الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 250
- بتاريخ: 18 - 04 - 1938
شركة تنشيف الريق!.
للأستاذ عبد العزيز البشري
أكثرت الصحف في هذه الأيام من مقابلات لحضرة صاحب المعالي وزير الأشغال، خاصة بتخفيض ثمن المياه في القاهرة، كما تردد خبر اجتماعات اللجنة المؤلفة لهذا الغرض من قديم الزمان، وسالف العصر والأوان!. ولقد زعم لي زاعم من المؤرخين أصحاب الإحصاء أن اجتماعها الأخير كان الاجتماع الـ 411، 032، 624، 853، 471!.
فترى هل آن أن ينجح المسعى، وتحط الشركة من أثمان الماء، فقد مضى على سكان القاهرة ستون عاماً، وستون عاماً غير قليل، وهم يغصون بماء النيل. وكأن الشاعر كان ينظر بلحظ الغيب إلى القاهريّين وما يعانون من شركة المياه حين قال:
نفرّ إلى الشراب إذا غصصنا
…
فيكف إذا غصصنا بالشراب؟
ترى هل ينجح السعي هذه المرة ويحق لساكن القاهرة أن يتمثل بقول الشاعر:
فساغ لي الشراب وكنت قبلاً
…
أكاد أغص بالماء الفرات؟
يا قومنا: أقسم لكم بالله تعالى، غير حانث ولا آثم، أن الشركة ليست تأتينا بالماء من افيان، ولا من إكس ليبان، ولا من فيشي ولا من بلاد اليابان حتى يُلتمس لها العذر، بنفقات النقل في البر والبحر، وأجور الحزم واللف والتعبئة والصف، والتأمين خوف الغرق والحريق، وما عسى أن يدركه من العطب في أثناء الطريق. وناهيكم بحساب ما قد يكسد في الأسواق منه، وما قد يبور في المتاجر بانصراف (الهواة) عنه. ومن يدري فلربما ظهرت (ماركة) ماء جديدة. (موديل سنة 1938 أو 1939)، فيها من المزايا ما ليس في هذا الماء، في ريّ العطاش وبلّ صدى الظِّماء!
ليست تجيء بشيء من هذا حتى تغلو هذا الغلوّ في الأسعار، توفّياً للنفقات وتوقياً للخسار. إنما تدفع إلينا من نيلنا الذي يشق مدينتنا، والذي يجرى بين أيدينا، والذي طالما طغى وزاد، حتى اغرق البلاد، واهلك العباد، واتى على اليابسة والخضراء، وألقى بربان الحذور إلى متن العراء. بل أن من يرى متدفقه في دمياط أو في رشيد، ليحسب انه ماض لري العالم القديم والعالم الجديد. وتراه يغذوا في شمالنا وجنوبنا ألف ترعة، فإذا جاز بنا ضيقت الشركة ذرعه، وباعتنا ماءه (بالشربة) والجرعة! حتى أصبحنا، ونحن نغدو على حافتيه
ونروح، نتناشد قول الشاعر:
يا صرحة الماء قد سُدَّت موارده
…
أما إليك طريق غير مسدود؟
حقاً يا سيدتي الشركة، لقد سامتنا (عداواتك) رهقاً وعذابا، جرّعتنا من نيلنا علقماً وصابا، وكان من قبل سكراً مذابا، وكان شهداً وجُلاَّبا، لقد ساغ ورداً وحلا شرابا!.
حقا، يا سيدتي الشركة، إنك لتروّقين الماء ولكنك تعكرين النفوس، وتملئين الآنية ولكنك تخلين الجيوب حتى من الفلوس!
يا سبحان الله، يا شركة! تعطيننا الماء وتقتضين الذهب، ولو كان مالنا نيلا لجف يا شركةُ من كثرة النزع ونضب!
ارحمينا، يا شركة، وأعملي معنا بالمثل الذي قالته العامة من قديم الزمان:(المية ما تفوتشي على عطشان)!!!
وبعد، فعندي، يا سيدتي الشركة، أكثر من هذا، ولكن:
في فمي ماء وهل ينطق من في فيه ماء
ونرجع إلى سياقة الحديث فنقول: أفآن لوزارة الأشغال أن تنجز الوعود، ولشركة المياه أن تعدل عن دلّها المعهود، فتترفق في ثمن الماء، وتخفف عن كواهلنا ما يهددّها من الأعباء، فقد اعترانا الداء من ناحية الدواء. ولله در شاعر الغبراء:
من غصّ داوى بشرب الماء غصته
…
فكيف حال الذي قد غصّ بالماء؟
فإن فعلت وإلا فقد طابت الهجرة إلى البراري والقفار، لنتعوض عن ماء النيل ماء الآبار والأمطار. وإني لأخشى أن تلاحقنا الشركة هناك، وتبسط علينا سوط (الاشتراك)، بعد أن تحوز ماء الغمام في مواسير، وتختم بالعداد على كل بير. فالشركة وراءنا ولو تعلقنا بالسحاب، أو تدسَّسنا في التراب، وأمرنا إلى من له المرجع والمآب!
أرجو أن تنصفينا، يا شركة المياه، وتفرّجي عنا من هذا الضيق، وإلا اضطررنا إلى أن ندعوك (شركة تنشيف الريق). . . والسلام
عبد العزيز البشرى
قضية اللغة العربية
للأستاذ أحمد خاكي
يرى الكاتب أن اللغة ينبغي أن تكون لغة معان قبل أن تكون لغة ألفاظ. وأن تعليمها ينبغي أن يرمي إلى ثلاثة أغراض: أولها التدريب العقلي، وثانيها الخبرة الحسية أو الجمالية، وثالثها الوجهة النفعية. وهو يبحث في بعض وسائل تعليم اللغة العربية وينقدها في هذا المقال
1 -
أصول نفسية لتعليم اللغات
إذا نحن عالجنا الوسائل التي تكفل إدراك الغايات من تعلم اللغة العربية، وجدنا أنها شعبة من الخطط العامة التي ترسمها المربون وعلماء النفس في العصر الحديث. ويسيطر على التربية في هذا العصر مدرستان متكافئتان من مدارس الفكر: أولاهما يتزعمها فرويد، وثانيتهما كان زعيمها بافلوف
ويذهب الأولون إلى أن النفس جماع الغرائز والميول الفطرية، وهذه تأتلف في أحيان وتختلف في أحيان أخرى. ولقد اتجهت التربية في هذا العصر وجهة من يحاول أن ينشئ تلك الميول سواء أكان ذلك بالاستعلاء بها أم بالتهدي إليها. وقامت فلسفة التربية على أساس من تلك الغرائز المتوافقة المتناكرة، بل لقد كان فتحاً جديداً في التربية أن اصبح الطفل موضع العناية عند المربين. ولعل روسو واضرابه من فلاسفة القرن الثامن عشر كانوا أول من نادى بتربية الطفل كطفل، وأول من هيأ السبيل للعلماء المحدثين. على أن تلك المسألة قد اختلجت بين الفلسفة والأدب خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حتى قام فرويد يؤصل أصولها النفسية في السنوات القليلة الماضية. وهنا ظهرت في التربية مبادئ الحرية التي تحاول أن تساير ميول الطفل وغرائزه، وذهب المربون يصطنعون وسائل التعليم على هدى تلك المبادئ الحديثة، فأفلحوا في اصطناع الكثير منها فيما يتصل بكل فروع المعرفة ومنها اللغات.
والطفل عند هؤلاء عامل كبير في تربية نفسه، فليس هو جهازاً مستقبلا، وليس موقفه سلبياً محضاً، وليس ينعم بتلك القابلية التي تستوعب أي شئ وكل شئ من غير أن يكون له من نفسه سلطان على ما يعلم وما يعمل، وإنما نفسية الطفل عندهم فعالة مؤثرة، فهو
تتنازعه الهواجس والعواطف والميول. وعلينا نحن أن نبسط له من العلوم ما يتروّاه وينعم به. أما وسائلنا فخيرها ما ساير ميول الطفل حتى يدفعه الشوق إلى الاستزادة من ألوان المعرفة، وحتى يصبح تعليمه داخلياً فعالاً لا خارجياً لا يكاد يتدسى إلى الصميم
وإلى جانب تلك المدرسة النفسية الغامرة ظهرت مدرسة أخرى تؤمن بالغرائز والميول أيضاً، لكنها تؤمن فوق كل ذلك بما يسمونه الأفعال المنعكسة وتلك مدرسة العالم النفسي بافلوف؛ فلا يذهب هؤلاء في تقدير الغرائز مثل ما يذهب أصحاب فرويد ولا يمعنون في تقديرها مثلما يمعن الأولون، وإنما يضعونها جنباً إلى جنب مع الأفعال المنعكسة التي يستطيع أن يكسبها الطفل، ويؤمن هؤلاء بأن الغرائز والميول قابلة للتعديل عند الإنسان وأنه قد يكسب نوعاً خاصاً من المهارة إذا هو وضع تحت مؤثر دائم متكرر. فالتقليد والتكرار والمراجعة كل أولئك جديرة بأن ترشد المتعلم إلى إحسان المهارات وهي جديرة بأن تكون أساساً ثابتاً لعلوم كسب المهارة
ومدرسة بافلوف ومدرسة فرويد كلتاهما على حق. وهما في ذاتهما تمثلان وجهتي نظر مختلفتين لكنهما متكاملتان. أما الأولى فهي تمثل الحرية في التربية، وأما الثانية فهي تمثل النظام. الأولى تعترف بملكات الطفل وقواته، والثانية تحاول أن تشيع نظاماً خاصاً يأتلف تلك الملكات، والأولى تسمح للطفل بأن ينمي كل ما وهب من مدارك، والثانية تربط تلك المدارك بعضها ببعض حتى تصبح موثوقة الأجزاء مرتبطة الأطراف
والآراء النفسية التي يذهب إليها الفريقان تخلق دستوراً بأكمله نجتلي فيه أحسن الوسائل لتعليم اللغات، فاللغة من ناحية ينبغي لها أن ترتبط بالميول والغرائز التي تجتمع لدى الطفل. وينبغي أن تكون مادتها بحيث تهز مشاعره وتحرك أعطاف قلبه، وهي من ناحية أخرى إحدى المهارات التي يكسبها الأطفال كأي فعل منعكس آخر، ولن يتأتى ذلك حتى يكون إحسانها نتيجة لمؤثر أو باعث شديد دائم متكرر. من هذين الوجهين ينبغي لنا أن نثبت الوسائل التي تكفل إدراك الغايات من تعلم العربية. وسنرى في نقد وسائل التعليم الحاضرة أنها بعيدة كل البعد عن ميول التلاميذ من جهة، وإنها لا تقوم على بواعث شديدة متكررة من جهة أخرى، وأن تعليمها عندنا لن يستقيم حتى نداول بين هذين الوجهين من وجوه التربية الحديثة
2 -
طرق التعليم
تتصل طرق تعليم اللغات إذن بميول الإنسان وغرائزه. وقد بحث المربون اقرب تلك الميول وأكثرها مواتاة فوجدوا أن اللعب يجلوها، واتخذه كثير من المربين وسيلة من وسائل التعليم، واللعب بمعناه النفسي فيض من النشاط الذي يغمر نفس الطفل، وهو اشد أثراً فيها من العمل. فالعمل يفرض فرضاً لكن اللعب بادرة من وحي النفس، وللعمل غرض قد يكون نفعياً يفسد النشاط ويخبث النفس، ولكن اللعب لا يعرف لنفسه حدوداً، ولا ينقلب شراً إلا إذا اصبح عبثاً غير محمود. وفي اللعب تتنظر قوى الأطفال بأكملها وتتوافى مداركهم، واللعب في المدرسة الحديثة وسيلة للعمل فإذا أفلح معلمو اللغات في اتجاه وسيلة لتعليمها حققوا ما ذهب إليه علماء النفس وربطوا اللغة بالميول الفطرية ربطاً محكما لا انفصام له
ولعل القصة أول أنواع اللعب التي نستعين بها في تعليم اللغة. وعند الطفل ميل طبيعي للتمثيل. ولسنا نقصد بالتمثيل ذلك النوع المسرحي الذي يحسنه الممثلون، وإنما نقصد ما يميل إليه الأطفال من إحلال أنفسهم محل بطل القصة أو بطلتها. وأنت إذا بحثت عقيدة الطفل - بل إذا تعمقت عقائدنا الأدبية - وجدت أنها خليط من الحقيقة والخيال. ففي القصة يتمثل القارئ أو السامع نفسه في الشخصية الروائية التي يميل إليها. فالبطل ينقذ فتاة، والبطل يقود أمة نحو المجد، والبطل كثير الحيطة أيد شجاع، وخلال القصة تعلو عقيدة الطفل حتى ليحسب الخيال واقعاً، وحتى ليتداخله الزهو فيخال نفسه بطلا. ذلك عندنا نوع اللعب الذي يدفع بالناشئين إلى القراءة، فهو يستغرق تفكيرهم، وهو يستهلك جهدهم. وهو بعد ذلك دعامة لا تتزايل من دعامات اللغة
ولسنا ندري من الملوم على حالة الكساد التي قضت على أدب الطفولة عندنا، لكنا نرى عند الطفل الإنجليزي آلافاً من الكتب الجميلة التي تزخر بالصور والرسوم. والطفل الإنجليزي يمتع في صباه بما يرى وبما يقرأ، وهو يندفع وراء القراءة بوحي نفسه، لأن كل هذه الكتب تصادف هواه، لكن الطفل المصري محدود الاختيار. فالمدرسة لا تعترف بما يقرأه في الخارج مهما بلغت عنايته بالقراءة، وهو لا يجد إلا قليلاً من القصص المترجم إذا شاء أن يقرأ، وإنه ليصرفه عن القراءة تبرم بعض المدرسين بالقصة ووصفها بأنها
نوع من أنواع العبث. هذا على أنه لا يجد (مكتبة) من القصص، لأن وزارة المعارف هي التي تحكم مصائر الأمور في التعليم، ولأن وزارة المعارف لم تتضمن مركزيتها الاعتراف بالقصة أداة للتعليم في العربية، ولو أنها اعترفت بها أداة للتعليم في الإنجليزية منذ زمن بعيد
عالج المستر مان خبير التربية هذه المشكلة في تقريره عندما تحدث عن الفرق بين لغة الحديث ولغة الكتابة في مصر. وعنده أنه لن ترقي لغة الكتابة في مصر ولن ينقص الفرق بينها وبين لغة الحديث حتى نخلق أدباً قائماً للأطفال يتضمن مادة جذابة توافق عقل الطفل. وينبغي لكتب الطفولة في رأيه (أن تحتوي تلك القصص ذات اللون الخاص التي تتمثل في أدب كل شعب من الشعوب). والحق أن العربية ذات أدب شعبي تمثله كتب كألف ليلة وليلة. لكن ألف ليلة وليلة طبع بالإنجليزية مئات المرات في أشكال وأحجام جميلة مختلفة. وقد بلغ من عنايتنا الضئيلة بمثل هذا الكتاب أننا بدأنا الآن فقط بترجمة ترجماته الإنجليزية إلى العربية. ومثل هذا يقال في القصص الأخرى التي انتقلت في عصر النهضة من الشرق إلى الغرب
ولقد يطول الحديث بنا إذا نحن استرسلنا في الكتابة عن تقصيرنا في خلق أدب الطفولة. وحسبنا أن نقول أن وزارة المعارف هي الهيئة الوحيدة التي تستطيع أن تخلق مثل هذا الأدب. وما دامت المركزية أصلاً من أصول إدارة التعليم عندنا فوزارة المعارف هي التي تستطيع أن تنتخب مدرسين وكاتبين تحبسهم على عمل مثل هذا. ولا غناء عندنا في جهود فردية محمودة يقوم بها الفينة بعد الفينة أفراد متحمسون
والتمثيل المسرحي نفسه وسيلة تكفل حرص الأطفال على تعلم اللغة. ولسنا نقصد بذلك أن يكون له - كما له اليوم - إدارة خاصة مركزية. ولا أن يكون قاصراً على بضعة أفراد من التلاميذ يمثلون فصلاً أو فصلين في العام لأن ذلك قد ساير المدارس الثانوية عندنا منذ نشأتها إلا أنه لم يفد اللغة إلا قليلاً. وإنما نقصد بالتمثيل المسرحي أن يكون لكل مدرس اتجاه خاص يحبب إلى تلاميذه ممارسة التمثيل. فإذا هو أمدهم بالقصص المسرحية العربية وعاونهم على تمثيلها من غير مسرح ولا ستائر كان في ذلك إدراك للغرض من تعلم اللغة، وكان فيه رياضة جمالية سامية. وخيال الطفولة ضمين بأن ينشئ مسرحاً خيالياً، وكفيل
بأن يسير بالقصة إلى حد كبير من الإتقان
والتمثيل راسخ كوسيلة من وسائل تعليم اللغة لأنه يقوم على التقليد؛ والتقليد ميل غريزي هو الأساس الأول لدروس كسب المهارة. فإذا اتخذنا التمثيل ذريعة لتعليم اللغة أوفينا على الغاية مما نرمي إليه من تعليم العربية؛ وأدركنا في نفس الوقت غرضنا الحسي أو الجمالي الذي أسلفنا الحديث عنه
ومثل ذلك فكرة الموسيقى والأناشيد وإلقاء الشعر والخطب عند الأطفال. والذي قلناه عن التمثيل ينطبق جميعه على كل هؤلاء؛ وليس يكفينا في هذه المرة أيضاً أن تكون هناك إدارة مركزية للموسيقى تلقن عدداً من الأطفال بضعة أناشيد كل عام، بل الذي يعنينا أن تكون الأناشيد والموسيقى من بين الكفايات التي يحسنها المدرسون حتى يوفقوا بينها وبين دروس العربية، وحتى يتخذوها مُعيناً على إحسان التوقيع وإتقان الخطابة، والسيطرة على مخارج الحروف والكلام. دع عنك ما تراه الطفولة في كل ذلك من الترفيه، وما تجده من الدواعي إلى الاستزادة من معين اللغة
فإذا درج الطفل إلى الصبا بعد ذلك كان في الأدب مجال واسع لتحبيب اللغة إليه. والأدب الذي ندعو إلى دراسته هو الأدب الذي لا يقف جامداً عند سير الشعراء والادباء، ولا يتغير بعصور السياسة، ولا تتقطع بصاحبه الأسباب دون تذوق الجمال. والناشئ الذي قضى أيام الطفولة في جو خيالي من القصص والغناء والتمثيل خليق به أن يصل ذلك بالأدب الموروث، وأن يتأتى لأدب الرجال بما يزخر من شعر سام وبما يحتوي من نثر علمي منتظم
ينبغي أن يكون من أغراض الأدب أن نحيط المتعلم علماً بما ازّينت به اللغة من جمال، وأن نروض الفتيان على أسرار القول المتسق. والعبث بعينه أن نحاول تحفيظهم أين ومتى مات الأدباء والمتفننون. والعبث بعينه أن نفرض عليهم استذكار سير الأدباء وما اتصف به شعر كل منهم من جزالة اللفظ، وما يترقرق في كلامهم من رقة المعنى ولطف الروح، وألا يكون ذلك إلا كلاماً يرددونه كالببغاوات ابتغاء النجاح في الامتحان. بل الخير كل الخير أن ندفع بهم في غمار المأثور من الأدب نعلمهم الأصول ونزكيهم في نفس الشعر ونفس القصص ونفس المقامات حتى يخلق كل واحد منهم لنفسه مزاجاً أدبياً أو فنياً خاصاً
فيما يتصل بشؤون اللغة والأدب
ولعلنا نستطيع بعد الذي أسلفنا من وصف الاتجاه الحديث في تعليم اللغات أن نلمس موطن العلة في أساليبنا الحاضرة. وبين الذي فصلناه وبين الذي يقع الآن اختلاف عريض ليس من سبيل إلى تلافيه حتى تتكثر الجهود بعد الجهود، وحتى تقوم مدرسة من مدارس الفكر لتخلق جواً آخر غير الذي تعيش فيه اللغة. وقد تحدرت في أصول التعليم عندنا تقاليد ما زالت تنكر على الطفل حياته الوجدانية الخاصة، فلم يقم إلا القليل يبعثون القصص التي توائم الطفولة. ولم يدرك أحد بعدُ العلاقة بين اللعب الحر وبين اللغة، ولا نحسب أننا في حالة نتوقع فيها أن نقيم العلاقة بين اللغة وبين الموسيقى والغناء، فإن هذا أمل غير قريب التحقيق
على أن الذي نراه قريب التحقيق هو شئ واحد ينتظم كل ما ذكرنا. فإن المعلمين يخلطون دائماً بين الوسيلة وبين الغاية. ويؤمنون بأن الذي اتخذوه وسيلة إنما هو غاية في نفسه. فقد اتخذ المعلمون الأقدمون النحو وعلوم البلاغة وسائل لتقويم اللسان وسلامة المعنى، ويتخذها المعلمون المحدثون غايات في نفسها يعقدون فيها أعسر الامتحانات. ولو أنهم علموا أن إحسان القول وإتقان القراءة والكتابة هي نفسها الغايات لتغيرات نظم التعليم عندنا ولنهيأ جو صالح يتحول فيه تعليم اللغات إلى المرتبة التي نبغي
ولشد ما يعجب المرء حينما يمر بنظرة عجلى على الكتب التي يدرسها تلاميذ المدارس الثانوية في مختلف الفرق. وأشهد أنى لأتردد كثيراً أن أعقد موازنة بين الكتب العربية التي يدرسونها والكتب الإنجليزية. ولعلك تدرك قليلا من مثل هذا التردد إذا علمت أن التلميذ في السنة الأولى يقرأ حوالي أربعمائة صفحة من الإنجليزية وهو يقرأ مثل هذا القدر في السنة الثانية، ويزيد على الخمسمائة في الثالثة ثم يربى على الستمائة في الرابعة. أما إذا سألتني ماذا يقرأ هؤلاء في العربية أجبتك بأن التلميذ لا يقرأ نصف هذا القدر في فرقته. وبالضياع مجهود البلاغة والنحو لو لم يستعن بعض هؤلاء التلاميذ بالمجلات وبروايات الجيب ثم بعد ذلك بالأدب الرخيص
ولنا حديث آخر عن تعليم النحو والقواعد، واتصال ذلك بفكرة الأفعال المنعكسة نرجو أن نزجيه إليك في الأسبوع القادم أن شاء الله
أحمد خاكي
الحبشة تهدد مصر بمنع زيادة النيل سنة 847
لأستاذ جليل
المفاوضات والمخاوضات بين (الحليفة) بريطانيا! و (الجارة) إيطاليا! (يا جارتا ما أنت جارة!) - بعثتني على أن انشر في (الرسالة) الغراء هذه الكلمة ذات العنوان تبصرة وذكرى
قال شاعرنا شوقي:
فمصر الرياض، وسودانها
…
عيون الرياض وخلجانها
وما هو ماء ولكنه
…
وريد الحياة وشريانها
تتمم مصر ينابيعه
…
كما تمم العين إنسانها
وأهلوه منذ جرى عذبه
…
عشيرة مصر وجيرانها
إذا لم يعتقد المصري أن السودان مصر وأن مصر السودان، وإذا لم يؤمن بوحدة وجودهما
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
…
نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرته أبصرتني
…
وإذا أبصرتني أبصرتنا
إذا تّبدي حبيبي
…
بأي عين أراه؟
بعينه لا بعيني
…
فما يراه سواه
فإن المصري إذا لم يعتقد ذلك الاعتقاد، ويؤمن بتلك (الوحدة) إيمانه بالله ورسوله وقرآنه فهو كافر حقُّ كافرٍ بالمصرية. وما أريد في هذه الكلمة أن أثبت أن الكون حقيقة وليس بوهم، وأن شمساً في السماء تطلع علينا كل يوم، فإن البديهيات اليقينيات هن بديهيات يقينيات
وليس يصح في الأفهام شئ
…
إذا احتاج النهار إلى دليل
وبعد فهذا خبر في كتاب (التبر المسبوك) للعلامة (السخاوي) في الصفحة (70) في رسالة من (النجاشي) ملك الحبشة إلى الملك الظاهر (جقمق) ملك مصر المعظم في سنة (847) أرويه ليتلوه المصري متبصراً فيه، مفكراً في بعد مراميه.
قال النجاشي متهدداً متوعداً:
(وليس يخفى عليكم ولا على سلطانكم أن بحر النيل ينجرُّ إليكم من بلادنا، ولنا الاستطاعة
على أن على نمنع الزيادة التي تروي بها بلاكم عن المشي إليكم، لأن لنا بلاداً نفتح لها أماكن فوقانية يتصرف فيها إلى أماكن أُخر قبل أن يجئ إليكم، ولا يمنعنا عن ذلك إلا تقوى الله تعالى. وقد عرضنا على مسامعكم ما ينبغي إعلامه، فاعملوا أنتم بما يلزمكم)
هذا كتاب النجاشي، وهو لا يحتاج إلى تفسير ولا هامش ولا تعليق. وإنه ليدمغ باطل ألف مقالة ومقالة - مثل ألف ليلة وليلة - ينمقها ويلفقيها سوفسطائي منحط في هوى العدو (أكل من حلوائهم، فانحط في أهوائهم) ليبرهن أن الإنسان مالكَ الماء، متمدناً (أوربياً) لن يقتل أخاء الإنسان - وإن ناكره وخاصمه - بالعطش
في المذهب الرمزي
للأستاذ زكي طليمات
مفتش التمثيل بوزارة المعارف
(كتبنا في العدد الماضي نقداً (لمفرق الطريق) وهي مسرحية تنزع نزعة رمزية في مبناها ومعناها كتبها الأستاذ بشر فارس فجاءت تحفه فنية رفيعة، ومقال اليوم بحث في الرمزية على القدر الذي لا تضيق به صفحات الرسالة)
زكي
الرمزية إحدى الاتجاهات النفسية في الإفصاح والتبيين، فهي وسيلة من وسائل التعبير عن خلجات النفس تتجاوز الرمز بشيء إلى شئ آخر، إلى إظهار الغامض والمبهم والتائه في مغلفات الروح، وتسجيل أصداء العقل الباطن
الرمزية عريقة في الإنسان
ليس الرمز في بالشيء الجديد في نتاج الشعر الإنساني. ولو رجعنا إلى الوراء نتأثر مصدر الرمز لوجدناه بعيداً في أغوار الشعور الإنساني منذُ القدم؛ فقد سجل الإنسان الغائر في أجواف الماضي بالنقش على الحجر والحفر على جدران المغاور، خلجات نفسي ونجى التائه فيها، بعد أن أعياه الفكر في الكشف عنها ومعرفة بواعثها، فجاءت رموزاً تومئ ولا تفصح الإفصاح كله عن أصداء النفس ولوامعها. بل من الرمز انبثقت العقائد لدى الزنوج. وما سائر طرائق الوثنية إلا رموز متتابعة لحيرة النفس أمام عجزها عن تفهم المظاهر الطبيعية الغامضة وقصورها عن أدراك أسرار القوى الخفية كالقدر والحياة والموت والبعث
فلما كد الذهن مستنبطاً أوضاعاً للحياة مصطنعاً دعائم المدنية، وتقدم شأن العلم فحسر اللثام عن حقائق لم تتح معرفتها للأولين ضعفت النزعة إلى الرمز بعض الشيء، ولازمها الضعف منزلاً بها الشحوب والهزال كلما دق الفكر في وضع الصيغ واستنباط القيم، وكلما كشف العلم عن حقول جديدة خفية من مظاهر الكون. وسرعان ما شغل الإنسان بالملموس من الأشياء عن التفكير وراء اللمس والحس، وصارت خلجات النفس تصدر مصنوعة في
قوالب، فكانت (كلاسيكية) التفكير والأدب والفن
وقويت دعوة العلم بعد أن هيمن الإنسان على القوى الطبيعية فنظم عملها، وسخرها لمنفعته ورفاهيته هازئاً بما راعه من جبروتها الاول؛ ولكن ليتلقى سخريتها أحياناً وهو كظيم حينما يعاودها هذا الجبروت، وهو طبيعة فيها، فينفلت قيادها من يده وتطغى على قدرته. وبلغت هذه الدعوة أوجها في أوائل النصف الأخير من القرن الماضي بعد أن سخر البخار في وسائل النقل وإدارة الآلة، وجاء العلم (بالمعمل) يفسر الغوامض ويحلل المركبات فقويت نزعة الإنسان إلى الأخذ بما ينتجه التحليل، وصار العقل الصرف هو الميزان لديه في الحكم على كل ما يقع عليه الحس وما لا يقع، فاستنبط الفكر متأثراً (بالمعمل)، واقعية الأدب والفن، وهي النقل المجرد عن الطبيعة في المحسوس والمرئي الظاهر من الأشياء، وبذلك كمل طغيان المحسوس على ما وراء الحس
بيد أنه على الرغم من طغيان المحسوس على ما وراء الحس فإن النزعة الرمزية لم تمت في النفس، بل كانت لها يقظات خلال هذه المراحل المتوالية من التقدم الذهني، ترفع صوتها كلما راعها القصور عن إدراك كنه الحالات التي تعترضها
وما (رومانسية) الأدب والفن إلا مظهر شاحب من هذه الحالة، وهى نزعة حطمت في وقت ما القوالب والصيغ الكلاسيكية التي هي من فعل الفكر الخالص، وأرسلت من القلب خلجة إحساسية مترعة، وكان ذلك في أواخر القرن السادس عشر في إنجلترا، ثم في أوائل القرن التاسع عشر في فرنسا
وليس هذا بالأمر العجيب المستغرب، فالإنسان يحيا بغرائزه أحياناً أكثر مما يعيش بعقله الخالص. وآية ذلك أن الإنسان ما برح يخاف الموت وهو موقن بعقله أنه نهاية محتمة على كل حي
وكان بعد ذلك أن أفلس العلم في كثير من المسائل الحيوية على الرغم من اختراع الكهرباء وتنظيم شؤون الحياة، فقلل العلم من غلوائه في تفسير كل شئ، وأخفت من صوته في دعواه الكشف عن كل غامض، وسرعان ما استيقظت نزعة الرمز من جديد، وبرز لها طابع في أدب أهل الشمال من أوربا، وهم قوم يسكنون بلاداً يخفى الضباب معالمها في وضح النهار، وتطغي قتمة السحب على زرقة السماء طوال العام إلا أشهراً معدودة
هنريك ابسن وشعراء الرمزية
فطلع (أبسن) - وذلك في أقصى الشمال ببلاد النرويج - بروايات رمزية أهمها (براند) و (بيرجينت)، وانحدرت الرمزية إلى البلجيك وهولندا، فلاقت مستقراً خصباً إذ الطبيعة في تلك البلاد تبدو كأنها غارقة في التفكير والتروي والمراجعة، وسرت عدوى الرمزية إلى فرنسا فطبعت أدبها وفنها ردحاً من الزمن تحتفظ منه واعية الأدب بأسماء (فيرهارين) و (رودنباخ) و (فان لربرج) و (رامبو) و (فيرلين) و (مالارميه) في الشعر، ثم (ماترلنخ) في الروايات التمثيلية. وكانت الحقبة الأخيرة من القرن الماضي عصر ازدهار للأدب الرمزي في فرنسا، وكانت الحركة في صميمها نزعة إلى التحرر من أدب الواقع والملموس إلى ارتياد أفاق جديدة طلباً للبحث عن الغامض من العواطف والتائه من الخلجات في منعطفات الروح ومثاني المادة؛ وهاديهم في البحث والتنقيب الإحساس المرهف والإدراك المحض (والتخيل المنسرح)، وصاغوا ما انتهوا إليه في أسلوب طريف مترع بالأخيلة مشرق بالروحانية. إلا أنه كان للبعض منهم شطحات في الخيال، وجولات بعيدة فيما وراء المادة، وغوص عميق في متاهات القلب لم يخرجوا منه بكثير يؤبه له
ولا يتسع هذا المقام للإحاطة بالرمزية في آداب الأمم الأخرى
الرمزية في الأدب الإسلامي
أما في العربية الاسلامية، فالصوفية أبين مظاهر الرمزية. إلا أن الرمزية كانت لدى العرب علماً وليست فناً؛ وبين العلم والفن فارق معروف، ولذلك لم تفرض طابعها على كثير من الأدب الإسلامي، وإن استقامت لها طريقة في شعر (الخيام) وأمثاله، ومن أخذ عنهم، أو نحوا نحوه
والرمزية عند (الخيام) ضرب من الفورة الحسية حلت فيها عبقة روحانية
ولعل السبب في أن الأدب العربي لم ينحرف إلى الرمزية الغامضة في كثير من نتاجه، ويخرج عن الواقعية و (الكلاسيكية) يرجع إلى الطبع البدوي الذي يميل إلى الوضوح والبساطة، وإلى طبيعة البلاد التي نشأ ودرج وشب فيها، حيث الشمس تسطع من أول النهار إلى آخره في سماء صافية متدخلة في الثنايا والشقوق، كاشفة عن ظواهر الأشياء في
جلاء ساطع، كما أن الأدب الإسلامي لم يخرج عن الأوضاع الذي أورثه إياها الأدب الجاهلى، واقتصر أمر التوليد فيه على التنميق في الصيغ الشكلية
ويقيني أننا نتحرج إذا قضينا بأن الأدب العربي أو الإسلامي لم يعرفا الرمزية في تراثهما الكبير، إذ أن معين هذين الأدبين هو نفس المعين الذي أخذ منه الأدب الأوربي، ألا وهو النفس البشرية. وما برح البحث والاستقراء يتعقبان مخلفات الأدب العربي والإسلامي، وهى مخلفات، وياللأسف، ما برحت مشتتة في دور الكتب ما بين أوربا وأمريكا ليلقيا كل حين ضوءاً جديداً عليها
هذا والرمزية كما أسلفنا شئ كامن في النفس، تبدو صريحة كلما استشفها الرغبة الذهنية إلى التطلع إلى ما وراء المحسوس، وهو الباطن الغائر في أعماق النفس، أو كلما أحست النفس بهزيمة العقل أمام الغامض من الأمور. وها نحن أولاء في القرن العشرين، وهو قرن اصبحت للعلم فيه دولة، ومع ذلك فقد قامت نظريات جديدة تدحض نظريات علمية وفلكية اتفقت عليها الآراء وقطعت بصحتها منذ مئات السنين. وهناك بديهيات عديدة ما برح للعقل فيها حيرة. ولم يبالغ (بوانكاريه) حينما قرر أن تقدم العلم تقدم آلي عجيب، إلا أنه عجز عن أن يكشف الكشف الكامل عن كثير من الحقائق
الرمزية في الأدب العربي المستحدث
أما ما يحضر أذهاننا من آثار الرمزية في الأدب العربي المستحدث فينحصر في كتابات (جبران خليل جبران) وهو لبناني المولد عاش دهراً طويلاً من حياته في المهجر الأمريكي فتأثر بكثير من كتاب الغرب، واستقامت في كتاباته طريقة رمزية تخالطها نزعة رومانسية. وقرأنا بعد ذلك شعراً رمزياً في الأداء للدكتور بشر فارس وذلك منذ عشر سنوات في مجلة المقتطف
وفى مؤلفات (توفيق الحكيم) نلمح الرمزية لامعة في بعض ما أخرجه للمسرح، ولا سيما في روايته (شهرزاد). وليس في هذا ما يبعث على العجب، فلتوفيق الحكيم نزعة صوفية أصيلة، كما أنه احسن استيعاب مسرحيات الإيطالي (بيراندللو)، وهو ابرز مؤلفي المسرحية الرمزية في هذا العصر؛ وتفهم مسرحيات الفرنسي (لونورمان)؛ وليس مؤلفات (فرويد) و (بيرجسون) مما لم يحسن مطالعتها
فبشر فارس وتوفيق الحكيم يغترفان من مصدر واحد، الأول يكتب متثبتاً بما تلقنه، والثاني يؤلف بطبعه وخياله، إلا أن لكل منهما طرائقه في التعبير عن رمزيته، وكلاهما يعيش بذهنه في أوربا ويحيا بجسمه في القاهرة.
زكى طليحات
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 -
1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 26 -
وحي الأربعين
أصدر العقاد ديوانه (وحي الأربعين) في سنة 1933؛ والسياسة المصرية يومئذ تسير في طريق معوج، وحكومة صدقي باشا تمكن لنفسها بالحديد والنار، و (الوند) ومن ورائه الأمة كلها يجاهد حكم الفرد ويكافح للخلاص، والعقاد يومئذ هو كاتب الوفد الأول، يكتب المقالة السياسية فترن رنيناً ويلقفها آلاف القراء بلهفة وشوق في كل مدينة وكل قرية؛ فلا عجب أن يكون العقاد بذلك عند عامة القراء هو أبلغ من كتب وأشعر من نظم، حتى ليؤول أمره من بعد إلى أن ينحله الدكتور طه حسين بك الوفدىُّ المتحمس، لقب أمير الشعراء، تملقاً للشعب ونزولاً على هواه. . .!
ولقد يكون العقاد يومئذ على حقيقته هو سيدَ الكتاب وأمير الشعراء أو لا يكون؛ ولكن هذه هي كانت منزلة عند الشعب يومئذ؛ فلا يعاديه أحد إلا كان عدو الأمة، ولا يعرض له أحد بالنقد في أي منشأته الأدبية أو السياسية إلا كان في رأى الشعب (دسيسة) وطنية أو صنيعة رجعية. . .
هذه هي كانت الحقيقة في تلك الحقبة من التاريخ التي امتزج فيها الأدب بالسياسة امتزاجاً جعل طائفة كريمة من الأدباء يؤثرون الصمت واعتزال الأدب على أن ينزلوا بأنفسهم إلى معترك لا يعرفون أين تبلغ بهم عواقبه. ولكن الرافعي رجل - كان - لا يعرف السياسة ولا يخضع لمؤثراتها؛ فهو لا يعتبر إلا مذهبه في الأدب وطريقته؛ وسواء عنده أكان رأيه هو رأى الجماعة أم لا يكون، ما دام ماضياً على طريقته ونهجه. ولقد قدمت القول بأن الرافعي كان يتربص بالعقاد منذ قريب لينزل إليه في معركة حاسمة تنقع غلته وتبرئ ذات صدره، فما أن تهيأت له الأسباب بصدور (وحي الأربعين) حتى تحفز للعراك. وكان ما
بين العقاد ومخلوف هو السبب المباشر الذي ألهب حمية الرافعي فنزل إلى الميدان مستكملاً أهبته مزوداً بسلاحه، غير مكترث بما قد يناله من غضب الآلاف من القراء الذين يقدسون العقاد الكاتب تقديساً اعمي فلا يفرقون بين العقاد السياسي والعقاد الأديب. . .!
وأرسل الرافعي يستدعيني إليه ذات مساء، فرحت إليه بعد العشاء بقليل؛ فإذا هو جالس إلى مكتبه، وعلى مقربة منه (وحي الأربعين) وإن عليه لثوباً أحمر في لون عرف الديك، وفى عينيه فتور وضعف ينبئ عن السهر والجهد العميق؛ فإنه ليبدو في مجلسه ذلك كأنه عائد لساعته من معركة حمراء. . .!
قال: (لقد فرغت من قراءة الديوان منذ قليل، وإن لي فيه لرأياً. فهل تساهرني في الليلة حتى أملي عليك ما أعددت في نقده؟)
كانت هذه أول مرة يملى الرافعي على فيها من مقالاته؛ فكانت فرصةً سعيدة لي، اشهد فيها الرافعي حين يلقَّي الوحي، وأصحبه في سبحاته الفكرية يقتنص شوارد الفكر وأوابد المعاني. وكانت فرصة سعيدة له: أن وجد يداً غير يده تحمل له القلم حين يكتب ليفرغ لنفسه، ويخلو بفكره؛ وما تعوَّد قبلها أن يكتب وفى مجلسه إنسان. وإن أثقل شيء عليه أن يكتب بيده، ولكن اقل من ذلك عليه أن يعرف أن عيناً تلاحظه وهو يكتب، فما زال يكتب لنفسه منذ بدأ متبرماً بهذه المهمة، ضيق الصدر بما يبذل في الكتابة من جهد. وإن خطه لأردأ خط قرأت في العربية. . . حتى اصطفاني لهذا الواجب، فلزمته ثلاث سنين لا يهم بكتابة مقال إلا دعاني ليمليه عليّ، حتى انتقلت من طنطا فعاد إلى ما كان من عاداته: يملي على نفسه ويكتب لنفسه، ولم يسترح إلى كاتب بعدي يشركه في جلوة الوحي وخلوة الكتابة!
وجلس فأملى عليّ مقاله في نقد (وحي الأربعين)، من قصاصات في يده لا تزيد إحداها على قدر الكف، فما فرغ من الإملاء حتى أذن الفجر، وحتى كانت هذه القصاصات بضعاً وعشرين صفحة كبيرة، تشغل بضعة عشر نهراً من جريدة البلاغ. وكانت ليلة تحملت فيها من الجهد والمشقة ما لم أتحمل في ليلة غيرها فقمت منهوك القوة عيّان، وقام الرافعي في مثل نشاط الشاب في عنفوانه، كأنما كان عليه عبء فرماه عن كتفيه. . .!
وكان بين البلاغ والعقاد خصام، وكان بينه وبين الرافعي مودة، فما كادت تصل إليه مقالة
الرافعي في البريد المستعجل ظهر ذلك اليوم، حتى أعلن عنها وبشر القراء أن ينشرها في غد. . . وشغلت من البلاغ ثلاث صفحات في يومين. . . وكان نقداً مُراً حامياً اجتمع فيه فن الرافعي، وثورة نفسه، وحدة طبعه، وحرارة بغضائه، ولكنه كان نقداً منزهاً عن العيب
أستطيع أن أقول ويقول معي كثير من أدباء العربية: أن هذه المقالة هي خير ما كتب الرافعي في نقد الشعر، وأقربها إلى المثال الصحيح، لولا هفوات قليلة يعفيه من تبعتها أنه إنسان!
من قرأ (على السَّفُّود) فعابه على الرافعي وأنزله غير ما كان ينزله من نفسه، فليقرأ مقال الرافعي في نقد (وحي الأربعين) ليرى الرأي المجرَّد في شعر الأستاذ العقاد عند الرافعي. . .
ومضى يوم واحد، وظهرت صحيفة الثلاثاء من جريدة الجهاد وفيها رد العقاد على الرافعي، وقد نفذ إليه من باب لم يحسب الرافعي حسابه، فتغير وجه الحق، ودارت المعركة حول محور جديد. . .
كان عنوان مقالة العقاد (أصنام الأدب) فيما أذكر، وكان مدار القول فيها هو الطعن على رجلين: هما إسماعيل مظهر، والمهزار الأصم مصطفى صادق الرافعي. وكان أكثرُها سباباً وشتيمة واقلها في الرد والدفاع. على أن العقاد لم يرد رأي الرافعي فيما أخذ عليه من مآخذ إلا في مواضع قليلة، وترك الرد في أكثر ما عاب عليه الرافعي، مستعيضاً على الرد بالشتم والسباب. . .!
وإذا كان السبب مفهوماً في طعن العقاد على الرافعي وشتيمته إياه، فأي سبب حمل العقاد على أن يشرك الأستاذ إسماعيل مظهر مع الرافعي فيما وجه إليه من الشتم والتهمة؟
جواب ذلك يفهمه من يعرف أن الأستاذ إسماعيل مظهر صاحب العصور، هو طابع كتاب (على السفود) وناشره ومروِّجه. أفنستطيع أن نحكم من هذا بأن العقاد لم يكن يعني الرد على مقال الرافعي الأخير وحده؛ ولكنه وجدها فرصة لتصفية الحساب القديم كله بينه وبين الرافعي وصاحبه الذي أغراه على كتابة (على السفود)
وكان الباب الذي نفذ منه العقاد في الطعن على الرافعي، هو اتهامه في وطنيته، وإيهام قرائه بأن الرافعي لم يكن لينقذه إلا لأنه هو العقاد السياسي الوفدي عدو الحكومة المتسلطة
على الناس بالحديد والنار! وحسبك بها من تهمه حين يقولها العقاد!
أن للعقاد مفاجآت عجيبة النقد، تمثل العقاد الكاتب المرن المحتال في أساليب السياسة، اكثر مما تمثله ناقداً محيطا يدفع الرأي بالرأي والبرهان بالبرهان!
وقرأت مقالة العقاد في الرد على الرافعي، فوجدت أسلوباً في الرد لم اكن انتظره، يؤلم ولا يفحم، ويقابل الجرح بالجرح لا بالعلاج. فما فرغت من قراءة المقال حتى تمثل لي الرافعي مرّبد الوجه من غيض وغضب، مزبد الشتقين من حنق وانفعال؛ فسرني أن أسعى إليه قبل ميعادي لأراه في غيظه وحنقه وانفعاله، فانتهزت ساعة فراغ في الظهر، فمضيت إليه في (المحكمة)؛ فما كاد يراني مقبلاً عليه حتى هتف بي وهو يبتسم ابتسامة المسرور ثم قال:(أقرأت مقالة العقاد؟) قلت: (نعم) قال: (فماذا رأيت فيها؟) قلت: (لقد كان شديداً مؤلماً!) فضحك وقال: (والله ما رأيت كاليوم! لقد ضحكت حتى وجعني قلبي من شدة الضحك. . . إنه لم يكتب شيئاً، ولم يرد علي شيء؛ أن سبابه وشتمه لن يجعله عند القراء شاعراً كما يشتهى أن يكون، وأن حسب أنه به يكسب المعركة. لقد حق عليه ما قلت فيه، وأنه ليعترف. أن فراره من الرد إلى السباب والشتيمة ليس إلا اعترافاً بالعجز. . .)
قلت: (إذن فأنت لا تنوي الرد؟)
قال: (وأي شيء تراه يستحق الرد فيما كتب؟)
قلت: (ولكن القراء لن يفهموا سكوتك على وجهه، ولن يسموه إلا انسحاباً من المعركة. . .! أفترضى أن يقال عنك. . .؟)
وبدا على الرافعي كأنه اقتنع، وهاجته كلماتي مرة أخرى إلى النضال. ومعذرة ثانيه إلى الأستاذ العقاد!
إن معركة تدور رحاها بين العقاد والرافعي جديرة بأن يحتفل لها الأدباء وان تنال من اهتمامهم أوفى نصيب، وإن لهم فيها لمتاعاً ولذة وفائدة. وما كان لي أن أقنع وقد هجت هذه المعركة بما فيها من متاع ولذة وفائدة بأن تنتهي من أول شوط!
وقال لي الرافعي: (فهل توافيني الليلة لأملي عليك؟)
فواعدته وذهبت إليه في المساء، فأملى عليّ فصلا من نسخته الخاصة لكليلة ودمنة، بعنوان (الثور والجزار والسكين!) ثم أتمه مقالا في الرد على العقاد. وكان فصلا قاسياً عنيفاً، ليس
من مذهب المقال الأول ولا نهجه، إذ لم يكن المقصود به النقد وحسب، بل الرد والسخرية والإيلام، ثم قطع السبيل وتدعيم الدليل وتقرير المعنى فيما قدم من مواضع النقد
ثم رد العقاد ليعلن انسحابه من المعركة، شاكراً للذين أيدوه، متعذراً عن عدم الاستمرار في مناقشة دعوى الرافعي! واستمر الرافعي يكتب حتى فرغ. . .
وكان النصر للرافعي عند طائفة، ولكنه خسر عطف الآلاف من أصدقاء العقاد الكاتب الوطني الكبير، إذ لم يروا عداوة الرافعي له في الأدب إلا دسيسة سياسية من خصوم العقاد!
وانتهت المعركة الأخير بين الرافعي والعقاد، ولكن الرافعي لم يقتنع بما نال من النصر عند الصفوة من القراء الذين يفرقون بين الأدب والسياسة، إذ كان على يقين أنه وأن كانت له الغلبة، قد خسر اكثر الطائفتين من قراءه لأنهم على مذهب العقاد السياسي، فضل مغيظاً محنقاً إلى حين. . .
ومضت سنتان، وتقلبت السياسة المصرية من تقلباتها، فإذا العقاد الذي كان كاتب الوفد الأول، خارج على الوفد، يطعن عليه وعلى رئيسه؛ وأنصار الوفد ما يزالون إلى يومئذ اكثر الأمة. . . ووجد الرافعي فرصة سانحة لينتقم، وليستخدم السياسة في النيل من خصمه في الأدب، فيكيل له صاعاً بصاع، ويحاربه بمثل سلاحه؛ فكتب مقالاً بغير توقيع في كوكب الشرق، جريدة الوفد، بعنوان:(أحمق الدولة!) وكان مقالا له رنين وصدى. . .
ونشر في (الرسالة) يومئذ كلمات تحت عنوان (كلمة وكليمة) عرض فيها بالعقاد الخارج على الوفد تعريضاً أليماً يؤذيه، لم ينتبه له إلا القليل
وكان مقاله عن العقاد في كوكب الشرق، وكلماته في الرسالة سبباً في أن يدعوه الأستاذ توفيق ذياب ليحرر في الجهاد بأجر كبير؛ ولكن لم يتم بينهم اتفاق
ولم تكن تسنح للرافعي سانحة لغيظ العقاد إلا انتهزها، فما كتب الرافعي عن شاعر من الشعراء بعد ذلك إلا جعل نصف كلامه تعريضاً لشعر العقاد. وبذلك ما كتب عن الشاعر المهندس علي محمود طه في المقطم، وما نشره عن الشاعر محمود أبو الوفا في الرسالة، ومقالته (بعد شوقي) معروفه لقراء الرسالة عامه؛ وكلها تعريض بشعر العقاد الذي نحله الدكتور طه حسين إمارة الشعر في يوم من الأيام بعد شوقي!
والعداوة بين الرافعي والعقاد من العداوات المشهورة بين أدباء الجيل، ولها أثر أي أثر فيما انتج كل من الأديبين الكبيرين في أدب الوصف؛ ولا تدانى هذه العداوة في الشهرة إلا العداوة بين الرافعي وطه حسين
واحسب أنه كان بالإمكان أن يجتمع العقاد والرافعي في تحرير الرسالة لولا ما كان بينهما من خلاف وعداوة. قال لي الأستاذ الزيات مرة منذ عامين: (وددت لو يكتب العقاد في الرسالة! ولكنما يمنعني من دعوته إلى ذلك أنني لا أستطيع أن انشر له وللرافعي في عدد واحد!)
قلت: (فما يمنع؟)
قال: (أنت تعرف أخلاق الرافعي، وأنا اعرف أخلاق العقاد، وإن لكل منهما اعتداداً بنفسه بازاء صاحبه، فأي المقالين اقدم وأيهما أؤخر في ترتيب النشر؟ أن تقديم مقال على مقال ليس شيئاً ذا بال، ولكنه بين الرافعي والعقاد له شأن أي شأن!)
وظل الأستاذ الزيات معنيا بهذا الأمر، حريصا على أن يجمع بين الأديبين الكبيرين في مجلته، وهو يلتمس السبيل إلى ذلك فلا يوفق، حتى مات الرافعي فانحلت المشكلة؛ ودخل العقاد، ولكن بعدما خرج الرافعي!
رحم الله الراحل، ونفع بالباقي!
محمد سعيد العريان
عبقرية الشريف الرضي
للدكتور زكي مبارك
(قبل نهاية هذا الشهر يصدر في بغداد كتاب في جزأين للدكتور زكي مبارك. وهذه فاتحة ذلك الكتاب، وهي تشرح مذهب المؤلف في دراسة الأدب العربي وطريقته في التأليف)
أما بعد فهذا كتاب (عبقرية الشريف الرضي) وما أقول أني شغلت به نفسي سنة كما قلت يوم أخرجت شرح (الرسالة العذراء)، ولا سبعة سنين كما قلت يوم أخرجت كتاب (النثر الفني)، ولا تسع سنين كما سأقول بأذن الله يوم اخرج كتاب (التصوف الإسلامي)
فما شغلت نفسي بكتابي هذا غير خمسة أشهر. ولكنها من أشهر بغداد لا أشهر القاهرة ولا باريس. وما كان في بغداد لهو ولا فتون، فكانت الليلة في بغداد كليلة القدر، خير من ألف شهر، والتوفيق من أشرف الأرزاق
وكتابي هذا هو مجموعة المحاضرات التي ألقيتها في قاعة كلية الحقوق، وكانت تلك المحاضرات من أشهر المواسم في حياتي، فقد كان أصدقائي يخشون أن يمل الجمهور بعد أسبوع أو أسبوعين، ولكن الجمهور كان يزداد إقباله من أسبوع إلى أسبوع، ولم ينقذني منه غير التصريح بأني أنفقت كل ما كنت أملك، ولم يبق إلا أن استريح!
ومحاضراتي بكلية الحقوق في بغداد هي الموسم الثاني بعد محاضراتي عن (المدائح النبوية) وهي المحاضرات التي ألقيتها باسم الجامعة المصرية في قاعة الجمعية الجغرافية بالقاهرة، فهل يتسع العمر لموسم ثالث في القاهرة أو في بغداد؟
لا تسألوني كيف ظلمت نفسي فأعددت هذه المحاضرات وأنشأت معها مقالات كثيرة جداً نشرتها صحف مصر ولبنان والعراق ورججت الحياة الأدبية في بغداد رجاً عنيفاً، فذلك كان أقل ما يجب أن اصنع في مقابل الثقة التي شرفتني بها حكومة العراق؛ وذلك كان اقل ما يجب أن اصنع لأحفظ لنفسي مكاناً بين الأساتذة المصريين الذين تشرفوا بخدمة العراق من أمثال محمد عبد العزيز واحمد حسن الزيات والسنهوري وعبد الوهاب عزام ومحمود عزمي؛ وذلك كان اقل ما يجب أن اصنع في خدمة تلاميذي وتلميذاتي في بغداد، وقد رأيت في وجوههم وجوه أبنائي وبناتي فكلفت نفسي في خدمتهم فوق ما أطيق
لا تسألوني كيف ظلمت نفسي فأنفقت من العافية ما أنفقت؟ فقد ساءني أن اعرف أن (دار
المعلمين العالية) لها في بغداد تاريخ، فكانت تفتح ثم تغلق، وتفتح ثم تغلق، فاستعنت الله وانتفعت بعطف معالي وزير المعارف الأستاذ محمد رضا الشبيبي وأريحية الأستاذ طه الراوي ومودة الدكتور فاضل جمالي، وعولت على همة زميلي وصديقي الدكتور متي عقراوي، وأقمنا لدار المعلمين العالية أساساً من متين التقاليد الجامعية، فأغنينا مكتبتها بالمؤلفات القديمة والحديثة وعلمنا طلابها كيف يبحثون ويراجعون، وغرسنا فيهم الشوق إلى التحقيق والاستقصاء
ورأيت أن يكون من تقاليد هذا المعهد العالي أن يخرج في كل سنة كتاباً عن شاعر أو أديب أو مفكر لم يدرسه أحد من قبل، فألفت كتابي هذا عن الشريف الرضي. فأن ترفقت شواغلي بمصر وأذنت لي بالرجوع إلى بغداد فسأخرج في كل سنة كتاباً جديداً. وإن أبت تلك الشواغل أن أتمتع مرة ثانية بالاستصباح بظلام الليل في بغداد فسيذكر من يخلفني أني طوقت عنقه بطوق من حديد، وأن لا مفر له من أن يشقى في سبيل (دار المعلمين العالية) كما شقيت
وإنما نصصت على هذه المعاني في مقدمة هذا الكتاب لأجتدي العطف على (دار المعلمين العالية). وممن أجتديه؟ من حكومة العراق، فما يجوز أن يغلق هذا المعهد، وإنما يجب أن تبذل الجهود ليصبح منافساً قوياً لكلية الآداب بالجامعة المصرية
قد يقول قوم من خلق الله: ولماذا ابتدأت بالشريف الرضي! أن قالوا ذلك فالجواب عند الأستاذ عباس محمود العقاد، فهو يذكر جيداً أنني قلت له يوم اخرج كتابه عن ابن الرومي: كان الأفضل يا أستاذ أن تنفق هذا الجهد في دراسة أشعار شريف الرضي
إن قالوا ذلك فالجواب عند الأستاذ الدكتور طه حسين، فهو يذكر جيداً أني نبهته إلى أن الاهتمام بدراسة شعر الشريف الرضي كان أولى من الاهتمام بدراسة شعراء القرن الثالث
إن قالوا ذلك فالجواب عند نادي الموظفين بالقاهرة فقد طلب في سنة 1932 أن القي محاضرة عن أعظم شاعر في اللغة العربية فكانت محاضرتي عن الشريف الرضي
ابتدأت بالشريف الرضي على غير موعد، فقد رأيتني فجأة بين دجلة والفرات، فتذكرت أن قد جاء الأوان لدراسة هذا الشاعر الذي تعصبت له منذ أعوام طوال
ويشهد الله وهو خير الحاكمين أني لم أفكر في إنصاف الشريف الرضي إلا يوم قدم لي
الدكتور شريف عسيران نسخة من كتاب الأستاذ المقدسي عن أمراء الشعر في العصر العباسي، فأزعجني أن يهتم بابن المعتز وينسى الشريف الرضي، مع أن ديوان ابن المعتز لا يساوي قصيدة واحدة من قصائد الشريف
فمن شاء له هواه أن يزعم أن لي غاية في التعصب للشريف الرضي فليتق الله في نفسه، وليذكر أن الدكتور زكي مبارك لو كان انفق نشاطه في الاتجار بالتراب لأصبح من كبار الأغنياء، ولكنه بلا أسف سيموت فقيراً لأنه أنفق نشاطه في خدمة الأدب العربي
والأدب العربي خليق بأن يكون له شهداء، وأنا في طليعة أولئك الشهداء
سيرى قراء هذا الكتاب أنني جعلت الشريف أفحل شاعر عرفته اللغة العربية، وقد سمع بذلك ناس فذهبوا يقولون في جرائد بغداد: أيكون الشريف أشعر من المتنبي؟
وأستطيع أن أجيب بأن الشريف في كتابي أشعر من المتنبي في أي كتاب. لن يكون المتنبي أشعر من الشريف إلا يوم أؤلف عنه كتاباً مثل هذا الكتاب. والقول الفصل في هذه القضية أن المتنبي في بابه أشعر من الشريف، والشريف في بابه أشعر من المتنبي، وكل عبقري هو في ذاته أعظم الناس لأن ميدانه لا يجاريه فيه أحد سواه، والشريف بهذا المعنى أفحل الشعراء لأنه جرى في ميادين سيظل فارسها السباق على مدى الأجيال
وما الذي يضر أنصار المتنبي حين أُقدَّم عليه الشريف؟ هل فيهم من يحفظ ديوان المتنبي كما أحفظ ديوان المتنبي؟
إن سجلات كلية الآداب بالجامعة المصرية تشهد بأنني كنت أول من دعا إلى الاحتفال بمرور ألف سنة على وفات المتنبي، ولي على ذلك شهود منهم الشيخ السكندري والأستاذ عباس محمود والدكتور منصور فهمي
وما الذي يضر أهل العراق من أن اهتم بشاعر لا يعرف العراقيون موضع قبره على التحقيق؟ أليس من العجائب أن يعرف العراقيون قبر معروف الكرخي ويجهلوا قبر الشريف الرضى؟ أن هذا هو الشاهد على أن العوام أحفظ للجميل من الخواص!
إن كان خصومي في بغداد دهشوا من أن أتعصب لشاعر رضى عنه ناس وغضب عليه ناس فليذكروا أنني كنت كذلك طول حياتي فوضعت بالنقد قوماً ورفعت آخرين، وفقاً للحق لا طوعاً للأهواء
وأنا والله راض بأن يغضب علىّ أهل بغداد، فقد غضبوا على أبي طالب المكي فمنحوه الخلود
أنا أحب الخصومات لأنها تذكي عزيمتي، ومن أجل هذا أنظر نظر الجزع إلى مصير خصوماتي في بغداد، فلن يكون لي في بغداد خصوم بعد ظهور هذا الكتاب؛ وأنه لقادر على أن يفجر العطف في القلوب المنحوتة من الجلاميد. سيذكر أدباء بغداد أنني أحببت شاعراً هو من ثروة العروبة وثروة العراق. سيذكر أدباء بغداد أنني وفيت لمدينتهم السحرية حين اهتممت بشاعر كان اصدق من عرف النعيم والبؤس فوق ثرى بغداد
وكتابي هذا تطبيق لما شرعت من قواعد النقد الأدبي، تلك القواعد التي أذعتها في كتاب (الموازنة بين الشعراء)، وهو من اجل هذا لون جديد في اللغة العربية. وسيكون له تأثير شديد في توجيه الدراسات الأدبية، وقد يصلح ما أفسد الزمان من عقول الباحثين
وبيان ذلك أني لم أقف من الشاعر الذي أدرسه موقف الأستاذ من التلميذ كما يفعل المتحذلقون، وإنما وقفت منه موقف الصديق من الصديق. والتشابه بيني وبين الشريف الرضي عظيم جداً؛ ولو خرج من قبره لعانقني معانقة الشقيق للشقيق، فقد عانى في حياته ما عانيت في حياتي: كافح في سبيل المجد ما كافح وجهله قومه وزمانه، وكافحت في سبيل المجد ما كافحت وجهلني قومي وزماني
وهذا الترفق في معاملة الشريف ليس نزوة شخصية، وإنما هو وثبة علمية، فما كان يمكن أن أكون وفياً للبحث إلا أن سايرت الشاعر الذي أعرض عقله وروحه على تلاميذي. وهذه هي المزية التي أنفرد بها بين أساتذة الأدب العربي
سايرت الشريف مسايرة الصديق للصديق: فإن آمن آمنت، وإن كفر كفرت. أن جدّ الشريف جددت، وإن لعب لعبت. أن عقل الشريف عقلت، وإن جن جننت. أن قال الشريف أن غاية الرجل العظيم هي الحرب، قلت: صدقت. وإن قال: أن الحياة هي الحب، قلت: والحب الحياة!
ولكني مع هذا عاملته معاملة الصديق الأمين فنبهته إلى عيوبه بتلطف وترفق؛ نبهته تنبيهاً دقيقاً جداً لا يفطن إليه إلا الأذكياء، وفي بني آدم أذكياء. نبهته إلى عيوبه أكثر من ستين مرة؛ وما أظنه يحقد عليّ، لأن الصديق الذي في مثل حالي تغفر له جميع الذنوب
والشواهد في هذا الكتاب كثيرة جداً؛ وذلك هو أسلوبي في البحث، فأنا أشغل القارئ بالشاعر الذي أدرسه أكثر مما أشغله بنفسي، وهذه إشارة أرجو أن ينتفع بها المتحذلقون
اعتمدت على طبعة بيروت وصححت ما صادفني فيها من أغلاط، وشرحت ما يجب شرحه من الأشعار خدمة للقارئ الجاحد الذي لا يفهم قيمة الوقت الذي ينفقه الشارح في تحديد المعاني؛ وصححت الكتاب كله بنفسي تصحيحاً دقيقاً. فإن رأى فيه القارئ أغلاطاً فذلك ذنب العجلة لا ذنبي. وأدخلت فنوناً من الذوق على الطباعة في بغداد سيذكرها أصحاب المطابع بغداد!
هذا كتابي، أقدمه بيميني في تهيب واستحياء؛ فإن رضيت عنه فذلك لطف ورفق، وإن غضبت عليه فلست أول حسناء تجحد الجميل
اصنعي في ودادي من التنكر والتقلب ما شاء لك الدلال. أما أنا فأشهد أنك صنعت بقلبي وعقلي ما عجزت عنه القاهرة وباريس!
أنت مظلومة يا بغداد، وأنا مظلوم يا بغداد؛ والظلم يجمع بين القلوب، نصرك الله ونصرني، ورعاك ورعاني، إنه سميع مجيب.
وعليك مني السلام.
زكي مبارك
من برجنا العاجي
سألني الأستاذ أحمد أمين من أيام عن فكرة غريبة قال إنها جالت بخاطره؛ وخاطره هذا كنز لا يفنى من الأفكار الغريبة. قال:
(ترى ماذا يفعل الإنسان إذا علم أنه سيموت بعد عام؟) فقلت له: الجواب يتوقف على معرفة نوع هذا الإنسان وطبيعته وعلمه
فقال: (أنا وأنت مثلاً. ماذا كنا نصنع؟)
فأجبته على الفور:
أنا وأنت؟ كنا ننكب في الحال على التأليف والكتابة ليل نهار. فقال في دهشة:
- كنت أحسبك تقول العكس، وترى أن قرب الموت قد يجعلنا نطلّق العمل ونفزع إلى حياة اللهو والمتعة، أو على الأقل حياة الهدوء والراحة
- نحن يا صديقي نفعل ما يفعله كل أب بار. فما الذي يصنعه الأب البار بأبنائه حينما يدنو منه الموت؟ ألا يتمنى أن يتركهم وقد اكتمل نضجهم؟ ألا يفكر ليل نهار في إتمام تربية هذه الأكباد حتى تقوى على المشي فوق الأرض؟ وأنا وأنت لسنا أكثر من آباء، لنا أكباد تمشي لا على الأرض. . . لكن على الورق. . . فكيف نموت وفي خزائن أحدنا صفحات من كتاب لم يكتمل في (ضحى الإسلام) أو في (النقد الأدبي)، وعلى مكتب الآخر قصص تعج بأشخاص نصف أحياء يطالبون بحقهم في الحياة، ويمسكون بتلابيب (مؤلفهم) لا يدعونه يموت قبل أن ينفخ فيهم بعض الروح؟ إنه ليخيل إليّ أحياناً أن حياتنا متصلة بحياة إنتاجنا، وأن في أعماق كل (خلاّق) شبه غريزة داخلية تدفعه إلى الإنتاج البطيء أو السريع طبقاً لطول حياته أو قصرها. إنا قد بعنا أنفسنا لشيطان (التأليف)، ولن يتركنا هذا (الشيطان) في راحة إلا عندما نلفظ النفس الأخير.
توفيق الحكيم
المخترعات
وكتاب الفصول والغايات
لباحث كبير
(اللزوميات) هي عبقرية المعري في النظم، و (الفصول والغايات) هي عبقريته في النثر. والعبقريتان في أكثر المقاصد والمرامي تلتقيان. وفي هذه العبقرية (المعجزة الأحمدية) يقول أبو العلاء:
(إن شاء الملك قرب النازح وطواه، حتى يطوف الرجل في الليلة الدانية بياض الشفق من حمرة الفجر، طوفه بالكعبة حول قاف، ثم يؤوب إلى فراشه والليلة ما هّمت بالأسحار، ويسلم بمكة فيسمعه أخوه بالشام، ويأخذ الجمرة من تهامة فيوقد بها ناره في يبرين وقاصية الرمال)
وقد شاء الله أن يكون في هذا الزمان كل ذلك، فإن المرء ليسري من (الإسكندرية) طائراً إلى (قاف) سلع، الجبل في المدينة (يثرب)؛ ثم يؤوب ويأوي في فراشه والليلة ما همت بالأسحار، وطوفه حول (قاف) القصاصين و (قاف) بعض المفسرين - حول الكرة الأرضية - في يوم أو ليلة هو في الغد، و (مهما تعش تره)
وإن المصلي (أو غير المصلي) ليسلم في مكة فيسمعه أخوه في (سان فرنسيسكو) وأخوه الذي هو في (طوكيو)، ويسمعه كل صاحب (مِصْوان) في الأرض
وإن مركونى - وهو في سفينته في ميناء في إيطالية - قد أضاء بشرارة - لا بجمرة - مدينة (سدني) في أسترالية
هي العبقرية وهم العبقريون يقذفون بالقول فيفسره الدهر بعد أحقاب أو يحققه
وقد شاء الله (جلت قدرته) أن يجئ في هذا الزمان ما تخيله أبو العلاء في وقته
وقد شاء الله (عظمت منته) أن يظهر اليوم هذا الكنز العظيم: كتاب (الفصول والغايات) المكتنز بالفوائد، محققاً مضبوطاً مشكولاً مشروحاً يشرح الصدر، ويسر العين، ويبهج القلب، وينور العقل
وهذا القول في هذا الكتاب حق كله، ولم يهده مهد إلى فيقول الإهداء: هات الثناء. بل افتلذت، اقتطعت ثمنه (والله) من عيشي، ومن قوتي، وكنت لعقلي وروحي من المحسنين.
وفي سبيل أبي العلاء والعلم الصوم ووهن الجسم
(الإسكندرية)
(* * *)
فلسفة التربية
تطبيقات على التربية في مصر
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 14 -
(إذا لم تكن البطالة ناشئة عن نقص في الشخص نفسه، فهي ناجمة من غير شك عن خطأ في روح تعليمه!!)
(إن من يأنف اليوم من حمل الفأس ومن تلويث يديه بالطين لن يصلح غداً لإصلاح أمره إذا ما ضاقت به الحياة وقسا عليه القدر!)
(لقد أفقدناهم الحماس وا أسفاه، وجعلناهم يقبلون على العلم بخمود دائب، وتحجر متواصل، وبطأ شديد!)
(من رسالة الدكتور جاكسن)
4 -
المتعلمون العاطلون
تبينت في المقال السابق بعض نواحي الضعف في التعليم الإلزامي وبعض وجوه الإصلاح، وسترى اليوم ناحية أخرى جديرة بالدرس والعلاج نظراً لما فيها من خطر شديد على كيان المجتمع القائم حاضره ومستقبله:
1 -
العاطلون
أترى أولئك المتعلمين العاطلين؟ أتسمع عن جيوشهم في كل مدينة من مدن القطر؟ أتلحظ حقدهم على كل حكومة لم تسلكهم في سلوك الموظفين المجدودين؟ أتتبين تقاعدهم وتسكعهم وعجزهم عن المجاهدة في الحياة إزاء الأجنبي الدخيل؟ ثم نفورهم كبراً وتيهاً من أعمال البيع والشراء وغير البيع والشراء، مما يظنون أنهم لم يخلقوا له في كثير ولا قليل؟
ذلك هو المشكل الذي نبسطه اليوم ونعالجه على ضوء التربية والتعليم! والذي ينبغي على الدولة أن توليه من عنايتها نصيباً موفوراً نظراً لأن أولئك المتعلمين العاطلين خير تربة صالحة لإنماء المبادئ والأفكار التي فيها كما قلت الخطر كل الخطر على كيان المجتمع
نفسه حكومة وشعباً!
تُرى مِمّ نجمت هذه البطالة؟ ومن هو المسئول عنها؟ أفي البلد أزمة اقتصادية عنيفة فهم لا يجدون فيها عيشا؟ وما بال أولئك (الأجانب) يملئون المتاجر والمصارف ويقومون بمختلف المشروعات وينجحون فيها كل النجاح؟ ألست ترى إلى الرومي أو غيره يدخل البلد فقيراً معدماً ثم يغدو بعد سنين صاحب متجر عظيم وملك أعظم؟ أن الخير في هذا البلد كثير، والعيش يسير، ولكن العيب وا أسفاه في المتعلم نفسه وما قد طُبع عليه من كره للعمل والعاملين، وعشق (للديوان) الثابت والراتب المضمون!! ولذلك يقول الدكتور (جاكسون): أن الخطأ إنما يقوم في روح التربية المعطاة وما يوحيه من أن المدرسة تأخذ بالأيدي من (الطين) حيث الجهد والنصب، إلى (المكتب) حيث الراحة والكلام!! ألست تسمع أنشودة (الوظيفة) من أمك وأبيك وأقاربك وذويك؟ ألست ترى (للموظف) قدراً في المجتمع دونه قدر التاجر أو الصانع أو الفلاح؟ ألست ترى طابع (الحكومة) يميز حامليه ويملأهم عجباً وتيهاً وزهواً وفخراً؟ ألست ترى حولك كثير من ممن يرون في (العمل) حطة لهم ولعائلاتهم مع أنه قد يكون السبيل الوحيد لمعاشهم؟ وأخيراً ألست تشاهد المئات من خريجي المدارس الزراعية والتجارية والصناعية يتكالبون على الوظائف الفنية وغير الفنية، مع أن الدولة قد أنفقت عليهم الألوف لتجعل منهم طبقة فنية راقية تأخذ بيد مرافق البلد الاقتصادية وترقيها، وتحررها من قيود الجهل والتقاليد، وتطبعها بالطابع القومي المنشود؟
2 -
العلاج
تلك إذاً هي (الفكرة الخاطئة) التي يجب أن نمحوها محواً بمختلف أساليب التربية والاقتصاد، لأن التربية لا تستطيع وحدها أن تصلح كل شيء. يجب أن نحسن الأسواق القائمة، وأن نفتح أسواقاً جديدة، وأن نعمل كما يقول الأستاذ جاكسون على زيادة (الطلب) ليرتفع أجر العامل ويغريه بالعمل وترك الحكومة، كما يجب كذلك أن نجعل مدارسنا الفنية مسلحة بكل تجديد كهربائي أو ميكانيكي لتستطيع أن تواجه حاجات العصر، وأن تصمد لمنافسة المحصولات الرخيصة التي تمطرنا بها أوربا وأمريكا واليابان، وأن نحول مدارسنا الإلزامية والابتدائية والثانوية إلى نظام آخر يسمح بكثير من (العمل) اليدوي ما
دام العاطلون من خريجي هذه المدارس اكثر عدداً وافدح خطراً من خريجي المدارس الفنية. أفي المدارس الإلزامية (عمل) بالمعنى الساذج البسيط؟ وهل في المدارس الابتدائية غير ساعتين للعمل في الأسبوع منفصلتين تماماً في (عملهما) عن المواد الأخرى؟ وهل يعدو (العمل) في التعليم الثانوي (اللهو والفراغ) عند أغلبية الطلبة الساحقة؟؟
3 -
الصعوبة القائمة
وهناك فضلاً عن ذلك صعوبة كبرى هي قبول المدارس الثانوية لعدد عظيم من الطلبة لا تستطيع أن تقبله فيما بعد الجامعة والمدارس العالية لأنها لا تتسع له. ويقول بعض حضرات النظار أن حوالي 30 % من طلبة البكالوريا يقعون في هذا المشكل، ويمضون حياتهم في يأس وقنوط وألم وشقاء. وإذاً فإما أن ينقص عدد الملتحقين بالمدارس الثانوية حتى يستطيعوا أن يجدوا لهم منفذاً في التعليم العالي، وإما أن يصبح التعليم الثانوي نفسه غاية ووسيلة معاً لا وسيلة تعد الناشئ للجامعة فحسب. والحل الثاني أليق بمصر، لأن خمسا وعشرين مدرسة ثانوية للبنين، وسبعا أخرى للبنات، ليس بالعدد الكثير على بلد سكانه خمسة عشر مليوناً!! وإذا فلننظر فيما ينبغي أن يكون عليه هذا التعليم:
4 -
الإصلاح المنشود
ينبغي أولاً أن يسود فيه الشعور بأنه إعداد للحياة لا للدراسة العليا فحسب. ويتأتي ذلك فيما يرى الدكتور جاكسن بوضع أساس عملي لا يجني على (كيف) التعليم فيه، وذلك بأن ندخل فيه الزراعة والطباعة وأشغال الخشب والحديد على نحو (جدي) مع تعديل المقرر أو بالأحرى تخفيفه تخفيفاً مناسباً. فمثلاً في السنتين الأولى والثانية: عشرون درساً للغات من أربعة وثلاثين، ودرس رسم واحد، ودرس أشغال لا يقوم به إلا قلائل لا يفيدون. فماذا يمنع من استعمال اللغة في تجارة عملية بدلا من قصرها على هذه الحصص الكثيرة التي لا تؤدي بالطالب بعد تسع سنوات إلى القدرة على الكتابة خطاب تجاري صحيح النحو مستقيم المعنى؟ وماذا يحول بين الطلبة وبين جمعهم لحروف مجلتهم وطبعهم لها بأنفسهم؟؟ ولم لا يزرع الطلبة حديقة المدرسة ويسهرون على تهذيب أغصانها وأروائها بدلا من رجل واحد تعينه المدرسة لهذا الشأن؟ وكيف يتكلم المدرس عن الذباب وخطره والمدرسة ذاتها
لا تعمل على منعه من دخول الفصل؟؟
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يجب أن يعنى التعليم بغرس الروح الاجتماعية عن طريق (دراسة المشروعات) والجمعيات العلمية والرياضية والفنية التي تسودها روح التعاون والمحبة والتضحية واحترام القانون، ويجب أن يتاح للمدرس من الوقت ما يساعده على الإشراف التام على أعمال هذه الجمعيات و (العيش) فيها كمرشد حكيم؛ هذا مع غرس السرعة والابتكار والذوق في نفوس الطلبة تلبية لحاجات (رجال الأعمال) الذين يريدون كل حاضر البديهة، حكيم التصرف، جميل الذوق وديع المحضر، مطيعاً للقانون:
5 -
التوجيه المهني
ثم لا ينبغي أن يقف الأمر عند ذلك. أن مصر لفي حاجة كبرى إلى توجيه أبنائها توجيهاً سليماً يتفق وميولهم النفسية، ويضمن على الأقل نجاحهم في عملهم وثقافتهم أن لم نقل نبوغهم فيها. والشبان عندنا لا يطرقون أبواب المدارس المختلفة جرياً وراء إشباع ميولهم الشخصية بقدر ما يطرقونها تحقيقاً لمطامعهم القاصرة في مهن محترمة كالقضاء أو الطب أو المحاماة! أليس عندنا من يدخل الحقوق ليكون نائباً أو وزيراً، ثم يفشل أخيراً في موقفه أمام القاضي ويخاطبه كما يخاطب التلميذ الأستاذ؟ أليس عندنا من يدرس الفلسفة ليدعى فيلسوفاً، ثم لا يكون بينه وبين الفلسفة الصحيحة إلا هوة سحيقة من الجهل والاعوجاج؟ كم من مئات الحقوقيين قد أثبت له قدراً في عالم القانون؟ وكم من خريجي التجارة أو الهندسة قد سجل لبلاده فخراً في مجال دراسته الخاصة؟ إنها إذاً لآفة كبرى يجب علاجها علاجاً علمياً صحيحاً ينحصر فيما يسمى الآن (بالتوجيه المهني!) ويستطيع الأستاذ في ذلك التوجيه أن يدرس ميول الطالب الحقيقية لا الوهمية أو المصطنعة، وأن يقدم له النصح والإرشاد على أساس هذه الدراسة يستطيع أن يختبر ذكاءه وميله الأدبي أو الفني أو العلمي باختبارات خاصة يجرونها الآن في أوربا وأمريكا؛ ويستطيع أن يلاحظه ويدرسه عن كثب طيلة أعوام الدراسة ليضم إلى نتائج هذه الاختبارات درايته الشخصية؛ ويستطيع أن يقول له أخيراً عليك بالآداب أو الحقوق أو الطب أو الصناعة أو التجارة، لأنك لا تليق ولا تنبغ، ولا توفق ولا تسعد، إلا في ذلك الذي دلتني عليه دراستي العلمية وخبرتي الشخصية؛ ثم يستطيع باتصاله بذويه أن يسدي لهم النصح في مستقبل ولدهم حتى لا يقفوا عثرة في
السبيل كما أراد لي والدي يوماً أن أدرس (التجارة) وأنا لا اهضم (الحساب) على الإطلاق!، وأخيراً يستطيع الناظر عملا برأي الأساتذة أن يزود تلميذه بخطاب خاص يحمله كشهادة محترمة لرؤساء المعاهد أو الأعمال التي يريد أن يطرقها كيما يكون (واسطته) فيها. . .
وبذلك وبغيره نوجد أعمالا للعاطلين، وتوفيقاً ونبوغاً للمتعلمين!. . .
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بشبرا الثانوية الأميرية
إبراهيم بك المويلحي
1844 -
1906
بقلم حفيده إبراهيم المويلحي
تتمة ما نشر في العدد الماضي
ثم سافر إبراهيم بك إلى باريس سنة 1884م وحرر العدد الرابع من جريدته (الاتحاد) بعد صمت أربع سنوات وطبع منها أعداداً كثيرة، وكانت أشد لهجة من أخواتها فاستشاط السلطان غيظاً وحنق على إبراهيم حتى أنه أرسل إلى (أسعد باشا) سفير الدولة العلية في باريس بمذكرة مستعجلة يريد بها إبلاغ رغبته إلى الخديو إسماعيل بأن يأمر سكرتيره (إبراهيم بك) بالكف نهائياً عن إصدار جريدة (الاتحاد) المحررة تحت رعاية سموه
فلما تفاوض (أسعد باشا) مع الخديو اعلمه بأن لا بد له فيها مطلقاً وأنه برئ من تلك الظنون. فما كان من السفير العثماني إلا أن طلب من الحكومة الفرنسية، بناء على رغبة السلطان، نفي المترجم له من فرنسا
ولما كان هذا النفي غير مسبوق بأي محاكمة فقد انبرى المسيو بوددي مورسلي يدافع عن إبراهيم ويستنكر وقوع مثل هذا الإجراء ويأخذ على وزير الداخلية الفرنسية تسليم إبراهيم لأسعد باشا بهذه السهولة، في مقال نشر في حينه في جريدة (الفيجارو) عدد 331 سنة 1884م اختتمه بقوله:(إني أسأل بصراحة المسيو ولدك روسو عن الضرر الذي يسببه وجود إبراهيم بك في باريس. أم هل فقد بلدنا الجمهوري (حق الإقامة) فيه وأضحى غير قادر على منح الضمان الكافي للمحكوم عليهم سياسياً! وإلا فما هو الأمان الذي يمكن أن يجده عندنا كل غريب فقد حق التمتع بمصالح بلده؟ ألا يظن حضرة وزير الداخلية أنه من السذاجة أن ننال بسهولة وبدون محاكمة إبعاد صحفي فرنسي غير راض عن سياستنا الحالية من استنبول أو لندرة مثلاً، لأنه يصدر جريدة عدائية هناك؟!)
إن القبض على إبراهيم بك ونفيه بدون محاكمة لا يعد فقط عملاً استبدادياً، بل أمراً منكراً ربما استحق الاستجواب عنه في البرلمان)
فلما رأى إبراهيم بك نفسه مرغماً على ترك فرنسا بأمر السلطان، سافر تواً إلى
(بروكسيل) فكتب إليه السيد جمال الدين الأفغاني لما كان بينهما من روابط الصداقة أيام كانا في مصر، يشير عليه بالتوجه إلى لندرة ليتحدا في الدفاع عن حقوق الأمة ونصرة الدين. فاستصوب إبراهيم هذه الفكرة ولاسيما أنه كان غيوراً على دينه، شديد الحب لوطنه. فأبحر إلى (لندرة) وتسنى له التعرف هناك باللورد تشرشيل واللورد سالسبوري وأخذ يعاون السيد جمال الدين في تحرير (العروة الوثقى) وأنشأ لنفسه جريدة (الأنباء) ثم (عين زبيدة) وأفاض فيهما ولاء خالصاً للسلطان، وأظهر حرصاً على صيانة الدولة بانتقاده الشديد لسياسة غلادستون نحو الدولة العلية في ذاك الوقت
وبلغ مسامع السلطان عبد الحميد أمر هاتين الجريدتين فسر من خطة إبراهيم هذه وأرسل إليه يستقدمه بواسطة سفيره في لندرة
ولما كان إبراهيم بك لا يتوقع هذا العفو السريع سنة 1303هـ - 1885م ظن أنها مكيدة من السلطان ليتمكن بها من الانتقام منه، فامتنع من الذهاب إليه، وكلف ابنه السيد محمد بك المويلحي - الذي كان بصحبته في إنجلترا - السفر إلى استنبول ليستطلع جلية الأمر
فتوجه محمد بك إلى الآستانة عن رغبة والده، وأرسل إليه خطاباً يطمئنه فيه من جهة السلطان
فدخل إبراهيم بك الآستانة وكتب إلى جلالة السلطان الخطاب الآتي يشكره فيه على عفوه عنه ويعتذر عن تأخره في المثول بين يدي جلالته: (المعروض على سدة أمير المؤمنين، وخليفة رسول رب العالمين، أن العبد لا يصف عفو أمير المؤمنين إلا كما قيل لأخ جلالتكم في الخلافة المعتصم العباسي: (لو علم الناس ما تجدون من اللذة في العفو لتقربوا إليكم بالذنوب). والحمد لله على تلك النعمة التي أسداها أمير المؤمنين لعبده الصادق. وإنما كان تأخيري عن التشرف بسدة الخلافة لأمور هامة في فائدة الدولة والملة قد تم بعضها. وإني ألتمس أن أعرضها على ذات مولانا المقدسة حفظها الله للإسلام)
وبعد أيام طلب السلطان مثوله بين يديه، فأكرم مقابلته وعينه عضواً في مجلس (انجمن المعارف) سنة 1303هـ - 1885م. وكان ناظرها وقتئذ العالم الجليل المغفور له صاحب الدولة منيف باشا، فقدر إبراهيم حق قدره، وقربه إليه وعرفه بالشيخ الشنقيطي اللغوي الشهير
وتصادق المترجم له مع إبراهيم بك ادهم صاحب جريدة (الحقائق) التي كانت تصدر في استانبول، فكان ينشر فيها وصف جلال الموكب السلطاني في كل مرة يذهب فيها لتأدية فريضة الجمعة
ومكث إبراهيم بك في وظيفته هذه عشر سنوات تقريباً من سنة 1885هـ - 1895م. حدث في أثنائها أن كتب بعض الجواسيس إلى السلطان عبد الحميد تقريراً جاء فيه أن إبراهيم بك لا يزال يراسل الجرائد في مصر خفية بما لا يتفق وسياسة السلطان! فما كان من جلالته إلا أن أرسل إلى صاحب العطوفة (كامل بك) ناظر الضبطية لاستجواب صاحب الترجمة والتحقيق معه فيما وصل إلى السلطان
ولقد كان هذا الجاسوس صادقاً في تقريره. وهكذا كانت خطة إبراهيم بك في جميع مراحل حياته السياسية لا يعرف التملق ولا التزلف، ولم تُحِده تلك الرتب والإنعامات الشاهانية عن طريقته المثلى في حبه لمصلحة البلاد والدفاع عنها وانتصاره لها
وقد رأى شطط السياسة من جراء ما يزينه الملتفون حول عرش جلالته، فأخذ ينشر مقالاته الانتقادية في المقطم، وكان يذيلها بإمضائه المستعار:(أحد العثمانيين الأفاضل)
وكان إبراهيم بك في اليوم الذي قبض عليه فيه يحمل مسودة مقالة كان يريد نشرها، فأسقط في يده واخذ يجهد فكره في التخلص منها بأية وسيلة! واتفق أن كان الناظر في هذه الساعة مشغولا بتحقيقات أخرى - وما اكثر التحقيقات في الآستانة - فأمر بإبقائه في غرفة تجاور غرفة التحقيق ريثما ينتهي من استجواب الذين بين يديه
ففكر إبراهيم بك، وهو المنعزل في الغرفة، أن يتخلص من المقالة التي في جيبه خشية تفتيشه، فهم بحرقها، فحدثته نفسه أن رائحة الدخان قد تبعث الشك في إدانته، كما خشي تمزيقها خوف وصول بعض وريقاتها إلى بعض الجواسيس المنتشرين بدار الضبطية. وبينا هو في شغل شاغل إذ سمع صياح ديك فنظر حوله فرأى نافذة صغيرة بحواجز حديدية، ففتح زجاجها وأطل من بين قضبان النافذة فرأى ذلك الديك وحوله أفراخ كثيرة ينقرن في الأرض بحثاً عن القوت؛ فما كان منه إلا أن أخذ يقطع الورقة قطعاً صغيرة ويضعها في فمه حتى تمتزج بلعابه فيمضغها حتى تصير على شكل الحب ثم يرمي بها إلى الأفراخ فتتسابق إلى ابتلاعها حتى أتت على آخرها، واغلق النافذة وحمد الله
وبعد ساعة تقريباً اقتيد إبراهيم بك إلى غرفة التحقيقات وابتدئ بتفتيشه فلم يعثروا على شئ، وبعد مناقشات طويلة أسفر التحقيق عن براءته مما جاء في تقرير الجاسوس، وطير الخبر إلى جلالة السلطان فأمر باستدعائه إلى (المابين)، وأنعم عليه بالرتبة الأولى من الصنف الثاني سنة 1311هـ - 1893م. وصاحبها يلقب (بسعادتلو أفندم) وهي توازي رتبة الميرميران الملكية التي يلقب صاحبها بلقب (باشا)
وفي نفس هذه السنة قدم الخديو (عباس الثاني) ومعه بعض الوجهاء من المصريين لزيارة الآستانة والتشرف بمقابلة جلالة السلطان (لعرض الشكر والعبودية على أعتاب الخلافة السنية) فرأى إبراهيم بك من واجبه كمصري مقيم في استنبول أن يتشرف بمقابلة سمو الخديو عباس، فذهب إلى القصر الكائن (بدفتر دار بروني) الذي يقيم فيه سموه، ولكن (محمود باشا شكري) أشار على سمو الخديو عباس باشا الثاني لشيء في نفسه من جهة إبراهيم أن يمتنع عن مقابلته تجنباً لخطره وسطوة قلمه. فسوف الخديو تحت هذا التأثير مقابلة إبراهيم الذي خرج حامقاً والشرر يتطاير من عينيه!
ولما كان يعلم أن جلالة السلطان سيدعو سمو الخديو والوفد الذي جاء معه إلى سراي (بلدز) مرت بخاطره فكرة جهنمية يستطيع بها تحريك غضب عبد الحميد عليهم أجمعين! فحرر عريضة من تلقاء نفسه اختلقها اختلاقاً، كأن هؤلاء الوجهاء يرومون رفعها إلى الأعتاب الشاهانية وبعث بها إلى المقطم فنشرها، والتقطتها التلغرافات الأجنبية وترجمتها الصحف الإنجليزية وعلقت عليها ما شاءت أن تعلق، وذهب سفير إنجلترا في تركيا بأمر من رئيس الوزارة الإنجليزية إلى الصدر الأعظم ليستفسر عما أجاب به السلطان على هذه العريضة التي قد تسبب توتر العلاقات بين بريطانيا العظمى والدولة العلية
فحدث من جراء هذه العريضة أن امتنع السلطان عن الإنعامات التي كان يرغب في الإنعام بها على من كان بمعية سمو الخديو كما هي العادة في مثل هذه الظروف، إرضاء لخاطر إنجلترا حتى لا تعتقد أن لهذه العريضة أثراً في نفسه
وإليك صورة هذه العريضة بعد ديباجة الحمد والثناء:
(إن الله عز وجل نظر إلى العالم نظرة رحمة فاختارك يا أمير المؤمنين من بين البرية خليفة على عباده، وجمع فيك شرائط الخلافة وبسط لك من القوة والسطوة، وآتاك من
الحزم والعزم وأصالة الرأي ما يفتخر به هذا العصر على سائر الأعصار، وقرن طاعتك بطاعته وطاعة نبيه في كتابه العزيز، وجعل حبك إيماناً والخروج عن أمرك مروقاً من الدين، وحبب إليك الإقدام لمصلحة الإسلام. دأب الخلفاء السابقين، وأودع في يديك أرواح المسلمين وأموالهم تحكم فيها عن رضى وتسليم منهم. وقد عاهدوك على بذل دمائهم في طاعتك بأيمان البيعة التي ربط الله بها لك القلوب على المحبة في خلواتها ونجواها
فالمسلمون كلهم قاصيهم ودانيهم مجمعون على الانقياد لك في السر والعلانية لا يميل بهم عن هذه السنن قول ولا فعل لتوقف سعادتهم على طاعتك في الدنيا والآخرة
هذا ما جعل الله لك يا أمير المؤمنين، وقد جعل لهم بهذا من جانب جلالتك أن تكلأ بيقظاتك بلاد الإسلام بعيدها وقريبها من طوارئ السوء وغوائل الشر على نسق واحد لا فرق بين مطلقها وممتازها، وأن تدفع عنها كل سائل ومحتال، وأن تذود عنها بالحجة والسيف والقلم وما يمكن أن يدافع به مادياً ومعنوياً
هذه مصر - أيد الله بك مقام الخلافة، وثبت بك أركان السلطنة، ونصرك النصر الوشيك - فريدة التاج العثماني، والقسم الأكبر من السلطنة السنية والطريق الأعظم إلى الحرمين الشريفين. قد أصبحت تمديد الفزع الصارخ إلى عظمتك، وتنظر كالمغشي عليه من الموت إلى حياتها في يدك الكريمة؛ فامنن عليها بالحياة يا أمير المؤمنين، وخلصها ممن تجاسر على حوزة الإسلام بلا حجة ولا قوة، وفي يد جلالتك الحجة والقوة، وهذه أرواحنا رهينة ثلاثة أحرف من عظمتك، فأمرنا بما تريد لنخلص الإسلام المتخبط في تلك الإشراك. وقد بقينا يا أمير المؤمنين سنين عدة معلقين لا ندري أنحن تحت حكم الخلافة والسلطنة السنية فتطمئن قلوبنا، أم تحت حكم هذا الذي دخل في يوم على وعد أن يخرج في غده فبقي إلى الآن تخفق راياته على مساجد المسلمين في بلد هي عش الأولياء ومرقد آل البيت النبوي ومجد جدك السلطان سليم خان؛ فطفق هذا الداخل يستهوينا باسم الحرية التي لا توافق قيودنا الدينية ولا عاداتنا الأدبية فمال إليه جماعة منا، ويوشك أن استمر في سيرة أن يفسد الحاسيات والأخلاق بهذا التساوي المخالف للتفضيل الإلهي
فالآن قد وفدنا على دار الخلافة مع سمو وكيلك المطبوع على محبة جلالتك، المفتخر بنظرات الرضى عليه من ألطاف عظمتك، الواقف موقف السمع والطاعة لأوامرك، راجين
من السدة السنية إجراء الوسائط الفعالة لإخراج هذا الداخل على وطننا وإبعاده عن الأراضي المقدسة التي يدأبون على التدخل فيها، فأنهم إذا استمرا - لا قدر الله - في البقاء بمصر سهل عليهم الدخول فيها وفي غيرها لطبيعة الموقع
ونسأل الله أن يؤيد جلالة مولانا الخليفة الأعظم وينصره على الباغين)
وفي أوائل سنة 1895م سئم العيشة في جو استنبول المكتظ بالجواسيس المختنق بالفتن والوشايات وشعر بالحنين إلى وطنه بعد طول الغربة. فعزم على الرحيل إلى مصر ودبر طريقة سفره في الخفاء على باخرة بخارية قادته إلى الإسكندرية
ولما علم جلالة السلطان عبد الحميد بخبر اختفائه وسفره إلى مصر بدون أن يقدم استقالته، بعث يستعلم بواسطة (مختار باشا) المندوب فوق العادة للباب العالي عن السبب الذي جعل إبراهيم بك يترك وظيفته في (أنجمن المعارف)
فأبدى إبراهيم أسفه لمختار باشا وافهمه أن قدومه إلى مصر إنما هو من باب الحنين إلى الوطن والشوق إلى رؤية ابنيه (محمد) و (خليل)، وأنه لا يدري كيف يشكر السلطات على نعمه
ولما كان إبراهيم بك مشغوفا بالتحرير أخذ ينشر في المقطم من وقت إلى آخر مقالته الانتقادية فيما رآه في الآستانة العلية مدة إقامته فيه تحت عنوان (ما هنالك) ثم جمعها وطبعها كتابا سنة 1896 ميلادية. فبعث السلطان عبد الحميد بأمره بإرسال جميع النسخ التي في حيازته إلى (المابين)! فخضع إبراهيم لأمر جلالته وأرسلها جميعاً إليه ما عدا بضع نسخ كان قد وزعها على عائلته وأصدقائه. لذلك يندر وجوده
وفي سنة 1898م أنشأ جريدة أسبوعية سماها (مصباح الشرق) وقفها على خدمة الأدب ونصرة الدين والدفاع عن حقوق الدولة العلية. وكان يعاونه في تحريرها أبنه السيد محمد بك المويلحي. وكان طلاب الأزهر يقفون على باب المطبعة الساعات الطويلة ينتظرون صدور أعدادها بفارغ الصبر، وكانت تباع بقرش صاغ واحد، وكان يعز مطلبها في اليوم الثاني من صدورها حتى كانت تشترى بخمسة قروش
وكان إبراهيم بك يسافر من وقت إلى آخر للآستانة لمرض ولائه على الأعتاب الشاهانية، وليتسنى له الإطلاع بنفسه على ما في الجو السياسي من أخبار، فكان في كل مرة يعود
مثقلا بالإنعامات والعطايا حتى نال (الرتبة الأولى من الصنف الأول) وصاحبها يلقب (بسعادتلو أفندم حضر تلري) وهي توازي رتبة (روم ايللي بكاربكي) الملكية. لكنها تتقدم عليها في التشريفات
وقد نال حظوة عليا لدى حضرة صاحب السمو الخديو عباس الثاني حتى إنه كثيراً ما كان يكلفه بأعمال سياسية هامة، فكان يقوم بها خير قيام فنال بذلك ثقته. ولم يقف دون رغبة سموه إلا مرة واحدة غضب عليه فيها بضعة أشهر ثم رضى عنه فكتب إليه الخطاب الآتي:
(قد وضعني ولي النعمة في بودقة الامتحان وأوقد عليّ بنار غضبه زماناً طويلا كما اقتضته حكمته، حتى إذا صفاني وخاف على أن احترق نقلني كما اقتضته رحمته وسعته. فأشكر ولي النعم شكرين: شكراً على تصفيتي وتهذيبي، وشكراً على رضاه عني
وقد بعث الله لنبيه الملكين جبريل وميكائيل فشقا صدره صلى الله عليه وسلم، وأخرجا ما يكون بناموس الطبيعة في قلوب البشر، ثم ختماه على الحكمة. وكذلك فعل ولي النعم: بعث إلى عبده فأصبح قلبي مختوماً عليه بطابع الإخلاص والقيام بفروض الخدمة لدرجة التفاني فيها. فلو ذوبوني لم يجدوا في تركيب صدري إلا ثلاثة أشياء: الوفاء والدعاء والولاء، لولي النعماء
كل هذا انتهى وتم على موجب الحكمة العالية حكمة ولي النعم الذي اعتنى بتربية عبيده على هذا الأسلوب الحكيم.
فخدمة الأعتاب السنية هي قبلتي التي اوجه وجهي إليها، وأصرف عزمي إليها. وهذا اعتقادي وهذا قولي وهذا خطي على ذلك والله شاهد ووكيل
وفي سنة 1903 كف عن إصدار الجريدة فجأة! وهكذا كان إبراهيم بك يعطل كل جريدة ينشئها إذا نال منها غرضه
وكان يرسل في بعض الأحيان بمقالاته السياسية إلى بعض الجرائد كالمؤيد والمقطم عندما كان يرى أن حقاً للأمة هضم
ثم أنشأ جريدة (المشكاة) باسم ابنة (السيد خليل بك المويلحي) و (حمدي بك يكن) ولم يصدر منها إلا أربعة أعداد فقط سنة 1905. وفي أواخر سنة 1905 اعتلت صحته
فاعتزل السياسة ليعالج مرضه حتى وافته المنية في 29 يناير سنة 1906
ولقد كان المرحوم سريع الخاطر، طيب اللسان، شديد الميل إلى النقد والمداعبة لا يفرق في ذلك بين قريب أو صديق حتى قيل فيه:(لم ينج من قوارص قلمه إلا الذي لم يعرفه)
وكان سريع الفهم، قوى الإحاطة بخفايا الأمور، وغوامض السياسة، ولقد تقلب في أعمال كثيرة بين تجارية وحكومية وصحافية وسياسية، لكنه لم يبلغ الهدف الذي كان يرمي إليه في كل واحد منها مع شدة ذكائه وحدة ذهنه. ولعل السبب في عدم ثباته هذا يرجع إلى طموحه إلى النجاح السريع ورغبته في بلوغ الدرجات العلى طفرة واحدة، فأنه لو ثبت في عمل واحد لبلغ أوجه
ويجمل بنا أن نقول قبل أن نختم ترجمته إنه كان مشغوفاً بتعلم اللغات الأجنبية حتى حذق التركية ومهر في الفرنسية وتعلم الإنجليزية في آخر سني حياته عليه رحمة الله
إبراهيم المويلحي
أبي!!
للأديبة بهية فرج الله زكي
أبي! سلاماً من وراء دجلة! سلاماً عليك من قلب وحيدتك! سلاماً من قلب جريح! سلاماً على الروح السابح في لجة الأبد، سلاماً على الجسد الهامد في التراب!
أبي! لقد مات أبي، وطار البرق الحزين ينعى بقية الأمل إلى القلب الحزين. . مات أبي، وفي مصر خمدت جذوة حياته الذاكية، فانطفأ في العراق مصباح رجائي المشتعل. . مات، وقد كان وهو حي رسول البسمات إلى الثغور، فأصبح وقد مات رسول الدموع إلى العيون
أبي! حتى في ساعة الموت لا أراك! وفي ساعة الوداع لا اطبع على جبينك القبلات، وفي ساعة الرحيل إلى المثوى البعيد، يحول دوني ودونك البحر المائج والبلد السحيق!
أبي! يا منى النفس، ويا روحا ضاقت بها حدود الأرض فطلبت فسحة الحياة في السماء. لماذا استسلمت للكرى فنمت نوم الأبد؟ لماذا تركتني وحيدة وكنت بك جمعاً لا يخذل. . صوتي يملأ الفضاء، وتجاوب أصداءه الأرض والسماء. ولكنى لا اسمع جواباً، فأين أبي؟
أبي! كنت تستلهم السماء خبر الغيب، فهل قرأت في لوح الأجل موعد هجرتك من دنياك الفانية إلى عقباك الباقية، فبكيت حين تحرك بي القطار، وأنت الرجل الجلد الذي يسخر بالعواطف، وجريت مع القطار وأنت الرجل الرزين الذي تخضع جوارحك أبداً لعقلك الكبير، واتبعتني النظر الحائر وما حيرك الدهر المضطرب بالحادثات. . . بلى لقد أحسست بالموت فكتمت سر الموت عن الأحياء
أبي! لأنك تحب العراق آثرت الرحيل إلى العراق؛ البلد الذي لم تبخل عليه بفلذة كبدك، البلد الذي خلت فيه حياة خصيبة لأملك الروحي. . . فلماذا تركتني في وطن قلبك ونزحت أنت إلى وطن الخلود
أبي! لن أنسى ما حييت رسالتك، رسالة المحبة والسلام، وسأظل ذاكرة إلى الأبد ما سطرته إلى يدك وأنت تعالج الموت:(عاشري الناس بروح المحبة. كوني قدوة حسنة، ارفعي الفوارق الموجودة بين الناس. . . إننا كلنا أوراق أغصان شجرة واحدة. . .)
أبي! سأعيش كما عشت بهذه المبادئ، وسأموت لها. وإذا كان الوفاء هو دين الميت على الحي، فان ديني الذي لا أمطله جهاد كجهادك، ودعوة إلى الحب كدعوتك، وذكرى طيبة
ترضيك، وعمل في سبيل الإنسانية يرضى الله
أبي! سلام عليك في الذاهبين، سلام على قبرك بين قبور المخلصين، سلام على وحيدتك الجريحة، سلام على بغداد التي أحببتها وسأحبها من أجلك!
بهية فرج الله زكي
مدرسة بمدارس العراق
التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
- 8 -
يا شباب الوادي! خذوا معاني لعظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم
نجح لنكولن في الانتخاب، فظفر بمقعد في المؤتمر ظل ينزع إليه سنوات أربعا طويلة؛ وكان هذا النجاح كفيلاً أن يبث في قلبه من الغبطة والبهجة بقدر ما بثه فيه الانتظار الممل من السأم والضجر، ولكنه كتب إلى صديقه سبيد ينبئه أنه لم يهتز كثيراً للنجاح كما خيل إليه قبل أنه فاعل إذا ظفر. وتلك حالة من حالاته العجيبة، بل هي حال من حالات النفس البشرية تدعو إلى العجب والاعتبار! فكثيرا ما يتمنى المرء ما ليس في يده حتى لتكون سعادته كلها مجتمعه في أن ينال ذلك الذي يتمناه، فإذا اقترب من بغيته أو شه له أنه مقترب راح يطفر من الفرح، ورأى في كل شئ حوله معاني الحبور والغبطة، وإذا بعد عن ضالته أو خيل إليه أنه مبتعد، ضاقت في وجهه الدنيا وبات من همه كأنه في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج؛ حتى إذا قدر له آخر الأمر أن يرسو على الشاطئ وأن يلمس بيده مبتغاه وقف حياله وقفة من لم يجد شيئاً، وفتحة عينيه على الحقيقة كمن يفيق من حلم ذابت ألوانه وتلاشت أطيافه وتبددت رؤاء. . . ذلك هو غرور الحياة، ولكن ما ألذه من غرور! وما الحياة في جملتها أن هي خلت من هاتيك الأحلام؟
وانقضى عام بين نجاحه وذهابه إلى المؤتمر. ولقد صحبته زوجه إلى وشنجطون العظيمة، وزارت البيت الأبيض، ولعلها كانت تحدث نفسها في زهو أنه في غد مقر بعلها. ومشى ابن الأحراج في المدينة تستوقف الأبصار هيئته إذ كانت لا تزال روح الغابة تصحبه كأنما هو نوع من الشجر جئ به إلى غير منبته. . . وسرعان ما أنس الناس به، فهم إذا جلسوا
إليه يشعرون أن روحاً قوياً يسرى إليهم منه وإن لم يتبينوا ما هو؛ وكذلك أخذت تطل عليهم نفسه في فيض من قصصه. . .
أما في المجلس فقد كان أول الأمر بحيث لا يحسب أحد أنه سيكون يوماً من النابهين، ولكنه ما لبث أن بدد هذا الزعم بخطاب احتفل له وجعل له كثيراً من الأهمية، يتبين لنا ذلك فيما كتبه في هذا الشأن إلى صديقه هرندن؛ وكان الخطاب يدور حول الحرب القائمة في تكساس، وجه فيه لوماً عنيفاً إلى رئيس الاتحاد أن خرج بهذه الحرب عن الدستور كما فرط بها في جانب العدالة والخلق
قال لنكولن: (ليذكر الرئيس أنه يجلس حيث كان يجلس وشنجطون، وليجب إذا ذكر كما كان يجيب وشنجطون، وكما أنه لا يليق بأمة أن تهرب من الحق، والله لا يسمح أن يهرب منه. كذلك ليتجنب الرئيس الهرب والمراغة؛ فإذا استطاع بعد ذلك أن يقيم الدليل على أن الأرض التي سالت عليها الدماء أول ما سالت هي أرضنا فإني موافقه فيما يسوق من مبررات. ولكنه إن عجز عن ذلك أو أحجم عنه فإني حينئذ خليق أن آخذ على اليقين ما يقوم في نفسي فعلاً مما هو أكثر من الظن، فأرى أنه يشعر بخطئه، وأنه يشعر أن الدم الذي سال في تلك الحرب هو كدم قابيل يستصرخ السماء ضده)
ولكن تلك الحرب كانت في نظر الناس أمراً مستساغاً لأنها ستضم إلى الولايات أرضاً جديدة، كما أن جيوش الولايات كانت ظافرة فيها. من أجل ذلك لم ينل ابراهام بخطابه من الرئيس، كما أنه لم يظفر بتأييد أو قبول من جانب زملائه. ولقد أحس هو بضعف موقفه ولهذا جعل الأمر في المهاجمة أمر خلق لا أمر سياسة؛ وأخذ يندد بضم تكساس على رغمها ويستنكر ذلك الفعل على الأخص أن كان صدوره من دولة تدعو إلى الحرية وتباهى العالم بأنها أرض الحرية
وكان مما جاء في ذلك الخطاب قوله: (إن من حق أية أمة في أية جهة إذا أحست في نفسها الميل واستثمرت القوة أن تثور في وجه الحكومة القائمة وتعصف بها، ثم تقيم بعد ذلك من الحكومات ما يكون أكثر ملاءمة لها). وإنا لنراه بذلك يجعل للثورات صفة شرعية، كما إننا نفهم من هذا المبدأ مبدأ آخر جاء ضمنه ألا وهو مبدأ سلطة الأمة ووجودها في أساس كل سلطة!
تلك هي خطبة لنكولن التي احتفل لها وافتتح بها عمله في المؤتمر؛ تراها وإن لم تصب بموضوعها موضع العطف من نفوس أعضاء المؤتمر، قد رفعت ذلك المحامي في أعين رجال السياسة، وعلم من لم يكن يعلم منهم مقدار ما أوتيه ابن الأحراج من قوة المبادهة ومتانة الحجة وفصاحة اللسان، ومقدار ما رزق من قوة الجنان ويقظة الوجدان، ورأوا فيه إلى جانب القصاص الذي لا يبارى، الخطيب الذي يعرف كيف يسحر السامعين وإن كانوا عن آرائه معرضين.!
وكم للتاريخ من مواقف تدعو إلى العجب! فهذا لنكولن اليوم في المؤتمر يندد بالحرب، وقد تعاظمه سفك الدماء وإزهاق الأنفس؛ وهذا لنكولن يقرر حق الشعوب في اختيار ما ترضى من الحكومات. . . ولسوف يتخذ أهل الجنوب في غد من أقواله حجة عليه؛ يوم يهمون بالانسلاخ من الاتحاد وهو يأبى عليهم ما يبتغون، ويعمد إلى الحرب فيصليهم ناراً حامية ويسفك الدماء ويزهق الأرواح حتى يكرههم على الاتحاد وهم صاغرون!
وتهيأت له الأسباب ليسير في البلاد فيزداد بالناس اتصاله ويستزيد منهم أعواناً له ومحبين. فلقد انتهت وهو في المؤتمر مدة الرئيس القائم أخذت البلاد تنتخب رئيساً جديداً؛ وكان حزب الهوجز الذي كان ابراهام من أفراده قد رشح للرياسة أحد زعمائه ويدعى تيلور. وهل نسى إبراهام تيلور وقد كان رئيسه في الحرب ضد الصقر الأسود؟ على أنه على الرغم من محبته لتيلور يأسف أن يراه ممن يتملكون العبيد على نمط أهل الجنوب. . . ولكن لا ضير الآن فهو ممن لا يريدون أن تزداد ولايات العبيد، كما أنه اقل من منافسة من الحزب الديمقراطي تشيعاً لمبدأ اعتناقه العبيد واضعف منه استمساكا به. . .
اخذ لنكولن يجوب البلاد شرقاً وغرباً ويخطب في الناس مؤيداً رجل حزبه؛ فكان إذا قام في جماعة لم يروه من قبل جذب إليه الأنظار بطول قامته وغرابة ملامحه، فإذا أطلق العنان لكلامه سرت في الجموع منه روح عجيبة لا يدرون كنهها وإن أدركوا فعلها. . . ورأوا عينيه تلتمعان حتى ما يعرف الناس أنهم رأوا مثلهما قبل، وأبصروا في ملامحه معاني ابلغ من كل كلام، واعمق أثراً من كل حجة. . . والخطيب ينتقل بهم من مثل إلى مثل ومن حكاية إلى حكاية؛ ثم يرسل الجملة بين حين وحين، فإذا هم يضحكون ملء نفوسهم؛ وهو في حماسته يشمر ردني حلته ويفعل مثل ذلك بقميصه. ولقد يحل رباط عنقه
أو ينتزعه من موضعه كأنه مقبل على مبارزة! ولا يكاد يفرغ من خطابه حتى يهرع الناس إليه متدافعين بالمناكب لكي يزدادوا نظرا إليه من كثب. . . وظفر تيلور بالرياسة، وعرف لإبراهام يده وحسن صنيعه. . .
وكان مما صادفه في تجواله هذا أن استمع في بوستن إلى خطبة من أقوى الخطب التي وجهت ضد امتلاك العبيد، وقد ألقاها رجل من كبار الداعين إلى التحرير، هو سيوارد ذلك الذي سيكون له في غد شأن في هذا الأمر مع لنكولن حين يهم بتأدية رسالته. استمع لنكولن إلى الخطبة في بوستن واستشعرتها نفسه، وكان مما عقب به عليها قوله:(أعلن أنك محق. لقد آن أن نطرق معضلة العبيد وان نلقي إليها من اهتمامنا بأكثر مما كنا نفعل من قبل)
وفي عودته إلى وشنجطون أخذ يعضد حركة أخرى كانت موجهة ضد العبيد على يد داعية آخر من دعاة التحرير، هو ولت الذي كان يدعو بكل قواه إلى منع انتشار العبيد في الأراضي التي تستخلص من المكسيك؛ وفي المؤتمر تقدم لنكولن يطلب القضاء على العبودية في ولاية كولومبيا وفي عاصمة البلاد، وكان في مقترحه عادلا يجمع إلى العدالة الكياسة وبعد النظر، ولكن ذلك المقترح وا أسفاه قد حيل بينه وبين أن يكتسب الصفة الشرعية إذ عمل رجال المؤتمر على تأجيله مخافة أن يثير من الجدل ما لا يحبون، حتى أوفى دور الانعقاد على الانتهاء فاعتذروا من عدم النظر فيه على الرغم مما بذله لنكولن من جهود وما أنفقه من حيلة. . .
وانقضت أيام ذلك المؤتمر، وهو المؤتمر الثلاثون في تاريخ الولايات وعاد لنكولن وهو يخطو إلى الأربعين ليعيش من جديد في سبرنجفيلد. . .
عاد ابراهام إلى سبرنجفيلد وهو يحس بينه وبين نفسه مرارة الهزيمة في السياسة، فلقد خذله رجال المؤتمر في مقترحه كما رأينا وأعرضوا عن خطبته التي وجهها ضد الحرب في تكساس، تلك الخطبة التي لامه عليها الكثيرون من رجال حزبه حتى هرندن نفسه احب أصحابه إليه
لذلك انصرف عن السياسة وعاد من جديد إلى المحاماة؛ بيد أن رجال حزبه يزينون له أن يطلب منصباً رسمياً ويشيرون إلى حقه في ذلك وهو من جانبه لا يحجم فيطلب إلى
الرئيس أن يهيئ له منصباً ثم يزيد فيطلب منصباً معينا لا يلبث أن ينافسه في السعي إليه آخرون حتى يفلت من يده، ويريد الرئيس أن يجامله فيعرض عليه منصباً غيره؛ ولكن زوجه تقف بينه وبين هذا المنصب، وتصر على موقفها معلنة أنها لن تقبل لزوجها عملا يعود بهما إلى الأدغال حيث كان مقر ذلك العمل واحدا من تلك الأصقاع الداخلية؛ ويرفض ابراهام المنصب آخر الأمر. وهكذا نرى زوجه للمرة الثانية حريصة على أن توليه القبلة التي لا ترضى له غيرها قبلة. . .
وكانت المحاماة وظيفته الطبيعية إذا فرغ من السياسة إلى حين؛ فما باله يريد أن يتنكب طريقه ويستبدل بعمله عملا آخر لا يتصل بطبعه ولا يستقم مع خلفه؟ ما باله يريد أن يحيد عن الغاية وقد قطع في سيره إليها شوطاً ليس باليسير؟ ترى ماذا كان يحدث لو أنه كان غير وجهته واخذ له غاية غير غايته؟ ولكن الدهر يضمن به ويدخره لغد ويأبى أن يغير تاريخ قومه بطمس رسالته. . .
عاد من السياسة إلى المحاماة عودة ظن الناس معها أنه يقرب السياسة بعد ذلك؛ وكان قد ترك العمل كله لصديقه هرندن؛ وهو اليوم في المحاماة أعظم خبرة من ذي قبل وأكثر معرفة بأحوال الناس وشئون حياتهم
وكان من أبرز صفاته سرعة أُلفته للمواقف الجديدة في حياته، وترك مواضيها حتى تبعثها الأسباب. لذلك أقبل على المحاماة إقبالا لا يظن امرؤ معه أن قد كانت له صلة بمهنة سواها، وكأن العمل في السياسة لم يكن إلا عارضاً مر وانقضى فليس إليه رجعة. . . هذا والسياسة مستكنة في نفسه ومعضلة العبيد في أعماق وجدانه تنتظر أول صيحة لتبرز من جديد وهي أعظم قوة واشد وضوحا واكثر اقتراباً من الغاية. . .
وضاق ابراهام ذرعا بما تثيره زوجه من عوامل الشقاق فهي ما تفتأ تريه التبرم والسخط وتأخذ بألوان من العنف يوشك أن ينفذ لها صبره ويطيش حلمه، لولا أنه يعود بالسبب على مزاجها الحاد؛ وإن كان ليسأل نفسه بين حين وحين أهي مغضبة عليه حانقة لما أصاب من فشل في السياسة، فما تزال تتعلق بأوهى الأسباب لمجادلته ومغاضبته وقد صغر في عينها وهان لديها شأنه؟. . . ولكنه يحس من زوجه أنها على شغفها بتعنيفه تضمر له المحبة والإعجاب كعهده بها فيطمئن قلبه ويرد الأمر في هذا الشقاق إلى ما يعرف من طباعها
ولكن الشقاق متصلة حلقاته وإن وهت دواعيه؛ والمدينة أضيق في عينه اليوم منها قبل، وهو ابن الإحراج والغابات والبقاع المترامية؛ وهو الذي لم يألف الاستقرار في موطن. لذلك عود على أن يعمل في المحاكم المتجولة فيقضى اشهراً بعيدا عن المدينة وعن بيته، يتبع المحكمة أينما سارت، إذ كانت المحاكم يومئذ في تلك الأصقاع هي التي تذهب إلى الناس!
وبرزت في المحاماة مواهبه من جديد وظهرت خلاله، وأخذ ينشر مبادئه بالعمل لا بالقول. جعل الحق رائده والصدق شعاره كما جعل مرد كل شئ عنده إلى معاني الإنسانية والفضيلة لا إلى أصول القانون وملابساته. وليس معنى ذلك أنه أهمل جانب القانون كلا إنما كان يهمل جانب القانون إذا أدت ملابساته إلى التعمية وإظهار الباطل في زائف من ثياب الحق؛ ولذلك جعل الفضيلة فوق القانون، والصدق فوق المهارة في الحوار واللباقة في المجادلة. وكان يحث أصدقاءه من المحامين ومحبيه من الناشئين على ألا يفرطوا في جنب الفضيلة قائلا في صراحة وفى بساطة: أن هناك رأيا شائعاً في الناس مؤداه أن المحامي رجل يتهاون عادة في حق الأمانة؛ ولذلك فلا بد من أن يتمسك المحامي بالأمانة فيما صغر أو كبر من الأمور لكي يدرأ تلك التهمة الشنعاء عنه وعن طائفته. ومن عباراته الشهيرة في ذلك قوله: (يجب أن تثبت في المهنة روح الفضيلة لكي تطرد تلك الروح الأدنين) وقوله ينصح أحد الناشئين: (أعمل على أن تكون محامياً أميناً. فإذا لم تستطيع أن تكون أميناً وأنت محام فخير لك أن تكون أميناً وألا تكون محامياً)
أما عن مسلكه في معاملة الناس فظل هو هو الرجل المتواضع القنوع. كان يرضى بالقليل من الأجر إذ كان يعتبر طلب الأجر الباهظ من اكبر آثام المهنة. ويذكر أنه دافع مرة عن حق رجل في مبلغ ستمائة دولار ولم يتقاضه أجراً على ذلك سوى ثلاثة ونصف! ويذكر أيضا أنه لم يتفق على الأجر مرة. فلما ربح القضية أرسل إليه موكلوه خمسة وعشرين دولاراً، فرد إليهم عشرة منها قائلاً: أن ما بقى هو ما يستحقه!
وكان أينما حل يأمر القلوب بسجاياه، فهو لا يتكلف ما ليس له. ولذلك كان يخالط الناس كأنه أحدهم، يضاحكهم ويلاطفهم ويسرى عنهم بأقاصيصه، والناس يفطنون إلى عذوبة روحه وطيب قلبه ويقظة وجداته، فيفرحون أن عرفوه ويحرصون اشد الحرص على
مودته. ولا فرق عنده بين غنيهم وفقيرهم أو بين كبيرهم وصغيرهم، حتى الصبية كان يغمرهم بعطفه فيذهب أحيانا إلى جماعاتهم يتفرج على ألعابهم لحظة، ثم إذا هو بينهم طفل كبير. ولا عجب فقد كان قلبه الكبير مليئاً بمعاني الإنسانية في نسقها الأعلى. وتلك لعمري هي العظمة الحق التي تعمر قلوب بعض البشر فتسمو بهم عن بشريهم وهم بين الناس يعيشون كما يعيشون
وكان في لمحكمة كما كان في خارجها الرجل المتواضع العف يدخل وجيوبه منتفخة بأوراقه، وقبعته ثقيلة بما حوت، لا يعرف أبهة المظهر وقد سلم له الجوهر، ولا يدرى ما التطاول والتعاظم وقد عظم حتى صارت العظمة هي كما يفعل!
كان الصدق في الدفاع أول وسائله في الإقناع. وقد يتبين له أثناء دفاعه أن الحق قد ألبس عليه بالباطل فيترك القضية لأنه لا يستطيع أن يلائم بينها وبين طبعه، أو أن يرفعها إلى مستوى حماسته وصدق شعوره. على أنه ما كان ليفعل ذلك لو أنه استطاع. وكان المنطق السليم والإنصاف بعد ذلك أدواته ووسائله؛ يضاف إليهما الدراسة الدقيقة لما ينهض له، والإحاطة بجميع تفاصيله. هذا إلى ما امتاز به من صفاء الذهن صفاء يساعده على تبين الطريق إلى غايته في يسر ووضوح، حتى ما يلتوي عليه امرأ ويغرب عن ذهنه حادث
وعرف عنه فيما عرف الأناة حتى لقد كانت تغضب منه زوجه وترميه بالبلادة. وكثيراً ما تبرم صديقه هرندن وتململ لأناته. فانظر إلى إبراهام يسأله أن يأتيه بمبراة وسكين فإذا أحضرهما قال له: أن سلاح تلك المبراة أقصر وأحد ولعلك تظنها بذلك انفع من السكين إذ هي اسرع، ولكن أيتهما أبعد من الأخرى غوراً إذا نفذتا في جسم؟ ويقتنع صاحبه بعدها أن التأني في الأمور أبعد في سير الأمور غوراً، ولا يشتكي بعد من أنانه ويطيق معه صبراً!
وكان مما يهابه منه المحامون تهكمه، فهو يعمد في دفاعه أحياناً إلى التهكم اللاذع فيزلزل به قدمي خصمه حتى ليذهل عن رشده بين ما ينبعث من جوانب القاعة من الضحكات. . .
وكان إذا جاءه أحد الناس يطلب إليه المدافعة عنه استفهمه حتى يستقصي خبره، وهو على طيبة قلبه يقرأ في وجه محدثه إمارات الكذب إذا هم أن يكذب، فما يزال به حتى يرده إلى الصدق في مهارة دون أن يسيئه في شعوره! فهو وإن لم يك من الماكرين لا يقدر أحد أن يمكر به. فإذا جاء دور الأجر طلب إلى موكله أن يدفع ما يستطيع. فإن كان موكله مملقاً
فكثيراً ما كان يكتفي من الأجر بالثواب وبالجميل يغرسه في قلبه. ذلك ما حدث حين قام يدافع عن ابن متحديه القديم ارمسترنج وقد اتهم في جناية فانه لم يتقاضه على تبرئته أجراً إلا المودة
(يتبع)
الخفيف
تطور الحركة الأدبية في فرنسا الحديثة
فرديناند برونتيير
1894 -
1906
للأستاذ خليل هنداوي
- 2 -
نقده التطوري
كان (برونتيير) في نقده معارضاً اشد المعارضة للنقد المنفعل وزعيمه (جول لميتر). والنقد الشكي وصاحبه (أناطول فرانس)، كان يؤمن بأن في خارج عوالمنا حقيقة معهودة وأن ليس حقاً أن تكون الآراء مختلفة وأنواع المذاهب عميقة التباين إلى غير حد. إذ في الإمكان أن تعرف - وبمقياس خاص - أن نحلل فنحد تاريخ أثر ما، وأن نفسر أخلاق كاتبه، وندرس تاريخ بيئته كما صنع سانت بوف وأن نعمل خيراً مما عملوا. يمكننا هذا ويجب أن نناقشه. أما النقاد المنفعلون فيعملون على ألا يبدوا إلا انفعالاتهم دون أن يجزموا بها. على أن هنالك قواعد كثيرة مرهقة دقيقة تخص الأدب والفن، تجبرنا على أن نناقش الآثار الأدبية ونعمل على تصنيفها وبحسب هذه القواعد شن (برونتيير) الغارة على الواقعية والرمزية، وهنالك شئ غير هذا يتعلق بالقواعد الفنية
فنظرية الفن من اجل الفن نظرية خطرة يجب ألا تقفنا مجردين إزاء الخير والشر في الأخلاق، إن أرادوا أو لم يريدوا، فإن أثراً ما قد يثير تأثيراً حسناً أو سيئاً. ومن واجبهم أن يقضوا عليه مهما كانت بواعث المؤلف إذا كان تأثيره تأثيراً خطراً. والناقد في نظريته هذه يوافق تلميذ بول بورجيه.
وقد أراد - برونتيير - أن يعطي نقده صفه علمية، وقد زعم أنه اكتشف قانوناً يحيط بالأنواع الأدبية ويصنفها، يقول: إن الأنواع الأدبية مهما كانت البواعث عليها من ضرورة أو حاجة أو بيئة، فهي مثل الأنواع الحية للأحياء التي درسها (داروين). (كل شئ يتطور. لا شيء يبقى ساكناً. كذلك الأنواع الأدبية تتطور، تمشي حيناً إلى صلاح وحيناً إلى فساد، وقد درس الشعر العاطفي والقصصي وبنى نقده على مذهبه التطوري. وإذا لم يبقى
لبرونتيير شيء من هذا المنطق العلمي فإن تطوراته جاءت تحتوى تنظيما للتغيرات الأدبية، تصنف الآثار الأدبية كما يصنف علم الطبيعة أنواع الأحياء. وكان لنقده تأثير كبير في الأندية الأدبية. ولم يكن هذا النقد يعتمد على الأحوال العلمية فحسب، بل كان يرجع إلى التاريخ وإلى معرفة واسعة للآثار والنصوص. وذلك ما كان مجهولاً قبله، ولقد كان قبل كونه نقاراً محارباً نقاداً قاسياً ذكياً. فهو وحده أعلى شأن الكتاب المهملين وشأن كل الحركات الفكرية المهجورة لأنها لم تأت في أثر مذكور، أو قول مأثور. وكان ذا موهبة خطابية يعلمها من كان يشهد محاضراته، وتشهد عليها تلك الأفواج الكثيرة التي كانت تسحرها لهجته ويفتنها بيانه
أدب الحياة
إن المدرسة الرمزية كالمدرسة البرناسية تعمل على الانطلاق من حياة الجماعات، لا يؤلف أصحابها إلا لأنفسهم خاصة. فهم ينظمون شعراً لفئة خاصة، وإذا هم ترنموا بالحياة لم يترنموا بالحياة العامة التي يظهر فيها القطيع الإنساني قطيعاً بائساً يمشى على إيقاع القوات الحاكمة. والعودة إلى الأدب الاجتماعي ومحو التشاؤم (البرناسي) قد ولدا مدارس وآثار تريد أن تترنم بالحياة وتملأها شدواً وحناناً وجمالاً. وقد أسس (بوهيلي ومونتفورو موريس) مذهباً بعيد للإنسانية جمالها البطولي، وينظم الروابط التي تصلها بالوجود، وينير شعاعها القوي في الطبيعة. وهذا الشاعر (فرناند جميك) يذود عن الإنسانية التي تحتل مكانها في الوجود بواسطة الإنسان. وبعد هذا فإن الوحدة التي أعلنها (جول رومان) والتي تسعى إلى التعبير بصورة رمزية لا عن نفس ولا عن أنفس، ولكن عن النفس الإنسانية عامة التي تبدو حيناً متحدة وحيناً منقسمة. هي النفس الحقيقية العميقة من النفوس البشرية؛ ومن أظهر آثاره في هذا المعنى (الجيش في المدينة)
ومثال ذلك من الشعراء مقاطيع (أميل فارهارم) الشاعر البلجيكي. ولد في (سانت راماند) بالقرب من (أنفرس) سنة 1855. وقد درس الحقوق في أول عهده ثم وقف حياته كلها على الشعر، ودرس خلال ذلك أسرار النفوس الخفية. ومات سنة 1916
عاش (فارهارم) وتثقف في بلد هادئ، وفي قلب أسرة متدينة غنية بالعافية مطمئنة القلب. ونشأ هو درّيساً مرحاً وإنساناً يجنح إلى الطرب. وبعد أن قل ميله إلى المدرسة الكلاسيكية
ونزوعه إلى لامرتين وهو جو أخذ ينظم شعراً واقعياً حساساً. ولكنه استنفذ قواه، أو أن قواه كانت اضعف مما كان يظن، فأصابه بلاء في صحته، حتى أصبحت أعصابه المتوترة لا تستطيع أن تحتمل أية ضجة، لا وقع لحن ولا وطء قدم. وهذا بلاء تولد عن بلاء نفسي. فلقد كانت طفولته مشحونة بالأساطير، طافحة بالتقوى والاعترافات والصلوات! ولكنه شك فجأة وجرب باطلاً بأن يستعيد إيمانه، فكان أن فرّ الإيمان وأقبل الألم
فأخذ يجد في السياحة في أطراف البلاد طالباً التعزية لنفسه فكتب ونظم. . . وفى هذه الفترة أصاب وطنه أزمات اجتماعية عنيفة حتى أقوت القرى من سكانها، وعفت المدن بمن استهوتهم بألوانها. ولكن (فارهارم) عاوده الشفاء رويداً رويداً، فعاد يجد الحب والإيمان. أما الحب فلم يتكلم عنه إلا بمقاطيع محجبة ولكنه يبدي إيمانه به. فالمدن قد فتحت اذرعها إلى القرى لتخليها من أهلها ولكنها - برغم عيوبها وشرورها - قد أوجدت العزم والقوة. وإنها لقوة مشوشة، ولكنها جميلة مخصبة لأن البرية المنجذبة أخذت تموت. فلتترنم الآن بالقوة التي تحيي الموات. هذه هي ألحان الحياة الحاضرة. . .
ولكن شفاءه لم يجعل منه إنساناً صافى الشعور. فقد ظل على ارتعاشه وهيامه الباطل. وقد علمنا أن له - منذ طفولته - إحساساً عصبياً عنيفاً، وبعض الذكريات من هذه الطفولة قد ولدت فيه أنواعاً من حب الأسرار ناهيك بطغيان المخيلة عليه. وقد جرى خلف مدارس أدبية حديثة، فاستمد من شوبنهاور ومن بودلير ومن فرلين ومن مالارمي. فكان هو ومعه فئة من بني قومه أسسوا الفن الحديث في بلجيكا الحديثة، وكانوا ينشرونه في المجلات الرمزية. وهذه الرمزية كان مزاج شاعرنا يميل إليها
هنالك صور مفاجئة تتولد من نفسه في ظلمة نفسه بصيحة من نفسه، أو حلم أو حالة مجهولة، ومنها تتولد صور أخرى تحف بها فتكون قصيدة رمزية، لأنها ليست مظهراً عددياً للتأمل. ولكنها نوع من هذا الهيام الباطني حيث كل خيال يعكس حالة من حالات النفس، وكل نغمة تمثل فكرة موزونة
وهكذا قدر لشاعرنا أن يعبر في ديوانه (القرى الباطلة) و (البراري الهائمة) عما لا يقدر عليه شاعر آخر من معاني تفر من الوضوح ومن التعبير الواضح. فكان بهذا شاعر المطر والريح والسكون وكآبة الهجر والعزلة. وكان بهذا شاعر الكآبة المنجذبة الشاردة للأشياء.
ولكن سرعان ما شفي من هذه الحالة النفسية فلم يعد يميل إلا إلى الطرب والنور. وبدلاً من تلك المطاحن السوداء والمآسي وحفاري القبور وكل ما يبعث على الأسى اخذ ينظر إلى السنابل المتحركة والمطاحن الفرحة ويسمع الصراصير ويفهم كل أشكال النور والخصب وفرح الحياة. ألم يكن يجد في كل حالة شقاء له وكمداً دون أن يقدر على الفرار من هذا الكمد! كان يحيى في عالم صاخب، ومذ عاد إليه إيمانه الاجتماعي وتفاؤله نشأ عنده ميل إلى كل ما يرن ويدوي، وإلى كل ما لا يسقط كالسهم في النور. وإنما ينساح كالجدول المناسب في الغابة. فتش فوجد الشعر العاطفي هو الذي يقدر أن يعبر عن هذا الشعر للحياة الهامسة المضطربة، هذا الشعر الخطابي حيث تدور الفصاحة فيه وتسيطر عليه. وأطياف من الصور القاسية التي تنتهي بالذوبان في شبه وحدة متحركة في الإيقاع الناعم القاسي لحياة لا تجري على نظاماً متبوع!
خليل هنداوى
رسالة الشعر
الباحث
للأستاذ عبد الرحمن شكري
المقدمة
قد صور كثير من المفكرين والشعراء حياة الإنسان عصراً بعد عصر كأنها حياة إنسان واحد أو كأنها بحث متصل دهراً بعد دهر، وهذا البحث هو ما يزكون به حياة الإنسان وما يعذرون به شقاءها وآلامها ويأملون آمالاً كباراً من وراء تقلب الإنسانية في بحث الحياة. ومن هذه الآمال رجاؤهم أن يعم الشعور بوحدة الإنسانية على اختلاف الأجناس والشعوب والمطامع والضرورات والمطالب والنزعات النفسية، ويأملون إذا عم هذا الشعور بوحدة الإنسانية أن يقلل الإحساس العام بوحدتها من البغضاء والشرور والحروب والآلام والجشع، وأن يؤدي إلى التعاون على الحياة بدل التقاتل عليها. وهذا البحث الإنساني المستفيض دهراً بعد دهر للحياة وما يدعوا إليه من الإحساس بكل شعور وكل حالة من الحالات كي يعم مبدأ وحدة الإنسانية هو الذي دعا إلى تخيل إنسان يعيش دهراً بعد دهر في كل حال وفي كل مكان حتى يملأ العطف قلبه ويرى أن نشدان الحق غاية الحياة، وعلى فرض أن هذا الأمل الكبير في أن يعم الإحساس بوحدة الإنسانية حتى تنمحي شرور الجشع في التقاتل عليها لن يتحقق فأن بقاءه كمثل أعلى مما يخالط مرارة الحياة بحلاوة منه
وعلى فرض أن المثل الأعلى لا يكون في تحقيق وحدة الإنسانية؛ ففي القصيدة مثل آخر وهو أن نشدان الحق هو الشعلة المقدسة التي ينبغي أن يرعاها الفرد، وأن ترعاها الإنسانية عامة
القصيدة
بينما كنتُ سائراً لاح شيخ
…
ذو سكون ونظرة هوجاء
ويكاد الضياء ينفذ منه
…
فهو بين الأنام صنْوُ الهواء
باحث في السماء يطلب شيئاً
…
غاب عن عين غيره في السماء
وهو فينا جزء من الزمن الأ
…
ول ذكرى لسالف الآباء
وجهه رائع كوجه أبي الهو
…
ل رأى ما مضى على الغبراء
قلت يا شيخ ما دهاك وما شأ
…
نك بين الأموات والأحياء
قال من يدرس الحياة طويلاً
…
لَخَلِيقٌ بضَحْكةِ الجهلاء
كنت والكون في الطفولة أغدو
…
وشباب الأيام في الغُلواء
وصرعت المنون حتى لأنسا
…
نِيَ طولُ الحياةِ حُكْمَ الفناء
دُوَلٌ قد أتت وأخرى تَقَضَّتْ
…
وبقائي بين الأنام بقائي
وشهدتُ الصروف من قبل عادٍ
…
والمنايا تَجُرٌّ ذيل العَفَاء
أنْشُدُ الحقَّ لست ألْوِى إلى البا
…
طل فالحق يُطَّبى بالرجاء
عشت دهري بالبحث والأمل الحل
…
وولولاه لم أَفُرْ بالنجاء
من سهام المنون إنَّ سهام ال
…
موت فينا كثيرة الإِصماء
هِمْتُ يوماً من قريتي أنشد الح
…
ق لعلي أراه في الدهماء
عِفْتُ بيتي وبلدتي وهجرت ال
…
أهل أبغي ريَّ النفوس الظِماء
ظمأ النفس مثله ظمأ الجس
…
م وداء النفوس كالأدواء
زعم الناس بي الجنونَ وخالوا
…
طالب الحق أخرق الأحياء
كلما لاح شامخ قلت إن ال
…
حق يغدو مِنْ خَلْفِهِ بإزائي
ورَعَيْتُ الظلماء عَلِّى أراه
…
خارجاً من سرائر الظلماء
وجزعت الصحراء أرجو لقاء
…
منه يُرجَى في وحدة الصحراء
ولكم غُصْتُ في العُّبَابِ عليه
…
إنما الدر منه في الأحشاء
وأَثَرْتُ الأصداء أبغي جوابا
…
لسؤالي في منطق الأصداء
وسألت الرياح عنه فَصُمَّتْ
…
عن دعائي فلا تُجِيبُ دعائي
وسألت السماء تبرز وجها
…
منه يَبْهَى في الأُفق جَمَّ الضياء
وأعارَتْنِيَ الطيورُ جناحا
…
أرتجي منه لقية في الفضاء
طالما خاب ناشد الحق لك
…
ن رجائي كما عهدتُ رجائي
قد يجيء الصباح منه بوجه
…
طالما كان مُضْمَراً في الخفاء
أو تُبِينُ الأحلام منه ضياءً
…
في سماء الأحلام مثل ذُكاء
قد صحبت الأنام طُرًّا كأَني
…
بينهم في تَنَوُّنِ الحرباء
كان لي نوح في السفينة خِدْناً
…
فنجونَا من مُهْلِكِ الأَنْوَاءِ
وحباني أشور في نَيْنَوَى العُظْمَ
…
ي بِسَيْبٍ من جوده وثناء
ورآني فرعون أُقْدِمُ في الجي
…
ش مُشِيحاً ورافعاً للواء
وتَجَلَّى آمون في معبد الأق
…
صر يقضي في شعبه بالقضاء
ولكم جُلْتُ في أثينا وأفلا
…
طون يتلو فصاحة الحكماء
ورأيت الرومان في رومة العُظْ
…
مَى عظام الأعمال والأهواء
وصحبت المسيح في القُدْسِ دهراً
…
وحباني من روحه بالصفاء
وعبدت النيران قِدْماً ولكن
…
قد سما بي الإِيمان للسمحاء
وحمدت النعيم والترفَ الوا
…
فر قِدْماً في صحبة الخلفاء
وحَسَوْتُ النعيم والبؤس حتى
…
لم أَدَعْ كأس لذة أو شقاء
وصحبت العبيد في ظُلُمَاتِ الع
…
يش حتى جُنِنْتُ بالضَّرَّاء
وأَلِمْتُ الآلام طُرَّا وَلُقِّي
…
تُ عذاباً أُتيح للتعساء
وصحبت الوحوش في البيد حتى
…
أَنِسَتْ بي الوحوش في البيداء
وأرقت الدماء في الحرب حتى
…
جُنَّ قلبي من نشوة الهيجاء
لم أدع خَطْرَةً أُتِيحَتْ ولا مع
…
نى ولا فكرة من الآراء
أو شعورا أو هاجسا أو طموحا
…
لا ولا مَشْهِداً تركتُ لرائي
أنشد الحق بالتقلب في العي
…
ش وأبغي سريرة الأشياء
أنت أيضاً شهدت هذا جميعا
…
غير أن لا تُعَدَّ في الفطناء
قال ما قال ثم غاب عن العين
…
كما يخفت الصَّدَى في الهواء
عبد الرحمن شكري
في سكون الليل
للأستاذ إبراهيم العريض
غفا الكَونُ. . إلا ما يكونُ من الصبا
…
إذا حرّكت مهدَ الزهورِ النواعس
تخالينَها - يا ميُّ - طُهراً مجسَّما
…
على كل غضنٍ في الخميلة مائس
ويحبسُ من أنفاسِها الليلُ ريثما
…
يخالطُها بردُ الندى المتقارس
فُترسِل طيباً حولها في دوائرٍ
…
تدورُ إلى أن يغمرَ الطيبُ هاجسي
وقد سكنت حتى المياهُ كأنها
…
هنالكِ تُصغي في الظلام لهامس
يصقَلها مرُّ النسيم فتنجلي
…
بها صورُ الأشياء شبهّ رواكس
وينظرُ في مرآتِها النجمُ حائراً
…
فليس يرى إلا شرارةَ قابس
أنزعمُ أن اللهَ أبدعَ هذِه
…
لنقضِيَ ريحانَ الصِبا في المجالس
ولا طيرَ إلا وهوَ طاوٍ جناحَه
…
على الرأسِ حتى المنكبين كبائس
تخالينَه من هَيئة الشكل ناعساً
…
ولكنهُ - يا ميُّ - ليسَ بناعس
فإن لذكرى كل لحنٍ شدا به
…
سحابةَ يومٍ هزَّةً في المغالس
تؤرّقُه تلك الهواجسُ موهِناً
…
فيشفِق من جرّاء تلك الهواجس
وكم دوحة في الروض حالَ سوادُها
…
بأنوارِ بدرٍ شعَّ بين المغارس
فألبسَها من نسجِه بعد عُريها
…
وشاحاً لجينيَّ السنا كالعرائس
وتحتَ شُعاع البدرِ أسفرتِ المنى
…
وعانيتُها تحنو حنوَّ الأوانس
تعالى هُنا نخلُدْ من العُمرِ ساعةً
…
يداً بيدٍ في نجوةٍ وتهامس
إبراهيم العريض
القصص
شارلس لام يروي عن شاكسبير
3 -
قصة الشتاء
بقلم الأستاذ دريني خشبة
تتمة
والتفت الملك إلى فلوريزبل يقول: (مرحباً بك يا ابن اعز الأحباب وأوفى الأصدقاء! لقد فقدت محبة أبيك الذي أهفو إليه وأحن له، وبنفسي ما ألقى من الشوق للقائه! ولكن. . . بحسبي أن أنظر إليك فكأنما أنظر إليه. . . وبحسبي أن انظر إلى الأميرة الجميلة، فكأنما أنظر إلى هرميون!
- ومن هرميون يا مولاي؟
- هرميون! ويلاه عليّ! إنها زوجتي المغفور لها يا بني! لقد ماتت منذ ست عشرة سنة. . . وفقدت كل شئ بموتها! حتى ابنتي الوحيدة التي لا أعلم أين تعيش اليوم إن كانت ما تزال حية! آه يا هرميون! لشد ما تشبهك هذه الأميرة الصغيرة! ولشد ما تنطبق صورتها على صورتك في ذهني المعذب بذكراك! آه يا بُنيتي! أين أنت اليوم لأفتديك بملكي ونفسي!)
ثم انحدرت عبرات من عينِي الملك، فازدحمت الآلام في قلب الراعي، وتأكد أن ابنة الملك هي برديتا الحبيبة التي وجدها في الغابة؛ ثم جعل يستعرض براهينه، فذكر الجواهر التي كانت الواحدة منها تشري له قطيعاً بأكمله، وأيقن أنها لا تكون إلا مما يقتني الملوك. . . ثم ذكر ما هو مكتوب في الورقة فلم يزده إلا ثقة في حقيقة ما حدس. . .
وتقدم الراعي إلى الملك واستأذنه في الحديث فأذن له، فأخذ يسرد قصة برديتا كيف تركها رجل في ظل دوحة على الشاطئ البويهيمي، وكيف قتل الدب هذا الرجل واغتذى به، ثم كيف سمع الطفلة تبكي وتئن من البرد والجوع، وما كان من ذهابه بها إلى زوجته، وما وجده في ثيابها من الجواهر واللآلئ وغالي الحلي، وما وجده مكتوباً في ورقة مثبتة في صدرها بدبوس
ولم يكد الشاعر يبرز الورقة وما تبقى معه من الجواهر، ولم يكد الملك ينظر إلى الجواهر في يديه، حتى اهرع إلى برديتا وهو يصيح:(ابنتي! ابنتي! تعالي يا برديتا! تعالي إلى صدر أبيك الشقي!) ثم ضمها إلى صدره، وراح ينشج نشيجاً مؤلماً ويذري عبراته الحرار على صدر الفتاة المشدوهة، التي تركت نفسها حائرة مستريبة في حضن الملك، وهي لا تفهم من هذا المشهد المؤثر شيئاً مطلقاً. . .
إذن قد عرف الملك جواهره التي أهداها بيده إلى هرميون ليلة زفافها! فهذه آية لا يسمو إليها الشك. . .
وكانت بولينا - زوجة أنتيجونوس حاضرة - وهي التي حملت برديتا من السجن لتلقي بها بين يدي الملك - فلما أخذت الورقة من يد الراعي لم تشك في أنها هي نفس الورقة التي كتبها زوجها وثبتها بيده في ثوب الطفلة. . . فكانت هذه آية أخرى. وبالرغم مما علمت بولينا من أمر زوجها، وما صنع به الدب، فإنها فرحت بعودة برديتا فرحاً أنساها أشجانها
وآية ثالثة. . . فقد ذكر الملك الشطر الأخير من نبوءة دلفي (سيعيش الملك بلا وارث إن لم تعد إليه طفلته المفقودة!) فأيقن أنها هي، وأن أبوللو لم يكذب!
وفي هذه الثورة الهائلة من الوجد الجارف، والذكريات المؤلمة، تقدمت بولينا إلى الملك ببشرى رائعة!
ذلك أنها كانت قد حرست على تخليد ذكرى هرميون، فكلفت المثال الصناع الشهير جوليو رومانو بنحت تمثال للملكة المغفور لها، فجاء التمثال طبقاً لهرميون الخالدة، ثم توسلت إلى الملك أن يتفضل فيذهب إلى منزلها، ليرى أن تمثال هرميون هو صورة حقيقية لبرديتا!
وذهب الجميع إلى بيت بولينا. . . وأزاحت بولينا الستار فبدا التمثال الرائع. . . ووقف الملك مسبوهاً أمامه يتأمله. . .
وذكر الملك أن هرميون تبدو في التمثال اكبر من سنها الحقيقية، فلفتته بولينا إلى أن المثال قد أضاف إلى عمر هرميون هذه الست عشرة سنة!
ولاحظت بولينا ما انتاب الملك من الحزن، فاستأذنته في إسدال الستار على التمثال. . . وهنا - يدور هذا الحديث الباكي:
- لا. . . لا تستدلي الستار يا بولينا! ليتني مت قبل هذا!! أنظر يا كاميللو؟! ألا ترى إليه
كأنه يتنفس يا صديقي؟! ألا ترى إلى عينيها كأنما تتحركان وترنوان؟!. . . لا تسدلي الستار يا بولينا! إني أحس كأن عشرين سنة تتكلم من فم هذا التمثال! أوه - ها هي ذي الحياة تدب فيه! فيا للناحت الذي يضع الأنفاس في الصخر؟! ليهزأ بي من يهزأ، فلا بد أن أقبل الشفتين الحمراوين!
- مولاي. . . حاشاك يا مولاي. . . إن الزيت ما يزال غضّاً وقد تعلق الحمرة بفمك! فلأسدل الستار، فهذا خير!
- لا. . . ليست هذه السنون العشرون!)
وبينما كان الملك يتكلم، كانت برديتا الحزينة ساجدة أمام التمثال تبكي وتصلي، وتتمتم باسم أمها الميتة
وتوسلت بولينا إلى الملك مرة ثالثة في أن تنزل الستار على التمثال رحمة به. . . (وإلا، فأذن لي يا مولاي أن آمر التمثال فيتحرك ويتكلم، فإني قد عُلمتُ من السحر ما أصنع به هذا!)
وعجب الملك، ثم أذن لها. . . (لأني مستعد أن أرى بعيني وأن اسمع بأذني!)
وهتفت بولينا بأسماء كثيرة، فسمع الواقفون موسيقى عذبة تنسكب في آذانهم وتدب منها في أرواحهم، ثم أشارت إلى التمثال فنزل من فوق قاعدته المرمرية، وخطر نحو الملك، ثم ألقى ذراعيه على عنقه وقبله. . . وضمه في حنان وعطف، وتركه وتوجه نحو برديتا فاحتضنها كذلك، وطبع ألف قبلة على خديها وفمها وجبينها، ثم جعل يتكلم فيقول: آه يا ابنتي! الحمد للآلهة فقد عدت أخيراً إليّ!. . .)
مرحى بولينا مرحى!!!
لم يكن هذا تمثالا كما زعمت بولينا، بل كانت هرميون نفسها! إي والله! كانت هرميون لأنها لم تمت، كما زعمت بولينا للملك، لكي تنقذ الملكة من سجنها السحيق، ومن مأساتها الدامية
وعاشت هرميون مع بولينا طوال هذه السنين مفضلةً ألا تعود إلى الملك الذي تأكد من براءتها، لأنها لم تشأ أن تغفر له ما صنع بابنتها. . . فلما أعلن عن عودة برديتا، دبرت بولينا هذا اللقاء العجيب!
وفزع بوليكسينز لما علم من هرب ولي عهده. وتأكد أن كاميللو أبق به إلى صقلية، فاقتص آثارهما - فيا لمحاسن الصدف؟!
لقد وصل بوليكسينز في هذه اللحظة السعيدة التي التقى فيها الأحباب، واطمأنت عندها القلوب!
وعرف أن برديتا لم تكن راعية شاءٍ ولا رفيقةُ بهم. . . وأنها ابنة صديقه الأعز ملك صقلية، فلم يكن أحب إلى نفسه من أن تكون زوجة ولى عهده.
دريني خشبه
البريد الأدبي
معرض الفن بكلية الحقوق
أقامت لجنة الفنون بكلية الحقوق معرضها الأول السنوي الشامل لمجهودات طلابها وأستاذين من وأساتذتها في التصوير والرسم؛ وقد وقفت هذه اللجنة الفتية المباركة التي يرأسها الدكتور علي أبو هيف أجمل توفيق في بلوغ الغاية التي تنشدها، واستطاعت أن تقدم من الفن الجمل آيات إذا كان هذا يومها فأكرم بغدها
وإن المجموعة الأولى التي قدمها الدكتور أبو هيف ليتجي فيها روح الفنان الموهوب فلقد وفق في إبراز المعاني الخفية في جلاء ووضوح، ولعل الناحية التي يبدو فيها فنه هي الناحية الغريزية في النفس، فإن الناظر ليرى في عيني صاحبه (نشوة الألم) كل المعاني التي تجول في خاطرها فهي تكاد تثب وثوباً من مقلتيها، أما صورة (الندم) فقد كان أولى بها أن تسمى (بالذكرى) أو (الحنين) إذ يتبين الناظر في ضم ذراعي صاحبتها معاني اللهفة الحائرة، أو كأنها تخشى أن تنسرب من نفسها نشوة لحظة فهي تضم ذراعيها في قوة وتشبكهما على صدرها. وتتجلى مقدرة الأستاذ الفنان في تصوير الناحية الجنسية في صورته الفحمية الرائعة (نداء الذكريات) ففيها استلهام لماض معسول، وانتشاء بذكرى عابرة عاطرة، كما استطاع في هذه الصورة نفسها أن يبرز بدائع التكوين الجسدي وروائع الفتنة. وهناك ناحية أخرى لازم التوفيق فيها الدكتور أبا هيف، تلك هي نقوشه الرائعة لصور الطبيعة، فلقد جلى خبايا الحسن والروعة فيها في دقة بالغة في (فجر الربيع) وفي (سكون الصباح وسحر الغروب) وكلها تنطق بأنه فنان ملهم عرف في هذه الصور وغيرها كيف يوفق بين الألوان واعتناق الظلال والأضواء كما يبدو ذلك في (هيكل الحب) وهي صورة غلب فيها خيال الشاعر على إدراك الفنان فجاءت مزيجاً من الاثنين معاً
ويطول بنا الكلام لو وقفنا عند مجموعة كل طالب فنان، وحسبنا أن نشير هنا إلى أن هذه الصور تدل على نبوغ كامن في نفوس لا ينقصها غير التشجيع والأخذ بيدها في هذا الطريق فإنها ولا شك ستبدع وستكون للفن الجميل خير معوان
ويغلب على الطلبة في هذه النواحي الميل لصور الطبيعة، وعلى الأخص مناظر النيل الساحر في مختلف الأحوال، ففيها بذلك روح مصرية جميلة نرجو أن تجد من الحدب ما
يأخذ بها في سبيل التقدم ومعارج الكال. ومن هؤلاء كمال نجيب وزكي واعيش وإحسان والدالي والسمنودي ودسوقي وحتاتة ويحيى سامي وحنفي وحمزة ومدكور والشموتي. وإن ما أبدعته ريشة الفنان الشاب إحسان احمد إبراهيم لما يدا على روح فنية أصيلة يرجى بها منها الخير، والحق أن ما عرضه آية في بابه يستحق عليه التهنئة ويستأهل عليه الثناء، وصوره هذه تشير إلى نبوغ فطري فيه سيؤتي أكله في القريب إذا والى العناية بهذه الناحية. ولقد أجاد وأوفى في الإبداع في (الغروب بالأقصر) فإن تعانق الشمس بالمياه في هذه اللوحة لما يلهم الخاطر شتى المعاني وتتدفق خيالها الأخيلة الرفافة، فهذه الشمس معبودة المصريين القدماء تحنو على المياه التي مدت متنها مركباً ذلولا لفراعنة مصر وكأنها تهمس في أذنها بمعاني الخلود، وتنغم أغنية العصور في مسامع الدهر
كذلك استطاع الأستاذ لوسيان شيرون الأستاذ بكلية الحقوق أن يقدم باقة عطرة من صوره للآثار المصرية والإسلامية وهي على قلتها تنبئ عن مقدرته التامة التصويرية، كما تشير لميله للآثار.
ح. حبشي
ألدوس هوكسلي
إذا عد الثلاثة الأوائل من زعماء الفكر في إنجلترا في العصر الحديث فلا شك أن ألدوس هوكسلي يكون ثالثهم؛ وأولهم - فيما نرى - هو برنردشو. وثانيهم هو هـ. ج ولز - وقد نظم برتراند رسل بهذا الترتيب، وهو على كل حال رابعهم، وله مزاياه التي يتفرد بها بينهم. . . وألدوس هوكسلي هو ابن العلامة الأشهر توماس هوكسلي الذي اهتدى إلى نظرية النشوء قبل أن ينشر داروين كتابه (أصل الأنواع) بثمانية أعوام، والذي لولاه ولولا كتاباته الخالدة لم يكن لداروين هذا الذكر وذاك الخلود. . . وهوكسلي الصغير هو أحد الكتاب الشباب، وإن يكن قد جاوز الأربعين، الذين برزوا إلى الوجود بعد الحرب الكبرى، والذين ثاروا على القديم تلك الثورة الهدامة التي كادت تأتي على أسس الأدب الإنجليزي المحافظ. وقد اشترك مع هوكسلي في هذه الثورة لورنس وجويس وفَلسفَها شو، لكن لورنس وجويس كانا يتخذان في ثورتهما سلاحاً من العاطفة مسنوناً، ومادة من الجنس
يتغلغلان بها إلى أعماق القلوب، وكذلك كان يفعل هافلوك أليس، وما يزال؛ إلا أن أليس عالم يحلل النفس وكأنه في معمل من هذه الحياة، وقصته (أوليز) آية علمه، وقصته الجديدة (رقصة الحياة) آية أخرى. . . وألدوس هوكسلي ثائر من صنف أليس، وعالم مثله، وبينه وبين ولز صداقة حميمة، ويحسبه القارئ من تلاميذ شو، لكنه في الحقيقة تلميذ السويدي العظيم هنريك إبسن، وقد ظل طوال حياته الأدبية متأثراً بطريقته فهو يهدم ولا يبني، ويشخص ولا يصف العلاج. . . ولكن انقلاباً عظيماً حدث فجأة في حياة هذا الأديب الكبير، فقد اصدراً كتاباً جديداً له أسماه الغايات والوسائل & تناول فيه علل الحياة الحاضرة من سياسة وتعليم واقتصاد وأطماع فجعل يبدئ ويعيد في أسبابها، ثم يشرع بعد ذلك في وصف الدواء لكل حالة. وقد فزع هوكسلي في مقدمة كتابه من الحالة المخيفة التي انتهى إليها العالم جملة والأفراد متأثرين بما يرون من أعراض العلل التي تنتاب الأمم في موكبها المضطرب الذي تسير فيه إلى نكبة محققة. . . وقد اعتدل هوكسلي في مؤلفه الجديد فيما يخص الأديان، بل هو يعترف أن التدين سيلعب دوره الخطير في رد العالم إلى التعقل، ويبدو هنا أنه تأثر بالأديب الفيلسوف الفرنسي الكبير برغسون الذي وقف لوالد المؤلف ولداروين بالمرصاد، يرد نظرياتهم المادية، ويقفها صامته جامدة أمام حججه الروحية التي لم يستطيعا نقضها، والتي جاء مؤلف هوكسلي يؤيدها ويبشر بها. . . وينعى هوكسلي على طريق التعليم والتربية المنتشرة في العالم اليوم أنها رثة بالية، وأن مكروب الفساد الذي ينخر في كيان البشرية في هذا العصر ينتشر من رممها ويتكاثر فيها، ودليله أن أرق الأمم وأقواها، وأكثرها مدنية ومدارس وجامعات هي التي تهدد سلام العالم وتتربص بغيرها الدوائر، وتعد أدوات الدمار لساعة الجد؛ ولو كانت وسائل التربية والتثقيف ناجعة لما نامت الملائكة واستيقظت الشياطين وتأججت الحفائظ بالعداوات بين الدول. . . وهوكسلي هنا يبدو من أنصار فكرة السلام العالمي، بل هو من دعاة البشرية التي بحّ صوت ولز بتحبيذها. . . وقد وجم الرأسماليون الإنجليز من صيحة هوكسلي، وبدءوا يسفهون فلسفته الاجتماعية الجديدة، وهذا لأنه عاب توزيع الثروة العالمية بين الأمم، وصرح بأن استئثار بعض الدول دون البعض بخيرات الأرض هو شل لنشاط أمم ناهضة عاملة، كما أنه تخمة تشل نشاط الأمم المالكة
وسنعود إلى هذا الكتاب القيم حين نفرغ من قراءته
الحبشة بعد الفتح الإيطالي
قام الميجر. ا. وبولسون نيومان الإنجليزي برحلة طويلة في بلاد الحبشة بعد استقرار الفتح الإيطالي فيها استغرقت ثلاثة أشهر (من مارس إلى يونيه سنة 1937) متبعاً طريق الغزو التي سار فيها الجنرال بادوليو مبتدئاً من مصوع وماراً بعدوه وأكسوم وماكالي وكوارم. . . إلى ديسي. ثم إلى أديس أبابا ثم إلى لهمتي (!) فسابو فجمبيلا فحدود السودان، ثم انثنى بطريق الجنرال جرازياني إلى مقدشو على المحيط الهندي. ثم ركب الطائرة من قسمايو في (الصومال) فطاف بمقاطعة أوجادن إلى ديردوا وإلى هرر ومن ديردوا بالسكة الحديدية إلى جيبوتي وبالباخرة إلى الميناء الإيطالي الجديد عند عصب. وقد كان أهم ما لفت نظر الميجر بولسون هو زوال روح الجفاء بين الأحباش المقهورين والإيطاليين الغزاة، وهذا النشاط العجيب الذي يبديه الإيطاليون في تحضير الحبشة وترقية مرافقها الحيوية وانتشار المدارس الإيطالية في أرجاء إمبراطورية أسد يهوذا. وقد ألف الميجر في رحلته هذه كتاباً هو أحسن ما وصفت به الحبشة إلى اليوم. وبالرغم من أن المؤلف إنجليزي فالكتاب موضوع في أسلوب حبي وروح غير عدائي.
كتاب جديد للمستر ولتر
من أنشط المؤلفين في العصر الحديث وأكثرهم إنتاجاً هو الكاتب الأشهر هـ. ج ولز الذي لا يكاد يمضي عام إلا ويتحف قراءه - وهم عشرات الملايين - بكتاب جديد تحتاج قراءته إلى عام أو أكثر من عام؛ وأحسن ما ألف ولزهي طوبوياته التي يدفع بها الإنسانية إلى السبرمان. وقد دعا في السنوات الأخيرة إلى وجوب عالمية التعليم وهي عالمية لا تفهمها القومية ولا تريد أن تستسيغها، لأنها نقيض لها، فالعالمية هي الديمقراطية بين الأمم، أما القومية فهي الاستبداد بين الأمم، وسلاح الأولى السلم والصالح العام، أما سلاح الثانية فالحرب والتغلب والتبرير. وولز من اجل ذلك يدعو إلى وجوب جعل التعليم عالميا، وانتزاع أخبار الحروب والصدام بين الأمم وتراجم الطغاة والمستبدين من صلب منهاج التاريخ الذي يدرس للتلاميذ في مدارس العالم قاطبة حتى لا تخدعهم الكبرياء الوطني عن
صالح البشرية العام. وهو يدعو أيضاً إلى تأليف موسوعة عالمية تبشر بالأخاء الإنساني وتكون إنجيلاً حديثاً يوجه البشرية ويمهد لحكومة عالمية تحل محل عصبة الأمم التي ماتت ورنقت الغربان الجائعة فوق جيفتها تنوشها وتمزقها. وقد طاف ولز أنحاء العالم وراح يدعو إلى مذهبه في جامعاته، وقد حاضر في أمريكا وفي إنجلترا وفي فرنسا فنور الأذهان لما دعا إليه، ثم جمع محاضراته وأحاديثه ومقالاته وأصدرها في كتاب واحد سماه وهو اسم غريب تشوهه الترجمة
رابطة التربية الحديثة
زار مصر الأستاذ برفيه مدير معهد جان جاك روسو وكان من أثر زيارته أن اقترح إنشاء فرع في مصر لرابطة التربية الحديثة يكون من أغراضه مناقشة شئون التربية والتعليم والوقوف على التيارات المتصلة بها في العالم الحديث وإحداث تجارب في هذا الصدد محليا، وعقد الاجتماعات الدورية الخاصة، وإلقاء محاضرات عامة، وعقد المؤتمرات، ونشر البحوث الفنية، وإنشاء مكتبة لهذا الغرض، والاتصال بالهيئات التربوية في الخارج
وقد أنشأت فعلا هذه الرابطة من كبار رجال التعليم وألف مجلس إدارتها من صاحب العزة الدكتور أحمد عبد السلام الكرداني بك ناظر معهد التربية. والأستاذ إسماعيل القباني ناظر مدرسة فاروق الأول الثانوية، والدكتور عبد العزيز القوصي الأستاذ بمعهد التربية، والأستاذ محمد فريد أبو حديد الموظف بالمعارف، والدكتور سيد أبو باشا ناظر مدارس النيل، والدكتور أمير بقطر الأستاذ بالجامعة الأمريكية، والآنسة أسماء فهمي، والآنسة سمية فهمي، والأستاذ محمد عبد الواحد خلاف مدير التعليم بالجمعية الخيرية الإسلامية، والأستاذ احمد خلف الله المدرس بالجامعة، والأستاذ علي النحاس بمعهد التربية للبنات، والأستاذ رياض عسكر وكان أول ما فكرت فيه موضوع الامتحانات في مصر على نحو ما ذكرناه في العدد الماضي
ذكرى الرافعي
اعتزمت مصلحة الإذاعة الفلسطينية بالقدس الاحتفال بذكرى المرحوم الرافعي لمناسبة مرور عام على وفاته في 9 مايو سنة 1938 ودعت بعض أدباء المصريين للمساهمة في
هذا الاحتفال. وإنه لوفاء يستحق الإشادة والذكر كنا نرجو أن تكون محطة الإذاعة المصرية اسبق إليه أحياء لذكرى فقيد العروبة الكبير الذي نشأ في مصر وكانت لها حياته وفيها مثواه. على أن الوقت ما زال متسعاً لتفكر محطة الإذاعة المصرية في القيام بهذا الواجب؛ جرياً على سنتها في الاحتفال بذكرى الخالدين من أدباء العربية، ومنها الأسوة في الاحتفال بذكرى الشاعرين الكبيرين شوقي وحافظ إبراهيم
مدرسة الخدمة الاجتماعية في خدمة الفلاح
أنشئت مدرسة الخدمة الاجتماعية في القاهرة لإعداد الشباب لخدمة المجتمع، واستغلال جهودهم للصالح العام. وكان طبيعياً أن تتجه الفكرة في المدرسة إلى تنظيم دراسة الخدمة الاجتماعية في القرية فوضعت لذلك برنامجاً منظماً وافياً يشمل كل نواحي القرية ويدرس أكثر المشاكل الريفية دراسة عملية قائمة على الخبرة والتجارب ونظرة إلى هذا البرنامج تبعث في نفوسنا الاطمئنان على ما تقدمه الخدمة الاجتماعية في القرية:
تقدمة عن تاريخ الفلاح. اقتصاد زراعي وتعاون ومسائل صحية. التعليم. تجميل القرية والمسكن. ترغيد الحياة الريفية الأمن العام. الفلاح والدولة. مسائل اجتماعية. الخدمات الاجتماعية في الريف
وقد بدأت هذه الدراسة الريفية يوم 13 أبريل وتستغرق نحو شهرين وتلقى المحاضرات في أحد مدرجات كلية الطب ويقوم بإلقائها نخبة ممتازة من المتصلين بشؤون القرية والمتهمين بإنهاض الفلاح، نذكر منهم الآنسة ابنة الشاطئ وإبراهيم رشاد بك والدكتور محمد خليل عبد الخالق بك والدكتور علي بك حسن والدكتور حلمي السعيد والدكتور القللي بك والدكتور عبد الله العربي بك والدكتور مأمون عبد السلام والدكتور احمد حسين
وإلى جانب هذه الدراسات العلمية المنظمة تقوم المدرسة بزيارات عملية للريف
كتاب شواهد القبور
نشر الأستاذ جاستون فييت مدير الآثار العربية (كتاب شواهد القبور) وهو السفر التاريخي الذي يسجل فيه هذا العالم ما يعثر عليه من شواهد القبور في العهود الإسلامية المختلفة في مصر، ونورد فيما يلي نموذجاً من هذه الشواهد، وما كتب عليها:
(بسم الله الرحمن الرحيم، إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون، هذا قبر محمودة بنت عبد الله بن موسى بن خالد توفيق يوم الجمعة لأربعة عشر ليلة خلت من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة)
وكتاب الشواهد موضوع باللغتين العربية والفرنسية ويقع الجزء الخامس منه - وهو الذي صدر أخيراً - في نحو مائتي صفحة بما وجد على القبور من مثل هذه النقوش، كما الحق بها رسوم واجهات هذه القبور في نحو خمسين صفحة من الورق الفاخر المصقول
اشتراك مصر في معرض البندقية الفني الدولي
يقام معرض الفنون الجميلة الدولي المعروف باسم (البينالي) في مدينة فنيسيا في الصيف القادم ويعد هذا المعرض من اكبر معارض الفنون الجميلة وتشترك فيه الدول كلها فيمثلها كبار الفنيين من مصورين ومثالين
وقد قررت وزارة المعارف المصرية الاشتراك لأول مرة في هذا المعرض، فخصص للفنانين لمصريين جناح كبير تعرض فيه مبتكراتهم التي عنى بانتقائها الأستاذ ريمون مراقب الفنون الجميلة في الوزارة
وألفت لجنة من حضرات الأساتذة محمود سعيد ومحمد ناجي ومحمد حسن وراغب عياد ويوسف كامل وأحمد صبري ولبيب تادرس وسعيد الصدر وعلي الديب ونحميا سعد من رجال الفنون المصورين والمثالين لترتيب المعروضات وتنسيقها في المعرض
جائزة للتعاون الدولي
نظم (مركز نشر الفكر الفرنسي) مباراة لنيل جائزة (رحلة إلى فرنسا) مقدارها عشرة آلاف فرنك
وهذه الجائزة تمنح لشاب مصري يضع احسن بحث في الموضوع الآتي:
(الإبانة على نور الحوادث والتجارب بعد الحرب، عن مدى التضامن الاقتصادي وقوته، الذي يربط الأمم بعضها ببعض حتى ولو تغاضت عنه)
ويجب أن يكون المتبارون مصريين، دون الخامسة والثلاثين من العمر، وأن يكونوا من
تلاميذ مدرسة عالية أو من خريجيها، وان يقدم كل منهم (بحثه) في هذا الموضوع قبل 10 مايو القادم، إلى عميد مدرسة الحقوق في الجيزة، على ألا يزيد هذا البحث على خمس وعشرين صفحة، مكتوبة بالآلة الكاتبة، وأن يقدم منه ثماني نسخ، ولا ينبغي أن تذيل هذه النسخ بتوقيع صاحبها، بل يجب أن ترفق برسالة فيها اسم صاحبها، وتكتب (البحوث) باللغة الفرنسية أو باللغة العربية مع ترجمتها بالفرنسية
لعبة الشطرنج عند قدماء العراقيين
أثبتت الآثار القديمة المكتشفة أخيراً في العراق أن سكان العراق القدماء كانوا يلعبون الشطرنج، وأن هذه اللعبة كانت إحدى وسائل اللهو عندهم. وقد أثبت هذا معهد الأبحاث التاريخية وبعثة بنسلفانيا الأمريكية التي تباشر أعمال التنقيب في العراق. وقد وجدت بعض القطع في شمال العراق. ويرجع عهدها إلى أربعة آلاف سنة ق. م. ويدل وضع هذه القطع على أنها استعملت كثيراً في اللعب
تعداد سكان العراق
ظهر من السجلات الرسمية أن النفوس المسجلة في العراق في الوقت الحاضر بلغت 1. 846. 915 نسمة من أهالي المدن و 1. 523. 196 نسمة من العشائر فالمجموع 3. 370. 111 نسمة. وتقدر النفوس غير المسجلة من سكان المدن بعشرة في المائة أي 185. 000 نسمة، ومن العشائر بستين في المائة أي 914. 000 نسمة، فيكون مجموع النفوس غير المسجلة 1. 098. 000 نسمة ومجموع نفوس العراق 4. 468. 000 نسمة
وفاة المغني الشهير شاليابين
توفي المسيو فيدور شاليابين المغني الروسي الذائع الصيت. وقد ولد في بلدة كازان بروسيا أول فبراير سنة 1873 واشتغل عدة أشهر (صبياً) لصانع أحذية ثم موظفاً صغيراً في السكك الحديدية وتلقى مبادئ الموسيقى الأولى عند انضمامه إلى فرقة المرتلين بكنيسة بلدته كازان ولما بلغ السابعة عشرة من عمره انضم إلى فرقة تمثيلية متنقلة، وكان يقوم فيها بالغناء والرقص. وتلقى الدروس الموسيقية الأولى على الأستاذ اوستانوف في مدينة تفليس سنة 1892 وظهر لأول مرة في دار الأوبرا في رواية (حياة القيصر) بمدينة
بتروجراد 1894 ثم اخذ يتنقل في جميع دور الأوبرا في روسيا، وكان ظهوره لأول مرة خارج روسيا في لاسكالا دي ميلانو وتنقل بعد ذلك في عواصم أوربا وأميركا وكانت أولى رواياته السينمائية رواية (دون كيشوت) وله عدة مؤلفات منها (صفحات من حياتي) و (الرجل والقناع) وكان يميل إلى الرسم والتصوير وصيد السمك
المطابع السارقة
إلى مجلة الرسالة الغراء
يرى الأستاذ المازني أن (تنظيم النشر) في مصر يكفي لإزالة أسباب الشكوى التي يشكوها الكتاب والمؤلفون، وأن هذا التنظيم وحده هو أعود عليهم بالربح والجدوى. وللأستاذ الحق في هذا الرأي، غير أن علة أخرى لم ينتبه إليها مع أنها من أكبر أسباب الغبن الذي أدرك الأدباء العرب في هذا العصر
حدثني أحد باعة الكتب في الجزائر بأنه كان سافر إلى مصر ليقف بنفسه على طبع ثلاثة مخطوطات، وتعاقد مع مطبعة كبيرة في القاهرة. وشرعت هذه في العمل، وكان هو يتردد عليها صباح مساء. فلاحظ أنها تطبع ضعفي الكمية المطلوبة من النسخ، فذكر لصاحب المطبعة ما رأى فاعتذر هذا بأن العامل هو الذي أخطأ، وتعهد بإعدام النسخ الزائدة، إلا أن كان حضرة العميل في حاجة إليها. فأكد له هذا أنه لا يريدها. ثم حدث للعميل ما حمله على زيارة مطبعة أخرى. ولم يكد يدخلها حتى استولت عليه الدهشة، فقد رأى أكواماً من الملازم المطبوعة من نفس الكتاب الذي يقوم هو على طبعه، وذلك لأن المطبعة الأولى بعدما افتضح أمرها صارت كلما طبعت ملزمة نقلت الحروف مصفوفة مربوطة إلى هذه المطبعة الأخرى فتطبع فيها العدد المسروق. قال الراوي: وقامت بيني وبين صاحب المطبعة الأولى خصومة حادة عنيفة كادت تنتهي إلى المحاكم. ولكنها سويت على صورة غريبة صرت بموجبها شريكا له في السرقة، فقد ناولني كمية مهمة من الكتب القيمة التي طبعها أخيراً على نفقة أصحابها المؤلفين المشهورين. قال:(ومنذ ذلك اليوم أصبحت من عملائه الكثيرين المنتشرين في كثير من البلدان العربية والإسلامية. . .) قلت: (وهل كل هذا صحيح. . .) قال: (نعم. وهنالك أصحاب مطابع أخرى، وهنالك ناس ينسجون على هذا المنوال. وفي القاهرة رهط من الناس (ومنهم أصحاب مكتبات يحترفون ترويج الكتب
المسروقة ووسقها إلى خارج القطر المصري. . .)
لقد ارتبت لأول مرة في صحة هذا الكلام وما لبث أن استيقنت عندما اطلعت على حوادث أخرى من هذا القبيل؛ فقد عرض علينا ذات يوم أحد باعة الكتب في فاس قائمة بأسماء كتب قيمة طبعت ولا يزال بعضها يطبع في القاهرة (وهي بأقلام أئمة الأدب في العصر الحديث) بأسعار مخفضة إلى حد غير معقول. فقلت لا يخلو الأمر من إحدى اثنتين: إما أن تكون هذه الكتب في منتهى الرداءة طبعاً، وورقاً أو أن عارضها قد ارتبكت أحواله المالية وأشرف على الإفلاس فهو يبيعها بأي ثمن
ثم عرفت أنه لا هذه ولا تلك وإنما هذا الرجل هو أحد عملاء المطابع السارقة. . . وكان أحد المتعهدين في الجزائر قد عرض مجلة الرسالة (التي يصدرها في القاهرة الأستاذ الزيات) على صغار الباعة والمتعهدين بثمن بخس جداً. . . وتبين أنه كان يستوردها من مكتبة بالقاهرة لها صلة وثيقة بمطبعة سارقة كانت (الرسالة) تطبع فيها قبل أن تتخذ لنفسها مطبعة خاصة. وأكثر هؤلاء (العملاء) ينشرون الدعوة ضد مطبوعات (لجنة التأليف والترجمة والنشر) في القاهرة. وسبب ذلك (فيما يظهر) هو أنهم لم يستطيعوا أن يسرقوها. . . وهذه الأشياء فضلا عن كونها تؤذي سمعة مصر أذى شديدا، فهي ضربة قاضية على الحركة الأدبية في مصر والعالم العربي. ونعتقد أنه لا بد للحكومة المصرية أن تعالج هذه الحالة بما تراه ناجحاً. لكي تسير حركة النشر في طريقها المشروع
(وهران)
الوفاق
محمد السعيد الزاهدي
المسرح والسينما
السينما فن وذوق وليست أكاذيب وجهالة
أجازت الحكومة المصرية في الشهر الماضي لشركة (راديو) الأمريكية أخذ فلم عن الحياة المصرية وتطوراتها من نوع الأفلام التي تخرجها هذه الشركة بعنوان (دورة الزمن) ولقد شهدنا عدة أفلام من هذا النوع نذكر منها فلماً جميلاً عن تركيا؛ والرأي الذي استخلصناه بعد رؤية عدة حلقات من (دورة الزمن) أن هذه الأفلام تقوم على أساس تاريخي صحيح وأنها ليست من نوع أفلام الدعاية الهزيلة أو من نوع الأشرطة الأخبارية العادية. على أننا نشفق مع ذلك أن تخطئ الشركة المصادر التي تستقي منها مادة الفلم أو أن تعتمد على ما تلفقه عادة الأفلام الأجنبية عن مصر وشعبها؛ وكثيراً ما رأينا القوم يصوروننا قبائل رحلا في بلد صحراوي تناثرت فيه بعض المدن المليئة بالمآذن والقباب، وفيما عدا ذلك فرمال وجمال وخيام. فلعل أولي الأمر لا تفوتهم مباشرة هذه الحقائق ومعالجتها بما يكفل لنا كرامتنا ولتاريخنا وقائعه الصحيحة
ولهذه المناسبة أذكر كثيراً من الأفلام التي مسخت الحوادث وشوهت من حقائق التاريخ فأساءت إلى بعض الشعوب. وأول ما يعنينا من هذه الأفلام فلم مصري حديث الإنتاج كان من شخصياته الرئيسية شخصية كسرى وقد أخرجت بشكل مزر غضب له إخواننا الإيرانيون. وقد كتبت رأيي في هذا الفلم في العام الماضي من تقرير قدمته إلى لجنة تشجيع السينما بوزارة الداخلية طلبت فيه منع مثل هذه الأفلام وهذا الفلم على الخصوص الذي حاول أصحابه أن يعرضوه على رغم حقارته بمعرض البندقية الدولي. وقد صادرت الحكومة هذا الفلم ولكنها مصادرة جاءت متأخرة
نقدم مثل هذه الإساءة إلى قطر صديق في غير ضرورة يبيحها الفن أو الذوق أو حتى التقدير التجاري. وقبل عرض هذا الفلم بزمن قصير يحمل لنا البرق خبر شجار كبير حدث في إحدى دور العرض بأمريكا الجنوبية بين جماعة من الأهالي وفريق من إخواننا السوريين المستوطنين هناك عند عرض شريط عن مصر قابله الأمريكيون بسخرية استفزت إخواننا السوريين فثاروا لكرامتنا وقابلوا المعتدين بالضرب
نسمع هذا في الوقت الذي نقدم فيه هذا المثل غير اللائق لإيران
وطالما تولدت الأزمات المشابهة في كثير من الأفلام، ومن ذلك أن شركة برامونت قد أخرجت فلماً عرض باسم (مات الجنرال في الفجر) وفيه تحقير للشعب الصيني. فما أن علمت الحكومة الصينية بأمر هذا الفلم حتى بعثت للشركة إنذاراً بسحب هذا الفلم من جميع أسواق العالم وإلا تحرم الحكومة الصينية عرض أي فلم في المستقبل من إنتاج شركة برامونت. وقد انصاعت الشركة للأمر لأنها لا تستطيع أن تضحي بسوق كبيرة مثل الصين. وقد أخرجت نفس الشركة قبل ذلك فلماً آخر يسئ إلى أسبانيا بعنوان (الشيطان امرأة) مثلته مارلين ديتريش وشهده الجمهور المصري فمنع عرض هذا الفلم بأسبانيا وأرسلت حكومتها احتجاجاً قابلته الشركة بالاعتذار والأسف
وهناك حكومات يقظة تتنبه إلى الأمور قبل وقوعها، ومثل ذلك ما فعلته الحكومة التركية مع شركة مترو إذ أعلنت هذه أن من مشروعاتها الكبيرة إخراج فلم بعنوان (أيام موسى داغ الأربعون) وفي تصوير هذا التاريخ ما يجرح الشعور التركي، فلما علمت الحكومة التركية بنية الشركة نصحتها بالعدول عن المشروع واستجابت الشركة فعلا للنصيحة ودفن المشروع
وقد كانت شركة (فوكس - القرن العشرون) قد انتوت إخراج سلسلة من الأفلام الشرطية على غرار أفلام (شارلي شان) الشرطي الصيني لبطل ياباني للأفلام الجديدة اسمه (موتو) وقد أخرجت الشركة بالفعل أول هذه الأفلام ولم يعرض في بلادنا بعد، ومثل الشرطي الياباني الممثل المعروف بيترلور. وقد طلبت الحكومة اليابانية بعد إخراج هذا الفلم من الشركة المذكورة أن تطلعها على موضوع كل فلم من هذا النوع للموافقة عليه قبل البدء في إخراجه. وقد أدى هذا التدخل إلى وقف سلسلة مستر موتو
الرأي الذي نخرج به أخيراً أن السينما كأي فن يجب أن يقوم على الحقائق. فإذا أهملت الحقيقة عن غير عمد فيجب على الأقل ألا يهمل الذوق. فإذا لم يراع هذا أو ذلك فقد فقدت السينما وظيفتها وفائدتها وأصبحت شيئاً يستحق المصادرة والمحاربة
محمد علي ناصف
في السينما
أخطار السينما
تثبت إحصاءات شركات التأمين بالولايات المتحدة أن مبالغ التعويض التي دفعت في العام الماضي ضد أخطار السينما تقل 45. 000 جنيه عنها في عام 1929. ففي هذا العام بلغ عدد الإصابات 7700 إصابة وقف في العام الماضي عند 450 فقط.
ومع ازدياد الإنتاج السينمائي وقطعه مراحل كبيرة كانت تعتبر من المعجزات وخاصة في إخراج حوادث الحرب وتصوير نكبات الطبيعة من زلازل وعواصف وسيول فان هذا الإحصاء يدل دلالة قاطعة على تقدم الصناعة وأمنها
ومن أشأم الحوادث في تاريخ السينما موت المخرج كينث هوكس من تصادم طائرتين أثناء إخراجه فلم (رجال مجازفون) وكذلك الحوادث التي اقترنت ببعض الأفلام مثل: (ملائكة الجحيم) و (ثورة على السفينة بونتي) و (الطريق الخلفي) و (الوريثة المتشردة) والفلم الأخير يعرض الآن بالقاهرة
وتعتبر الإحصاءات أن استوديوهات شركة وارنر أكثر الاستوديوهات أخطاراً وتتبعها شركة مترو جولدوين. وقد اعتبر إخراج فلم (في شيكاغو القديمة) لشركة (فوكس - القرن العشرون) شيئاً يشبه المصادفة لعدم حدوث أي إصابة رغم تعدد حوادث الفلم من حريق وفيضان وثورة قطعان الماشية واجتياحها آلاف الخلائق، أما أكثر الأفلام أخطاراً فهي أفلام رعاة الأبقار
في المسرح
ايفور نوفيلو من أبرز شخصيات المسرح الإنجليزي
انتقل ايفور نوفيلو بموسيقيته من مسرح دروري لين إلى تريتهام هيل لإجراء بعض الإصلاحات بالدروري قبل أن يفتتح فيه مسرحيته الجديدة
ويعتبر نوفيلو من أسعد رجال المسرح في جميع العصور فهو في الخامسة والأربعين من عمره يؤلف مسرحياته ويلحنها ويخرجها ثم يمثلها. ولا تزال فرقته منذ سنة 1935 دائمة العمل في موسيقياته الثلاث الأخيرة لا يقف عملها إلا في الفترات التي بين مسرحية واخرى؛ ويقدر له العارفون أن رواد مسرحه في هذه المدة بلغوا 1. 750. 000 وأنه أحيا
750 حفلة متوسط دخل الحفلة الواحدة 600 جنيه
وبعملية بسيطة يكون دخله في هذه المدة 450. 000 جنيها دفع منها ضرائب فقط 67. 500 جنيه
تمثل الآن على مسارح برودواي مسرحية (النساء) وجميع شخصياتها نساء وقد رفض الرقيب الإنجليزي تمثيلها على مسارح إنجلترا إلا بعد تعديل منظر لفتيات مجتمعات في قاعة نوم ولكن المؤلف رفض إجراء هذا التعديل.
يعتبر هذا الموسم من أكسد مواسم التمثيل في أمريكا، ولذلك فأن قيام مسرحية ناجحة وسط عدة مسرحيات فاشلة شيء يقابل بالضجة والتهليل، وهذا ما لقيته مسرحية التي اقتبسها للمسرح بول اوسبورن من رواية لورنس ادوارد انكنس ومثل الدور الأول فيها بنجاح كبير دادلي دبجز الممثل المعروف في السينما والمسرح