المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 252 - بتاريخ: 02 - 05 - 1938 - مجلة الرسالة - جـ ٢٥٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 252

- بتاريخ: 02 - 05 - 1938

ص: -1

‌هل تقوم للأدب دولة؟

معالي مصطفى عبد الرازق بك

صديقنا صاحب المعالي الشيخ مصطفى عبد الرازق بك وزير الأوقاف إمام من أئمة الدين، وعلم من أعلام الأدب، وسري من سراة الأمة، نشأ بحكم ولادته على النبل كما ينشأ ابن الملك على الملك، فهو في خلقه وسمته يجري على سراح الطبع الجميل، لا يتكلف ولا يتطبع، ولا يتصنع، ولا يقلد. وقلما تجد فقي مصر من ظفر بما ظفر به هو من إطباق الناس على اعتقاد سماحته وسراوته وفضله. ولعلك تدرك السر فيما تعرف من خلاله إذا علمت أن بيت عبد الرازق نمط لا واحد له في تقاليده وتربيته وبيئته. فهو وحده لا يزال يمثل نوعاً من الفتوة الإسلامية له خصائصه وله سننه: يرى العزة في سمو الإنسانية فيه، لا في إفراط العصبية عليه؛ ويجد المزية في سؤدد الفكر المهذب والخلق السجيح، لا في سطوة المال المكنوز والجاه المتسلط؛ ويمثل المدنية الحديثة تمثيل المعدة الصحيحة للطعام الهنيء فلا تكون إلا مدنيته الخاصة فيها سره وعليها طابعه؛ ثم يسير في سبيل الحياة على سنن واضح من شهامة القلب ونزاهة النفس وشرف اللسان وثبات العقيدة وكرم التضحية، كأنما يستجيب إلى صوت في دمه، ويمشي على دليل من طبعه

ساهم في جهاد الدستور والحرية بالنفس والمال ثم عف عن الغنيمة، وشارك في ثقافة العقل والروح بالتشجيع والإنتاج ثم عزف عن الشهرة، وتهافتت من حوله بيوت المجد على الأضواء الغربية الخادعة فأضل بعضها العشا، وأحرق بعضها اللهب، وبقي هو على شرقيته ومصريته قوي الدعائم رفيع الذرى تضوع في أبهائه نفحة الإسلام، وتهش على موائده أريحية العروبة، وتخفق في جوانبه روح مصر

والشيخ مصطفى يلخص في شمائله أمجاد هذا البيت، فهو سر وراثته وعطر أرومته وجملة ماضيه. فإذا جلست إليه في ألفة أو كلفة غمرك منه شعاع لطيف يملك نفسك من غير سطوة، ويبسط شعورك من غير خفة؛ ثم تحس في تواضعه سمو الكبرياء، وفي وداعته أنفة العزة، وفي بساطته جلالة النبل؛ فلا تستطيع أن ترد هذه الخلال فيه إلى الحد الذي تواضع عليه الناس في تعريف الخلق؛ إنما تنتهي إلى أن شخصيته الجذابة واحدة الطراز لما تهيأ لها من أثالة المنبت وزكاوة العرق وسعة الثقافة وسلامة الفطرة وجمال

ص: 1

القدوة

رأيت الشيخ مصطفى طالباً في الأزهر، وعرفته أستاذاً في الجامعة، وزرته عضواً في الوزارة، فلم أجده في كل حالة من هذه الحالات إلا على الوجه الذي لقي به الدنيا، لم يتغير فيه لسان ولا عين ولا مخيلة؛ ومزية المعدن الكريم ثبات وجهه على لونه، وبقاء جوهره على نقائه. ولو أن وجوه الناس تثبت على تقلب الحظوظ لما تنكر صديق لصديق ولا تجهم وطني لوطن

لله ما كان أنبل وأجمل حين دخلت على الشيخ الوزير مكتبه في الوزارة من غير وقفة على حاجب الباب أو جلسة لدى مدير المكتب! لقد كان في زيه الوطني الجميل ملء العين والنفس والشعور، يوزع التحيات على عادته ببسماته الرقيقة ونظراته الوديعة وكلماته الحلوة، فيجعلك تشعر أن الوزير منك، وأن الوزارة لك، وأن الأمر بينك وبين أولياء الحكم كما يكون بين الأب وأعضاء الأسرة.

كان سروري وأنا أهنئ صاحب المعالي وزير الأوقاف أقرب إلى أن يكون سروراً بنفسي؛ فقد وقع في وهمي أنني أساهم في هذه الوزارة بنصيب مبهم شائع لا أجهله ولا أدريه. ولعل مبعث هذا الوهم أن الوزير أزهري وصديق وأديب، وصلته بالناس من جهة الثقافة أو الصداقة أو الأدب يجعلها وفاؤه الطبيعي أدنى إلى النسب الشابك والقرابة الواشجة

أما بعد فإن استيزار أميرين من أمراء الأدب لهو فتح مبين لدولة القلم. فإن النهضات العلمية والأدبية في تاريخ الفكر لم تزدهر إلا في حمى ملك أو كنف وزير. والوزراء الأدباء أمثال ابن العميد والصاحب ابن عباد والمهلبي وابن زيدون وابن الخطيب لا يزالون عناوين فاصلة في تاريخ الأدب. فإذا ناط رجال الثقافة والصحافة آمالهم بوزير الخير مصطفى، وبوزير الجمال هيكل، فإن دلالة الحال تعلن أن مواتاة هذه الفرصة في صباح عهد الفاروق حين صدقت النيات على الاستقرار، وتهيأت النفوس للعمل، إيذان من الله بتيسير السبل لأمة العلم أن تنهض ولدولة الأدب أن تقوم.

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌في خيف منى

للدكتور الحاج عبد الوهاب عزام

هذا ثاني أيام التشريق؛ ومنى غاصة بمضاربها؛ قد اجتمع إليها الحجيج من أرجاء الأرض، واختلط فيها وفود المسلمين من كل الأقطار. تجاورت القباب واشتجرت الأطناب، وتمعجت السبل بينها تجور بالسائر، وتعدل بالسالك، إن لم يكن خبرها وعرف بالعلامات مسالكها، إلا مهيعاً يتوسط البقعة تفضي إليه المسالك فيقصد فيه السابل على بينة

زخرت منى بالحجيج، وازدحم الموسم بأهله. وقد أدينا بحمد الله المناسك ولم يبق إلا رمي الجمار، وهي أمر أمم لا يشغل نزال منى إلا قليلاً. فهناك سعة للتزاور والتعارف، وهناك فسحة لتبادل الآراء والتشاور في خطوب المسلمين

خرجت في رفاقة بعض الإخوان العراقيين أبتغي زيارة بعض الأجلاء من علماء الفرس، فلما لقيت الشيخ وبلغ الحديث منتهاه رغبت أن أرى من وجوه المسلمين وجهاً معروفاً في مجامع الحج منذ سنين لا يخلو منه موسم، ولا يجهله محفل. وقد رأيته في عرفات ضارباً مخيمه على الجادة فنزلت إليه في نفر من رفقائي حجاج الجامعة وأنسنا به حيناً. وبينا أنا بالمشعر الحرام من مزدلفة رأيت خطيباً واعظاً يتكلم على جماعة باللغة الأردية، فدلفت إليه فإذا هو ذلك الوجه المعروف غير المنكر، وأنا أرجو ألا يفوتني في منى لقاؤه؛ ومضربه في منى أرفع المضارب، يلوح للسائر عالياً متميزاً تخفق عليه رايته. فليس على من يبغي المسير إليه إلا أن يذهب إلى مسجد الخيف ثم ينظر إلى سفح الجبل ليرى فسطاطاً كبيراً قد احتل من السفح مستوى لا يتسع لغيره، فليس هناك فسطاط سواه. فإذا تأمله أبصر الراية الأفغانية فعرف أنه منزل السيد محمد الصادق المجددي

أخذت سمت المكان حتى قاربت المسجد فلقيني جماعة من حجاج الجامعة والأزهر فصعدنا إلى الفسطاط في شرف يطل على الموسم كله وينظر إلى مسجد الخيف من كثب. لبثنا قليلاً ثم هبطنا إلى فجوة بين الصخور تسمى غار المرسلات؛ يقال إن السورة الكريمة (والمرسلات عرفاً) أوحيت إلى صاحب الرسالة صلوات الله عليه هناك. وقد اجتمع الناس يمنعهم الشرطة من الدخول إليه والتمسح به كما كانوا يفعلون. فوقفنا وقفة قضينا بها حق الذكرى العظيمة، ثم سرنا مصعدين في الجبل وهو جبل شاهق أدكن عظيم الصخور كثير

ص: 3

القلع. فما زلنا نصعد حتى لاح لنا الموسم جميعه، وزويت لنا أطرافه؛ فيالك مشهداً جميلاً رائعاً! فهذا مسجد الخيف وهو مسجد بري معطل من الزينة وفراشه الحصباء: بناء كبير تحيطه جدران مديدة بيضاء، يتوسط صحنه الفسيح مصلى عليه قبة ومنارة، وفي جانبه القبلي سقيفة على ثلاثة عقود. وقد راقني منظره من سفح الجبل تتجلى فيه فطرة الإسلام وطبيعة البداوة

وهذا المحصب عن شمالنا حيث العقبات الثلاث التي ترمى فيها الجمرات. والى اليمين يمتد وادي منى بين سطرين من الجبال الشاهقة يساير فيه الطرف أسراب الخيام إلى أن يكل. وهناك تبدو دار الملك عبد العزيز التي ينزلها أيام الموسم. وهنالك بناء أبيض يلوح بين الأشجار هو (السبيل) المصري: مورد عذب يستقي منه الحجاج، يزدحمون عليه النهار كله وطرفاً من الليل. وإنها لمبرة عظيمة

وأما الجبل الشامخ الذي يمتد على جانب الوادي الأيسر فهو ثبير. وكم ردد التاريخ والشعر ذكر ثبير!

ترادفت الذكر وتوالت العبر في هذه البقعة المقفرة التي تخصب بالجماعات كل عام منذ عهد الجاهلية، فكأني بالقبائل تلتقي تتناشد الأشعار، وتتفاخر بالاحساب، ويضعون عنهم العداوة والحرب إلى حين، وقد تغلبهم الضغائن فيفجأ بعضهم بعضاً غير مراعين حرمة الشهر والمكان كما أغارت هوازن على خزاعة بالمحصب من منى فقال أحد بني عدوان:

غداة التقينا بالمحصَّب من منى

فلاقى بنو العنقاء إحدى العظائم

وكأني بهم ينحرون ويذبحون ويضيفون ويطعمون، ويشرقون بقايا اللحم على سفح الجبل.

وكأني بفتيان قريش وشعراء مكة في الجاهلية والإسلام يقضون حق المكارم والفتوة؛ يضيفون ويطعمون ويشيدون بالمفاخر ويتناشدون الشعر ويتناقلون الأخبار، وينزع بهم الشباب فيتغزلون ويرون في الموسم على جلاله وحرمته شملاً من الأحباء يجتمع، وشملاً يفترق، فيشيد الشعر بفرحة اللقاء ولوعة الفراق، فهذا عمر بن أبي ربيعة يقول:

نظرت إليها بالمحصَّب من منى

ولي نظر لولا التحرج عارم

فقلت: أشمس أم مصابيح بيعة

بدت لك خلف الستر أم أنت حالم

بعيدة مهوى الفُرط إما لنوفل

أبوها وإما عبد شمس وهاشم

ص: 4

ومن قبل تذكر المجنون في هذا المكان ليلاه:

وداع دعا إذ نحن بالخيْف من منى

فهيج أطراب الفؤاد ومن يدري

دعا باسم ليلى غيرها فكأنما

أطار بليلى طائراً كان في صدري

وهذا العرجي - وغفران له - يقول:

في الحج إن حجت وماذا منى

وأهله إن هي لم تحجج؟

وأنا أقول ما قال عطاء حين استوقفه ابن سريح فغناه أبياتاً منها بيت العرجي قال:

(الخير كله والله بمنى، لا سيما وقد غيبها الله عن مشاعره)

والعرجي هو القائل:

عوجى عليّ فسلمى جبرُ!

فيم الوقوف وأنتم سَفر؟

لا نلتقي إلا ثلاث منى

حتى يفرّق بيننا النفر

ورحم الله جريراً! كان أرشد من هؤلاء: لقيه الفرزدق بمنى فأنشده:

فإنك لاقٍ بالمنازل من منى

فخاراً؛ فخبرني بمن أنت فاخر؟

فقال جرير: (لبيك اللهم لبيك)

نبهتني تلبية جرير فقلت: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك الخ كم في هذه الخيام من قلوب وردت هذه المشاهد ورود القطا الظماء! وكم من نفوس هجرت خفض العيش إلى مشقة الأسفار، وغربة الديار لتنعم بالذكر والتوبة في هذه البقاع المقدسة. لو نفض كل قلب هنا آماله وآلامه لسامت هذه الحبال جبال من أحزان البشر وأمانيهم حملها أصحابها إلى سدة الخالق العظيم يستغفرون ويتضرعون، ويسترحمون ويتذللون. سرائر لو اجتمعت في هذه الساعة لتمثل فيها تاريخ البشر. لو اجتمعت! لو تشاكى أصحابها وتناجى أربابها! لو تشاكى المسلمون في هذه البقعة وبث بعضهم لبعض خبايا قلبه، وتشاوروا فيما يحز بهم! أجل، هذه خيام مجتمعة، وجماعات مختلطة، وبينها تعارف وتزاور، ولكن أين هذا مما يريد الإسلام ونريد؟ لابد أن ييسر لكل حاج السير والزيارة، ويمكن من أن يلقى من يشاء حين يشاء. إن مئات الآلاف من الحجاج لا تتيسر لهم مقاصدهم ولا تكفل راحتهم إلا في نظام دقيق وترتيب حسن. وذلك لمن شاءه جد يسير. وعلى المسلمين جميعاً أن يعملوا له. لماذا لا يكون في منى مجمع مسقوف يسع الحجاج جميعاً يقفون أو يجلسون في راحة

ص: 5

ونظام، فيسمعون جميعاً إلى الخطباء من زعماء المسلمين يرفعون أصواتهم بالمجاهر! لماذا لا يكون هناك مدرج ينحت في الجبال ليسع الألوف المؤلفة؟ هذا أمر حتم لابد أن تتخذ له الأهبة.

طالت بي الوقفة وأصحابي على مقربة مني! فقلت: هذا أمر له غير هذه الوقفة. ثم التفت فإذا أعرابي بجانبي تفتر شفتاه عن أسنان ناصعة وفي فمه عود

قلت: ما هذا؟ قال: بشام. قلت، الذي يقول فيه جرير:

أتذكر إذ تودعنا سليمى

بفرع بشامة؟ سُقى البشام

قلت: وما هذا؟ مشيراً إلى شجرة صغيرة من الشجر الذي يسمى السنط في مصر. فقال: سلم. فتذكرت قول القائل:

ويوماً توافينا بوجه مقسم

كأنْ ظبية تعطو إلى وارق السلم

وقول الحجاج: والله لأعصبنكم عصب السلمة الخ

قلت: أتستطيع أن تأتينا بأعواد من البشام؟ قال: إنه على الربع الآخر، وأشار إلى الجبل يعنى سفحه الآخر. فتذكرت الآية الكريمة:(أتبنون بكل ربع آية تعبثون) والربع المكان المرتفع قلت لأصحابي: لو اتسع الوقت لأخذنا كثيراً من اللغة عن هذا الأعرابي. فمن كان يظن أن هذه ألفاظ ميتة في المعاجم فليعلم أنها لا تزال حية في أفواه كثير من العرب. وحان الرجوع فرجعنا إلى الخيام

عبد الوهاب عزام

ص: 6

‌أبو العلاء حرب الظالمين

لأستاذ جليل

من (عبقرية) نابغة العرب أبو العلاء حرب الظالمين وعدو المستبدين، ونصير البائسات والبائسين، وخصيم المترفين والباخلين، ومقرع المستكبرين والمدعين، ومجل التواضع والمتواضعين، ومهجن الشراب الحرام والشاربين. وأقواله في (اللزوميات) في هؤلاء المذكورين مشهورة؛ ولم يغفل (نابغة العرب) في (الفصول والغايات) - عبقرية في النثر - عنهم. وفي الآيات البينات بعض ما قال فيهم:

- 1 -

(يا بغاة الآثام، وولاة أمور الأنام، مرتع الجور وخيم، وغبه ليس بحميد، والتواضع أحسن رداء، والكبر ذريعة المقت، والمفاخرة شر كلام. كلنا عبيد لله)

- 2 -

(ما بيت يأتلق فيه الياقوت، وللزرياب حواليه شعاع، يسكنه ظالم جبار يسفك الدم، ويسفح دموع الباكيات، ويشرب كاسات الرحيق - بأعز عند الله من ناسجة الغبار فيا ويح جائر - إذا حكم - عات!)

- 3 -

(إذا أصبح النصح ثقيلاً، والمساجد قالاً وقيلاً، وصارت الإمارة غلاباً، والتجارة خلاباً - فالبيت المحفور، خير لك من مشيدات القصور، والفقير أربح صفقة من ذي التاج)

- 4 -

(إني لوغد وقد عرفت نفسي بعض العرفان، وحقرتها وهي جديرة بالاحتقار. خلقتني كما شئت، وأعطيتني ما لا أستحقه منك. ولعل في عبيدك من هو مثلي أو شر. في خزائنه بدر اللجين والعقيان لا يطعم منها المسكين، ولا يغاث الملهوف)

- 5 -

(إن من يفتقر إلي لفقير، فأغن (اللهم) كل مسكين. وبئس البيت المسكون، بيت تحت

ص: 7

الغبراء يكون، لا أس له ولا عمود، إنما هو من هباء، ليس بالطراف ولا الخباء ولأعمال الصالحات خير ما راح إليه من السوام. فكن أيها الرجل من الصالحين، وإذا رأيت الملأ يبرمون أمراً فقل: لعب الولدان خراج)

- 6 -

(أطعم سائلك أطيب طعاميك، واكس العاري أجد ثوبيك، وامسح دمع الباكية بأرفق كفيك)

- 7 -

(ما ريا قطر، ورائحة حبيب عطر، بأطيب من ثناء مستطر، يثني به بر على مبر! وذكر الله مراتع القلوب يستعذبه الأواب، ويسكن إليه الصالحون. فاغسل الحوب بأن تتوب، ولا تعرك ذنبك بجنبك، فتصر على سخط ربك، والى السوق تحمل الوسوق، فما كان جيداً نفق، وما كان ردياً زهد فيه. وإنما أنت درهم إن اتقى وضح، وإن فسق زاف)

- 8 -

(خافوا الله وتجنبوا المسكرات: حمراء مثل النار، وصفراء كالدينار، وبيضاء تشبه الآل، وكميتاً وصهباء، وكل ما أدرك من الألوان. لو كانت أقسام اللب كرهاق الحصى، والسكرة من الجرع بمثل ذاك لقلت: إن النغبة الواحدة حرام. ولو هجر أب لجناية ولد لحرم العنب لجريرة المدام. وهل لها من ذنب؟ إنما الذنب لعاصر الجون، ومستخرجها وردية اللون، وحابسها في الدن، ومنتظرها برهة من الدهر، وشاربها ورد العطشان. فاجتنبوا ما يذهب العقول، فبها عرف الصواب)

- 9 -

(أحسن الفضل ما شهد به الملأ لغير شاهد؛ إذ كان الغائب كثير العائب، والحاضر يلقي بالوجه الناظر؛ والدعوى رأس مال قلما ربح تاجره وإن صدق. وأحب لابن آدم أن تكون مناقبه كمناقب الطرف الرائع والسيف الحسام تذكر، وهما صامتان)

- 10 -

(قد يكون الخمول داعياً للنباهة كالنار ستر ضوءها باليبيس فأظهر ذلك لهباً)

ص: 8

أبو العلاء حسنة من حسنات سيدي وسيده (محمد) - صلى الإله على محمد - هداه (كتاب الله) فكان من المهديين ومن الأئمة الهادين، وكان (والله) رهين المحبسين أزهد الزاهدين. واستضاء بالقرآن وبلاغة القرآن فأضاءت أقواله وأشعت وبهرت الناظرين والسامعين

نور القرآن قولاً فعلاً، وسما صاحبه في القائلين

إنما القرآن هدى الناطقين. إنما القرآن نور العالمين

غث قول لم يهذبه (الكتاب)

القارئ

ص: 9

‌فلسفة التربية

تطبيقات على التربية في مصر

للأستاذ محمد حسن ظاظا

(ترجع بعض أسباب (الإضراب) إلى أن الطلبة يتصورون نظام المدرسة مفروضاً عليهم، ويتصورون أنفسهم جزءاً منفصلاً عن ذلك النظام.!)

(لا يستطيع ذو الساعد القوي إلا أن يوجد في المدرسة نظاماً آلياً لا روح فيه.!)

(يجب أن يعرف الطلبة أنهم عندما يثورون ويضربون إنما يفعلون ذلك ضد أنفسهم.!)

(لسنا نريد أولئك الأساتذة الذين يلقنون الطلبة العلم فحسب، ولكن أولئك الذين يحدثونهم أيضاً في أشياء كثيرة ويوحون إليهم أمثل أساليب الحياة.!)

(من رسالة الدكتور جاكس)

5 -

النظام

تناولت في المقال السابق أزمة المتعلمين العاطلين ببعض الشرح والتعليل، وقدمت بعض ما ينبغي أن يؤخذ به درءاً للخطر وتلافياً لنتائجه القريبة والبعيدة، وسأتناول اليوم ناحية أخرى هامة هي ناحية النظام المدرسي وأثره في نفوس النشء:

1 -

النظام الحاضر

ولعلك تدري ما هو النظام الحاضر وما هي نتائجه! لعلك تعرف أن (الآلية) تغلب على ذلك النظام إلى حد خطير يجعل المدرسة غير محبوبة، ويجعل (الإضراب) محتملاً لأهون الأسباب! ولعلك تعلم فداحة نسبة الغياب والتأخر في معاهدنا وكثرة ما نحتاج إليه من عقاب وخصم وتنبيه وتحذير في كل صباح! أجل، ولعلك تعرف بعد هذا ما قد يحدث من هروب بالليل أو بالنهار، ومن (تزويغ) من بعض الدروس إذا اقتضى الحال! ومن حلول الفوضى والاضطراب إذا غفلت عين الناظر أو الأستاذ، واختفت العصا وزال الوعيد والتهديد والرفض والإنذار!! أجل! ولعلك تعلم أيضاً أن المدرس قد يلقى من العناء في حفظ نظام الفصل بعض ما يلقى من العناء في التدريس! وأنه يحتاج أحياناً لأن يكون شرطياً أكثر مما يحتاج لأن يكون أستاذاً!! لعلك تعرف ذلك كله، ولعلك تدرك منه أن (النظام) قائم

ص: 10

عندنا على القوة والإرهاب أكثر مما هو قائم على الرغبة والشعور، وأن ما يشوب حياتنا خارج المدارس من فشل أو فوضى بسبب انعدام المنطق فيها إنما يرجع إلى أن المدرسة لم تفلح بعد في غرس النظام فينا وجعله دماً يجري في العروق قبل أن يكون مظاهر وقشوراً!! وإلى أنها لا تزال تبدو كريهة غير محببة ولا مغرية، يبهظنا نظامها، ويرهقنا عملها، وتثقلنا واجباتها، ولا نرى فيها بعد هذا من المتعة والنعيم ما قد يخفف من هذا الإرهاق وذلك الإبهاظ!!

أترى لو كان الأمر على غير ما أقول: أكان الطلبة يضربون ويتركون فصولهم لمجرد استقبال زيد أو عمرو مهما قيل في ضعف الإدارة المدرسية أو الإشراف الوزاري؟؟

أترى لو كان حب النظام متغلغلاً في نفوس الطلبة: أكانوا يهددون بالإضراب كلما عنت لهم حاجة، فإذا ما أضربوا انقلبوا إلى جماعات ثائرة متمردة، وأعلنوا على المدرسة معاملها وأثاثها - وأحياناً ناظرها ومدرسيها - حرباً عواناً لا تبقى ولا تذر؟

ذلك إذاً نظام آلي تعسفي مبغوض!، وتلك إذاً نتائج خطيرة تسود حياتنا الخاصة والعامة وتجعل الفشل والاضطراب نصيبنا المحتوم؛ وإذا كان (النظام الحق) سر عظيم من أسرار النجاح تتحلى به الشعوب العظيمة كالإنجليز والألمان، فما أحوجنا في نهضتنا الحاضرة ومركزنا الحربي الدقيق إلى التحلي به والأخذ بروحه وتفاصيله. . .!؟

سبيل الإصلاح

ويرى الدكتور جاكسون أن الإصلاح إنما يتأتى عن طريق تعليم الطلبة كيف يحترمون (السلطة المشروعة) إذ ما معنى أن يتملك زمامهم نفر من خطبائهم ومهيجيهم، ويقف ناظرهم وأساتذتهم عاجزين حتى عن توجيه الكلام إليهم؟؟ كذلك يجب ألا نقبل أبداً التهديد بالإضراب كوسيلة منتجة تحقق لهم طلباتهم؛ وإنما يجب أن نعاقب الداعين إلى الخروج على سلطة الناظر عقاباً صارماً رادعاً، وألا نستجيب إلى طلباتهم إلا إذا اتخذوا في رفعها ومناقشتها الطريق المشروع والأسلوب اللائق بطلبة يتثقفون ويتهذبون!، أما نظام المدرسة الذي له ضلع كبير في تلك الحالة الشاذة فيجب أن يتبدل بحيث يصبح أكثر مرونة، وبحيث يشعر الطلبة أنفسهم أنهم جزء فيه لا يتجزأ!، وبذلك يصبح إضرابهم موجهاً ضد أنفسهم، ويصبح إخلاصهم للمدرسة خير ضامن لانتظامهم في عملهم واحترامهم لقانونهم.

ص: 11

ويتطلب ذلك النظام الجديد منا أن نفهم الطفل خطأه قبل أن نثور عليه ونصخب في وجهه؛ وأن ننشد منه الطاعة المصحوبة بالرضا والاحترام قبل أن ننشد منه الخضوع الممزوج بالرهبة والخوف؛ وأن نعامله معاملة ديمقراطية ونعرف له حقه كعضو في جسم حي متعدد الأعضاء؛ وأن نقنعه بأن خطأه إنما يعود على المجتمع الذي هو عضو فيه مما قد يثير غضب هذا المجتمع عليه؛ وأن نجعل لجسم المدرسة غاية سامية في رأسه ونطالبه بالمساهمة في تحقيقها كعضو فعال في ذلك الجسم؛ وأن ندخل في المدرسة ذاتها من أساليب المتعة والإغراء والجمال والفن، ما يزيد في تحمسه لها وشغفه بها حتى يعز عليه أن يتركها أو أن يعبث بجلالها ووقارها؛ وأن نقدم له مدرسين من طراز خاص يستطيعون أن يمتزجوا بنفسه، وأن يحدثوه في أشياء كثيرة، وأن يلقنونه أمثل أساليب الحياة؛ وأن نربط ما بين بيته وبين المدرسة برباط متين، فيلتقي الناظر والمدرسون في الآن بعد الآخر بأهله مجتمعين مع أهل زملائه في ساحة المدرسة حيث يدور النصح والإرشاد، ويتحقق تعاون المدرسة مع البيت على نحو مأمون

وأن ندفع به إلى مختلف الجمعيات المدرسية حيث توفر له مجتمعاً صغيراً له غاية ولإفراده من الحقوق والواجبات والقانون والنظام ما يؤهله لأن يكون عضواً حياً في جسم حي

وأن نتيح له من ألوان الرياضة البدنية ما ينمي جسمه ويقوي عضله ويروح عن نفسه ويعلمه أن الخسارة بحق خير من الفوز بباطل، وأن المرمى واحد والجميع يعملون متعاونين من أجله

وأن نقدم له من الجوائز الأدبية والمادية ما يثير فيه روح المنافسة الشريفة، ويحببه في العمل الذي قد جوزي عليه خيراً، ويجعل مجده الشخصي عائداً على مجد المدرسة كلها بالعظمة والخير. .!!

بذلك وبغيره نوجد في المدرسة نظاماً حياً يمتد من الملعب إلى حجرة الدرس، ويتحقق في حضور الرقيب كما يتحقق عند غيبته، وبذلك وبغيره نستطيع أن نخرج الرجل الاجتماعي المنشود الذي يرعى قوانين أمته، ويطيع عرفها، ويندمج في وحدتها الكبرى غير ناظر إلى رياسة تذيع اسمه، أو منصب يدر عليه الخير، أو شخص يحسده ويسعى إلى تحطيمه

ص: 12

بالمنافسة الشريفة وغير الشريفة.!!

ولعلك تعرف بعد هذا أن قوام ذلك النظام المنشود إنما هو الناظر والمدرسون، فترى ماذا يمنع نظارنا ومدرسينا من أن يوجدوا هذا النظام في معاهدهم؟ ذلك ما أدعوك اليوم إلى التفكير فيه، وما سأحاول أن أعرض لبعض نواحيه في العدد القادم. .

(يتبع)

محمد حسن ظاظا

مدرس الفلسفة بشبرا الثانوية الأميرية

ص: 13

‌للأدب والتاريخ

مصطفى صادق الرافعي

1880 -

1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 28 -

(قرأت كلمة الأستاذ سيد قطب (بين العقاد والرافعي) في العدد السالف من الرسالة؛ وأنا أعمل الآن عمل المؤرخ لحياة قد استأثر بها التاريخ، والأستاذ قطب يريد أن يكون ناقداً، وفي مذهبه أنه (لا يصح أن يكون الموت معطلاً للنقد). . . وفي مذهبنا أنه لا ينبغي أن يكون بيني وبينه جدال يعطل التاريخ؛ ومع ذلك فإن ما أتى به من النقد ليس بشيء عندنا. ولقد مات الرافعي ولكنه خلف طائفة كريمة من الأدباء، كلهم أمين على أدبه حريص على تراثه؛ فلا جرم أن يتولى تزييف هذا النقد أو تعديله رجل غيري ممن خلف الرافعي لهم أدبه أمناء عليه، لأفرغ لما أنا فيه؛ فلينتدب له صديقنا (الأستاذ محمود محمد شاكر)، فتلك من أمانات الرافعي في عنقه)

العريان

الملاح التائه

بعد ما أنشأ الرافعي مقالة (وحي الهجرة في نفسي) للعدد الممتاز من الرسالة في سنة 1353هـ، أهدى إليه الشاعر المهندس علي محمود طه ديوانه (الملاح التائه)، وأحسبه طلب إليه أن يكتب عنه. وكان بين الرافعي والشاعر المهندس صلة قديمة من الود، أظنها نشأت في حجرة الأستاذ فؤاد صروف محرر المقتطف، حيث كان الرافعي يقضي أكثر أوقات فراغه كلما هبط إلى القاهرة لعمل من أعماله. وهناك كان يلتقي الرافعي، وصروف وإسماعيل مظهر، ومحمود شاكر، والمعلوف، وغيرهم من أدباء العربية، فيحتدم الجدل ساعات في موضوعات شتى من الأدب. ولم يكن للرافعي ندوة أدبية يقصد إليها كلما جاء القاهرة منذ هجر فلانة - أحب إليه من دار المقتطف، ثم صار له ندوة ثانية من بعد حين

ص: 14

اتصل سببه بالرسالة؛ فكان يقضي وقته بين عيادة الدكتور شخاشيري في فم الخليج، وعبد القادر حمزة والمازني في البلاغ، وإخوان صروف في المقتطف، والزيات في دار الرسالة. ولم يلتق إلا مرة أو مرتين بالأستاذ أحمد أمين والدكتور عزام في لجنة التأليف والترجمة والنشر، عندما كانت اللجنة قائمة على طبع كتابه وحي القلم

قلت: إنه كانت بين الرافعي والشاعر علي محمود طه صلة من الود، ومنها أن الشاعر المهندس وضع له رسماً (تصميماً) للبيت الذي كان في نيته أن يبنيه لينتقل إليه وينقل دار كتبه قبل أن يموت. ولهذا البيت قصة لم تتم، لأن هذا البيت لم يتم. .، فقد كان كل ما ادخره الرافعي من جهاده بضعاً وثلاثين سنة بضع مئات من الجنيهات، اشترى بنصفها قراريط لينشئ فيها حديقة وبيتاً يسكنه - إذ كان ومازال إلى أن مات يسكن بيت أبيه - وبقي معه بعد ذلك قدر من المال لا يكفي نفقات البناء والإنشاء، فآثر أن ينتظر حتى يجتمع إليه شيء، وأسلف صهره ما بقي عنده من المال إلى أجل، وفي النفس أمل. . . ثم. . . ثم جاءت الأزمة فأكلت ثروة صهره جميعها لم تبق منها على شيء، وضاعت ذخيرة الرافعي فيما ضاع ولم يستطع المدين وفاء الدين، فلم يبق للرافعي من جهاده وما ادخر إلا الأرض الخربة، والأمل في عطف الله، وخطوط تبين حدود البيت وحجراته وأبهاءه وحديقته، مرسومة على ورقة زرقاء. . .!

وجاءه ديوان الشاعر علي محمود طه، وديوان الماحي؛ فدفعهما إلي لأختار له ما يقرأ من كليهما. ولم أكن عرف يومئذ ما بينه وبين الشاعر المهندس، ولكن رأيي في ديوانه وافق هواه؛ فما فرغت من قراءته حتى دفعته إليه وعلى هامشه إشارات بالقلم، وما دفعته إليه حتى تهيأ للكتابة عنه. . .

وأنشأ مقالة مسهبة نشرها في المقطم، تحدث فيها عن الشعر حديثاً يبين مذهبه وطريقته في فهم الشعر وفي إنشائه؛ ثم انثنى إلى الشاعر المهندس يمدح ويثني، وينتقد وينصح. . . وكان مؤمناً بما كتب، ولكن إيحاءات من الواعية الباطنة كانت تملي عليه بعض الحديث في التعريض ببعض الشعراء المعاصرين. . .

وتناول الأستاذ المازني ديوان (الملاح التائه) في البلاغ بعدما تناوله الرافعي، فعاب عليه أشياء كان يمتدحها الرافعي، وأخذ على الشاعر أنه كثير العناية باللفظ والعبارة وجزالة

ص: 15

الأسلوب؛ فكانت مقالة الأستاذ المازني حافزة للرافعي على أن ينشئ مقالة للرسالة في الرد عليه، جعل عنوانها (الصحافة لا تجني على الأدب ولكن على فنيته)؛ فبهذه المقالة كان الرافعي يقصد الأستاذ المازني، دفاعاً عن صديقه الشاعر، أو دفاعاً عن مذهبه في الشعر. وكانت هذه أولى مقالات الرافعي في الرسالة بعد فترة من مقالة (وحي الهجرة) وقد أنشأها على نهجه القديم، وحاول فيها فناً من التهكم في قصة اخترعها عن الأصمعي الراوية في عهد الرشيد

في الرسالة

كان الرافعي مفتوناُ بمقالاته الثلاث التي أنشأها في هذه الفترة: البلاغة النبوية، وحقيقة المسلم، ووحي الهجرة. وكان حسن وقعها عند كثير من القراء حافزاً له على الاستمرار في هذا الباب من الأدب الديني، فعقد النية على أن يكتب السيرة النبوية كلها على هذا النسق الفلسفي، ليجعلها كتاباً بعنوانه، يتناول سيرة النبي المعظم صلى الله عليه وسلم على طريقة من التحليل والفلسفة، لا على نسق من الرواية. فأنشأ بعد ذلك مقالاته:(سمو الفقر)، و (الإنسانية العليا)، ثم بان له من بعد أن هذا الفن من الإنشاء عسر الهضم عند كثير من قراء الرسالة، فتركه إلى موضوعات أخرى يعالج بها بعض مشاكل الاجتماع في الحياة المصرية، على أن يكتب ما يتيسر له من المقالات النبوية نجوماً في فترات متباعدة حتى لا يمل قراءه أو يثقل عليهم. وسأتحدث من بعد عن كل مقال من المقالات التي أنشأها للرسالة في الفترة التي صحبته فيها، لعل ذلك يعين على فهم أدب الرجل ودوافعه ومعانيه؛ ولعله يبلغ بي الوسيلة إلى الذين لا يفهمون أدب الرافعي ثم يحاولون أن يتحدثوا عن أدب الطبع وأدب الذهن، أو الأدب الفني والأدب النفسي. . .

ولكن علي قبل أن أبدأ هذا الحديث، أن أصف الرافعي حين يهم بموضوعه، ثم حين يفكر فيه، ثم حين يتهيأ لكتابته، ثم حين يمليه علي من القصاصات المبعثرة على مكتبه، فإن ذلك من الموضوع فاتحته وأوله:

اختيار الموضوع كان أول عمل يحتفل له الرافعي؛ وإذ كان لم يعمل في الصحافة قبل اشتغاله بالرسالة، فإنه لم يتعود من قبل أن يفتش عن الموضوع؛ ولم يكن يحاول الكتابة إلا أن يدفعه إلى الكتابة دافع يجده في نفسه قبل أن يطلبه؛ فلما دعاه الزيات ليكتب للرسالة

ص: 16

موضوعاً كل أسبوع، راح يلتمس الموضوعات التي تصلح أن يكتب فيها للرسالة. وكان يضيق بذلك ويتحير، ثم لم يلبث أن تعودها، فكان يرسل عينة وراء كل منظر، ويمد أذنه وراء كل حديث، ويرسل فكره وراء كل حادثة، ويلقي باله إلى كل محاورة، ثم يختار موضوعه مما يرى ويسمع ويشاهد ويحس، ثم لا يبدأ أن يجمع له فكره ويهيئ عناصره إلا أن يجد له صدى في نفسه، وحديثاً في فكره، وانفعالاً في باطنه. وكثيراً ما كان يعرض له أكثر من موضوع؛ وكثيراً ما كان يرتج عليه فلا يجد موضوعه إلا في اللحظة الأخيرة، واللحظة الأخيرة عنده قبل موعد إرسال المقال بثلاثة أيام!

فمن ذلك، ومن خشية الارتاج والحرج، كان دائماً في جيبه ورقات، يكتب في إحداها عنوان كل ما يخطر له من موضوعات الأدب، ليعود إليها عند الحاجة؛ ويتخذ الورقات الباقية مذكرة يقيد فيها الخواطر التي تتفق له في أي من هذه الموضوعات أين يكون. وبلغ بذلك أن يجتمع عنده في النهاية ثبت حافل بعناوين مقالات لم يكتبها ولم يفرغ لها باله، وورقات أخرى حاشدة بخواطر ومعان شتى في أكثر من موضوع واحد، لا تربط بينها رابطة في المعنى ولا في الموضوع. ومن هذه الورقات، ومن فضلات المعاني في المقالات التي كتبها وفرغ منها - كان يختار (كلمة وكليمة) التي كان ينشرها في فترات متباعدة من الرسالة كلما وجد حاجة إلى الراحة من عناء الكتابة. فهذه الكلمات هي إحدى ثلاث: خواطر مبعثرة كان يلقاها في غير وقتها، أو عناوين موضوعات لم تتهيأ له الفرصة لكتابتها، أو فتات من مقالات كتبها وفرغ منها وبقيت عنده هذه المعاني بعد تمام الكتابة إذ لم بجد لها موضعاً مما كتب

وبسبب أنه كان يقيد عناوين الموضوعات التي كان يختارها ليكتبها في وقتها، كان يعد قراءه أحياناً بموضوعات ثم لا يكتبها ولا يفي بما وعد، لأنه لا يملك منها إلا عنواناً في ورقة بيضاء؛ ومن ذلك مقالة (الزبال الفيلسوف) التي وعد أن يكتبها حين أنشأ للرسالة قصة (بنت الباشا) ثم مضت ثلاثة أعوام ووافاه الأجل وما تزال مقالة الزبال عنواناً في رأس ورقة تحته نثار من الخواطر والمعاني التي كان يدخرها إلى يومها المؤمل!

ولقد وجدت على مكتبه في طنطا غداة نعيه كثيراُ من هذه الورقات، تشير إلى كثير من أمل الأحياء والى كثير من خداع الحياة. . .!

ص: 17

فإذا تم له اختيار الموضوع الذي يتهيأ لكتابته، تركه للفكر يعمل فيه عمله، وللواعية الباطنة أن تهيئ له مادته؛ ويدعه كذلك وقتاً ما، يطول أو يقصر، يقيد في أثنائه خواطره لا تكاد تفلت منه خاطرة؛ وهو في ذلك يستمد من كل شيء مادة وحي، فكأن في كل موجود يراه صوتاً يسمعه، وكأن في كل ما يسمعه لوناً يراه، وكأن في كل شيء شيئاً زائداً على حقيقته يملي عليه معنى أو رأياً أو فكرة. . .

فإذا اجتمع له من هذه الخواطر قدر كاف - والقدر الكافي لتجتمع له هذه الخواطر هو يومان أو ثلاثة - يأخذ في ترتيبها معنى إلى معنى، وجملة الىجملة، ورأياً إلى رأي. فهذه هي الخطوط الأولى من هيكل المقالة

ثم هو يعود بعد ذلك إلى هذه الخواطر المرتبة - بعد أن ينفي عنها من الفضول ما يدخره لـ (كلمة وكليمة) أو لموضوع آخر - فينظر فيها، ويزاوج بينها، ويكشف عما وراءها من معان جديدة وفكر جديد؛ ولا يزال هكذا: يزاوج ويستولد، ويستنتج من كل معنى معنى، ويتفطر له عن كل رأي رأي، حتى تستوي له المقالة فكرة تامة بعضها من بعض، فيكتبها

إلى هنا يكون قد انتهى عمل الذهن، وعمل النفس، ويبقى عمل الفن والصناعة لتخرج مقالة الرافعي إلى القراء في قالبها الأخير الذي يطالع به الأدباء. . . وبيني وبين القراء ميعاد. . .

(شبرا)

محمد سعيد العريان

ص: 18

‌من برجنا العاجي

أذكر أني ما قرأت بعض فقرات من (يوليوس قيصر) لشكسبير، إلا غمرني حزن حقيقي. قصة أخرى أذكر أيضاً أنها كانت تترك في نفسي عين الأثر: هي رواية فرنسية تسمى (نابليون المسكين) لكاتب فرنسي يسمى (برنارزبمر) يصور فيها الإمبراطور سجيناً في جزيرة سانت هيلانة، وقد قصت أجنحة هذا النسر الهائل، وقلمت مخالبه، وأمسى مخلوقاً بائساً يهزأ به خادمه ويخفي عنه غليونه الذي يدخن فيه، ويهمله سجانه الإنجليزي ويدعه يتقلب طول الليل على مضجع الألم من مرض أضراسه، فلا يرحمه ولا يحضر له طبيباً ولا دواء، ويلقبه (بالدب) الذي وضع في أنفه حلقة من حديد ويسمح لبعض الزائرين من السائحين أن ينظروا إليه خلسة من ثقب باب حجرته، كأنه أسد هرم رابض في قفصه بحديقة الحيوان، هذا الذي كان وحده يقيم العروش ويثل العروش، ويدب بحذائه العسكري على أديم أوروبا فتهتز لمشيته التيجان على رؤوس الملوك. وكان يقول في صوته الحديدي: أنا وحدي (أوربا)، فتقول له أوروبا كلها: بل أنت (العالم). نعم لا شيء يؤلم نفسي مثل رؤية (العظيم) يرى سقوطه بعينيه، ومع ذلك لقد احتفظ هذا العظيم بكبريائه حتى النفس الأخير. فلقد كان يصر على أن يلقب بالامبراطور، ولقد خاطبه في ذلك مرة حارسه الإنجليزي قائلاً له: إمبراطور على من؟ وإمبراطور على ماذا؟ فلم يجد منه إلا تشبثاً. فأذعن رفقاً به أو سخرية منه، وترك له هذا اللقب الذي لا يغني ولا يفيد. ولبث هذا البطل المهجور يعيش في هذه الجزيرة المهجورة إلى أن مات، لا بين قصف المدافع ودوي الأبواق ودق الطبول وهتاف العالم من جميع الأركان، ولكن بين سكون النسيان، لا يشيع جثمانه العظيم غير خادم وسجان. يا لقسوة القدر! إن السماء لتنتقم أحياناً من العظيم الذي يتوهم أنه غير وجه العالم بأعماله، فتؤخر موته بضعة أيام عن الوقت الذي كان ينبغي فيه أن يموت، حتى يرى بعينيه قبل أن تغلقا أن العالم بخير لم يتغير فيه شيء بذهابه، ولم تخفت ضحكاته ولم تقف عجلاته برحيله.

توفيق الحكيم

آراء حرة

بين العقاد والرافعي

ص: 19

للأستاذ سيد قطب

- 2 -

في كلمة الأستاذ سعيد العريان الأخيرة، وردت الجمل الآتية يصف نقد الرافعي لوحي الأربعين

(وكان نقداً مراً حامياً اجتمع فيه فن الرافعي، وثورة نفسه، وحدة طبعه، وحرارة بغضائه، ولكنه كان نقداً منزهاً عن العيب)

(أستطيع أن أقول ويقول معي كثير من أدباء العربية، إن هذه المقالة هي خير ما كتب الرافعي في نقد الشعر، وأقربها إلى المثال الصحيح)

(من قرأ (على السفود) فعابه على الرافعي وأنزله ما كان ينزله من نفسه، فليقرأ مقال الرافعي في نقد (وحي الأربعين) ليرى الرأي المجرد في شعر الأستاذ العقاد عن الرافعي)

وفي هذه الكلمة نفسها يقول عند رد العقاد:

(قرأت مقالة العقاد في الرد على الرافعي، فوجدت أسلوباً في الرد لم أكن أنتظره، يؤلم ولا يفحم، ويقابل الجرح بالجرح لا بالعلاج

ويسمى الرد كله: (طعن العقاد على الرافعي وشتيمته إياه)

ويقول عن المقالة كلها: (وكان أكثرها سباباً وشتيمة، وأقلها في الرد والدفاع). . . الخ. . . الخ

هذا ما يراه الأستاذ سعيد في نقد الرافعي ورد العقاد. فمن شاء أن يعرف ما هو نقد الرافعي، فليسمع نماذج منه تعطي صورة كاملة عنه، لأنها منتقاة من نواح مختلفة فيه، لتمثل (فنونه) كلها. وإني لأستميح قراء الرسالة العذر، حين أستبيح أسماعهم وأذواقهم في سماعها، وقد اختصرت على أقلها إفحاشاً وهاهي ذي:

1 -

(وما يخيل إلي في شعر العقاد إلا أنه مستنقع اخضرت ضفتاه، فهذا الجمال القليل فيه لا يكشف عن سر ورونق وإمتاع، وإنما يزيد في القبح والشنعة. وما هو المستنقع إلا البعوض الملاريا والطحلب والوخم والعفن. ولو أنك كنت شاعراً دقيق الحس، مصفى الذوق، عالي البيان، ثم قرأت شعر العقاد لرأيت من ألفاظه ألفاظاً تلسع الذوق لسع

ص: 20

البعوض، ومن شعره أبياتاً تنهق نهيق الضفادع التي هي حمير الماء

2 -

يقول العقاد عن حبيبته:

فيك مني ومن الناس ومن

كل موجود وموعود تؤام

فلا يرى الرافعي في هذا البيت الفريد إلا أن يقول:

(قلنا فإن (من كل موجود) البق والقمل والنمل والخنفساء والوباء والطاعون والهيضة وزيت الخروع والملح الإنجليزي إلى واوات من مثلها لا تعد، أفيكون من هذا كله في حبيب إلا على مذهب العقاد في ذوقه ولغته وفلسفته؟)

3 -

يقول العقاد في طرافة ودعابة عن حسان شاطئ استانلي

ألقى لهن بقوسه

قزح وأدبر وانصرف

فلبسن من أسلابه

شتى المطارف والطرف

فلا يجد الرافعي في هذه الطرافة إلا أن يتلاعب بالألفاظ فيقول:

(فقزح لا يلقي قوسه أبداً، إذ لا يفصل منه. قال في اللسان (لا يفصل قزح من قوس) فإذا امتنع فكيف يقال: (أدبر وانصرف)

أما قزح العقاد، فلعله الخواجة قزح المالطي، مراقب المجلس البلدي على شاطئ استانلي الذي قيلت فيه القصيدة

4 -

ويسمع العقاد، صيحات الاستنكار للهو الشواطئ وما

تعرض من جمال، فيصيح صيحة الفنان الحي المعجب

بالحيوية والجمال:

عيد الشباب ولا كلا

م ولا ملام ولا خرف

فإذا الرافعي يقول:

(إن غاية الغايات في إحسان الظن بأدب العقاد أن تقول إن في هذا البيت غلطة مطبعية، وأن صوابه

عيد الشباب فلا كلا

م ولا ملام (بلا قرف)!

هذه نماذج منوعة من ذلك النقد الذي ينال الرضاء والاستحسان من أصدقاء الرافعي، ومن

ص: 21

أبناء مدرسته، ويعتبر (نقداً منزهاً عن العيب)!

وهذا هو الكلام الذي يعتبر رد العقاد عليه (سباباً وشتيمة)!

ومثل هذه الآراء الغريبة تثير الحنق وتستفز النفوس، ومع هذا فسأحاول أن أناقشها بهدوء، وأن أخلص منها إلى البرهنة على ما سبق أن أسلفته من رأي في الرافعي

فأما المثال الأول فما أدري ماذا أسميه إن لم أقل عنه: (إنه إفحاش) أو إنه (سباب وشتائم) بتعبير أصدقاء الرافعي وهو وأمثاله يؤلف نصف النقد في أوائله وأوسطه وأواخره، فلنمر عليه مر الكرام

وأما المثال الثاني فهو مصداق رأيي في أن الرافعي أديب الذهن لا أديب الطبع، وأنه تنقصه (العقيدة) التي هي وليدة الطبع.

أو. لا. فأي (طبع) سليم يتجه إلى تفسير بيت عزلي في معرض إعجاب شاعر بحبيبته، واستغراق في شمول شخصيتها بأن (كل موجود) هو البق والقمل والنمل. . . الخ)؟ غافلاً عما في هذا الإحساس من (حياة) و (استكناه) لجوهر الشخصية، و (خيال بارع) تثيره طبيعة فنية، فيرى في هذه المرأة من متنوع الصفات ومختلف النزعات وشتى المزايا، عالماً كاملاً من كل موجود وموعود؟

أحد أمرين:

إما أن الرافعي ضيق الإحساس مغلق الطبع بحيث لا يلتفت إلى مثل هذه اللفتات الغنية بالشعور

وإما أنه يدرك هذا الجمال، ولكنه يتلاعب بالصور الذهنية وحدها، غافلاً عما أحسه وأدركه

وهو في الحالة الأولى مسلوب (الطبع)، وفي الثانية مسلوب (العقيدة). فأيهما يختار له جماعة الأصدقاء؟

والمثال الثالث فيه تلاعب وروغان، وهو في هذه المرة (التلاعب) أخس من السابقة. ففي الأولى كان تلاعباً بصور ذهنية، وهو هنا تلاعب ألفاظ لغوية!

أولاً فمن ذا الذي يغفل عن طرافة هذا (الخيال) الذي يتصور (قزحاً) ملقياً بقوسه لهؤلاء الحسان، وهن يتناهبن هذه الأسلاب، بينما هو مدبر منصرف، مغلوب على أمره، لا يستطيع النصفة ممن غلب جمالهن جماله!

ص: 22

ألا تستحق مثل هذه الطرافة، ومثل تلك الحيوية من الناقد إلا أن يذهب إلى القاموس أو اللسان، ينظر هنالك هل يفصل قوس عن قزح أولا يفصل؟ ثم يكمل الكلام بتهكم بارد لا يرد على الفطرة المستقيمة في معرض هذا الجمال!

أهذا هو النقد الذي هو (أقرب إلى المثال الصحيح)؟

وما قلته في المثال الثاني يقال بنصه هنا، فلترجع إليه جماعة الأصدقاء!

والمثال الرابع يغنينا الرافعي عن الحديث فيه، فهو لم يزد على أن أورد البيت، ثم استغلق دون استيعاب ما يعبر عنه من روح الفنان الحي، الموكل بالجمال حيثما وجد وكيفما كان، الهازئ بخرف التقاليد، وقيود العرف، ولم يجد ما يقوله إلا (بلا قرف) وهو قول لا تعليق لنا عليه

هذه نماذج يبين أولها شتائم الرافعي وسبابه؛ ويمثل الثاني تلاعبه بالصور الذهنية، واستغلاق طبعه دون تملي الإحساس الفني؛ ويمثل الثالث تلاعبه بالألفاظ اللغوية، والوقوف بها دون ما تشعه في الخيال من صور طريفة؛ ويمثل الرابع هروبه من مواجهة النقد الصحيح إلى المراوغة وكسب الموقف - في رأيه - بنكتة أو تهكم أو شتيمة.

وليس في نقده كله إلا أمثلة لتلك النماذج، وهي كلها لا تستدعي رداً من المنقود. وإني لأعجب كيف رد العقاد على مثل هذا، وكيف عني أن يناقش ما لا يناقش من الآراء والتحايلات

لقد قلت في كلمة سابقة: إني أنا - لا العقاد - كنت مستعداً أن أثور وأن أستهزئ، لو تناول متناول أدبي بمثل هذا الضيق في الفهم والاستغلاق في الشعور، أو بمثل تلك التلاعبات الذهنية واللغوية، واللفات البهلوانية

وإنني لأكرر ما قلته، وأعجب من بعض أصدقاء الرافعي: كيف كانوا يريدون من العقاد أن يقابل مثل هذا بالنقاش الهادئ (ويرد الجرح بالعلاج لا بالجرح). ولماذا أيها المنصفون يطلب من العقاد وحده أن يلزم جانب النقد الأدبي مع من لا يلتزمه

وبعد فقد اخترت أن أثبت رأيي في الرافعي من نقده الذي استحق إعجاب أصدقائه، وفي مرة أخرى سأفصل هذا الرأي معززاً بإنتاجه الطبيعي الخالص من فورة الخصومة وحدة النزال

ص: 23

(حلوان)

سيد قطب

ص: 24

‌رسالة الأديب إلى الحياة العربية

للدكتور بشر فارس

الأديبة تريحنا من الأدباء:

القصر تدخله فيروعك الرواق الممدود والجدار المنطلق والسقف المقبب، ثم الطنافس كأنها من بطون النوق، والمصابيح كأنها انسلت من أعطاف القمر، والأسرة كأنها من عضل الزنج منحوتة. فإذا طرفك تنهكه الغلبة؛ حتى إذا انثنى إلى الخدر وارتفع له ستاره كان كالسنبلة تلطمها السموم فيغيثها البلل. الخدر: زهر مطروح، وإبريق مترع نصفه، وكأس تنظر أين شاربها، ومقعد مقتضب ولكنه وثير، ووساد كأنه خدود جمعت، وباب هنالك تدفعه بنفثة

فبورك اليوم الذي فيه حنت أنامل مي إلى قلمها!

وبعد، فقد ألقت الآنسة مي في قاعة الجامعة الأمريكية لبيروت محاضرة موضوعها رسالة الأديب إلى الحياة العربية)، وقد نشرتها (الرسالة)(رقم 248) وإذا هي محاضرة تسيل رقة وتثب خفة، فيها من الحقائق النواهض ما يكشف للذهن عن أفق منبسط وهاج.

وثمة ثلاث حقائق لم ينصرف قلم الآنسة مي إليها؛ فهل لي أن أبينها هنا؟

الأدب صناعة!

كذلك كان عند الأمم الراقية وفيها العرب أصحاب لغتنا. وكذلك هو اليوم في بلدان الفرنجة. و (الصناعة) لفظ له مدلول معين. إنما مداره هذه المجموعة من القواعد والشرائط. ومن الشرائط أن تكون منجذباً إلى الأدب سليقة، وأن تنصبه فوق كل شيء، وأن تبذل في سبيله ما عز عليك من متاع أو مطلب، وأن تنصرف إليه لوجهه. ومن القواعد ن تملك اللغة التي تكتب بها، وأن تكون مطلعاٌ على آدابها واقفاً على فنونها، وأن تكون - فوق هذا - طلاباً للعلم، مأخوذاً بحمى الاستطلاع المتصل، مستقيماً في الاداء، رغاباً في التطلع إلى التمام.

قواعد وشرائط هيهات أن تكون من مستحضرات الذهن النظري، بل هي من مستخلصات تاريخ الآداب عامة.

هل الأدب صناعة في الشرق العربي؟ إنه لصناعة عند فئة ممن يقبلون عليه وقلوبهم تحدثهم بقدره. غير أن العدد الأوفر من كتابنا وشعرائنا إنما يهجمون على الأدب من غير

ص: 25

بابه.

أليس الأدب أن تقبض على قلم وتفرش ورقة وأنت عارف كيف ترفع الخبر وتخفض المضاف، وإن حيرتك حروف الجر أو أدار عقلك وصل الجمل وفصلها؟ أما الذي يغشى الورقة فمما لا شأن للقارئ فيه. أنا أكتب، وأما أن فالقراءة القراءة، بل عليك أن تكبرني. لمه؟ لأني أكتب؛ لأني أديب. أين الشهادة بأني أديب؟ إن صحيفة كيت وكيت تنشر لي. إن لي كتاب كذا وكذا. . . ما شاء الله! ماذا تقول؟ (الأدب صناعة)؟ ها ها! الأدب وحي! الأدب زير يرشح وأنا الطست من تحته! أجل أنا أقرض الشعر وإن لم أقوم أوزانه! الشعر موسيقى وأذني دف تنقره وثبات روحي اللطيفة. أجل أنا أحلل فلسفة برجسون وإن لم أقرأ أفلاطون ولا بلوطينس ولا سبينوزا ولا دركايم. إني أتسلق الدار وأعف عن إتيانها من مولجها. أجل أنا أؤلف مسرحيات وإن لم أقرأ مسرحية إفرنجية واحدة. لا حاجة بي إلى من يدلني على الطريق. أنا (موهوب). أجل أنا أصف الصور والتماثيل التي في معارض الفن وإن لم ألمح من متحف (اللوفر) سوى طرفاً من سلمه. الأدب تهويل على الناس، يا صديقي. أجل أنا أنزلق إلى الغمز بمجمع اللغة العربية وإن لم أقرأ (القرآن) ولا (المخصص) ولا (مغني اللبيب) وإن جهلت كيف أطلب مادة أدب في القاموس المحيط. أنا أنشئ افتتاحيات سياسية، والسياسة مدرجة إلى كل شيء

الأدب غذاء!

أن تشرح روحي وتزيد في علمي وترهف إحساسي وتصقل إدراكي ثم تدفعني إلى حيث أفلت من قيود المادة، ذلك الذي أرقبه منك خاصة أيها الأديب. أما أن تقصر أدبك على الترويح عن نفسي كأنك ببغاء يسلي عجوزاً عن شمطها فلي عنك في ذلك غنى. أليس بين يدي (روايات الجيب) ومجلة (اللطائف) والصور المتحركة الأميركية و (الكسار) والمزمار البلدي ورقص البطن فضلاً عن القهوات وما يقع عليها من غرائب المخلوقات؟

كأني بك تكتب وتلقي في اعتقادي أنك ممن يقود فكري فتغويني وتفسد علي معنى الأدب. وإن قلت: إني لم أهيأ بعد لتلقي أسرار فنك لقعود فهمي عن النفوذ إلى مخبآت الضمير، فما رسالتك إذن؟ أترفعني إليك أم تنخفض إلي؟

خبرني، هل رأيت - حياتك - الزهرة تميل إلينا لنستروح شذاها أم هل رأيت البحر يأتينا

ص: 26

في بيوتنا لنركبه إلى الشطء المحنون إليه؟ روضني على التفكير. خذ بيدي. خذ بما تيسر لك مني نحو ذلك الضوء الذي تراه (من باب الفرض على الأقل) ثم تأت لعيني وتلطف في فتحها. إن الغشاوة التي تركبها إنما أمرها موكول إليك. وما هي بالمستعصية والله! ولكن إياك والسطو على تآليف غيرك ولا سيما الفرنجة، فإنما روحك التي أتلمسها فيما تكتب، ومن روحي إلى روحك رسول، ألسنا من جبلة واحدة؟

المرأة قوام الأدب!

المرأة عندنا لم تعرف بعد ما المرأة. فإن كانت مثقفة فإنما يشغلها التحرر والنسج على منوال الإفرنجية في مظاهرها. وإن كانت أمية فإن هي إلا عرض في عينيها. آه لو عرفت المرأة أن الأدب منها واليها! لأن بين يديها مفتاح الغبطة والألم. ومن ذا الذي يلقنها هذا غير الاديب، بل من ذا الذي يقفها على وليجة نفسها غيره؟

الجانب الأعظم من أدبنا أشبه شيء بصحراء رباها متناسقة ورمالها متناسبة وليس فيها بئر ولا نخل، حتى إذا جزتها وفوزت أصبت عند مخرجها آباراً مهجورة ونخلاً تكاد الوحدة تصرعه. إن البيئة الشرقية مقسمة قسمين: هنا الرجال وهنالك النساء. وما أدري - حتى اليوم كيف يستمرئ الرجال العيش على هذا النحو الشاذ. ولذلك ترى أدبنا المحدث غير طبيعي في جملته؛ أما الشعر فمصنوع، وأما القصص فملفق، وأما الرسائل فجافة

وإذا فوض إلى الأديب أن يرشد المرأة إلى سريرة نفسها، فمما وكل إلى المرأة بعد هذا أن تلهم الأديب من طريق مباشر أو غير مباشر، وأن تهذب القارئ بلطف حسها فتقوم مقام الهمزة الدقيقة تصل بين الأدب الحق والمتطلع إليه

بشر فارس

رَجْع: في مقالي المنشور في العدد الماضي من الرسالة (250) وعنوانه (في المذهب الرمزي)(تعليق)، بعض هفوات، منها: وكان لأجل، والصواب: لأهل - والصواب: - والصواب: - أو والصواب: الـ - الطبيعة البشرية الموثوقة، والصواب: الموثقة - ' والصواب: ' بين التأثيرية، والصواب: التأثرية - أن أدفع وهماً، والصواب: وهماً ممكناً

ب. ف

ص: 27

‌ليلى المريضة في العراق

للدكتور زكي مبارك

- 17 -

أمري إلى الحب!

أمري إلى الهوى!

بل أمري إلى الله الذي يقلب القلوب

كانت ليلتي في قطار البصرة ليلة شاتية وما كنت أخذت أُهبتي لمكافحة البرد في قطار البصرة، وهل كنت أعلم أن البرد في قطار البصرة له تواريخ؟

لقد عشت دهري مفتوناً بشبابي، لأني نشأت في أسرة كان أكثر رجالها من العماليق

وكذلك يزين لي الفتون أن أمتطي قطار البصرة في ليلة شاتية بلا غطاء

دخلت البصرة محموماً، دخلتها أهذي هذيان المحمومين

ولكني تذكرت فجأة أن سعادة السيد عبد الجبار الراوي حاكم الحلة كان كلفني تبليغ التحية إلى سعادة الدكتور عبد الحميد الطوخي مدير الصحة بالبصرة، وتذكرت أن هذا الطبيب مصري صقله العراق، وأنا على كل حال أحب المصريين، فقد شاع في بقاع الأرض أني مصري، ومن واجبي أن أحب مصر وفاءً أو رياءً.

ذهبت محموماً للتسليم على هذا الطبيب فكاد يطير من الفرح بلقائي. فقلت له: هون عليك، فما جئت إلا لأبلغك تحية حاكم الحلة، الحلة الجميلة التي تشبه شبين الكوم حاضرة المنوفية

وما هي إلا لحظة حتى نقلني هذا الطبيب إلى حاكم البصرة، والى مدير المعارف بالبصرة، وكان اليوم كله طوافاً بما في البصرة من غرائب وأعاجيب

وعند الغروب لقيني الدكتور عبد المجيد القصاب فقال: ارجع بنا إلى بغداد. فقلت: لا أستطيع. فقال: إنك ستلقي كلمة مصر في تأبين المغفور له ياسين باشا الهاشمي، واسمك في منهج الاحتفال

فقلت: أعرف ذلك، وأفهم قيمة الشرف الذي أظفر به في حفلة يخطب فيها فخامة رئيس الوزراء، وفخامة نوري باشا السعيد ولكني محموم، وما أستطيع أن أعاقر البرد في قطار البصرة ليلتين متواليتين

ص: 29

وأرسلت برقية اعتذار، وأويت إلى فراشي بالفندق أعاني الغربة والمرض والحب. وشاع في البصرة أني مريض، فتفضل حاكم البصرة ومر بالفندق فترك لي كلمة عطف، وتفضل مدير الصحة بعيادتي فأزعجه حالي

وفي الصباح أفقت، فكان أكبر همي أن أزور قبر أستاذي في التصوف، مولاي الحسن البصري، ولكن كيف؟ لقد قضيت ليلتي محموماً وقضت السماء ليلها في بكاء

وأويت مرة ثانية إلى الفراش لأن المطر جعل ذهابي لزيارة قبر الحسن البصري غرضاً عزيز المنال

وطلبت الجرائد لأتلهى بها فرأيت في جريدة (الناس) وجريدة (الثغر) أنى سألقي محاضرة بنادي البصرة، فذهبت في الموعد وتكلمت نحو خمسين دقيقة عن ماضي البصرة، ثم مضيت إلى الفندق فأخذت أمتعتي لأعاقر البرد من جديد في طريقي إلى بغداد

هل يعرف قارئ هذه المذكرات كيف يشقى من يقضي ثلاث عشرة ساعة في القطار وهو محموم؟

علم ذلك عند الأستاذ النبيل الذي يدير إحدى المدارس في بغداد فقد أخرج ما في حقائبه من أغطية وملابس وألقاها فوق جسمي لأنجو من البرد الذي قتل أخانا أبا الدرداء

صرعني البرد في الذهاب والإياب، وأضرعتني الحمى فلم أدخل بغداد إلا وشفتي يزينها عقبول، والعقبول هو التشقق الذي يصيب الشفاه من وهج الحمى، ومنه جاءت عقابيل الحب، وكذلك اجتمعت العقابيل في قلبي وشفتي، وهو أول حادث يقع في التاريخ

كان هذا العقبول مزعجاً، فقد كان كل من يراني يحسب أني أصبت بأخت بغداد؛ ولو صح ما حسبوا لكانت نكبة، فأخت بغداد إذا أصابت الشفة كانت نذيراً بالحرمان من جميع أخوات بغداد

ومن أجل هذا العقبول حبست نفسي في المنزل أسبوعين قضيتهما في إنجاز كتاب (عبقرية الشريف الرضي)

ولكن هذا الحبس كانت له أيضاً عقابيل، فقد اشتغلت بالسياسة العراقية مع أني طلقت السياسة المصرية منذ أعوام طوال

وتفصيل ذلك أن مجلس النواب كان يستعد لدرس معاهدة الحدود بين العراق وإيران، وكان

ص: 30

شط العرب محور النزاع، شط العرب الذي تغنيت به في البصرة ونشرت ثنائي عليه جريدة البلاد

كان العراق في فورة، وكنت في فورة، وما أشقى من يضطرم صدره تحت سماء العراق!

ومضيت إلى رئيس الكتاب بالمجلس النيابي، وهو صديق عزيز، فطلبت تذكرة لحضور تلك الجلسة التاريخية. وكنت أول من دخل شرفة المجلس في ذلك اليوم، فهالني أن أرى خريطة شط العرب مرقومة بالطباشير على لوحة سوداء

كان الجو كله دخاناً في دخان، وكنت أكاد أختنق

ثم وقف وزير الخارجية يخطب، وما كان أروعه في ذلك اليوم، فقد بدد ما ران على صدري من ظلمات

وتدفق الخطباء بين معارض وموافق، وكانت جلسة برلمانية حقاً وصدقاً. كانت جلسة صريحة أبدى فيها النواب آراءهم بألفاظ لا مداورة فيها ولا التواء

خطب وزير الخارجية خطبتين في ذلك اليوم وكان بالتأكيد أشجع الخطباء، ولن أنسى أنه قال: كان في يقيني أن أقترح جعل هذه الجلسة سرية، ثم رأيت أن تكون علنية ليرى الجمهور بعينه أن الحكومة حريصة على أرض الوطن كل الحرص

وسألت أحد الصحفيين عن هذا الرجل فقال: أما تعرفه؟ هذا زميلك

فقلت: وكيف كان زميلي؟

فقال: هو سوربوني مثلك، هذا توفيق باشا السويدي خريج السوربون!

السوربون! السوربون!

رعى الله عهدي يوم كنت أجول فيها وأصول!

خرجت من مجلس النواب منشرح الصدر. ولقيني أحد النواب فقال: كيف رأيت؟ فأجبت: رأيت وجه الحق. ولكن آذاني أن تكون حجة الموافقين على معاهدة الحدود مقصورة على أن إيران جارة عزيزة. فما الذي كان يضيركم لو قلتم إن إيران أمة إسلامية، وإن المسلمين يجب أن يتسامح بعضهم مع بعض، نحن مسئولون عن الأخوة الإسلامية أما الله وأما التاريخ. مسئولون أمام الله الذي يكره أن يبغي المسلمون بعضهم على بعض، ومسئولون أمام الماضي الجميل الذي تعاونت فيه الأمة العربية والأمة الفارسية فأنجبتا أشرف ذخيرة

ص: 31

من ذخائر الأدب والتشريع. إن العداوة بين العرب والفرس أجج جذوتها ناس من الأدباء، فما الذي يمنع من أن يقوم فريق من الأدباء المصلحين فيخلقوا الحب بين ايران والعراق؟

إن فرنسا لها مدرسة لنشر اللغة الفرنسية في إيران

فما الذي يمنع أن تقوم الحكومة المصرية أو الحكومة العراقية بإنشاء مدرسة لنشر اللغة العربية في إيران؟

حدق النائب في وجهي طويلاً وقال: هذا رأي وجيه، ولكن الظروف. . .

فقلت: أي ظروف؟ إن أوربا يسرها أن نتمزق. وهي قد استطاعت بالفعل أن تؤلب المسلمين بعضهم على بعض وأن تضرب العرب بعضهم ببعض. وإذا استمر الحال كذلك ربع قرن فلن تجد من يرد عليك السلام في مصر، ولن أجد من يرد علي السلام في العراق

الحمد لله. تم الصفاء بين إيران والعراق، ومرت معاهدة الحدود بسلام، والله المسئول عن هداية العرب والمسلمين

ولكن شط العرب الذي عجز عن تكدير السلام بين العراق وإيران استطاع أن يكدر السلام بيني وبين ليلاي

كنت انقطعت عن زيارة ليلى إلى أن يذهب العقبول الذي شوه شفتي، فاستوحشت ليلى لغيابي، وأرسلت ظمياء للسؤال عني، فطار بي إليها الشوق، فلما وقع بصرها على شفتي قالت:

ما هذا الذي بشفتك؟

فأجبت: هذا عقبول

فقالت: أما آن لك أن تتوب؟

فقلت: ماذا تعنين؟

فأجابت: ما هذا عقبولاً يا حضرة الدكتور

فقلت: وما هو؟

فأجابت في سخرية: هذه عضة سمكة من أسماك شط العرب!

فأقسمت بالله والحب أنني ما حاولت الصيد في شط العرب حتى تعضني السمكات

وطالت اللجاجة بيني وبين ليلى، وحملني الغضب على أن أقول: اسمعي، أنا مستعد لما هو

ص: 32

أخطر من ذلك

فقالت: إيش لون؟

فقلت: أنا مستعد لتقبيل ثغر الحية

فقالت وعيناها تقذفان بالشرر المتوقد: لن تقبل ثغر الحية.

فانزعجت وعرفت أنه وعيد

وانقضت السهرة في كلام تافه، وعند الانصراف لم تسألني ليلى متى أرجع؟

آه، ثم آه!

كانت ظمياء خدعتني حين قالت إنها وصلت مع ليلى إلى القاهرة في آذار شهر الأزهار والرياحين، فقد عرفت أن آذار القاهرة غير آذار بغداد. عرفت بالتجربة أن العراقيين على حق حين يحكمون بأن (آذار، شهر الزوابع والأمطار) فقد قضيت هذا الشهر في كروب وأحزان

ولكن أي كروب وأي أحزان؟

كنت أذهب لتأدية الدروس في الصباح، وكنت أذهب بعد العصر إلى المطابع لأصحح تجارب كتابي، ثم ارجع قبيل المغرب إلى البيت لأعاني وحشة الليل، الليل الهائل، ليل بغداد

وزاد الكرب أني انقطعت انقطاعاً تاماً عن المصريين والعراقيين

انقطعت عن المصريين للسبب الذي شرحته في كتاب (ذكريات باريس) وهو سبب يؤذيني أن أسجله مرة ثانية في هذه المذكرات، وأنا في الواقع أنسى مصر حين أفارق مصر، لأني أفهم أن مصر حين ترسلني إلى باريس أو بغداد لا تريد إلا أن أفهم باريس أو بغداد. ومصر لا تلعب، فهي تحب لأبنائها أن يفهموا روح الغرب وروح الشرق، وأنا فيما أزعم مصري تحبه مصر، وإن كانت لا تلقاني بغير العبوس

وانقطعت عن العراقيين لأن حسابي عندهم أثقل من الجبال. ولن أنسى السهرة التي قضيتها في منزل السيد محمد حسين الشبيبي فقد قضيت ثلاث ساعات وأنا أتدفق كالسيل دفاعاً عن الآراء التي أذعتها في مؤلفاتي، وآذاني ذلك الجهد فمرضت يومين

أين أذهب؟ لا أدري أين أذهب

ص: 33

كنت أدخر ليلى لأيام الشقاء، وهي الآن في تغضب وتعتب.

كانت ليلى تقول حين أهم بالخروج: فراقك صعب سيدي،

وهي اليوم لا تقول شيئاً من ذلك ولا تسأل متى أرجع

كانت ليلى تقول: (ليش ما جيت عندنا من زمان يا دكتور؟)

وهي اليوم تسأل فيما أظن - وبعض الظن إثم - متى أرحل عن بغداد

عافاك الله يا ليلى وأسبغ عليك نعمة العافية!

تباركت يا ربي وتعاليت

فما عانيت في حياتي بلاء إلا رأيت ما يصحبه من محمود العواقب.

فبفضل تغضب ليلى وتعتبها عرفت سراً من اغرب الأسرار، عرفت كيف ظل العراقيون أكثر من ثلاثمائة سنة يغنون هذين البيتين:

ولي كبد مقروحة من يبيعني

بها كبداً ليست بذات قروح

أباها عليّ الناس لا يشترونها

ومن يشتري ذا علة بصحيح

لقد هدني غضب ليلى فلم أعد أعرف للحياة أي مذاق، وجزعت على ما صرت إليه أشد الجزع، فهذا الربيع يفيض على أرجاء العراق أرواح الابتهاج والانشراح، وقلبي وحده يعيش بلا ربيع

وجاء (نيسان، شهر الزيادة والنقصان) فلم يهش له قلبي، وبقيت أعاني ألم الوحشة والانفراد

كنت أستطيع غشيان بعض الملاهي لأنسى همومي وما في ذلك ما يضيرني، فقد كان السيد جمال الدين الأفغاني يجلس في قهوة متاتيا بالقاهرة يوم كان الجلوس في مثل تلك القهوة شيئاً غير لائق، وكان يقول: من حق الفيلسوف أن يجلس في قهوة متاتيا، وأنا دكتور في الفلسفة ومن حقي أن أجلس في قهوة متاتيون!

ولكن ملاهي بغداد فيها أغانٍ وألحان، وقد صرت بعد غضب ليلى مرهف الحس إلى حد مفزع، وأخشى أن أسمع الغناء مع الناس فتفضحني عندهم دموعي

وكان يتفق أن أسمع المذياع من حين إلى حين فأتوهمه يدمدم:

ولي كبد مقروحة من يبيعني

بها كبداً ليست بذات قروح

ص: 34

ومن غريب ما وقع أن غضب ليلى قوبل بعوض مزعج هو كرم أهل العراق

كنت أدخل المطاعم للغداء أو للعشاء فأجد من يدفع عني من حيث لا أعرف. وكثر ذلك حتى أضجرني، وما كنت بخيلاً حتى أنكر الكرم، ولكن قلبي كان يهتف بقول الزميل القديم:

آل ليلى إن ضيفكُم

واجد بالحي مذ نزلا

أمكِنوه من ثَنِيَّها

لم يرد خمراً ولا عسلا

وفي حومة من هذه الحرب الوجدانية سمعت أن جماعة من الأطباء كتبوا يشكونني إلى الجمعية الطبية المصرية، وهم يزعمون أنني حنثت في اليمين، فقد أقسمت كما أقسموا ألا أفشي سراً لمريض، ولو كانوا يعقلون لعرفوا أن مرض ليلى أصبح معضلة دولية، ولكن هل يعقل من في قلوبهم مرض؟

آه ثم آه من حقد الزملاء

لم تسألني ليلى متى أرجع، ولكن لابد أن أرجع

وهل هنت على نفسي إلى هذا الحد؟

ما هنت على نفسي. فقد رعاني الله فعشت طول حياتي عزيزاً، ولكن هذه فرصة أختبر فيها أخلاقي. هذه فرصة ثمينة قد لا تعود. إن ليلى تحقد علي، وتتهمني بخيانة الحب، ومن واجبي نحو الأخلاق أن أرحم من يرتاب في أخلاقي، فما ارتاب في أخلاقي غير الضعفاء والمساكين

ولكن ليلى لها تاريخ، وأشقى الناس من يعشق امرأة لها تاريخ

وتاريخ ليلى ابتدأ في القاهرة واستفحل في بغداد، ومن الواجب أن أكون على بينة من تفاصيل ذلك التاريخ، وعلم ذلك عند ظمياء

- إيش لونك يا دكتور!

- أعاني ظلام الحب وظلام الليل، وإيش لون ليلى؟

- استراحت لمكايدتك فدبت في روحها العافية

- وكذلك أبني الأصدقاء ليهدموني يا ظمياء

- لا تندم على ما صنعت من جميل

ص: 35

- سمعت وأطعت يا بنيتي الغالية، ولكن أحب أن نرجع إلى حديث ليلى مع الضابط عبد الحسيب

فانشرح صدر ظمياء وأخذت تقول. . .

(للحديث شجون)

زكي مبارك

ص: 36

‌أهمية الترجمة وحركاتها في التاريخ

الترجمة في الإسلام

صفاتها وفهمها في أوربا

للأستاذ عبد العزيز عزت

كذلك كلما فتح العرب الممالك الواسعة في مشارق الأرض ومغاربها واختلطوا بأهل تلك البلاد، وكان بينهم من يسمو عليهم في الحضارة والفهم، أحس العرب بجهلهم وما يخضعون له منذ زمان بعيد من عرف الحكم المتقطعة والأوامر والنواهي التي لا تؤدي إلى خلق دورة كاملة للتفكير في موضوعات معينة، لأنهم قوم رحل يعشقون الحرية التي جعلتهم شعباً ملهماً تتقد فيه المشاعر وتسمو فيه البلاغة، وينضج فيه الشعر، ويسبح فيه الفكر بين الذاكرة والخيال دون أن يهبط إلى ظاهرات الوجود الدنيوي ليحلل عناصرها ويعسعس عن منطق الترابط العقلي بينها. عقلية يسودها الماضي بعرفه وذكريات أبطال القبائل، والمستقبل تحت عبء القضاء والقدر؛ رحبوا لهذا بخلق هجرة العقل، بعد أن مهدت لذلك من قبل هجرة الإيمان لسيد الخلق عليه السلام

فابتدأ تأريخ العقل عندهم حينما أسس المأمون (ديوان الترجمة) ببغداد عام 832 ميلادية، وكان أغلب هذا الديوان من النصارى كحنين بن اسحاق، وابنه إسحاق، وكحبيش، وقسطا بن لوقا وغيرهم فذهب هؤلاء المترجمون إلى فلاسفة اليونان يتوسلون ويستجدون فطربوا على وجه الخصوص لأفلاطون وأرسطو، فترجموا للأول خاصة ما يتعلق بعهد الشيخوخة، لأن علماء تاريخ الفلسفة كأستاذنا روبان يقسم أفلاطون إلى ثلاثة أقسام: عهد الشباب ويتأثر فيه بسقراط في جمال الأخلاق وطبيعة الفضيلة، وعهد الرجولة وفيه يبسط آراءه في نظرية المعرفة وما وراء الطبيعة وطبيعة النفس

وملكاتها، وعهد الشيخوخة وهو أهم عهوده لأنه يلخص العهدين السابقين بل كل الفلسفة اليونانية إلى عهد افلاطون، كما نجد ذلك في (طيماؤس)، وكذلك فيه يضع كتبه في السياسة كالجمهورية والسياسة والقواميس، فترجمة العرب لافلاطون وأن قلت في الكم فإنها عظمت في الكيف، هذا من الوجهة المباشرة، أما من الوجهة غير المباشرة فلقد ترجم كذلك العرب

ص: 37

كتباً وإن لم تكن لأفلاطون إلا أنها تمت إلى فلسفته بصلة وصلات (ككتاب (الأثولوجيا) الذي نسب خطأ لأرسطو وهو لفلوطين، وهو (الشيخ اليوناني) على حد تعبير الشهرستاني الذي ينتمي لمدرسة الإسكندرية، وكذلك (كتاب العلل) لبرفلس، وفلسفة كل منهما تنتمي إلى فلسفة أفلاطون، وبجوار هذا كان للمسيحية أثر لا يستهان به عن طريق المترجمين لأن أغلبهم كان من المسيحيين والكل يعرف الاتصال الوثيق بين التثليث في المسيحية وخصوصاً تثليث القديس اوغسطين، والتثليث الأفلاطوني

وترجموا كذلك لأرسطو، وهنا نجد الكم يسبق الكيف لأن كل مؤلفاته قد ترجمت إلا ما كتبه في السياسة وهذا الاستثناء راجع في نظري إلى أن سياسة أرسطو سياسة (مغلقة) تختص بما للمجتمع اليوناني القديم من نظم مدنية خاصة، وإنها كذلك تقر الرق والاستعباد، وهذا يناقض مبادئ الإسلام التي تصرح أن لا فرق لعربي على أعجمي إلا بالتقوى. وإنها أيضاً تعطي الوجه الاقتصادي في المدينة أهمية كبرى بينما نجد عند فلاسفة الإسلام الأثر ظاهراً في تغليب الوجه السياسي لأنهم يرددون كثيراً:(الناس على دين ملوكهم) وهذا راجع بطبيعة الحال إلى أهميته من أن الخلافة في الإسلام الذي يشتق من أهمية رئيس القبيلة في النظام الاجتماعي لمعيشة العرب في البيداء

وسبب سيادة أرسطو عند العرب ترجع في نظري إلى أنهم وجدوا في منطقه أداة للجدل ونشر تعاليم الإسلام عن طريق الإقناع لا عن طريق السيف كما يفهم بعض المغرضين، لأن عبقرية هذا الشعب هي: البلاغة والبيان وقوة الحجة. وصحة نظري هي أن القرآن الكريم هو إعجازهم؛ ثم إن القران نفسه يصرح قائلاً في سورة (البقرة) بند 189، 192 (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) ويقول: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين). ويقول: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم)؛ وكذلك فلسفة أرسطو في مجموعها أقرب إلى عقولهم البدوية من فلسفة أفلاطون لأنها نسبياً أقل تجريداً، ويذكر أيضاً أن عقلية العرب عقلية (جامعة) وفلسفة أرسطو تنسجم وهذه الصفة لأنها موسوعة عامة للمعارف، ولكن بالرغم من هذه المرغبات في فلسفته ضاع أرسطو على حقيقة أمره فيما بينهم، لأنهم

ص: 38

ألبسوه زياً مخالفاً لزيه اليوناني الأصيل، فأرسطو العرب شخصية جديدة أقرب إلى أفلاطون منها إلى أرسطو نفسه، وهذا راجع في نظري إلى أن علم الإلهيات عن أفلاطون وعند فلوطين (على وجه الخصوص) أقرب إلى تعاليم الإسلام منه عند أرسطو، وهذا العالم كان طوال العهد اليوناني، والقرون الوسطى، بل حتى عند ديكارت في العهد الحديث عندما يتكلم عن تقسيم العلوم أساساً لسائر العلوم والفلسفات، وبجوار ذلك هناك سبب آخر هو انتشار مذهب أفلاطون وفلوطين في بلاد الشام والعراق إبان الترجمة اليونانية في القرن السابع والثامن كما يؤكد هذا فرنسوا نو، وتأثر المترجمين المسيحيين بهذا التراث، بعهد ذلك إبان ترجمة القرن التاسع الميلادي في عهد المأمون

ونشعر أنه من العبث بعقول القراء أن نسرد حوادث تاريخ هذه الترجمة فنذكر مثلاً: حياة كل مترجم وما ترجمه ومحتويات كل كتاب، فهذا ممل، ولأن الحوادث لا قيمة لها مطلقاً في ذاتها فهم يجدون هذا مثلاً في القسم الأول لكتاب كارادي فو عن ابن سينا، وفي كتاب (الطب عند العرب) بجزئيه للكلرك وعند برييه، وعند منك. . . وهلم جرا

ونكتفي بما قدمنا من الصفات الأساسية من ناحية اختصاصنا - الفلسفة - والمهم من ذلك في نظري أن يقف القراء على الفهم الأوربي الحديث للتراث الإسلامي الذي بني على هذه الترجمة، وهذا الفهم يتشعب خلال ثلاث مدارس نكتفي اليوم ببسط فهم المدرسة الأولى:

مدرسة الفيلسوف رينان

ولد رينان (أرنست) في بلدة ترجييه من مقاطعة بريتانيا في غرب فرنسا عام 1823، وتربى في هذه البلدة تربية (دينية) سواء في عائلته أم في مدرسة هذه البلدة أم في جو هذه المقاطعة التي يتغلغل فيها المذهب الكاثوليكي إلى أبعد مداه كما شاهدته بنفسي منذ عامين. ثم ذهب إلى باريس ليتعلم في مدرسة القساوسة، وما كاد ينتهي بنجاح في دراسته ويرسم قسيساً حتى غلبت على أفكاره تلك النزعة (الغبية) نزعة الكفر والإلحاد، فترك حياة الدين والإيمان، ودخل الحياة الدنيا غير آسف على ما فرط فيه من قبل، وحاز درجات علمية ممتازة من الجامعة والتحق بعد ذلك بالصحافة؛ ثم ساح ورحل في بلاد الشرق فكان في سوريا عام 1860، وفي فلسطين عام 1863 حيث كتب (حياة المسيح) ثم عين أستاذاً في (مدرسة الكليج دي فرانس). ويبن عام 1863، 1883 ألف (تاريخ أصول المسيحية) وبين

ص: 39

عام 1887، 1893 ألف كتابه العظيم (تاريخ بني إسرائيل) وبعد سنة ظهر له (محاورات ومنتخبات في الفلسفة) وفي سنة 1883 (ذكريات الطفولة والشباب) وفي عام 1890 (مستقبل العلم. . .) وغير ذلك. ومات في عام 1892، والذي يهمنا بالنسبة للتراث الإسلامي أنه عرض فيما تقدم من المؤلفات وفيما سنذكره بعد ذلك لحياة محمد عليه الصلاة والسلام، ولأصول الإسلام، وللعقلية السامية، وللإسلام والعلم، ولفلسفة ابن رشد، وناقش الشيخ الأفغاني في جريدة (الديبا)، ولكن كل دراساته ومناقشاته هي طعن في الإسلام ونبيه وأهله ومبادئه. فمثلاً يقول في كتابه دراسات في تاريخ الأديان (صفحة 200)(لم يعرف الشرق مطلقاً في تاريخه تلك العظمة العقلية الخالصة التي لا تحتاج إلى الرجوع إلى المعجزات، ويصعب عليه تصوير فيلسوف لا يعمد إلى التهريج، ولم يصل الشرق مطلقاً إلى درجة التجريد العقلي لأنه نظر إلى الطبيعة والتاريخ بعيون صبيانية. . .)(وفي صفحة 210) يصور النبي عليه السلام كرجل مخادع دجال يخترع الكذب باسم الملاك جبريل. (وفي صفحة 245) يروي أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يربي ديكاً عجوزاً احتفظ به ليدفع عنه سوء العين، ويصد عنه خطر النظرات الحاسدة. ثم بعد أن يتحدث في هذا الكتاب عن رفق النبي صلوات الله عليه، بالحيوانات والأطفال والنساء يتخذ من هذا الرفق آية لإثبات ضعفه، وينتهي (في صفحة 250) بأن يقرر أن الذي أسس الإسلام وشيد صرحه هو سيدنا عمر رضوان الله عليه لأنه يماثل كما يذكر القديس بولس في المسيحية

ويجمل هذا الرجل عقله ونزعته هذه في فهم ما ترجم من الفلسفة في الإسلام فيسطر في نفس الكتاب (صفحة 200 الملاحظة الأولى في الهامش) ما ترجمته: (عندما اتخذ العرب من أرسطو معلماً لهم في المعارف، اخترعوا له خرافة تجعل منه نبياً، وتصوروا أنه قد انتزع من السماء حيث كان يلتصق بعمود من نار) ويذكر كذلك رينان في كتابه (مقالات ومحاضرات) أن الفلسفة الإسلامية ما هي إلا الفلسفة اليونانية (مخطوطة) بحروف عربية، لم يهضمها العرب لأن الإسلام دين لا يسمح بحرية التفكير وروح النقد، وعندما يدرس هذه الفلسفة يدرسها بحركة (عكسية) لا تتفق وأولى مبادئ تاريخ الفلسفة كعلم محترم له أصوله في البحث لأنه يبتدئ بدراسة ابن رشد مع أن فلسفته لا تنفصل مطلقاً عما تقدمها من فلسفات، وكل الناس يعرف معركة (التهافت) و (تهافت التهافت) ويصوره رينان في كتابه

ص: 40

(ابن رشد ومذهبه) صفحة 52 أنه لا يعرف كيف يكتب ولا كيف يفكر، وأن لغته لغة همجية، ومؤلفاته لا قيمة لها. نقل عن مؤلفات نقلت هي بدورها عن مؤلفات أخرى نقلت عن الأصل اليوناني. وفي كتابه (تاريخ اللغات السامية) صفحة 291 يشك بوجه عام في علم فلاسفة الإسلام لأن عملهم كان بالواسطة، علم منقول بني على جهلهم باللغة اليونانية

آراء هذا الرجل بهذا الأسلوب أفسدت الاستشراق الفرنسي (عدة من الزمن) من بعد، حيث سار على نهجه ومبدئه (منك) في (الفلسفة العربية واليهودية)، وكليمان هوار في كتابه (تاريخ العرب) وخصوصاً الجزء الثاني، وكازانوفا في (محمد ونهاية العالم)، وجوتييه تلميذه الأصيل في رسالة عن (ابن رشد). وسبب الضلال في هذا الاستشراق يرجع أولاً إلى ذلك المذهب الذي انتشر في زمان هؤلاء الناس، وهو المذهب الوضعي الذي ينكر أهمية الادباء، ويهاجم أصول العقل التجريدي ويقر بعكس ذلك دراسات المظاهر الخارجية في الطبيعة والإنسان بمنهج التجربة، وأمله أن يجعل من علوم الإنسان الأدبية علوماً لا تقل في دقة أبحاثها عن علوم المادة. لهذا شجع هذا المذهب النزعة الإلحادية في فرنسا إبان ذلك العهد ويقول رينان بهذا الصدد في كتابه (مقالات ومحاضرات) صفحة 406 ما ترجمته:(أقول دائماً ولست بحاجة أن أكرر إن العقل البشري يجب أن يتنزه عن كل المعتقدات الدينية، وأن يحصر مجهوداته في مجاله الخاص وهو إقامة العلم الوضعي). وسبب آخر أن في زمان رينان ضاعت هيبة الإسلام والمسلمين في فرنسا لفتحها بلاد الجزائر بحد السيف وظهور كتب عن تلك البلاد تمثلها في حالة وحشية وتأخر وانحطاط، ككتب القائد دوما؛ وهذا ما قوى النزعة العدائية للإسلام، فرينان يقول عن غايات العلم في الكتاب المتقدم ذكره صفحة 400، 401:(العلم هو روح المجتمع لأن العلم هو العقل وهو يخلق التقدم الحربي والرقي الصناعي. . . ولو أن عمر وجنكيزخان وجدا أمامهما المدافع مصوبة لما تقدموا خطوة واحدة عن حدود الصحراء)

وسبب ثالث أن دراسات الاستشراق في عهد رينان لم تكن متقدمة بشكل يوجب احترامها العلمي، بل كانت في الغالب تراجم وتعليقات لبعض مفكري العرب قام بها أعضاء (الجمعية الأسيوية). ورينان نفسه يكتب تارة في الأدب، وتارة في الفلسفة، وتارة في الدين، وتارة في اللغة، مما دعا بيكافيه أن يحكم في أحد كتبه القيمة أنه رجل (يقلب

ص: 41

أوضاع الأشياء والمسائل) وزد على ذلك اختمار النزعة الصليبية في عقله الباطن وتملكها على أفكاره في الحكم على من يخالف تعاليم دينه الأول قبل إلحاده وكفره وزندقته فهو مثلاً (كما يذكر هو في كتابه (مقالات ومحاضرات) صفحة 306، 307) لا يتصور أن مسلماً مثل الشيخ رفاعة الطهطاوي يؤلف كتاباً عند عودته إلى مصر من باريس (على ضفاف السين) يشرح لبني وطنه حياته كطالب في فرنسا وفهمه لحالة العلم فيها وسبل الحياة في مرافقها. وسبب أخير أن (أشباه المستشرقين) هؤلاء آمنوا إيماناً مطلقاً بما يروى لهم في كتب تاريخ الفكر الإسلامي معتقدين (أن صاحب الدار أدرى بما فيها) مع أن هؤلاء المؤرخين أبلغ منهم في التسكع في هذا الباب. فرجل كالشهرستاني يكتب في الفلسفة عن طريق السماع والرواية وعدم الرجوع إلى ما ترجم من النصوص الفلسفية. وعند ما يكتب عن أفلاطون يخطئ حتى في كتابة اسمه مما دعا أحد هؤلاء المستشرقين - كما يؤكد مهرن - في مجلة جامعة لوفان أن يعتقد أنه يبسط آراء الشيخ اليوناني (صاحب التاسوعات) وعندما يعرض للكلام عن أرسطو يصوره كإله الفلاسفة؛ ويذهب لابن سينا للتحدث عنه، رجل كالقفطي إذا تحدث عن الفلسفة تركها وترك أصولها وتكلم عن الفلاسفة في حياتهم الخاصة وأنسابهم وأمهاتهم وأولادهم وغير ذلك من تافه الأمور؛ ورجل كالفارابي تختلط في ذهنه فلسفة أفلاطون وأرسطو فيعمد إلى التوفيق السقيم بينهما مع أن الأصول الأولى للعقلية الفلسفية هي الدقة في الإدراك والتصور، والتمييز بين تنوع الآراء المتقاربة ووضع حد فاصل بين المعتقدات والمذاهب (اقرأ نظرية أرسطو في التعريف). فانعدام الفهم الفلسفي في عقلية بعض من اهتم بالفلسفة من المسلمين ضلل المستشرقين الأولين. واستمر هذا الضلال في الفهم إلى أوائل القرن العشرين حيث ظهرت مدرسة جديدة في فرنسا نحترم تعاليمها في الاستشراق لأن أفرادها بغوا العلم وحده دون أغراض تخرج عنه في نزعاتهم الفكرية. وهذه المدرسة مهدت بدورها لمدرسة ظهرت في أوائل هذا العام فقط هي أبلغ من الأولى، سنعرض لهما في وقت آخر إن شاء الله.

(يتبع)

عبد العزيز عزت

ص: 42

عضو بعثة الجامعة المصرية لدكتوراه الدولة

ص: 43

‌التاريخ في سير أبطاله

إبراهام لنكولن

هدية الاحراج إلى عالم المدنية

للأستاذ محمود الخفيف

- 10 -

يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من

سيرة هذا العصامي العظيم

وما كان دوجلاس ليعجز عن أن يبرر عمله أو أن يتلمس له الأوجه القانونية؛ وإذا عجز دوجلاس عن هذا فمن يقدر عليه؟ وإنه لأعلم الناس يومئذ بألاعيب السياسة وأضاليلها، يصدر في ذلك عن طبع وعن خبرة ويسدد الرمية في لباقة وخفة. .

ولم يكن اهتمام دوجلاس بتلك المسألة إلا جزءاً من خطته التي رسمها وأراد أن يدلف بها إلى الغاية التي لا يرى دونها غاية؛ وهو يتحرق شوقاً إليها ويتقطع تلهفاً عليها؛ ولا يفتأ يتبين السبيل المؤدية مهما كانت وعورة مسالكها. والآن تسنح الفرصة فيقتنصها وهو باقتناص الفرص جد خبير. موه على الناس أنه يمكن لسلطان الأمة إذ يرد مسألة العبيد إلى رأي الأمة، وأنه بذلك يجعل كلمة الشعب هي العليا لا كلمة مجلس الاتحاد. وهو إنما يرمي إلى كسب قلوب أهل الجنوب الذين كانوا من أول الأمر ترون أن يكون لكل ولاية من الحرية ما لا تتلاشى معه شخصيتها في الاتحاد، والذين يريدون أن يتخلصوا اليوم من قيود اتفاق ميسوري. . .

وإننا لنلمح فيما فعل دوجلاس مهارة الرمية، كما نلمح فيما يقول حذق السياسي وفكره وسعة حيلته. وكم في الحياة له من نظراء ممن يأخذون في سياستهم بآراء أستاذهم الأكبر مكيافلي لا يحيدون عنها ولا يفوتهم شيء من تفاصيلها ودقائقها كأنما عاد أستاذهم نفسه يصرفهم ويوجههم؛ ولقد برع دوجلاس في هذا المضمار فإنه ليجعل الغاية هي عنده كل شيء ولا عبرة بعد ذلك بالوسيلة. وهل كان مثله من السذاجة والبساطة بحيث يتمسك

ص: 44

بشرف الوسيلة ويرعى جانب الفضيلة فيؤدي بذلك إلى فوات الفرص وضياع الغاية؟ كلا إنما كان هو أقوى من أن يتطرق إليه مثل هذا الضعف وأذكى من أن تنطلي عليه مثل هذه البلاهة

ولكن لنكولن لا يعرف المراوغة؛ ولا يدري ما الالتواء. فهل له طاقة بمناضلة ذلك القزم الماكر المخاتل؟ وماذا يجدي على ابراهام طوله والمسألة اليوم مسألة مدافعة ومقارعة، وليست هي مسألة مكافحة ومصارعة، كما كان الحال يوم لف ذراعه الطويلة حول أرمسترنج وألقي به على الأرض؟. . . إن الفرق بين الرجلين هو الفرق بي الطبيعتين، فهذا ماكر محتال غامض كالبحر، وذلك بسيط ساذج صريح كوجه السهل. . .

خطا دوجلاس خطوته وحمل المجلس على الأخذ برأيه فترك لهل كنساس أن يختاروا ما تكون عليه ولا يتهم إذا ضمت إلى الاتحاد؛ وجرى الانتخاب التمثيلي فيها على أساس التسليم بمبدأ العبيد أو رفضه؛ ولو أنه تركت الولاية وشأنها حقاً لهان خطب ذلك الانتخاب ولمر دون أن يعقب ضرراً، ولكن كثيرين من أنصار التحرير ومن المنادين بمقاومة انتشار العبيد من أهل الشمال هاجروا إلى تلك الولاية ليشتركوا في الانتخاب، كما هاجر إليها كذلك عدد عظيم من أهل الجنوب وفي أيديهم أسلحتهم. والتقى الفريقان هناك وبينهما من البغضاء والشحناء ما أوقد نار الحرب وذلك أن أهل الجنوب قد حالوا بقوة السلاح بين خصومهم وبين ما يخوله لهم القانون من التصويت ففاز بالغلبة رجل من أنصار اعتناق العبيد؛ ولكن أهل الولاية ومناصريهم من أهل الشمال احتشدوا في مكان آخر واختاروا رجلاً من دعاة التحرير، فقامت لذلك الحرب بين الحزبين ولبثت نارها مشبوبة بينهما زهاء عامين. وفطن الناس إلى أن هذه الحرب إنما هي مقدمة الحرب الأهلية الكبرى

انتهت في تلك الأثناء مدة مجلس الشيوخ، وانصرف الأعضاء إلى البلاد يدعون لأنفسهم من جديد؛ وكان دوجلاس نائباً عن شيكاغو في شمال الينوس، فذهب إلى هناك يدعو لنفسه، ولكن هاله ما رآه من انصراف الناس عنه، فهو أينما تولى يجد من الناس نفوراً وإعراضاً بل إنهم كانوا يجبهونه بالسوء من القول ويظهرون له ما باتوا يضمرونه من حقد ومقت.

وإنه ليجزع ويستولي عليه الحنق إذ يرى الرايات في شيكاغو منكسة في هامات السفن،

ص: 45

ويرى الجدران وعليها عبارات صارخة تلذع قلبه، ويسمع النواقيس تجلجل في الجو في نغمة حزينة كأنما أصبحت المدينة في مأتم شعبي وهو يحاول أن يخطب الناس وهم يرعدون في وجهه ويسلقونه بألسنة حداد، حتى يرغموه على الرحيل وقد امتلأ قلبه عليهم غيظاً كما امتلأ منهم كمداً.

وينتهي به المسير إلى سبرنجفيلد ولو كان يعلم الغيب لتحول عنها، ففي تلك المدينة سيأفل نجمه وسيبعد ما بينه وبين غايته. وكانت المدينة يوم وصوله إليها تموج بالناس إذ كانت في موسم سوق من أكبر أسواق الزراعة. ولقد خيل إليه أن له في وجود هذا الجمع الحاشد فرصة. . .

وكان حزب الهوجز يومئذ في الشمال في أخريات خطواته إلى الفناء؛ بينما كان يولد حزب آخر سيأخذ عما قريب مكانه هو الحزب الجمهوري؛ وكان لنكولن هو الرجل الذي اتجهت إليه أنظار أهل المدينة ليكون لسانهم في الحزب الجديد. لهذا ولما اشتهر به بينهم من خلال أكبروها، ولم يجدوا من هو أقدر منه على مدافعة دوجلاس؛ وهكذا التقى الرجلان من جديد في عراك عنيف ولم يلتقيا منذ كانا نائبين في مجلس المقاطعة

وقف دوجلاس يخطب، وكان وهو في صغر جرمه قزم أو كالقزم، مارداً جباراً برأسه الضخم ولسانه الذي لا يقف، ونشاطه الذي لا يفتر، ودهاؤه الذي لن ينخلع عنه، ومهارته التي لا تغيب ولا تتخلف مهما تعقد الموقف، والتوت مذاهب الكلام

ولقد كان دوجلارس في الحق من أقوى الرجال في عصره إن لم يكن أشد منهم جميعاً قوة، وكان الحزب الديموقراطي يباهي به ويفخر وهو يعتقد أن لم يبق بينه وبين كرسي الرياسة إلا خطوات مع أنه لم يكن قد خطا الأربعين بعد. . .

أخذ يخطب ويدافع عن رأيه في حماسة وكياسة وإنه ليشعر أنه يطلق آخر سهم في كنانته! وكان محور دفاعه أنه يعمل على توطيد سلطة الشعب: وكانت العبارات معسولة والحجج تلقى في روع السامعين أن لا سبيل إلى رفضها إذ لم يكن ثمة من سبيل إلى نقضها

وجاء دور لنكولن في اليوم التالي، واحتشد الناس ليروا ما عساه أن يقول في الرد على هذا الداهية، ووقف إن الإحراج يقابل الدهاء بالصراحة، والمكر بالصدق، والغرض بالإخلاص، والمراوغة باليقين، والباطل بالحق، والدليل الأعرج بالمنطق الأبلج، ومن

ص: 46

وراء هذا كله عبقرية دونها كل تأهب بل وكل كفاية، واستمع الناس إليه ثلاث ساعات وبعض الساعة ومنافسه يعض على نواجذه وينقم على تلك الأقدار التي ألقت به بين براثن ابن الغاية. . .

بدأ خطابه بقوله أنه لا يتوخى إلا الحق ولا رائد له إلا الصدق، فإذا أحس مستر دوجلاس خطأ فإنه ليسره أن يرده لساعته إلى الصواب. ولقد استغل دوجلاس هذا الحق وجعل يقاطعه بين حين وحين ليلويه عن قصده وليلبس عليه الأمر حتى ضاق لنكولن بتلك المقاطعة فصاح قائلاً: أيها السادة! إني لا أستطيع أن أنفق وقتي في مساجلات، وعلى ذلك فإني آخذ على نفسي المسئولية أن أحق الحق وحدي فأعفي بذلك القاضي دوجلارس ضرورة تلك التصحيحات العنيفة). . . وأخذ بعدها يتكلم والأبصار شاخصة إليه والسكون شامل مع شدة ازدحام المكان، والخطيب المرتجل لا يعرف اضطراباً ولا اعوجاجاً، يهدر كالسيل لا يصرفه عائق عن وجهه، وكأنما كان ينطق عن وحي، فما سمعه الناس من قبل يقول مثل هذا الكلام ولا رأوه يبين مثل هذه الابانة؛ وهو في حركاته وإشاراته ونبرات صوته موفق توفيقاً ما شهد الناس مثله من قبل

وفرغ من خطابه وهو في قلوب قومه أرفع قدراً وأكثر محبة عما كان ومنافسه مبتئس زائغ البصر، موزع الفؤاد بين كلمات الاستحسان تنثر على صاحبه كما ينثر الزهر وكلمات الاستهجان تصوب إليه كما تصوب السهام. . ونظر فإذا هو بما أدلى من حجج كالعنكبوت اتخذت بيتاً، ولم يبق في قلوب الناس من أثر لما ردده من عبارات معسولة تدور حول سلطة الأمة، إذ لم يترك له ابراهام دليلاً إلا سفهه وأظهر للناس ما يقوم عليه من بهرج وما يستتر وراءه من طلاء. وبهذه الخطبة فتح لنكولن فصلاً جديداً في تاريخ حياته وقطع شوطاً كبيراً عوض عليه ما فات من ركود. . .

ومهما يكن من تفوقه ونباهة شأنه في هذه الخطبة، فإننا نستطيع أن نعود بالسبب إلى حد كبير - على صفاته الأساسية التي فطر عليها، وفي مقدمتها تبين ما يعرض له والنفاذ إلى جوهره ثم الاستعانة بذلك على توضيح ما يريد أن يقول في يسر وبساطة ومع توخي الصدق والأمانة كما يفعل حين ينهض في المحكمة للدفاع، هذا إلى لقانه عجيبة يميز بها في سرعة الصواب من الخطأ والحق من الباطل، وذهن منطقي كأنه الميزان الدقيق يحس

ص: 47

قبل أن يدرك أن هذا عليه مسحة الشك وذلك عليه نور اليقين

قال يرد على دوجلاس قوله أن من الامتهان لأهل كنسسكا أن نعتبرهم غير جديرين بأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، (إني أسلم أن المهاجر إلى لنساس وبزاسكا جدير أن يحكم نفسه ولكني أنكر عليه الحق في أن يحكم شخصا آخر بغير رضاء ذلك الشخص) ولقد كانت عبارته هذه كالرمية القاتلة فهي تهدم ما بنى دوجلاس من أساسه ولا تدع لمبدأ سلطة الأمة الذي نادى به أي قيمة. وقال في رده على دوجلاس إذ يدعي أن الحكومة إنما أقيمت لصالح البيض لا لصالح الزنوج (إني أوافق على ذلك من حيث الواقع في ذاته، ولكني أرى في هذه الملاحظة التي ساقها القاضي دوجلاس معنى هو عندي مفتاح تلك الغلطة الكبرى (إن كان ثمة من غلطة كهذه) التي فعلها في قرار نبراسكا؛ إنها تدل على أن القاضي لا يقوم في ذهنه مؤثر حي يريه أن الزنجي إنما هو إنسان وعلى ذلك فليست تقوم في رأسه فكرة عن ضرورة وجود العنصر الخلقي عند التشريع له). . .

وبعد الخطبة وقف دوجلاس ليرد ولكن مذاهب القول التوت عليه وخانته بديهته فجعل بينه وبين الناس موعداً في المساء لا يخلفه، وحل المساء وارتقب الناس ولكنهم لم يجدوا الخطيب. . .

وبعد ذلك باثني عشر يوماً ذهب لنكولن ليخطب في بلدة أخرى هي بيوريا؛ ولقد تبعه دوجلاس إلى هناك لعله أن يظفر هذه المرة. ولم يرتجل لنكولن كما ارتجل في سير نجفيلد بل قرأ من أوراق؛ ويشهد الذين سمعوه في المرتين أنه كان يوم ارتجل أعظم شأناً وأبعد أثراً؛ أجل كانت خطبته الثانية أحسن بناء وأحكم نسجاً وأقوى منطقاً ولكنها لم تكن أكثر سحراً. . .

ولقد بدأ دوجلاس في بيوريا كما بدأ في سير نجفيلد واستمر يخطب ساعات ثلاثاً، ورد لنكولن في المساء فاستغرق خطابه مثل هذا الزمن. ومما جاء فيه قوله عن قرار بنراسكا (إن هذا القرار يعلن الحياد ولكنه يضمر حماسة حقيقية لانتشار العبيد لا يسعني إلا أن أمقتها، لما تنطوي عليه العبودية في ذاتها من جور قبيح، وأمقتها لأنها تسلب نظامنا الجمهوري الذي نسوقه للعالم مثالاً من أثره الحق في الدنيا، وأمقتها على الأخص لأنها تدفع كثيراً من رجالنا الأخيار إلى حرب صريحة ضد المبادئ الأساسية للحرية المدنية،

ص: 48

وهم يوجهون انتقادهم إلى إعلان الاستقلال ويصرون على اعتقادهم أنه ليس ثمت من مبدأ حق تقوم عليه أعمالنا وأنه ليس إلا المصلحة الشخصية) وقال في معرض آخر: (إن مبدأ حكم الشعب نفسه مبدأ صحيح؛ هو مبدأ صحيح دون أدنى شك وهو إلى الأبد صحيح. . ولكن إذا كان الزنجي رجلاً، ألسنا - بقدر ما في المبدأ من صحة - نرى أننا إذا حرمناه من أن يحكم نفسه إنما نحطم بذلك مبدأ سيادة الشعب؟ حينما يحكم الرجل الأبيض نفسه يكون ذلك مبدأ سيادة الشعب، ولكنه حينما يحكم نفسه ويحكم في الوقت ذاته رجلاً آخر فإن ذلك يكون أكثر من سيادة الشعب فهو الاستبداد. . . ليس في الناس من يتوفر لديه الخير ليحكم غيره دون رضاء ذلك الغير، هذا هو المبدأ الأول والمرفأ الأمين للنظام الجمهوري الأميركي).

ذلك منطق ابن الغابة وتلك آياته وهو الذي نشأ كما رأينا عصامياً في أوسع معنى لتلك الكلمة! إنما يصد الرجل عن طبع ويترجم عن فطرة مثله في ذلك مثل غيره من أعلام البشر وقادة القافلة في طريق الإنسانية. . .

يتبع

الخفيف

ص: 49

‌هل ينبغي أن تزاحم المرأة الرجل؟

للآنسة زينب الرافعي

قامت في كلية الآداب بالجامعة المصرية مناظرة بين طائفتين من طلبة الكلية وطالباتها حول الغاية التي تتعلم من أجلها الفتاة: أهي تتعلم لتزاحم الرجل في ميدانه، أم لتشق طريقها لنفسها في الحياة؟ والمقالة التالية هي كلمة الآنسة الأديبة زينب الرافعي في هذه المناظرة، ولها كانت الغلبة. والآنسة زينب هي كريمة الفقيد المرحوم مصطفى صادق الرافعي

رجل وامرأة: هذه قسمة الطبيعة، فهل كانت عبثاً؟

رجل وامرأة: هما العنصران اللذان تتكون منهما الإنسانية، فهل أخطأت الطبيعة حين جعلت معنى الإنسانية يتكون من عنصرين لا عنصر واحد؟

عجباً! إن الإنسان لا يمكن أن يقهر الطبيعة وهو جزء منها، لأنه خاضع لسلطانها، لأنها بقوانينها الصارمة تسيطر عليه وتوجهه وجهته من غير أن يكون له اختيار

إن القوانين لا توضع لمصلحة فرد واحد، ولكنها تشرع لمصلحة الجماعة عامة، والقانون الذي فرضته الطبيعة على البشرية أن الإنسانية اثنان: رجل وامرأة، فكيف تريدونه على ذلك التفسير الخاطئ حين تقولون إن الإنسانية رجل ورجل: رجل له شارب ولحية، ورجل ناعم أمرد. . .

اذكروا لي إنساناً واحداً يستطيع أن يقول بعقل: لماذا يمشي الناس على أرجلهم ولا يمشون على أيديهم؟ قد تكون الأرجل أقوى وأشد صلابة من اليدين، وهي بذلك أقدر على عمل الأيدي، ولكن الطبيعة خلقت الرجلين ليمشي بهما من يريد أن يمشي، وخلقت اليدين لتعمل؛ فما أحمق من يتخيل إنساناً يستطيع أن يجعل رجليه لغير المشي ويديه لغير ما تعمل اليدان! هكذا خلقت الطبيعة الإنسان، والطبيعة قانون عام مطاع لا يجدي أن يتمرد عليه متمرد. . .

ولكن تعالوا حدثوني حديثكم عن المعنى الذي تريدون حين تزعمون أن من حق المرأة أن تنافس الرجل في ميدانه، وأن تضطلع بما يضطلع به من العمل؟

أتريدونها أن تحمل الفأس، وتجري خلف المحراث، وتحرس قنطرة الترعة، وتمهد السكك

ص: 50

الزراعية. . .؟

أم تريدونها على أن تعمل بالمنشار، وتدق بالقدوم، وتصعد على الخشب الممدود فوق العمائر لتبني، وتحفر حيطان البيوت لتضع أسلاك النور وأنابيب الماء. . .؟

أم تريدونها على أن تقف في خطوط النار وفي جرابها سيف يلمع، وعلى كتفها بندقية تقذف بالشرر، أو تجري على الصخر وراء المدفع وفي يدها زناده، أو تحفر الخندق بيديها الناعمتين لتصد عدوان المغير، أو تبني الثكنات لتقيم فيها أخواتها العسكريات الرشيقات الخفيفات الأجسام. . .؟

حدثوني أيها المؤيدون، أتريدونها لهذا لتهون عليكم وتبتذل وتذل، أم تريدون لها النعمة والصون والعزة؟

ما أهون شأنك عند نفسك أيتها الفتاة لو لبيت هذا النداء!

أسمع همساً تختلج به الشفاه: إنهم يقولون: لسنا نريد لها هذا. فحدثوني ماذا تريدون؟ أتريدونها للقضاء والنيابة، ولإدارة الأعمال في المتاجر، وللكتابة والحسابة، وللقيام على شئون الطلاب في المدارس والكليات، وللدفاع عن المظلومين في المحاكم، ولتخطيط المصورات الهندسية للبناء؟

حسن! قد يكون هذا خيالاً لذيذاً يداعب كل فتاة في أحلامها، ولكن. . . ولكن ليس الرجال جميعاً نواباً، وقضاة، وتجاراً، وكتبة وحسبة، ومعلمين ومحامين ومهندسين

إن هذه الوظائف على كثرتها لا يقوم بها إلا ربع الرجال، وثلاثة أرباعهم لغير ذلك من المهام الشاقة والأعمال المضنية، فخبريني يا فتاة: أتريدين أن تكوني رجلاً كاملاً يقوم بواجباته كلها ويحتمل ما عليه من تكاليف الرجولة بشقائها وآلامها؟ أم تريدين أن تكوني ربع رجل؟ يا لها من صفقة خاسرة! إن أعدى أعداء المرأة لا ينتتض من مكانتها الاجتماعية بأكثر من دعواه بأنها نصف الرجل، فما لك ترضين بالأقل لتعودي ربع رجل. . .؟

لا يا أختي، إن لك وظيفة أخرى غير مزاحمة الرجل في ميدانه، وإنها لأجل شاناً وأعظم خطراً من كل ما يقوم به الرجال من أعمال. إن لك وظيفة الأم التي تلد الرجل، ووظيفة المربية في البيت التي تربي الطفل لتخلق منه الرجل، ووظيفة الزوج التي تملأ قلب

ص: 51

زوجها بأفراح الحياة لتشد فيه عزيمة الرجل

إنك سيدة الرجل فلا تبتذلي نفسك دون ذلك لتوهمي الرجل أنه خير منك

ثم ماذا؟ سأحاول أن أمزق النقاب قليلاً لأتحدث إليكم في جرأة الفتاة التي تعتز بأنها فتاة، لأقول لكم إن المرأة لم تخلق لتقوم في الحياة بوظيفة الرجال: المرأة التي يستهويها الثوب الأنيق فتقف أمام المرآة طويلاً تنظر إليه، وتنظر إلى نفسها فيه - هذه المرأة لا تعرف قيمة الزمن، والزمن هو الميزان في كل الأعمال

ستحاول فتيات من زميلاتي أن يعترضن، ولكن هذه هي الحقيقة. لقد خلقت المرأة وليس أحب إليها من زينتها شيء. الزينة لنفسها لا لشيء آخر، وكأن كل أنثى تشعر في أعماق نفسها أنها ليست شيئاً بغير الزينة. أجمل الجميلات وأدم الدميمات في ذلك سواء، فأين هذا من خشونة الرجل؟ أترونها بذلك تصلح لأن تزاحمه وتعمل في ميدانه؟ هيهات يا أختاه! وحذار أيتها الفتاة أن يخدعك معسول المنى. . . إن مكانك هناك. . .

هناك على العرش في مملكة البيت أيتها الملكة

إلى هنا أقف قليلاً لأنظر في وجوهكم ووجوهكن أثر الاقتناع ومظهر الطمأنينة إلى عدل الطبيعة

هل بلغت موضع الإحساس من نفوسكم؟

إن شفاهاً تبتسم، وإن همساً يتطاير من هنا ومن هناك.

اسمعوا:

هذه فلانة ناظرة مدرسة ثانوية من مدارس الحكومة، في الدرجة الرابعة أو الثالثة لا أدري، تقبض كل شهر خمسين جنيهاً، وتحكم على عشرين أو ثلاثين من خيار المعلمين والمعلمات، وتسيطر بإرادتها على بضع مئات من بنات الطبقة العالية في مصر، تلميذاتها، ولها في البيت ولد، ولها زوج!

أتحسبون أن هذه السيدة سعيدة بما بلغت من جاه وما أدركت من نجاح في مزاحمة الرجل؟

وا رحمتاه لها مما تعاني، وألف رحمة للأمة منها، وألف ألف لزوجها المسكين، وما شئتم من الرحمات فاستمطروها على ولدها المحروم، اليتيم في حياة أبويه

أتعرفون من يقوم لها بشئون البيت! لو كان هو زوجها لقلنا: شيء مكان شيء! ولو كان له

ص: 52

امرأة أخرى لقلنا: قد انتصف لنفسه! ولو كان في البيت مديرة مصرية لقلنا: ذهبت واحدة لعمل وحلت أختها في عمل غيره. ولكن. . . وا أسفاه! إن في البيت مديرة حقاً، ولكنها مديرة أجنبية، مديرة لا تعرف من لغتنا، ولا من تقاليدنا. ولا من ديانتنا؛ مديرة ليس لها عواطف الأم، ولا حنان الزوجة، ولا غيرة الأخت، حتى ولا شعور التراحم بالرابطة الوطنية. . .

لقد ذهبت السيدة الجليلة لتزاحم الرجل، ولكنها أخلت مكانها لأجنبية، لقد باعت أمومتها واشترت الوظيفة، لقد جحدت وطنيتها حين جحدت أنها امرأة. . . ليت شعري أليست تغار هذه المراة، أليست تغار على زوجها حين استهانت بالرابطة التي بينهما فاستأجرت له زوجة؟ أليست تغار على ولدها الذي تجاهلت حقه في حنانها فاستأجرت له أماً؟ أليست تغار على بيتها الذي لا تحل فيه إلا كما يحل المسافر في فندق؟ أليست تغار على وطنها حين أفسحت لامرأة أجنبية أن تكون مكانها سيدة بيت؟

ليست هذه وحدها التي خرجت لتزاحم الرجل في ميدانه فما زحمت إلا نفسها. إنهن كثيرات أيها السادة، وإن أسفي لشديد؛ نعم نجحت بضع نساء في مزاحمة الرجل ولكن بعد ما أسلمن بيوتهن إلى الأجنبيات. لكأني بكل امرأة من هذا النوع تهتف في أعماق نفسها قائلة:(لقد احتل الرجال مراكز الأعمال جميعاً فليجلوا عنها بقوة المرأة. ولا علينا بعد ذلك أن تحتل الأجنبيات كل بيوت مصر!)

علموا لنا أولاً مديرات البيوت وربات المنازل وأمهات الرجال وزوجات الأبطال، ثم ادعوا بعد ذلك واستطيلوا وقولوا يجب أن تنزل المرأة إلى ميدان الرجل لتزاحمه حتى تجليه. ربوها أولاً على أن تؤدي وظيفتها الأساسية، وظيفة الأم الصالحة التي تنشئ للأمة الرجال. ووظيفة الزوجة المسعدة التي تملأ بيتها أفراحاً ومسرة، ووظيفة سيدة البيت التي تديره وتدبره لتجعله جنة الأسرة؛ ووظيفة المرأة الكاملة التي هي الحنان والعطف والرحمة والمحبة، بازاء الرجل الذي هو العقل والحزم والقوة واليد العاملة؛ فإذا بلغتم الغاية من كل ذلك فافتحوا لها الباب وقولوا: اذهبي إلى الطريق راشدة فاصنعي ما تريدين، وزاحمي الرجل إن وجدت السعادة في زحامه

(يتبع)

ص: 53

زينب الرافعي

ص: 54

‌ذكرى قاسم أمين

للأستاذ علي الجارم بك

ملَّ من وجدِه ومن فرطِ ما به

وأراق الشرابَ من أكوابهْ

وإذا القلب أظمأته الأما

نيَّ، فماذا يريده من شرابه؟

وإذا النفس لم تكن منبِتَ الأن

سِ تناءى القريبُ من أسبابه

وأشدُّ الآلام أن تُلزمَ الثغ

رَ ابتساماً والقلبُ رُهنُ اكتئابه

كلما اختال في الزمان شبابٌ

عصفت ريحُه بَلدْن شبابه!

والنبوغ النبوغُ يمضي وتمضي

كلُّ آمال قومِه في ركابه

غَرِدٌ، ما يكاد يصدح حتى

يُسكتَ الدهرُ صوته بنُعابه

وحَبابٌ، إذا علا الماء ولى

فاسأل الماَء: هل درى بحبابه؟

وسفين، ما شارف الشطّ حتى

مزَّق اليمُّ دُسرَه بعبابه

بخل الدهرُ أن يطوِّل للعق

ل فيجري إلى مدى آرابه

كلما سار خطوةً وقف المو

ت فسدَّ الطريقَ عن طلابه

وابتداءُ الكمال في عمل العا

مل بَدْءُ الشَكاة من أوصابه

ضلةً نكتم المَشيب فيبدو

ضاحكاً ساخراً خلالَ خضابه

أين من يستطيع أن يرشد الدني

ا، وسوطُ المنون في أعقابه؟

أيها الموت أمهل الكاتبَ المس

كين يُرسلْ أنفاسه في كتابه

آه لو يشتري الزمان قريضي

بسنين تمدُّ لي في حسابه!

ما حياتي، والكونُ بعدَ جهاد

لم أزل واقفاً على أبوابه؟

تظمأ النفسُ في حياة هي الفق

ر فترضى بنهلة من سرابه

أنا قلبي من الشباب، وجسمي

أثخن الشيب رأسه بحرابه

أملٌ هذه الحياة! فهل يع

ثر بي الموت دون وشك طلابه؟

كلما رمتُ لمحة من سناء

هالني بعدُه وطول شِعابه

ما الذي تبتغي يدُ الدهر مّني

ودمي لا يزال مِلَْء لعابه؟

دع يراعي يا دهر يملأ سمع الن

يل من شدوه وعزفِ رَبابه

ص: 55

كلُّ شيء له نصاب سوى الفن

فلا حدّ ينتهي لنصابه

عصفت صيحة الردى بخطيب

وهو لم يَعدُ صفحة من خطابه

سكتةٌ أسكتت نئيج خضمٍ

عقد النوء لجّه بسحابه

سكتة أطفأت منار طريق

كم مشت مصر في ضياء شهابه

ومضى (قاسم) وخلف مجداً

تفرع النجم راسيات قبابه

قد نكرناه حين قام ينادي

وفهمنا معناه يوم احتسابه

ربَّ مَن كنتَ في الحياة له حر

باً شققت الجيوب عند غيابه

وتحّديتَ شمسه، فإذا ولّى

تمنيت لمحة من ضبابه

لم يفز منك مرة بثناء

فنثرت الأزهار فوق ترابه

يُعرف الوردُ حينما ينقضي الصي

فُ ويُبكى النبوغ بعد ذهابه

كم ندبنا الشباب حين تولى

وشغفنا بالبدر بعد احتجابه

كتب الله أن يعيش غريباً

كل ذي دعوة إلى الحق نابه

لا ترى فوق قمة الطود إلا

بطلاً لا يهاب هولَ صعابه

كلُّ ذات الجناح طير، ولكن

عرف الجو نسره من غرابه

كم رأينا في الناس من يبهر الع

ين وما فيه غير حسن ثيابه

يملأ الأرض والسماء رياءً

وعيوبُ الزمان ملءُ عيابه

نقد الناس (قاسماً) فرأوه

أصبر الناس في تجرع صابه

حجة الجاهل المراء، فإن شا

ء سموا أمدها بسبابه

قد يغشى الوجدان باصرة العق

ل فيعميه عن طريق صوابه

صال بالرأي (قاسم) لا يبالي

ومضى في طريقه غيرَ آبه

كم جرئٍ لا يرهب السيف إن سل

ونِكس يخاف مسَّ قرابه

والشجاع الذي يجاهر بالحق

ولو كان فيه مرُّ عذابه

كيف يهدي النصيح إن رِيع يوماً

من قِلَى من يحب أو إغضابه

وطريق الإصلاح في كل شعب

عسِر المرتقى على مجتابه

يعشق الشعب من يدلله زو

را بِمَذْقٍ من سخفه وكذابه

ص: 56

قمتَ للجهل تقلمُ الظفر منه

وتفضُّ الحِداد من أنيابه

في زمان كان القديم به قد

ساً يذاد الجديد عن محرابه

يا نصير النساء والدين سمح

لو وعينا السريَّ من آدابه

قد خشينا على الحمائم في الدو

ح أظافيرَ بازه أو عقابه

إن أردت الظباء تمرح في السهل

فطهِّر أكنافه من ذئابه

كم ضراء وسط المدائن أذكي

من ضراء الضرغام في وسط غابه

وشباك من الجرائم والخت

ل حواها شيطانهم في جرابه

وإذا ما الحياءُ لم يستر الحس

ن فماذا يفيده من نقابه؟

قمت تدعو البنات للعلم فانظ

ر كيف حلقن فوق شمِّ هضابه

وزها النيل بابنة النيل فاختا

ل يجرُّ الذيولَ من إعجابه

وغدا البيت جنةٌ بالتي في

هـ خصيباً بالأنس بعد يبابه

يا فتى الكرد، كم بززت رجالاً

من صميم الحمى ومن أعرابه

نسب المرء ما يعد من الأع

مال لا ما يعدّ من أنسابه

كم سؤال بعثت إثر سؤال

أيقظ النائمين رجع جوابه

كنت في الحق للإمام نصيراً

والوفيّ الصفيّ من أصحابه

نم هنيئاً فمصر نالت ذرا المج

د وفازت بمحضه ولبابه

منك عزم الداعي وفضل المجليِّ

ومن الله ما ترى من ثوابه

علي الجارم

ص: 57

‌إلى المجهول

للأستاذ عبد الرحمن شكري

المقدمة

الولوع بالمجهول من أمور الحياة والطبيعة والنفس والكون والشغف باستطلاعه وكشفه هو الذي أخرج الإنسان من المعيشة في الكهوف ومن حضارة العصر الحجري من عصور الحضارة وأزال عنه خوفه من مظاهر الطبيعة ببحث تلك المظاهر، وهو الذي أدى به إلى كشف القارات والبحار وزاد علمه بالسماء، وعلمه ركوب الهواء في الطائرات حتى طمع في الوصول إلى الأفلاك، وذلك الولوع بالمجهول هو الذي جعله يخترع مخترعات الحضارة التي زادت حياته بهاء ومتعة وراحة ولذة، وجعله يجد لذة حتى في ركوب الأخطار من أجل كشف مغاليق الكون والحياة والطبيعة ويستشعر اللذة حتى فيما قد يصيبه من الألم أو الهلاك في أثناء بحثه المجهول من أمور الحياة والكون، والولوع بالمجهول هو الذي أدى إلى سيطرة الأمم القوية التي تمكنت من كشف المخترعات التي زادتها قوة واستعلاء، وإذا بحثت عما يميز أبناء الدول القوية التي تمتعت بالثروة والسطوة والعلم والحضارة عن أبناء الأمم المتأخرة التي لا تزال تعيش في الكهوف أو الغابات أو في المدن أو الأحياء المتهدمة القديمة الفقيرة الموبوءة بالأسقام والأقذار المغلوبة على أمرها لرأيت أن صفة النفس التي ميزت أبناء الشعوب القوية السعيدة المسيطرة على الحياة والناس هي الصفة التي تجعلهم يجدون لذتهم في كشف مغاليق المجهول من أمور الحياة، والأمة التي تريد أن تعلو وأن تأخذ مكانتها تحت الشمس ينبغي أن تهيئ لأبنائها نوعاً من التربية والتعليم يبث في نفوسهم حب استطلاع المجهول وكشف مغاليقه. أما التعليم الذي لا يبث هذه الصفة في النفوس فهو تعليم لا يليق إلا بالذين يجدون لذتهم في حياة الخمول من المألوف الذي أصبح كالمخدرات، وكلما كان فقدان صفة حب استطلاع المجهول من النفوس أوضح وأظهر من أجل المؤثرات التاريخية المذلة المؤخرة كان ذلك أدعى إلى إصلاح نظم التعليم، وإلى اتخاذ التربية التي تزيل هذه المؤثرات. والمراد بهذه القصيدة الدعوة إلى بث صفة حب استطلاع المجهول في نفوس النشء لأن نفوس النشء تحب استطلاع الغريب والمجهول بطبيعتها وترى لذتها في ذلك قبل أن تعلمها التقاليد والأوضاع

ص: 58

الخمول والقنوع بالمألوف، ومن الخطأ أن يظن أحد أن عاطفة الشغف بالمجهول لا تنمي بالتربية وأنها قوة طبيعية في الأمم القوية فحسب. . . لا. . . بل إن أسلوب التربية والتعليم قد يقوي هذه العاطفة التي هي أساس الرقي العلمي والاجتماعي الصحيح، وهذا الأسلوب من التربية ألزم في الأمم الضعيفة لشدة احتياجها إليه

القصيدة

(الخطاب موجه إلى المجهول)

يحوطني منك بحر لست أعرفه

ومَهْمَةٌ لست أدري ما أقاصيه

أقضي حياتي بنفس لست أعرفها

وحَوْليَ الكونُ لم تُدْرَكْ مجاليه

يا ليت لي نظرة في الغيب تسعدني

لعل فيه ضياء الحق يبديه

أخال أني غريب وهو لي وطن

خاب الغريب الذي يرجو مُقاَصِيه

أو ليت لي خطوة تدحو مجاهله

وتكشف الستر عن خافي مساعيه

كأن روحيَ عُوْدٌ أنت تُحْكِمُهُ

فابسط يديك وأطلق من أغانيه

والروح كالكون لا تبدو أسافله

عند اللبيب وَلا تبدو أعاليه

وأكبر الظن أني هالك أبدا

شوقاً إليك وقلبي فيه ما فيه

من حسرة وإباء لست أملكه

يأبى لِيَ العيش لم تُدْرَكْ معانيه

وأنت في الكون من قاص ومقترب

قد استوى فيك قاصيه ودانيه

كأنني منك في ناب لمُفْتَرس

المرء يسعى ولغز العيش يُدْمِيه

كم تجعل العقل طفلاً حار حائرهُ

ورب مُطَّلبٍ قد خاب باغيه

لو النبال نبال القوس مُصْمِيَةٌ

كنت ادُّريتَ بسهم القوس أرميه

أو كان للسحر سهم نافذ أبدا

لكان لي منه سهم صال راميه

يا مُصْلِتَ السيف قد فُلَّت مضاربه

ورامِيَ السهم قد خابت مراميه

قلبي يحدثني أن لا يليق به

رضا بجهل ذليل اللب يرضيه

قد ثار ثائر نفس عزَ مَطلَبُها

وطار طائر لب في مراقيه

كالنسر لا حاجب للشمس يحرقه

ولا الصواعق والأرواح تَثْنِيه

ص: 59

وأنت كالليل والأفهام حائرة

مثل العيون علاها منك داجيه

ليل مهيب كليل البحر حندسه

تكاد تسمع منه صوت طاميه

فليت لي فكرة كالكون واسعة

أدحو بها الكون تبدو لي خوافيه

ليس الطموح إلى المجهول من سفهٍ

ولا السمو إلى حق بمكروه

إن لم أنل منه ما أروي الغليل به

قد يحمد المرء ماءً ليس يرويه

والقانعون بما قد دان عَيْشُهُمُ

مَوْتٌ فان خضوع اللب يُرْدِيه

يا قلب يهنيك نبض كله حُرَقٌ

إلى الغرائب مما عز ساميه

فالعيش حب لما استعصت مسالكه

تجارب المرء تُدْميهِ وتُعْليِه

كم ليلة بتها ولهان ذا أملٍ

لم يُسْلِ قَلْبِيَ أَنْ غابت أمانيه

لعل خاطر فكر طارقي عرضاً

يدنو بما أنا طول العمر أبغيه

يُوَضَّحُ الغامض المستور عن فِطَنٍ

وأفهم العيش تستهوي بواديه

عبد الرحمن شكري

ص: 60

‌شعر ابن تسعين!

كتاب الفصول والغايات

يا صاحب الرسالة الغراء:

إليك من شيخ قعيدة داره، رهين كتبه وأسفاره، تحية الأديب للأديب، ومناجاة القريب للقريب. وبعد فإني لما قرأت في رسالتكم الإعلان عن كتاب (الفصول والغايات) لشيخ المعرة حكيم الشرق اقتنيت منه نسخة وقرأتها فرأيت الشيخ الحكيم قد أتى فيه بالعجب العجاب، ورأيت الشيخ الفاضل الزناتي قد أحكم فيه الصنيع، وفاق كل أديب ضليع، كيف لا وهو تلميذ شيخي اللغة المرصفي والشنقيطي

لذلك فقد جئت بأبيات مدحاً في الكتاب وناشره. وإني مرسلها إليك لنشرها، ولا أظنك إلا فاعلاً إن شاء الله، وإني وقد جاوزت التسعين من عمري لم أنشر شيئاً من شعري قبل اليوم، وها هي ذي الكلمة

أين مني أبو العلاء أحيي

هـ وأهديه أصدق التهنئآت

أنا في مصر وهو في الشام رهن ال

قبر أعظم بفرقة وشتات

نال منه يراع كل غبي

ورموه بأشنع السيئات

فتصدى لنصره المعيّ

هو (محمود) عصره ابن (زناتي)

وانتضى ماضي اليراع فأبدى

عن (كتاب الفصول والغايات)

كان هذا الكتاب رجم ظنون

وشكوك تحتاج للإثبات

فجلاه للناس صفحة حق

نُضِّرَتْ بالعظات تِلوَ العظات

وأفانين تبهر العقل لم تخ

طر لندب سواه منتظمات

وتولى تفسيره ببيان

واضح اللفظ ناضر الكلمات

فغدا في صنيعه عبقرياً

جل قدراً عن ناشري الهفوات

ناشري الكتب للتجارة لا لل

علم مملوءة من الغلطات

جاعلي النظم في الطباعة نثراً

ونثير الكلام مثل الرفات

ونظمت القريض طوعاً لوجه ال

علم ما قلت فيه (خذ وهات)

محمد بن علي الدرعي

ص: 61

‌البريد الأدبي

وزارة المعارف وجائزة نوبل

رأت وزارة المعارف أن تعمل على حث المؤلفين المصريين على الاشتراك في جوائز نوبل جهد الطاقة، ومهدت لذلك بأن فكرت في أن تكل إلى الشعبة المحلية للمعهد الدولي للتعاون الفكري في مصر مراقبة ما ينشر كل عام من المؤلفات والبحوث العلمية والأدبية التي تمتاز بالدعوة إلى تحقيق المثل الأعلى في الحياة الإنسانية وتخصيص جائزة محلية كل عام لصاحب احسن كتاب يمتاز بالطابع المشار إليه توطئة للاشتراك في مسابقة نوبل العالمية

وترى وزارة المعارف أنه يجب على أغنياء المصريين أن يساهموا بنصيبهم في هذا الباب، فليست التبرعات وقفاً على إنشاء المساجد والمستشفيات وتقديم الكؤوس للألعاب الرياضية، وإنما يجب أن توجه أيضاً إلى تشجيع الإنتاج الأدبي والفني بأن يقوم الأغنياء بوقف جوائز شعبية باسمهم إلى جانب الجوائز الحكومية

ويمكننا تلخيص الشروط لجائزة نوبل فيما يلي:

1 -

ليس من حق الأكاديمية السويدية أن تتخذ الخطوة الأولى في الترشيح للجائزة مهما تمتع الشخص بالمؤهلات اللازمة وإنما يجب أن تنتظر حتى يقدم إليها الاسم طبقاً لأحكام مؤسسة نوبل

2 -

لا يشترط من جهة المبدأ أن تترجم مؤلفات الترشيح للجائزة، لأن بالأكاديمية السويدية خبراء في اللغات المختلفة. كذلك لا يشترط أن يكون لهذه المؤلفات جمهور كبير من القراء فقد حدث أن منح الشاعر الفرنسي (مسترال) جائزة نوبل سنة 1904 مع أنه كتب مؤلفه بلغة مقاطعة البروفنس وهي لغة يتكلمها عدد محدود جداً من الفرنسيين

3 -

تمنح جائزة نوبل الخاصة بالآداب لمن يصنف مؤلفاً في السنة السابقة للطلب مباشرة يعود بالنفع على الإنسانية ويقودها إلى المثل الأعلى؛ غير أن اختيار هذا المؤلف قد يكون فوق الطاقة لكثرة ما ينشر من المؤلفات الأدبية في كل عام

ولذلك يمكن القول بأن هذه الجائزة أصبحت تعطي مكافأة على إنتاج نوابغ الأدباء في كل حياتهم إذا امتازت بقربها من المثل الأعلى

ص: 63

ميزانية التعليم

خصص لميزانية وزارة المعارف في السنة المالية الجديدة أربعة ملايين و356 ألف جنيه بزيادة قدرها 336 ألفاً و500 جنيه تقريباً على ما كان مخصصاُ لها في الميزانية السابقة

وفيما يأتي توزيع هذا المبلغ على أنواع التعليم المختلفة

شؤون التعليم - للإدارة العامة والبعثات العلمية 320 ألف جنيه وللمدارس العالية 376 ألفاً، وللتعليم الثانوي 74 ألفاً وللتعليم الابتدائي للبنين 688 ألف جنيه، وللتعليم الفني 514 ألفاً ولمدارس البنات 384 ألفاً وللتعليم الأولي مليون و442 ألف جنيه وللفنون الجميلة 47 ألف جنيه

الإعانات - وبلغت قيمة الإعانات المقرر منحها في العام الجديد مليون و194 ألف جنيه وهي:

269 ألف جنيه للجامعة المصرية و826 ألفاً لنفقات التعليم لمجالس المديريات و65 ألفاً للتعليم الثانوي الحر للبنين ومثلها للتعليم الابتدائي الحر وكانت في العام الحالي 32500 لكل منهما و54 ألفاً لمدارس البنات الحرة وكانت 27 ألفاً في العام الماضي و10 آلاف جنيه للمدارس الأولية الحرة و8500 جنيه للمدارس الصناعية والملاجئ و250 جنيهاً لمدارس الصناعات الحرة النسائية و15 ألف جنيه للجنة الأهلية الرياضية البدنية ومثلها للفرقة القومية للتمثيل و4800 جنيه للمدرسين الصناعيين بالإسكندرية

و3500 جنيه لدار الكتب الملكية و6500 جنيه لدار التمثيل الملكية و2000 جنيه لجمعية محبي الفنون الجميلة و2330 جنيهاً للمدرسة الفاروقية البحرية و1500 جنيه لكل من الجمعية الملكية الجغرافية والمجمع العلمي المصري و1200 جنيه لكل من الجمعية الطبية ومرتبات الطلبة في المدارس الصناعية و2300 لمعهد الطلبة المصريين بلندن و500 جنيه لكل من الجمعية الرمدية ومعهد التعاون الفكري وجمعية علم أوراق البردي و450 جنيهاً للجمعية الجغرافية الملكية و700 جنيه إعانة فرقة الكشافة والمرشدات و400 جنيه لكل من معهد التربية الدولي بسويسرا والأندية الفنية و300 جنيه لنادي الألعاب الرياضية و200 جنيه لكل من المجمع المصري للثقافة العلمية وجمعيتي المعلمين الملكية والموسيقى المصرية ومدرسة جبل سينا والنادي الرياضي المصري ببرلين وجمعية الفنانين المصريين

ص: 64

ومرتبات لطلبة دار العلوم و25 ألفاً مصاريف المدارس التابعة للسكك الحديدية وخصص لجوائز الطلبة 950 جنيهاً علاوة على 300 جنيه لجوائز التفوق

ومما يلفت النظر هنا أن الإعانات - على ضخامة المبلغ المرصود لها والذي يزيد على ربع ميزانية المعارف كلها - لم ينظر فيه إلى ما ينبغي لتشجيع الأدب والتأليف، فليس فيها شيء مقرر لتشجيع ذوي المواهب من المؤلفين ورجال الآداب، على حين تكثر الآلاف لتشجيع الرياضة البدنية والنوادي والجمعيات؛ وتلك ملاحظة نسوقها إلى وزير الأدباء معالي الدكتور هيكل باشا

الثقافة الموسيقية في مصر

تشتغل وزارة المعارف، بإعداد مشروع واسع النطاق، يتجه إلى رفع مستوى الثقافة الموسيقية بصفة عامة، وذلك بإقامة دراسات تثقيفية للموسيقيين المحترفين الذين يزاولون تلك المهنة، ينتظم فيها الراغبون في زيادة ثقافتهم الموسيقية بالمجان. وستكون تلك الدراسات في إحدى مدارس الوزارة بالعاصمة.

وتلقى تلك الدروس في مساء يومين من كل أسبوع. وهي دراسات لجميع المواد الموسيقية التي يحتاج إليها رجل الموسيقى في مزاولة مهنته، والى جانب هذا تدرس اللغة العربية والخط

وتقرر أن توزع برامج الدراسة على عامين تعقد الوزارة في نهايتهما امتحاناً يمنح الفائزون فيه درجة في الموسيقى

وستشرع الوزارة في تنفيذ هذه الخطة ابتداء من أول أكتوبر القادم على أن يشرف حضرة مدير إدارة التفتيش الموسيقي بالوزارة على هذا المشروع

الموسيقى العربية للبارون رودولف ديرلانجيه

لا يتلفت أحد منا إلى التراث العلمي الذي خلفته الثقافة العربية إلا تحسر على نصيبه من الإهمال. والحق أن نواحي جمة من ذلك التراث أصبحت موضع بحث وتنقيب، إلا أنها لا تظفر بما يليق بها من العناية. وفي مقدمة تلك النواحي الموسيقى. على أني لا أجهل أن نفراً من المشتغلين بالموسيقى عندنا مثل الأستاذ كامل الخلعي والأستاذ منصور عوض

ص: 65

راحوا ينظرون في بعض أوضاع الموسيقى العربية بدراية، كما أني لا أجهل أن فئة من المستشرقين كتبوا رسائل عالجوا فيها تاريخ الموسيقى العربية وخصائصها، أذكر منهم: ولاسيما

ولكن النظر في أوضاع الموسيقى العربية والإلمام بتاريخها وخصائصها لا يزالان على شيء من الاضطراب. ذلك بأن المصادر العربية الخاصة بالموسيقى تكاد تكون كلها مطوية. وأعني بالمصادر هنا تلك التي أجراها أصحابها على الطريقة العلمية. وأما المصادر الأخرى وعلى رأسها كتاب الأغاني لأبي الفرج فإنما تسوق الأخبار المتصلة بالموسيقى وإن اندست في تلك الأخبار مصطلحات وفوائد علمية

والحاصل أن في نشر أمات تلك المصادر خيراً وأن في بحثها بحثاً مطرداً فائدة جليلة. كل هذا لم يفطن له معهد الموسيقى العربية القائم في مصر لأنه بينه وبين العلم الخالص أشياء، ولكن الذي فطن له رجل أجنبي عنا هو: البارون رودولف ديرلانجيه رحمه الله

وضع البارون خطة سديدة إذ رأى أن ينقل المؤلفات الجليلة إلى اللغة الفرنسية ثم يلحقها بمجمل شامل يعرض نواحي الموسيقى العربية علماً وعملاً.

وقد ظهر المجلد الأول من هذه المجموعة سنة 1930 مطوياً على الجزء الأول والثاني من (كتاب الموسيقى الكبير) للفارابي وهذا المجلد الثاني فيه الجزء الثالث من كتاب الفارابي ثم رسالة في الموسيقى من كتاب (الشفاء) لابن سينا. ويتناول الجزء الثالث من كتاب الفارابي التأليف الموسيقي من لحن وإيقاع وقرع ومن الجموع الكاملة والناقصة والمتلائمة والمتنافرة. وأما رسالة ابن سينا ففيها مباحث في الصوت وسببه وثقله وحدثه، وفي الأبعاد وتقسيمها وتجزئتها وتضعيفها، وفي الإيقاع وفي الشعر وأوزانه

ثم إن في مختتم هذا المجلد حواشي يشرح فيها بعض الملتويات ويلوح فيها إلى الأصول اليونانية

وعسى أن يواصل أصحاب البارون ديرلانجيه وأعوانه نشر المجموعة، فالعالم العربي المهذب يرقب رسائل الكندي صفي الدين وعبد الحميد اللاذقي وغيرهم. ولا يفوتني أن ارغب إلى من سيتم نشر المجموعة أن يعمل كتاباً قائماً برأسه يثبت فيه المصطلحات الموسيقية الواردة في التآليف العربية مع ما يراد منها في اللغة الفرنسية حسبما نقل. وفي

ص: 66

ظني أنه يبذل بهذا ما لا ينهض به شكر؛ ذلك بأن اللغة العربية لهذا العهد مفتقرة إلى التعابير الفنية والاصطلاحات العلمية

بشر فارس

الفلم المدرسي ونصيب مدارسنا منه

يرجع الفضل في استخدام السينما في المدارس إلى المستر بروس وولف بعد الحرب الكبرى مباشرة (1919) حين وضع - بمساعدة زوجته - أفلامه المدرسية الناجحة: معركة جنلند بين الأسطولين الإنجليزي والألماني، وغزو اللنبي لفلسطين، والحرب بين آلهة الخير وآلهة الشر. . الخ وقد لقي المستر وولف من إقبال المدارس وتعضيد الحكومة ما جعله يبتكر من الأفلام ما هو الآن ضرورة من ضرورات الحياة المدرسية في إنجلترا. بل لقد عظم أثر هذه الأفلام لدرجة أنها توجه التعليم وجهات خاصة في بعض الأحيان. وقد كان أول أفلام مستر وولف فلماً مساحياً على السطوح والدوائر والمثلثات. . . الخ. وبالطبع لم ينجح هذا الفلم ولذا آثر الأفلام الأفلام الجغرافية والتاريخية بعد ذلك. وقد أشرنا في هذا الباب إلى الفلم التربوي الذي قامت به شركة الفحم الإنجليزية والذي كان له أكبر الأثر في تحسين أسلوب المعيشة والتربية في البيئة الإنجليزية

هذا في إنجلترا. . . فماذا عندنا في مصر؟ لقد كانت وزارة المعارف تحض على استعمال السينما في المدارس، فأين هي الأفلام المدرسية التي عرضت؟ لقد قامت وزارة الصحة بعرض بعض الأفلام السقيمة للتنوير العام، فلم يكن لها أي أثر، وهكذا صنعت وزارة الزراعة. . . ولسنا ندري ماذا يمنع وزارة المعارف من إلقاء مهمة إخراج أفلام مدرسية على عاتق ستوديو مصر على أن يعاونه معهد التربية في ذلك. . . إنها بهذا تفتح حقلاً جديداً لأستوديو مصر وتضمن الأفلام التربوية الناجحة للمدارس المصرية

شذوذ العبقرية في الهند

في الأنباء البرقية أن السيدة سوبارويان قد انتخبت نائبة في البرلمان الهندي عن مدينة مدراس. . . ومنذ شهرين كانت تزور مصر إحدى الزعيمات الهنديات فلم يمنعها زهوها الوطني أن تعير نساءنا المصريات بتخلفهن عن أخواتهن الهنديات في مضمار الحياة، لأن

ص: 67

المرأة الهندية قد نالت من الحقوق المدنية ما لا تزال المصرية تحلم به وتعتبره طوبى! وقد منع كرم الضيافة السيدة المصرية من الرد على الزعيمة الهندية. . . ونحن من جانبنا لا نجعل لنهضة المرأة الهندية تلك الأهمية التي تصورتها لها زعيمة الهند، ولا يمنعنا من التمسك بهذا الحكم انتخاب السيدة سوبارويان للبرلمان الهندي. ونحن إنما نستند في رأينا إلى التقاليد والعادات والمعتقدات الهندية نفسها. فالمرأة الهندية تشارك الرجل في التطهر ببول البقر وتقديس البقرة كما تشاركه في إذلال الأنجاس وتفضيل الفئران عليهم. وقد كان خيراً للهند ألف مرة لو عملت نائبة مدارس في محاربة الآفات الهندية ولم تقحم نفسها في الميدان السياسي. . . وتعليل هذا بسيط. . . فالبيئة الهندية مشهورة بالشذوذ ولاسيما في خلق العبقرية. . . فالهند الفقيرة المجدبة من الثقافة قد أعطت العالم رجالاً أفذاذاً عبقريين في ثقافتهم وفي عملهم كالشاعر المسلم المرحوم إقبال والشاعر الهندوكي طاغور والمرحوم أدجاديز بور العالم النباتي. . . ثم السياسية سوبارويان، ومن أجل ذلك فنحنن متفائلون جداً بنهضة المرأة المصرية ولو لمت تدخل البرلمان

تركيا والإسلام

أدلى السيد إسماعيل ولي الله الصحفي الهندي والمحرر بجريدة (انديان نيوز) التي تصدر في دربان بجنوب إفريقية إلى جريدة (جمهوريت) لدى عوده إلى بلاده بما يأتي: (قبل أن أحضر إلى بلادكم طفت ببلاد العرب ومصر وسورية. وقصدي أن أعرف بتركيا العالم الإسلامي في الشرق بحيث أقوم الرأي الخاطئ الذي كونه عنها. لقد اقتنعت كل الاقتناع منذ اليوم الأول لوصولي إلى مدينتكم بأن الأتراك - على نقيض الدعايات السلبية التي راجت عنهم في العالم الإسلامي - لا يزالون مسلمين كما كانوا في الماضي، وإنكم مع محافظتكم على إسلامكم قد كيفتم أنفسكم وفق مقتضيات الحضارة الأوربية. وإنا لنرجو أن يجرب جميع مسلمي الشرق هذه التجربة التي نجحت فيها تركيا. إن عدد مسلمي جنوب إفريقية يبلغ 12 مليون نسمة منهم 8 ملايين من أهل البلاد الأصليين ومليونان من الأوربيين و150 ، 000 من المسلمين. أما الباقون فصينيون ويابانيون وأفراد من أجناس مختلفة. وينقسم المسلمون إلى فريقين أحدهما فريق المسلمين الهنود أمثالنا الذين يقطنون البلاد منذ ستين عاماً. والآخر هو فريق المسلمين المولودين في جاوا - وهذه المناطق

ص: 68

سريعة التقدم وأهم إنتاجها الذهب. ويعنى المسلمون الهنود بالتجارة ويمارسون المهن الحرة

ونحن مسلمي جنوب إفريقية الهنود نشعر نحو تركيا بحب عظيم، ومرشدكم العظيم أتاتورك شخصية عظيمة يعجب بها العالم أجمع. ولقد ظهرت في جريدتنا عدة مقالات عن زعيمكم العظيم. وإنا لعظيمو الارتياح نحن المسلمين إلى ما أحرزته تركيا من أسباب التقدم. وآمل أن يحقق وطنكم لنفسه حياة رغيدة. إن هذه أول مرة وطئت فيها أرض تركيا والأثر الذي خلفته في نفسي هذه الزيارة هو إن الجميع هنا يعملون بنشاط ولا يتمرغون في حمأة الخمول كما كانت الحال في عهد السلطنة

كتابان فرنسيان عن مصر

نال المسيو جان مازويل الأستاذ بالجامعة المصرية الميدالية الفضية من الجمعية الجغرافية بباريس وجائزة ألكسندر اكمان للكتابين الذين تقدم بهما إلى (السوربون) ونال بهما لقب الدكتوراه. وهذان الكتابان يدوران حول بعض المسائل الجغرافية الطبيعية والاقتصادية المتعلقة بمصر إبان حكم والي مصر الكبير محمد علي باشا، وقد بحث المسيو مازويل في أول هذين المؤلفين عن الاكتشافات العظيمة في صحراء العرب وبلاد النوبة، وتكوين برزخ السويس وأعمال الري والصرف وقناطر الدلتا

ودرس في مؤلفه الثاني زراعة قصب السكر وأنواع السماد، كما تحدث عن السكر في مصر من الناحية الاقتصادية وأظهر الدور المهم الذي يؤديه محصوله

تصويب

كتب (أستاذ جليل) في العدد السالف من الرسالة، ينبهني إلى خطأ وقعت فيه عند الحديث عما كان بين الرافعي والعقاد حول مقالة الرافعي عن شوقي في المقتطف سنة 1932؛ والصواب ما قال الأستاذ الجليل؛ فإن مدار الحوار بين الأديبين كان حول تخطئة الرافعي لشوقي في رفع جواب الشرط من قوله:

إن رأتني تميل عني كأن لم

يك بيني وبينها أشياء

وكان رد الرافعي على العقاد - لتقرير هذه المسألة من مسائل النحو عندما يكون فعل الشرط ماضياً، وفي هذا الرد كان ما كان من رأيه في المتأخرين من علماء النحو.

ص: 69

ولقد نبهتني كلمة الأستاذ الجليل إلى شيء كنت أنسيته؛ ذلك أن تخطئة الرافعي لشوقي في الابتداء بالنكرة من قوله:

ليلى! منادٍ دعا ليلى فخفّ له

نشوانُ في جنبات الصدر عربيد

لم تكن مما كتبه للمقتطف، ولكنه نشرها في عدد يناير سنة 1933 من مجلة (ابولو) في الرد على الأستاذ علي محمد البحراوي في مقال تناول به مقاله للمقتطف عن شوقي؛ ثم كان جدال بين الرافعي وأديب من أدباء العراق حول تخطئة شوقي في هذا التعبير، وتنقل هذا الجدل حيناً بين أبولو والمقطم. . .

هذا صواب ما اشتبه علي عند رواية هذا الخبر، أشكر للأستاذ الجليل أن نبهني إلى إثباته؛ وعذري في هذا الاشتباه أن الجدال في هاتين المسألتين كان يدور حول محور واحد، هو مقالة الرافعي في المقتطف، فاختلط في ذاكرتي شيء بشيء

محمد سعيد العريان

شكر واعتذار

استدرك الصديق الدكتور ناجي على كلمتنا عن هوكسلي بعض مآخذ سماها أخطاء، وكان قليل جداً من حسن التفات الصديق يكفي لإدراك أن ما ند قلمنا فيه جاء عن طريق السهو، فقد وضعنا أليس مكان جويس في الإشارة إلى قصة أوليسيز، وقد كتبنا عن هافلوك أليس وجيمس جويس أكثر من عشرين نبذة في بابي (من هنا ومن هناك) و (البريد الأدبي) وكتبنا عن أوليسيز لجويس أكثر من مرة، ومن الأعداد التي نذكرها في ذلك (150 - 153 - 154) وذلك عقب نشر القصة. أما أن هوكسلي هو حفيد هوكسلي الكبير أو ابنه فما ذكرت هو الذي أعرفه، وقد ثار جدل في ذلك بيني وبين الصديق الكبير الأستاذ سلامة موسى فأقنعني أنه ابن هوكسلي الكبير وليس حفيده، وتشبث بذلك فأثبته في كتابه القيم (في الأدب الإنجليزي الحديث ص 93) فقد ولد هوكسلي الكبير سنة 1825 وتوفي سنة 1895، وقد نيف هوكسلي الصغير على الخامسة والأربعين ومن هنا كان اقتناعي بما ذكر الأستاذ سلامة. . . على أن ملاحظة الدكتور قد أثارت في فضولاً غريباً جعلني أكتب إلى ألدوس هوكسلي أسأله في ذلك (!!)

ص: 70

أما كتاب رقصة الحياة فأكبر ظني أنها غلطة الصفاف (المحترم) الذي جعلني مرة أقتل ولز لأن حضرته أغفل سطراً بأكمله فأوقعني بغفلته في (شر أعمالي!)

ولكن يا دكتور ناجي! لي رجاء بعد ذلك. . . هل تتفضل بتسجيل ملاحظاتك الأدبية القيمة على صفحات الرسالة بالنيابة عني حتى يأذن الله بشفائي مما أصبت به وسأستشيرك فيه!

الشاكر لك

صديقك المجهول

حول كلمة (هال. ها)

سيدي الأستاذ الفاضل محرر الرسالة

قرأت في عدد الرسالة الماضي قصيدة (البعث) وقد أعجبني استيعاب الشاعر محاسن الربيع ومناحي المجال فيه كما طربت لقوة مبناها وغناها باللفظ الجميل كما يغنى الربيع بالورد الناضر والزهر الباسم. إلا أنه لفتتني فيها كلمة (هال. ها) وتعليق الشاعر الفاضل عليها أنها كلمة نداء مرحة ابتدعها الأستاذ أبو حديد وتقوم مقام كلمة - الإنجليزية، وأخشى أن هذا التعليق بعيد عن الصواب. فالكلمة الإنجليزية ليست نداء مرحاً وإنما هي تعبير يقال عند خيبة الأمل أو انكسار النفس من الحزن أو الأسف أو ما إليها

على أن ابتداع الأستاذ الفاضل أبي حديد لكلمة (هال. ها) لتقال في معرض المرح لم يبلغ من التوفيق ما يجيز استعمالها في هذا المعنى. فكلمة (هال) تقال لزجر الابل، وذلك بعيد عن المعنى الذي يقصده الشاعر

والله يحفظ السيد الجليل

محمد عبد الغني حسن

تاريخ الأمة المصرية

أثنى المسيو جابرييل هانوتو في الأكاديمية الفرنسية على الجزء الرابع من كتاب (تاريخ الأمة المصرية) وهو الذي ينشره برعاية جلالة ملك مصر

وقد خصص هذا الجزء للفتح العربي من سنة 642 ميلادية إلى الفتح العثماني في سنة

ص: 71

1517 وهو من تأليف المسيو جاستون فييت مدير الآثار العربية في القاهرة

ص: 72

‌الكتب

الإسلام في العالم

تأليف الدكتور زكي علي

مؤلف هذا الكتاب من الشبان القلائل الذين عرفوا بالانكباب على معالجة الشؤون والمشاكل الإسلامية، يعالجها طوراً بالكتابة في صحف الشرق والغرب، وآونة بالخطابة على المنابر في المجامع. ولطالما قرأ له المصريون كثيراً من المقالات القوية في الصحف العامة تنبئ عن اهتمامه القوي بهذه الناحية. والمؤلف إلى جانب اهتمامه بالناحية الإسلامية (طبيب) دقيق النظرة. ولقد ظهر أثر تفكيره العلمي الصائب في كتابه الذي أخرجه هذا الشهر وهو: والذي يعد محاولة طيبة من الدكتور زكي علي، له الجزاء الأوفى عليها

ولقد أوضح المؤلف في مقدمته الدافع على ذلك فقال: (في سنة 1931 غادرت مصر إلى أوربة لأول مرة في بعثة طبية وقد كنت موظفاً كطبيب امتياز وطبيب تخدير في مستشفى قصر العيني بالقاهرة. . . ولم أكن أتوقع أن ستلح علي رغبة عنيفة لمسائل أخرى غير الطب. . . غير أني اكتشفت أن في أوربا جهلاً مطبقاً وعدم إدراك للإسلام. ذلك الدين الذي أومن به، وألفيت أن العلاقات بين الغرب والعالم الإسلامي في حال من المرض الشديد تستأهل بحث أسبابها ومعالجتها) ولم يحاول المؤلف أن يأتي بآراء جديدة في سفره هذا، ولم يعمد إلى محاولة ذلك عمداً، بل لقد ذهب يعرض آراء الغربيين عرضاً دقيقاً ويستخلص من ثنايا كتاباتهم عن الإسلام ما يدحض به كل شبهة تحك في نفس أحدهم، فهو يرى أن النظام الديني والاجتماعي في الإسلام ليس بالضيق أو ما يشتم منه ريح التزمت والجمود، بل إنه في جوهره مرن، كما أنه يعمل على النهوض بالحياة الإنسانية

ويستعرض المؤلف في كتابه هذا حياة الرسول لأنه يرى أن لا بد لدراسة هذا الدين وتفهم مراميه من تفهم حياة صاحبه ، وتلك هي الطريقة التي سار عليها سير أرنولد في كتابه فلقد مهد لانتشار الإسلام بفصل عن (محمد كداعية) وفائدة هذا أن يربط القارئ بين المظاهر العامة والذاتية في حياة الرجل الذي حمل عبء الرسالة وأداها صادقاً أميناً، وكان في حياته الخاصة والعامة المثال الكامل للإنسان الفاضل، والصورة الواضحة الحق للرسول والنبي المبعوث، وما كان ينطق عن الهوى (إن هو إلا وحي يوحى، علمه شديد

ص: 73

القوى)

ثم يعرض المؤلف للإسلام من حيث هو دين ونظام اجتماعي يربط بين الطبقات ويوحد بينهما ويتجه بمراميها إلى الغاية المنشودة من الرسالة، ولقد كتب أحد المستشرقين مرة يقول (إن حياة الشرق تتمثل في كتابين لا ثالث لهما، أما أولهما فالقرآن، وأما ثانيهما فكتاب ألف ليلة وليلة). . . كذلك يتجلى طابع الإسلام الحق وجوهره الخالص من كل زيف أو شائبة في القران وهو (كتاب اضطم على مبادئ القانون الإسلامي العام: فهو قانون لدين اجتماعي مدني تجاري حربي فقهي خلقي تشريعي سياسي؛ وهو بعد ذلك كتاب له تأثيره الدائم على أذهان المؤمنين الذي هيهات أن يتنكب بهم الطريق لو أنهم ثابروا على اقتفاء خطاه وأوامره، وليس في هذا الكتاب ما يناقض العقل) بل إنه ليشجع الاجتهاد والتخريج. ثم يعرض المؤلف للجهاد (ص 33) فيرى أنه حرب دينية دفاعية، والجهاد شرعا الحرب في سبيل الدين والذب عن حياضه، وإدخال القوم الجاحدين به في شريعته.

ويتناول الدكتور زكي نظام الحكومة والدولة في الإسلام وهو من النواحي الهامة في تاريخ هذا الدين كان له أثره البعيد في آسيا وأفريقية، فيتعرض للجزية والزكاة والخراج، وهي الأسس الاقتصادية التي تقوم عليها الحكومة في الدول الإسلامية، ويرى المؤلف أن الجزية ليست ضريبة تستؤدى من أهل الذمة كعقاب لهم بل إنها كانت نظير القيام على حفظ حقوقهم وبدلاً من قيامهم بالخدمة الحربية المفروضة على كل مسلم (ص 55)، وإن مرمى النظام الإسلامي وغايته ومجهوده أن يمد العون للنوع البشري ليوفر به أسباب الراحة الروحية، ويرقى به في سبيل الكمال والسعادة.

ومن الفصول القوية التي دبجها الدكتور زكي علي فصله عن تطور الإسلام وهو يلم فيه بما انتاب الإسلام والمسلمين من أهوال جسام في عصور التاريخ المختلفة، فلقد اشتدت عداوة المغول له فقاموا بتدمير مراكزه الكبرى في قسوة لم يعرف التاريخ لها مثيلاً حتى ليكاد ينكرها من يقرأها بعد حدوثها كما يقول ابن الأثير، وإن الدارس لتاريخ المغول في الشرق والمماليك في مصر ليرى هذه الضراوة الشديدة من ضراوة التتر ومحالفتهم لدول الغرب المسيحية للقضاء على الإسلام ممثلاً في دولة المماليك، ولم يخفف من حدتهم هذه إسلامهم.

ص: 74

وكذلك انتابت الإسلام أخطار جمة تعرض لها فكان ذلك الصراع العنيف بين الشرق والغرب، يدفع كلا الجانبين حماسة دينية وتعصب ملح، وهذا هو المعروف بالحروب الصليبية، فلقد امتشق فيها الغرب الحسام ضد الشرق والإسلام واتحدت شعوبه المتنافرة تحت الصليب تدفعها من الخلف حيناً روح دينية، وأحياناً كثيرة تحثها المطامع السياسية، ولكنها في كل ذلك تلبس مسوح الدين. ويرى بعض الكتاب أن هجوم التتر وتدميرهم الخلافة العباسية في بغداد إنما هو ضرورة اقتضتها حياة القوم فلقد انغمروا في بلهنية من العيش واغرقوا في اللذات ورفاهية المادة، فكان تجديد الإسلام بتدمير هذه الحضارة وإقامة أخرى مكانها وزعيم هذا الرأي الكاتب الفرنسي ومهما يكن من صواب رأيه أو خطله فإن الحقيقة الواضحة هي أن الإسلام لم يفن بعد هذا الهجوم بل تجدد وعاد قوياً

أما دراسته عن (الإسلام في الغرب) فيعرض فيها لآراء الكتاب الأوربيين أمثال رينان وولسون كاش وأرنولد وكريمر ويظهر في تضاعيف هذا الفصل ما انطوت عليه نفس الكاتب من حماسة بالغة للإسلام خرجت به أحياناً من موقف العرض إلى الدفاع، فأكرم بهذه الروح التي أملت عليه ما أملت من نقاش ودفاع كريمين، وبهذا الفصل يختم المؤلف الفاضل القسم الأول من كتابه وقد خصصه للتعريف بالإسلام ثم، يليه القسم الثاني والأخير منه وهو دراسة تحليلية للنواحي الفكرية في الإسلام ومستقبله في العالم كدين وكنظام اجتماعي وسياسي، وهو ينظر بعين الرضا والاطمئنان للحركة التجديدية في الأدبين الفارسي والتركي وما يترتب عليهما من إحياء للماضي الحافل بصور المجد والعظمة

ويختم المؤلف كتابه بدراسة قيمة عن (الإسلام في العالم) فيرى أنه لا يستطاع الفصل بين السياسة والدين فيه بل إنهما ليتعاونان معاً في ميادين الاستقلال الاقتصادي والسياسي والاجتماعي (ص397) ويضرب المثل على صحة هذا بالملك العظيم ابن سعود فلقد نجح في إقامة دعائم مملكته على أسس مستمدة من القران والسنة، حتى لقد أصبحت الحجاز اليوم حكومة رشيدة قوية محترمة، وفي ذلك أبلغ دليل على تعاون السياسة والدين وعدم تضاربهما، على عكس الواقع في الغرب حيث لا يستطاع - بحال من الأحوال - التوفيق بين الدولة والكنيسة.

ويتساءل المؤلف في ختام بحثه هذا: هل يمكن إيجاد التعاون والتوفيق بين الإسلام

ص: 75

والغرب؟. . . ونظرته لهذه الناحية نظرة المتفائل؛ ويذهب مدللاً على رأيه هذا بحجج بعضها في حاجة إلى نقاش وإن كانت تنتهي أخيراً إلى الموافقة على رأيه.

وبعد فهذا عرض موجز لكتاب ألفه شاب مصري أوقف جهده وقلمه وتفكيره على ناحية يستأهل من أجلها شكر الشرقيين والناطقين بالضاد في كل صقع وناد بلا تفرقة بين الملل والأديان، ذلك لأن الشرق اليوم هو العالم الإسلامي

حسن حبشي

ص: 76

‌المسرح والسينما

عصر السرعة والأعصاب المكدودة

وأثره في الإنتاج المسرحي والسينمائي

اشتهر هذا العصر بأنه (عصر السرعة) ومن علاماته المميزة - وقد تكون إحدى النتائج القريبة لهذا الوصف - توتر الأعصاب

فالبنية الإنسانية طاقة إذا أجهدت تنبهت أعصابها وأرهفت واشتدت قابليتها لكل مؤثر، ومن مجهدات الأعصاب في هذه الأيام تعدد المطالب التي لم تجعل حداً لحاجات الناس بل أطماعهم، وكثرة الأزمات في شتى نواحي الحياة، وترقب الحروب والانقلابات يوماً بعد يوم، وضعف الوارع الأدبي بفضل أخلاق الساسة ومعاملات الدول بعضها لبعض وعدم احترام التعهدات والوعود، وتهديد البطالة لك آمن أو شبه آمن، وتفشي المخدرات والأمراض، وكثرة الضوضاء، وعدم الاستقرار، وتسلط المادية. . . الخ

كل هذه الأمور أفقدت النفس مساكها والأعصاب احتمالها وظهر اثر ذلك في جميع مرافق الحياة

ففي الشارع - كثيراً ما يقابل المرء أناساً وجهاء وغير وجهاء يتحدثون إلى أنفسهم بصوت مسموع، ويضحكون من غير دافع إلى الضحك، ويشيرون بأيديهم إشارات لا تصدر إلا عن مخبول أو مذهول

وفي المرقص صدف الناس عن الرقص التصويري الشعري وافتنوا في الرقصات التوقيعية العنيفة

وفي الملعب ازدادت أحابيل المشعوذين، ومارسوا كل عمل شاذ لا يكاد يخطر على عقل سليم

وفي المعرض - تقدمت الرسوم (الكاريكاتيرية) لأنها الوسيلة الوحيدة لرسم الأفكار الخاصة التي لا تظهر في الطبيعة

وفي الموسيقى لم تفلح الآلات الوترية الهادئة في هذا الجو الصاخب المخمور حيث أفلحت آلات (الجاز) العنيفة المدوية

وفي المكتبة اختفى الكتاب الجيد بين آلاف من الكتب الفارغة التي استعصى على أصحابها

ص: 77

عمق الفكرة فسبحوا على قشورها

والمسرح والسينما قد ظلا صورة حسنة لهذا العالم ينقلان أحسن ما فيه، ويقدما له المثل الصالح الممتاز

ولكن هذه النزعة المجنونة قد بدأت تؤثر فيهما وتفسد عليهما رسالتهما السامية

ازدادت في الأيام الأخيرة الأفلام من نزع:

،

، -

،

وكل هذه أفلام تدور إما حول عائلة كل أفرادها مجانين أو رجل غير مكلف أو امرأة مطلقة البدوات، أو فكرة لا يمكن أن يبتكرها غير امرئ مخدر الأعصاب مخمور

وموضع الخطر في هذا الأمر أن هذا النوع من الأفلام هو أكثرها نجاحاً اليوم

ونحن لم نشهد آخر المسرحيات في أمريكا وأوربا، ولكن المتتبع للحركة المسرحية في هذه البلاد يعرف أن هذا الخطر بدأ يدب في المسرح كذلك، وأن البيئة الأدبية بدأت تتحول نحو بعض المؤلفين الذي يستطيعون هذا النوع من الكتابة، ولم يبق هناك أي حرج في استعمال بعض الاصطلاحات التي اقتضاها هذا التجديد؛ فكلا المؤلف والناقد يقول:

، أي ملهاة جنونية، ملهاة هستيرية

وإذا تعذر علينا أن نشهد هذه المسرحيات فإننا نعرف شيئاً عنها مما يحمله البريد. وقد يسهل أحياناً تكوين الفكرة من معرفة العنوان. فمن أسماء بعض هذه المسرحيات التي لقيت نجاحاً عاصفاً في كلا أمريكا وإنجلترا في السنوات الأخيرة ، وأخيراً ' ،

وتقدم القوم خطوة أخرى فافتتح بعض الأمريكيين أخيراً مسرحاً لتمثيل الروايات المسرحية التاريخية القديمة كروايات شكسبير بالملابس العصرية

أما في السينما فلا يحوجنا الدليل على صدق ما نقول. فإننا نشهد معظم الإنتاج العالمي في السينما. ويمكننا أن نعمل إحصاء طريفاً في هذا الموضوع. فشركة كولومبيا تعتبر أولى الشركات تقدماً في ابتكار أنواع الخيل، وجريجوري لاكافا، ليوماك كاري ويسلي رجلز،

ص: 78

ميتشل ليش. . . أبرع المخرجين في إدارته. أما ممثلوه فكثيرون، أشهرهم كارول لومبار، أيرين دن، جين آرثر ميريام هوبكنز، بت دافيز. ثم جون باريمور، شارلز لاوتون، فردريك مارش، وليام باول، روبرت مونجمري (ويلاحظ أن النساء في المرتبة الأولى).

وهناك (فرق) من المخبولين أشهرهم الاخوة ماركس والاخوة ريتز والثلاثة المشعوذون مو، لاري، جيري.

هذا غير عشرات من الممثلين الكوميديين الذي لا يكاد يخلو فلم واحد من وجود بعضهم.

وأخيراً لا يسعنا بعد هذا الكلام الطويل إلا أن نرجو ونأمل أن ينتج المسرح والسينما أحسن ما في هذا العالم ويدعا أسوأ ما فيه

محمد علي ناصف

ص: 79