المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 251 - بتاريخ: 25 - 04 - 1938 - مجلة الرسالة - جـ ٢٥١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 251

- بتاريخ: 25 - 04 - 1938

ص: -1

‌شم النسيم.

. .

اليوم يا صديقي يوم شم النسيم! وشم النسيم في مصر هو عيد الطبيعة والناس؛ والناس الذين يعيدون هذا العيد هم سكان هذا البلد الأمين من كل جنس ونحلة؛ وهو بهذه الخصيصة يكاد لا يشبهه عيد من أعياد الأمم. فإن أعياد الأمم إما أن تقوم لذكرى دينية فتكون لأهل هذا الدين، وإما أن تقوم لذكرى وطنية فتكون لأهل هذا الوطن. أما عيد شم النسيم فهو عيد إنساني اشتراكي سمح، يفتح قلبه لكل دولة، ويخلص حبه لكل ملة، ويبذل أنسه لكل جنس. فالمصريون على اختلاف الأديان، والأجانب على تباين الأوطان، يتلاقون فيه على بساط الربيع إخواناً في المودة، أخداناً في السرور، يتساقون راح الأنفس، ويتطارحون حديث القلوب، ويتجردون من فوارق الدنيا ليقفوا أمام الطبيعة الصريحة أطهاراً من رجس الحياة، أحراراً من إسار المادة، يرتعون في الجنة التي خلق فيها أبوهم الأول، وينعمون بالصفاء الذي نشأت فبه أُسرتهم الأولى

هذه الخصيصة التي تفرد بها هذا العيد إنما اكتسبها من طبيعة هذا الوطن الأريحي الذي طبع بنيه وساكنيه على فيض نيله وخصب واديه ورحب صحرائه وصفو سمائه واعتدال جوه ووداعة طبيعته، فجعل المصري والرومي يعيشان في قرية، والمسلم والمسيحي يصليان في كنيسة، واليهودي والألماني يعملان في متجر، والتركي والأرمني يسكنان في دار؛ ثم يلح على هؤلاء جميعاً بالخلط والمزج والتوحيد حتى تتشابه الألوان، وتتعرب الألسنة، وتتقارب الطباع، وتتحد العناصر، فيدخلوا صرحاء خلصاء في هيكله النقي القوي المقدس

في هذا اليوم وحده من دون أيام السنة تغلق القاهرة دواوينها ومدارسها ومتاحفها ومصارفها ومتاجرها ومصانعها وحوانيتها؛ ثم تخرج إلى الرياض والخلوات، خروج الحجيج إلى عرفات؛ ولكنه حجيج وثني لا يؤمن في ذلك اليوم إلا بأفروديت وباخوس، فيتفيأون ظلال الروض، ويتشربون أشعة الربيع، ويستروحون أرج النسيم، ويجتلون جمال الطبيعة المتبرجة في الزهر والنهر، ويستوعبون أسرار الحياة المبثوثة في السماء والأرض، ويتطلقون من عقال الهم والوقار والكلفة، فيطيشون كالفراش، ويهتفون كالطير، ويطفرون كالأطفال، ثم تدركهم ضرورة الحياة فيجلسون للموائد حِلَقاً وسلاسل يتهنأون بضروب الآكال وصنوف الأشربة، حتى إذا تضلعوا شِبعاً وتحببوا ريا قرت فيهم فورة المرح فأووا

ص: 1

إلى أحضان الطبيعة الخادرة منحر الظهيرة. وحينئذ ترى أشتاتاً من خلق الله قد ضرب على آذانهم الكرى أو الكِظَّة أو السكر أو الفتور، فأصبح الناس والطير والشجر قطعاً من مادة الأرض لا يميز بعضها من بعض رقي النوع ولا سمو الفكر ولا غرور الفلسفة

لا أزال أشعر بحلاوة هذا الموسم في القرية. فقد كان الشباب والأيفاع يعتقدون أن في العشرة الأخيرة من شهر رمضان تُفتح في السماء (طاقة القدر) لمن كتب الله لهم السعادة، وأن في العشر الأولى من المحرم تطوف (بغلة العشر) في أعقاب الليل وهي موقرة بالذهب على من كتب الله لهم الغنى، وأن في يوم شم النسيم تهب نفحة من الفردوس لا يتنسمها إلا من كتب الله له القوة؛ فكانوا إذا تنفس صبح ذلك اليوم أفعموا خياشيمهم بريح البصل ليدرءوا عن أعصابهم خمود العام كله، ثم يخرجون إلى القنوات والنهيرات يستحمون في مائها الجاري، ويمشون هوناً على حفافي الحقول وضفاف الترع وحواشي البساتين يجمعون الفلية والحَبق والورد وزهر النارنج وورق الليمون، ثم ينسقون منها باقات يشدونها بأعواد السعد وسعف النخل، ويدسون فيها أنوفهم من لحظة إلى لحظة؛ ثم يقفون في مهب النسيم الفواح يعبُّونه عباً بالخياشيم والحلوق لعلهم يجدون فيه تلك النسمة الهاربة من ريح الجنة فيمسهم منها (عِرق الصبا)، ثم يسيرون صامتين مستغرقين نشاوي يتشممون ذلك السر الإلهي المكنون في أنفاس النهر، وفي عبير الزروع، وفي فوحة الرياحين، كما يتلمس الكيميائي الخبير إكسير الحياة في عصير العقاقير وحَلَب الأنابيق ومزيج الأشربة

فإذا أحسوا نشوة في الروح وفتوة في الجسم وقوة في الأعصاب لطول ما استنشقوا الهواء الخالص، واستيقنوا الأمل الخادع، تسلقوا أشجار التوت فجنوا منه أطيبه، وخضبوا أناملهم بجناه، ونقشوا طواقيهم بصبغة؛ ثم رجعوا إلى القرية يخطرون في مطارف الصبا الغريض، وكأن في نفوسهم بالياً قد تجدد، وفي نفوسهم ذاوياً قد انتعش. فيأكلون البيض الملون والخس الطري والسمك المملح، ثم ينامون وهم معتقدون أنهم ادخروا لبقية العام من القوة والصحة والفراهة ما لا يهن على طول العناء وسوء الغذاء ومس المرض

ذلك شم النسيم بخصيصته ودلالته، تراه في المدينة والقرية يوم الصفاء المشترك والأنس المشاع. ولقد كانت لي فيه ذكرى أو ذكريات لا تزال مشرق النور والسرور في نفسي. وما

ص: 2

كان أحب إليّ أن أقصها عليك؛ ولكن الصفحة قد نَفِدت، وساعة الطبع قد أفدَت، ورئيس المطبعة يقول: هات!

احمد حسن الزيات

ص: 3

‌البحث عن غد

- 2 -

للأستاذ عباس محمود العقاد

أجملنا في المقال السابق حديث مؤلف الكتاب مع الأستاذين الكبيرين شيخ الجامع الأزهر ومدير الجامعة المصرية

وقد تحدث المؤلف إلى فئة من المصريين النابهين غير الأستاذ المراغي والأستاذ احمد لطفي السيد فقال عن الدكتور حافظ عفيفي باشا إنه أول سفير مصري في بلاط (سان جيمس) وإنه طبيب أطفال مشهور، وكان وزيراً للخارجية في سنه 1928 وله مكانة عالية لبعده عن التحيز ووقوفه موقف الحيدة، واطلاعه الواسع في شؤون الثقافة المصرية

قال المؤلف: (ولما أخبرته بزيارتي للشيخ المراغي قال: إنني عظيم الإعجاب بالشيخ المراغي، وهو عندي اصلح الرجال في وقتنا هذا لقيادة حركة الإصلاح في التعليم الديني. وقد ترك الطلبة هناك عادة الجلوس على الحصير واصبحوا يجلسون على الكراسي، وتعودا أن يضموا الكتب على المناضد بدلاً من وضعها على الركب! وهذا كل ما هنالك من الصبغة العصرية الحديثة. فهي لم تتجاوز ذلك إلى أساليبهم وأنظمتهم ولا إلى روح تعليمهم ودراستهم، ولا يزال الأزهر حتى اليوم معنياً بالمراسم الدينية والآراء الجدلية. والشبان يضيعون هناك سنوات غالية من أعمارهم كانوا خلقاء أن يتعلموا فيها أموراً انفع لهم ولبلادهم على التعميم. أما مدارسنا العصرية فهي على نقصها لا تني تتقدم تقدماً مطرداً في سبيل التفكير العلمي الملائم لزماننا، وهذا في حين أن الأزهر لا يزال على سنة القرون الوسطى علماً وعملاً. ومن تقاليده أن يقع الاختيار على معلميه من بين تلاميذه وطلابه المتخرجين فيه، وسيظل متخلفاً ما داموا مصرين على هذه التقاليد. ولا رجاء لنا في نهضة روحية صحيحة من جانب الدين ما دام المعلمون الدينيون بيننا ينشئون على غير النشأة المستنيرة التي ينشأ عليها الأساتذة الآخرون)

قال المؤلف: فسألته: ولماذا تحسب أن هذه النهضة الروحية ضرورية؟

فقال: لأن الفلسفة المستقرة وراء الحياة المصرية لا بد لها من آساس روحيه، ولا تقوم هذه الآساس إلا على الإسلام؛ وينبغي أن تقوم على إسلام صريح لا خرافة فيه. وإنما أعنى بما

ص: 4

أقول أن تربيتنا الدينية يجب أن تكون على طبقة من الاستنارة تضارع تربيتنا في الثقافة العامة. وقد جاءت قوة الإسلام الدافعة في عصره الذهبي من حقيقة واحدة: وهي أنه كان ديناً جد بسيط وجد واضح، خلوا من التعقيد والإبهام، فأخرج للدنيا ثقافة رفيعة، وحول القبائل المتبدية في فترة وجيزة إلى أمم متحضرة تعيش عيشة المدينة. ولا بد للإسلام في نهضته المقبلة من قيادة اتباعه مرة أخرى إلى الحضارة الصحيحة؛ ولن يتسنى له ذلك إلا إذا اطرح الآراء الجامدة العتيقة والتجريدات المتخلفة من عقائد القرون الوسطى وليست هي من جوهر الدين في شيء. عندئذ - وليس قبل هذا - يعود الإسلام وهو تلك القوة الروحية التي تفتقر إليها البلاد أشد افتقار

فعاد المؤلف يسأل الباشا: وما هي إذن مسألة الغد في مصر المقبلة؟

فأجابه الباشا: مسألة الغد هي التعليم ثم التعليم كرة أخرى. وعلى أساتذتنا الدينيين والعصريين معاً ألا يقصروا تربيتهم على اقتباس العلم وحده، بل يضيفوا إليه اقتباس الخلق والتهذيب. وعليهم أن يردوا الشعب إلى فضائل الشجاعة والصدق وحب الخير وحب الفن والمعرفة، ونظافة العقل والبدن، وهي الفضائل التي كانت مبعث القوة في الإسلام. وعلى شبابنا المتعلمين وهم أشباه متعلمين أن يذكروا أبداً أن الأمة من الأمم لا يجوز لها أن تنعت نفسها بالتحضر والمدنية ما عاش أبناؤها على تلك الحالة المحزنة التي يعيش فيها الفلاحون، ولا تغيير لها قبل انقضاء زمن مديد في التثقيف والتهذيب)

وسأله المؤلف: أيوجد في مصر أناس عندهم من البصيرة والشجاعة الأدبية ما يتطلبه التصدي لإصلاح البلاد والجهر بحاجاتها؟

قال الباشا: نعم. هناك أناس من هؤلاء، واذكر لك على سبيل المثال أسماء أصدقائي لطفي السيد وحسين الهيكل ومصطفى وعلي عبد الرازق وطه حسين

وهنا أنتقل المؤلف إلى رواية الحديث الذي جرى بينه وبين الدكتور طه حسين، وقد بدأه الدكتور بكلام يدل على تغير الشبان من الوجهة الدينية

فسأله المؤلف: أترى أن الدين لا يدخل عندكم في حياة الشباب؟

قال الدكتور: على النقيض. إن له لدخلا في حياتهم، لأن للشباب تناقضاً معروفاً، ومن تناقضه عندنا مسلكه في أمر الدين، فالشبان المصريون في مقاومتهم للنفوذ الأجنبي، وفي

ص: 5

شعورهم الوطني يصدرون عن عقائد آبائهم وتقاليد أسلافهم. ولم هذا؟ لأن القرآن في الشرق الأدنى هو الأساس الوحيد الذي يقاوم عليه بناء أمة؛ وقد اصبح شبابنا العصريون في حياتهم الدارجة شعبة صغيرة منقطعة عن سائر الأمة. إلا أنهم يجدون أنفسهم في القرآن على ملتقى واحد مع كل فلاح وكل بدوي في الصحراء؛ وهم - باعتمادهم على القرآن - يهيئون لسواد الجماهير أن يحالفوهم في المعركة السياسية، وإنما يأخذون من القرآن أسلحتهم السياسية ولا يستمدون منه عتاد الروح)

فقاطعه المؤلف سائلاً:

وما هو موقفهم إذن من الناحية الروحية؟

فأجاب الدكتور: (أما من الناحية الروحية فهم واقفون في العراء. لم يهضموا فلسفتهم العقلية الحديثة لأنهم تلقوها في الغرب بعقولهم ولم يشركوا فيها قلوبهم وضمائرهم، ولكنهم قد انحرفوا عن جادة آبائهم فهم بمعزل عن كل مَعْلم من المعالم الروحية، وإن كان هذا لا يعني أنهم بمعزل عن الدين في آمالهم ومخاوفهم)

فسأل مؤلف الكتاب: أتحسب إذن أنهم يثوبون إلى الدين في أزماتهم الحاسمة؟

قال: فضحك الدكتور طه حسين وقال: هذا ما أعنيه تماماً، فقبل الدخول إلى مشرحة الجراح، وقبل الدخول إلى حجرة الامتحان، يثوب المتطرف منهم في الإيمان بالعقل إلى الإيمان بقوة فوق متناول التفكير، أو بقوة تعين الجراح وتلهم الأستاذ الممتحن وتوحي إلى المسئول كيف يجيب، ويعود فجأة إلى اسم الله. . .)

وبعد مناقشة في رأي الشيخ المراغي وفيما يحسن بالرجل العصري أن يتخذه من موقف في أمور الدين ختم الدكتور حديثه قائلاً ما معناه: إن المصريين فرديون متفرقين، ولكنهم في المجتمع منساقون مسلسون

وبين الكبراء الذين حادثهم (روم لاندو) علي ماهر باشا واحمد حسنين باشا قبل أن يندب الأول لرآسة الديوان الملكي

فكانت خلاصة الحديث الذي أفضى به علي ماهر باشا أن الشعور الوطني قد طغى بعد الحرب على كل شعور آخر، وأن الجيل الحديث سيعود كرة أخرى أدراجه إلى حظيرة الدين، وأن أناساً من أبنائه يتعطشون - حتى في هذه الآونة - إلى مورد للدين يكشفونه

ص: 6

بأنفسهم لأنفسهم وإن كانوا لا يزالون قلة بين المجموع

قال علي باشا: (نحن عرضة لكثير من الأفكار، وفي الحياة المصرية حركات كثيرة النقائض والأضداد، والعلم بالنتائج مستحيل. إلا أنني أحسب أننا على حق حين نرى أن النزعة الدينية أقوى في طائفة من الجيل الحديث مما كانت قبل بضع سنوات)

وسأل الأستاذ لاندو: (ماذا يصنع الآن لتحويل الوجهة التي كانت منصرفة كلها إلى الناحية السياسية؟)

فأشار علي باشا إلى الخطة التي أعدها حين كان على رأس الحكومة لإنشاء معسكرات في أرجاء البلاد يتعلم فيها الشباب الرياضة والأخلاق الرياضية ويأوون إليها في كل شهر أربعة ايام، ويتلقون فيها دروساً ومحاضرات عامة في علم الاجتماع وشؤون الثقافة ومعارض التاريخ

ولما سأله المؤلف عن مصير هذا الاقتراح، قال: إن الوفد أبطله حين تولى الحكومة. وعقب المؤلف قائلاً: (إن من تقاليد السياسة المصرية - أو السياسة في معظم الأقطار الشرقية - أن الحكومة الجديدة تبطل ما استطاعت من أعمال الحكومة السابقة

ثم سأل: (ولكن الوفد له هو أيضاً مقترحاته للسمو بالجيل الحديث وتحويل جهوده. أليس كذلك؟ فقد سمعت بالعناية المبذولة في الألعاب وضروب الرياضة!)

قال الباشا: نعم. إلا أن النظام الحاضر يجعل باله قبل كل شئ إلى إنجاب (الأبطال) الذين يحرزون الجوائز في المباريات الدولية ولا يعطى الجمهور نصيبه من الرعاية، ولا يلتفت إلى الأخلاق كما يلتفت إلى الأبدان. وما كان التعليم المتجه إلى إحياء الحاسة المدنية الاجتماعية يوماً من الأيام شاغلاً ينفع الأحزاب السياسية في غايتها من الدعاية، فلا سبيل إلى هذا التعليم إلا على أيدي حكومة غير حزبية أو حكومة قومية)

أما احمد حسنين باشا فقد بدأ الكلام معه على تعليم صاحب الجلالة الملك فاروق. ثم استطرد إلى السماحة الدينية ومذهب الباشا فيها؛ وهو مذهب يشبه مذهب محي الدين بن العربي. وقد كانت لرحلاته في الصحراء يد قوية في هدايته إلى تلك الطريق الروحية

سأله الأستاذ لاندو: لقد أخبرت أن الملك يؤدي جميع فروض الصلاة بانتظام، فهل تعتقد أن صاحب الجلالة ذو سليقة دينية؟

ص: 7

فقال الباشا: (أعتقد ذلك. وقد قال لي منذ أيام فجأة خلال الحديث: إنه يشعر براحة حقيقية في الصلاة. وهذا شئ جدير بالتنويه والملاحظة من شاب يقوم بأعباء الملك في سن الفتوة، ولا سيما وصاحب الجلالة غير مطبوع على الانزواء أو الخيالات العاطفية، ولكنه نشيط إلى الرياضة لا يميل إلى النزعات الخفية الغامضة، وهو يحمل مصحفاً صغيراً لا يفارقه؛ وأعلم أنه شديد الحب له والإيمان به)

وسنعود في المقال التالي إلى التعقيب على أمثال هذه المباحث التي يتصدى لها بعض السائحين، والى بيان الحقيقة فيما يلمحونه أو يخيل إليهم أنهم يلمحونه من دلائل الحياة الروحية وبواعث التغير والتجديد فيها.

عباس محمود العقاد

ص: 8

‌من برجنا العاجي

لبعض القراء ملاحظات تدل أحياناً على جهل مروع بطبيعة الأدب.

من ذلك أنهم يعيبون على الأديب تحدثهم عن نفسه. أمثال هؤلاء القراء

لابد أن يكونوا من تلاميذ المدارس أو المتخرجين فيها حديثاً. فهم

يخلطون بين (معلم المدرسة) وبين (الأديب الفنان). فمهمة (العلم)

الأولية أن يلقن أصول المعارف وأن يفرغ في أذهان النشء مادة

بعينها بغير أن يكون لشخصه دخل في الأمر. أما (الأديب أو الفنان)

فلا يلقن شيئاً ولا ينبغي له. لأنه يخاطب قوماً مفروضاً فيهم أنهم قد

جاوزوا مراحل الدرس؛ فهو يخرج لهم عصارة العلوم والمعارف

والتجارب مقطرة من خلال (نفسه). إن كل ما نطلبه ونرجوه من

رجال الأدب والفن أن يحدثونا عن كل خلجة من خلجات نفوسهم، وكل

دقيقة من دقائق حياتهم، وكل لمحة من لمحات أبصارهم، وكل ناحية

من نواحي أحاسيسهم. إن (نفس) الأديب العارية هي كل ما ينبغي له

أن يضعه تحت أنظارنا. ومن لم يفعل ذلك فليس مطلقاً بأديب. فالأديب

هو الآدمي الوحيد الذي خلق لكي يفتح لنا نفسه لنرى من خلالها النفس

البشرية قاطبة. ويتحدث لنا عن نفسه فنرى من خلال حديثه كل

تجاريب الإنسانية الشاعرة. وإن كل رجال الأدب العظام ليسوا إلا

آدميين حدثونا طول حياتهم عن أنفسهم، بوسائل شتى. وأنا كقارئ لا

يروقني شيء مثل قراءة المذكرات التي يكتبها الأدباء العظماء عن

حياتهم الخاصة. والاعترافات والرسائل التي تتناول مسائل تمس

أشخاصهم. فنحن في تلك الكتابات المجردة عن أثواب التكلف

ص: 9

والصناعة نستطيع أن نهبط إلى أغوار تلك النفوس الرحبة الغنية، كما

يهبط الغواص فجأة إلى أعماق البحار، فيفاجئ اللآلي في أصدافها لم

تمسها بعد يد غريبة، تنتزعها لتدخل عليها بهرج الصاغة. إن الفنان

إذ يحدثنا عن نفسه وفنه وحياته الخاصة إنما يقدم لنا مادة فنية غير

مصنوعة. إنه يترك رداءه الرسمي ليخرج إلينا بثياب البيت في غير

كلفة كأنه صديق، وهذا منتهى الإخلاص منه ومنتهى التكريم لنا.

توفيق الحكيم

مظاهر القسوة والرحمة في الحضارات

للأستاذ عبد الرحمن شكري

أشرت في مقالة (مجد العرب والإسلام) إلى محاولة بعض المؤرخين الأوروبيين أصفار مظاهر القسوة في الحضارات الأوربية وإعظامها في الحضارات الشرقية. ولسنا نريد أن ننكر مظاهر القسوة في الحضارات الشرقية، وإنما نريد ألا يكون هناك لبس، وألا تختفي الحقيقة التاريخية، وهي أن الحضارات الأوربية لم تكن مظاهر القسوة فيها أقل من مظاهرها في الحضارات الشرقية. فكل تمثيل قرأنا عنه في حضارة شرقية قرأنا مثله في الكلام عن الحضارات الأوربية. ولا يمكن تقصي كل مظاهر القسوة في الحضارات؛ ولا يفيد الإنسانية إخفاء الحقيقة، والمؤرخون الذين يخفونها قد يفعلون ذلك بحسن نية لأنهم يغالطون أنفسهم فيكونون كمن يجهل الحقائق وإن كانت ماثلة أمامه. وهذه ظاهرة كثيراً ما تشاهد في الحياة فيحسبها الناظر سوء نية وكذباً متعمداً وما هي كذلك، وإنما هي المغالطة للنفس التي تجعل المؤرخ يفرق بين النفوس البشرية ونزعاتها في الشرق، وبين النفوس البشرية ونزعاتها في الغرب. كما يفرق المؤرخون في بعض الأحايين بين العقول البشرية وملكاتها وطرق تفكيرها في الشرق وبينها في الغرب، ويبالغون في اختلاف طرقها بحسن نية، وإن كانت المبالغة خطأ في البحث والاستقراء

ص: 10

كنا نقرأ عن الحضارة الإغريقية أنها منبع الرحمة والنور في العالم القديم والحديث؛ وكان بعض المؤرخين لا يسهبون في وصف مظاهر القسوة فيها، وإن كانت موصوفة في مراجع التاريخ، وإنما هم يهملون وصفها عند إثبات أن الحضارة الإغريقية منبع الرحمة والنور في العالم، فلا يذكرون أن تلك الحضارة كانت مؤسسة على عرق جبين الأرقاء ودمائهم، ويهملون ذكر ما كان يحدث في المحاكم الإغريقية إذا ادعى أحدهم دعوى على رجل وأنكر هذا الرجل الدعوى وجئ بالأرقاء الذين يملكهم هذا الرجل المنكر وعذبوا بأصناف من العذاب القاسي الشنيع كي تؤخذ اعترافاتهم وهم يعذبون حجة على سيدهم. وكان السيد إذا اعترض على تعذيب أرقائه عُدَّ معترفاً أو شبه معترف بخوفه من أن يبوح أرقاؤه وهم يعذبون بما يؤدي إلى إدانته. ومن أمثال تلك القسوة في الحضارة الإغريقية ما كان يلاقيه الأرقاء في المحاجر والمناجم، ومثلهم مثل الأرقاء في مناجم الرومان. ويكفي وصف ما لاقاه جنود أثينا الأسرى عندما حاولوا غزو سراقوسة في صقلية وفشلوا واستخدموا في المحاجر والمناجم أرقاء. ومن مظاهر القسوة أيضاً معاملة المدينة الظافرة للمدينة المغلوبة على أمرها إذا ثارت على سيدتها، فقد كانت المدينة الظافرة تقتضي في بعض الأحايين بقتل جميع الرجال وبيع الأطفال والنساء في سوق الرقيق. وهذه المعاملة تذكرنا بما كان الإغريق في العصور الحديثة يشنعون به على الأتراك ومعاملتهم لرعاياهم من الإغريق؛ إلا أن تلك المعاملة القاسية القديمة كان يعامل بها الإغريق الإغريق. وحتى في المدينة الواحدة كان الحزب السياسي إذا ظفر عامل الحزب المخاصم له أشنع معاملة. وهذا كان حال الحضارة الإغريقية التي كانت بالرغم من ذلك المنبع الرحمة والنور في تاريخ الحضارة الأوربية. فإذا انتقلنا إلى حضارة الرومان وجدنا أن مظاهر القسوة لم تكن اقل منها في الحضارة الإغريقية، فكان الأرقاء يعاملون معاملة قاسية بالرغم من القوانين التي أصدرت لحمايتهم. وكانت الأحزاب السياسية يقسو بعضها في معاملة بعض قسوة شنيعة. وكان الظفر الحربي الروماني نذير القسوة الشنيعة حتى بعد ذلك الظفر عند الاحتفال به وبعد الاحتفال به. وكانت الخوازيق التي يُعيرُ بها الأتراك والشرقيون من العقوبات الرومانية؛ وكذلك الصلب والتمثيل بالمصلوبين وهم مصلوبون. وكانت ميادين الكوليسيوم معرضاً لجنون قسوة النفس الإنسانية حتى صارت من ملذات الجمهور الروماني رؤية

ص: 11

الوحوش وهي تفترس أجسام الأحياء وتمزقها تمزيقاً، ورؤية حرق الأحياء كما كان المسيحيون يُحرَقون. ولم تكن مظاهر القسوة في الحضارة مقصورة على حضارة أوربا الوثنية، بل كانت على أفظع شكل حتى عند المتدينين من القائمين بأمور محاكم التفتيش الذين كان بعضهم يبكي رحمة بمن يعذبونهم فلا يزيدهم بكاء الرحمة إلا رغبة في تعذيب ضحايا تلك المحاكم اعتقاداً أن ذلك التعذيب وأن تلك القسوة رحمة بالضحايا. ويقولون إن تعذيبهم في الحياة الدنيا يقلل من عذابهم في الآخرة، فيكون تعذيبهم في الحياة الدنيا رحمة بهم. ولم تكن مظاهر القسوة مقصورة على طائفة دينية دون الطوائف الأخرى بل اشتركوا فيها جميعاً. كما أن القوانين التي كانت تطبق في الأمور غير الدينية كانت مثقلة بروح القسوة والتعذيب. ومن العجيب أن المؤرخين الذين ينعون على الدولة الإسلامية تنفيذ الحدود ينسون أن القوانين الأوربية والمحاكم الأوربية كانت إلى قبيل الثورة الفرنسية توقع عقوبات هي نفس الحدود التي ينتقدونها في الدولة الإسلامية. فإننا نقرأ في مؤلفات ماكولي وغير ماكولي من المؤرخين عن قطع الأيدي وجدع الأنوف وصلم الآذان وغير ذلك من أجزاء الجسم، وقراءة وصف العقوبات التي وقعت بعد فشل ثورة دوق مونموث تكفي للدلالة على أن المؤرخين ينسون ما كان فيا لحضارات الأوربية من مظاهر القسوة عند ذكرها في الحضارات الشرقية. فإننا نقرأ كيف كانت أجسام الأحياء تقطع وتنصب أجزاؤها على النصب والمباني والأعمدة وعند ملتقى الطرق، فمن رءوس وأحشاء وأرجل وأيد منصوبة نتنة كانت تفسد الهواء في إنجلترا بعد ثورة دوق مونموث وغيرها من الثورات الفاشلة. والمستعمرون الأوربيون في أمريكا حتى المتطهرون منهم لم يقصروا في مظاهر القسوة. وقد استعرض فان لون المؤرخ الأمريكي مظاهر القسوة في الحضارة الأوربية والأمريكية في كتابه المسمى (تحرير الإنسانية) ولا تزال آلات التعذيب في المتاحف الأوربية الخاصة بها تدل على أن النفوس في أوربا لم تكن أقل قسوة من النفوس في الشرق؛ ولا نريد ذكر هذه الحقائق للغض من فضل الحضارة الأوربية. وإنما نريد تصحيح ما يشيعه بعض المؤرخين بحسن نية أو بسوء نية فيظل ما يقولون ويؤدي إلى تخليد النفس الإنسانية، وربما كانوا أبعد الناس عن الرغبة في تخليدها

والحقيقة أن النفس الإنسانية إذا غضبت قست وأجرمت حتى ولو كان غضبها للحق أو

ص: 12

الحرية أو الوطنية أو كرهاً للظلم. ولعل أكبر انتصار للنفس الإنسانية في المستقبل يكون انتصارها على نفسها بمنعها من الأجرام والقسوة الهمجية الوحشية عندما تغضب للحق أو الحرية أو الوطنية اكرهاً للظلم. أنظر مثلا ما ارتكبه ثوار الثورة الفرنسية من شرب للدماء، وتمزيق أجسام الأحياء، وأكل للحوم البشرية وسلخ لجلودها والتذاذ بإراقة الدماء والفخر بما كانوا يسمونه الغنائم والأسلاب من أحشاء نتنة ورءوس كانوا يضعونها على الرماح. ولم يفعل كل هذا أناس شرقيون ولا أناس من قبائل نيام نيام في أواسط أفريقيا بل أناس غضبوا للحرية وكرهوا الظلم وكانوا يدعون إلى الحرية والإخاء والمساواة والى محو الشر. وهذه الثورة الفرنسية كانت مقدمة للديمقراطية الحديثة، ولكن بعد أن كره العالم اسم الحرية زمناً وارتضي الحكومات المطلقة زمناً بسبب هذه الفظائع وهذه النذالة في الأجرام والقسوة

ثم انظر إلى فظائع الحروب الاستعمارية وفظائع الحرب الكبرى فقد قاسى من اجلها من المحاربين ومن الأطفال والنساء آلاماً كثيرة عدد لم يقاس مثله في الحضارات الشرقية بشهادة بعض المؤرخين الموثوق بقولهم وبشهادة المفكرين مثل هالدين وليوناردوولف

ثم أنظر إلى مستقبل الإنسانية وما هو منظور أن تقاسيه من الويلات بسبب الحضارة الأوربية وجشعها ومخترعاتها مما ينسي المفكر كل مظاهر القسوة في الحضارات الشرقية التي ينتقدها بعض المؤرخين الأوربيين. والحقيقة أن النفس الإنسانية في السلم والحرب وفي أعمالها وأقواله اليومية لا تزال اكثر ولوعاً بالقسوة مما يظن المستعرض لها بنظرية سطحية عجلي، كما هي اكثر لوعاً بالمجون وقصصه وأعماله مما يظن المستعرض للأكاذيب المقررة التي هي طلاء الحضارة والتي تخفي مظاهر القسوة والمجنون في أعمال النفوس البشرية

وإني ما ذكرت تنور المتوكل الذي عذب فيه وزيره محمد ابن عبد الملك الزيات إلا ذكرت الغلاف الحديدي ذا المسامير الذي كان يوضع فيه الأحياء في أوربا. وما ذكرت الرقيق في الدول الشرقية إلا ذكرت أن الرقيق كان شائعاً في أوربا وأمريكا إلى عصور قريبة، وإلا ذكرت أنه عندما بدأ الرحماء يدعون إلى تحرير الرقيق ووجدوا نصراً من رجال الدين في أوربا ألْفَوْا أعداء من رجال آخرين من رجال الدين كانوا يتذرعون بآيات من الكتاب

ص: 13

المقدس من العهد القديم كي يزكوا بها الاستعباد، وذكرت ما كان يقاسيه الرقيق في الحضارات الأوربية مما يطول شرحه ووصفه، وذكرت أن الكنيسة نفسها كانت تشتري الرقيق من الغلمان الصغار الملاح وتخصيهم، وكانوا يسمون خصيان الكنيسة؛ وكانت تفعل ذلك كي يرق صوتهم فيرتلون الآيات في الصلوات بصوت عذب شبيه بأصوات النساء. وكان بعضهم يهلك من عذاب الخصي

وبعد فإن مثل المؤرخين الأوربيين الذين ينكرون أو يصغرون من أمر مظاهر القسوة في الحضارات الأوربية ويكبرون أمرها في الحضارات الشرقية مثل كل إنسان في هذه الحياة الدنيا، فإن كل إنسان في هذه الحياة الدنيا يصغر ويهوّن من أمر مظاهر القسوة التي ترتكبها نفسه ويكبر من أمر مظاهرها الصادرة عن نفوس غيره من الناس. وهو يفعل ذلك أما غفلة وعن حسن نية، وإما يفعل ذلك وهو يدري ما يفعل. ولن تنصلح الإنسانية إلا إذا امتنع تظليل النفس هذا

عبد الرحمن شكري

ص: 14

‌للأدب والتاريخ

مصطفى صادق الرافعي

1880 -

1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 27 -

فترة جمام

نفض الرافعي يديه من المعركة بينه وبين العقاد، ثم فاء إلى نفسه، وعاد إلى دار كتبه يطالع ويقرأ ويتزود. . . واختفى اسمه من الصحف والمجلات أشهراً، كان في أثنائها يتهيأ لإتمام كتابه (أسرار الإعجاز)، ويعمل في الوقت نفسه على جمع ما نشر من المقالات في الفترة السابقة وترتيبها، ليخرجها كتابا يسميه (قول معروف. . .)

على أن عنايته بشأن هذين الكتابين: أسرار الأعجاز، وقول معروف - لم يمنعه أن يكون له في كل يوم ساعات محدودة للقراءة والاطلاع. وكانت هذه الساعات المحدودة في اكثر لياليه تمتد من المغرب إلى منتصف الليل. وأستطيع أن أقول: إن هذه الفترة على ما كان يبذل فيها من جهد، كانت فترة جمام وراحة، لم ينعم بمثلها فيما بقي من حياته. وكنت بسميته يومئذٍ قريب العهد، ولكني كنت الصق أصحابه به؛ فكان لي به كل يوم ساعات: يقرأ لي واستمع إليه في داره، أو أماشيه في الخيال أو أُجالسه في القهوة أو اصحبه إلى السينما. وكان علي في هذه الفترة وفيما بعدها من الزمن، أن اقرأ ما يهدى إليه من الكتب، لأشير له إلى المواضع التي يجدي عليه أن يقرأها، ضنَّاً بوقته على قراءة ما لا يفيد. وكان لي وله في ذلك فائدة أيُّ فائدة؛ وكثيراً ما كان يدفع ألي بعض ما يرد إليه من الرسائل، لأرى رأي فيه وأشير عليه بالجواب أو أتولى ذلك بنفسي. وكانت هذه الفترة ذات اثر كبير في تكويني وتوجيهي في الأدب توجيهاً لم اكن اقصد إليه؛ كما تأثر هو بصحبتي في هذه الفترة تأثُراً وجهه في أدب الإنشاء توجيهاً لم يكن يعرف به منذُ نشأ في الأدب قبل ذلك بثلاثين سنة؛ فبدأ أسلوبه اكثر استواءعند عامة القراء، وكان قبلها يُتَّهَم بالغموض والتعقيد؛ كما عالج القصة فنجح فيها إلى حداً بعيد، إذ كانت القصة - وما تزال - أحبَّ ألوان الأدب

ص: 15

اليّ، على حين كان الرافعي لا يؤمن بفائدة القصة ولا يعترف بخطرها بين أبواب الأدب الحديث. فما هو إلا أن حملته على محاولتها فأنشأ قصته الأولى؛ ثم كأنما اكتشف نفسه من بعدُ فصار ما ينشئ من القصص هو احب منشأته إليه، وخطا بها إلى نفوس القراء خطوات. . .

ومن طريف ما يذكر في هذا الباب أنني كنت أنشئ القصص لمجلة الرسالة، لا أكاد أعنى بشيء غيرها من موضوعات الأدب، وكان حُسن وقْعها عند القراء يدفعني إلى الإجادة والاستمرار؛ ولكن قارئ واحداً كان يعيب علي ما اكتب، ولا يرضى مني أن تكون القصة هي كل ما أعالج من فنون الأدب، وكثيراً ما كان يقول لي:(يا بني، أن لك بياناً وفكراً ومعرفة، فلماذا لا تحاول أن تكون أديباً؟ أنه لا يليق بك أن تكون القصص هي كل ما تحاوله من ضروب الإنشاء. وإن فيك استعداداً لأكثر من ذلك. . .!) وما زال يلج علي ويكرر هذه الملامة حتى وقع في نفسي أنني أسئ إلى نفسي بمحاولاتي أن أكون قصصياً؛ فانصرفت عن القصة، وكانت أحبَّ إليّ، إلى فنون أخرى من الأدب، إلا ما أنشئ من (القصص المدرسية) التي أؤلفها لتلاميذي على أنها وسيلة من وسائل التربية لا باب من الأدب. ثم لم يمض بعد ذلك إلا قليل، حتى كانت القصة هي اكثر ما يعالج الرافعي من أدب الإنشاء، وكان له فيها فَوَاقٌ منسق. وحلَّت القصة محلها من تقديره بين أبواب الأدب. .!

وإذا كان في أذني الرافعي ذلك الوقر الذي يقطعه عن دنيا الناس، فان أسلوبه في الكتابة كان بعيداً عن فهم الكثير من ناشئة القراء. فلما اصطفاني بالودّ، أخذت على نفسي أن أكون أذنه التي يسمع بها ما يقال عنه، وما يرى القراء في أسلوبه، فكنت إذا جلست إليه ليملي عليّ أحاوره فيما يدق على الإفهام من أسلوبه، وما تنبو عنه أسماع القراء. ثم لا أزال به حتى يغير العبارة فيجعلها أدنى إلى الفهم وأخف على السمع. وكان ينكر ذلك عليّ أول أمره، بما فيه من اعتداد بنفسه وكبرياء، وكان أحياناً يوشك أن يغضب، وأنا أتلطف له وأحتال عليه؛ ثم لم يلبث أن رضي ذلك مني، فكان يملي علي العبارة من المقال، ثم يسألني:(ماذا فهمت مما كتبت؟) فإذا كان يطابق ما في نفسه مضى في إملائه، وإلا عاد إلي ما أملاه بالتغيير والتبديل حتى يتضح المعنى ويبين المراد. وبدا في النهاية أن يسميني

ص: 16

- على المزاج -: العقل المتوسط من القراء. . .!

لم يُنشر للرافعي في هذه الفترة شيء ذو بال، إلا أحاديث كان يمليها على بعض المرتزقة من كتاب الصحف الأسبوعية. وكان له طائفة من هؤلاء الكتاب يعطف عليهم ويعينهم على العيش، فكانوا يفدون إليه في المحكمة ليسألوه حديثاً فيملي عليهم جوابه ثم يذهبون لينشروه حيث يشاءون ويقبضوا أجره

في هذه الفترة، وكَلَ إليه الأديب حسام الدين القدسي الورّاق تصحيح كتاب (ديوان المعاني) لأبي هلال العسكري، وكان قد وقع منه على نسخة خطية فطبعها بأغلاطها وتصحيفها، ثم بدا له قبل أن يتم طبع الديوان أن يلجأ إلى الرافعي ليصحح أغلاطه ويتم نقصه على أن ينشره في الجزء الأخير من الكتاب

وقبِل الرافعي هذا التكليف على قلة أجره، ليقرأ الكتاب قبل أن يقرأه الناس، وليستمتع بلذة المعاناة في تصحيحه وتصويب خطئه؛ وإنها لرياضة عقلية ممتعة، لا يستشعرها ولا يقوي عليها إلا القليل من الأدباء. ومضى في هذا العمل شهراً أو يزيد، وكنت معه فيه، ثم انتكثت المعاهدة التي كانت بينه وبين القدسي فترك له كتابه بعد أن أصلح منه جزءاً غير قليل. وقد استطعت في تلك الفترة التي صحبت فيها الرافعي وهو يحاول تصحيح الكتاب أن أعرف مقدار اطلاعه وسعة علمه وقوة بصره بأساليب العربية؛ وقد رأيت منه في هذا الباب أشياء عجيبة من قوة الحافظة، وسرعة الاهتداء إلى مراجع البحث، ومهارة الاستدلال على مواضع النقص، حتى لكأنني بازاء مكتبة دقيقة الترتيب منتظمة التبويب ما شئت من بحث هَدَتْك إليه قبل أن تبحث عنه. على أنه كان أحياناً يعرف موضع النقص من الكتاب ثم لا يهديه البحث إلى تتمته، فيضع فكره موضع فكر المؤلف ليستقيم المعنى ويتساوق الكلام وأكثر ما كان يقع ذلك في الشعر المشطور. وقد حدث مرة أن ظلّ الرافعي يبحث يوماً كاملاً عن تمام بيت من الشعر في مظانه من كتب العربية؛ فلما أعياه البحث جعل تمامه من نظمه ثم مضى إلى تصحيح ما بعده من الكتاب. وفجأة ترك ما هو فيه وقال:(اسمع! ناولني الكتاب الفلاني) فمددت يدي إلى موضعه من المكتبة فناولته إياه، فأخذ بتصفحه قليلا ثم قال:(لقد وجدته. . . هذا هو البيت الذي كنت ابحث عنه وتمامه. عد إلى ما كتبت من قبل لتصححه!) وعدت إلى ما كتبت، ورجعت النظر في الكتاب الذي

ص: 17

بين يديّ، فإذا تمام البيت فيما كتبت وفي الكتاب سواء، لا يختلفان إلا في حرف الجر. . . أكان فضل هذا إلى ذاكرة الرافعي، أم إلى قوة بصره بالشعر وبأساليب البيان؟

ولم يكتب الرافعي في هذه الفترة التي سبقت اشتغاله بالرسالة، إلا بضع مقالات في البلاغ؛ وكان لكل مقال حافزه وداعيه:

كان السيد حسن القاياتي يكتب في جريدة (كوكب الشرق) كليمات في موضوعات شتى من وحي الساعة وخواطر الحياة. فبدا له يوماً أن يكتب في الموازنة بين قول الله تعالى: (ولكم في القصاص حياة. . .) وقول العرب: (القتل أنفى للقتل!) فانزلق إلى رأي. . . وكان محرر الكوكب في ذلك الوقت هو الدكتور طه حسين، وهو من هو عند الرفعي في دينه وفي أدبه وفي إيمانه يقدس القرآن. . . ولم يكن الرافعي يواظب يومئذ على قراءة كوكب الشرق

وجاء البريد ذات صباح إلى الرافعي برسالة من صديقه الأستاذ محمود محمد شاكر، يلفت نظره إلى ما كتب الأستاذ القاياتي وإلى ضلاله في تفضيل الكلمة الجاهلية على آية القرآن. . . ودفع إليّ الرافعي برسالة الأستاذ شاكر وهو يقول:(أتصدّق هذا؟ أيجرؤ أحد أن يقولها، أم هي مبالغة وتهويل من محمود؟ أم هو لم يفهم ما كتب الكاتب المسلم وحمل كلامه على غير ما يريد؟)

ثم بعث في طلب الجريدة التي نشرت هذه الضلالة فجيء بها. فما كاد يقرؤها حتى اربدّ وجهه وبدا عليه الغيظ والانفعال، ودار لسانه بين شدقيه بكلام، ثم لم يلبث أن نهض مغضباً إلى الدار قبل موعده، فانقطع عني يومين ثم أرسل يستدعيني إليه، فأملى عليّ مقالة طويلة بعنوان:(كلمة مؤمنة في رد كلمة كافرة!)

وكانت مقالة من عيون مقالات الرافعي، نشرتها البلاغ في صفحتها الأدبية. وقد أورد فيها بضعة عشر رأياً في بيان إعجاز الآية ومبلغها من البلاغة بازاء الكلمة الجاهلية، وقد جعلها من بعدُ فصلاً من شواهد كتابه (أسرار الإعجاز) الذي لم يطبع بعد. . .

وقرأ الأستاذ القاياتي مقال الرافعي في الرد عليه، فاقتنع بها فيما بينه وبين نفسه، واعترف على نفسه في خلوته، ولكنه لاذ بالصمت، وكانت كرامته الأدبية أعز عليه من كرامة القرآن، فلم يردّ عليه ولم يعترف علانيةً بما كان من خطئه فيما انزلق إليه. .!

ص: 18

وفتح مقال الرافعي أبواباً من القول لطائفة من الأدباء؛ إذ كان فيما ردّ به الرافعي أن كلمة (القتل أنفى للقتل) ليست جاهلية كما يعرف قراء العربية عامة، ولكنها نشأت في العصر العباسي لمثل ما استعملها له الأستاذ القاياتي في معارضة القرآن، واسندها مخترعها إلى حكيم الجاهلية اكثم بن صيفي ليتم له قصده؛ وجاز دعواه على قراء العربية حتى كشف الرافعي عن زيفها بعد ألف سنة!

كان تاريخ هذه الكلمة ميداناً للقول والمعارضة أياماً بين الرافعي وبعض الأدباء، ثم لم ينتهي إلى خاتمة؛ إذ كان الذي يعارض الرافعي في موضوعها ليس أهلاً لمناظرته، فلم يلبث أن شعر بالإعياء من أول شوط، فكتب إلى الرافعي رسالة خاصة في البريد يستعفيه ويعتذر إليه أنه مشغول البال بالاستعداد للزواج. . .

وفي هذه الفترة تم إنشاء (المجمع اللغوي) وكان الرافعي يمني نفسه بأن يكون من أعضاءه، فحال بينه وبين ما يتمنى أنه لا يسمع؛ وإن لم يمنعه أن يكون عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق، وقد اختير له هو والمرحوم حافظ بك إبراهيم قبل ذلك بسنوات، فلم يشهد جلسة من جلساته، ولم يشترك في قرار قرره، ولم يبعث إليه برسالة واحدة في موضوع من موضوعات العلم العربي. . .

وساء رأي الرافعي في المجمع اللغوي من يوم إنشائه، ولم يمنعه من الحملة عليه أنه كان موعوداً بأن يختار فيه عضواً مراسلاً كما أنبأه صديقه فارس نمر باشا عضو المجمع

وافتتح المجمع، وكان أول محرراته الأدبية برقية بالشكر إلى المرحوم الملك فؤاد

ولقيت الرافعي ذات مساء؛ فإذا هو يرفع إليّ جريدة البلاغ قائلاً: (أقرأ؛ هذا أديب صغير يهاجم المجمع اللغوي في يوم أنشائه، ويزعم أنه لم يستطع أن يكتب برقيه بريئة من الخطأ ليشكر بها منشئه. . .!)

وقرأت، فإذا نقد عنيف، وتهكم مر، وسخريه لاذعة. . . كانت كلمة صغيرة ولكنها ذات شأن، وقد اختار كاتبها أن يكون توقيعه (أديب صغير) مبالغه في السخرية والتهكم. . . وأخذ الكاتب على المجمع بضع غلطات لا ينتبه لمثلها إلا أديب دارس، له في العربية مكان. . .

وقال الرافعي: (ماذا رأيت؟) قلت: (نقداً مر لا يبلغ به هذا المبلغ على إيجازه إلا أديب

ص: 19

كبير!) قال: (فمن تضنه؟) وكان سؤاله مشعراً بجوابه، ولكنني كذبت نفسي. . . أيكون هو؟ وما يحمله على أن يخفي عني؟ لقد كان معي أمس، وأمس الأول؛ فلماذا لم يحدثني بشيء من ذلك!

وقلت للرافعي: (أو تعرف كاتبه؟) قال: (حاول أن تفكر. . . لقد حاولت فلم أوفق!) وكان حسبي هذه الكلمة ليزول كل شك في نفسي، فما كذب عليّ الرافعي قبلها قط. . .! ولم اعرف إلا بعد أيام أنه هو. . .

ورد المرحوم الأستاذ حسين والي، وعاد الرافعي يرد ويتهكم ويسخر، ويتحدى المجمع اللغوي كله أن يرشده إلى الأطوار الاجتماعية التي مرت بها كلمة (حظِيَ) حتى ساغ للمجمع من بعد أن يستعملها بمعنى (ظفر) في برقية الشكر إلى جلالة الملك. . . وسكت المجمع، وسكت الأستاذ حسين والي، وظل الرافعي (الأديب الصغير) يكتب حتى جاءه الرجاء أن يسكت فسكت!

مقالات (الأديب الصغير) في نقد المجمع اللغوي هي أخر ما كتب الرافعي في النقد على أسلوبه وطريقته

ومما كتبه في تلك الفترة بحث طويل في البلاغة النبوية أنشأه إجابة لدعوت الهداية الإسلامية بالعراق، لتنشره في ذكرى المولد النبوي. وقد لقي الرافعي من العناء في إنشاء هذا الفصل ما لا احسب غيره يقوى عليه. وحسبك أن تعلم أن الرافعي لم يتهيأ لكتابة هذا الفصل حتى قرأ صحيح البخاري كله قراءة دارس، وانفق في ذلك بعضة عشر يوماً، وهو وقت قليل لا يتسع للقارئ العجل أن يقرأ في صحيح البخاري قراءة تلاوه؛ فكيف به دارساً متمهلاً يقرأ ليتذوق بلاغة الأسلوب ودقة المعنى؟ ولكن ليس عجيباً من الرافعي الذي كان يقرأ كل يوم ثماني ساعات متوالية لا يمل، فلا ينهض عن كرسيه حتى يوجعه قلبه!

وكتب الفصل بعد ذلك في ثلاثة أيام، ثم دفعه إليّ لأكتبه بخطي ولم يمله عليّ، فأنفقت في كتابته ثلاثة أيام أخرى

هذا الفصل يملأ نحو عشرين صفحة من صفحات الرسالة، ويصلح أن يكون خاتمه لكتاب إعجاز القرآن - لو قدر لإعجاز القرآن أن يطبع طبعة جديدة - فأنه أشبه لموضوعه وفيه تمامه

ص: 20

وما فرغ الرافعي من كتابة هذا الفصل، حتى أحس بحاجته إلى الراحة بعد ما بذل من جهد، فاغلق دار كتبه وخرج إلى الشارع يشم الهواء، ثم لم يكد يأتي المساء حتى جاءه البريد برسالة من جمعية الكشاف المسلم بالشام، تطلب إليه أن يعد لها موضوعاً تنشره في صحيفتها لمناسبة المولد النبوي كذلك. . .!

وضاقت أخلاق الرافعي، فهم أن يلقي الرسالة ليفرغ لنفسه بضعة أيام للاستجمام، ثم تحرج، فعادت إليه ابتسامته وهو يقول:(سأفعلها قُرْبَى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ولو رمى بي هذا الجهد المتواصل إلى تهلكه!) وعاد إلى مكتبه وهو متعب مكدود. . . ثم أملى عليّ مقالة (حقيقة المسلم) الذي أعاد نشره في الرسالة بعد ذلك وجمعه إلى وحي القلم

وكتب بضع مقالات أدبية في مجلة المقتطف

ثم دعته (الرسالة) ليكتب فصلاً عن الهجرة في العدد الممتاز الأول لسنة 1353هـ، فكان ذلك أول عهده بالكتابة فيها، ثم اتصل بها حبله، فظل يكتب لها كل أسبوع مقالاً أو قصة من قصصه الممتعه، لا يفتر عن هذا الواجب إلا أن يمنعه المرض أو تشغله شاغله من شواغل الحياة. ومات وهو يتهيأ لكتابة مقاله الأسبوعي لها، ولكن القضاء عاجله فخلفه على مكتبه ورقة بيضاء. .!

(لها بقية)

محمد سعيد العريان

ص: 21

‌أراء حرة، لعلها طلائع معركة!

بين العقاد والرافعي

للأستاذ سيد قطب

- 1 -

قرأت ما كتبه الأستاذ سعيد العريان تحت هذا العنوان في الرسالة، كما قرأت كل ما كتبه عن (مصطفى صادق الرافعي)

قرأته تحت تأثير عامل نفسي خاص، ذلك أنه كان لي رأي في المرحوم صادق الرافعي، لعل فيه شيئاً من القسوة. ولما كنت على ثقة أن هذا الرأي لم يتدخل في تكوينه عندي أي عامل خارجي، وإنما كانت نتيجة لعدم التجاوب بين آثاره الأدبية وبيني، فقد كنت في حاجة لأن أسمع من أصدقاء الرافعي ما عساه يخفف شدة هذا الحكم، ويكشف لي عن بعض حياة الرجل التي اشتركت في تكوين أدبه، فلعل فيها تفسيراً وتبريراً لما كنت أراه فيه، مما يستدعي قسوة الحكم، وشدة النفور

وكنت أخذت ألمح من كتابات الأستاذ سعيد أنه صديق له، مطلع على الكثير من أسرار حياته، وعوامل إنتاجه، فقلت: اتبعه فلعلك منقلب صديقاً للرافعي أو محايداً بالنسبة له!

والقصة بين الرافعي وبيني أنني قرأت له أول ما قرأت كتابه: (حديث القمر) فأحسست بالبغضاء له. أجل بالبغضاء، فهي اصدق كلمة تعبر عن ذلك الإحساس بين العقاد الذي خالجني إذ ذاك. ولم تكن ثارت بين العقاد وبينه إذ ذاك خصومة، ولم أكن سمعت شيئاً عنه من العقاد أو سواه، مما قد يكون سبباً في هذه البغضاء. ولو خالجني هذا الشعور بعد خصومته للعقاد لوجدت بعض التفسير، فأنا لا أنكر أنني شديد الغيرة على هذا الرجل، شديد التعصب له، وذلك نتيجة فهم صحيح لأدبه واقتناع عميق بفطرته، لا يؤثر فيه أن تجف العلاقات الشخصية بيني وبينه في بعض الأحيان

ولقد كنت أكره نفسي بعد ذلك على مطالعة الرافعي، فتزداد كراهية لهذا اللون من الأدب، دون أن أجد التعليل. ذاك أنني كنت إلى هذا الوقت أديباً يتذوق فحسب، لا ناقداً يستطيع التعليل، ويصبر على التحليل

ص: 22

والرجل قد مات فما تحسن القسوة عليه، ولكن لا يصح أن يكون الموت معطلاً للنقد، ولهذا سأتحدث عنه كما لو كان حياً، لأن الذي يعنيني منه هو إنتاجه الأدبي، وما يبدو من نفسه خلال هذا الإنتاج

كنت أشك في (إنسانية) هذا الرجل، قبل أن أشك في قيمة أدبه؛ وكنت أزعم لبعض إخواني في معرض المناقشة، أنه خواء من (النفس). وأن ذلك سبب كراهيتي له، ولو أنني لم أره مرة واحدة، ولم أجلس إليه

ولذلك كان همي أن أبحث فيما كتبه الأستاذ العريان عن حياته، لا عن أدبه؛ وكان يهمني أن أعثر في ثنايا هذه الحياة على (نفس) وعلى (إنسانية)

ولهذا اغتبطت، إن لم أقل دهشت، حينما رأيت الأستاذ سعيدا يذكر للرافعي (حباً) ويحدثنا عن مظاهر هذا الحب وخطواته. ذلك أن خيالي المنبعث من قراءتي للرافعي لم يكن يطوع لي أن ألمح إمكان وجود هذه العاطفة في حياته؛ فالحب يتطلب قلباً، وكنت أزعم أن ليس للرجل قلب؛ والحب يقتضي (إنسانية) وكنت افتقدها فيه

إلى هذا الحد كان الحكم قاسياً على الرجل، وإلى هذا الحد كان تشاؤمي في تقديره

ولقد ظللت هكذا حتى استطعت أن أكون ناقداً، لا يكتفي بالتذوق والاستحسان أو الاستهجان، ولكن يعلل ما يحس ويحلله فماذا كانت النتيجة؟

لقد عدلت حكمي قليلاً، وخفت حدته، ولم أعد أستشعر البغض والكراهية للرجل وأدبه، ولكن بقي الأساس سليما

كنت أنكر عليه (الإنسانية) فأصبحت أنكر عليه (الطبع)، وكنت لا أجد عنده (الأدب الفني)، فأصبحت لا أجد عنده (الأدب النفسي)

الرافعي أديب معجب، في أدبه طلاوة وقوة، ولكنه يعدُ أدب الذهن لا أدب الطبع؛ فيه اللمحات الذهنية الخاطفة، واللفتات العقلية القوية، التي تلوح للكثيرين أدباً مغرباً عميقاً لذيذاً، ولكن الذي ينقصها أنه ليس وراءها ذخيرة نفسية، ولا طبيعة حية

لم يكن يعني الرجل في أدبه الحقيقة الأزلية البسيطة، بقدر ما يعنيه أن يصور الحقيقة الوقتية محكمة النسج، رائعة المظهر، تشبع الذهن ويستطيبها، ولكنها لا تلمس القلب أو يسيغها

ص: 23

وكثيراً ما يختلط أدب الذهن وأدب الطبع، إذا كان مع ذكاء وقوة. وما من شك أن الرافعي كان ذكياً قوي الذهن، ولكنه كان مغلقاً من ناحية الطبع والأريحية

أترى كبير فرق بين حكم الأديب وحكم الناقد؟

قد يكون، ولكنهما قريبا المأخذ، متحدا الإحساس.

وبعد فما كان أن يتفق العقاد والرافعي في شيء! فلكل منهما نهج لا يلتقي مع الآخر في شيء

العقاد أديب الطبع القوي والفطرة السليمة، والرافعي أديب الذهن الوضاء والذكاء اللماع

والعقاد متفتح النفس ريان القلب، والرافعي مغلق من هذه الناحية متفتح العقل وحده للفتات والومضات

والطاقة العامة لكل منهما في ناحيته متفاوتة بعد ذلك، فطاقة العقاد النفسية أقوى من طاقة الرافعي الذهنية، وعالم العقاد والحياة في نظره أشمل وأرحب بكثير من العالم الذي يعيش فيه الرافعي ويبصر الدنيا على ضوئه

وإذا لم تكن كلمة اليوم تتسع لضرب الأمثال، فستتسع الكلمات المقبلة للمثال بعد المثال

إنما يعنيني اليوم ما كتبه الأستاذ سعيد العريان!

ففيما كتبه وهو أخص أصدقاء الرافعي مصداق لكثير مما تخيلته فيه؛ وفيما كتبه عن العقاد أشياء كثيرة تستحق المراجعة؛ وسأبين هذا وذلك

في إباء الرافعي أن يشتري كتاب (وحي الأربعين) مع حاجته لنقده ما يشير إلى ضيق الأفق النفسي الذي كان يعيش فيه، وتصوير للون من الحقد الصغير قلما يعيش في (نفس) رحبة الجوانب متفتحة للحياة مستعدة لقبول صورها المختلفة المتعاقبة؛ وهذا ما كنت أتصوره من أدبه

وفي البواعث التي تدعوه لنقد وحي الأربعين كما صورها صديقه ما يصور نظرة الرجل إلى النقد والأدب والغاية منهما، ومدى نظرته العامة للحياة، واتساع مداها في نفسه، وهو لا يبعد كثيراً عن المدى الذي تصورته له

وفي اختيار الظروف السياسية للنكاية، دون أن يكون وراءها عقيدة ما، إلا شفاء الحزازات، كالمقال الذي كتبه في الكوكب، وكلمة وكليمة بالرسالة ما يؤيد خلو الرجل من

ص: 24

(العقيدة) وهي الملازمة (للطبع) المفقود في الرافعي، فدوافعه في الأدب لم تكن دوافع العقيدة والانطباع، بمقدار ما هي وليدة الفكر والتوليد والمماحكات

ويخطئ من يعتقد أن ما أقوله هنا مقصود به شخص الفقيد ولكنه شيء لا بد منه لتقدير أدبه على حقيقته

وفيما كتبه الأستاذ سعيد عن العقاد كثير من الجهل بطبيعة العقاد ودوافعه في الحياة، وعوامل الكتابة في نفسه

والأستاذ معذور في هذا لأنه لم يختلط بالعقاد أولاً، ولأن نفسه لم تتفتح لأدب العقاد فيفهمه ثانياً

ولقد كان يعيش في بيئة الرافعي وجوه، ويلوح لي من كتابته أن ذلك يلائم جوه الخاص، ويناسب بيئته الروحية

وأول ما يخطئ فيه اعتقاده أن طعن العقاد على الرافعي من ناحيته الوطنية، في رده على نقد وحي الأربعين، كان حيلة أملتها البراعة السياسية

ووجه الخطأ هو تصوير العقاد كالرافعي في هذه الخلة النفسية وفي وسائل الصراع، واستعمال الحيل الذهنية، والمناسبات العارضة لكسب القضية!

والذين يفهمون العقاد لا يعرفون فيه هذه الصفة. ولكنهم يعرفون طبيعة قوية مخلصة، لا تتذرع بالحيل الذهنية، والبراعة السياسية العأرضة، ولكنها تتذرع بنفوذ الإدراك، وعمق الإحساس، وشمول الشعور. فإذا اتهم العقاد الرافعي بأن نقده لوحي الأربعين منشؤه ضغينة شخصية، وإيحاء سياسي كما فعل، فإنما هو معتقد هذا في صميم نفسه، وما يعنيه ما ينال الرافعي من الناحية السياسية، قدر ما يعنيه (كشفه) من الناحية النفسية، وتصوير البواعث التي تهيجه لهذا النقد اللاذع

وما عن مبدأ خلقي يصدر العقاد في هذا، ولكن عن طبع قوي يخلق المبادئ الخلقية، ويختار منها ما يناسبه، ويرفض مالا يرتاح إليه، ولو تواضع الناس عليه!

ويخطئ الأستاذ سعيد كذلك في تسمية ما كتبه العقاد في رده شتماً وسباً للرافعي، كما أخطأ في تسمية ما كتبه من مخلوف سباباً وشتائم

ويبدو أننا في حاجة لتحديد معنى السب والشتم في لغة الأدب، بعيداً عن لغة القانون

ص: 25

في حاجة إلى بحث هذا الموضوع على ضوء من علم النفس وعلم الأخلاق وتطبيقهما على العالم الأدبي، فطالما سمعت وصف الكلام بهذين الوصفين، مستمداً هذا الوصف من ألفاظ الكلام دون بحث أسبابه، والحالة التي يعالجها

وطبيعي أن الحكم على الكلام وحده، مجرداً عن بواعثه وملابساته حكم شكلي، إن أرضي ذوي المواهب الذهنية، فلن يرضى ذوي المواهب النفسية؛ وإن أرضي العقل فلن يرضى القلب

وفي هذا عودة إلى الفوارق الأساسية بين مدرسة العقاد ومدرسة الرافعي!

كتب الرافعي عن وحي الأربعين كلاماً يعترف الأستاذ ببواعثه الأصلية، والعقاد يعرف هذا، ويعتقد في صفات الرجل النفسية، وفي نصيبه من الطبع السليم والفهم المتفتح أشد مما أعتقد أنا. ودواعيه لذلك الاعتقاد كثيرة ومفهومة، فإذا كتب يصور الرافعي كما هو في خيال العقاد، وكما هو في الحقيقة، فليس الذنب ذنب العقاد في قسوته، فإنما هو يصور حقيقة، أو على الأقل ما يعتقد هو أنه حقيقة

وإذا كتب عن (مخلوف) يتهكم به، ويشنع بسوء فهمه للأدب، فمبعث ذلك عظم الفرق بين طاقة العقاد وطاقة مخلوف، والحنق على أن يكون مثل هذا ناقداً لمثل ذاك

والحق أن هذا مما تضيق به الصدور. وقد كنت أنا لا العقاد مستعداً للثورة والحنق، لو تناول هؤلاء أدب بمثل هذا الضيق في الفهم، والاستغلاق في الشعور، أو بمثل التلاعبات الذهنية، واللفات البهلوانية، التي تناولا بها أدب العقاد

ثم لا بد من عتب على الأستاذ سعيد في أن يسمح لصداقته للرافعي أن تعدو على التقدير الصحيح للعقاد، فيعرض بلقب (أمير الشعراء) الذي (ينحله) الدكتور طه حسين بك للعقاد (تملقاً) للشعب ونزولا على هواه

وما أريد أن أبحث عن بواعث الدكتور طه لإطلاق هذا اللقب، فصلتي بالدكتور لا تزال حتى اليوم لا تسمح لي بتفسير حقيقة بواعثه. والحكم على النيات عمل عسير لا يصح الاستخفاف به، ولكنني أتحدث عن مظهر هذا التصرف لا عن باعته. ورأيي أن هذا اللقب غير لائق بالعقاد، لأن المسافة بينه وبين شعراء العربية في هذا العصر أوسع من المسافة بين السوقة والأمراء

ص: 26

وإنني لأكررها مرة أخرى، وأعينها في معرض الحقائق الواقعة لا معرض الجدل والمناقشة

قد يكون هناك كتاب يتقاربون مع العقاد، ولكن ليس هناك شعراء في لغة العرب يتقاربون مع العقاد

ولقد كنت هممت بإصدار بحث عن الشعراء المعاصرين، ونظرت في أدب جميع الشعراء الأحياء - وأنا من بينهم - ولكن عاقني عن إصداره أن لم أجد نقط اتصال بين العقاد الذي سأكتب عنه أولاً، وبين جميع الآخرين من الشعراء

الفرق هائل جداً، وأكبر مما يتصوره الأكثرون، بين طاقة هذا الشاعر والطاقات الأخرى

وسيغضب لقولتي هذه كثير من أصدقائي الشعراء المعاصرين، ولكنهم ليسوا أكرم علي من نفسي، وأنا حسن الظن بشعري، - وليعذرني أنصار مبدأ التواضع - ولكنني حين أضعه أمام شعر العقاد يتلاشى، وتحتبس نفسي عن التعبير حتى يسكن صدى شعر العقاد في نفسي!

هذه كلمة حق وعقيدة. وسأتولى شرح الأمثلة التي تثبت كل ما أسلفته من آراء

(حلوان)

سيد قطب

ص: 27

‌الرئيس الوزير إدوار هريو

رجل الأدب

بمناسبة زيارته لمصر

للأستاذ عبد العزيز عزت

هناك ثالوث من المعارف لا تنفصم أجزاؤه، إذا تحقق في رجل كانت له صفة الإنسانية الخالدة! هذا الثالوث هو الفلسفة والسياسة والأدب؛ ذلك لأن الفلسفة تصقل الفكر إلى درجة يرتفع بها عن اضطراب مفردات الوجود الجزئية، إلى نوع من التجريد العقلي تنفذ به القريحة إلى صميم الأصول التي تحدد الأشياء في جوهرها الدائم، واقعية كانت أم فرضية. والسياسة ضرب من المعرفة أخطأ مكيافللي في تعريفها حين قال:(إنها وسيلة للكذب والخداع)؛ لأنها عند المفكر الأول للبشرية أفلاطون الإلهي - إذ استعرنا لغة الفارابي -: هي وسيلة لتحقيق منطق العالم في مجال عالم الاجتماع الإنساني، فيسوده نوع من الانسجام يوجب استقرار النظام فيه؛ وتتحقق فيه (ذروة) الكمال فتستقيم حياة الإنسان. لهذا كانت السياسة هي بيت القصيد في فلسفة أفلاطون، وكانت (المدينة) كنظام اجتماعي - إذا استعرنا لغة فستيل دي كولانج - هي المحور الأساسي الذي تدور حوله فلسفات الإغريق في العهد القديم. والأدب، يكفي لتعريفه أن يلقي القارئ نظرة إلى جدول موضوعاته في مؤخر كتاب العلامة الكبير لانسون عن (الأدب الفرنسي) ليرى انفهاق نواحيه والتي في صلبها الفلسفة والسياسة؛ وذلك لأن الأديب يجب أن يعيش لتحقيق فكرة معينة في مجتمع معين، وتأكيد مذهب ونزعة واضحة في الفكر لا يحيد عن دعمها مرة واحدة في بلد من البلاد، وإلا كان قلمه رخيصاً لا قيمة لما يسطره في أسواق الأدب الرفيع؛ لأن الأدب إذا قام على العجز في الإبصار والإدراك بمعنى أن يذهب الأديب إلى ترديد (الماضي) دون أن تدفع به عين التفكير في حركتها إلى الأمام، كان أدبه مستذلاً تسوده النزعة التاريخية، لا يبصر قارئوه أبعد من أنوفهم؛ وإذا نظروا خلال ذلك الأدب لن يروا أمامهم إلا سراباً. وثانياً ينتاب هذا الأدب العجز في الإدراك بمعنى انعدام الخلق الوطني فيه، بأن يعمد واضعوه إلى تقليد الأجانب في أدبهم معتمدين في ذلك على الترجمة والاقتباس، فيكون بذلك

ص: 28

أدبا (فردياً) كله المحاكاة والتنافر مع أول احساسات أهل الوطن، لأن الأدب كأساس نتاج فكري يتعلق بالمشاعر والعواطف، فهو خاص له لون معين يشتق من طبائع الأمم وميزاتها. (اقرأ كتاب فكتور هوجو وعنوانه (الأدب والفلسفة) وأيضاً ما كتبته مدام دي ستايل عن الأدب والسياسة)

فالفلسفة، والسياسية، والأدب، تتميز بعضها عن بعض ولكنها لا تنفصل، (كالمثلث) إذا ضاع أحد أضلاعه، انعدمت وحدة الوجود الهندسي فيه. كذلك (الرجل) بالمعنى الأدبي هو ذلك الهيكل الفكري الذي تحقق فيه المعارف الثلاث. وليس في عصرنا هذا رجل يتمثل في شخصه ثالوث هذه المعارف الثلاث وانسجامها كالرئيس هريو، فهو بحق رجل الفلسفة والسياسة والأدب

أما عن فلسفته: فذهب يسعى إليها عند مفكر مصري هو فيلون الإسكندري الذي جعل منه موضوعاً لكتاب طريف يمثله في حياته الأولى. وفي دراسته هذا الفيلسوف أكبر دليل على تحقق صفة الرجولة والإنسانية فيه، لأن فيلون يوحد في شخصه وفي انسجام تام عناصر فكرية مختلفة النزعات، فهو يهودي النشأة، مصري المشاعر، يوناني الثقافة. هو عالم مستقل بذاته يتوسط بين العالم اليوناني القديم، وبين عالم التفكير في القرون الوسطى. ففي دراسته إلمام بما تقدم وما تأخر من المعارف في تطور التفكير عند بني الإنسان حتى ظهور العهد الحديث. وفي دراسته أيضاً توفيق بين الإلهام والعقل وبين عالم الشهادة وعالم القداسة، وبين الفلسفة والدين، وبين العقلية اليونانية والعقلية الشرقية. وبفضله أصبحت الإسكندرية العامرة، منارة العلم ومنبع النور في الإيمان والتجريد الفكري. فاهتمام الرئيس هريو بفيلسوف كهذا يدل على مبلغ ما هو عليه من العلم الغزير وسعة الاطلاع، وحاسة (توحيد ما اختلف) مما ساعده أهله ليكون رئيساً لمجلس النواب الفرنسي يقيم الانسجام بين ما تباين من نزعات الأحزاب، وأهواء السياسة، وجموح مناقشاتها العسيرة، لتسير في هدوء إلى سبيل الحق الذي يعلو على شهوات التخصيص الضيق في أصول الحكم

وهو في كتابه هذا يعرض أولاً لمقارنة يهودية التوراة في عهد فلسطين بالمعتقدات اليونانية، ثم مقارنة يهودية الإسكندرية - وكفرع - بنفس تلك المعتقدات الإغريقية؛ وفي موضع ثالث يتطرق إلى تحليل منهج فيلون وآرائه الثابتة في مجال الإلهيات، فيعرض

ص: 29

لنظرية التأليه عنده، وتحديد فهمه لطبيعة الأفكار والأعداد، ويثبت تأثره بفلسفة الفيثاغوريين؛ ثم ينتقل بالكلام أو شرح جوهر النفس وتشعب نشاطها، وعلى الخصوص وصف حياتها (القابلة) التي تتمثل في انفعالاتها وشهواتها الثائرة المريضة، ثم يعرض إلى مذهبه في الأخلاق وطبائع الفضائل وأصول التخلق في الحياة وما بعد الحياة، ثم يشرح أخيراً آراءه في السياسة، فينقد مبادئ الاستبداد والتزعم الجامح

وأما عن أدبه: فهو أدب بني على النبل والورع؛ لم يقصد به فرض وهم في الزعامة على الأدب في فرنسا، لأنه يعرف أن الزعامة تاج يكلل به الناس رؤوس من يتوسمون فيهم أهلية هذه الزعامة، فهي (تسعى) إليهم، دون أن تفرض على الناس فرضاً. وهذه الزعامة لم تقم يوماً ما على الغرور الفكري، ولا على مهاجمة الناس في معتقداتهم وأديانهم؛ ولم يكن التجديد في الأدب يوماً هو الانسلاخ عن تراث الآباء والأجداد والذهاب لما يمجه ذوق البلاد من التواء وغموض في التصور عند الفرنجة، وإنما هو الإقرار بفضل من تقدم من السلف الصالح، وفهم الحاضر الفكري فهما يكفل الإنتاج العقلي في المستقبل القريب. فبهذا تحفظ روح الأمة ومشاعرها، صافية من غير امتزاج، وتسير إلى الأمام في غير ما ترقيع ولا ابتذال

لهذا ذهب الرئيس هريو إلى أدب قومه، واختار من بين فتراته حقبة من الزمان هي الحد الفاصل بين نوعين في الأدب الفرنسي: نزعة المحافظة على القديم التي تتمثل في أدب القرن السابع عشر الميلادي عند راسين ومليير وبوالو، ونزعة (الإصلاح) فيه عند كتاب القرن الثامن عشر مثل روسو وفلتير ومنسكيو. هذه النزعة الثانية نزعة (حربية) لم تنسجم وطبيعة التفكير الأدبي، فقضت على الأدب (الرفيع) بثورتها؛ لأن مجاله أصبح مهزلة لتراشق خطباء الثورة بما يمجه كل ذوق أدبي سليم، ويأباه كل عُرف في التصور والتأدب. وفضت عاصفة السياسة على الاستقرار الأدبي، وحرمته الخضوع لمذهب واحد معين يمثل مشاعر أمة واحدة معينة، له لونه وصبغته الخاصة، وأصبحت أقلام الأدباء كسهم الريح في أعلى المنازل تعصف به الزوابع في كل اتجاه، فهي تباع وتشترى بيع الأنقاض في أسواق السلع البائسة، تدور وتتذبذب في سائر الأحزاب، دون استقرار محدود على مبدأ واحد ثابت لا يتغير

ص: 30

هذه الفترة التي ذهب إليها الرئيس هريو هي مبدأ القرن التاسع عشر، إذ هدأت عاصفة الثورة الفرنسية بأدبها (الوهمي) وإذ ابتدأ ظهور المذهب الرومانتيكي أي (التخصيص في الأدب)(بمعني أن يكون للأديب مسحته الخاصة الغالبة وحريته الكاملة في تصوير وتسطير ما يشاء ويهوى، دون أن يخضع مثلاً لقانون الوحدات الثلاث الذي نجده مثلاً عند راسين، والذي يتأثر هو فيه بتعاليم اليونان، وخاصة أصول (التراجيدي) عند أرسطو وسوفكليس وأربيدس في العهد اليوناني القديم)، بفضل ما كتبه شاتوبريان، وعلى الخصوص الشاعر الخالد فكتور هوجو في (مقدمته) لرواية كرمويل. واختار الرئيس هريو من أدباء هذه الفترة مدام دي روكامييه، كموضوع لرسالته الكبيرة لدكتوراه الدولة، ومدام دي ستايل، كموضوع لرسالته الصغيرة

كانت الرسالة الأولى من الضخامة بحيث طبعت في جزأين، واضطر الرئيس (هريو) أن يعيد طبعها (مخفضة) عند (بايو) لتكون في متناول كل قارئ مثقف، بعد أن حذف كثيراً من (الهوامش) التي ما كانت في واقع الأمر إلا (زينة) في رسائل مدرسة السربون، وغرضه الأول فيها لم يقتصر على دراسة هذه الأديبة وتحليل شخصيتها في ذاتها، بل كان مع ذلك دراسة الروح العامة للأدب في ذلك الزمان، وحل المناسبات الاجتماعية التي ساهمت في نضوجها الفكري. وليس أدل على صحة كلامنا من عنوان الرسالة نفسها وهو:(السيدة ركامييه وأصدقاؤها). والغرض الثاني إثبات أثر مدينة ليون التي ولدت فيها هذه السيدة في تكوينها الأدبي، والحياة الأدبية لهذه المدينة خلال ما كتبته هي عنها في زياراتها المتعددة لها في ذلك العهد. والغرض الثالث هو شرح أهمية اتصالها بمؤسس مذهب الرومانتيزم شاتوبريان وما كان له من الأثر في توجيه تفكيرها الأدبي والسياسي

والرسالة الثانية، تعرض للصداقة المتينة التي كانت بين السيدتين ركامييه، ودي ستايل، واتحادهما في نزعة العداء ضد مبادئنابليون بونابارت. فهي رسالة تبحث أيضاً في أدب نفس ذلك المعهد وفي نفس الجو الأدبي؛ غير أنها تمتاز بكونها شرحا لبعض مخطوط لم يطبع حتى ذلك التاريخ، يوجد في المكتبة الأهلية بباريس في نحو 297 صفحة بعنوان (منتخبات لآراء سياسية) فيها تعرض مدام دي ستايل عن (حلمها) السياسي وهو إمكان تحوير مبادئ الدستور القائم إبان ذلك، وإحلال جمهورية تثبت على أصول العقل. ففي

ص: 31

القسم الأول من هذه (المنتخبات) تشرح مبادئ الثورة والشروط اللازمة لتحقيق مبادئها. وفي الجزء الثاني تعرض للأصول العامة العقلية لإمكان تحقيق الجمهورية. وفي القسم الأخير تبسط أهمية أصول العقل في تغيير الحالة العامة في فرنسا في ذلك الحين. فهي بهذا المخطوط تكتب على طريقة أفلاطون في (جمهوريته) فترسم فرضاً سياسياً وإن كان يسوده الخيال، إلا أنه مع ذلك يحدد لنا نزعاتها الخاصة في الحكم، وكيف أنها تميل في نزعاتها إلى نوع معين من الديمقراطية لا نبني مباشرة على مبادئ الثورة الفرنسية بل على أصول التفكير والعقل الخالص

أما عن سياسته: فنقول إن السياسيين في أغلب أمم الأرض في زماننا هذا هم أكثر الناس جهلا بالسياسة وأصولها، وهذا الجهل راجع في نظري إلى أن السياسة أصبحت مجالاً للدجل والتهريج لا يطرق بابها إلا أصحاب الفراغ والجدة في كل شئ. ومن ادعى من رجالها العلم والفهم في مجالها، رجع في علمه وفهمه هذا إلى مفكري العصر الحديث، أولئك الذين يشرعون باسم المادة والاقتصاد، مع أن السياسة عند أهلها من آباء التفكير وخاصة أفلاطون الإلهي، تقوم على فهم طبيعة الإنسان الخاصة وتخلقه. لهذا كانت السياسة هي بيت القصيد في الفلسفات القديمة وكانت تتضمن دراسة هذا العلم، ودراسة الآداب، وعلى الخصوص دراسة الأخلاق؛ وكان لا يمكن أن يسمى الرجل (سياسياً) إلا إذا بلغ الخمسين من عمره، بعد أن عرك الحياة ووقف نظرياً وعملياً على طبائع الناس وتضارب ميولهم، وتباين تخلقاتهم، وأضاف إلى علمه بجوار منطق العقل، منطق الحياة. أما اليوم فهي لا تلم إلا (القش)(والرماد) في كل هيئة اجتماعية من الذين يؤمنون بما يوحي إليهم رجل كمكيافل أن السياسة هي (مكر ولؤم وخداع)، عوضاً من أن تكون (فلسفة، وأدبا، وأخلاقا)

لهذا كان الرئيس هريو ليس من المحدثين في السياسة، لأنه يسير وتعاليم اليونان القدماء، فهو لم يتعجل أن يطرق بابها، فيصيبه ما يصيب أهلها الآن من ابتسامات تقديرية لو فهمها الرجال منهم لأحمرت لها وجوههم. فبعد أن مهد لنفسه النضوج الفكري بثقافة جامعة وافية في الفلسفة والأدب، طرق مجال الخدمة الاجتماعية عملياً في عمادة مدينة ليون، فأثبت ما هو أهل له من العلم، وإحكام الادارة، وتصريف أمور الحياة بين الناس، حتى إذا كان في

ص: 32

نحو الأربعين من عمره انتخب مباشرة عضواً في مجلس الشيوخ الفرنسي عن منطقة الرون، متخطياً مجلس النواب، فكان أصغر عضو في ذلك المجلس عام 1912؛ ثم تطرق بعد ذلك إلى منصب الوزارة، ثم إلى رياسة الوزراء، ثم إلى رياسة النواب، فكان في كل مرة مرحلة منها (الفيلسوف العادل)، (الموحد لما اختلف). ولعب بجوار ذلك دوراً لا يستهان به في تنظيم الحياة الداخلية لأمته إبان الحرب العظمى عندما ولاه الرئيس الوزير بريان وزارة الأشغال والمواصلات والمؤونة؛ ويمكن أن يتصور خطر هذا المنصب، والقتال قائم على قد وساق

وباعتباره (عمدة) لمدينة ليون، يكفي هذا أن يرفع نظر المصريين إليه، لأن لهم فيها ذكريات تتعلق بتاريخهم في العهد الحديث. فالرجل الذي قاد الجنود المصرية في ساحة الوغى، وأثبت للعالم سمو الروح الحربية عند المصريين، ووضع أسس الإمبراطورية المصرية، هو القائد سيف أو سليمان باشا الفرنساوي الذي ترك وطنه في مدينة (ليون)، بعد انهزام نابليون، ليعمل لحساب مؤسس الأسرة العلوية الكريمة، فكان عند حسن ظن محمد علي باشا فيه؛ فحقق ما رسم له خالق مصر الحديثة ومشيد عظمتها. كذلك ساهمت ليون بعلمائها الأعلام وعلى الخصوص الأستاذ لامبير في خلق مدرسة للفكر في مصر تتمثل في ذلك الشباب النابه الذي ورد شرعة العلم من سنين في هذه المدينة، والذين أصبحوا الآن من قادة الفكر في مصر، في الفلسفة الإسلامية، وفي عمادة الحقوق، وفي بطولة المحاكم المختلطة، وفي زعامة المحاماة والثقافة. والجميل في أمر هذه المدرسة، أن أهلها يعملون على إعلاء كلمة الوطن في نبل وهدوء وورع، دون أن يتخذوا من العلم سبيلا وضيعاً لمهاجمة معتقدات أهل البلاد ودينها، وتصويرها في حفلات عامة كقبائل المتوحشين لا هم لساكنيها إلا التفكير في المأكل والمشرب كما يفعل هذا الكثير من متخرجي السربون وجامعة باريس، وهو ما لا يليق بشباب يدعي الثقافة والفهم، ومكتوب على جوازه سفره أنه (مصري)

عبد العزيز عزت

عضو بعثة الجامعة المصرية لدكتوراه الدولة

ص: 33

‌ليلى المريضة في العراق

للدكتور زكي مبارك

- 16 -

خرجت من منزل ليلى نشوان، نشوان إلى حد الجنون. والمرء في العراق لا يكون إلا في حالين اثنين: حال تحدثه فيه النفس بالغرق في دجلة من الفرح، وحال تحدثه فيه النفس بالغرق في دجلة من الغيظ. فالمرء في العراق إما أن يكون سعيداً كل السعادة، وإما أن يكون شقياً كل الشقاء

وكذلك حال ليلاي، فهي قد ترق وتلطُف فأدخل دارها بُعَيْد الغروب ولا أخرج إلا قُبَيْل الشروق؛ وقد تقسو وتعنف فتطردني من دارها بلا ترفق ولا إشفاق

خرجت من منزل ليلى نشوان، فقد رضيتُ عنها ورضيت عني، ولكن الحادث الأخير ترك في القلب عقابيل، فأخذت احترس، وهل يتفق الحب والاحتراس؟

نعم يتفق الحب والاحتراس، ولكن يضيع النعيم فالمحب المحترس يثق بنفسه، ولكنه لا يثق بمن يحب. . . وليلى بدأت تعد ذنوبي ولكن من أي تاريخ؟ منذ اليوم الذي اطمأنت فيه إلى عودة العافية!

فمن أنا في دنياي؟ من أنا في دنياي؟

لقد كنت أرجو أن تعمى ليلى عن عيوبي، ولكن هكذا كنت في حياتي، فما أذكر أبداً أني عانيت الظلم إلا على أيدي ناس أحببتهم واستقتلت في الدفاع عنهم. كنت كالسيف يلقيه صاحبه بعد أن يفله القتال. كنت كالغصن المثمر يؤخذ للوقود بعد إنتهاب ما يحمل من ثمرات. كنت وكنت، فما أشقاني وما أعظم بلائي!

كذلك دار رأسي وأنا ماض إلى قطار البصرة. وما أدري كيف صاغ الله عقلي على هذه الصورة، فعقلي لا يغفو أبداً؛ وهو دائب على الدرس والتحليل، وليس من الزهو أن أذكر أن أعلم ما يساورني من المعضلات الفلسفية أهتدي إلى حله في أحلامي، والمسيو ماسينيون يذكر ذلك، فقد كانت لي معه مواقف يوم كنت تلميذه في باريس

أمسيت أحقد على ليلى، ولكن لا بأس، فقد وثقت بي، واطمأنت إلي، فأخذت تصادق من أصادق، وتعادي من أعادي؛ وليس ذلك بالقليل، فما الذي يمنع من أن أحتمل ما يثور في

ص: 35

صدرها أحياناً من براكين؟

أليست عراقية؟

بلى، هي عراقية

وأنا رأيت الأعاجيب في العراق

فمنذ ليال أويت إلى فراشي في منتصف الليل والسماء صاحية، ثم انتبهت على الروع والفزع، فقد كان المنزل ترج سقوفه وحيطانه بعنف، فأوقدت المصباح وأنا خائف أترقب، ثم عرفت بعد التأمل أن الصحو أعقبه غيم ومطر وصواعق

ولما خرجت في الصباح رأيت الشمس آست ما جرح الليل، وكأن لم يكن شيء!

ذلك هو العراق

وكذلك تكون ليلاي في العراق

فما الذي يمنع من الصبر على دلالها أو أذاها شهراً أو شهرين حتى تمل هي من النضال؟

إن بعض المرضى يريحهم أن يثوروا على الأطباء. ومن واجب الطبيب أن يرحب بمثل هذه الثورة، لأنها بشير العافية. وستذكر ليلى أني كنت من الصابرين، وأني منحتها عطف المحب ورفقة الطبيب! ولن أفارق بغداد قبل أن تبذل في سبيلي غاليات المدامع، أن كتب الله أن تأخذ عن طبيبها أدب الصدق والوفاء

لن أنساك يا ليلى فقد عاديتُ فيك وعُوديت

واحمل في ليلى لقوم ضغينةً

وتُحمل في ليلى عليَّ الضغائنُ

ولكن هل تفهمين أو تعقلين؟

أما والله لو تجدين وجدي

جمحتِ إليَّ خالعة العذار

كانت هذه الخواطر السود تنتاش قلبي وأنا في طريقي إلى المحطة، ثم تفجر الحنان في قلبي على غير انتظار، فقد سمعت المذياع يرسل هذه التغريدة رحمة للقلوب

(ليه تلاوعيني، وأنت نور عيني)

وهي من تغاريد أم كلثوم، وكأني اسمعها أول مرة، فرجعت على نفسي باللوم وقلت: كذلك يكون العقاب! وهممت بالرجوع إلى ليلى لأقول:

(ليه تلاوعيني، وأنت نور عيني)

ص: 36

ولكن تذكرت أن الوقت لا يتسع للقيام بواجبين في وقت واحد: عتاب ليلى وملاقاة صاحبة العينين التي أرجو أن ادفع بوجهها المشرق وحشة الطريق وظلام الليل

ودار ذهني يحاور ويجادل:

- كيف تشرك بليلى هذا الإشراك؟

- أنا أُشرك بليلى؟ معاذ الحب!

والحق أني أشرك بهوى ليلى، ولكن هذا الشرك هو طريقي إلى التوحيد. أنا احب جميع الملاح لأهيئ قلبي لحب ليلى. أحب من أجلها كل ما في الوجود، وأصبح من أجلها عن جميع الذنوب

وصاحبة العينين ستسألني عن ليلى؛ والسؤال عن ليلى، من ذلك اللسان الألثغ الملجلج هو في ذاته زُلَفى إلى ليلى. وأنا أيضاً رجل مكروب تضيق به دنياه، والظلال في هوى العيون قد ينسيني كروبي؛ وليلى يسرها أن أعيش أيطيب العيش، وهي تعرف أني لا أحيا بغير الحب والنسيم، شفاها الله وشفاني

طوّفت بجميع إرجاء المحطة لأرى صاحبة العينين، وما رأيت صاحبة العينين

فتشت جميع دواوين القطار لأرى صاحبة العينين، وما رأيت صاحبة العينين

ورأى حيرتي ناظر المحطة فقال في تلطف: ضاع منك شيء؟ فقلت: لا، ما ضاع مني شيء، وإنما أخاف وحشت الطريق وظلام الليل

فتعجب الرجل من هذا الجواب المضحك وانصرف

فهل رأى الناس حالاً مثل حالي؟ هل رأوا من قبلي رجلا يرحّب بالشّرك فيعز عليه الشرك؟

أن الحب يريد أن اذهب إلى البصرة وليس في قلبي غير ليلاي وكان لي في القطار رفيقان: أولهما الدكتور عبد المجيد القصاب، وهو طبيب يمثل عذوبة الروح، وصفاء القلب، وهو من خيرة الذين عرفتهم في العراق، وثانيهما السيد ظالم وهو صحفي آيب لا تعرف بصحبته ضجر السفر ولا طول الطريق وليس فيه غير عيب واحد هو التجني على الموسيقار محمد عبد الوهاب والغناء المطلق في الغاني أم كلثوم

جلس حضرته يدندن، ولكن كيف؟ بعد أن لبس عباءة فضفاضة جعلته نسخه من سلطان

ص: 37

زنجبار

وأمسى ديواننا في القطار قريب الشبه بالغرفة التي يجلس فيها احمد رامي بدار الكتب المصرية، الغرفة التي ترق فيها الدندنة وتشتبك حتى لتحسبها خيوط العنكبوت، الغرفة الجذابة التي يحرم دخولها على احمد الزين ثم يحل ويباح لمن يسألون عن رباعيات الخيام أو تأملات لامرتين

وظالم ورامي يشتركان في صفات كثيرة أهمها تشويه الوجه ورخامة الصوت

- يا سيد ظالم!

- نعم، يا سيدنا ألبيه!

- هلم بنا إلى العشاء

- عشاء إيه، أنت عاوز تخرب جيبك؟

- أخرب جيبي؟ وكيف؟

- العشاء في القطار غال جداً

واعترض الدكتور القصاب فقال: أما يسرك أن تصنع مثل الذي كنت تصنع في قطار ليون!

- لا بأس إذن تنتظر إلى أن يقف القطار في المحطة المقبلة

وفي المحطة تقدمت فلاحة في خمار اسود ومعها ماعون هائل من اللبن الرائب، فاشتريناه بعشرة فلوس، وتقدم طفل، وفي يده رغيفان؛ فساومناه، فاشتط في الثمن، فقاومناه، فقبض على الرغيفين بأسنانه والقطار يمشي، فرميناه بعشرة فلوس ونزعنا من أسنانه الرغيفين!!

ما اظرف العبث في قطار البصرة وما أحلاه؟

وفهم الرفيقان أني ميت من الجوع فلم يأخذا من الطعام غير لقمتين

وما كاد الطعام يستقر في جوفي حتى هجم النوم هجوما لم أشهد مثله منذُ أعوام طوال، فعرفت أن ذلك اللبن الرائب أراح أعصابي، وهي أعصاب أرهقها النضال وسهر الليالي

اتكأت على المرفقة ونمت وأنا جالس، نوماً شهياً جداً، ولم يعكر نومي غير الجدل السياسي الذي أثاره الدكتور القصاب مع رفيق غاب عني اسمه، وكانا يتحدثان عن المعارك الحزبية في دمشق

ص: 38

وفي تلك الغفوة الشهية صاح صديق:

دكتور، دكتور، أنظر، أنظر، أنظر

فنظرت من نافذة القطار فإذا صاحبة العينين في سيارة مغروزة في الوحل

وهممت في النزول من القطار لأُرى هذه المرأة كيف أنفع في لشدائد!

ثم تذكرت أنني أيضاً في سيارة مغروزة في الشوك، هي سيارة الحب

ونظرت إليّ المرأة نظرات الملهوف

ونظرت إليها نظرة الغريق

نظرتْ ونظرتُ، ثم نظرتْ ونظرتُ

وأنقذ القطار الموقف فسار لا يلوي على شيء

- دكتور، دكتور

- نعم، نعم

- أنظر، أنظر

ففتحت عينيّ فإذا الشمس أشرقت وإذا سرب من الظباء الوحشية يجول في البيداء، وهي أول مرة أرى فيها الظباء الوحشية ذات الأجياد والعيون

أتكون هذه الظباء الوحشية هي البشير بالاقتراب من الظباء الإنسية؟

هو ذلك، فلم يبقى بيننا وبين الأنس بوجوه أهل البصرة غير ساعتين

الله وأكبر ولله الحمد!

هذه هي البصرة، هذه هي البصرة، وما تخونني عيناي

هذا هو البلد الطيب، بلد المبرد، المبرد صاحب الكامل في اللغة والأدب والنحو والتصريف

وبفضل الكامل للمبرد وصلت إلى منصب الأستاذية في الأدب العربي؛ وبفضل الكامل للمبرد صحبت الشيخ سيد المرصفي سبع سنين؛ وبفضل الكامل للمبرد استطاعت القاهرة أن تزاحم البصرة، فسيذكر التاريخ أن الأزهر جلس على حصيره الممزق رجل أعلم من المبرد، هو الشيخ سيد المرصفي أستاذي وأستاذ الأساتذة طه حسين وعلي عبد الرزاق واحمد حسن الزيات، وأول أستاذ تصدر لتدريس الأدب بالأزهر في العصر الحديث

ص: 39

الله أكبر ولله الحمد!

هذه هي البصرة ذات النخيل

هذه هي المدينة التي تجري من تحتها الأنهار

هذه شقيقة الفيوم، على أزهاره وأشواكه أذكى التحيات

هذه هي البصرة، وما تخونني عيناي

فإذا قيل إن منظر القناطر الخيرية على النيل منظر لا ثاني له في الوجود؛

وإذا قيل إن شواطئ الإسكندرية في الصيف لا ثاني لها في الوجود؛

وإذا قيل إن حي الشانزليزيه في باريس لا ثاني له في الوجود؛

وإذا قيل إن السهل الذي تصادفه بعد الانحدار من جبل لبنان منظر لا ثاني له في الوجود؛

وإذا قيل إن مفترق الطرق بين شارع عماد الدين وبين شارع فؤاد شيء يفوق الظنون؛

وإذا قيل إن الغبوق بمصر الجديدة والصبوح بالزمالك نعيم يذكّر بنعيم الفراديس؛

وإذا قيل إن صبايا المنصورة لها مذاق لا ثاني له في عالم الجمال؛

وإذا قيل إن مناظر الكروم في بوردو لا شبيه لها ولا مثيل؛

وإذا قيل إن بغي المصريين بعضهم على بعض معنى فريد في الوجود؛

وإذا قيل إن قبة الجامعة المصرية اعظم قباب الشرق؛

وإذا قيل إن زكي مبارك اسعد من استصبح بظلام الليل في بغداد؛

إذا قيل ذلك أو بعض ذلك فأعرف أن مدينة البصرة هي شيء فريد في دنيا الشرق، ودنيا الغرب. هي غريبة الغرائب، وأعجوبة الأعاجيب. هي فوق الأوهام والظنون، وإن جهلها فريق من أهل العراق

ما هذه المدينة؟ ما هيه؟

لقد استأنست كل الاستئناس حين عرفت أن اللغة العربية لا تزال تسيطر على مثل هذا الثغر الجميل

لقد كبرت وهللت حين رأيت وطن المبرد والجاحظ والحسن البصري وإخوان الصفاء

لقد كبرت وهللت حين عرفت أن للعروبة مواطن لا تقل روعة عن القناطر الخيرية

ثم غلبني الحزن حين تذكرت أن مناظر شط العرب تشبه مناظر القناطر الخيرية في

ص: 40

الحظ. فعن شط العرب تغافل الشعراء، وعن القناطر الخيرية تغافل الشعراء

ليس على شط العرب قصور، وليس على القناطر الخيرية قصور.

الله أكبر ولله الحمد!

هذا طريق النخيل، وهو صورة أروع من غابة بولونيا، ولكن أين الظباء؟

وهؤلاء البصريون وفي عيونهم السحر الحرام أو الحلال، ولكن أين الشعراء؟

عرفت في البصرة رجلين:

الأول هو السيد تحسين علي، حاكم البصرة، أو متصرف البصرة

والسيد تحسين علي هو ملك في صورة إنسان

هو تحفه من الأريحية العربية التي جاد بها الله على الوجود السيد تحسين علي هو الشاهد على أن شعراء العرب لم يكونوا في مدائحهم من الكاذبين

السيد تحسين علي هو الخليق بأن يقال فيه اطهر من الماء، وارق من الهواء

السيد تحسين علي هو مجموعة من الخلائق والطباع: فيه أدب مصطفى عبد الرزاق، وتباله محمد العشماوي، وتغافل منصور فهمي، وطيبة محمد جاد المولى، وسماحة علي الزنكلوني، وذكاء لطفي السيد، وسذاجة زكي مبارك، وعقل زكي مبارك، إن كان له عقل!

وبفضل السيد تحسين علي عرفت من البصرة في يومين ما لا يعرفه غيري في سنين

أكتب هذا والدمع في عيني، فالدنيا ألأم وأغدر من أن تسمح لي بملاقاة هذا الرجل مرة ثانية. فإن كان هذا آخر العهد فحسبي من الوفاء أن أسجل ثنائي عليه في هذه المذكرات، ولها قراء يعدون بالألوف

يا سيد تحسين

سلام عليك، سلام رجل مصري يحفظ عهد العراق

أما الصديق الثاني فهو الدكتور عبد الحميد الطوخي، وما ادري إلى أي بلد أُضيف هذا الطبيب، فقد عرف المنصورة وشبين الكوم والقاهرة وبغداد والبصرة والموصل، فهو بالاختصار رجل مخضرم: فيه رقة المنصورة وأدب شبين الكوم وعقل القاهرة وذكاء بغداد وظرف الموصل وكرم البصرة، هو شخصية دولية يحسب لها المنصف ألف حساب

وبفضل هذا الطبيب قضيت يومين في ابتسام، فقد ترك سيارته تحت تصرفي يومين،

ص: 41

وكانت فرصة تذكرت فيها الزميل الغالي علي جارم بك، فعهدي به يهرب مني، لأني كنت أرجو أن ينقلني بسيارته من وزارة المعارف إلى محطة المترو، وكان ذكاءه يسعفه بالهرب مني، فكان يقول: يا دكتور زكي، أنا رائح عند العشماوي بك، ثم يروح ولا يعود!

ولما قدم الجارم بك بغداد كنت انتظر أن ينتفع بخبرتي فيسألني عن الحياة العلمية والأدبية والفلسفية، ولكنه لم يسألني إلا عن شيء واحد؛ لم يسألني والله العظيم إلا عن أسعار البنزين في بغداد!!

نحن في البصرة

إي والله، نحن في البصرة

وفي تلك المدينة تسأل سيدة نبيلة عن طبيب ليلى المريضة في العراق

وتطلب أن تراني وحدي، فاذهب إليها وحدي ولا يكون معنا ثالث غير زوجها الشهم النبيل

ويدوم المجلس ساعات وساعات في جدل هو أنظر واشرف ما عرفت العقول

وتجري على لسان تلك السيدة ألفاظ يوحيها روحها الشفاف فيبتسم زوجها وهو جذلان

وفي غمرت تلك النشوة انظر ساعتي فأرى الموعد أقترب للمحاضرة التي دعاني إليها سعادة الأستاذ عبد الرزاق إبراهيم مدير المعارف بالبصرة. وتمد تلك السيدة يدها لتوديعي فأبكي لأني لا أضمن الرجوع إلى البصرة، أنا الطائر الغريب الذي لم ينعم في البصرة بغير سواد العيون في غفوة الزمان، وهو لا يغفو في العمر كله غير دقائق

وبعد لحظات أكون في نادي البصرة فأرى الناس في انتظاري بالمئات، إن لم أقل بالألوف. وهناك أرى فتاة جميلة هي بنت عمة ليلى، فتسرع إلى لقائي بعد انتهاء المحاضرة وهي تقول: حافظ على شبابك يا دكتور، فإني أخشى أن يؤدي التأليف بشبابك

فأتلطف وأقول: لا تخافي على شبابي يا بنيتي، فهو باق ما بقيت عيون الظباء

وتشجع الفتاة فتقول: أخشى أن يقتلك التأليف!

فأتشجع وأقول: لا تخافي عليّ يا بنيتي فأنا لا أخاف الموت، وإنما يخافني الموت

ويروعها ذلك فتقول: وكيف؟

فأجيب: لأن الموت جبان وهو يخشى أن أكتب ضده في الجرائد والمجلات!

أفي الحق أنني زرت البصرة ورأيت شط العرب، ونعمت بكرم السيد تحسين علي،

ص: 42

ومروءة الدكتور عبد الحميد الطوخي، وأدب السيد عبد الرزاق إبراهيم، ورأيت بنت عمة ليلى، وشربت الشاي في منزل السيدة التي تغار من ليلى؟

لا تصدق ذلك يا قارئ هذه المذكرات، فتلك أحلام رأيتها في نومي ولن تعود

أن سمعت أيها القارئ أن جرائد البصرة اعتركت في سبيلي أسابيع وأسابيع فلا تصدق

أن سمعت أيها القارئ أنني كحلت عينيّ بتراب البصرة فلا تصدق

أن سمعت أيها القارئ أنني عرفت السيد تحسين فلا تصدق

أن سمعت أنني زرت قريبات ليلى في البصرة فلا تصدق

أن سمعت أنني ألقيت في البصرة محاضرة سمعها مئات أو ألوف فلا تصدق

أن سمعت أن حاكم البصرة ودعني على المحطة فلا تصدق

أن سمعت أنني عانقت عشرين نخلة في البصرة فلا تصدق

أن سمعت أن انهار البصرة داعبتني بالمد والجزر فلا تصدق

أن سمعت بأن اسماك شط العرب قبلت يدي وخدي فلا تصدق

أن سمعت بأني لم انفق درهما واحد في البصرة فلا تصدق

أن سمعت أن البصرة هدتني بعد ضلال فلا تصدق

أن سمعت أنني ودعت البصرة بالدمع السخين فلا تصدق

أيها القارئ!

أنا ما رأيت البصرة، ولا رآني أهل البصرة؛

وشاهد ذلك أنني لا أزال في عقلي؛ ولو أنني رأيت البصرة لخبلني حسنها فأصبحت من المجانين

أيها القارئ!

أما سمعت أنني اخترع الأقاصيص؟ فلتعرف أن زيارة البصرة من تلك الأقاصيص

متى أعود إليك أيتها البصرة مرة ثانية؟ متى اعود؟ متى أعود؟

(للحديث شجون)

زكي مبارك

ص: 43

‌التاريخ في سير أبطاله

ابراهام لنكولن

هدية الأحراج إلى عالم المدنية

للأستاذ محمود الخفيف

- 9 -

يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من

سيرة هذا العصامي العظيم

وكان لنكولن يرى في هذا الطواف مدرسته التي يتلمس فيها المعرفة وأي معرفة هو أحق بها من دراسة طباع الناس والوقوف من كثب على أحوالهم بل والنفاذ إلى سرائرهم وخلجات نفوسهم؟ أي معرفة هو أحق بها من هذه وهو في غد رئيس الولايات ومحطم الأصفاد؟

لذلك كان في طوافه إذا فرغ من عمله يغشى المجالس وينطلق إلى البلاد القريبة فيسمع ويرى، ويأخذ بقسط من الأحاديث، ويدلي بآرائه إذا عن له أن يبدي آراءه في أمر ويستفهم الناس ويسألهم عن أمانيهم؛ وله مما يلقى إليه من القضايا هاد يرشده في تطلعه وتقصيه

ويظل هذا شأنه حتى ينتهي دور المحكمة فيعود إلى سبر نجفيلد وتنظر زوجه فإذا هو يدخل الباب وفي عينيه الحنين إلى زوجه وأولاده، وفي أساريره من البشر بقدر ما في جيبه من المال؛ ثم يدفع إليها بمظلة قديمة مهلهلة حائلة الصبغة يمسكها بعضها إلى بعض بخيوط ورقع، ويلقي إليها حقيبة اتخذها من رقعة بساط قديم بها من الأوراق ما ضاقت عنها جيوبه وما صغرت دونها قبعته، ويقبل على بنيه فيرفعهم على كتفيه وذراعه كالعملاق وهم فرحون يتسابقون إلى محادثته حتى لتضيع كلماتهم فيما يثيرون من زياط، وأمهم تكظم الغيظ لهذا الخروج على النظام

وكانت مدرسته في المدينة إذا فرغ من قضاياه الكتب يستوحيها، وإن له فيها لغنية ومتعة. وما تلك الكتب التي يقرأ اليوم؟ إنه شكسبير العظيم الذي رفع المرآة فانعكست فيها الطبيعة

ص: 45

واضحة سافرة كأتم ما يكون الوضوح والذي مست ومضة من عبقريته القلب البشري فأنارت أكثر نواحيه، وهو مولع منذ حداثته بدراسة النفس البشرية والغور إلى أعماقها، ومن غير شكسبير يهديه السبيل؟ لذلك كان إذا تناول كتاباً من كتب القانون ساعة أو بعض ساعة ثم ألقاه عمد إلى مأساة أو ملهاة من آثار شكسبير فأكب عليها ونسي كل شيء سواها؛ فإذا أتى عليها فكر وفكر وظل شاخصاً ببصره في ثرى الأرض أو في لازورد السماء كأنما أخذته عن نفسه حال. . .

وكانت له في بعض آثار بيرون متعة، ومن بينها قصته العظيمة (دوجوان) وهو بين هذا وذاك يقلب صفحات التاريخ العام وصفحات تاريخ بلاده يستزيدها معرفة بأحوال الأمم ويرى فيها خطى البشرية في شتى مراحلها. أو ليس الزمان يسير به ليضعه بعد سنوات على رأس أمته؟

ومن عجيب أمر هذا العصامي أنه تناول فيما تناول من الكتب كتب العلوم وأخذ يدرسها وقد جعل لها ساعات من فراغه، فهذا علم النبات له نصيب من جهده، وذاك علم الحيوان له نصيب، ثم هذه الكهربة تصيب من عنايته حظاً ليس باليسير!

ولكن فيم العجب؟ وهل تضيق العبقرية عن شيء؟ أني وإن كنت أسلم بما للبيئة من خطر وبما للميل النفسي من اثر في توجيه المرء، أعتقد أن العبقرية إنما هي فوق ذلك، وأن العبقري مهما تناول من الأعمال فإنما ينفذ إلى لبابها بقوة نفسه. وهذا لنكولن لو لم يكن محامي أو رجل السياسة ما قعد به شيء عن أن يكون الشاعر الفحل! أو لو أنه أفرغ إلى العلم جهده وجعل للدراسة والتحصيل وقته لكان لنا منه العالم الفذ أو الفيلسوف المبتدع. ولقد تأتى له أن يقول الشعر في بعض المناسبات فجاء شعره صورة من نفسه تشعرك بساطة العظمة والسمو

وإنك لتحس الشعر في نفسه وتراه ينظر إلى الحياة والناس نظرة الشاعر؛ ولكن خياله لا يطغي على عقله كما أن عقله لا يأتي على نوازع قلبه. وإني أراه في ذلك أكثر الناس شبهاً بجوت شاعر ألمانيا الأكبر، ذلك الذي كان يجمع بين اللمعة الخيالية والنظرة العلمية والحكمة العملية. . .

وكان ابراهام قد بلغ أشده واستوى، وأخذت نظرته إلى الحياة والناس تزداد عمقاً وهو في

ص: 46

أول العقد الخامس؛ وصار يحس كأن شيئاً يقلقه، شيئاً خفيّاً لا يدرك كنهه يقلقه ويحرك نفسه وينقبض له صدره أحياناً؛ فهل أخذت السياسة تدب في نفسه من جديد فهو يتأهب ويتحفز؟

ولاحظ أصحابه أن إمارات الحزن التي ارتسمت على وجهه منذ حداثته أخذت تزداد وضوحاً، فهو على الرغم من عذوبة روحه في أحاديثه وطلاقة بشره في قصصه، تنطوي نفسه على كثير من الهم لا يعرف مبعثه؛ وهو إذا خلا إلى نفسه فكر وأمعن في التفكير، وقد ترَّبد وجهه وانعقدت عليه كآبه مخيفة ينزعج لها خاطر من يراه؛ وكثيراً ما وافاه صديقه هرندن وهو على هذه الحال؛ وكثيراً ما سمعه يغمغم بمثل أنين المحزون. . .

وهو يدعي منذ زمن (أيب العجوز) أطلقها عليه الناس وهو في ريعان فتوته وربيع حياته، وذلك لما كان يظهر على وجهه من تجاعيد هي من أثر الهم لا من أثر السنين؛ وكان يسره أن يستمع هذا الاسم الجديد كما كان يسره أن يسمعهم يدعونه باسمه الآخر (أيب الأمين)

ما باله اليوم مهموماً وقد بسط الله له رزقه كثيراً حتى لقد باتت تجدي عليه المحاماة - على قناعة في الأجر - ما يزيد على خمسمائة من الجنيهات كل عام؟ أجل ما باله مهموماً وقد استطاع أن يلقي عن كاهله ذلك العبء الذي آده حمله زماناً، فلقد خرج من الدين الأهلي؟ يا ويح نفسه من هذا الهم الدفين الذي يتزيد منه على الأيام. . .

ليس غير السياسة يلقي بنفسه في غمرتها لتقوم أحداثها بين نفسه وبين همومها. ليس غير السياسة تشغله عن وساوسه وتباعد بينه وبين امرأته التي ما برحت تنغصه وتضايقه في غير موجب

إن زوجه تعيش اليوم من وراء كده في رغد؛ فهو يلقي إليها كل ما تصل إليه يده لا يسألها إلا أن تدفع له ثمن ما يطلب من الأشياء وهي قليلة؛ وما كانت له بالمال حاجة وهو الذي لا يعرف أبهة المظهر ولا تغتره شهوات الحياة. حسبه من المال ما يسد به رمقه ويستر به جسده، وأمر ذلك موكول إلى امرأته؛ ثم ما يفرج به الكرب عن بعض المساكين وهو يفعل ذلك في كثير من الأحيان على كره منها. أما هي فلا ترضى بغير فراهة المظهر وأناقة المنظر؛ تروح وتغدو في مركبة هي اليوم بعض ما تملك، وما رأى الناس زوجها في تلك المركبة قط؛ وتلبس من الثياب ما تحكي به أهل باريس، وتقتني من الأثاث ما تدل به على

ص: 47

كثير من الزوجات. . . تفعل ذلك وإن كان زوجها ليطلع على الناس في حلل تطاول عليها العهد وقبعة متضعضعة متغضنة؛ على أنها تراه في ذلك هو الملوم، فهي ما زالت تهيب به أن يغير من عاداته وأن يعنى بهندامه، وهو لا يحفل إلا النظافة، حتى أنها لم تجد بدَّا آخر الأمر من أن تسكت وهي كارهة. . .

ولقد كان يهرب من المنزل أكثر الوقت، فيقضي النهار كله في محل عمله أو يقضي طرفاً من في أنحاء المدينة في بعض المنتديات أو في بعض الحوانيت، يتحدث إلى هذا ويسأل ذاك عن حاله، ويستشيره هؤلاء في أمر قضائي، ويعقد غيرهم حوله حلقة يتساقطون فيها الحديث، ثم يعود إلى منزله فيمضي الوقت في القراءة أو في ملاعبة أولاده؛ وإنه ليحذر في هذه الملاعبة أن تدخل زوجه الحجرة فجأة فتراهم يركبون ظهره وهو يزحف بهم على البساط، فتصرخ وتعكر عليهم صفوهم!

عجيب أمر تلك المرأة التي تحب بعلها وتعلي قدره ثم هي لا تفتأ تمد له من أسباب الشحناء والشقاق ما يخيل إليه أنها تبغضه، لولا أنه يعتقد أنها ما اختارته زوجاً - على الرغم مما وقع يومئذ منه في حقها - إلا لما تضمر من محبته والإعجاب به. . .

دخلت عليه مرة ومعه رجل من أصحابه، فسألته عن أمر كانت طلبت إليه قضاءه، فلما علمت أنه لم يقضه عنفته وولت محنقة فجذبت الباب وراءها فأحدث ضجة مزعجة؛ ونظر لنكولن إلى صاحبه وقد قرأ في وجهه الدهش، فقال وهو يبتسم ليخفي بابتسامته ما به: إن الأمر هين، وإن هذه عادة امرأته مردها إلى حدة مزاجها ولن يكربه ما فعلت بالباب فلعله يكفكف من حدتها

هذا طرف من حياة لنكولن في سبرنجفيلد بعد أن عاد من وشنجطون، وبعد أن انتهت الدورة الثامنة لطواف الهيئة القضائية في تلك الأصقاع؛ وإنه ليتطلب مخرجاً من هذه المدينة وما كان له من مخرج إلا أن تستثيره السياسة من جديد. . .

وآن للسياسة أن تدعوه إليها، وقدر لتلك الدعوة أن تجئ عن معضلة العبيد، فلقد باتت تلك المعضلة وهي كبرى المسائل القومية لا مناص من مواجهتها إذ صارت تحمل في تضاعيفها كل ما عداها من المسائل

ازداد ثراء أهل الشمال بسبب الصناعة، واتسع نطاق التعليم عندهم، وقوي نفوذهم

ص: 48

وتسامت إلى الحياة نظرتهم، لذلك شاعت في الشمال حركة الدعوة إلى تحرير العبيد وتعالت أصوات الداعين واشتدت على الأخص حركة المنادين بالا يسمح بعد بانتشار العبيد في ولايات جديدة

وبقى أهل الجنوب أهل كسل وخمول، لا تزال حياتهم تقوم على الزراعة، والزراعة عندهم تقوم على أيدي العبيد، وازداد طلب القطن فاشتدت الحاجة إلى العبيد؛ لذلك ازدادت في الجنوب حركة التمسك بالعبيد، واشتدت على الأخص حركة المنادين بوجوب السماح للعبيد بالانتشار فيما عساه أن يضم إلى الاتحاد من ولايات

وماذا يخيف أهل الشمال من انتشار العبيد؟ إن للمسألة وجهاً آخر إلى جانب الوجوه الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية، وجهاً لا يقل خطره إن لم يزد عن هاتيك الوجوه؛ وذلك أن التمثيل النيابي في أحد مجلسي الاتحاد، وهو المجلس الأدنى، كان قائماً كما رسم الدستور على قاعدة لمسألة العبيد فيها دخل كبير؛ وذلك أن كل ولاية كانت ترسل إلى ذلك المجلس من الممثلين عدداً يصغر أو يكبر حسب عدد سكانها. ومن عجب الأمور أن العبيد، ولم يكن لهم حق في شئ حتى في أنفسهم، قد أقيم لهم وزن في هذا الباب فقيس عدد السكان في الولايات بما يقطنها من بيض وعبيد على أن يعد كل خمس من العبيد بثلاثة من البيض؛ ومعنى هذا أن انتشار العبيد يزيد عدد ممثلي الولايات الجنوبية في المجلس الأدنى للاتحاد؛ أما في المجلس الأعلى (مجلس الشيوخ) فكان يمثل كل ولاية عضوان صغرت تلك الولاية أو كبرت. . .

ولقد كان أهل الشمال في الأصل أكثر عدداً من أهل الجنوب فكانت لهم بذلك أغلبية في المجلس ولكنها كانت أغلبية صغيرة؛ ولقد أخذ عددهم يزداد كما ذكرنا فظلت لهم الغلبة؛ ولكن أهل الجنوب يريدونها أن تكون لهم ولن يتسنى لهم ذلك إلا بانتشار العبيد

لذلك نرى أن معضلة العبيد كبرى المعضلات وأنها ناجمة من عوامل أساسية ترجع إلى كيان الاتحاد نفسه ولمن تكون السيطرة فيه: لأهل الشمال أم لأهل الجنوب؟ وهما قسمان متباينان مزقت بينهما عوامل البيئة، هذا إلى ما في المعضلة من عناصر خلقية إنسانية لها نصيبها من الخطر والاعتبار

ولما تقدمت بالاتحاد السنون أصبحت مسألة العبيد بحيث أن أدنى اضطراب فيها يؤدي إلى

ص: 49

زلزلة في هيكل الاتحاد كله! ولقد فطن قادة الرأي إلى ذلك من أمر بعيد، وذلك حينما انضمت ولاية جديدة هي ولاية مسُّوري إلى الاتحاد عام 1820 ولنكولن يومئذ في الثانية عشرة، فلقد أصدر المجلس قراراً خطير الشأن عرف باسم (اتفاق مِسُّوري)، ومؤداه أنه لا يسمح بانتشار العبيد شمال خط عرض 36 اعني أن هذا الخط يفصل بين الولايات التي يسمح فيها بنظام العبيد والولايات التي يحظر فيها ذلك النظام

منذ ذلك اليوم يعمل الساسة على توطيد هذا الاتفاق وكان من أكبر الداعين إلى مراعاته دوجلاس ذلك الذي رأيناه منذ أعواميجلس إلى جانب لنكولن نائباً في مجلس مقاطعة ألينوس. ومما يذكر له في هذا الصدد قوله: (إن هذا الاتفاق أبدي وجوهري)

ولقد رأينا فيما سلف كيف كان دوجلاس ينافس ابراهام وهو يمد عينيه إلى الهدف، ورأينا كيف كان يأخذ الطريق على منافسه في كل شئ. وهاهو ذا اليوم وله في الحزب الديمقراطي مركز الصدارة، يرج البلاد رجة عنيفة بخطوة جريئة من خطواته

طلبت ولاية واسعة في الشمال الغربي هي ولاية نبراس كنسيكا إلى الاتحاد أن يضمها إليه، فسرعان ما عادت مسألة العبيد إلى الظهور كما عادت من قبل في عدة حوادث وآخرها أخذ تكساس من المكسيك

عادت المشكلة وتفاقمت، فهذه الولاية تقع شمال خط عرض 36 ومع ذلك قام رجال الحزب الديمقراطي يدعون إلى جعلها ولاية من ولايات العبيد! ولا تسل عما قام في الشمال إزاء ذلك من هياج وغضب ونفور، وهنا يخطو دوجلاس خطوته فيعلن أن قيام العبيد في ولاية أو عدم قيامهم أمر يجب أن يترك الخيار فيه إلى الولاية نفسها ولا عبرة بعد ذلك برأي مجلس الاتحاد. بذل دوجلاس كل ما في وسعه وهو يومئذ عضو في مجلس الشيوخ حتى اصدر المجلس قراراً بذلك، على الرغم من اتفاق مسُّوري وعلى الرغم من تصايح أهل الشمال وانزعاجهم

وسرت في الشمال موجة من الهياج والسخط لن يصفها كلام؛ ورأى كل من له حظ من الفكر أن هذا القرار الذي بذل دوجلاس ما في وسعه لاستصداره هو الجمرة التي سوف تتوهج بعد حين فتندلع منها نيران الحرب الأهلية. ولقد كانت هذه الخطوة من جانب دوجلاس، وما أعقبها من حوادث، سبباً في عودت لنكولن كره أخرى إلى ميدان السياسة

ص: 50

وقام بين الرجلين من جديد جلاد وصراع

(يتبع)

الخفيف

ص: 51

‌تطور الحركة الأدبية في فرنسا الحديثة

فرديناند برونتيير

1894 -

1906

للأستاذ خليل هنداوي

- 3 -

خلال العوالم النفسية

إن علم النفس - في كلا العصرين المدرسي والإبداعي - لم يصل إلى القول بأن كل شئ في النفس الإنسانية واضح جلي. وكورنيي وديكارت يؤمنان بهذا الوضوح. أما راسين ومدام فايت وروسو فلا يؤمنون إيمانهما

يقول هرميون لأوريست؛

- من قال لك. . . إنني قلت لك إنني قتلت (باروس) ولكن هذا ليس إلا جزءاً من نفسي الذي أبغضه وأريد نسيانه وأريد جزءاً آخر يقول عكس هذا

والأميرة (كلاف) لا تعرف ولا تريد أن تعرف لماذا لم تحب (كلاف) ولماذا أحبت (آخر) بدلا منه. إنها تناضل ولكنها لا تستطيع أن تفسر أسباب هذا النضال

أصحاب المدرسة الإبداعية قد أحبوا الأهواء المضطربة، وملئوا رواياتهم بالمشاعر المظلمة، والنفوس التي يناقض بعضها بعضاً، ولم يجهلوا أن كل شخص إنما هو عالم بذاته بل جملة عوالم مختلفة. ولكن هؤلاء كأولئك قد جربوا أن يعملوا من هذه العوالم عوالم عقلية حيث يمكن النفاذ بوضوح من الأعمال إلى الأسباب. وقد أعطوا أمثلة على ذلك أسلوبهم الذي يعبر - بنظام عن الفوضى - وبوضوح عن التشويش

وهكذا كان علم النفس في المدرسة الاتباعية واضحاً لأنه يرى أن كل شئ يمر بالنفس، وكل شئ في النفس بالشعور. وبين المادتين - سواء تعاكسا أو اتحدا - يمكن دائماً أن نجد مذهباً واضحاً قابلا للتحليل. ولكن هذه النظرية (الديكارتيه) قد تحورت في القرن الثامن عشر (إذ ليس الإنسان ما يريد أن يكونه، أو ما تسمح له نفسه بأن يكون. فالمادة تعمل فيه وتؤثر فيه وهو يحتمل تأثير المناخ والبيئة، وهو يخضع لجسده ولكل ما يؤثر في جسده.

ص: 52

وإن للمناخ والوسط تأثيراً كلياً وباستطاعتهما أن يغالبا الطبع الذاتي، ناهيك بأن التأثيرات التي تأتي من الجسد هي حالات وصدف تفر من كل منطق، ولقد تكون حياتنا الباطنة - في كثير من مواطنها - خالية من العقل

فالوراثة التي جعل منها - زولا - قاعدة علم النفس تستطيع أن ترتب الحوادث النفسية على حوادث سابقة. وأصحاب هذا المذهب يخضعون التحليل العلمي للمنطق العقلي، ويرجعون الحوادث النفسية لحالات عضوية خاضعة لنظم المادة. ولكن هذه المادية قد حطمت والتحليل العلمي قد نوقش فكان صبيانياً!

وهاهنا تظهر مبادئ علم النفس المدرسي التي ظن أنها تهدمت. فان بعض علماء ما وراء الطبيعة من الألمان - كشوبنهاور وهارتمان - جربوا بأن يقولوا: إن العالم لا يُقاد بالعقل، وإنما يقاد بالإرادة دون أن تحسب حساب نفسها، ودن أن تقلق لكونها حقه منطقية. ولقد كان لفلسفة (شوبنهاور) تأثير ذائع في فرنسا حول سنة 1880 وهي ولا ريب تمت بصلة إلى علم ما وراء الطبيعة. ولكنها تعتمد في كثير من أصولها على نظريات نفسية طبية.

فإن آثار العالم - شاركوا - 1870 - 1890 تعمل على إثبات النظرية القائلة بأنه يمكن أن ينشأ في العقل من موضوع واحد أفكار وإيرادات مجهولة لا يعيها العقل الواعي؛ ولكنها تؤثر في الجسم تأثيراً أشد وأوسع مدى من تأثيره

والعالم - ريبو - بدرسه لأمراض الذاكرة والإرادة يثبت أن فينا - ذاكرات - لا نعيها ولكنها تحيا في أنفسنا منتحيه بعيدة، وباستطاعة داء ما أن يوقظها ويحيها. (وبطرس جابي) أقر بأنه يمكن في الكائن الواحد أن تقيم نفوس متعددة، كل نفس لها عالمها، وكل نفس تظهر بدورها. والفلاسفة أنفسهم يغادرون العالم الواعي ويفتشون عن المسائل الكبرى في عالم غير واعي حيث لا سلطه للعقل ولا للمنطق. والطبيب الكبير (فرويد) انطلق إلى دراسة الغريزة الجنسية وقال: إن فينا كائنين، كائناً طبيعياً يلائم طبيعتنا، وكائناً سطحياً يأتي بتأثير التربية والمجتمع. وشعورنا لا يريد أن يعرف إلا الثاني، ولكن الأول هو الذي يبقى قادراً قاهراً. وهو الذي يطلب ألينا في أعماق أنفسنا حركة أو حلماً أو جنوناً أو جريمة. وهذا التحليل النفسي - في عدم الوعي - لا يبقى مغلولاً في درس الحالات الشاذة. والفيلسوف - برغسون - يجد أن الشعور أو الوعي إن هو إلا جزء من كوننا

ص: 53

العقلي وليس له دور لتحليل شئ أو عمله أو تفهمه. دوره دور عملي. . . وهو يوضح في بعض الأحيان نقطة الأشياء التي يجب أن نعمل عليها، والناحية من الفكر الذي يستطيع أن يعمل. ولكن عقلنا وشخصيتنا قد يفوقان هذا القسم غير الواعي. وعند برغسون وغيره من الفلاسفة يصبح غير الواعي شكلاً من الحياة الروحية، والينبوع الخفي العريض العميق حيث تجري يرقة حياتنا الواعية المنطقية. . . ونحو هذا الينبوع اتجه الرمزيون - منذ أعوام - والروائيون

المؤثرات الأجنبية في الأدب الفرنسي

لم تكن رواية تولستوى ودوستوفسكي رواية رمزية ولا مبهمة ولا رواية لا شعورية. على أنها في بعض نواحيها تحمل طابع الثقافة الفرنسية المدرسية على أنها أثرت في الطريقة التي جاءت بها الرمزية. فأشخاصها - ولا سيما أشخاص تولستوي - هم أقل اعتناء بالأفكار من المثل الأعلى، وأقل ضجراً في تحليل أنفسهم من أن يجدوا في أنفسهم بساطة عميقة. ويظهر أنهم يجهدون النفوس ليتفوقوا على ذواتهم المفكرة المعقدة ليبلغوا ذاتاً بسيطة غريزية حيث يجدون سبب حياتهم. فعقلهم وإرادتهم المفكرة تعترضهما اندفاعات لذة عابرة يحتملانها بتوبيخ ولذة. هذه رواية نفوس ابتدائية أو وحي نفوس قد تكون كثيرة الدعوة إلى المثل الأعلى، ولكنها عاجزة عن إيجاد مثلها الأعلى في الثقافة العقلية

وهنالك تأثير (إبسن) ورواياته المسرحية! ففي مسرحياته موضوعات شديدة عنيفة لأنه كتب في بلد ذي تقاليد راسخة، وأخلاق مفرطة. عمل (ابسن) على تحرير الفرد من حالة خانقة ومن أنانية متسيطرة. أراد أن يحيا الإنسان حياته فلا تكون المرأة عبدة للرجل ولا الأبناء عبيداً للآباء والأجداد. وهذه الموضوعات كانت سبب نجاح (ابسن) وقد لا يكون فيها ما يغري كثيراً ولكن في (ابسن) شيئاً وعبقرية. فان أشخاصه في الوقت الذي يعرفون فيه بوضوح ماذا يريدون، وعندما يفهمون أنفسهم، ويتفاهمون ما بينهم تراهم لا يحللون أنفسهم، ولا يتناجون ما بينهم محللين أنفسهم كالأشخاص في المسرح المدرسي والحساب الذي يجعلونه منهم يبدأ ثم ينتهي قصيراً. ولقد يخونون أنفسهم وقد تكون هذه الخيانة اندفاعية. وعملهم لا يظهر إلا لكي يعبر عن ضجرهم، وكثيراً ما لا يفهمون أنفسهم، ولا يفهمهم غيرهم. يشعرون بأنهم وحدهم ويحسون أنهم منقادون بما لا يُعرف نحو ما لا

ص: 54

يُعرف في خباية من الأسرار والحرقة مما لا يندى منه الرواية إلا قليلاً. ثم يأتي زمان يحسون فيه رموزاً - رموزاً لا أفكارا صافية، ولكنها هادئة لا مضطربة. الحياة ليست خلاله منتظمة ولكنها معكوسة فيه كثيراً، والفن أو عدم الفن يشدد تأثير العمق والأسرار

(يتلى)

خليل هنداوي

ص: 55

‌في عيد الربيع

البعث

للأستاذ محمود الخفيف

خَالِسِ الزَّهرَ في مُتوع نَهارِهْ

واستشفَّ الخفِيَّ من أَسْرَارِهْ

مُدَّ عينيكَ في مطارفه الخْض

رِ مَليَّا واسْتَشْعِرِ الحسْنَ وانْشُقْ

نَفحَةَ الخْلدِ من شَذَي نُوَّارِهْ

هُوَ ذا البَعْثُ هَزَّ كلَّ مكان

ومَشى في الرِّياض جَمَّ المعاني!

أطْلِقِِ النَّفْس في مواكب آذا

رَ وغَيبْ وساوسَ القلب واطرحْ

خَلَجَاتِ الهمُوم في تَيَّارِهْ

سَرِّح العَينَ هل ترى غير بشْرِ

ونماد في كلِّ وادٍ وسِحْرِ؟

والْتِماع وطْيلساَنٍ وَوَشْيٍ

وتَهَاوِيلَ تلْمَحُ النَّفْسُ فيها

من معاني الربيع رُوحَ ابتكاره

الضُّحَى زَاخِرٌ بِفَيْضِ الحياةِ

والرَّوابي مِسْكِيَّةُ النَّسماتِ

تنْهَملُ النَّفْسُ من جَمَالٍ وعِطْرٍ

وسناً ساحِرٍ تُطيفُ برُوحي

لُمَعُ الوَحْي من وَراء ستارِه!

يقْظَةٌ في الرِّياض توقِظُ حِسِّي

وطُيوفٌ بهَا تَملَّكُ نَفْسي

يَخْفِقُ القَلْبُ للجمال ويَهفُو

للضُّحَى مثْلَ زهْرَةٍ نبَّهتْهَا

نَفَحَاتٌ من دِفْئِهِ وازْدِهارِه

نْثرَةُ هاهنا ونَفْشٌ بديع

واتساقٌ هُنَا وحَشْد جميعٌ

زِينةٌ صاَغَهَا الرَّبيعٌ فُنُوناً

هِيَ في العَيْنِ بَهْجَةٌ وهْيَ لَحْن

مَلَكَ القَلْبَ واستوى في قرَارِه

زَهَرَاتٌ فيهِنَّ يغْرِقُ طَرْفي

تتَحَدَّى ألوانُها كلَّ وَصْفِ

طاف بالنَّفْسِ عندهُنَّ شُعور

أين منه البياَنُ؟ أين القوافي؟

أيْن نُورُ الصبَّاَح من أنوارِه؟!

خطَرَاتٌ تميلُ بي للسُجُوِد

وَرُؤَى مِن وَراء هذا الوجود!

ص: 56

شاع في نَفْسيَ الجلالُ ومَسَّتْ

من هدى الباَرِئ المصوِرِّ قلبي

لمَحاتٌ تُشْتَامُ في آثارِه

يا رُبوعاً أفْوَافُهَا سَحَرتْني

زَحْمَةُ الحُسْنِ حَوْلَها شغلتني!

تتبارى جُمُوعها باسِمَاتٍ

وادعَاتٍ في زَهْوِهَا خَفِرَاتٍ

شَاقَهَا للرَّبيع طولُ انتظارِه

امْلأِي القَلْبَ من حدِيثِ الشبابِ

وأَفَانينِ لَهْوِهِ المُسْتَطَاب

إيه يا زهْرَةَ البَنَفْسِج هاتي

ما تحفظينه وأفِيضي

من حديث الهوى ومن أخْبَارِه

وصِفي يا وُرُود وَرْدَ الخُدُودِ

ورُوَاَء الصِّباَ وطُهْرَ الوُعودِ

هِيهِ! هذا الرَّفيفُ هَاجَ فؤادي

هات! هَاتِ الحَدِيث حُلوً انَديَّا

كنسيم الرَّبيع في أسْحاَرٍه

صَوِّرِي لي من الجمالِ الشِّفَاهاَ

حالماتٍ رَفَّتْ عليها مُناَهاَ

هَدْهِدِي القَلْبَ يا ثُغُورَ الأَقاَحي

رَوِّحِيهِ بهَمْسَةٍ من عِتابٍ

كم عَصَرْتُ السُّلَافَ من قيثارِة

العَصَافيرُ في العِشاَشِ تُغَني

ما أرى مِثْلَ لَحْنِهاَ أيَّ لَحْنِ

فَرَحٌ صادِقٌ ولَهْوٌ غريرٌ

وهناءٌ ونشوةٌ وزِياَطٌ

يَرْغَبُ القَلْبُ بينها عن وَقاَرِه!

واليمَامَاتُ قَدْ ذَكَرْنَ الهديلَا

فَنَظمْن الغِناََء لحناً جميلاً

ناعماَتٍ في أيكها خافضاَتٍ

يملأ السمعَ من غِناَها حنين

لو حكى العُودُ شَجْوَهُ لم يُجَارِه

والفَراشُ الطَّرُوبُ حُلوُ الطَّواف

في الرُّبا، في البطاح، حولَ الضِّفَافِ

حائمٌ خافقٌ بعيدٌ قريبٌ

جَدَّ في الرَّوْضِ سابحاً وتهاوَى

حائراً بين زَهْرِهِ وثمارِه

فَرْحَةٌ هَزَّ سِحْرُهاَ كلَّ حَيِّ

صُغْتُ لحني من لحنِهَا العبقريِّ

تتوالى الأيامُ كرًّا ويبقى

سِحْرُ هذا الجمالِ يُبهجُ نَفسي

ص: 57

كلما طاف طائِفٌ من نهارِه

هاَلِ. ها يا بواسم الزًّهَرَاتِ!

هالِ ها. يا سواجعَ الأيك هاتي!

ما غَدٌ؟ هذه الهُنَيْهَةُ حَسْبِي

واعظاً، بتّ بَعْدَهُ لا أبالي

بصروف الزَّمان أو أكداره

الخفيف

ص: 58

‌شوقي والرافعي

في النحو

لأستاذ جليل

قال الأستاذ محمد سعيد العريان في مقالاته الأنيقة (الرافعية) في (الرسالة) الجامعة الغراء: (وكانت - يعني مقالة الرافعي في شوقي في المقتطف - دراسة أعتقد أن أحداً من كتاب العربية لم يكتب مثلها عن شوقي أو يبلغ ما بلغ الرافعي بمقاله. وكان مما أخذ الرافعي على شوقي وسماء غلطات في النحو أو اللغة أن شوقي ابتدأ بالنكرة في قوله:

ليلى، مناد دعا ليلى فخف له

نشوان في جنبات الصدر عربيد

أقول: الحقّ أنّ مقالة الأديب الكبير الأستاذ الرافعي في (أمير الشعراء) - رحمة الله عليهما - هي من أبلغ ما قال القائلون في شوقي، وأما قول الأستاذ محمد سعيد: إن شوقياً ابتدأ بالنكرة في قوله: ليلى، البيت، فهناك اشتباه والأشياء تشتبه. وهذا البيت لم يره الأستاذ الرافعي، والذي أورده في مقالته في المقتطف الغراء في أبيات وخطّأ (نحويته) وصوّبها الكاتب المشهور الأستاذ (العقاد) هو هذا:

إن رأتني تميل عني كأن لم

تك بيني وبينها أشياء

وابن مالك يقول: (وبعد ماض رفعُك الجزا حسن) ويقول أبن عقيل: (إذا كان الشرط ماضياً والجزاء مضارعاً جاز جزم الجزاء ورفعه، وكلاهما حسن) وأدق من قولي ابن مالك وابن عقيل قول تلميذ (الخليل) في (الكتاب)(وقد تقول: (إن أتيتني آتيك أي آتيك إن أتيتني)، قال زهير:

وإن أتاه خليل يوم مسألة

يقول: لا غائب مالي ولا حرِمُ)

وفي (كتاب الله): (من كان يريد حَرْث الآخرة نزِدْ له في حرثه، ومن كان يُريد حرث الدنيا نؤتِهِ منها، وما له في الآخرة من نصيب)

فالرفع حسن والجزم أحسن، وللنحاة في الترجيح أقوال

وأما قول شوقي: (ليلى مناد دعا ليلى فخف له الخ) وابتداؤه بالنكرة فنذر الكلام في ذلك لابن الدهان وقد استجاده الرضى فنقله في (شرح الكافية): (قال ابن الدهان - وما احسن ما قال: إذا حصلت الفائدة فأخبر عن أي نكرة شئت، وذلك لأن الغرض من الكلام إفادة

ص: 59

المخاطب، فإذا حصلت جاز الحكم سواء تخصص المحكوم عليه بشيء أو لا. فضابط تجويز الإخبار عن المبتدأ وعن الفاعل سواء كانا معرفتين أو نكرتين مختصتين بوجه أو نكرتين غير مختصتين بشيء - واحد: وهو عدم علم المخاطب بحصول ذلك الحكم للمحكوم عليه. فلو علم في المعرفة ذلك كما لو علم قيام زيد مثلا فقلت: زيد قائم عُدَّ لغواً، ولو لم يعلم كون رجلٍ ما من الرجال قائماً في الدار جاز لك أن تقول: رجل قائم في الدار، وإن لم تتخصص النكرة بوجه، وكذا تقول: كوكب انقض الساعة، قال الله تعالى:(وجوهٌ يومئذٍ ناضرة)

الحديث عن (شوقي) ذكّرني عبارات من مرِثية قيلت فيه:

بُلبُلُ (الكرْمة) وّلى! أين غاب البُلبُلُ؟

أين غاب البُلبُلُ؟!

زَهَرُ (الكرمةِ) يبكي بدموعٍ ظاهراتٍ في الصباح!

فَنَنُ (الكرمة) آسٍ: لا اهتزازٌ، لا ارتياحٌ، لا طرَب!

بَهْجةٌ زالت، وجاءتْ وَحشةٌ، وعَرا (الكرمةَ) حُزْنٌ لا يَريمُ!

أبا علي، الشعرُ بعدكَ ما نطق!

الإسكندرية

(* * *)

ص: 60

‌في المذهب الرمزي

تعليق

للدكتور بشر فارس

قبل أن يندفع قلمي في التعليق أحب أن أشكر لصاحب (الرسالة) انبساطه إلى مسرحيتي (مفرق الطريق) إذ سمح بنشر نقد مسهب لها لأسبوعين مضيا، ثم بحث مستفيض في المذهب الرمزي لأسبوع مضى، وكلاهما من قلم الأستاذ زكي طليمات مفتش التمثيل بوزارة المعارف. وكأن صاحب (الرسالة) يُصر أن تُنقل الأساليب المستحدثة على يده إلى قراء العربية. أليست (الرسالة) رسالة؟

والحق أني ما كنت لأتوقع أن يهتز القراء حتى النقاد لمسرحيتي ذهاباً مني أنها تنحرف عن ألوان الأدب المعروف عندنا انحرافاً شديداً فلن يكون مصيرها سوى الضياع، حتى فوجئت بطائفة من الرسائل والمقالات جعلتني أرى الشرق العربي غير نفور مما يهجم عليه من باب كان مغلقاً، بل غير جزوع مما يحمل الفهم بعض المشقة. وإليك دليلا على هذا ما بعث به الأستاذ أمين الريحاني:(تصحفت الرواية أولا بشيء من الاستغراب والدهش. ثم قرأتها لأفهما ففهمتها - أظن - واستكبرتها على صغرها. ثم أعدت قراءتها للمرة الثالثة متلذذاً بمحاسنها الفريدة الجمة، برقائقها الصوفية، وحقائقها المادية، ونظرتها الفلسفية، وروائعها الفنية. . .). فإني لفرح بهذا الأمر لأني حققت ما قلت في توطئة المسرحية: (وعندي أنه قد حان الزمن الذي فيه أصبح الإيجاز والإيماء في الإنشاء الرفيع أحب إلى القارئ العربي المهذب من التطويل والتذييل. . .)

هذا وقد خطر لي أن أصنع للمسرحية توطئة جامعة أبسط فيها طريقة المسرحية لأهيئ الأذهان إلى الوقوف عليها، لا تطاولاً مني، معاذ الله! ولكن تلطفاً في استدراج القارئ إلى القراءة وكشفاً عن نزعة قلمي. وإذ لم أجد بداً من إطلاق عنوان على تلك الطريقة دونت هذه الجملة:(هذه قصة تمثيلية على الطريقة الرمزية - إذا شئت.) أتدري لم قلت (إذا شئت)؟

إن لفظة الرمزية في الأدب الحديث تصرف ذهنك على الفور إلى الطريقة التي ابتكرها نفر من شعراء الفرنسيين خاصة حول سنة 1886، تمرداً على الأسلوب الوضعي الجامد

ص: 61

الذي كان له الأمر في ذلك العهد، وانقلاباً إلى وحي الوجدان: إلى تغليب الإحساس على العقل. وروّاد الرمزية (ألويزوس برتران) و (جيرار دي نرفال) ولا سيما (بودلير) الفحل. وأما أبطالها فـ (أرتر رامبو) و (بول فرلين) و (مالارميه) ثم (لافورج) و (كاهن) و (رودنباخ) و (فرهايرن) و (مورياس) و (ستوارت مِرِل) و (هنري دي رينييه) و (ديجاردان) و (سامان) وغيرهم. وسرعان ما انتحى المذهب نواحي مختلفة بالإضافة إلى الأداء وإن استقامت جميعها على عمود واحد من الاستلهام. وإذا نحن وقفنا عند أبطال المذهب أصبنا (رامبو) يعول على السحر اللفظي، و (فرلين) على الترنم، و (مالارميه) على الإيهام. وقد دوُنت هذه النواحي إلى جانب ما وقع بين أصحابها من المناظرات في مجلات صغيرة أنشئت للدفاع عن الرمزية وبثها فضلاً عن هدم الشعر الاتباعي القائم، اذكر منها: ، ، وكان لأجل (الرمزية) - فوق هذا - قهوات يجتمعون فيها، قد أدركت واحدة منها في باريس قبل أن تنقلب قهوة حديثة، وكان اسمها، وهي اليوم

وقد راسلت (الرمزية) في الشعر (رمزية) في الموسيقى والفن تأخذ مأخذها. وأمهر الموسيقيين الرمزيين (كلود ديبوسي)، وأبرع المصورين (بوفيه دي شافان)، والنحاتين (رودان) معلم جبران خليل جبران

ثم إن (الرمزية) الشعرية امتدت إلى ما يلي فرنسا شمالاً وجنوباً. فظهر في ألمانيا (رِلكه) و (ديمل)، وفي إنجلترا (بيتس)، وفي البرتغال (أوجينيو دي كاسترو)

وأما مصادر هذه (الرمزية) فيتنازعها الأدب والفلسفة والفن والموسيقى. وإذا نحن قررنا أن الرمزية إنما هي - آخر الأمر - التعبير عن الحياة الباطنة رجعنا خاصة إلى تأويل (بودلير): (الفن الخالص أن تخلق سحراً يوهم ويوحي فيضم في آن الذات والموضوع)، والى قولة (شوبنهور):(العالم هو ما يتمثل لي)، والى منهج نفر من المصورين الإنجليز الموسومين بهذا اللقب - وهو منهج يصعد إلى سنة 1848 وقوامه أن المصور ينبغي له أن ينبذ القواعد المضبوطة ليترك عينه تقرأ على هواها في صحيفة الطبيعة. ثم إلى ثورة (فجنر) على الأوبرا التقليدية وإدارجه (العنصر الإنساني الخالص) أو في المأساة الموسيقية

تلك هي الرمزية الأولى في الأدب الإفرنجي الحديث ولا سيما في الشعر. وقد انحلت إلا

ص: 62

قليلاً عند مختتم القرن التاسع عشر. إلا أنها شقت طريق أدب العصر، وخلفت مذهباً آخر هو مذهب الـ (ما وراء الواقع). بل إنك ترى الأدب والفلسفة وعلم النفس والموسيقى والفن حتى الرقص تجري اليوم إلى غاية واحدة، وكل واحد منها يؤثر في الآخر. وكان بودي أن أشير إلى كل هذا حتى يأتي اليوم الذي فيه يتاح لي أن أكتب رسالة ضافية فأشرح هذا الجانب من الثقافة الحديثة. ولكني أخشى الإطالة وأكره أن يتطرق الملل إلى قراء (الرسالة) وجل ما أثبته اليوم أن الظاهرة الغالبة على آداب هذا العهد وفنونه في بلاد الفرنجة إنما هي الرغبة في الفرار، لا الفرار من الدنيا أنفةً ومرضاً نفسانياً عل النحو الابتداعي (الرومنتيكي)، ولكن الفرار من المنقول والمصطلح عليه، ومن القواعد القائمة والصناعة الموقوفة، ومن العالم المتناسق المختلق اختلاقاً بكد أذهاننا، ومن الطبيعة البشرية الموثوقة، ومن العقل المتصلب والمنطق المتجمد واليقين الملفق

أتدري لمَ قلت: (. . . إذا شئت)؟

إني أردت أن أستدرك، محاذرة أن ينصرف ذهن القارئ إلى الطريقة الرمزية الأولى خاصة. وقد أضأت هذا الاستدراك بخمس صفحات بسطت فيها وجهة الأسلوب الذي أجريت عليه المسرحية، فجاء حديثي عن الفلسفة والأدب كالتأسيس، وكلامي على التصوير والموسيقى والرقص كالتمثيل. ثم إني لم أعرض لتاريخ الرمزية لأن التوطئة رسالة فنية لا شأن للنقد فيها. على أن ذلك الأسلوب إنما هو أسلوب (انساق له قلمي ورفت إليه نفسي بعد التحصيل والروية والاجتهاد) وإن كان متأثراً بالرمزية الأولى ولا سيما بالمذهب الذي خلفته. وهذا الذي حملني على أن أختار لفظة (الرمزية) دون غيرها فضلاً عن أن المسرح الحديث لا يزال يحمل هذه اللفظة عنواناً له

حقاً إن الرمزية الأولى كانت قد أوحت مسرحيات مثل (لبول فور) و (لميترلنك)(لجاري) مثلت كلها في ' ' غير أن المسرح الحديث وإن سماه أهل الفن (المسرح الرمزي) من باب الاصطلاح لينهض على عناصر تزيد على التي عرفتها الرمزية الأولى: ينهض على نتائج علم النفس الحديثة (تجارب (شاركو) في التنويم والإيهام، و (ريبو) في أمراض الذاكرة والإرادة الشخصية، و (فرويد) في أحوال العقل الباطن، و (برجسون) في تغلب المضمر الذي في النفس على البارز) ونظريات الفلسفة (الإدراك بالبصيرة لا بالعقل

ص: 63

على نحو ما يرى (برجسون) ثم الشك في العلم المطلق والمرفع عن المواضعة حسب مذهب علماء الطبيعة لهذا العصر) وقصص جماعة من الروس مثل (دوستيوفسكي وتولستوي وجوركي) ففيها يبرز الخلق كأنهم على فطرتهم، ولكنها فطرة من صفت نفسه حتى أنها تأبى القناعة بثقافة الذهن وحده)، ومسرحيات أدباء الشمال مثل (بيورنسن) ولا سيما (إبسن) حيث المغالبات النفسانية تصرع قوى الحياة الاجتماعية، ثم قصص فئة من الإنجليزيات مثل (كاترين منسفلد) و (فرجينيا وولف) لما يطرد فيها من التأثرية المحضة. ثم أضف إلى هذه العناصر ما انبثق من جانب الفنون الأخرى كالتصوير التعبيري والموسيقى التأثرية والرقص الإبهامي

والمسرح الرمزي الحديث على ألوان. ولا أحب أن أفيض في هذا الموضوع الجديد. وحسبي أن أذكر أسماء بعض رجاله النابهين، وهم:(إبسن) و (هوبتمن) و (ميترلنك) وإن رجعت طريقته إلى الرمزية الأولى، و (هنري باتاي) احياناً، و (لينورمان) وإن كانت طريقته قريبة المأخذ، و (كلوديل) وإن نزع إنشاؤه إلى ما وراء الطبيعة على مثال إنشاء صاحبه فاليري الشاعر، و (جانتيون) مؤلف قصة (مايا) التي شهدتها ثلاث مرات في مسرح (مومبارناس) في باريس سنة 1931، و (جان كوكتو) و (حيرودو) و (بريستلي) أخيراً و (أليس جرنستبرج) و (بيرندللو) العظيم ثم (روبندرونات توجور) إذا شئت، وإن كانت مسرحياته تشف عن وثبات الصوفية الهندية

كتبت (هذه قصة تمثيلية على الطريقة الرمزية - إذا شئت. غير أن النقاد وقفوا عند مفاد الرمزية الأولى أو كادوا سواء أهملوا الخوض في مفادها أم خاضوا. وممن خاض الأستاذ صديق شيبوب في صحيفة (البصير)(8 أبريل 1938) والأستاذ زكي طليمات في مجلة (الرسالة). ثم إن الأستاذ ميخائيل نعيمة كتب ألي يقول: (. . . ومسرحيتك هذه تدرج على الطريقة الرمزية، طريقة فاليري (الشاعر المذكور فوق هذا الكلام) وهي كزيّ جديد في الأدب العربي حقيقة بأن نؤهل بها. . . ووقعت في مقدمتها (يعني توطئها) على أدق وأجمل بيان قرأته في العربية عن الطريقة الرمزية وغاياتها. . .)

إلا أنه لا يفوتني أن أذكر أن ناقداً واحداً تنبه لما أردت. فقد نشرت صحيفة (الجورنال ديجبت) ' البارزة في القاهرة، يوم (19 أبريل 1938)، مقالا غزيراً باللغة الفرنسية

ص: 64

للأستاذ إدجار جلاد، جاء فيه أن الرمزية في (مفرق الطريق) بين التأثيرية والتعبيرية وأنها تتميز بالبصيرة الشرقية فهي لا تماثل الرمزية الأولى

أن أدفع وهماً ذلك الذي بعثني على كتابة هذا التعليق. وقبل الخروج منه أحب أن أشكر للأساتذة ميخائيل نعيمة وزكي طليمات وصديق شيبوب فضلهم. وهل للأستاذ زكي طليمات أن يأذن لي في أن أكاشفه بأني فرحت فرحاً شديداً لما اصبته يستعمل في مقاليه بعض تراكيب جرت على قلمي في توطئة المسرحية، منها:(المحسوس وما وراء الحس)، (لوامع النفس)، (منعطفات الروح ومثاني المادة)، (التخيل المنسرح)، وما فرحي إلا لأني أرى تراكيب اجتهدت في سياقها تنطلق على قلم كاتب مفنّ، وكنت أخشى أن تموت يوم ولدت. ثم هل للأستاذ زكي طليمات أن يفسر لي قوله في بحثه في المذهب الرمزي (إن ب. ف. يكتب متثبتاً بما تلقنه؟) وفي (لسان العرب)(وقد لقنني فلان كلاماً تلقيناً أي فهمني منه ما لم أفهم)

بشر فارس

ص: 65

‌البريد الأدبي

وفاة الأستاذ السكندري

نعى يوم الثلاثاء الماضي الأستاذ الشيخ احمد الإسكندري بك، وكان وقع نعيه أليماً، فالفقيد أستاذ جليل من المثقفين والمتعلمين، وكان لا يزال كثير النشاط، متوفراً على البحث والدرس، وآخر مواقفه المشهودة تمثيله لمجمع اللغة العربية الملكي في المؤتمر الطبي العربي في بغداد حيث أعلى صوت مصر ورفع كلمتها

تخرج الفقيد في دار العلوم سنة 1898، واشتغل بالتدريس في المدارس الأميرية حتى عين أستاذاً للأدب العربي في دار العلوم سنة 1907، وفي سنة 1911 انتدبته وزارة المعارف للسفر إلى مؤتمر المستشرقين

وفي سنة 1934 استدعته الجامعة المصرية لتدريس الأدب العربي بكلية الآداب. ثم اختير عضواً في المكتب الفني بوزارة المعارف. وكان عضواً في مجمع اللغة العربية الملكي منذ نشأته. وفي فبراير الماضي اختير عضواً في المجلس الأعلى لدار الكتب

ولم يكن الفقيد إبان اشتغاله بالتدريس بالمدرس الذي يحصر جهده في دائرة المدرسة، وإنما دأب - حياته - على دراسة اللغة العربية وآدابها، وكان أثره بارزاً في توجيه الدراسات العربية توجيهاً حديثاً، فهو مؤلف كتاب (الأدب العربي في العصر العباسي، وكتاب (الوسيط) الذي اتخذه كثير من المؤلفين في تاريخ أدب اللغة العربية مرجعاً ومنهجاً، فكان بمثابة الأصل الذي قام عليه كثير من الكتابات في الآداب العربية. وهو أول المؤلفين الحديثين في فقه اللغة ودراسة اللهجات، وأول من قام بتدريس فقه اللغة في دار العلوم

ولجهود الفقيد في الدراسات الأدبية واللغوية أخذ مكانة ممتازة بين العلماء وأفسحت له الأوساط العلمية صدرها فكان فيها السبّاق. وهو آخر طبقة جليلة من الأعلام الذين أنجبتهم دار العلوم مثل المهدي والخضري وحنفي ناصف، فكان لهم في الدراسات العربية أثر خالد

ومما يذكر أن كثيراً من جهود الأستاذ السكندري في دراسة اللغة العربية قام عليها نتاج مجمع اللغة العربية، فمحاضر الجلسات وصحيفة المجمع زاخرة بآثاره ودالة على وفرة علمه

جزى الله الفقيد خيراً عن خدمته للغة كتابه الكريم

ص: 66

أسبانية في نظر الرحالين المسلمين

سيدي صاحب الرسالة

بعث إلى صديقي (هنري بيريس) بكتاب غزير المادة يقع في مائتي صفحة من القطع الكبير، ظهر في باريس في مختتم سنة على يد الناشر وعنوان الكتاب ' 1610 1930 (أسبانية في أعين الرحّالين المسلمين من سنة 1610 إلى سنة 1930)

والأستاذ (هنري بيريس) مستشرق فرنسي معروف وهو من أساتذة كلية الآداب في الجزائر، وله طائفة من المباحث تعرض خاصة للأدب العربي ولا سيما الحديث منه. وأما الكتاب الذي بين يدي فيسرد تأثرات من رحل من المسلمين إلى أسبانية ونظراتهم. وإليك أسماءهم: الوزير الغساني (القرن السابع عشر) الزيّاني والغزّال (القرن الثامن عشر)، الكردودي وابن التلاميذ التركزي الشنقيطي والورداني واحمد زكي باشا (القرن التاسع عشر) محمد فريد وأحمد شوقي ومحمد كرد علي ومحمد لبيب البتنوني وسعيد أبو بكر ومصطفى فروخ (القرن العشرون)

وقد جاء السرد على الطريقة العلمية بما قام عليه من المراجع وما غلب عليه من التحليل البعيد الغور. وكثيراً ما نقل المؤلف إلى اللغة الفرنسية بعض النصوص العربية من شعر ونثر تتناول وصف الطبيعة أو النظر في الأخلاق والتاريخ والفن على وجه عام

وفي رأي المؤلف أن المسلمين الذين دونوا رحلاتهم الأسبانية ينقسمون قسمين: أما الأول، وامتداده من سنة 1610 إلى سنة 1885، فأصحابه عدوا أسبانية وطناً مغتصباً وأهله إخواناً أفسدت النصرانية نزعاتهم وبدلت من عاداتهم، ثم كتبوا ما كتبوا وهمُّهم تقرير الملموس دون تدوين المحسوس. وأما القسم الثاني فأصحابه - وفي مقدمتهم أحمد زكي باشا في كتابيه (السفر إلى المؤتمر) ثم (الرحلة الكبرى) والبتنوني (رحلة الأندلس)، ومصطفى فرّوخ - (رحلة إلى بلاد المجد المفقود) بيروت - فقد عدوا أسبانية (الفردوس المفقود) فأطلقوا ألوان شعورهم تحسراً على ما ضاع وفخراً بما كان وغضباً مما حدث وفيهم المؤرخ والشاعر والسياسي والاجتماعي والفنان. ثم رأوا أهل أسبانيا قوماً لهم معايب ومحاسن. أما هذه فترجع في الغالب إلى أرومتهم العربية، وأما تلك فتصدر في الغالب عن الحضارة الأوربية وعن العنصر الأسباني الأول. فجاءت كتابتهم أقرب إلى التأثر منها إلى

ص: 67

التفكر، وطريقتهم ألصق بالذاتية منها بالموضوعية على ما يطرد في رحلاتهم من ألوان الوصف الدقيق للأخلاق والعادات والعمران واللغة والفنون

واسلم سيدي الأستاذ، لمن يخلص لك الود

بشر فارس

بعثة السرجون مري ونتائج رحلتها العلمية

تلقت إدارة الأحياء المائية منذ أسبوع ثلاث رسائل جديدة من بعثة السرجون مري العلمية البحرية عن نتائج رحلتها الأوقيانوسية

وإحدى هذه الرسائل وضعها المستر (ما كان) من أعضاء البعثة عن (نجوم البحر)، وهي من الأحياء المائية التي تعيش في المحيط الهندي، وقد ذكر فيها أن البعثة أحصت من هذه الأحياء 1160 نوعاً تنقسم إلى 53 قسما منها 18 نوعاً جديداً كشفتها البعثة في رحلتها الأخيرة إلى الأوقيانوس الهندي، وأطلق على أحد هذه الأنواع اسم الكولونل سيول رئيسها، وسمي نوع آخر باسم الدكتور حسين فوزي مدير إدارة الأحياء المائية وكان من أعضاء البعثة المصريين، وسمي نوع آخر باسم الدكتور عبد الفتاح محمد (من الأعضاء المصريين أيضاً) ونوع باسم السفينة (مباحث)

والرسالة الثانية وضعها الدكتور محمود رمضان عن الأحياء المائية ذوات القشور كالجمبري ونحوه

والثالثة وضعها الدكتور ستوبج الأستاذ في متحف التاريخ الطبيعي في لندن عن نوع من الأحياء المائية يدعى (البترويودا)

مؤتمر مشاكل الشباب - دعوة مصر للاشتراك فيه

تلقت وزارة الخارجية دعوة موجهة إلى الحكومة المصرية للاشتراك في مؤتمر دولي (لدراسة مشاكل الشباب) يعقد في غضون الصيف القادم بنيويورك

وقد أحالت الخارجية تلك الدعوة إلى وزارة المعارف، قرأت إخطار الجامعة المصرية بنبأها حتى إذا رغبت في الاشتراك فيه اتخذت التدابير لإيفاد من ترى إيفادهم لتمثيلها في المؤتمر المشار إليه

ص: 68

وقد درجت أمريكا على عقد دورات هذا المؤتمر فيها وأخذت في بث الدعاية له في الممالك والحكومات المتباينة. ولم تغفل أوساط الشباب وبيئاته بل تمنحهم امتيازات تحببهم في السفر إليها للاستفادة منه

ويتناول المؤتمر بالبحث والدراسة كل ما يتصل بحياة الشباب ومشاكله، وتوجيه الرغبات للحكومة بحلها على ضوء النظريات العلمية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية الجديدة

مصر والآداب الفرنسية

نشرت جريدة (الجورنال) مقالة مسهبة للمسيو فرنسوا بياتري بعنوان (مصر والآداب الفرنسية) امتدح فيها سير الحياة العلمية والأدبية في مصر وأظهر ما للمدارس الفرنسية من الشأن العظيم، وقال إن عدد الأساتذة والمدرسين فيها يبلغ 2485 منهم 782 من الفرنسيين و 1703 من المصريين والسوريين وأما مجموع عدد الطلبة فيها فيبلغ 41 ، 524 منهم 1965 من الفرنسيين

ثم نوه بمزايا التفاهم والاتفاق بين البعثات الفرنسية الدينية والعلمية ووصف ما انطبع في نفسه من زيارته الأخيرة لمصر حيث كان من أعظم بواعث سروره أن يرى أن أثبت وأرسخ تحالف هو التحالف العسكري الأدبي

أبو تمام أيضاً

سيدي الأستاذ

في الرسالة (250) كتب المخرج المسرحي الكبير الأستاذ زكي طليمات كلمة بديعة عن المذهب الرمزي في الأدب. ولقد تناولت كلمته الأدب الإسلامي فذكر الخيام وشعر الخيام

فليسمح لي إذن أذكره بشاعر آخر هو - في نظرنا - خير من يمثل الرمزية في الأدب العربي كله. وهذا الشاعر هو حبيب بن أوس الطائي المعروف بأبي تمام. فرمزية أبي تمام هذا تستحق منا - في الحقيقة - جزءاً غير صغير من عنايتنا إذا نحن نظرنا في الرمز بصفة خاصة، وفي الشعر العربي بصفة عامة

فإذا اتسع لهذا القلم العاجز صدر الرسالة الفاضلة، استطعنا أن نهدي إلى الأستاذ طليمات باقة صغيرة من رمزية أبي تمام، كرمز تقدير له. . . والسلام عليكم ورحمة الله

ص: 69

م. وهبه

نزيل بالقاهرة

حول الدوس هكسلي

اطلعت في عدد الرسالة الأخير في باب (البريد الأدبي) عن (الدوس هكسلي) على بعض أخطاء أحب أن أصححها لكاتبها فقد ذكر أن (أوليسيس) من تأليف (إليس) والواقع أن أوليسيس كتاب شهير من تأليف جريس وهو أهم مؤلفاته وترجم إلى لغات كثيرة. والخطأ الثاني أنه ذكر أن أليس ألف كذلك (قصة) رقصة (الحياة) ورقصة الحياة ليست قصة وإنما هي كتاب فلسفي لها فيلك أليس. أرجو يا سيدي الأستاذ أن تنبه صديقنا لما ذكرت ولأخطاء مماثلة عن الدوس هكسلي نفسه منها أنه حفيد هكسلي الكبير لا ابنه كما ذكر الكاتب الفاضل. . . ودمت للمخلص الشاكر

ناجي

معهد الشواذ - تأليف لجنة لدراسة المشروع

عهدت وزارة المعارف إلى لجنة من موظفيها، دراسة مشروع إنشاء معهد للشواذ، مؤلفة من حضرات الأساتذة ناظر معهد التربية ومراقب التعليم الابتدائي وأحد أساتذة معهد التربية، وناظر فاروق الأول الثانوية، ومدير متحف التعليم الذي يتولى أعمال السكرتيرية

وستكون مهمة تلك اللجنة دراسة المشروع من حيث حاجة البلاد إليه، ووضع البرامج والخطط الدراسية اللازمة له، والنظام الذي يتبع فيه وإعداد المدرسين الذين تتألف منهم هيئة التدريس

ويظهر أن الرأي متجه إلى أيفاد بعثات للتخصص في شئون الشواذ، وقد طلب إلى اللجنة المشار إليها إنجاز مهمتها على وجه الاستعجال، حتى تتمكن الوزارة من تنفيذ المشروع في السنة الدراسية القادمة

كتاب هندي عن مدينة الغرب

زار الدكتور ف. كاراكا - وهو من خيرة المثقفين الهنود - طائفة من ممالك الغرب ليخبر

ص: 70

مدى ما بلغته من المدينة ومقدار ما أدركته من الحضارة، ثم عاد ليكتب مؤلفه أو رحلته إلى الغرب. وقد صدر هذا الكتاب منذ أسبوعين فأثار ضجة كبيرة وكان لصدوره صدى عظيم خصوصاً في إنجلترا. فقد أرسل المؤلف لسانه في الحضارة الإنجليزية، ونال منها بقلمه ما لم ينال منها قلم آخر من قبل. وقد تصفحنا الكتاب فرأينا المؤلف يكتب كوطني هندي ينقم على الإنجليز كل ما تلقى الهند من مصائب ويعزو إليهم تأخرها وانحطاطها بما سلطوا عليها من رجال (الطبقة الثانية) كما يسمى القائمين بالأمر منهم في بلاده، ويقصد بهم هذه الفئة العسكرية التي تتكلم بالسيف وبالمدفع، وتحكم الملايين من بني جلدته بالحديد والنار، وتضحك على عقول أغنياء الهنود باللآلئ والأحجار الثمينة، في حين تنكر الخبز على الفقراء والملح على المعوزين

وليس على المؤلف في هذا ملامة، ولا عليه من تثريب لكن الملامة والتثريب في هذه النظرة السوداء القائمة التي ينظر بها المؤلف إلى أرقى حضارات التاريخ، ثم هذا التقرير الوجداني المتفزز لثمرات تلك الحضارة. . . وما دام يفكر الهنود بمثل تلك العقلية فلن يخلصوا من ربقة الاستعباد. . . وقد شهدنا كيف انهزم مغزل غاندي أمام أنوال لانكشير، وكيف انكمش غاندي وتقاعس، لأنه لم يتخذ الوسائل الحديثة لتدعيم الحركة الهندية، بل آثر عليها المغزل والعصيان المدني والصوم. . . وهي وسائل ضعيفة واهية هي إلى الشعر الصوفي أدنى من البخار والكهرباء والغازات.

وفاة الشاعر محمد إقبال

يعز على الرسالة أن تنعى لقرائها وللعالم الإسلامي خاصة والعالم الإنساني عامة وفاة الشاعر الفيلسوف محمد إقبال الهندي الذي وقف ذكاءه المتوقد وعلمه الواسع وشاعريته السماوية على الإشادة بفلسفة الإسلام ومقاصده العالية، ودعوة المسلمين إلى أن يعتصموا بها فلا يتهافتوا في مهالك العصر الحاضر. ولم يقصر في دعوة البشر كافة إلى الوئام والسلام والسمو فوق السفاسف التي يعتركون عليها والمذاهب المعوجة التي يوغلون فيها. وقد خلف إقبال للأدب والفلسفة كتباً كثيرة في الأوردية والفارسية والإنجليزية هي تراث عظيم من شاعر فيلسوف كبير. وستقضي الرسالة في أعدادها التالية حق الرجل النابغة الذي عرفه قراؤها فيما تُرجم من شعره ورُوى من أخباره

ص: 71

‌الكتب

1 -

حياتي

بقلم موسوليني وترجمة الأديب محمد عبد الحميد

2 -

جمال الدين الأفغاني

بقلم الأديب محمد سلام مدكدر

كتابان يعرضان لك سيرة رجلين أولهما خالق أمة وثانيهما باعث نهضة. وما أحوجنا أن نلم بسير الرجال في نهضتنا الحالية

نقرأ في الكتاب الأول حياة موسوليني كما كتبها بنفسه أو كما أملاها؛ وشخصية موسوليني لا شك من الشخصيات الجديرة بالدراسة من حيث كونه أحد عظماء هذا الجيل من ناحية، ومن ناحية أخرى من حيث كونه من الرجال الذين تمس أعمالهم في بعض وجهاتها مصر من بعيد أو من قريب

أجل يعتبر موسوليني مهما تكن نظرتنا معشر المصريين إلى سياسته من كبار عظماء هذا الجيل إن لم يكن في طليعتهم. فهو رجل درج في عش الفاقة، ثم كان في مستهل حياته من الأوزاع والهمج؛ ولكن كانت تتأجج في صدره شعلة الحماسة، تلك الشعلة التي لا تقوم عظمة بدونها؛ وتجهمت له الأيام وتحدته الصعاب فمضى لا يعرف سهلا ولا صعباً حتى خلق من حالة أشبه بالعدم أمة قوية تتشكل سياسة العالم الآن حسب ما تأتيه من حركات، وتضطر أعرق الأمم جاهاً وأعظمها سلطاناً أن تخفف أمامها من غلوائها، وأن تخفي سيفها وراءها وتتقدم إليها بغصن الزيتون؛ والرجل دائب العمل يأتي من ضروب النشاط والمغامرات ما يحمل حتى أكبر أعدائه على الإعجاب بمقدرته وبيقينه وبتفانيه في خدمة بلاده. . .

والفاشية نظام تردد اسمه في الشرق وأقبل على دراسته أهل السياسة وأهل الثقافة؛ وأكبر ظني أن دراسة نظام كهذا النظام لا بد أن تستند قبل كل شئ إلى دراسة حياة صاحبه، بل إن دراسة هذه الحياة أمر جوهري لمن يريد أن يعرف حقيقة هذا النظام وينفذ إلى لبه. ولئن سلمنا صاحب الدعوة قد يتعامى عامداً أو غير عامد عن بعض سوآتها، فأننا من

ص: 73

ناحية أخرى نسلم أن صاحب الدعوة أدرى بحقيقتها وأعرف بخفاياها من سواه

لذلك أرى أن القارئ يصيب من مطالعة هذا الكتاب غرضين: معرفة موسوليني وتفهم الفاشية. وكلاهما ليس بالهين. وهو أثناء ذلك يستمتع ساعات من الزمن بتلك الروح القوية تطالعه من بين سطور الكتب، روح موسوليني، ثم بتلك الحوادث العظيمة كالزحف على روما ومغالبة الصعاب حين القيام بأعباء الحكومة؛ ثم الكفاح والجلاد للمحافظة على البنيان بعد إقامته وتدعيمه والعمل على إعلائه

من أجل ذلك أتقدم بالثناء والشكر للأديب المعرب لاختياره هذا الكتاب. أما من حيث الترجمة فليس لدي الأصل حتى أراجع عليه التعريب، ولكني أميل إلى الاعتقاد أن من يضطلع بنقل مثل هذا الكتاب الفذ، وله من شرف غرضه حافز، جدير أن يتوخى الأمانة وأن يتحرى الدقة. وأما من حيث الأسلوب فإني أجدني مضطراً أن أصارح المعرب الفاضل أني كنت أحياناً يعسر على فهم بعض الفقرات، كما كان يلتوي على بعضها كما أني كنت أقف عند بعض الكلمات التي وضعها في العربي كما هي في الأصل إذ لم يجد لها مرادفاً عربياً، ولكنه كان حرياً أن يشرح المراد منها، على أن هذا على أي حال يسير إذا قيس إلى ما بذل من جهد محمود

أتحدث بعد عن الكتاب الثاني (جمال الدين الأفغاني) وقد حببه إلي عدة أشياء: أولها أن مؤلفه الشاب الأديب محمد سلام مدكور أحد تلاميذي، حضر علي دروساً في التاريخ أيام كنت أقوم بالتدريس في الأزهر، وأشهد لقد توسمت فيه النجابة يومئذ ورجوت فيه وفي بعض زملائه الخير. واليوم أقرأ له مؤلفاً فأغتبط وأفخر، وأي شئ هو أحب إلى المدرس من أن يرى ثمرة من ثمار غرسه؟

وحبب إلى الكتاب بعد ذلك أن يضعه أحد أبناء الأزهر عن جمال الدين، فيكون الكتاب بذلك. فضلاً عن أنه علامة اجتهاد، دليل عرفان للجميل نجحوا أحد بناة هذا الجيل. ومن كجمال الدين أحق بعرفان الجميل وتخليد الذكر على يد الأزهر بين خاصة وبني مصر والعالم الشرقي عامة؟ ثم عطفي على الكتاب فوق ذلك أنه يدور حول تلك الشخصية الفذة المحبوبة، فلقد كان جمال الدين رحمة الله ورضوانه عليه قبساً من روح الشرق انبعث في ظلمة الأيام والتمع كما يلتمع الشهاب في دجنة الليل، وراح يعمل وحده ويبذر بذوره أينما

ص: 74

حل! أجل كان جمال الرجل الذي يظهر حين تتهيأ الظروف وتصبح بحيث لا بد لها من رجل؛ واحسبني لا أغالي إن قلت إن نهضة الشرق الحديث إنما هي من صنع يده؛ ولذلك فأنا أعده من رجال العالم المعدودين إن كانت له في تاريخ العالم حركة تركت أثرها في دورانه. . .

ولقد قدم هذا الكتاب بكلمة طيبة أحد رجال الأزهر الأمائل هو: الأستاذ الجليل مصطفى عبد الرازق بك، وإني أشاركه رجاءه وعطفه على المؤلف الشاب. . .

وبعد، فقد عودت طلابي ومنهم المؤلف الذكي أن يسمعوا من كلمة الحق في جلاء، وأنا موقن أنهم اعتادوا ذلك وراضوا أنفسهم الفتية المتوثبة عليه. لذلك أصارح سلاماً في جلاء أنه كان يستطيع أن يظهر الكتاب في ثوب أجمل من هذا الثوب فالكتاب بذلك جدير. كذلك كان يستطيع أن يتدارك كثيراً من الأخطاء المطبعية لو أنه ألقى إلى عمله من الاهتمام أكثر مما فعل. فليسمع لومي على تقصيره، وليأخذ نفسه بعد اليوم بتحري الدقة والإتقان، هذا إلى أن أسلوبه وإن كان راقني في كثير من مواضعه، يتطلب التهذيب في بعض النواحي

أما عن البحث في ذاته فحسبه في هذا المجال وفي هذه العجالة أن أعلن إليه أنه جاء على خير ما يرجى ممن كان في سنة وفي مثل درجة ثقافته. وهو يبشر بالتفوق في المستقبل إن شاء الله. ولقد أعجبني أنه لا يقتصر على مجرد سرد الحوادث فانه يقف ليرينا أثر تلك الحوادث في مجرى التاريخ

أثني على مدكور وأرجو الخير منه ومن زملائه من ناشئة الأزهر الحديثين. ولعل الله يجعل منهم في غد رجالاً أفذاذاً يعود بهم الأزهر المعمور سيرته الأولى من الزعامة في حياتنا الفكرية فذلك لعمري خير ما نرجو وما نرضى.

الخفيف

ص: 75

‌المسرح والسينما

جولات ومطالعات في المسرح والسينما

الرواية المصرية

أقامت جماعة أنصار التمثيل والسينما في السابع عشر من هذا الشهر حفلة تمثيلية كبرى بدار الأوبرا بمناسبة انقضاء ربع قرن على تأسيسها، وقد مثلت خمسة فصول من مسرحيات مختلفة سبق للجماعة إخراجها. ولسست أدري إذا كانت الجماعة قد قصدت بهذا الاختيار أن تعرض جميع أنواع الرواية المسرحية أم أن المصادفة هي التي جعلت هذا البرنامج شاملا للرواية الغربية المترجمة والرواية المصرية المؤلفة والرواية الممّصرة أو المقتبسة عن فكرة أجنبية

وسواء كان ذلك عن قصد أو مجرد مصادفة فان هذا العرض الموجز قد جعلنا نتدبر على ضوئه مسرحنا وما يعانيه من فقر إلى الرواية المصرية الصميمة

اختص بالنجاح الأكبر في الحفلة فصلان من روايتي (حادث الطربوش)، (إلى الأبد) الممصرتين، ولقي نجاحاً وسطاً فصل من رواية (دافيد جارك) الإنجليزية. وكان أقل الفصول نجاحاً فصلان من الروايتين المصريتين (عبد الستار أفندي)، (الواجب)

وقد اتفق أن تكون درجات النجاح في هذه الفصول خاضعة لسلطان الرواية وقوتها فحسب، لأن الممثلين هم أنفسهم في معظم الفصول، وقد سبق لهم القيام بهذه الأدوار فتفهموها وأجادوا تمثيلها، وهي كذلك روايات مثلت مراراً واختيرت من بين روايات الجماعة الناجحة، واختير منها بعد ذلك احسن فصولها

فهذا التفاوت في النجاح يجعلنا نوقن بحاجتنا إلى الرواية المصرية الصحيحة كما يجعلنا نوقن بأن في حياة كل شعب ذخيرة للرواية، فإذا أعوزتنا حقاً البيئة الخاصة فأمامنا البيئة العالمية التي نقلنا ولا نزال ننقل عنها روايات بأسماء مصرية نجحت بطابعها المصري نفس نجاحها بطابعها الأجنبي الأصلي

إن أكثر الكتاب اليوم لا يكتبون لجمهور خاص ولكنهم يعالجون المجتمع العالمي ويحلقون في آفاق واسعة ليشمل نجاحهم هذه الآفاق؛ فالكاتب الأمريكي مثلا لا يقصر كتابته على المجتمع الأمريكي لأنه يفهم غيره من المجتمعات الأخرى، ولأن هذه المجتمعات كلها تلتقي

ص: 76

وتتشابه في نواح كثيرة، وقد أصبحت بعض النزعات تؤثر في العالم جميعه وتقرب من أبعاده. فالذي يحدث هنا جائز حدوثه هناك، والرجل الذي تلقاه في هذا البلد يذكرك بمن لقيته في بلد آخر

فلم نقف إذن عند عبد الستار أفندي الكاتب بوزارة الأوقاف وعم سيد البواب، وست أمينة الخاطبة، والحاج حسن العمدة الخ

لم نذهب في كتابتنا إلى حيث لا نستطيع الحراك؟ لم نعالج شخصيات لا لبس فيها ولا غريب من ورائها ولا تنطوي على شئ يجهد الفكر أو يكسبه جديداً؟!

أنا لا أستطيع أن أنكر حاجتنا إلى الرواية المصرية القحة، ولكن لتحقيق ذلك علينا أن نسلك الطريق الصحيح إليها. فنحن شعب قليل الحركة، كثير الآمال والأحلام، فيجب أن تكون هذه الآمال والأحلام الميدان الأول للرواية ذات البيئة المصرية الخاصة. يجب أن نعالج النفسية المصرية بالكشف والتحليل فهذه خطوة يتبعها التوجيه العملي الذي يخلق الحياة والحركة قوام الرواية ومساكها، أما أن نبعث الرواية في حياة فقير تافهة ونقيم الشخصيات على حركة راكدة خاملة فان ذلك هو العبث والجهد المضيع

في المسرح

شهدت في الأسبوع الماضي حفلة غنائية أحيتها الآنسة أم كلثوم بمسرح الحديقة. وقد أحسنت وأطربت فنانتنا الكبيرة ودلت على أنها تتعهد فنها الجميل بالمران والرعاية بخلاف معظم المطربين الذين يسمجون يوماً بعد يوم. فصوت الآنسة أم كلثوم اليوم أعذب منه منذ عامين وأكمل منه منذ أعوام

وقد نجحت الحفلة ولكن لم يكن من دلائل نجاحها هذا الصياح والأصوات المنكرة التي كانت تصدر من بعض الحاضرين عقب وقبل نهاية كل مقطع غنائي على اعتبارها علامات الإعجاب والاستحسان

وقد اعتاد جمهورنا هذه العادة القبيحة التي لا تمت إلى الفن ولا إلى الذوق بأوهى سبب، بل إن مقاطعة المطرب في غنائه يمثل هذا الصراخ إنما هو بالنسبة إلى الغناء (نشاز) يثقل على السمع ويزعج المنتشي ويقضي على انسجام المغني

ولقد لاحظت على بعض هؤلاء الناس كأنما هم مكلفون بمثل هذه العادة حتى لقد تساءلت

ص: 77

هل هذا جمهور طرب أو جمهور مظاهرات؟!

وأحسب أن هذه عادة تقليدية صرفة لا علاقة لها بالحس، لأن الجمهور المجتمع حول آلة الراديو هو من نفس الجمهور الذي يستمع إلى المغني مباشرة ولكنه لا يجاريه في تهليله وصراخه، وقد يستنكر منه هذا العمل

فالفارق بينهما أن هذا قد ألف هذه العادة عندما يحتويه مع المغني مكان أو مسرح، في حين أن الآخر لم يألف ذلك حين يستمع إلى الميكروفون

وأنا لا أنكر أن العامل في ذلك عامل فسيولوجي له أثره، ولكن هذا الصراخ والأنين والتهريج ليس لها من مصدر غير اعتلال الذوق وعدم القدرة على ضبط النفس والأنانية. ويكفي مصداقاً لذلك أن نفكر في أن أمثال هؤلاء يسيئون إلى كل من معهم وقد يسيئون إلى آلاف أو ملايين المستمعين إلى الراديو، كما أنهم يسيئون إلى المغني نفسه فوق إساءتهم إلى أنفسهم بتعريضهم لمثل هذا اللوم

فلم عن قناة السويس

أشرنا في العدد الماضي إلى ما تفعله بعض الحكومات إزاء الأشرطة السينمائية التي تخرج عن بلادها، وقد ضربنا مثلاً بتركيا واليابان حين علمتا باعتزام بعض الشركات إخراج أفلام تسئ إليهما فتدخلتا لدى الشركات تدخلا أدى إلى احترام هذا الحق

وقد حمل إلينا البريد منذ أيام نبأ اعتزام المخرج المعروف داربل زانواك إخراج فلم باسم (السويس) يدور حول شق قناتها وحوادثها التاريخية. ولقد قيل إن مشروع الفلم على وشك البدء في التنفيذ فقد رصد له ميزانية قدرها مليونان من الدولارات وفوتح الممثل المعروف جورج أرليس للقيام بشخصية دزرائيلي والممثلة الفرنسية سيمون للقيام بشخصية الإمبراطورة أوجيني

فلعل حكومتنا تفعل مثل الحكومات الأخرى فتطلب ضماناً لرعاية كرامتنا في هذا الموضوع الذي يخصنا. ومثل هذا التدخل يفيد ولا يأتي بضرر وخاصة أن الفلم ضخم وتأثيره تابع لهذه الضخامة

ص: 78