يعدلن عن لبس الأنسجة الأوربية إلى الأنسجة المصرية من صنع المويلحي، وألا يدخل تشريفات السيدات سيدة مرتدية غير هذه المنسوجات، كما أمر بصنع كمية كبيرة منها لإرسالها إلى معرض فينا في تلك الأيام
وما زال المترجم له في وظيفته بمجلس الاستئناف حتى آلت رياسته إلى المرحوم (حيدر باشا يكن) فوقع بينهما شقاق انتهى باستقالة (إبراهيم بك)
ولكن عناية الخديو إسماعيل ما زالت ترعاه؛ فأمر بإعطائه مصلحة تمغة (المشغولات والمنسوجات) على سبيل الالتزام (الاحتكار) على أن يؤدي للحكومة جعلا
ولما سقطت وزارة (نوبار باشا) سنة 1296هـ سنة 1879م التي كان فيها عضوان أجنبيان، وخلفتها وزارة (شريف باشا) المعروفة باسم الوزارة الوطنية، وهمت بإنشاء اللائحة الوطنية لتأسيس مبادئ الحكومة الدستورية - وقع الاختيار على المترجم له لوضع هذه اللائحة
ولما أن استقرت الوزارة الجديدة طلب المرحوم (راغب باشا) ناظر المالية وقتئذ من الخديو إسماعيل أن يكون إبراهيم بك معه في المالية لما يتوسمه فيه من النجابة والنباهة وعلو الهمة وسداد الرأي، فلم يمانع الخديو وسر بهذا الاختيار، وأصدر الأمر بتعيينه ناظراً للقلم العربي بها. وهنا تجلى نبوغه وظهرت جدارته فأحيلت إليه نظارة قلم (العرضحالات) مع ملاحظة (قلم تركي المالية) وعين عضواً في مجلس تسديد الديون السائرة
ولما تنازل الخديو عن العرش سنة 1879 م كما هو معروف، وصدرت أوامر السلطان بنفيه، طلب الإذن من السلطان بالإقامة في استانبول أو أزمير، فلم يصادف هذا الطلب قبولاً. فلما علم الملك (أومبرتو ملك إيطاليا بهذا الرفض، طيب خاطر صديق والده، ووضع تحت تصرفه سراي (الفافوريتا بضواحي نابولي
على أن هذا النفي لم ينسه ذكر إبراهيم فبعث يستقدمه إليه. فلبى إبراهيم الأمر، واستعفى من مناصبه وظل في معية إسماعيل بضع سنوات كان يقوم في أثنائها بوظيفة كاتب يده (سكرتيره العربي) يكتب عنه الرسائل إلى الملوك والأمراء، كما كان يقوم بالتدريس لنجله سمو البرنس احمد فؤاد (المغفور له صاحب الجلالة فؤاد الأول) وقد أرسل إبراهيم بك كتاباً إلى أبنه المرحوم السيد محمد بك المويلحي بتاريخ 15 مارس سنة 1880 يطلب منه الإسراع بإرسال بعض كتب النحو الصغيرة لهذا الغرض
وفي نفس هذه السنة أي سنة 1880م أنشأ جريدة (الاتحاد) بإيطاليا، واصدر منها ثلاثة أعداد كانت مقالاتها شديدة اللهجة على سياسة الدولة العلية مما جعل السلطان عبد الحميد يطلب من سفارته بإيطاليا إيفاد مندوب من قبلها لدى الخديو إسماعيل ليرجوه أن يأمر (سكرتيره) بالكف عن نشر تلك الجريدة.
وفي أثناء إقامة الأسرة الخديوية بإيطاليا مرضت إحدى الأميرات من زوجات سمو الخديو إسماعيل (بالروماتزم)، ووصف لها الأطباء بلدة (بورسة) خشية عليها من المكث في الجو الذي هي فيه. فأشكل الأمر على الخديو، وبث همه إلى (سكرتيره) وطلب منه أن يكتب لجلاله السلطان عبد الحميد رسالة يشرح له فيها حالة المريضة بذلك الأسلوب المتين الساحر
فكتب إبراهيم بك رسالته المشهورة عن لسان الخديو إسماعيل التماساً لدخول حرمه الآستانة وأفرغ فيها كل أوتي من بيان
ولما ترجمت وعرضت على السلطان عبد الحميد تأثر بها وأرسل برقية إلى سفيره في إيطاليا بدعوة حرم الخديو إسماعيل إلى الآستانة للاستشفاء بمياه (بورسة) المعدنية
وقد يلذ القارئ أن يطلع على هذه الرسالة وهي رسالة طويلة نقتطف منها ما يأتي:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى أمير المؤمنين، وإمام المسلمين، وخليفة رسول رب العالمين، أطال الله بقاءه، وجعلني من كل مكروه فداءه. من عبد أكتنفه حرمان الرضا من ولي نعمته، ومالك ناصيته، فساعته شهر، وليلته دهر، وعبرته نهر، وكذلك جواب دعائه جازعاً مما يقاسي من غضب أمير المؤمنين وقد قال الله تعالى حاثاً على العفو (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس. .)
وأمير المؤمنين أولى العالمين في الاقتداء بآي الكتاب العزيز. وإني أتضرع إلى مقام خلافتكم العظمى، وسلطتكم الكبرى متوسلا بجانب صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم أن يلحظ ما اعرضه لدى سدتكم الملوكية بعين الرضا، ولو أن العذر إقرار بالذنب لملأت الصحائف اعذاراً، ولعرضت التوبة ليلا ونهاراً
وهبني يا أمير المؤمنين جئت بكل ذنب. أليس في سعة عفوكم وساحة إحسانكم ما تغفر به الذنوب! وأمير المؤمنين أعلى نظراً أن يؤخذا بقول وهو إفك الوشاة، أو يعاقب بكلام وهو بهتان السعادة، من الذين اتخذوا حرفتهم انهم يحرفون الكلم عن مواضعه، بعد أن أفنيت حياتي لهذا البيت المعمور في خدم قدمتها، وأوامر أطعتها، ونواهي امتثلتها، موالاة جعلتها شرطاً سادساً لديني ومعتقدي، وإتباعاً لقوله تعالى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم). . . إلى أن قال في آخرها:
(. . . وإني أذكر أمير المؤمنين - فان الذكرى تنفع المؤمنين بقوله تعالى: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) وإن بين جلالتكم وبين رعيتكم، وهذه المريضة فرد من إفرادهم - الرحم الديني - الذي هو أولى بوجوب الصلة من رحم النسب، قال تعالى:(إنما المؤمنون اخوة فاصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) أي واتقوا في اخوتكم في الدين برعاية عهودكم وحفظ حقوقكم، فعلمنا أن الأخوة الدينية تقتضي مزيد الشفقة والرحمة، ولا معنى للرحمة والشفقة إلا أن تنقذ المؤمن من المهالك، وتؤمنه من المخاوف، وتخلصه من الآفات، وأن توصل إليه المبرات ما استطعت؛ ولا يكمل عبد من الإيمان حتى يجب لأخيه ما يجب لنفسه. وإني أتوسل إلى الله أن يلحق أمير المؤمنين بنزاهته وشفقته ورحمته وعدله وإيمانه ورعايته، ما في يديه من ودائع الله التي هي أرواح المسلمين وأعراضهم. وصمته: الاستمرار على حرمان هذه المريضة من علاجها الممكن؛ فإنها إنما تدخل تحت سطوة السلطنة العظمى وقوة الخلافة الكبرى، في بلدة صغيرة من مماليك الدولة العثمانية
(ولو شاهد أمير المؤمنين هذه المريضة المسكينة وهي سائلتي: بماذا أجاب الخليفة؟ أيرضى أمير المؤمنين أن أقول لها: قد أغضى عن الإجابة!؟ وهو تصريح بهتك الحجاب أو الموت - كبرت كلمة تخرج من الأفواه! - فإذا قالت: فأين الدين والإيمان والحديث
والقرآن والعدل والإحسان؟ فلا مساغ يا أمير المؤمنين للجواب!
(يا خليفة رسول الله: هذه فرد من أفراد رعيتكم، وقال صلى الله عليه وسلم: (وكل راع مسؤول عن رعيته) فألتمس من أعتاب مولانا المعظم أن يصدر أمره العالي بما يوافق شفقته وإرادته وأن يصفح عن عبده. وإني لممتثل لجميع أوامر مولانا أمير المؤمنين، أعدها فرضاً واجباً، فإن الحياة والله لا تصفو لعبد سدتكم وفي التصور أن ولي نعمته مغض عنه
(وأنا واقف على العبد أتلقى أوامركم بفريضة الامتثال، وإن لم يصادف تضرعي ودعائي قبولاً فإني أخشى أن هذه المريضة وهي في الاحتضار، تمد يدها بكتاب الله قائلة: بيني وبين أمير المؤمنين هذا الكتاب العزيز في الدنيا والآخرة. والأمر لله من قبل ومن بعد. . .!)
(البقية في العدد القادم)
إبراهيم المويلحي
جولات في الأدب الفرنسي الحديث
تطور الحركة الأدبية في فرنسا الحديثة
عبادة الذات
موريس
1862 -
1923
للأستاذ خليل هنداوي
يقول (بورجيه) في مقدمته لرواية (التلميذ) إن الإنسان أصبح اليوم (عدمياً لطيفاً) وقد استحال آلة فساد ناعمة الملمس، ويوشك أن يكون كل منا هذا الإنسان. وهذه الآلة قد خلقها شك (رينان)، ولكن شك (رينان) لم يكن شكاً لئيماً ولا متشائماً. وإنما كان شك (ستندال) و (نيتشه) هو الشك الأكثر طغياناً. على أن تأثير (ستندال) لم يبلغ أشده إلا في مطلع عام 1880، وتين وبورجيه ومن يتبعهما من الأنصار يمجدون فيه قدرته على التحليل النفسي، وينذهلون بهذه العاطفة الذاتية التي تهيمن على تفكيره. (فالعاقل عنده ليس إلا من يعمل كمثل عمله، يفتش في هذه الحياة عن لذة عقلية صافية) ولم يعط ستندال مذهبه تحليلاً فلسفياً ولذلك لبث تأثيره ضيقاً، بعكس نيتشه الذي أعطى مذهبه قوة وتأثيراً. فنيتشة يتسامى بقوة ويهاجم شريعة العبيد التي أخذت بعد انتشار المسيحية تستعبد الناس. فالمحبة والمساواة والأخوة كلمات جبن وأوهام باطلة تجرب باطلاً أن تحتال على أنظمة الحياة وتتلاعب بها. ونظام مذهبه المقاتلة وسحق الضعيف وظفر القوي الذي يستحيل بعد خروجه من المعركة إنساناً كاملاً وسيداً. يقول زرادشت:(لقد مات الإله - الإله المسيحي. إنني أعلمكم الإنسان الكامل، الإنسان هو شيء يجب أن يفوق نفسه) وقد ذاع هذا الإنسان الكامل في الطبقات المثقفة خلال سنة 1900 وفي هذا التاريخ نقلت آثاره وترجمت. وموريس باريس - في رواياته الأولى - حاول أن يكسو هذه الذاتية الخارقة رداء فنياً، فكتب عدة روايات وأعطاها عنوان (مقالات في عبادة الذات) يتخللها تحليل بعيد يقذف بالنفس إلى عالم العزلة (وإنما يجب أن تحس أكثر ما يمكن عندما تحلل أكثر ما يمكن) قد
يكون هذا، ولكن ينبغي عبادته، لأنه هو الذي يمنحنا معرفة أنفسنا معرفة صحيحة، ويجعلنا نعرف (ذاتاً) أفتى معنى واكثر تنوعاً وأكثر تأثيراً من ذات منظمة مأمورة. ألا فلنقدس اختلاط قوى النفس، فهذه هي اللعبة، أو معرفة هذه اللعبة التي هي ملح الحياة، أو على الأقل التمرين البسيط للعقل الذي ليس بخداع.
وفي هذه كله شك؛ وإن ذات (باريس) كما يقول أناطول فرانس مزيج من اضطراب وحيرة واختلاط. وإن من العمل الظافر العمل على احتوائها. إن تهكماً دائماً يحيط بها ويلتهمها، على أن في عبادة الذات شيئاً آخر. . .
وقد يخاطب (باريس) فئة مثقفة تائهة في الثقافة الإنسانية، ويجد أن تعليل (الذات) المصنوعة في العزلة البعيدة عن الكتب إنما هو راحته في هذا التيه:(إن قوة العقل والإحساس تمت وحدها بهؤلاء الذين يعيشون باتصال صادق مع أنفسهم، وهذا هو مذهب الشعراء والمتصوفين. وهذا وحده يستطيع أن يلقينا خارج دائرة الشك، ويقودنا إلى مثل أعلى. إننا بالانطلاق من هذه الذات الحالية نصبح رجالاً سائمين هذا المجتمع. . . رجالاً لما يتكونوا!) وقد تكون هذه الذات شديدة الاختلاف عن الإنسان الكامل (لنيتشه) الذي لا نظام له إلا الكمال المتكبر الأناني! على أن امتحان الذات ينبغي أن يرافقه شيء من الامتحان والبلاء. وذواتنا محدودة بأشياء وراثية. ومعرفة الذات تنتهي دائماً بأن تخلق لنفسها فضيلة ومراجعات جديدة. . . وقد جهد (باريس) عندما تطور أن تكون هذه الفضيلة خلل آثاره الشكوكية، وفي هذه الآثار ما يرفع من الشك إلى الإيمان ومن التعليل إلى التأليف؛ والتعليل ليس في كل صورة مبعثاً للكسل؛ هو ينقصه جهد يقاد إما بمنطق مدرسي جاف، أو بمنطق أسمى لشجرة تتحرى النور وتذهب إلى غايتها الباطنية (إنني لن أذهب باستقامة إلى الحقيقة كالسهم يريد هدفه. ففي أكثر الأحيان يخطئ السهم المرمي. ولكن تعليل الذات بأناة ويقين يقود إلى هذه النتيجة حيث - الذات - مهما كانت مختلفة ودقيقة فهي ليست بمختلفة ولا بدقيقة إلا لأنها ليست إلا مظهراً. (الذات - خاضعة للتعليل - بقليل من الجد تفنى ولا يتبقى إلا المجتمع الذي هي منه نتيجة فانية. وبرغم الهوان والتصاغر، فإن فكرتي التي تعاظمت من قبل لكونها حرة تصل إلى أن تعلن وتثبت اتصالها بهذه الأرض وبهؤلاء الموتى الذين - قبيل ولادتي - قد سيطروا عليها في أشكالها
وألوانها
المجتمع خصم للفرد
الفلاسفة والمؤرخون والنقاد
إن خير المؤلفين - في الفئة الواقعية - الناشدة للحقيقة لم يكونوا ذوي نزعة فردية. ولم تقدهم دراساتهم إلى نتائج كنتائج نيتشه، فالمجتمعات عندهم لا يقودها إلى الأمام رؤساء ولا رجال عبقرية؛ ولكن المجتمعات تصنع نفسها بنفسها وتذود عن نفسها بنفسها، لا بالعقل وحده لأنه قد يكون خاطئاً، ولا بالإرادة وقد تكون عمياء، ولكن بغريزة حية توفق الحياة الاجتماعية بوسائل الحياة وهي تنشأ من التقاليد، وهذه تستطيع بل ينبغي أن تتطور وأن تتحور! ولكن لا يمكن حذفها ولا قلبها دفعة واحدة كما أنه لا يمكن تبديل مناخ ولا صفة أرض ولا أخلاق ذرية ما. وإنما يجب أن نفهم هذه التقاليد عندما نرغب أن نفهم حياة شعب ما.
وهذه خلاصة آراء المؤرخين في ذلك العصر، ولا سيما (تين) الذي حاول أن يطبق هذه الآراء في كتابه (أصل فرنسا الحديثة) ففرنسا الحديثة ينبغي أن تكون وليدة فرنسا الغابرة، وهذه كانت بائسة ذليلة، ولكن يجب إيجاد علاج لها، وهذا العلاج إنما يستمد من تقاليدها وعاداتها لا من أفكار مجردة. إن فلاسفة القرن الثامن عشر قد أوجدوا (الخير لذاته) لكل الناس في أي قطر من الأقطار فلم يفض قولهم هذا إلا إلى نظم خيالية، فالذاهب المجردة لم تكن إلا كلمات عاجزة، إنها لم تولد الثورة ولكنها ولدت مملكة الذعر والرعب الأعمى، وفلاسفة القرن الثامن عشر وزملاؤهم الثائرون لم يحسنوا معرفة نظام الحياة الاجتماعية وهو المثابرة من أجل البقاء!
هنالك فلاسفة قد أخطئوا في تفكيرهم في المجتمعات على نسق تفكيرهم في العلوم المنطقية، إذ في الحقيقة ليس هنالك أفراد للعالم النفساني والروائي، ولا يغني فيهم أن نتكلم عن أثر البيئة فيهم، لأنهم ليسوا إلا جزءاً من البيئة، أو نقطة من مذهب هو جزء من القوات المؤثرة لا يمكن حله إلا بحل المذهب كله
يعلن (جابريال تاور) في كتابه (شرائع التقليد) و (الرأي والجماعات) بأن منط ق
الجماعات لا يلتقي مع منطق الفلاسفة. فالناس لا يفكرون ولكنهم يقلدون؛ وهم لا يتحققون ولكن يتبع بعضهم بعضاً؛ وهم يتشابهون
فالعالم (البيولوجي) لا يدرس حركة القلب كما يدرس الرياضي حركة كتلة ثابتة على حالة واحدة. كذلك الحوادث الاجتماعية لها خصائص خاصة، وطبيعتها تختلف بالعمق عن حوادث الحياة الفردية المدروسة عند علماء النفس إذ ليست كلها مجموعة وحدات، فالمجتمع باستطاعته أن يحلل الفرد، ولكن الفرد لا يحلل المجتمع
(يتبع)
خليل هنداوي
-
التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
- 7 -
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم
وعادت السياسة تتطلب منه جهداً غير يسير؛ فهو اليوم يتحفز لأن يخطو خطوة جديدة وله من امرأته حافز ومن طموحه حافز. . . تطلع لنكولن إلى مقعد في ذلك المؤتمر الذي كانت تمثل فيه الولايات الأمريكية جميعاً والذي كان يعقد لينظر في الشؤون العامة لتلك الولايات ومقره وشنجطون. وما كان ابراهام ليستبعد الشقة أو ليستعظم الفكرة، وقد قضى ثمانية أعوام في مجلس المقاطعة ولكن رجال حزبه وجهوا أنظارهم إلى رجل غيره من أفراد ذلك الحزب؛ وتقدم ذلك الرجل ليأخذ الطريق على ابراهام ولكنه لم يظفر بالترشيح، ورشح رجل غيره وانتخب؛ واضطر هو أن ينتظر عامين حتى جاء دوره فانتخب؛ وظل بذلك لنكولن أربعة أعوام يتطلع إلى مقعد في المؤتمر؛ ولقد آلمه وكدره أن يأخذ الطريق عليه رجلان من حزبه يراهما دونه؛ ولكن روحه الوثابة ما كانت لتعرف الملل فيما تتجه إليه من الأمور
سنحت الفرصة بعد تلك الأعوام الأربعة ولكنها أوشكت أن تفلت منه هذه المرة أيضاً لولا ما كان من مهارة زوجه ولباقتها في التأثير على رجال الحزب حتى ظفر آخر الأمر بالترشيح. ولما تم له ذلك راح يخوض المعركة وأمله في الفوز عظيم. . .
وعجب الناس أن رأوا لنكولن يومئذ يعمل على كسب التأييد بوسائل منظمة وهو الذي اعتاد من قبل أن يصدر في أعماله عما تمليه عليه المواقف في غير تدبير أو ترتيب. . . عجب الناس أن رأوه يرسم الخطط ويسدد السهام فلا تخطئ مرماها، وكأنه في هذه
المعركة الانتخابية قائد في معركة حربية يدبر الهجوم ويعد الدفاع وهو بصير بالموقف خبير بما يدور حوله، يميز باللمحة الخاطفة ما يأخذ مما يدع، ويتبين - مهما اشتد من حوله ضجيج الموقف - الطريق المؤدية إلى النصر.
كتب إلى جميع أصدقائه في نواحي الدائرة يطلب إليهم العون ويسألهم أن يدلوه على مؤيديه ليكتب إليهم، وعلى مخالفيه ليبتغي إلى إقناعهم الوسيلة؛ وراح يتحدث في الأندية، ويخطب في الجماعات، لا يدع فرصة ولا يتخلف عن موعد، وله من نباهة الذكر وطيب السمعة ومن محبة الناس لشخصه ما ينزله على الرحب أينما حل. . . وهل كان الناس يعرفون في خلقه غميزة؟ هل كان الناس يعرفون عن (أيب) الأمين إلا ما يحببه إلى قلوبهم؟ هل كان يجهل خاصة الناس وعامتهم المحامي الصادق السر؟ وهل كان ينسى العامة ذلك الرجل الطيب القلب الذي يجلس بينهم كأنه أحدهم، فيشاركهم أفراحهم وأتراحهم ويبادلهم ودا بود وحبًا بحب، ويبثهم من نصائحه ما ينير لهم سبيلهم، ويسمعهم من طريف أحاديثه وروائع أقاصيصه ما يبهجهم ويسري عن نفوسهم. . .؟
لم ينسه الناس ولم يجهلوه، ولكن للسياسة أحاكمها ولها غرائبها، وكم تأتي رياحها الهوج على ما بين الناس من مودة، وكم تترك ألاعيبها وأضاليلها الناس في عماية وغواية! وكم تصدهم الشهوات في معركتها عن الحق وهم يعلمون! أجل كم يظهر في السياسة الباطل على الحق، وكم يدلس الرأي بالهوى، وكم يضيع ما تواضع عليه الناس من أصول الفضائل فيما تزين لهم من أوهام وأحلام، وما توحي إليهم من غرور العيش ومطامع الحياة؛ وكم يذهب ما درج عليه العرف وما نشأ عليه الذوق وما نمت عليه المشاعر هباءً فيما تأنى به السياسة من بهتان!
هذا لنكولن راح يطعنه منافسه في عقيدته ويلجأ إلى الدين فيتخذ منه سلاحاً فيكيد له به كيداً أليماً؛ وهو لا يرعوى عن غيه بوازع من خلق أو بدافع من حياء! أجل إن من كان له من حسن سيرته ونقاء طويته وصدق إخلاصه درع يرد عنه السهام مهما كانت صنوفها، خليق ألا يأبه لما يتقول عليه المبطلون؛ بل إني لأعتقد أنهم يحسنون إليه من حيث انهم يريدون إساءته؛ إذ هم يشعرون الناس أنهم يتصيدون له العيوب حيث يرونه خلواً من العيوب؛ ويلفقون له النقائص إذ يغيظهم بكماله ويسمو عليهم بفضائله، ويباعد بينه وبينهم
بأن يعرض عما يأفكون. . . بيد أن للإشاعة دويها، ولها مهما بطلت مجراها وإن تاهت آخر الأمر عن مرساها؛ وذلك هو ما غاظ ابراهام وآلمه وتركه في ضيق مما يفعل منافسه
وكان ذلك المنافس من الحزب الديموقراطي وهو رجل من رجال الوعظ الديني يدعى كارتريت كان مما عرف عنه تدفق نشاطه وتوثب حيويته وذلاقة لسانه فيما ينافح عنه مما يزجيه من الآراء؛ وهو اليوم يستعدي على ابراهام مواهبه ويسلط عليه لسانه في غير إعياء أو سأم؛ يتهمه بالزيغ والإلحاد مشيراً إلى بعض ما كتبه لنكولن من قبل من رسائل نقدية حمل بها على بعض رجال الدين أن رآهم ينقمون على الناس فجورهم وينكرون عليهم فواحشهم دون أن يقوموا بنصحهم أو يعملوا على خلاصهم مما هم فيه
ذهب لنكولن مرة إلى حيث أنضم إلى جماعة يستمعون إلى منافسه في حديث ديني! وبعد هنيهة قال منافسه: (ليقف كل من يريد أن يحيا حياة جديدة وأن يسلم إلى الله قلبه وأن يذهب إلى الجنة). . . ثم أردف قائلاً: (ليقف كل من لا يريدون أن يذهبوا إلى الجحيم). . . ووقف الناس جميعاً ما عدا لنكولن فاتجه الرجل إليه وقال: (هل لي أن أسألك يا مستر لنكولن إلى أين أنت ذاهب؟) ونهض لنكولن فقال: (أتيت هنا لكي أستمع في احترام، ولم أكن اعلم أن الأخ كارترايت سيعمل على إفرادي هكذا؛ إني أومن أنه يجب أن تطرق المسائل الدينية بما هي جديرة به من التوقير. يسألني الأخ كارترايت في غير التواء إلى أين أنا ذاهب، وإني أجيبه في غير التواء أيضاً أنى ذاهب إلى المؤتمر)
وجلس لنكولن بين ضحكات الإعجاب تنبعث من جوانب المكان، وقد كسب عدداً جديداً من المؤيدين
وعلم لنكولن أن خصومه يرمونه فيما يرمونه به من الأباطيل بأنه أرستقراطي لا يحفل رجاء العامة ولا يستجيب لهم دعاء؛ وأن هؤلاء الخصوم يتلمسون البرهان على دعواهم في زواجه من ماري، فدفع تلك التهم عن نفسه بإشارته إلى حياته الأولى حيث كان (غريباً لم يلق حظاً من التعليم، معدماً يعمل في قارب نظير أجر لا يتجاوز عشرة دولارات كل شهر)
وتم لابراهام النصر وكان يومئذ في السابعة والثلاثين؛ ورأى الناس وهم يعجبون أنه حصل على عدد من الأصوات لم يتسن لرجل قبله من رجال حزبه أن يظفر بمثله؛ وكان
الحزب قد أعطاه مائتي دولار لينفق منها فيما يتطلب الانتخاب من أوجه الإنفاق ولكنه يرد إليهم المبلغ بعد الانتخاب ولم ينقص سوى ثلاثة أرباع الدولار، قائلاً إنه لم تكن به حاجة إلى النقود حيث أنه كان يتجول على جواده وأنه كان ينزل ضيفاً على أصدقائه. . .
وفرحت ماري بالنصر وحق لها أن تفرح ولها في الجهاد نصيب، ولها في المستقبل آمال. أجل أحست ماري أنها تخطو خطوة واسعة نحو هدفها، وهل كان ذلك الهدف إلا كرسي الرياسة يتربع عليه زوجها؟ إنها ما تفتأ تستحثه وتشده أزره وتحذر أن ينصرف عن وجهته؛ عرض عليه قبل الانتخاب أن يشغل وظيفة حاكم مقاطعة النيوس، ولكنها صرفته عنها ليستقيم على الطريق ويدلف إلى الغاية
صار لأبراهام اليوم بين رجال حزبه شأن غير شأنه بالأمس وأصبح له في السياسة مكانته وخطره. على أن مهنته لا زالت هي المحاماة وسيظل محامياً حتى تنتهي إليه الزعامة، وتلقي إليه قضية البلاد الكبرى وتتوافى له أسباب تلك الرسالة التي مؤديها في غد إلى أبناء وطنه جميعاً
وكانت مسألة العبيد قبيل انتخابه قد عادت تظهر في وضع جديد؛ ذلك إحدى الولايات وهي تكساس كانت قد انسلخت عن المكسيك أو كادت، فلما أرادت أن تنضم إلى الولايات المتحدة أعلنت المكسيك حقها عليها، ولكنها لم تعبأ بذلك الحق وجعلت الأمر للسيف؛ وخاضت بذلك المكسيك غمار حرب ضد تكساس وضد الولايات المتحدة التي كانت تعاونها من قبل على الاستقلال لتضمها إليها. وكان أهل الولايات الجنوبية يحبذون ضم تكساس إلى الاتحاد لكي يطبعوها بطابعهم ويضيفوها إلى الولايات التي يسمح فيها بمبدأ اقتناء العبيد؛ ولكن أهل الولايات الشمالية كانوا يتنكرون لذلك ويرغبون عن الحرب؛ وكان لنكولن ورجال حزبه ضد هذه الحرب وهم في ذلك يشايعون كلي زعيم الهوجز والمرشح يومئذ لرياسة الولايات؛ ولقد تغلب الحزب الديموقراطي، ففشل كلي في الانتخابات بسبب آرائه عن تلك الحرب
ولقد كان لنكولن قبيل انتخابه للمؤتمر ينقم على تلك الحرب ويدعو إلى انتخاب كلي للرياسة؛ لا يفتأ يلقي الخطب وينشر الدعوة بكل ما يملك من الوسائل. ولم تكن نقمته على الحرب تشيعاً منه لزعيم الهوجز فحسب، بل لقد كان يكرهها لأنها تمكن لأهل الولايات
الجنوبية في مسألة العبيد وهو يمقت تلك المسألة من أعماق قلبه؛ وإن نفسه لتنفر منها منذ ذهب إلى أورليانز ورأى مالا ينساه من منظر هؤلاء البشر يساقون في الأغلال إلى حيث يباعون في الأسواق كما تباع الدواب
وما أصل تلك المشكلة التي تظهر في ميدان السياسة حيناً بعد حين؟
بدأت مشكلة العبيد من عهد بعيد ولقد كانت تلك المشكلة بعد استقلال الولايات الأمريكية عن إنجلترا من أشد المشاكل خطراً حتى لقد كان الناس يرونها عقبة تحول دون بقاء الاتحاد. جلب التجار منذ بضعة قرون من أفريقيا طوائف من الزنوج باعوها في أمريكا، ورأى سكان الولايات - وجلهم من الأوربيين المهاجرين إليها من أوطانهم - في اقتناء هؤلاء العبيد ما يهون عليهم الكدح في طلب العيش ونظروا إليهم نظرتهم إلى الدواب، فأخذوا يشترونهم ويسوقونهم إلى الأدغال والإحراج يشقونها تحت إمرتهم. ولما كان أهل الولايات الجنوبية أهل زراعة فقد كان اقتناء العبيد عندهم أمراً أساسياً يقوم على الضرورة إذ لا تستقيم حياتهم إلا به؛ ومن ثم لم يكونوا ينظرون إلى مسألة العبيد تلك النظرة الإنسانية التي أخذ ينظرها بعض الناس بعد الاستقلال، فمنطقهم يقوم على المادة ويستند إلى الوقائع، ولا عبرة بعد ذلك بآراء المشفقين العاطفين. . .
ولما أعلنت حقوق الإنسان في مستهل الثورة، كان في مقدمتها أن الناس جميعاً أحرار ومتساوون في الحقوق وليس لأحد أن يسلبهم حقوقهم. وقد أخذ أهل الولايات الشمالية بهذه المبادئ فيما يتعلق بالعبيد فأعتقوهم، ولم يكن السود عند أهل الشمال في الجملة سوى خدم في المنازل، وذلك لأن أهل الشمال كانوا أهل صناعة أكثر منهم أهل زراعة، فلم يكونوا كأهل الجنوب يرون اقتناء العبيد أمراً جوهرياً بالنسبة إلى حياتهم، لا تتطلب زراعة القمح عندهم جهداً عسيراً ومن ثم فلا يتطلب استخدام العبيد؛ ولكن القطن في الجنوب يستلزم اقتناء هؤلاء السود الأقوياء الذين يتحملون الجهد ويقوون على الحر ويرضون بالقليل
وفي غداة الاستقلال هدد أهل الجنوب أهل الشمال أنهم ينسحبون من الاتحاد إلا أن يترك لهم حق اقتناء العبيد قائلين إن السود عندهم ليسوا مجرد رجال بل هم بعض أدواتهم، وخيل للناس أن الاتحاد منفصمة عراه لا محالة؛ وأشفق الزعماء أن يضيع الاستقلال الذي اشتروه بدمائهم وأموالهم؛ لذلك لم يروا بدًا أن يتهاونوا بعض الشيء وأن ينصوا في
القانون أنه لا يسمح بعد عشرين عاماً باستجلاب طوائف من السود من أفريقيا؛ ومعنى ذلك أنهم يسلمون ولو إلى حين لأهل الجنوب بامتلاك العبيد، ويسلمون بذلك في صورة شرعية!
وتزايد إقبال الولايات الجنوبية على اقتناء العبيد حينما ازدادت أوروبا إقبالاً على طلب القطن، وقد أخذت الآلات تعمل عمل الأيدي وعلى الأخص في حلج القطن؛ وكان كلما ازداد طلب القطن ازداد حشد السود لزراعته وجمعه فكانوا يساقون إلى الحقول جماعات تحت إمرة رئيس من البيض، وإنهم لينظرون في فزع إلى ما في يده من سوط طالما ألهب جلودهم فمزقها وأدماها؛ فإذا غابت الشمس جيء بهم كالقطيع فأدخلوا في حظيرة تأويهم جميعاً حتى الصباح. . .
ولم يكن أحد من السادة أهل الجنوب ليسأل عما يفعل بعبيده؛ ولو أنه ساقهم إلى الموت كما يسوق كلابه لما أحس بينه وبين نفسه أنه يأتي أمراً منكراً؛ وكان يمن عليهم هؤلاء السادة أنهم يطعمونهم ويسقونهم كأنما هم يريدونهم أن يعيشوا بلا طعام ولا شراب! ولا تسل عما كانوا يلاقونه من صنوف العذاب إذا بدا لهم أن يظهروا ما ينم على استيائهم أو حتى على مجرد تألمهم لما يصب عليهم من وصب؛ بل ما كانوا يعانونه من بلاء إذا انتشرت الحمى وفشت فيهم وهم جموع متقاربون. . .
وكانوا في الأسواق يحشرون كما تحشر الخيل عارية أجسادهم فيباعون، وكثيراً ما كان ينتزع المرء من أخيه وأمه وأبيه، وكثيراً ما كانت ترسل الفتاة إلى مزرعة وأختها إلى مزرعة وأهلوها إلى حيث لا تعلم لهم مستقراً ولا مستودعاً. ولقد تسنى لابراهام أن يرى هاتيك الأسواق في رحلته إلى نيو أورليانز فاستقر في نفسه الألم؛ وكأنه رأى لساعته أن رسالته في غد تحرير هؤلاء المساكين. وكثير من عظماء النفوس تقع في نفوسهم الفكرة في سرعة كلمحة البرق، وتظل تلك الفكرة وإن لم يشعروا بها في أعماق وجدانهم كالبذرة في أعماق التربة، وما تزال تنمو تلك الفكرة وتنمو حتى تملك عليهم آخر الأمر مشاعرهم فتحركهم وتوجههم حتى لا يكون لهم لغد من أمل في الحياة سوى إبرازها ثم الدفاع عنها، ثم التضحية من أجلها ثم الموت في سبيلها إن لزم الأمر. . .
ذلك ما كان من أمر لنكولن فيما أعتقد، وإن لم يشعر هو في صدر شبابه أنه عامل في غده
للقضاء على العبودية؛ ذلك ما كان من أمره وإن لم يلق باله إلى ذلك الأمر. إن نفسه لتجيش بكراهة هذا النظام، وإن إنسانيته لتنفر بطبيعتها من تلك الوحشية، ثم إن قلبه الكبير ليتمنى أن يخلص هؤلاء التعساء مما هم فيه من عذاب ومذلة، وما ذلك لعمرك إن لم يكن هو الإرهاص؟
ولم يكن للعبيد حق حتى في الهجرة، وكان إذا أبعد أحدهم إلى إحدى الولايات الشمالية التي أطلقت العبيد أعيد إذا عرف إلى سيده ومالكه بأمر القانون فلا ينفعه الفرار إلا أن يفر إلى الموت. . .
ولقد أدى ما كان عليه العبيد إلى ظهور دعوة في الشمال إلى تحريرهم ولكن أصوات الداعين كانت خافتة، كما كان عددهم ضئيلا، إذ كانوا يحسون ما تنطوي عليه دعوتهم من جرأة، وكانوا لا يأمنون أن يأتيهم الموت من كل مكان، فأهل الشمال مع أنهم لم يتمسكوا بالعبيد يخشون أن تؤدي الدعوة إلى تحريرهم إلى القضاء على الاتحاد، وأهل الجنوب كانوا كما علمنا يرون حياتهم في بقاء العبيد. لذلك كان الداعون إلى التحرير عرضة لسخط الجانبين. ولقد حدث أن أصدر أحد الرجال من ذوي النفوس الكبيرة صحيفة تدعى (المحرر) كان يندد فيها بما يلاقي العبيد ويدعو إلى تحريرهم، أيام كان لنكولن في الحادية والعشرين من عمره، فلما اشتدت حملاته هاجمه الناس وحطموا دار الصحيفة وألقوا بأدوات الطباعة في مجرى مائي، ولفوا حبلا حول وسطه وسحبوه في الطرق تنكيلا به وزجراً لغيره
لذلك لم يكن عجباً أن تقدم الشكاوى إلى مجالس المقاطعات الشمالية يومئذ ضد حركة التحرير والداعين إليها خوفاً على الوحدة أن تتصدع. ولقد رأينا لنكولن يقدم احتجاجاً إلى مجلس مقاطعة الينوس هو وصديق له يدعى ستون وفيه يخطو خطوة جريئة فيعلن رأيه في صراحة قائلا إن مسألة العبيد لا تقوم على شيء من العدالة، ولكنه يشير إلى مراعاة القانون في النظر إلى تلك المسألة خوفاً على كيان الاتحاد
وهاهو ذا اليوم يختار عضواً للمؤتمر وهو في السابعة والثلاثين وقد عادت المعضلة تظهر بسبب ما حدث في تكساس ومحاولة ضمها إلى الولايات
(يتبع)
الخفيف
الفصول
للأستاذ عبد الرحمن شكري
طيري أَمَانِيَّ النفوس وغَرِّدي
…
فلقد دعاك الروض خير دعائهِ
هذى عيون للطبيعة قد رنت
…
في الزهر من أكمامه وخِباَئهِ
بَسَطَ الربيعُ على الحياة رِدَاَءه
…
يا ليتها أبداً تُرَى بردائه
بل ليته بُرْدٌ نَخيطُ على هوى
…
هذى النفوس لكي تُرى بروائه
والشي لولا أن يَرُوَع بفقده
…
ما شاق عند قدومه بلقائه
لا كالشتاء تزايلت أوراقه
…
كتزايل المهجور عن قرنائه
تتناثر الأزهار عن أفنانه
…
كتناثر اللذات من أهوائه
وتخال إذ دَلَفَ الشتاء كأنما
…
ساق السنا بِدَبُورِه ورُخائه
هَرَبُ الضياء من السحاب وريحه
…
هَرَب الكَعاَب من الهوى وقضائه
فر الخريف من الشتاء وخلفه
…
عادٍ يريد لحاقه بجرائه
مثل المريض يفر من عادى الردى
…
هيهات ذا والدهر من أعدائه
راع الشتاءُ بقُرِّه فكأنما
…
أنفاس ثغر الموت قُرّ هوائه
والريح مثل فم الشتاء وصوتها
…
شكوى العجوز يخاف من أبنائه
نَقِمَ العُقُوقَ فقام يشكو أمره
…
للناس ينشد آسياً لبكائه
والأرض تنظر في فروج أديمها
…
نظر الفقير إلى ثقوب ردائه
من بعد ما نفدت نفائس كنزه
…
سَرَفاً وشح العيش بعد سخائه
وكأنما دجن الشتاء مُقَطِّباً
…
ذكرى العجوز لزهوه وفَتاَئِهِ
وكأنما دوح الخمائل في الدجا
…
نشوى شياطين انتشت بسقائه
شربت من الإظلام حتى أكثبت
…
تبغي النهوض كَمُكْثِبٍ من دائه
في كل غصن في الظلام نواظر
…
كنواظر للغيب خلف كِفاَئه
وكأنما دوح الظلام ثواكل
…
لبست حداد الثُكلِ فعل نسائه
تحنو عليك غصونها فكأنما
…
تبغي سرار السمع من إصغائه
والدوح يهفو كالمؤَرَّقِ في الكرى
…
يلوي على الأفنان فضل كسائه
تتردد الأرواح في أفنانه
…
كتنفس الرعديد في لأوائه
وكأن في إطراقها وسكونها
…
فِكَرُ المصيخ لروحه وندائه
يا ليت بعض العمر تُقْطَعُ بيْدُهُ
…
وَثْباً ويُمْهِلُ في سنِّى رخائه
كالسِّفْرِ تقرأ بَعْضَهُ مُتَرَيِّثاً
…
جذلاً وتطوي بعضه لهرائه
أوليت حادي الأرض يعكس سيرها
…
عن بعض دورتها بوقع حدائه
أوليت هذا الدهر عقرب ساعة
…
يَلْوِي به عن نحسه وشقائه
آمال أمس كزهرة قد صَوَّحَتْ
…
عود الربيع مُجَدِّدٌ لرجائه
يا نفس لا تأْسَيْ لعمر قد مضى
…
بربيعه زمن أتى بشتائه
تَتَشَوَّفين إلى قديم عهوده
…
نَظَرَ الغريق إلى السُّهَى وسمائه
بُشْرَاكِ خلف الموت لو تردينه
…
نبت الربيع يروق في غلوائه
كالطير بعد الصيف تترك عشها
…
نحو الجنوب ترود أرض ثوائه
عطف النسيم على الأزهر هامساً
…
أَنَّ الربيع سعى إلى ندمائه
أَنَّ الربيع أخا الصبيحة مُقْبلٌ
…
إقبال وجه الحِبِّ في لألائه
كالظئر بَشَّرَت النَّؤُومَ بأَنْ بدا
…
فجرٌ لِعِبدٍ كان قيد رجائه
والقلب مثل الطير في وَضَح الضُّحَى
…
يتلو على الإصباح آي غنائه
وكأنما أُمُّ الخلائق دوحة
…
من قبل آدم فهي من قربائه
تشدو كشدو الأم ناح وليدها
…
تنحو عليه لصونه ووقائه
والريح طير شاد في أفنانها
…
وكرا كأن الزهر من أبنائه
وكأنها أجنحة الملائك نسمها
…
نسم يطب برفقه وصفائه
وكأن ينبوع الحياة غديرها
…
خُلْدُ الصِّباَ في جرعة من مائه
والقلب مثل النهر باشَرَ ماَءهُ
…
جسم الحبيب تراه في سودائه
أَهْوَاك يا روح الربيع فَهَيِّئيِ
…
جسماً كجسم الغيد في لألائه
ثم اخطري بين الخمائل في الضحى
…
رقص المدِلِّ بحسنه وبهائه
فلعل في قبلات ثغرك برء ما
…
أَعْيا الأنام بحُكْمهِ وقضائه
أرد الخلود بقبلة وبضمة
…
تروى ظماء الخلد من لمائه
والزهر يبعث بالطيور إلى الضحى
…
تُفْضي إلى الآفاق من أنبائه
الأَرض أم للخلائق كلهم
…
والشمس بَعلٌ شاقها بفَتاَئه
فالناس والأَطيار في وَضَح الضحى
…
والزهر في الأَكمام من أبنائه
النار والأَمواه من آبائنا
…
والنار والأَمواه من آبائه
يهنيك يا دوح الخميلة بعده
…
نسيان نيسان وطيب هوائه
تنسى الربيع كأَنه ما زفه
…
نغم البلابل في مثير حِدَائه
لا تمنع المشتاةُ عَوْدَ زهورِه
…
وأَريج نسمته وحَلْىِ كسائه
يا ليت طيب العمر يُنْسى وِرْدُهُ
…
فأبيتُ مثلك لا أحن لمائه
لكنَّ طيب العمر ليس بعائد
…
لأخي صَدًى يُظْميه صَوْبُ بكائه
وترى كحالات النفوس تغيرا
…
في روضه وسمائه ونِهائه
فكأنما للكون روح خُلْقُه
…
يبدو لنا في غيمه وضيائه
تتغير الأَشياء فوق وجوهه
…
لتغير الأشجان في حَوْباَئه
من لي بأجنحة الزمان أهيضها
…
كي لا يطير بصفوه ورخائه
أَوْليته الغَرِدُ الحبيسُ أُقيمُهُ
…
كيما أُرَاح لشدوه وغنائه
كي يذكر العهد الأَنيق وأوجهاً
…
كانت تُطِلُّ على وذيلة مائه
خلع الجمال قناعة وسعى إلى
…
عُشَّاقِهِ وعُفاَتِهِ وظِماَئِهِ
والمرء لولاً صيفه وربيعه
…
ما ذاق حُلْمَ السعد في لأوائه
والروض باب للجِناَنِ وثغرة
…
منها ترى الفردوس خلف فنائه
وكأَنما صبغ الأزاهرَ صابغٌ
…
فتكاد تأخذ منه إثر طلائه
والضوءُ غُدْرَانٌ ترقرق تْبرُهاَ
…
وأراق منها الأَفْقُ فَضْلَ إنائه
واللونُ شِعرٌ للطبيعة وقعه
…
في العين وقع اللحن في سودائه
شهد الشتاء بأن أُفْقَ سمائه
…
أدنى إلينا من قَصيِّ فضائه
والنفس تعظم في الربيع كأنها
…
في زهره ونَسِيمه وصفائه
والضوء خمر للنفوس ونشوة
…
ودم الحياة يشام في أثنائه
والأرض كالحسناء قُدَّ قميصُها
…
فبدت محاسن جسمها وَوَضَائِه
فكأنما رفع الربيع حجابها
…
فانجاب ستر الحسن عن حسنائه
والضوء كالحسناء بُزَّ رداؤها
…
فأماط عنها العُرْيُ ستر غطائه
والقلب مثل الطير هِيضَ جناحه
…
في نَزْوِهِ وحنينه وغنائه
والطير أفواه الرياض فشدوها
…
أبداً يزجِّي الدَّهْرَ وَقْعُ حدائه
وكأَنما نغم الحفيف هواتف
…
في القلب تدوي منه في أنحائه
والضوء من خَلَلِ كأَنه
…
طير الفَرَاشِ نراه من شَجْرَائِه
وكأَنه والقلب يذكو شجوه
…
شرر الغرام يطير من حوْباَئه
نَثَرَتْ ذُكاءُ على البسيطة عسجدا
…
فاذخر ليوم الدجن كنز ثرائه
ولكل شيء منطق يشدو به
…
والنفس تعرف كنه سحر غنائه
تتلو عليك الطير طِيْبَ ثماره
…
وَأَرِيجَ روضته ورقة مائة
والحسن ظل السعادة في الورى
…
إن السعادة لا تُرَى بِفِناَئِهِ
ظل الجِناَنِ على البسيطة واقع
…
فاستقبل اللذاتِ من آلائه
فكأَنها كون حلمت بحسنه
…
حتى نُقِلْتَ إلى ذرى خضرائه
وكأَنما زهر الخميلة إن بدا
…
حُلُمُ الهوى في طيبه ووضائه
والطير أرواح الزهور وصيفها
…
عهد الشاب يروق في لألائه
ضحك الزمان فذاع من ضحكاته
…
صيف يعيد الحب في غلوائه
والقيظ يزفر بالهجير كأَنما
…
يتنفس الولهان من بُرَحائه
فكأَنما مرح الحياة وحسنها
…
لهب ترقرق في خَفيِّ دمائه
وكأَنما نغم الطيور أريجها
…
يُسْقاَهُ زهر الروض في أندائه
فَيُحِيلُهُ نشرا يَضُوعُ ورونقا
…
يشتار منه النحل أَرْىَ عطائه
ودت ذواتُ الحسنِ أن حُلِيَّهاَ
…
كحُلِيِّهِ ورداءها كردائه
مَرَحُ الكعاب الرُّودِ في خطراتها
…
كالنهر يرقص في ترقرق مائه
والريح تعبث بالغصون كأَنها
…
طفل يعيث على رءوس إمائه
وترى جذور الدوح مثل أصابع
…
بسط الشحيح يصون كنز ثرائه
وكأنما نغم البلابل مَطْرَةٌ
…
فوق اللجين شجا مُرِنُّ إنائه
تَنْدَى على القلب الجديبِ فينثني
…
روضاً يرفُّ بزهره وأَضائِهِ
والزهر في وَضَح الصبيحة قد صحا
…
صحو المفيق من الكرى وقضائه
وجلت ذُكاءُ ندى الزهور كأَنها
…
أم الوليد تزيل فضل بكائه
حتى إذا أشتد الهجير حسبته
…
نشوان أثمله اللظى بسقائه
وإذا الأَصيل علا السماء حسبته
…
ذا لوعة حانت نوى قربائه
وحمى على قُبَلِ الظلام ثغوره
…
كمعَشَّقٍ مُتَسَتِّرٍ بردائه
وتراه يرنو للنجوم كأَنها
…
حُلُمٌ يُطِلُّ عليه في حَوْبائِهِ
كالطفل يُبْصرُ في الوذيلة وجهه
…
فيخال ذاك الوجه من قرنائه
تحكى النجومُ الزُّهْرُ في دوراتها
…
رقصَ المدِلِّ بعيشه وروائه
والنجم من خَلَلِ الغصون كأَنه
…
ثمرٌ تَدَلَّى من علىِّ سمائه
والحي يحيا كالذي هو ناظر
…
كالأُفْقِ يُرْسَمُ في متون نهائه
والزهر يحلم بالفرادس طرفه
…
حلم الغريب بأهله وفناَئه
حسب الطيور تحاملت عن قلبه
…
وبدت تبوح بشجوه ورجائه
والقلب مرآة الزمان فصيفه
…
في صيفه وشتاؤه كشتائه
والكون مرآة الفؤاد فقبحه
…
وجماله في نحسه ورخائه
والضوء خمر للربيع فلا تَعَفْ
…
جُرَعاً تُنيلُ الخلد من صهبائه
هذى الطيور لسانه وغناؤها
…
مستأنف من شدوه وغنائه
والزهر في حر الهواجر نائم
…
سحرته باللحظات عين ذُكائِه
والأرض تحلم بالجِناَنِ فصيفها
…
حُلُمٌ يزيح القلب عن ضَرَّائِه
بَسَطَ الجمالُ على الفضاء جناحه
…
فالصيف من لألائه وروائه
فكأَنه مَلَكٌ يُحَلِّقُ فوقها
…
فتصيب من آلائه وعطائه
يا ليت أن المرء في أرجائها
…
مُتَفَرِّقٌ في أرضه وسمائه
حتى يصير من الجمال بمنزل
…
في مائه ونسيمه وهوائه
وتظل تسمو النفس في آفاقه
…
كالطير حَلَّقَ في أديم قضائه
عبد الرحمن شكري
القصص
شارلس لام يروي عن شاكسبير
2 -
قصة الشتاء
بقلم الأستاذ دريني خشبة
وهرول بها إلى كوخه ولقي زوجته هاشاً، ثم دفع بالطفلة الميمونة إلى صدرها اللطيف قائلاً:(أرضعيها يا موبسا. . . أرضعي ابنة الملوك الصيد) ونظرت الراعية إلى بارديتا تارة، وإلى طفلها أخرى، وكأنما جزعت أن تشركه هذه الغريبة النازحة في لبنه، فقال الراعي وهو يوشك أن يجن:(أرضعيها يا موبسا فقد حملت إلينا كنزاً وجعلتنا سادة الرعاة!). فانبلجت إشراقة سعيدة في أسارير المرأة، وأبرزت ثديها الكبير الممتلئ باللبن فدست حلمته في فم الطفلة. . .
وخشي الراعي أن يبدو عليه الثراء المفاجئ إذا هو تصرف في شيء من جواهر الطفلة بالبيع أو بغيره، فرحل عن الإقليم كله، ونزح إلى طرف سحيق ناء في أقصى حدود بوهيميا. وهناك تلبث غير قليل ثم باع جزءاً من الكنز الملكي الكريم، وابتاع بما حصل في يديه من ألوف قطعاناً كثيرة. وما هي إلا سنون حتى درت له إخلاف الثروة، ونضر الله الأرض تحت رجليه بالرزق، فعاش عيشه راضية مخفرجة، وعلم بارديتا ونشأها بين الضأن البهم، فشبت في هواء الطبيعة الحر الطليق وفي ميدانها السندسي الواسع، لا صديق لها إلا كلبها الأمين الوفي، ولا حديث إلا الأحلام الخافتة تتردد في فم القمر الصامت، ولا أطماع إلا أن تكبر البهم وتدر ألبانها
وشبت جميلة ناصعة كتمثال المرمر قد صقلته يد فنانة صناع. . . رزينة كأنما أوحي إلى قلبها الصغير الخلي أنه مسرح لمأساة صامتة ومعبد لآلهة وسنانة تجثم فيه لحينها!
وكان لملك بوهيميا أبن مولع بالصيد، يرتاد من أجله المسايل والوديان ومشارف الجبال. فبينا هو يصيد يوماً في ذلك الصقع إذا عيناه تقعان فجأة على بارديتا، وإذا هو يقف مسبوهاً زائغ البصر يعبد الفتاة البارعة الفينانة، ويردد عينيه في عالم جسمها الزاخر بأمواه الجمال. . .
لله لحمها الوردي. وجبينها السني، وفمها الخمري القرمزي وشعرها المغدودن الذهبي، وطرفها الساجي! ولله هذا الخمل الناعم القطيفي الذي سلبته لها الطبيعة من خوخ بوهيميا! لقد ملأت بارديتا قلب فلوريزيل وعينيه، وسرت كالحميا في دمه، فنقلته من دنيا إلى دنيا، ومن ملك إلى ملك، وركبت له قلباً غير قلبه، وإحساساً مرهفاً غير إحساسه؛ وسرت في خياله طيفاً معبوداً جعل الحياة جميلة مثلها، حبيبة لأنها فيها. . .
وهكذا عمر قلب الفتى بحب الفتاة، فبات لا يفكر إلا فيها، ولا يتوجه بأحلامه إلا إليها. . . وأخذ يكثر الصيد في هذه الجهة ويتردد على هيكل غرامه المقدس لينشق عبيره، وينعم بأرج الحب في أكنافه. . . ثم لم يطق أن يظل هذا حاله، فتنكر في ثياب شعبية، وصار يتردد على كوخ الراعي فيحدثه ويسمر إليه، وآنس فيه لطفاً وظرفاً وتأدباً، فمال إليه، واطمأن فؤاده لصحبته. . . وكان فلوريزيل فتى مشرق الشباب حلو الفم، يتحدث فتنجذب إليه الأسماع، ويصمت فتسرح في وجهه العيون
ولقي الفتاة فنمت عيناه المدنفتان بكل ما في قلبه، وجميع ما يتأجج بين أضلاعه ففتحت له قلبها الخلي. . . وهرول هو من عينيها الصافيتين الساحرتين، ومن فمها القرمزي المتمتم، إلى أبعد أغواره. . .
وذكر لها أن أسمه دوريكليز. . .!
وطال غيابه من حضرة أبيه الملك، وتعدد، وأصبح لا يهمه أن يغشى المجالس الملكية، فجمجمت نفس أبيه بأشياء فراح يدبر أن يعرف منها ما حرص أبنه أن يخفيه عليه
وأرسل عيونه في عقبيه، فعرفوا ما بينه وبين برديتا
ودعا الملك إليه صديقه كاميللو، كاميللو المخلص الذي أنقذه من السم في بيت ليونتس ملك صقلية، فكشف له عما في نفسه وذهبا متنكرين في إثر فلوريزيل إلى كوخ الراعي. . . والد برديتا فيما زعم له الزاعمون
وكان عيد الصوف الذي يجزون فيه الأغنام، وكان الكوخ وما حوله في حركة صاخبة ومرح، وكان المدعوون جالسين إلى الموائد الحافلة بالآكال والأشربات والأشواب المعممة بالحبب، وكان الولدان والعذارى والغانيات يرقصون على نغم الناي فوق العشب الأخضر؛ وكان بائع متجول يجلس في ناحية وقد التف حوله فتيان وفتيات يشترون ويشترين، هذا
رباطاً وهذه قفازاً. . . وكان فلوريزيل قد انتحى وبرديتا ناحية، وراحا يتناجيان ويتباثان، غير معنيين بهذا الحفل الراقص، المائد بالأذرع والسيقان، المائس بالقدود والنهود
ودلف الملك نحو الجهة التي أعتزل ابنه الناس فيها، ودلف وراءه كاميللو، ثم جلسا عن كثب، بحيث يسمعان نجواهما
- عجباً يا كاميللو! إن هذا الجمال وهذا السمت كثيران على ابنة راعٍ نشأت بين البهم، وشبت في جنبات المروج!
- ولم يا مولاي؟ أليس الرجل أغنى رعاة بوهيميا؟ إنه ملك القطعان، وأبنته من أجل لك ملكة اللبن والقشدة!
- إن فلوريزبل يجلس بين يديها كالحمل!
- وليس هذا عجيباً أيضاً، لأنها خبيرة بتأديب الذئاب! وتبسم الملك ثم ترك صاحبه وقصد إلى الراعي فسلم عليه ثم قال:
- عمرك الله أيها الأخ! من هذا المدنف المتبول الذي يناجي فتاتك الهيفاء؟
فقال الراعي: (ذاك الفتى! إنهم يدعونه دوريكليز، وكل منهما يهيم بصاحبه كما ترى. . . ولست أدري أيهما اسعد بإلفه من الآخر؛ بيد أنني لا أشك في أنه إذا اختارها لتشركه في حياته فإنه يفوز بشيء عظيم جداً، لأن وراءها كنزاً لا يحلم مثله بمثله!!)
ويمم الملك شطر الحبيبين فقال يخاطب ابنه وهو يمضغ كلماته ويمطها، حتى لا ينكشف أمره:(أنت أيها العاشق الصغير، فيم اعتزالك هذا العيد بما فيه من لهو ومرح وقصف وعزف! ويحك! لقد جاء علي حين من الدهر أحببت فيه كما تحب أنت اليوم. . . وكنت أسجل حبي بالهدايا والتذكارات، فما لك لا تشتري لحبيبتك من البائع المتجول كما يشتري الولدان لعذاراهم؟)
وقال فلوريزيل، وهو لا يدري أنه يخاطب أباه ومولاه:
(تالله يا أبتاه الشيخ لو أطلعت على ما في جوانحنا لا ستقللت الدينا بأسرها هدية لحبيبتي برديتا. وإن هديتي لها هي هنا. . . في هذا المكان الأمين. . . في قلبي)
ثم التفت إلى الفتاة وقال: (أوه يا برديتا! أصغي إلي يا حبيبتي! لقد سأل هذا الرجل الشيخ أن أقدم لك هدية كما كان يفعل إذ هو فتى ذو صبابة وذو هوى! فهأنذا أقدم لك فؤادي بين
يديه وأجعله شاهدي؛ وهأنذا أعلن أمام الملأ أنني أكون أسعد الناس لو رضيني أبوك زوجاً لك، ويسعدني أن يبارك هذا الشيخ عقد حبنا وصحيفة ارتباطنا!. . .).
ولم يطق الملك على تصرف أبنه صبراً، فانتزع دمامه، وكشف عن حقيقته، ثم صرخ بابنه قائلاً: (بل أشهد على صحيفة طلاقكما أيها الشقي! ما شاء الله يا ولي العهد! لم يبق إلا أن تنسى دمك الملكي فتلطخه بدم هذه الراعية! تلك الغجرية التي استهوت فؤادك وسبت لبك! الويل لك يا فلوريزيل! أني أنذركما معاً! حذار أن يرى أحدكما الآخر، وإلا كان الموت جزاءكما تجرعانه يا شقيين! أتسمع أيها الراعي! ذُد أبنتك عن سيدك أو أدفع رقبتك ثمناً لعصيانك.
ثم أمر كاميللو أن يتبعه مصطحباً فلوريزيل، وامتطى هو جواده، وذهب يعدو به، وكأنه شيطان على فوهة بركان!!
وغلى دم الملكي في عروق برديتا، فوقفت تردد عينيها في أثر الملك وتقول: (ويحك! أيهذا الملك! على هينتك، فوالله ما أزعجتني غضبتك، ووالله لقد هممت أن أقول لك كما قلت لي، وإن الشمس التي تشع بأضوائها على قصرك هي هي التي تشع بلألائها على كوخنا هذا الهادئ الصغير! ولكن! وا أسفاه! لقد أيقظتني لهجتك الجافة ذات الصرير من أحلامي السعيدة التي رفعتني حيناً إلى مصاف الملوك! فيا أحلامي. . . وداعاً. . . . ووداعاً أيها الأمير! وداعاً يا مولاي.! اتركني أرجوك!
اتركني لخرافي ونعاجي الحبيبة أرعاها وأحتلبها. .! وأبكي معها فوق المروج الخضر والعشب الحلو!
وانهمرت عبراتها فجأة، فوجم ولي العهد المعذب، ووقف كاميللو ساهماً متأثراً. . . ثم خطر له أن ينقذ الحبيبين، وأن يصل حبلهما المقدس، لأن قضيتهما من قضايا القلوب التي لا سلطان لأحد عليها، والتي لا تقوى على فصمها حتى يد الموت التي هدد بها الملك المغيظ المغضب
وكان كاميللو قد علم بما كان من حزن ملك صقلية وتوبته وحسن أعذاره وجميل إنابته، بعد موت هرميون، وكان الشوق إلى الوطن والحنين إلى الأهل قد برحا به، ففكر لتوه أن يفر بالحبيبين من وجه ملك بوهيميا، إلى رحاب ملك صقلية، حيث تقي شفاعة ليونتس، من
غضب بوليكسينز، وحيث تتيح الفرصة للود القديم فيحيا ويتجدد، وتتهيأ القلوب للمصافاة فتنسى
وعرض عليهما ما بدا له من الفرار فانشرحا له ووافقا عليه؛ ثم كلم الراعي في شأنه ونعمه وقطعانه فتركها في عهدة صديق له وجمع ما خف حمله من مال وما أحتفظ به من جواهر برديتا وثيابها التي وجدها فيها والورقة التي كتب عليها أسمها وشيء من نسبها وحديث مأساتها. . . ثم لاذ الجميع بالفرار
وكانت مجازفة مليئة بالشجن، في طريق محفوفة بالمخاطر
وأستأذن كاميللو على صديقه ملك صقلية، فتلقاه بعينين باكيتين محزونتين، وضمه إلى صدره كأنما كان يعانق أشباح الذكريات الحبيبة، ويضم طيف الماضي العزيز. . .
- مرحباً كاميللو. . . مرحباً بحبيبي المخلص، ومشيري الأمين.
- مولاي!. . .
ثم انحبس منطق الرجل فلم يزد على هذا، وترك لدموعه أن تتكلم!!
ولما هدآ، وسكنت نفسهما، قدم إليه كاميللو ولي العهد بوهيميا، ابن صديقه الأعز، وحبيبه الأوفى، بوليكسينز! فتبسم له الملك، وتلقاه بالأهل وبالسهل، ثم طبع على جبينه قبلة التكفير عما ظن بأبيه من سوء. وقدم فلوريزيل فتاته برديتا قائلاً:(خطيبتي الأميرة برديتا يا مولاي!) وهش لها الملك وبش، ولكن سرعان ما تبددت ابتساماته في جو من الذكرى دهم فؤاده فجأة!
لقد نظر الملك إلى الفتاة الجميلة الرائعة فكأنما وقف في ظهيرة غائمة قاتمة فوق قلة جبل، ينظر إلى أشعة الشمس تغمر سهلاً نائياً كله ورود ورياحين وأزهار!
لقد ذكر ماضياً سعيداً حافلاً بالهناء عند ما رأى برديتا!
لقد رأى في عينيها أحلامه المواضي الرائعات!
لقد أحس بقلبه يثب من صدره إلى حدقته ليرى إلى الأميرة القادمة؟!
وي! ترى! هل من الجنة آبت هرميون!
أليس هذا هو طيفها الحبيب يتمثل له في هذه العذراء المفتان؟
ولحظ الراعي ما بده الملك من برديتا فوجب قلبه، وطفت ذكرياته القديمة فوق بحر لجي
من عباب نفسه، لكنه صمت مع ذلك ولم ينبس
(يتبع)
دريني خشبة
البريد الأدبي
الحركة الفكرية والجامعية في مصر
أصدرت الحكومة المصرية في هذا الشهر كتاباً للدعاية عن مصر باللغة الإنجليزية هو وقد شمل كثيراً من نواحي النشاط الاقتصادي والعلمي والاجتماعي في القطر، وكان مما اشتمله هذا السفر مقالة للدكتور محمد مصطفى زيادة الأستاذ المساعد بكلية الآداب عن النهضة الفكرية في مصر جاء فيه:(كان تأسيس الجامعة المصرية عام 1908 أحد العوامل الفعالة الحيوية في قيام النهضة الذهنية في أرض الفراعنة، أما قبل هذا التاريخ فكانت مدرسة الشيخ محمد عبده الأزهرية (المتوفى سنة 1905) والمدارس العليا التابعة لوزارة المعارف المصرية هما القوى الوحيدة التي شنت حرباً عواناً صالحة على الجمود المردي الذي كان ضارباً بجرانه على البلد؛ بيد أن كلتا القوتين قد عاق تقدمهما طبيعة مجالهما ووجودهما، مثال ذلك أن مدرسة الشيخ عبده كانت تتألف من شرذمة ضئيلة من المصلحين الغيورين الذين حاولوا - متفرقين - القيام بتغييرات شاملة في نواح عدة رغم ما كانت تهددهم به الرجعية والجمود، ومن ثم فانه على الرغم من أن مشكلة التقدم الفكري كانت أقرب الأمور إلى نفوسهم إلا أن اتساع مدى مثلهم العليا لم يسمح لهذه الناحية إلا بالقدر الضئيل من اهتمامهم. أما المدارس العليا التي كانت تابعة لوزارة المعارف فإنها لم تستطيع أن تتزعم الحركة الفكرية، ولا تؤوي إليها النهضة الذهنية في البلد، ومرجع ذلك وجودها بالكيفية التي كانت عليها؛ إذ أن مهمتها كانت تخريج موظفين مدنيين وحكوميين لمصالح الحكومة المختلفة.
ومن الحق أن تضخم عدد طلاب هذه المدارس الذين كانت توفدهم الجامعة إلى أوربا عاماً بعد عام للحصول على درجات وإجازات جامعية قد عاد على مصر بالفائدة المرجوة التي تكافئ المهمة التي أدوها للدولة، إلا أن عدد هؤلاء الجامعيين كان محدوداً على العموم، كما أن التعليم الجامعي في مصر كان (واردات غير منظورة) فكان داعياً لضرورة إيجاد جامعة واحدة على الأقل في مصر. وكان إنشاء الجامعة القديمة بدء ظهور معهد علمي فريد ولم تعقه صعاب المصلحين والمدارس العليا، بل كان له أثره الصالح وفائدته المرجوة في مصر؛ بيد أن الجامعة وجدت عقبة مالية كأداء في سبيلها إذ كانت تقوم على هبات شرعية
سرعان ما اتضح أنها غير كافية؛ ولكن لحسن الحظ أمكن التغلب على هذه الصعوبة عام 1926م حينما أشرفت عليها الحكومة - بإيحاء المرحوم الملك (فؤاد) الذي كان أول راع للجامعة وأول حادب على التعليم - وجعلتها في سلك المنشآت الحكومية ومنذ ذلك الوقت والجامعة تخطو نحو الكمال. كما أن مبانيها الفخمة في الجيزة دليل ملموس على النهوض بالحركة الفكرية
وبفضل رعاية الحكومة لها زادت ماليتها من 10. 000 جنيه في سنة 1925 إلى 278. 786 جنيه مصري عام 1932 كما أن عدد طلابها النظاميين يشير إلى روح التقدم السريع، فلقد كانوا 107 طالب قبل سنة 1925 ثم ما لبث أن بلغوا 2381 في 1932، وكان هذا العدد موزعاً بين كلياتها الأربع إذ ذاك وهي: الآداب، والعلوم، والحقوق، والطب، وإن كليتي الآداب والحقوق لهما من الجامعة القديمة، أما الطب والعلوم فمن آثار الجامعية الجديدة وإن كانتا في أصلهما مدرستين عاليتين
في سنة 1935 ضمت المدارس العليا الأخرى للجامعة، فأصبحت الآن تضم بين جوانبها سبع كليات هي: الآداب، والعلوم، والحقوق، والطب (بما فيها الصيدلة وطب الأسنان وطب البيطري ومدرسة الممرضات)، والهندسة، والزراعة، والتجارة. وبلغت ماليتها 850. 000 جنيه في 1936. وعدد طلابها النظاميين في العام الدراسي الحالي 6781 طالباً.
نظم الامتحانات ورابطة التربية الحديثة
تعقد رابطة التربية الحديثة، برياسة الدكتور أحمد عبد السلام الكرداني بك مدير معهد التربية للبنين، اجتماعاً في الساعة الخامسة من يوم الأربعاء المقبل بمدرسة فاروق الثانوية بالعباسية
ويثير الأعضاء في هذا الاجتماع موضوع الامتحانات في مصر، وقبل المناقشة يتكلم الأستاذ الدمرداش محمد مراقب الامتحانات المساعد في نظم الامتحانات المتبعة في مصر ورأيه الشخصي فيها. ويتكلم كذلك الدكتور عبد العزيز القوصي في موضوع أثر الامتحانات في التربية
وبعد هذا يطرح الموضوع للمناقشة. وهو من الموضوعات القوية الحساسة التي ترتبط بها
النهضة التعليمية في البلاد ارتباطاً وثيقاً.
فان الاعتراضات المختلفة ترد على نظم الامتحان. وكثيراً ما أخفق فيه النوابغ، وجازه المتأخرون الضعاف.
وعند علماء النفس أن نظام الامتحان في بعض صوره جدير أن يربي عند التلاميذ الخوف والجبن والتملق. وهو عند آخرين لا يمكن أن يعتبر مقياساً صحيحاً للتفوق بين الأقران.
ويراه فريق من علماء التربية شراً لا بد منه، بينما يراه آخرون نظاماً تلعب فيه الصدفة دوراً عظيم الأهمية.
محطة إذاعة مصرية بوليسية
تعني محافظة العاصمة باستخدام الوسائل والاختراعات الحديثة التي تعين رجال البوليس على أداء أعمالهم بالقدر الذي تسمح به ميزانيتها
وقد ارتأت الحكمدارية أخيراً أن تستعين بالإذاعة اللاسلكية للبحث عن المجرمين الفارين، وإذاعة التعليمات على رجال البوليس في مختلف المناسبات، فأنشأت محطة خاصة بها في إحدى غرف الدور الأول بالحكمدارية لإذاعة أوامرها على موجة خاصة بجهازات رجال البوليس، وستذاع هذه التعليمات بواسطة (شفرة) خاصة لا يعرفها إلا البوليس.
وأعدت الحكمدارية جهازات التقاط في جميع سيارات البوليس، وفي أقسامه المختلفة، لالتقاط ما تذيعه المحطة
وقد جهزت الحكمدارية غرفة الإذاعة بثلاث آلات للتليفون، لتلقي الأخبار المراد إذاعتها من أقسام البوليس. في أنحاء القاهرة كما جهزتها بآلة للتلغراف لتلقي الأخبار من الأقاليم
وقد أقتبس هذا النظام من بعض دوائر البوليس في أوربا، والمنتظر تعميمه في إدارات البوليس في بعض المدن الأخرى.
مؤتمر المستشرقين في دورته العشرين
تلقت الحكومة المصرية دعوة للاشتراك في الدورة القادمة لمؤتمر العلماء المستشرقين الدولي وهي الدورة العشرون المزمع عقدها في مدينة بروكسل في الفترة القائمة بين 5و 10 من سبتمبر القادم
كتاب عن قناة السويس
قالت جريدة (الديلي ميل) في عددها الصادر في 4 أبريل إن وزارة الخارجية منعت نشر بعض فقرات جوهرية من كتاب: (رواية قناة السويس) الذي يتضمن تاريخ الدسيسة السياسية الدولية التي أدت إلى حفر القناة والإشراف عليها، ثم قالت إن هذا المنع قد يؤدي إلى عدم طبع الكتاب
وقد توفي السر جون دافيز أحد مؤلفي هذا الكتاب، وعلى ذلك سيكون رفيقه المستر جرينول والناشرون أصحاب الحق في تقرير نشر الكتاب، ولما كان السر جون دافيز سكرتيراً خاصاً للمستر لويد جورج في أثناء توليه رياسة الوزراء فقد رأى قبيل وفاته أن يعرض الكتاب على وزارة الخارجية لتوافق عليه
وقد قال أحد موظفي الوزارة: (لقد درسنا الكتاب بعناية وهو يتعلق بمسألة معقدة جداً لها تأثير كبير في السياسة الدولية فرؤى أن هناك بعض فقرات في الكتاب غير مرغوب فيها لأنها من قلم رجل كان يشغل فيما مضى منصباً رفيعاً في الحكومة بحيث يحتمل أن يعتقد العالم أن هذه الآراء تعبر عن آراء الحكومة، ونحن نعرف أن السر جون دافيز كان قبل وفاته لا يعرف هل يسحب كتابه جملة أو يعدل الفقرات التي يعترض عليها).
وقد علمت جريدة (الديلي ميل) أن جزءاً من الكتاب يتعلق بمستقبل القنال عندما ينتهي أجل الامتياز بعد ثلاثين سنة.
رسالة مصري في باريس
سيدي صاحب (الرسالة):
بعث إليّ شيخي وصديقي الأستاذ (لويس ماسينيون) بالجزء الأخير من المجلة النفيسة التي يخرجها في باريس (مجلة الدراسات الإسلامية)1937. -
وموضوع هذا الجزء رسالة مسهبة في العشائر الخاصة بالجنازات في مصر لهذا العهد. وأما صاحب الرسالة فشاب مصري يدعى م. (؟) جلال، وهو ممن يأخذ العلم في باريس عن الأستاذ لويس ماسينيون ثم الأستاذ موس (مدرس علم الاجتماع في الكوليج دي فرانس)
والرسالة تعرض (الطقوس) الخاصة بأحوال المرض والاحتضار فضلاً عن أحوال الموت والجنازة. ثم تبين الإضافات التي بين تلك (الطقوس) والشؤون الاجتماعية والدينية والأخلاقية
ثم تبسط ألوان الشعور وضروب العقائد التي ترجع إليها تلك الشؤون. وللرسالة ذيلان: مضمون الأول طائفة من المراثي القومية التي تغنيها النائحات (العدادات)، ومضمون الثاني مجموعة من الصور الشمسية تبرز للعين مثل مائدة الغسل، والصلاة في المسجد، وموكب المشيعين (والعدادة) والدفن وإطعام الفقراء، إلى غير ذلك مما له علاقة بشؤون الموتى
وقد فرحت بقراءة هذه الرسالة فرحاً شديداً، ذلك بأنها مؤلفة على طريقة استقام عمودها، وهي طريقة البحث عن أحوال الشعب وتصوراته؛ وهذا النوع من التأليف العلمي له مكانة رفيعة في جامعات الفرنجة على حين ليس له في جامعتنا قليل من الحظ، حتى أن ما يتصل بشؤون الشعب المصري من أعمال ووجدانيات ومعتقدات إنما ينتهي إلينا على أقلام نفر من الباحثين الغربيين
فلا يحسن بنا اليوم أن نغفل رسالة الأستاذ م. جلال، إذا انصرف إلى إثبات ناحية من خصائص الشعب المصري ربما لا يتاح لها أن تبقى على حالها. ثم إنه يحق لنا أن نذكر للأستاذ ماسينيون عنايته بنشر الرسالة ورعايته لهمة المؤلف. . . وأسلم سيدي الأستاذ لمن يخلص لك الود
بشر فارس
حول المؤتمر العام للأدب العربي في تونس
في العدد 234 من الرسالة نشرنا خبراً تلقيناه من تونس بأن السيد محمد الفاضل بن عاشور يسعى لعقد مؤتمر عام للأدب العربي لتوحيد طرق الثقافة ودراسة الآداب العربية في جميع أقطار العروبة الخ. وقد كتب إلينا الشيخ محمد الشاذلي السنوسي يقول إنه هو صاحب الفكرة ومقترحها ويؤيد قوله بنشرات المؤتمر وأقوال الجرائد. وسواء أكان المقترح هذا أم ذاك فإن موضوع الفخر هو في تنفيذ الاقتراح وإنجاح الفكرة. إن الآراء
كثيرة والأحلام أكثر، والعبرة بالعمل لا بالقول، وبخاتمة السعي لا بالشروع فيه. ونحن نتمنى لهذا المشروع الخطير النجاح على أي يد وبأي صورة
الاحتفال بتوزيع جوائز مختار
كانت جمعية أصدقاء مختار نظمت مسابقة لهذا العام موضعها (جحا وحماره) فتبارى فيها كثير من الفنانين المصريين وفاز بعضهم بالجوائز المرتبة والتي تبرع بها هذا العام حضرة النائب المحترم محمد شعراوي
وقد دعت الجمعية نخبة من رجال الأدب والفن مصريين وأجانب لحضور الحفلة التي أقيمت لتوزيع الجوائز على الفائزين وبعد أن ألقيت الكلمات المناسبة في موضوع المسابقة بدئ في تقديم الجوائز للفنانين وتولت ذلك حضرة صاحبة العصمة السيدة الجليلة هدى هانم شعراوي وألقت كلمة طيبة
ثم ألقى الأستاذ علي الديب كلمة الفن في موضوع (جحا وحمارة) ومما قاله:
(موضوع جائزة مختارة هذه السنة (جحا وحماره) موضوع وفقت في اختياره جماعة أصدقاء مختار كل التوفيق. إن شخصية جحا إثبات لناحية الخيال الفذ، وإظهار لما فيها من سعة في التصوير وقوة في التخيل ومبالغة في التعبير وظرف في الأداء، ولا أشك في أن الاتصال على تنفيذ هذه الفكرة وتبادلها - بالبحث والتصوير والتخيل بين شبابنا الفني في هذه السنة، والذي كان مرجعه إلى ما فيها من طرافة ومجون - هما أقرب ما يكون إلى طبيعة المزاج المصري - سوف يحدو جماعة أصدقاء مختار إلى التوفيق دائماً في اختيار موضوعات تعبر عن صور من الحياة والتفكير المحلي. وشخصية جحا شخصية محبوبة في مصر معروفة عن طريق كتاب يسمى (نوادر جحا) ويقال إن أسم جحا الحقيقي هو نصر الدين خوجه أحد شيوخ الترك الذين عاشوا في أوائل القرن الثامن الهجري. وكان مشهوراً بالدعابة والتظرف
ويغلبون رواية أخرى، وهو ما أعتقده شخصياً. . . إن جحا شخصيته خيالية من اختراع الشيخ نصر الدين خوجه. وكان نصر الدين هذا شيخاً عالماً وكان يشتغل بالتدريس - وكانت النكتة ألزم له من طعامه وشرابه. وفي يوم من الأيام استقر رأيه على أن يقوم برحلة تعليمية بين أهل القرى والأرياف يلقنهم فيها دروساً في التهذيب، وقد وجد أن أحسن
الطرق التي يصل بها إلى نفوس العامة بالمعاني والحكم هي أن يضمنها قصصاً ونوادر فكاهية تحمل المغزى أو المعنى الذي يريد الوصول به إلى أذهانهم فاخترع الشخصية الخيالية (جحا) وجعله بطل قصصه)
السير جرافتون اليوت سمث
لأول مرة يؤلف كتاب بالإنجليزية عن العلامة صديق المصريين أليوت سمث الذي قضى أحسن شطر من حياته الطويلة العامرة يؤكد لعلماء الانترويولوجيه (تاريخ الإنسان الطبيعي) أن الحضارة الإنسانية نشأت أول ما نشأت على ضفاف النيل وبأيدي المصريين، معارضاً في ذلك الأستاذ ليوناردولي مكتشف آثار أور الذي يقول بأن العراق هو منشأ هذه الحضارة. والأستاذ السير جون مارشال الذي يقول إنها إنما نشأت في السند وفي مقاطعة بنجاب. وقد أشترك في ترجمة حياة الأستاذ إليوت سمث طائفة كبيرة من زملائه العملاء الذين ما يزالون يتمتعون بحياة مليئة حافلة. وذكروا أنه ولد سنة 1871 بمدينة جرافتون باستراليا، ومنها كان أسمه. وكان أبوه من المهاجرين الذين ضاق بهم سبيل العيش في إنجلترا فرحلوا إلى استراليا. وما زال دائباً حتى صار ناظر مدرسة جرافتون، ثم ناظر مدرسة سدني. وقد التحق إليوت سميث بمدرسة سدني الطبية فأبدى ميلا خاصاً إلى التشريح وانصلت أسبابه بأسباب أستاذ هذا الفن في المدرسة البروفيسيرج. ت. ولسن الذي أتخذه مساعداً له حتى نال الدكتوراه في التشريح. وفي الخامسة والعشرين وضع الأستاذ إليوت رسالة صغيرة عن (المخ) فأحدثت ثورة في عالم الطب، وكانت نواة لمعلوماتنا عن التلافيف والمادة السنجابية. ثم رحل إلى إنجلترا في سنة 1896 وقد سبقه إليها أسمه فصار يتردد بين جامعتي أكسفورد وكمبردج لمجرد البحث العلمي. وظل دائباً على بحوثه ثلاثة أعوام حظي بعدها بشرف الزمالة في جامعة سنت جونس وذلك لما حاز من إعجاب الأستاذ ماكالستر رئيس مصلحة التشريح الإنجليزية الذي أختاره لتدريس علم التشريح بمدرسة الطب المصرية سنة 1900. وقد ابتدأت شهرته كعالم عالمي مصرولوجي منذ ذلك التاريخ فقد أكب على الموميات وجماجم المتحف المصري يشرحها ويستنتج من تراكيبها عجائب الحضارة المصرية، وكان البرق يطير بحوثه إلى جميع أنحاء العالم فينتفع بها العلماء ويجري وراءها صيت مصر وينتشر أسمها في الآفاق - ثم هال الإنجليز ألا
ينتفعوا بعالمهم العبقري فاستدعوه لكرسي الأستاذية في جامعة منشستر ثم لرياسة فرع التشريح بجامعة لندن حتى وافاه أجله سنة 1937
الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق بباريس
أخذ يلقي دروسه في مدرسة الحقوق بباريس الأستاذ لطفي الدكتور في الحقوق وفي الطب، والعضو المراسل للجنة الاشتراع الأجنبي والحق الدولي في وزارة الحقانية الفرنسية، وقد كان الدكتور لطفي قنصلاً عاماً لتركيا في باريس قبلا
وسيبحث في هذه الدروس أهمية الفقه الإسلامي وتأثيره في حضارة شعوب الشرق والبلدان الممتدة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، واشتراع تلك الشعوب. وسيبحث أيضاً التحول الحالي في الإسلام والبلدان المنفصلة عن السلطنة العثمانية
ويقسم الدكتور لطفي بلدان الشرق إلى ثلاثة أقسام، من الوجهة القانونية، وفقاً لمزاولتها العمل بالتدقيق بمقتضى الشرع الإسلامي، كالحجاز وشرق الأردن واليمن الخ، أو بمزاولتها الشرع المختلط على ما هو جار في مصر وسورية وفلسطين، أو بمزاولة الشرع الغربي كتركيا وألبانيا
ومما لا شك فيه أن هذه الدروس ستلقى إقبالاً عظيماً وستمكن الطلبة الفرنسيين من التعمق في معرفة البلدان الشرقية
وفاة الأستاذ محمد لبيب البتانوني
فقدت مصر في الأسبوع المنصرم عالماً من خيرة علمائها ومؤلفاً بحاثة من كبار المؤلفين فيها وهو المغفور له الأستاذ محمد لبيب البتانوني بك
ولقد عرف عن الفقيد خلال حياته الحافلة بجلائل الأعمال شغفه بالعلم والأدب وتوفره على البحوث التاريخية التي كانت تزدان بها صور الصحف والمجلات لأكثر من ثلاثين سنة خلت. ذلك إلى ما ألفه من كتب الرحلات التي دل فيها على طول باعه في الأدب وسعة علمه بالتاريخ وقدرته على وصف عادات الأمم وطبائعها
كتاب للتلاميذ الإنجليز عن نهر النيل
الإنجليز هم أبرع الأمم في ابتكار الأساليب الفعالة في تربية أبنائهم. والتلميذ الإنجليزي لا
يعيش في إنجلترا فقط، بل هو يعيش بخياله في العالم أجمع، وهذا الخيال المغناطيسي هو من صنع الأساتذة البارعين الذين يتخذون من خيال الصغير طريقاً إلى عقله. والكتاب الذي يصدر للصغار في إنجلترا عن النيل ليس كهذه الكتب الجافة المتحجرة التي تصرف للتلاميذ المصريين بل هو أشبه شيء بمجلة راقية تفنن في تنسيقها المصور والرسام والجغرافي والمؤرخ ورجل التربية ورجل المطبعة فجاء آية في الابتكار وسلامة الذوق. . . فهذا هو النيل في عهده الفراعنة، وهذى هي الأهرام والبرابي والمعابد والمسلات والعواصم المصرية القديمة. . ثم هذا هو النيل في عصر البطالسة وفي العصر الروماني وفي العصر العربي. . . ثم ذاك هو النيل في عصر محمد علي وإسماعيل وفي العصر الحديث، وهذه هي خزاناته وسدوده والمدن القارة على حفافيه. . . الخ وذلك كله على لوحات تبلغ إحداها ستة أقدام طولاً مزدانة بالألوان الطبيعية الجميلة الزاهية التي تنطبع بمجرد النظرة في خيال الصغير فلا يحتاج إلى قراءات طويلة مملة
وتصدر في مصر مجلة للتلاميذ لا بأس بها إذا عنيت قليلا بما هو مصري وقللت من هذا السخف الذي تدأب في ترجمته عن الكتب الأوربية المقررة وغير المقررة. فهل فكر القائمون عليها - وهم من خيرة رجال التربية المصريين - في إصدار أعداد ممتازة بالألوان على نسق كتاب النيل الذي سيصدر في إنجلترا للأطفال الإنجليز؟ عندنا الزراعة المصرية والصناعة المصرية وطرق المواصلات والموانئ والحدائق المصرية الناشئة ودور الكتب ومصر القديمة. . . الخ. فماذا يمنع رجال المجلة من تخصيص أعداد ممتازة تتناول هذه الموضوعات!!
لقب شيانج كاي شك وأعماله
أشتهر هذا العصر بطائفة من الزعماء كان لهم أثر بعيد المدى في توجيه شعوبهم توجيهاً سيذكره التاريخ بما يستحقه من فخر ومجد. . . والذي يلفت النظر أن كلا من أولئك الزعماء أشتهر بلقب عرفه به العالم أجمع. فهتلر هو الفوهرر، وموسوليني هو الدوتشي، ومصطفى كمال هو الأتاتورك، وغاندي هو المهاتما، وكان يطلق لقب النمر على كليمنصو. . . أما القائد الصيني شيانج كاي شك فلقبه جنرالسيمو أو القائد العام. وتاريخ حياة شيانج هو قصة البطولة التي يفخر بها كل شرقي والتي ينبغي أن تكون مثالاً لكل من
ينشد المجد لبلاده. وقد طلب إليه مرة أن يلخص هذا التاريخ فذكر أنه ولد في شيكيانج وأنه تربى تربيته العسكرية في اليابان وأنه تتلمذ للدكتور صن - يات - سن - ثم سكت!! وقد أشترك في الثورة على الإمبراطورية وبناء الجمهورية، فلما مات بعد الدكتور صن يات سن أصبح هو زعيم الصين وجامع كلمتها بعد انتصاره حربياً على خصومه. ويعرف جيشه باسم (هوامبو) وهو أقوى فرق الصين وأكثرها نظاماً. ولو كانت الجيوش الصينية على نظام الهوامبو لما استطاعت اليابان اجتياح منشوريا ولا إذلال الصين. وقد تعلق الصينيون بشيانج تعلقاً عجيباً أظهره في أعين العالم بمظهر الدكتاتور مع أنه أشد الناس مقتاً للاستبداد، ومقته للاستبداد هو الذي أخجل القائد سيوليانغ فأطلق سراحه بعد أن أعتقله ومضى هو فسلم نفسه له بعد ذلك
ولا تنقص الهزائم المتوالية في ميدان الصين من قدر شيانج، لأن الجيش الصيني كما وصفه أحد قواده لحم ودم أمام قوى ميكانيكية فتاكة
هذا وقد صدر بالإنجليزية كتاب قيم عن تاريخ حياة هذا البطل لمؤلفه العلامة الأستاذ هولنجتن. ك. تونج
الشنتو
ما كادت صيحة النوردبين تهدأ في ألمانيا بعد طرد اليهود منها حتى ارتفعت في اليابان صيحة تشبهها في النعرة والتغني بالمحتد وتأليه الأرومة والتبرؤ من الانتساب إلى الصينيين في العنصر، والادعاء بأنهم (أي اليابانيين) سلالة مستقلة لا عن الصين فقط بل عن جميع البشر، لأنها منحدرة مباشرة من الآلهة. . .! وهذه دعوى عريضة جديدة، كان الناس يضحكون من قدماء المصريين واليونانيين حين ادعوها. . وقد اتسعت آفاق الشنتويزم فشملت ديانة اليابانيين ووطنيتهم وفدائيتهم ومذاهبهم السياسية والاجتماعية، وتغلغلت في جميع مرافقهم الحيوية. . من عنابر المصانع. . . إلى رمال الصحراء التي يقرءون في صفحتها الغيب. . . ومهما حاول اليابانيون التبرؤ من منشئهم فالثابت هو أنهم مزيج من المغول والآينو وأقوام البحار الجنوبية. كما أن الألمان ليسوا من سلالة نوردية خالصة، وكما أن اليهود ليسوا شعب الله المختار
الكتب
مفرق الطريق
مسرحية في فصل واحد للدكتور بشر فارس
نقد بقلم الأستاذ زكي طليمات
مفتش شئون التمثيل بوزارة المعارف
أصدر الشاعر الأديب الدكتور بشر فارس كتابه (مفرق الطريق) وهي مسرحية طريفة قدم لها بتوطئة بليغة في المذهب الرمزي
ويقيني أن المؤلف، وقد أحس غموض المنهج الذي أنتهجه في كتابة مسرحيته، كما عرف جدته على الناطقين بالضاد، لم يأل جهداً في الشرح والتبيين مفصحاً عن ماهية (الرمزية) في عالم الأدب وفي عالم الفن، كاشفاً عنها سجف الغموض والإبهام، وغايته من ذلك تيسير الفهم على القارئ إذا ما طالعه الإبهام وحيرة انقلاب المعاني، وقد طاح به الشغف بين سطور الرواية، فجاءت التوطئة بحثاً شائقاً فريداً في بابه باللسان العربي، خصباً في معارفه، محكماً في تعابيره، بليغاً في الدعاية لهذا المذهب الأدبي الطريف
ونبادر بتسجيل ما وضعه المؤلف في توطئة كتابه وصفاً للرمزية بأنها (استنباط ما وراء الحس من المحسوس، وإبراز المضمر وتدوين اللوامع والبواده بإهمال العالم الحقيقي الذي نضطرب فيه، تدهشنا ظواهره وتردعنا بواطنه وتعجزنا مبادئه). إذ أن في هذا الوصف ما يكشف للقارئ عن الكثير مما يتضمنه هذا المقال. وبالقياس إلى هذا الوصف أو التعريف نصدر رأياً في المسرحية ومكانها من الرمزية في هذا المقال، على أن نعالج مذهب الرمزية في بحث آخر موعدنا به العدد القادم:
الحادثة في هذه الرواية ضئيلة ليس فيها شيء من المشوقات أو المفاجآت، ولو وجدت لما أعرناها كبير انتباه، ولما جعلنا منها قياساً للحكم على طرافة الرواية، إذ الحادثة في هذا النوع من الروايات وسيلة لا غاية نأتي بملخصها في سطور عابرة:
(سميرة) تتحدث مع (الأبله) الذي يومئ ولا يجيب، ثم يأتي (هو) شاب ظريف فيتبادل مع (سميرة) الحديث، حديث الماضي والحاضر، وترتفع أصوات ناي من مكان لا يرى، فهي
تارة نائحة وأخرى شجية ليسدل الستار بعد ذلك وقد غابت سميرة في طريق، وأنحدر (الأبله) و (هو) في طريق آخر!
أما إطار الرواية، فقد أتى المؤلف على وصفه في البيتين إذ قال:
(في مفرق الطريق أي حيث ينفرج يميناً مناراً وصاعداً، ويساراً مظلماً ومنحدراً، يلتقي العقل والشعور فيتجاذبان المرء، ولكل منهما خطة من القوة والغلبة، وأما الجانب المظلم فحيث يقهر الشعور العقل فينحدر المرء وقد عمى رشده إلى غاية تحترق عندها النفس، أما الجانب المنار فحيث يصرع العقل الشعور فيسلك المرء في صعود مثلوجة يحيا عندها بنجوة من الاحتراق)
وهو وصف معبر للمعالم المعنوية التي تجري فيها حادثة الرواية وهي معالم أقامها الرمز عن طريق الإضاءة في صعود الحظ أو هبوطه؛ وبهذا برز للرمزية في الرواية طابع مرئي من حيث المبنى، وهو سبيل التعبير في الرواية عن المعنى
وما كان للمؤلف، لولا حرصه على تيسير الفهم على القارئ للرواية، أن يورد بعد ذلك في تبيينه أوصاف شخصيات الرواية، إذ أن في حوارها المقتضب والمضطرب، والذي يشير ولا يبين، ما يكفي للإبانة عن أنها شخصيات تتحرك وتتكلم في إشراق روحاني وبإيماء من العقل الباطن، وتبدر منها اللوامع النفسية متجردة من السجف والأقنعة
(سميرة) المحور الأساسي في الرواية، هي الرمز الحي للإنسان الذي ينتهبه الماضي بحلاوته والماضي بمرارته، وفيها يتجلى الصراع الذي لا ينقطع عن القيام بين العقل والعاطفة، وهو صراع لم يكتب لأحدنا أن يكون في منجاة منه، وإنما تختلف مواقفنا منه باختلاف انفعالات وملابسات الأحوال.
أما باعث الخامد ومثير الماضي فهو الشخصية التي أطلق عليها المؤلف أسم (هو)، فمنه ينطلق التيار فتختلج (سميرة) مترنحة بين العقل والعاطفة، وبقطب (الأبله) وجهه وقد ساورته المخاوف
وما (الأبله)، وهو الشخصية الثالثة في الرواية إلا رمز لمسكة العقل التي نجدها بعد أن يعيينا الضرب في مفاوز العاطفة الضالة فنتعلق بها لنستريح ونريح
وتهب أنفاس المؤلف على هذه الشخصيات نافحة فيها حياة غزيرة متدفقة فإذا بها تتحرك
في رمز وتتكلم في رمز وسط الإطار الذي ابتدعه المؤلف في حذق، فجاء الإطار والعقل رمزاً للنور والطريق الصاعدة، والعاطفة رمزاً للظلمة والطريق المنحدرة. وهكذا يبدو الرمز كاملاً من حيث المبنى والمعنى. وتستقر الرواية بذلك في صميم الرمزية، وقد تسامت على الرمزية السطحية المقصورة على الرمز بشيء إلى شيء آخر دون إظهار المبهم والمغلق من خلجات النفس ولوامعها
وأسلوب (مفرق الطريق) فصيح وبليغ، بل إنه لمتطلع إلى الشأو البعيد، الذي قد يراه بعض القراء تفاصحاً. وربما يؤاخذ هذا الأسلوب من جانبهم بأنه أسلوب مكبوت النغم مقبوض الإيقاع إذا قورن بالأسلوب الذي كتب به شعراء الرمزية، إلا أن واجب الإنصاف يقضي بأن نشير إلى أن الشعر شيء والنثر في مسرحية كهذه شيء آخر. هذا مع العلم بأن الشاعرية كامنة في تضاعيف حوار هذه المسرحية
وبشر فارس كتب مسرحيته هذه متثبتاً من صيغ الرمزية وفقيها في ضروبها. . . ولا أدري، لو طالت مشاهد هذه الرواية أكان النفس يواتيه بمثل ما واتاه الآن. فلا تلمح العين طغيان الصناعة الحاذقة على الإلهام المحض الذي يورد الشيء وهو لا يدري أسبابه وبواعثه!!
وجملة القول أن (مفرق الطريق) حدث جديد في تأليف المسرحية المصرية، جدير بالعناية من الكتاب ومن رجال المسرح، وحري بالثناء وكل ما أرجوه أن تطالع هذه المسرحية النور يوماً على المسرح، وأن تجد المخرج المسرحي الذي يحسن فهمها ليحسن تفهيمها للجمهور.
زكي طليمات
المسرح والسينما
حظ العلماء والأدباء في السينما
اشتهرت السينما في بادئ الأمر بوصف أنها وسيلة للتسلية حظ الجماهير منها أكبر من حظ الخاصة والمثقفين. فكانت أكثر الأفلام رواجاً وازدياداً تلك التي تدور حول حياة رعاة الأبقار والأفلام البهلوانية والأفلام المسلسلة ذوات الموضوعات الغثة التافهة. فلما ارتقت الصناعة ارتقت معها الأفكار ولكن هذا التطور كان يسير تدرجاً وغايته الأولى وهي توفير (المتعة) مع الارتقاء إلى أفق أوسع.
وقد بدأ أولاً حظ الملوك ذوي العروش والتيجان والقصور، ففي هذا الوسط متعة وبهرج وجاه يلذ الأعين ويخطف الأبصار. ومن الملوك الذين أخرجت حياتهم وأعمالهم على الشاشة قيصر روسيا، وهنري الثامن، وكاترين الروسية، وكليوباترا، وفكتوريا رجينا، وماري الاسكتلندية، وكرستينا السويدية. ومن هؤلاء من أخرج عدة مرات في أفلام مختلفة في عهدي السينما الصامتة والناطقة
وبجانب أفلام أصحاب التيجان تلتقي أفلام الساسة والقادة فهؤلاء يثيرون الحروب ويتحكمون في مصائر الشعوب ويغيرون معالم الأمم، ولكل واحد منهم ناحية خاصة تثير في المرء الشعور وتدفعه إلى الاستطلاع، ومن القادة الذين أخرجت حياتهم على الشاشة نابليون، ونلسن، وغاريبالدي، ولافابيت، وبانشوفيلا المكسيكي. ومن الساسة دزرائيلي، وريشيليو، وبارنل الايرلندي ومترنيخ النمسوي، وبسمارك، وأندرو جاكسون الأمريكي، ولنكولن
وقطعت السينما خطوة أخرى فشملت حياة الفنانين وسيرهم وهذه لا تخلو كذلك من المآسي والغراميات والمؤثرات التي يطرب لها الجمهور. ومن هؤلاء الفنانين الذين شاهدنا عنهم أفلاماً: موزار، وشوبيرت، ورجراند المصور، وفاجنر، وستراوس، ودافيد جارك الممثل. وهناك مشروعات أخرى لا خراج حياة بتهوفن، وليزت، ونيجفسكي، وساره برنار
وكان العلماء والأدباء حتى هذه المرحلة أقل هؤلاء الناس حظاً من حيث الاهتمام بأشخاصهم في عالم السينما وإن كانت أعمالهم هي المادة التي تفخر وتحيا بها السينما؛ ويرجع عزوف رجال السينما عن إخراج سير العلماء والأدباء إلى أن حياتهم في الغالب
حياة جافة تخلو من النعومة ومن النساء ومن الحوادث التي تثير في الناس غرائز الاستمتاع والبهجة؛ ولكن السينما كما قلنا في تدرج وفي اطراد، فلا بد لها أن تبلغ هذا الأمر فتظهره في الثوب الحقيقي به وتبرز النواحي الإنسانية فيه فتعوض بها النواحي السفلى التي تثيرها حادثة غرام أو معركة أو حريق
وقد نجحت المحاولة ووفق أصحابها فرأينا على الشاشة أول ما رأينا فولتير ثم باستير وزولا يلهبون الأكف تصفيقاً ويملئون السمع والقلب والبصر حكمة وموعظة وفخراً
ومن المشروعات التي تشغل الأذهان الآن في عالم السينما إخراج فلمين عن تولستوي وألفريد نوبل العالم الكيميائي مخترع الديناميت وصاحب الجوائز التي باسمه لخدمة العلم والأدب والسلم
ولكن الخطوة الأكثر تقدماً نحو الرقي هي الاشتغال بإعداد فلم عن مذهب العلامة سيجموند فرويد في التحليل النفسي؛ وصاحب الفكرة هو الممثل الألماني كونراد فاليت الذي يعتمد في إخراج هذا الفلم على المخرج الكبير الكسندر كوردا صاحب شركة أفلام لندن
وهكذا تتطور السينما من حسن إلى أحسن فتتوطد مكانتها كوسيلة ثقافية فضلاً عن وظيفتها كوسيلة استمتاع
محمد علي ناصف
جماعة أنصار التمثيل والسينما
في السابع عشر من هذا الشهر تحتفل جماعة أنصار التمثيل والسينما بيوبيلها الفضي في حفلة تقام بدار الأوبرا الملكية تفضل برعايتها حضرة صاحب الجلالة الملك ووعد بتشريفها وقيام جماعة أنصار السينما من الأسباب الحقيقية التي تحمل الإنسان على الاعتقاد بوجود مسرح مصري، لجدها المتواصل وعملها المنتج؛ وقد أخرجت عدة روايات ناجحة ما تزال تمثل للآن على مختلف المسارح. وعلى الرغم من كونها جماعة هواة فقد أفاد المسرح على يديها ما لم يفده من أكثر المحترفين جماعات وأفراداً. وكثير من الفنانين الذين تعتمد عليهم مسارحنا قد بدءوا طريقهم بين هذه الجماعة
ونصيب السينما من عملها لا يقل عن نصيب المسرح فقد أخرج على أيدي أعضائها عدة
أفلام من أنجح أفلامنا المصرية وقد بدأ حماسها يشتد ونشاطها يزداد أخيرا لما تشرفت به من الرعاية الملكية السامية في أكثر من مناسبة، تلك الرعاية التي تشمل الآن العلوم والفنون وتبشر لها بعهد زاهر سعيد في العصر الفاروقي المجيد
والرسالة تتقدم بهذه المناسبة بالتهنئة إلى جماعة أنصار التمثيل والسينما راجية لها اطراد التقدم والنجاح