المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 253 - بتاريخ: 09 - 05 - 1938 - مجلة الرسالة - جـ ٢٥٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 253

- بتاريخ: 09 - 05 - 1938

ص: -1

‌مصطفى صادق الرافعي

بمناسبة ذكراه الأولى

في مثل هذا اليوم من العام المنصرم سكن لسان وجف قلم وانقطع وحي. وفقد البيان الملهم والفكر المنير خسارة إنسانية لا يسهل العوض منها ولا العزاء عنها. والرافعي وأمثاله من عباقرة العلم والأدب والفن والمال، ثروة من ثروات الأمم لا تكتسب بالحيلة ولا بالإرث، وإنما هي نفثات من روح الله تنسم على الأنفس المختارة فتجعل طبيعتها بين النور والطين، ومنزلتها بين السماء والأرض، ورسالتها رفع الناس إلى الملائكة بالمجد، وتنزيل الملائكة على الناس بالخير. إذا جاء أجلهم عاد ذلك النور الإلهي إلى مصدره، وهو أشد ما يكون نزوعاً إليه وعلوقاً به؛ ثم لا ينبثق مرة أخرى إلا حين يأذن الله لخليقته أن تهتدي ولأرضه أن تصبح

لذلك كان أسى الأمم الداكرة الشاعرة على نوابغها أسى خالداً يستمر

في ذاكراتها، ويتجدد في ذكرياتها، ثم يتردد على عواطفها كلما صبت

إلى أمام فلم تجد الهداة، وهفت إلى فوق فلم تجد الأجنحة

على أن النابغ في أمم الشرق يعيش وكأنه لم يولد، ثم يموت وكأنه لم يعش. ذلك لأن الحياة فيها لا تزال نوعهاً من السكر الغليظ يذهل الناس عن الوجود أكثر العمر، فإذا أفاقوا - وقليلاً ما يفيقون - عربد بعضهم على بعض!

كذلك عاش الرافعي ومات! وكذلك يعيش أشباهه ويموتون! وما حيلة الزهرة الفواحة إذا أنبتها القدر القاهر في فقار الأرض بين سفي الرمال ولفح السمائم؟

رحم الله الرافعي لقد كان في الكتابة طريقة وحده! وحسب الكاتب مزية ألا يكون لأسلوبه ضريع في الأدب كله. فإذا قيل لك إن الرافعي قديم الأسلوب في التفكير والتعبير فاحمل ذلك على الحسد الذي لا حيلة فيه، أو على الجهل الذي لا حكم معه. وتستطيع أن تتحدى من تشاء أن يدلك على كاتب يترسم الرافعي مواقع قلمه أو قدمه. إنما هي شنشنة من ضعاف الملكة وقاصري الأداة، يرمون من يجيد لغته بالتخلف، ومن يتعهد كلامه بالتكلف، ومن يؤثر أدبه بالمحافظة

ص: 1

أسلوب الرافعي يمتاز بالسلامة والسلاسة والإيجاز والعمق. وهذه المزايا نتائج حتمية لاكتمال عدته وغزارة مادته وصفاء ذوقه وذكاء فهمه. وأشد ما يروعك منه قوة الفن وحركة الذهن. فأما قوة الفن فهي الأستاذية التي تخلق المادة، وتصنع القالب، وتضع اللفظ، وتحدد الرسوم، وتوضح الفروق، وتتصرف بمفردات اللغة تصرف المصور البارع بألوان الطيف، وتخيل إليك أن الصناعة طبع والمعانة سليقة. وأما حركة الذهن فهي حركة الغواص الدائب لا يقف عند السطح، ولا يستقر على القاع، وإنما يضرب بيديه القويتين في أغوار البحر، وقد انقطع عن شواغل الناس بالعين والأذن. على أنها حركة الروية لا حركة العبقرية؛ فمعانيه تقطر ولا تفيض، ولكنها على طول الرشح واعتصار القريحة تصبح منهلاً طامي الجوانب صافي المورد

كان يحمل الفكرة في ذهنه أياماً يعاودها في خلالها الساعة بعد الساعة بالتقليب والتنقيب والملاحظة والتأمل، حتى تتشعب في خياله وتتكاثر في خاطره؛ ويكون هو لكثرة النظر والإجالة قد سما في فهمها على الذكاء المألوف. فإذا أراد أن يعطيها الصورة ويكسوها اللفظ، جلاها على الوضع الماثل في ذهنه، وأداها بالإيجاز الغالب على فنه، فتأتي في بعض المواضع غامضة ملتوية وهو يحسبها واضحة في نفسك وضوحها في نفسه. وذلك عيب المروين من صاغة الكلام وراضة الحكمة، كابن المقفع والمتنبي، وبسكال وبول فاليري. ومنشأ ذلك العيب فيهم أنهم يطيلون النظر ويديمون الفكر ويعمقون البحث حتى تنقطع الصلة بين عقولهم وعقل القارئ، وتتسع المسافة بين معانيهم وألفاظ اللغة، فيكتبون وأفهامهم سابقة سبوق الروح، وأقلامهم متخلفة تخلف الجسم. ويزيد في هذا الغموض أن سعة العقل في النوابغ تستلزم ضيق اللسان. فلا ترى الفضول والثرثرة والرغوة والثغاء إلا حيث يضحل الذهن ويقصر النظر وتنزر المادة. والرافعي كان يقتصد في أسلوبه، لأنه ينفق عليه من جهده ومن ذوقه ومن فنه ما يجعله أشبه بومضات الروح ونبضات القلب ونفحات العافية. فهو يفصل اللفظ على قدر المعنى تفصيل (المودة) الفاشية اليوم؛ يقصر ولا يطول، ويضيق ولا يتسع، ولكنه على ضيقه وقصره يظهر الجسم الجميل على أتم ما يكون حسناً وأناقة

وهو بعد ذلك أسلوب جيد التقسيم سليم المنطق، إلا أنه بعيد الإشارة يستسر جماله على

ص: 2

القارئ العجلان والفهم البطيء. فإذا روي فيه الناقد المتذوق انكشف له في كل كلمة سر، وطالعته في كل فقرة آية. ولعل النفس الشاعرة لا تجد فيه من أنوثة العاطفة ما تجده النفس المنطقية من فحولة الفكرة. ومرجع ذلك في الرافعي غلبة الفكر على الشعور، وسطوة الفن على الطبيعة. . .

(للكلام بقية)

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌البحث عن غد

للأستاذ عباس محمود العقاد

- 3 -

كان مستر (روم لاندو) على صواب في اهتمامه بالناحية الروحية من حياة الشرق الأدنى في العصر الحاضر؛ وقد أحسن تعليل هذا الاهتمام حين قال في مقدمة كتابه: إن الشرق الأدنى هو الذي رسم للعالم الإنساني مجراه في طريق الحضارة والتهذيب. فلو خلت الدنيا من ثلاث (قارات) كاملة لما تغيرت ثقافتها الروحية إلا قليلاً، ولكنها لو خلت من أمم البقاع المحصورة بين البحر الأبيض والبحر الأحمر والخليج الفارسي، لكانت أديانها غير هذه الأديان، وآدابها غير هذه الآداب، وثقافتها غير هذه الثقافة، ومعاني الحياة والمثل العليا فيها غير ما نعلمه من معانيها ومثلها العليا في عصرنا الحديث

قال: (نعم حدث في القرن الخامس عشر بعد كشف أمريكا وإخراج العرب من الأندلس أن المحور قد تحول نحو الأقطار الغربية، ولكن الأمر لم يحتج إلى أكثر من ثلاثمائة سنة لاتجاه (الرقاص) إلى الشرق من جديد. وجاءت حملة نابليون المصرية وما وراءها من آماله في الهند وما نجم عنها من كشف الحضارة المصرية التي طال العهد بنسيانها فأنشأت عهداً جديداً له شأنه وخطره في بلاد الشرق الأدنى)

ونحن الشرقيين يحق لنا أن نغتبط بما لبلادنا من الشأن الحاضر أو المنظور في حياة العالم الروحية، ولكننا خلقاء ألا ننظر إلى الأمور بالعين التي ينظر بها الغربيون، فإنهم يبالغون ولا ريب في استضعاف شأن الحياة الروحية كما يرونها في أنحاء أوربا وأمريكا، لأنهم سئموها وعالجوا أكاذيبها ومواطن القصور منها، فكان استضعافهم إياها داعياً إلى التحول بالرجاء إلى غيرها، وكان من جراء ذلك هذا الإقبال على مسائل الشرق الأدنى ولاسيما المسائل الروحية. وقد وجد بينهم أناس تحولوا إلى الشرق الأقصى والهند خاصة لتعليل أنفسهم بشيء من الرجاء وشيء من الثقة واليقين فهي حيرة تهديهم تارة إلى هنا وتارة إلى هناك. ولا ينبغي لنا أن نجعل هذه الحيرة مقياسنا ومعيارنا في تقويم ما لنا من قيمة، وعرفان ما لنا من وزن وأمد. ونعتقد نحن خلافاً لما يعتقده بعض الأدباء الأوربيين أن البلاد الغربية ليست من النضوب الروحي بالحال التي يتخيلونها، وليست من الركون إلى

ص: 4

المادة والضرورات العملية بالموضع الذي يضعونها فيه. وينفعنا نحن الشرقيين أن نذكر ذلك لأننا محتاجون إلى بقية باقية في الغرب من زاد الروح والذهن والخيال، فإذا اعتقدنا في الغرب النضوب والإقفار فلا ربح في ذلك لنا بل فيه الخسارة والفوات لا جدال

لنا أن نعرف قيمتنا، ولكن ليس لنا أن نجهل قيمة غيرنا. ومن الحسن أن نحيط بما يكتبه الأجانب عنا لأنهم يرون ما يخفى علينا أحياناً من أحوالنا وخطواتنا لفرط الألفة وتكرار النظر بغير انقطاع، كما يعرف المسافر العائد إلى أبنائه كم طالوا وكم كبروا وهو لا يلتفتون إلى ذلك. ولكن المرجع إلينا آخر الأمر في الشعور بحقيقتنا، والنفاذ إلى سريرتنا، والمقابلة بين أمسنا وغدنا. ولا ضير في قليل من الثقة - بل قليل من الغرور - يزيد على المقدار، فإن المبالغة في الثقة خير من المبالغة في فقدها على كل حال

وصاحب كتاب (البحث عن غد) رجل يشعر بالإسلام والشرق الأدنى شعور المودة والترفق، ولا يتعصب عليهما أو يتعصب لأعدائهما. فهو من ثم غير متهم في مقاصده ونياته، وغير بعيد عن أسباب الفهم الصحيح والحكم العادل، ولكنه ينشد الحقيقة على طريقته العاجلة التي يتسع لها وقته في رحلاته الكثيرة، فهو أقرب إلى الأنباء الصحفية منه إلى المباحث العقلية والدروس العلمية أو الفلسفية. وهكذا ينبغي أن نتلقى آراءه وأحكامه، وننظر إلى أغراضه ومناحيه

قصد البحث عن حياتنا الروحية فماذا صنع؟ ذهب إلى السفارة المصرية في العاصمة الإنجليزية وتسلم منها كتب التوصية المعهودة وأسماء الأفراد المعهودين!! ولو قيل للمستر (روم لاندو) إن مصرياً أراد البحث في حياة إنجلترا الروحية فذهب إلى السفارة البريطانية ليسألها عن وجهات الفكر والروح في بلادها لابتسم وأدرك نتيجة البحث لأول وهلة، ولكنه رجل صحفي أو شبيه بالصحفيين، فهذه أقرب الوسائل إلى إنجاز عمله وجمع المادة اللازمة لتأليفه. وكذلك كان في كتبه السابقة حيثما تناول الأقطاب الروحيين المقيمين في باريس أو لندن أو نيويورك: سبيله إليهم كسبيل الصحفيين إلى المحادثات وجمع المعلومات

لو ذهب مصري إلى السفارة البريطانية يسألها عن رجال الفكر والروح والخيال من الإنجليز لما ذكرت له اسم لورنس أو اسم موجهام، ولعلها لا تذكر له حتى اسم برناردشو ومن إليه من الأدباء الذين لا يلتزمون التقاليد ولا يدخلون في السجلات الرسمية. وهي لا

ص: 5

تهمل ذكرهم لأنها تجهلهم أو تستخف بأثرهم بين قرائهم، ولكنها تهملهم لأن وظيفتها توجب عليها أن تلتزم التقاليد ولا تعترف بما وراءها من وجهات الأفكار ومذاهب الضمائر

ومن المعقول أن تسأل السفارة أو وزارة الخارجية في إنجاز عمل أو الإرشاد إلى من ينجزه ويتولى تسهيله. أما الإرشاد إلى نزعات الفكر والروح، فالسفارات والوزارات لا تتولاه وإن عرفت طريقه، لأنها لا تدل على شيء إلا كان داخلاً في حدود المرسومات المحدودة، حتى لو ظهر عليه لون من الشذوذ

ولهذا لا عجب أن يتحدث الكاتب عن (قدم المادة) وما قيل عنها في الجامع الأزهر كأنه فتح جديد في تفكير المسلمين، مع أن المسلمين يعرفون مذاهب القائلين بالقدم والحدوث منذ مئات السنين. ومع أن المفكرين المعاصرين لا يحفلون بقدم المادة وحدوثها ولا يشغلهم من صفاتها شيء أهم من هذه الصفة التي تجلى عنها البحث في الإشعاع والتقريب بين المادة والقوة بهذه المثابة حتى أصبحت وكأنها معنى من المعاني وعدد من أعداد الرياضة والحساب

فلو أن (الباحث عن غد) وصل إلى الجامع الأزهر ووجد فيه البحث قائماً على اختلاف هذه الفروض في كنه المادة لجاز له هذا الدهش الذي أفرط فيه حين علم بما قيل عن قدم المادة من قول صحيح أو غير صحيح. أما الدهش لأمر تكلم فيه المسلمون قبل ألف سنة فماذا فيه من البحث عن غد؟ وماذا فيه من النزوع إلى الجديد؟

كذلك يغلو الكتاب الأوربيون على هذه الشاكلة في قياس الحركات الذهنية بما تثيره من الضجيج بين رجال الدين أو بين طلاب المعاهد الدينية. ومن ذلك مثلاً اعتقادهم أن الأستاذ علي عبد الرازق قد غير في قواعد الدين يوم قال إن الخلافة ليست من مراسم الإسلام. وما اعتقدوا هذا الاعتقاد إلا لأنهم حسبوا أن الضجة التي أثيرت حول كتابه كان مبعثها التعصب والغيرة على الدين. ولم يعرفوا الحقيقة التي يعرفها معظم المصريين، وهي أن السياسة لعبت لعبتها في هذه المعمعة من مبدئها إلى منتهاها. فلو أن الأستاذ علي عبد الرازق أعلن رأيه قبل بضع مئات من السنين يوم كان الأمراء المصريون يسعون في إضعاف الخلافة لقوبل كتابه بالترحيب والمكافأة الجزيلة. ولو أن المسألة مسألة قديم وجديد وتغيير في الأصول الدينية لكان الأولى أن يثير من الغضب يوم ذاك أضعاف ما أثاره في

ص: 6

عصرنا هذا، ولكنها مسألة لها موقعها من السياسة ومن مآرب العيش عند بعض الناس فكان من جرائها ما كان

لهذا نقول إن حكم الأوربيين ولاسيما المستشرقين على شؤون مصر وشؤون الشرق العربي كافة أضعف الأحكام وأبعدها عن حساب العوامل الصحيحة والبواعث الخفية، بل ربما كانت أبعدها عن البواعث الظاهرة في كثير من الأحيان. وما كتبهم في هذه الأغراض إلا طائفة من (الكتالوجات) على طراز آخر غير الطراز التجاري أو الطراز السياسي، ولكنه مثله في الجوهر وطريقة التحضير

ونخص المستشرقين بالخطأ مع أنهم أحرى أن يقتربوا من الصواب ويرجحوا إخوانهم الأوربيين الآخرين بمعرفة اللغة والاطلاع على التاريخ، إذ الواقع أن (الاستشراق) قد نشأ قديماً في بيئة التبشير ولا تزال فيه جذوره ومراميه؛ وكل ما يعني المبشرين هو مراسم الدين وتقاليد المساجد والكنائس والعبادات. فإذا نشبت مشاجرة في مسجد أو كنيسة فذلك أدنى إلى ملاحظتهم من اختلاف مقاييس الفكر ودعائم الضمير، لأنهم هم أنفسهم يعيشون في هذه البيئة وما يحاذيها من طبقات الأدب وطبقات التفكير، فهم معرضون لأخطاء أعظم من التي يتعرض لها الأوربيون الجاهلون بلغات الشرق وتواريخه الأدبية، لأنهم ينظرون مغرضين وفي أعينهم قصر وعلى أعينهم غشاوة لا تميز الحقائق ولا تنفذ إلى ما وراء القشور

وعلى هذا يصح أن نحيط بما يكتبه الأوربيون عنا لنعرف منهم ملاحظاتهم التي تخفيها الألفة والنظر المتكرر إلى المتواتر من أحوالنا، ولا يصح أن نقوم آراءهم وأحكامهم بأكبر من هذه القيمة أو نسومها بغير هذا السوام

عباس محمود العقاد

ص: 7

‌تأملات في الأدب والحياة

للأستاذ إسماعيل مظهر

المدنيات وبيئاتها

لكل مدنية من المدنيات بيئات عديدة، ومن هذه البيئات ما هو طبيعي فطري، ومنها ما هو اكتسابي

أما الطبيعي فكالموقع الجغرافي، وطبيعة الأرض وما يحيط بها من البحار، وما يتخللها من الأنهار، وما يبرز فوقها من الجبال، وما ينبسط فيها من السهول، وما ينزل بها من المطر، وما يهب عليها من الرياح، وما ينبث في الأرض من الأشجار، وما يتخلل جوها من الرطوبة، وما يذيع فيه من حرارة أو برودة. وأما الاكتسابي فكالمعتقدات العامة والشرائع الموروثة والأديان والعادات وطبيعة الحكم وصفة الحكومة وأخلاق الطبقة الحاكمة إلى غير ذلك

أما البيئة الطبيعية فقلما تتغير؛ وإن تغيرت فإن تغيرها لا يتناول الجوهر الثابت، وإنما يتناول العرض، فازدياد هبوب الرياح أو قلة الأمطار أو تغير الطقس من جفاف إلى رطوبة؛ أو من حرارة إلى اعتدال، قد يؤثر في الأمزجة بعض الشيء؛ ولكن الأثر لا يتناول الطيع الثابت في الأنفس بما يغير من طابع مدنية أصيل في الجبلة. ذلك على العكس من البيئة المكتسبة، فإن زوال معتقد من المعتقدات، أو انهيار دين من الأديان، أو شريعة من الشرائع، أو عادة من العادات، وحلول غيرها محلها، قد يلبس مدنية من المدنيات ثوباً جديداً ويدمغها بميسم له سمات خاصة. على أن هذه السمات قد تتكيف بما يلائم وحي البيئة الطبيعية، غير أنه يكون مختلفاً عن السمات التي تتسم بها المدنية في ظل معتقدات أو أديان أو شرائع انهارت وقامت أخرى على آثارها

على هذا نستطيع أن نقضي بأن انحلال المدنيات إنما يتناول بيئاتها المكتسبة، لأن انحلال بيئاتها الطبيعية مستحيل تقريباً. أما السبب في أن تظل شعوب أزماناً طويلة في ركود بعد انحلال طور من أطوارها المدنية، فيرجع في الغالب إلى انعدام المنبهات التي تبعث في الأنفس حب المجد والعظمة وعلو الذكر والسيادة العالمية. وهذه صفات إن انحلت بانحلال وجه من وجوه المدنية فإن بعثها يكون رهن ظروف لا يمكن التكهن بها

ص: 8

التفكير المستقل

(أرثر شوبنهور) فيلسوف ألماني ولد بمدينة دنتزج سنة 1788، وتوفي سنة 1860. ولقد كتب مؤلفات أشهرها وأعمقها كتابه (العالم إرادة وفكر) ولقد نال هذا الفيلسوف شهرته في مصر خاصة والشرق عامة بنظريته في القوة ونظريته في المرأة، إذ نزع إلى أفكار وتأملات ألبسته في الأذهان ثوباً من التطرف كانت له جدته وطرافته في عصر كنا فيه مقيدين بقيود تخلصنا من أكثرها في عصرنا هذا. غير أن لهذا الفيلسوف الفذ تأملات في الحياة والفكر قلما عرفنا منها شيئاً. ومن أطرف ما خص بتأملات هذا الفيلسوف من نواحي الحياة ناحية الفكر المستقل، أو التفكير المستقل الذي يكون خالصاً لك من التأثر بأفكار الغير ونظرياتهم. ونقتطف هنا لقراء الرسالة فقرات من مقاله في هذا الموضوع وهو من أمتع ما كتب شوبنهور قال:

(كما أن أغنى خزائن الكتب وأحفلها بالمؤلفات لا تكون مفيدة - إذا لم ترتب - فائدة أخرى قليلة العدد حسنة الترتيب. كذلك الحال في ما تحصل بالدرس من المعلومات، فإنها مهما غزرت وكثرت لا تفيدك إن أنت لم تصقلها بفكرك الخاص فائدة معلومات قليلة تعهدتها بالصقل والتأمل الطويل فيها. لأنك بالتأليف بين معلوماتك، ومقارنة كل الحقائق التي تقع لك مقارنة تفكير وعمق، إنما تستطيع أن تهضم المعارف التي تحصل عليها فتصبح ملكاً لك وطوع قوتك. فإن الإنسان ينبغي له أن يدرس. ولكن ما يدرسه لا يصبح ملكاً خالصاً له إلا إذا فكر فيه وأطال التأمل له)

(إن الفرق بين الأثر الذي يحدثه التفكير الذاتي، والأثر الذي تحدثه القراءة في الفكر، كبير جهد الكبر. ذلك بأن التفكير الذاتي وحده هو الذي له القدرة على أن يمد آفاق الفكر في نواح مختلفة تزيد في قوة الابتكار في الذهن حتى يتسنى له أن يختار حراً طليقاً أي طريق يسلك، وينظر في أي جهة يختار)

(إن القراءة تفرض على الذهن أفكاراً، هي بذاتها غريبة متنافرة بعيدة عن المتجه والمنحى الأصيل لفكر القارئ؛ فيكون مثلها كمثل الخاتم أن يطبع الشمع بنقوشه الخاصة. وإن لذلك على العقل من الأثر ما يعادل أثر الأشياء الخارجية على الأجسام، فيظل العقل مضطراً إلى التفكير في هذا ساعة وفي ذاك أخرى، من غير أن يكون له رغبة في الإكباب على

ص: 9

التفكير في كليهما أو القدرة على استيعابهما. أما إذا مضى العقل يفكر لذاته فإنه إنما ينساق إلى التفكير في أشياء تفرضها عليه السليقة وتدعوه إليها الفطرة. وإن لي أن أقول إن كثرة القراءة تجرد العقل من مرونته. ومثلها في ذلك كمثل الثقل التارز الشديد إذا وضع على فوهة نبع فائض، فإنه يثقله ويعيق جريانه. وعندي أن أقوى الوسائل التي تصد الفكر عن الوصول إلى الأفكار المبتكرة هي أن تلجأ إلى كتاب تقرأ فيه كلما أردت أن تنفق وقتاً أو تقطع مرحلة من فراغك. وهذا هو السبب في أن كثيراً من حملة الشهادات العليا يكون عادة أقل ذكاء وأكثر بلادة مما هم إذا تركوا على الفطرة)

(كرستوفر مارلو) وكتاب فوست

هو من كبار كتاب الدرامة من الإنجليز، وهو من المتقدمين على شكسبير. ولد في سنة 1563، أو سنة 1564، ودرس في كمبردج ثم هبط لندن واستقر بها. وله كثير من المؤلفات أهمها كتاب (فوست) الذي نسج على منواله جوته الألماني. ولعل كثيراً من القراء لا يعرفون أن لهذا المؤلف الإنجليزي خطر السبق في صياغة تلك الدرامة العظمى التي خلدت اسم جوته في التاريخ، وغشت على اسم مارلو بسحابة من النسيان. وننقل هنا قطعاً مما كتب (مارلو) عسى أن ينتبه بعض الأدباء إلى دراسة ذلك الرأي الأدبي الجليل:

فوست في حجرة درسه:

فوست - والآن، أمن المحتوم أن تحل على فوست اللعنة، وألا يكون من الناحين؟ ما الذي يحملني إذن على أن أفكر في الله والسماء؟ ألا بعداً لمثل هذه التخيلات الدنية، ومرحباً باليأس، باليأس من الله، والثقة في بعل لا تتقهقر، بل تشدد يا فوست وكن قوي الإرادة. لماذا تضطرب؟ هاهو ذا شيء يرن في أذني صداه. (أقلع عن هذا السحر وارجع إلى الله ثانية)، أيرجع فوست إلى الله مرة أخرى؟ إلى الله! إنه لا يحبك. إن الله الذي ينبغي أن تخدم وتعبد، إنما هو شهوتك الذاتية، إذ فيها قد انغرس حب بعل وتأصل. وله سوف أشيد مذبحاً وكنيسة، وأقرب له دم الأطفال فائراً حاراً

يدخل ملكان: ملك الخير، وملك الشر

ملك الخير - فوست! أقلع عن هذه المهنة الساقطة.

فوست - الندم. الصلاة. التوبة. ما عندك منها؟

ص: 10

ملك الخير - نعم: إنها الأسباب التي تأخذ بيدك إلى السماء.

ملك الشر - إنما الأوهام، وثمرات الجنة والمس، هي التي تخلط العقل، وتجعله أجنح إلى التصديق بها، والاعتقاد فيها

ملك الخير - فوست! فكر في السماء، وفي أشياء السماء.

ملك الشر - كلا يا فوست! بل فكر في العزة والمال.

يخرج الملكان

فوست - في المال! لم ذا؟ إن ضيعة إميدن ستصبح ملكاً لي. مال الذي سيكون في مستطاع الله أن يفعل بي إذا ما أيدني مفستوفيليس وأخذ بيدي؟ إنك ناج يا فوست. لا تكثر من شكوكك. تعال. تعال يا مفستوفيليس، وقص عليّ أخبارك السارة عن إبليس العظيم. إن الليل لم ينتصف بعد. تعال. تعال يا مفستوفيليس!

يدخل مفستوفيليس

والآن خبرني، ما الذي يقوله سيدك إبليس؟

مفستوفيليس - قال إني سأكون في خدمة يا فوست طوال حياته، على أن يشتري خدمتي له بثمن هو روحه.

فوست - إن فوست قد جازف فعلاً بهذا وبذلك

مفستوفيليس - ولكن تذكر يا فوست أنك لابد من أن تهب روحك مخلصاً، وأن تكتب بالهبة صكاً يكون مداده من دمك، فإن هذا الضمان يطلبه إبليس العظيم. أما إذا رفضت فسوف أعود إلى جهنم.

فوست - تأن يا مفستوفيليس وخبرني: أي خير يستمد سيدك من روحي؟

مفستوفيليس - يزيد بها ملكوته.

فوست - أهذا هو السبب في أن يبلونا ويمتحننا كما يفعل؟

مفستوفيليس - دعك من هذا وخبرني هل أنال روحك لأكون لك عبداً وأقف على خدمتك وأضفي عليك من العطايا أكثر مما يصل إليه خيالك؟

فوست - نعم. سأهبك إياها.

مفستوفيليس - إذن اطعن ذراعك بشجاعة، وقيد روحك واعترف بأن من حق إبليس

ص: 11

العظيم أن يستحوذ عليها يوماً ما لتكون له. وهنالك ستكون عظيماً كإبليس نفسه.

فوست - (يطعن ذراعه) مفستوفيليس! حباً لك أقطع ذراعي، وبدمي الصميم أسجل أن روحي أصبح ملكاً لإبليس العظيم، للملك الأكبر المهيمن على دار الظلام المستديم. أنظر! هاهو ذا الدم الذي يقطر من ذراعي، لعل فيه كفاء لغرضي

مفستوفيليس - إنما هو لزام عليك أن تكتب به صك هبة

فوست - نعم. سأفعل. (ويكتب) غير أن دمي يتخثر سريعاً، ولا أقدر أن أكتب به أزيد مما كتبت

مفستوفيليس - سأحضر لك قبساً من نار يحلله ويجعله صالحاً (ويخرج)

فوست - أي شيء ينذر به تخثر دمي ووقوفه عن الاندفاق؟ أينذر بأنه لا يريد أن يكون مداداً لكتابة هذا الصك؟ لم لا يعود إلى الجريان والتدفق حتى أقدر على تحرير الصك به؟ (إن فوست يهبك روحه): آه. عند هذا وقف دمي. ولكن لماذا لا تعقل يا فوست؟ أليس روحك ملكاً لك؟ إذن فاكتب ثانية - (إن فوست يهبك روحه)

(يدخل مفستوفيليس حاملاً جمرات ملتهبة)

مفستوفيليس - فوست! هذه نار. تقدم وضعها على الدم

فوست - لقد أخذ الدم يصفو مرة أخرى. وإذن ينبغي لي أن أتم الأمر سريعاً (ويمضي في الكتابة)

مفستوفيليس - (مبتعداً) لم أثق من حيلة إلا أخذت بها لأنال روحه

فوست - لقد انتهى الصك، ووهب فوست روحه لإبليس العظيم. ولكن أي أثر ذاك الذي انطبع على ذراعي؟ أين أطير؟ أين أذهب؟ أإلى الله! إنه سوف يلقي بي في جهنم؟ لقد غشتني حواسي. ليس من شيء على ذراعي. ذلك ظاهر. لقد كان هنالك شيء مكتوب على ذراعي. أين أطير؟ أين أذهب؟

مفستوفيليس - سأبحث عن شيء يهدئ روحه ويرضي عقله. (يبتعد ثم يخرج)

هذه قطعة مما كتب (مارلو) الأديب الإنجليزي. ولا شك عندي أن في خياله وسياقه لشبهاً بما كتب (جوته). وأن مقابلة أدبية بين ما كتب الأديب الإنجليزي والخالد الألماني، لموضعاً للدرس ومجالاً لخلق صورة من الأدب حديثة

ص: 12

إسماعيل مظهر

ص: 13

‌باقة من الفلسفة الإسلامية

الفيلسوف ابن مسكويه وكتابه تهذيب الأخلاق وتطهير

الأعراق

للأستاذ محمد حسن ظاظا

(ولا ينبغي على أية حال أن نشكر له فقط محاولته إقامة نظام خلقي بعيد عن نزعات الدينيين وزهد المتصوفة، بل ينبغي كذلك أن نسجل له، في الرسم الذي وضعه، الذوق السليم والثقافة الواسعة)

(دي بوير)

نعرض اليوم بإيجاز لفيلسوف إسلامي أخرج للناس دستوراً إيجابياً أخلاقياً طريفاً قوامه المنطق الصحيح والذوق السليم، بحيث لو تبعوه في حياتهم لنالوا به السعادة الحق دنيا وأخرى. ونعني به الفيلسوف (أبو علي احمد بن محمد بن يعقوب مسكويه) صاحب (كتاب تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق)، وهو الكتاب المعروف الذي نصح الإمام (محمد عبده) بتدريسه في الأزهر إلى جانب الإحياء للغزالي، والذي قام المرحوم (علي باشا رفاعة) بنشره وتبويبه، والذي شرع الزعيم الخالد (سعد زغلول) في اختصاره والتعليق عليه دون أن يتمه

1 -

عصره

عاش ابن مسكويه في العصر العباسي الثالث أي في العصر الذي يمتاز بشدة ضعف الخلافة العباسية وبقيام دويلات لا يعترف أكثرها للخليفة بغير السلطة الاسمية. ويهمنا من هذه الدويلات الدولة البويهية (320 - 447هـ) لأن ابن مسكويه عاش ومات في كنفها. وكانت هذه الدولة مظهراً قوياً للنشاط الفارسي الذي كان يرمي إلى الانفصال عن حكم العباسيين واستعادة مجد الفرس القديم. وكان ملوكها يحبون العلم والأدب ولا يستوزرون أو يستكتبون إلا عظماء الأدباء كالمهلبي وابن العميد وابن عباد وغيرهم. وكانت مجالسهم أبداً حافلة بكبار الشعراء والعلماء والفلاسفة ومن على شاكلتهم. لذلك لا عجب أن يمتاز هذا العصر بنضج العلم، وتكوين المعاجم اللغوية، واستقرار الإنشاء على أسلوب مثالي. ولا

ص: 14

عجب أن تنمو الفلسفة وتزهر، وتستقر قواعد الطبيعيات والطب، ويتسع خيال الشعراء، ويظهر الشعر الفلسفي، وينمو فن التاريخ والجغرافيا، ويظهر النقد الأدبي، وتؤلف القصص المجازية، وتنتشر المكاتب حاوية لألوف المخطوطات) أجل ولا عجب أن يظهر أمثال ابن سينا وابن مسكويه والهمذاني والخوارزمي، والمتنبي وأبي فراس والأصفهاني والقالي والثعالبي والتوحيدي والصابي والشريف الرضي والتنوخي والطبري

على أن الحالة الخلقية لذلك العصر لم تك لتساير الحالة العلمية رقياً ونجاحاً. ويلوح ذلك في ميكيافيلية السياسة وعبث الكبراء والعظماء على السواء. وما بالك بحكم قاس عنيف يصلب ويثمل ويبتر ويستمع للوشايات والدناءات، وتمتد يد بطشه وغدره إلى الوزراء والأمراء والسلاطين القريب منهم والبعيد؟ وما بالك بعظماء وكبراء يقول (الثعالبي) في أحد مجالس لهوهم:(أنهم أخذوا بفن من الانخلاع عجيب، وبطريق من الاسترسال رحيب!؟) ويقول في مجلس آخر:

فكان الذي لولا الحياء أذعته

ولا خير في عيش الفتى إن تسترا!

وفي مجلس ثالث:

(ولم نزل نشرب الراح إلى أن باح الصبح بسره، وقام كل منا يتعثر في سكره!؟)

2 -

حياته

وعسير جداً أن نتلمس حياة ابن مسكويه فيما ترك من كتب أو فيما ذكر عنه الكتاب والمؤرخون. وكل ما قد استطعنا كشفه من المؤلفات والتراجم العديدة التي اطلعنا عليها هو أنه ولد حوالي عام 330هـ ومات في 9 صفر سنة 421هـ (16 فبراير سنة 1030م)، وكان مولده (بالري) في أسرة فارسية شريفة. وسرعان ما يترك والده أمه فيبقى هو راعياً لها حتى تتزوج بغير أبيه فيتركها وينزح إلى بغداد شاباً. وهناك يتصل بالوزير (المهلبي) حوالي سنة 348هـ ويدخل في خدمته ككاتم لسره، ويبقى إلى جانبه ينادمه ويسامره حتى عام 352هـ وهو عام وفاة الوزير؛ ومن ثم يعود إلى الري حيث يلتحق بخزانة الوزير العظيم (ابن العميد) وينال ثقته ومحبته وصداقته، ويبقى معه حتى عام سنة 360هـ لينتقل بعد وفاته إلى خدمة ولده الوزير (أبي الفتح). وقد بقي في خدمة هذا الشاب حتى تنكر له الدهر ودخل الوزير السجن سنة 366هـ. ثم التحق بعدئذ بخدمة الملك الظافر (عضد

ص: 15

الدولة) الذي استولى على بغداد وغدر بسلطانها عز الدولة أشنع غدر، كما التحق بعده بخدمة صمصام الدولة وشرفها حتى عام 379هـ، وهو العام الذي دخل فيه في خدمة (بهاء الدولة) واختص به وعظم قدره عنده. وهكذا انتقل ابن مسكويه من خدمة وزير إلى سلطان حتى هرم وشعر بدنو الموت، فانتقل كما يقول صاحب (روضات الجنان) إلى (أصبهان) حيث مات عام 421هـ، وحيث دفن في (محلة حاضو) بقبر مشهور معروف. . .

3 -

ثقافته وأخلاقياته

وقد تثقف ثقافة أدبية واسعة، ونهل من مجالس العلم ومكتباته، وعني عناية خاصة بالأخلاق فدرس حكمها عند الفرس والعرب والهنود والروم، وجمع ما راقه من هذه الحكم وأخرجه في كتاب لا يزال مخطوطاً. هذا إلى أنه قرأ ما قد خلفه أرسطو وأفلاطون وجالينوس في هذه الناحية ومحصه تمحيصاً. وكأنما دفعته تربيته العائلية السليمة، وقلبه الكبير الحي، وتجربته الأليمة في مجالس السلاطين والوزراء، إلى إنقاذ عصره والعصور التي تليه من السياسة الخرقاء والأخلاق المعتلة، فراح يقرأ في الأخلاق ويؤلف، ويخرج للناس كتباً فيها من المنطق الصحيح ما يهديهم إلى (كمالهم الإنساني)، ويأخذ بيدهم إلى طريق الفضائل والعلوم لتتم لهم السعادة التي ينشدونها عبثاً في تلك الخيرات الوهمية الخارجية، خيرات (الكون والفساد). وقد تجلت هذه النزعة فيما ترك من عهد عاهد فيه نفسه (أن يجاهدها ويتفقد أمرها ما استطاع، فيعف وتشجع ويحكم، ويقتصد في مآرب بدنه حتى لا يحمله السرف على ما يضر جسمه أو يهتك مروءته، ويحارب دواعي نفسه الذميمة حتى لا تقهره شهوة قبيحة ولا غضب في غير موضعه، ويستبصر في اعتقاداته حتى لا يفوته بقدر طاقته شيء من العلوم والمعارف الصالحة، ليصلح أولاً نفسه ويهذبها ويحصل له من هذه المجاهدة ثمرتها التي هي العدالة. . . الخ). . أقول تجلت هذه النزعة في ذلك العهد الطريف، وتجلت كذلك في كتابه التاريخي المعروف (تجارب الأمم وعواقب الهمم) وهو الكتاب الذي فضح فيه بجرأة وصراحة الكثير من رذائل السلاطين الذين خدم أولادهم وأحفادهم كما تجلت على الخصوص في كتابه العظيم الذي نحدثك عنه الآن:

4 -

كتاب تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق

ص: 16

ويعتبر هذا الكتاب أهم كتبه الأخلاقية وأطرفها وأكملها ونظراً لأن ابن مسكويه كان أديباً شاعراً يحذق العربية والفارسية على السواء، فإن أسلوبه فيه يمتاز بالسلاسة والرقة والعذوبة على غير عادة الفلاسفة الإسلاميين ، وقد أعجب (الطوسي) به كل الإعجاب فترجمه إلى الفارسية وقال عنه:

بنفسي كتاب حاز كل فضيلة

وصار لتكميل البرية ضامنا

مؤلفه قد أبرز الحق خالصاً

بتأليفه من بعد ما كان كامنا

ووسمه باسم الطهارة قاضياً

به حق معناه ولم يك مائنا

لقد بذل المجهود لله دره

فما كان في نصح الخلائق خائنا

والكتاب بعد هذا ست مقالات تدور كما قلنا حول الأخلاق الإيجابية للإنسان، أي الأخلاق التي تليق به من حيث هو حيوان ناطق. ولذلك نراه يفرق في المقالة الأولى بين النفس والجسد تفريقاً يثبت به روحانية الأولى وخلودها واحتياج قواها المختلفة إلى كمال خاص يتفق وما فيها من عقل مسيطر وفكر مقدس. ونراه يتناول في الثانية خلق الإنسان وقابليته للتغير والتهذيب ومدى أثر المعرفة في العمل الخلقي، ويتأدى من ذلك إلى (المنزلة الرفيعة) الجديرة بالإنسان وماذا عسى أن يعوقنا عنها. أما المقالة الثالثة فلا تتناول غير موضوع السعادة بالبسط والمناقشة والعرض. وأما المقالة الرابعة فتحدد الأعمال الخلقية وتميزها عن غيرها وتنتهي بنا إلى المقالة الخامسة التي يبسط فيها أنواع المحبة بوجه عام ومحبة الصديق على الخصوص. وأخيراً تأتي المقالة السادسة لتبين لنا طريق حفظ الصحة على النفس ومعالجتها إذا مرضت

ويطول بنا المقام إذا أردنا أن نبين وجه الطرافة والجمال والأنساق في هذه المقالات البعيدة في منهجها عن منهج الدينيين - (كالبصري في كتاب أدب الدنيا والدين) -، والمعتمدة في طريقتها على الاستقراء العلمي الدقيق الذي (يكاد) ينطق بالتطور، والذي يرسل البصر في الكون كله ويحدد للإنسان ماهيته وعمله فيه!

أما مصادره في ذلك الكتاب فهي تلك الثقافة الخلقية الواسعة التي استمدها من الأمم الأربع، والتي يلوح فيها القرآن متفقاً مع أرسطو وأفلاطون وجالينوس وغيرهم من حكماء اليونان على الخصوص.

ص: 17

وإذا حاولنا أن نعقد مقارنة بين هذا الكتاب وبين كتاب أرسطو (إلى نيكوماخوس): وجدنا ابن مسكويه يبز المعلم الأول أحياناً في الوضوح والانسجام، ويتفوق عليه في فصول خاصة كفصل الصداقة والصديق، ويزيد على فصوله فصولاً أخرى جوهرية كفصلي (دفع الأحزان) و (حفظ الصحة على النفس السليمة)!!

لذلك ننصح القارئ العزيز بقراءة هذا الكتاب مرة ومرة ومرة، ويجعله دستوراً له في حياته كإنسان يرنو إلى السعادة الحق دنيا وأخرى) ونختتم هذا التعريف الموجز بقول ابن مسكويه لابن العميد:

لا يعجبنك حسن القصر تنزله

فضيلة الشمس ليست في منازلها

لو زيدت الشمس في أبراجها مائة

ما زاد ذلك شيئاً في فضائلها

أو بقوله لعميد الملك:

فانظر إلى سير القوم الذين مضوا

والحظ كتابتهم من باطن الكتب

تجد تفاوتهم في الفضل مختلفاً

وإن تقاربت الأحوال في النسب

هذا كتاج على رأس يعظمه

وذاك كالشَعر الجافي على الذنب!!

محمد حسن ظاظا

مدرس الفلسفة بشبرا الثانوية الأميرية

ص: 18

‌التصاوير والتماثيل في الحضارة الإسلامية

التصوير في الكتب

لأستاذ جليل

التصوير في (الحضارة الإسلامية) في الحجر والكتاب - كثير. وإذا جد واستمر بحث النابشين وتنقيب المفتشين ظهرت نفائس مضمرات، وبدت بدائع مكنونات، وعرف الناس من آثار تلك المدنية المحمدية ما لم يكونوا قد عرفوه

وإن (كتاب الله) لم يذمم في آية من آياته تحسيناً ولا تجميلاً، ولم يحرم تصويراً ولا تشكيلاً. وهل الخط أو التسطير إلا تدبيج وتصوير؟ وهل الكتابة أصلها إلا صور؟ وهذه قصور المروانية والعباسية - والقوم حماة الدين وخلفاء المسلمين - فيها الأشكال والتهاويل

(من كل شيء يرى فيها تماثيل)

وقد زار مسلم عربي منذ أشهر قصر هشام بن عبد الملك الذي كشفه المنقبون في ناحية أريحاء من أعمال فلسطين في السنة الماضية فشاهد صوراً ناتئة لوجوه أناس عرب في بقايا الغرف والجدران

قلتُ يوماً لدار قوم تفانوا

أين سكانك العزاز علينا

فأجابت: هنا أقاموا قليلاً

ثم ساروا، ولست أعلم أينا

وكان في رفاقته أحد معارفه فقال مستعجباً: ما هذا؟ خليفة مسلمين، وأمام دين، وصور وتماثيل!!

فقال المسلم العربي مفاكهاً مازحاً: لم يكن (المحرم) قد نجم ودونت كتبه في أيام هشام. . .

وجاء في تاريخ بغداد لابن الخطيب في وصف دار الخلافة: (وفيها - أي دار الشجرة في دار الخلافة - شجرة في وسط بركة كبيرة مدورة، فيها ماء صاف، وللشجرة ثمانية عشر غصناً، لكل غصن منها شاخات كثيرة، عليها الطيور والعصافير من كل نوع مذهبة ومفضضة، وأكثر قضبان الشجرة فضة، وبعضها ذهب، وهي تتمايل في أوقات، ولها ورق مختلف الألوان يتحرك كما تحرك الريح ورق الشجر، ولك من هذه الطيور يصفر ويهدر. وفي جانب الدار يمنة البركة تماثيل خمسة عشر فارساً على خمسة عشر فرساً قد ألبسوا الديباج وغيره، وفي أيديهم مطارد على رماح يدورون على خط واحد في (الناورد) خبباً

ص: 19

وتقريباً فيظن أن كل واحد إلى صاحبه قاصد، وفي الجانب الأيسر مثل ذلك)

وذكر ابن أبي الحديد في (شرح النهج) الكبير: (إنه كان على سيف عضد الدولة بن بويه وأبيه ركن الدولة صورة علي رضي الله عنه، وكان على سيف ألب أرسلان وابنه ملكشاه صورته)

وروى صاحب (النفح) عن بدر الدين بن الحسن الأربلي المتطبب وصف تصاوير في حمام رآه في بغداد في (دار الملك شرف الدين هرون بن أمازير الصاحب شمس الدين محمد الجويني) تدهش مبصريها، وتعجز واصفيها، وقد يجد الفتيان الشطار والمتفننون من رجال الليل ما يشبهها اليوم في بيوت في (باريس). . وربما لا يجدون. وهي الحضارة، وهو التفنن فيها. . . وهذا ما تسهل روايته من وصف الأربلي:

(وأبصرت مياهه وشبابيكه وأنابيبه المتخذ بعضها من فضة مطلية بالذهب وغير مطلية، وبعضها على هيئة طائر إذا خرج مها الماء صوت بأصوات طيبة. ثم أراني - يعني سائس الحمام - نحو عشر خلوات، كل خلوة أحسن من صنعة أختها. ثم انتهى بي إلى خلوة عليها باب مقفل بقفل حديد ففتحه، ودخل بي إلى دهليز طويل، كله مرخم بالرخام الأبيض الساذج، وفي صدر الدهليز خلوة مربعة، ورأيت من العجائب في هذه الخلوة أن حيطانها الأربعة مصقولة صقالاً لا فرق بينه وبين صقال المرآة، يرى الإنسان سائر بشرته في أي حائط شاء منها. ورأيت أرضها مصورة بفصوص حمر وصفر وخضر، ومذهبة؛ وكلها متخذة من بلور مصبوغ، بعضه أصفر، وبعضه أحمر؛ فأما الأخضر فيقال: إنه حجارة تأتي من الروم، وأما المذهب فزجاج ملبس بالذهب؛ وتلك الصور في غاية الحسن والجمال على هيئات مختلفة في اللون وغيره. وكل محاسن الصور الجميلة مصورة في الحائط)

وهذا خبر عن مصنف مصور في العلم قد أرصن تأليفه وتصويره أيما إرصان، وكأنه آخر ما قيل في أمريكة وأوربة في توضيح الكتب بالصور. وإني لأرويه مؤيداً ومسانداً المقالة الجديدة المفيدة:(التصوير التوضيحي في المخطوطات الإسلامية) التي أطرفها الناس في (الرسالة) الغراء الأديب المتفنن الدكتور أحمد موسى، والتي زينت لي تصوير هذه السطور:

ص: 20

قال ابن أبي أصيبعة في كتابه (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) في سيرة رشيد الدين بن الصوري: (ولرشيد الدين ابن الصوري من الكتب كتاب الأدوية المفردة. وهذا الكتاب بدأ بعمله في أيام الملك المعظم، وجعله باسمه واستقصى فيه ذكر الأدوية المفردة، وذكر أيضاً أدوية اطلع على معرفتها ومنافعها، لم يذكرها المتقدمون. وكان يستصحب مصوراً، ومعه الأصباغ والليق على اختلافها وتنوعها، فكان يتوجه رشيد الدين ابن الصوري إلى المواضع التي بها النبات مثل جبل لبنان وغيره من المواضع التي اختص كل مها بشيء من النبات، فيشاهد النبات ويحققه، ويريه للمصور فيعتبر لونه ومقدار ورقه وأغصانه وأصوله، ويصور بحسبها ويجتهد في محاكاتها. ثم إنه سلك أيضاَ في تصوير النبات مسلكاً مفيداً، وذلك أنه كان يرى النبات للمصور في إبان نباته وطراوته فيصوره، ثم يريه إياه وقت كماله وظهور بزره فيصوره تلو ذلك، ثم يريه إياه وقت ذويه ويبسه فيصوره، فيكون الدواء الواحد يشاهده الناظر إليه في الكتاب وهو على أنحاء ما يمكن أن يراه به في الأرض، فيكون تحقيقه له أتم ومعرفته له أبين)

إن التصوير غير الشركي وغير العهري لمباح. وإن التصاوير والتماثيل إنما هي تحاسين وتزايين (قل من حرم زينة الله)، وإذا كان ذلك للهدى والتذكير والتعليم والتثقيف فقل بالوجوب

القارئ

ص: 21

‌الرافعي بعد عام

للأستاذ محمد سعيد العريان

في صباح الاثنين 10 مايو سنة 1937 نعي المرحوم مصطفى صادق الرافعي إلى أدباء العربية، فجأة وبغير إنذار؛ فسكت القارئ وتلفت السامع، وتغشى السامرين من أهل الأدب سكون ووحشة وانقباض

وطالت فترة الصمت، والسامرون في غشيتهم لا ينطقون، إلا نظرات شاردة، وخواطر تصطرع وتموج، وذكريات تنبعث محرقة لاذعة، تذكر بما كان وتنبه إلى ما ينبغي أن يكون. . .

وهمس هامس: (يرحمه الله! لقد كان رجلاً للدين وللعربية هيهات أن تجد بديلاً منه أو ينقضي زمان من عمر التاريخ!)

ثم عاد الصمت، وعاد السكون، إلا النظرات الشاردة، والخواطر المائجة، والذكريات والأماني. . .

وهتف هاتف في جلال الصمت وفي وحشة السكون: (أن للفقيد لحقاً على اللغة، وحقاً على المسلمين، لا يجزئ فيهما أن نقول: يرحمه الله!)

وتدانت الرءوس، وتجاوبت النظرات، وانثالت الأفكار، وتزاحمت الأماني؛ ثم لم يلبث أن عاد الصمت، وعم السكون!

ثم عاد القارئ يقرأ، وأنصت السامع يسمع، وانتحى اثنان يداولان الرأي في شأن من شئون الأدب، وتماسك اثنان يفاضلان بين الجديد والقديم؛ وغامت في سماء الندى غائمة، وانعقدت على رءوس السامرين عجاجة، وضج المكان كسالف عهده، واختلطت الأصوات فما يبين صوت من صوت، واشتغل كل بما هو فيه. . .

وصاح صائح في نبرة اليائس المحزون: (ويحكم يا بني عدنان! لقد شغلتكم دنياكم عن الوفاء، وفتنتكم الحياة عن ذكر الموت! لقد كان هنا إنسان منكم، وإنه لأرفعكم صوتاً، وأبلغكم بياناً، وأبعدكم غاية ومدى؛ فهلا ذكره منك إنسان. . .)

وبرقت العيون، واختلجت الشفاه، واهتزت الرءوس، وانبعث صوت السامرين يحوقل ويسترجع في همس خافت، وقال قائلهم:(يرحمه الله! لقد كان. . .!)

ص: 22

يرحمه الله! يرحمه الله!

هذا كل وفاء العربية للراحلين من أدبائها: يتهاوون من الذروة إلى بطن الوادي فرداً فرداً، وإخوانهم على الطريق ينظرون إليهم في بلادة وصمت؛ لا تشيعهم منهم قدم، ولا تتبعهم عين باكية، ولا يذكرهم منهم إنسان!

يرحمه الله! يرحمه الله!

هذا كل تراث الأديب في العربية لبنيه وأهله، هو حسبهم من الطعام والشراب والثياب وتكاليف الحياة، وفيه العوض كل العوض من عائلهم الذي طواه الموت بين الصفائح والتراب

يرحمه الله! يرحمه الله!

هذا هو الخلود الذي ضمنته العربية لمن يموت من أدبائها وهو في ميدان الجهاد يكافح الفقر والمرض وشئون العيال، ويبذل نفسه لينشئ أدباً يسمو بضمير الأمة، ويشرع لها طريقاً تسير فيه إلى عظمة الخلد وسعادة الأبدية ومجد التاريخ!

يرحمه الله! يرحمه الله!

هذا كل ما تستطيع العربية من كلمات العزاء، وكل ما يملكه أدباء العربية من أساليب المواساة، وكل ما يقدر عليه ناطق يبين، وصديق يتحبب، وحبيب يشعر أن عليه حقاً لمن يموت من أهل البيان!

يرحمه الله! يرحمه الله!

صوت ما له صدى! وتراث ليس فيه غناء، وطعام لا يهنأ ولا يمرأ، وخلود لا يدوم إلى غد، وعزاء لا يجفف دمعة ولا يخفف لوعة ولا ينفذ إلى قلب طفل سلبه الموت أباه وسعادة دنياه!

يرحمه الله! يرحمه الله!

. . . خلوا عنكم أيها الأدباء الكبار، وأيها الشعراء العظام، وأيها الخطباء المصاقع؛ خلوا عنكم عناءها، سيرحمه الله وإن لم تقولوها؛ سيرحمه بما جاهد، وبما بذل، وبما عانى، وبما تحمل من جهد التضحية ومشقة الحرمان؛ وسيرحمه ثانية بما لقي من العقوق وكان براً، وبما لقي من الغدر وكان وفياً، وبما قوبل من إنكار الجميل وكان من أهل الجميل؛

ص: 23

وسيرحمه بدموع هؤلاء اليتامى، وبأنات هؤلاء الأيامى، وبدعوات كثير من أهل الإيمان وفوا له ما وسعهم الوفاء!

مضى عام منذ مات الرافعي، فهل سأل أحد: كم خلف وكم ترك؟

سأحدثكم وإن لم تطلبوها إلي. . . . . .

أما المال فلا سبد ولا لبد، وأما الأدب فثروة للرواة ومحزنة للولد، وأما العيال. . . وا حزناً لو كان يجدي الحزن!

هذا (سامي) كبيرهم في بعثة الجامعة بأمريكا ما يزال بينه وبين الغاية خطوة؛ وهذه (سعدية) الصغيرة تلثغ في الراء وتضم شفتيها على الباء؛ وبينهما ثمانية يقوم على شئونهم (محمد) الله لهذا الشاب العائل؛ لم يكد ينعم بقرب الأهل بعد فراق سبع سنين في فرنسا لدراسة الطب، حتى كان عليه عبء الأسرة كله، فكأنما كان هو في تلك الغربة وديعة إلى أجل، وذخيرة إلى ميعاد؛ وعاجلته تبعات الحياة وما يزال في باكر الشباب!

والحكومة. .؟ خلي عنك يا وزارة الحقانية، خلي عنك يا وزارة المعارف، خلِّ عنك يا وزير المالية. . . الله أكرم!

لقد تصرم من عمر الرافعين في خدمة الحكومة ثمان وثلاثون سنة، ومات ولم يجاوز السابعة والخمسين؛ فأي مكافأة وأي جزاء؟ بضعة عشر جنيهاً في كل شهر، تأبى الحكومة إلا أن يكون لها فيها ميراث. . .

إنه الرافعي، إنه الرجل الذي كان اسمه في مقدمة الأسماء المصرية التي تؤكد زعامة مصر للأمم العربية، وترفع اسمها وتبني مجدها الممتاز، وتسن طرائقها التي يحتذيها الأدباء في العالم العربي. إنه هو. . . ولكنها هي مصر. . .!

وكتب رئيس الرافعي في وزارة الحقانية كتاباً غداة منعاه إلى وزارة المالية، يصف لها من حال الرافعي ومن خبره، ويقترح. . . يقترح أن تنزل الحكومة عن نصيبها من الميراث في (معاش) الرافعي لأولاده. . . ولكن وزير المالية يأبى. . . ولكن الله أكرم. . .!

(يرحمه الله! يرحمه الله!)

ذلك كان جواب الحكومة المصرية. . .!

لقد مضى عام، فهل تذاكر أدباء العربية فيما عليهم للرافعي؟ وهل ذكرت الأمة والحكومة

ص: 24

ما عليهما من واجب الوفاء للرافعي؟

لقد تداعى الأدباء إلى ميعاد يحتفلون فيه بتأبين الرافعي، وجاء الميعاد وتخلف المدعو والداعي؛ وترادف ميعاد وميعاد وميعاد، ومضى عام، وعلى مكتب كل أديب دعوة لتأبين الرافعي، وفي ذيل كل دعوة جواب المدعو وبخطه أو بلسانه:(يرحمه الله! يرحمه الله!)

وعند دكاكين الوراقين أسئلة عن كتب الرافعي، ولكن السوق ليس فيه كتاب من كتب الرافعي؛ وقال قائل:(أعيدوا طبع الديوان، أعيدوا طبع إعجاز القرآن، أعيدوا. . أعيدوا. .)

وقال الطابع والناشر والوراق: (يرحمه الله! يرحمه الله!)

وعلى مكتب الرافعي كتب لم تطبع، وقصاصات لم ترتب، وثمرة عقل خلاق كان يجهد جهده ليضيف كل يوم إلى العربية ثروة جديدة وفكراً جديداً. وقلنا:(يا وزارة المعراف، هذه كتب إن لم تخرج للناس سبق إليها العث والفئران فيضيع على العربية كنز ما لها منه عوض!) ولكن وزارة المعارف في أحلامها الهنيئة لا تسمع ولا تجيب، إلا همساً في أمثال أنفاس النائم تردد قول الناس:(يرحمه الله! يرحمه الله!)

وفي الأمة مع ذلك أدباء، وفي الأمة كتاب وشعراء، وفي الأمة ناشئة غافلة ما تزال ترجو الخلود في الأدب. . .

وفي الأمة عقول ناضجة في أجسام مهزولة من الفقر والجوع؛ وفي الأمة رءوس ممتلئة على أناسي تضطرب كل مضطرب للبحث عن القوت

وفي الأمة. . . وفي الأمة رءوس فارغة على أجسام تكاد تتمزق شبعاً ورياً؛ وفي الأمة. . . وفي الأمة قلوب خاوية في أناسي تتمرغ بين وسائد الدمقس وحشايا الحرير. . .

وفي الأمة. . . وفي الأمة مع ذلك من يتساءل مدهوشاً: (لماذا. . . لماذا لا نجد في الأمة العربية شعراء وكتاباً ومنشئين كبعض من نقرأ لهم من أدباء الغربيين. . .)

يرحمك الله يا مصطفى. . .! بل يرحمك الله أيتها الأمة!

(شبرا)

محمد سعيد العريان

ص: 25

‌مصطفى صادق الرافعي

بمناسبة مرور سنة على وفاته

للأستاذ فليكس فارس

سئل الرافعي ماذا يريد أن يقال عنه بعد الموت، فكتب جوابه قبل وفاته بشهرين صفحة بارزة بين خالدات آثاره: ومما جاء فيها:

(وبعد الموت يقول الناس أقوال ضمائرهم لا أقوال ألسنتهم إذ تنقطع مادة العداوة بذهاب من كان عدواً وتخلص معاني الصداقة بفقد الصديق ويرتفع الحسد بموت المحسود وتبطل المجاملة باختفاء من يجاملونه.)

ثم أورد بعض الكلمات التي اعتقد أنها ستقال عنه: كمعجزة الأدب وحجة العرب ومؤيد الدين الخ. . ليستطرد قائلاً:

(أما أنا، فماذا ترى روحي وهي في الغمام وقد أصبح الشيء عندها لا يسمى شيئاً إنها سترى هذه الأقوال كلها فارغة من المعنى اللغوي الذي تدل عليه لا تفهم منها شيئاً إلا معنى واحداً هو حركة نفس القائل وخفة ضميره، فشعور القلب الثائر هو وحده اللغة المفهومة بين الحي والميت). . .

أي أخي مصطفى، إذا كنت أصبت باستجلاء نفسك وهي لم تزل أسيرة جوارحك، فإنك خدعت بإطلاقك حسن ظنك على الناس أجمعين، لأنك اتخذت تجردك مقياساً فحسبت أن خصومك سينصفونك بعد موتك كما أنصفت أنت من جادلتهم وجادلوك وأردت أن تفهمهم وما أرادوا أن يفهموك.

لقد كانت تنقطع فيك مادة العداوة بذهاب من كان عدواً، لأن عداءك كان ناشئاً عن اعتقادك بتفوق أسلوبك وروعة مذهبك، فما ناضلت حين ناضلت إلا عن سلسلة ثقافة تواصلت حلقاتها منذ نشأ الأدب العربي الصميم حتى انتهى إلى قلمك. أما هم فقد كان عداؤهم ضغينة لأنهم احبوا أنفسهم واستغرقوا في أنانيتهم، لذلك قضت عليهم طبيعة نفورهم منك بأن يغتابوك وأنت مغيب في التراب.

إن الحسد لا يرتفع بموت المحسود كما كنت ترى، لأن مادة الحسد مستمدة من صغار الحاسد فلا تزول إلا بزواله.

ص: 27

إنني لأرى روحك الآن تستشف هذه الحقيقة وهي من عيوب التراب لا يتملص منها في الحياة إلا الأرواح التي لم تطمع من الدنيا إلا بما تتزوده منها للآخرة.

وإنني لأراك لا تأبه لما يقال عن بيانك وأسلوبك ولهجتك فإنها أدوار بلاغ لإلهامك، وإلهامك وحده هو ما يقوم في نفسك الآن، فأنا أشعر بأن الكلمة التي أكتبها لذكراك لن تجتاز الحد القائم بين الظاهر والخفي، إنها لكلمة تزحف زحفاً في عالم التلمس والاستقراء موجة ذاهبة في ضم الآراء المتضاربة تقذف بالأحياء إلى طلب الرقي وهم متجهون إلى القبور.

أما الكلمة المجنحة التي تبلغ روحك أيها الأخ الحبيب، الكلمة المأخوذة (من اللغة التي يتفاهم بها الحياء والأموات) فإن روحي قد هتفت بها بالصرخة الصماء وبالدمعة العمياء منذ بلغها رجوعك إلى مصدرك، ولما نزل نهتف بها كلما ارتادت أجواء الشعور والتفكير

أفما قلت إن روحك ستبحث من وراء الحجاب عن الثمرة المساوية المسماة القلب في الناس وعن كل كلمة دعاء وكلمة ترحم وكلمة خير. وإن ذلك ما تذوقه الروح من حلاوة هذه الثمرة

لقد عرفت يا مصطفى، وما اقل من يعرفون هذا في الحياة، قيمة عطف الروح على الروح في هذه الدنيا وبخاصة قيمة هذا العطف يترامى على ضفاف نهر الموت مناجياً الأحباب الراحلين

إذا كان في كل عطف من حي إلى حي نشوة وقوة وأمل، فلا ريب في أن كل خفقة شوق من محب إلى ميت عزيز تحمل إليه الدعاء والترحم والخير

هنالك لا تغني نفس عن نفس شيئاً، ولكن عطف الأرواح الأسيرات على الروح المنطلقة في العالم الخفي ليس إلا مما كسبت هذه الروح من إخلاصها فحق لها أن تجزى بما سعت وبما اكتسبت

كنت أعتقد أن الرافعي كاتب له شأنه في محيطه الخاص، وأنه رجل بيان فخم، ولكنه يدور ضمن حلقة ضيقة من العلم، فكنت مسيئاً إلى نفسي بهذه الفكرة لأنني ما بنيتها إلا على مقال أو بعض مقال وقع نظري عليه منذ سنوات عديدة في لبنان

ومنذ سنتين أو أكثر شغفت بمطالعة رسالة الأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات لعبقرية هذا

ص: 28

المفكر المجدد وحسن اختياره. وفي أحد أعداد الرسالة قرأت (رؤيا في السماء) للرافعي فكنت كلما قرأت سطراً بعد سطر احسبني اشهد أحلاماً غائرة في سريرتي تنقل أشباحها حقائق ماثلة لعياني، وما أتيت على آخر المقال حتى هتفت قائلاً: هذا هو مثال الأدب العربي الذي يمكننا أن نواحه به الآداب العالمية في نهضتنا. واندفعت أترجم (رؤيا في السماء) إلى اللغة الفرنسية ثم نشرتها مقدماً بها إلى أدباء الغرب حجة على من يدعي منهم أن الأدب العربي ليس إلا عالة على آدابهم

ومضى شهر على ظهور الترجمة في المجلة الأسبوعية الفرنسية في القاهرة، فإذا برجل مهيب الطلعة يدخل علي ويتقدم مصافحاً مقدماً نفسه (مصطفى صادق الرافعي) فبادرت إلى معانقته وبدأت أتكلم مرحباً، فإذا به يتفرس فيّ ويبدي إشارات من لم يفهم ما أقول، وكان يرافق الرافعي الأستاذ كامل محمود حبيب فأشار إلي بأن نابغتنا أصم وعلي أن أخاطبه بالقلم

ومنذ ذلك اليوم لم يحضر الرافعي مرة إلى الإسكندرية دون أن يشرفني بزيارته، وقد كان هو الساعي إلى تعريف الأستاذ الزيات والأستاذ حافظ عامر بك بي فتسنى لي أن أجتمع مراراً بثلاثة أفذاذ لكل منهم لمعان في آفاق النهضة الأخلاقية الأدبية وقد كلفوني بإجماع الرأي ترجمة كتاب زرادشت للفيلسوف الألماني نيتشه

وفي أواخر أبريل سنة 1937 جاءني مصطفى في الإسكندرية وهو يتأبط وحي القلم هدية إلي تحمل كلمة من خطه أحتفظ بها بين ذخائر من فقدت من أهلي

وأمررنا اليوم معاً نتحدث كعادتنا، أكتب فيتكلم، ومما قاله لي أن إحدى الصحف كلفته كتابة مقال عنوانه المرحوم (مصطفى الرافعي بقلم مصطفى الرافعي) على نحو ما كتب (ويلز) وأن الفكرة راقت له ولكنه يريد أن أتولى أنا كتابة هذا المقال فقبلت مشترطاً أن أكون وضميره الملكين المستنطقين إذا هو أصر على إقامتي حكماً بينه وبين الحياة، فضحك وقال: ما اخترتك لهذه المهمة إلا لعملي بأن المحبة اشد صرامة في حكمها من العداء وما كان الرافعي مخدوعاً بما أضمره نحوه من إخلاص مجرد وقد تحقق أنني قدرت روحه قبل أن أتعرف إلى شخصه

ولما حان ميعاد انصرافه شيعته وأنا أحس بغصة شعرت بمثلها في كلمة الوداع التي ألقاها

ص: 29

إلي وهو يزودني بآخر نظرة لم أزل أراها أمامي كآخر شرارة من أصفى الأنوار التي شاهدتها في حياتي

وفي أول مايو سنة 1937 أخبرني صديق أن أحد أصحابه استعاد السمع وهو مصاب بالصمم بوضع صفحة من الجلاتين (وهو الجلاتين المستعمل لمردات السيارات) بين أسنانه وطيها قليلاً حتى تنحدب بين الفم والصدر فيؤثر عليها اهتزاز الصوت تأثيره على ساعة الحاكي فيصل إلى طبلة الأذن الداخلية بواسطة أعصاب الفكين

بادرت بالكتابة إلى مصطفى وبت أنتظر الجواب بذاهب الصبر فوردني منه بعد يومين الكتاب الآتي، وهو مؤرخ في 2 مايو أي قبل وفاته بأيام قليلة:

عزيزي الأستاذ فليكس فارس

سرني كتابك لأنه كتابك، وقد جربت الفائدة فإذا هي قريب مما وصفتم، غير أن الصوت يبلغ إلى الدماغ مصمتاً غير مبين كأنه لا حروف فيه، وتلك هي العلة من أولها. وسأزاول المران على هذه الطريقة، فلعل لها عاقبة إن شاء الله، ولعل فائدتها تأتي بالتدريج!

لماذا تفتر في ترجمة نيتشه فأصبحت تظهر وتختفي. . .

أما اعترافات فتى العصر فهي جيدة جداً، ولو كان مؤلفها هو المترجم لما استطاع أكثر مما استطاع المترجم الشيخ فليكس فارس

رسالتك وترجمة رؤيا في السماء قرأهما الأستاذ الفرنسي فأعجب بهما، وقد سلمت الأصول للدكتور محمد ليرسلها إلى أستاذ الآداب في جامعة ليون

وحفظك الله للمخلص

مصطفى صادق الرافعي

طنطا في 2 مايو سنة 1937

مرت السنة على وفاة الرافعي وهو - بعد أن وفى قسط جهاده وانسحب من معاكس الإظلال في هذه الحياة - لم يعد إلا صورة حفرها الحب في قلوب أهله وأصحابه، وإلا كتباً ورسائل وقصائد تتداولها الأفكار في العلام العربي، فإن أنا أتناول الكلام عنه الآن فلا أواجه الصورة المحفورة منه في أعماق القلب لأن النظر إليها يخرس بياني ولا يستنطق سريرتي إلا الكلمة المجنحة الصامتة التي أناجيه بها، بل أواجه منه التراث الأدبي الفخم

ص: 30

الذي أقام به لنفسه خلوداً آخر قد لا يهتم له الآن بقدر ما نهتم له نحن لأنه يشق لنا أفقاً واسعاً من آفاق الضحى في النهضة العربية الحديثة

لقد كان الرافعي في الطليعة من قادة الرأي والبيان، اختطت له فطرته العربية وثقافته العربية منهجاً لم يقتحم صعابه إلا النزر اليسير من حملة الأقلام في بلاد العرب

وقد ظهر هذا العبقري بشخصيته الفذة في حقبة من الزمن كان الأديب فيها متتلمذاً لمدرستين: إحداهما مدرسة الأدب العربي تحاول إنهاض اللغة من كبوتها وقد طالت قروناً فتحصر كل همها في تنميق العبارات وتصحيح المفردات والتملص من الأسلوب السقيم الذي طغت فيه على البيان أسجاع المتحزلقين واجتاحته الألفاظ العامية. والأخرى مدرسة الأدب الدخيل تغترف من معين الغرب أوشالاً تريقها بياناً مقلقلاً لا يمت إلى العربية الفصحى بسبب، وليس فيه من الألفاظ الصحيحة ومتانة الأسلوب ما يقوى على اقتناص روائع التفكير من بيان الأجانب

كان الرافعي في تلك الفترة يخطو خطواته الأولى بعيداً عن المدرسة الثانية متصلاً بالمدرسة الأولى بجامع اختيار الألفاظ وتنميق الأسلوب غير أنه ند عن هذه المدرسة بإرسال نظراته إلى أغوار الأدب العربي القديم غير واقف عند لامعات الأصداف الطافية على سطوحه

إن للآداب أنواعاً من الجمال لا يمكن للنفوس على اختلاف أذواقها أن تتفق على ترجيح إحداها، وليس للمتأدب المنصف، إذا هو أدرك هذه الحقيقة، أن يتعصب لذوقه فيضع في ميزانه عبقريات الأدباء بالمقابلة والترجيح

لئن سر العبقري الحقيقي أن تتناول الأقلام تحليل تفكيره وخياله وديباجته بعرضها على الفن، (بالرغم من أن الفن نفسه ليس ناموساً ولا قاعدة ولا مقياساً)، فإن هذا العبقري ليأنف أن يحشره كاتب في كفة ميزان ليضع في الكفة الأخرى عبقرياً آخر يطمح إلى الحط من قيمته وقدره

ما ضر الكاتب المتحزب لو قال إن مثله الأعلى من العبقريين يتدفق إنسانية وشعوراً دون أن ينكر هذه الصفات على أنداده بل على كل ذي قلب شاعر ورأس مفكر في هذه البلاد. . .

ص: 31

والله، إنني لا أدري أية نسمة مشئومة تهب على هذا الشرق العربي مقحمة الحزبية ميدان الأدب نفسه، وما الأدب الرفيع إلا النسب الشريف والرابطة المكينة بين النفوس الحساسة الحائرة في هذه الحياة تتلمس حقيقة القلب وتتطلع إلى أنوار الفكر

أفلا يكفي الأدباء ما يعانونه من مجتمع لما يزل في بدء تكوينه وتكاد كتلته الكبرى تتبرأ من بيانهم، حتى ليقوم التحاسد بينهم فيتناكرون، وعهدنا بالأدب دولة يتساند جنودها على المرتقى ولا يستغني حامل أكبر مشعل بينهم عن أنوار اصغر المشاعل المتألقة حوله في اعتكار الظلمات

إن دولة الأدب ديمقراطية في روحها، بل اشتراكية، بل إباحية بأعمق معاني الكلمة، لأن لا حطام فيها لمالك ولا تخوم لحد شخصية تجاه شخصية أخرى، وما الفكر إلا نسمة لا نعرف لها مهباً ولا ندرك لها مستقراً

وعندي أن كل أديب ينشئ لنفسه بلاطاً لينظر إلى من حوله نظرة الأمير إلى أتباع يسيرون في ركابه، إنما هو مدع دخيل يسد على نفسه كوى الإلهام ويقيم بغروره عقبة في سبيل اعتلائه

الأدب رسالة لخير الأمة وخير المجتمع الإنساني، والأدباء متضامنون في تأدية هذه الرسالة وإن اختلفت مراتبهم، وأرقى الأدباء مرتبة من يرسل نظراته مفتشاً عن أديب يحاول الصعود ليمد إليه يده ويسدد خطاه ويصحح أخطاءه، لا من يزدري أترابه المساوين له ويحتقر المتحفزين للحاق به

إن أقطاب الأدب قادة فيالق في عالم التفكير، وشر القواد من احتقر الجنود لأن عظمته تقوم على شجاعتهم، وخلوده يبنى على كواهلهم

فإذا كان الرافعي لم يسلم في حياته الأدبية من ثورات غضب حولت عبقريته إلى النضال العنيف؛ فما كان ذلك إلا لأنه وهو يتسلق المرتقيات ويمد بساعديه إلى ما فوق لم تعثر يداه إلا على أرجل ترفس استكباراً وحسداً، فاضطر إلى تصفيح قبضتيه فولاذاً

البقية في العدد القادم

فليكس فارس

ص: 32

‌هل ينبغي أن تزاحم المرأة الرجل؟

للآنسة زينب الرافعي

(بقية ما نشر في العدد القادم)

وأنا موقنة أيها المؤيدون أنكم يومئذ لن تسمعوا من المرأة إلا رأياً واحداً عن وظيفتها في الحياة؛ ستقول لكم كلمتها الحاسمة في هذا الموضوع حين تقول: (إنني ملكة في مملكتي الصغيرة فهيهات أن أخضع للإغراء فأنزل إلى مرتبة السوقة في الأعمال!!)

أرأيتم تلك المديرة الأجنبية التي استخدمتها تلك السيدة الرجلة لتدير بيتها، أرأيتموها هناك إلا لتطلع على عوراتنا وتكشف عن عيوبنا حتى إذا عادت إلى قومها قالت ما لا يسركم أن يقال!

لقد ذهب فلان إلى أوربا فعاد بزوجته أجنبية، ومثل فلان هذا كثير من شباب مصر، وتسأله: لماذا آثرتها على بنات العم وبنات الخال؟ فيجيب: لقد تزوجت أجنبية لأني لم أجد مصرية واحدة أهلاً لأن تكون لي زوجة!

لماذا؟ لجمالها؟ لا، إن في مصر لجميلات يزهين على جميلات العالم. لأدبها؟ لا، إن المصرية لأكثر أدباً من صاحبته، إن مقاييس الآداب تختلف باختلاف البلاد، فما رآه منها لا يمكن أن يعد أدباً عند المصري. لثقافتها؟ لا، إن الرجل المصري لا ينظر إلى ثقافة المرأة حين يهم أن يختار الزوجة. لحسبها وأهلها؟ ولا هذه أيضاً أيها السادة، فليس يبحث عن الحسب والأهل من لا يعرف خالاً لأولاده. إذن فلماذا لماذا؟

لشيء واحد أيها السادة، قد يكون له شبهة من الحق في الاحتجاج به، هو أنها سيدة بيت، وسيدات البيوت بين بنات مصر قليل.

ويلي عليكن أيتها المصريات! أين حيلتكن في مزاحمة المرأة الأجنبية التي غلبتكن على قلب أبناء العمومة وأبناء الخئولة من المصريين فاستأثرت باحترامهم من دونكن؟

أرينا أيتها الفتاة كيف تنجحين في هذه المزاحمة بادئ بدء. فإذا بلغت الغاية فانظري إلى الناحية الأخرى وطالبي بما شئت من الحقوق في مزاحمة الرجل. . .

أراني أنظر إلى موضوعي نظرة محلية، وأحصر فكري منه في محيط ضيق؛ وظني أن منافسي في الرأي لا يعنون إلا الكلام العام في المحيط الكوني العام إذ يتحدثون عن

ص: 34

مزاحمة المرأة الرجل في ميدانه

معذرة: إن بيتي يحترق، أفيكون من حقي حينئذ أن أتحدث في شئون جاري وأنا أولى بنفسي وأحق بالنظر إلى شأني الخاص؟

كم يغيظني ويحرج صدري أن يسألني سائل: لماذا تؤهلين نفسك من وظائف الحياة بعد التعليم؟

ليس عندي إلا جواب واحد أيها السائلون الملحفون، هو جواب كل مصرية تعتز بجنسها وتباهي بكرامتها:(إنني أؤهل نفسي لأكون امرأة، امرأة كاملة تعلم أن الطبيعة زودتها بأسلحتها لتكون امرأة وحسب، فإذا انحرفت بي ظروف الحياة فكنت غير ذلك فلا علي، ولكنكم تسألونني عنا أريد، فهذا ما أريده وما علي أن أعمل له، وعلى الله ما سيكون!)

حدثوني عن المتعلمات اللاتي يعملن عمل الرجال: كم واحدة منهن نجحت في إنشاء بيت وتكوين أسرة؟ لديكم الإحصائيات العامة فارجعوا إليها ثم حدثوني حديثكم.

ستحاول واحدة أن تفلسف وتعلل وتزعم وتدعي، ثم تقول في النهاية: إن هؤلاء لم يخفقن في حياتهن حين أخفقن في إنشاء بيت، إنهن لم يظفرن بالأزواج ولكنهن ظفرن بما هو أغلى عند المرأة من الأزواج!.

أحقاً تقلن يا زميلاتي؟ فليكن! ولأزعم معكن أنهن حين أخفقن في إنشاء البيت ظفرن بما هو أغلى، وأغلو في الزعم فأقول إنهن ظفرن بما هو أغلى وما هو أغلى، وإن خيراً للمرأة أن تكون رجلة من أن تكون زوجة. ولكن. . ماذا يكون إذا صارت هذه هي القاعدة؟ أيتها الطبيعة، لدي للأمة أطفالاً من غير أمهات، لأن النساء يتأبين على وظيفة الأمومة، أو فاعدلي أيتها الطبيعة وقولي للرجال:

لماذا لا يلدون للأمة مادام للنساء عمل غير الأمومة. . .؟

إنني أستحي لكم أيها المؤيدون! إنني لأشفق عليكم أن تكون هذه وظيفتكم في غد!

وإني لأخاف يا زميلاتي العزيزات لو صحت هذه الدعوة أن أراكن وحدكن في الميدان وقد هرب الرجال إلى البيوت ليقوموا بعمل آخر. . .! أرأيتن لو أن الرجل آمن وأطاع وأعطاكن الحق في أن تعملن عمله في السوق، وفي الديوان، وفي الحقل، خلا لكن الميدان فليس فيه إلى جانبكن رجل واحد، أكنتن حينئذ تصررن على هذه الدعوى فتزعمن أنكن

ص: 35

أقدر على عمل الرجل؟ أم تعدن معولات باكيات تشكون عسف الرجل وقسوته وجبروته؟

وهل تطيب لكن الحياة يومئذ بناحيتيها: ناحية العمل وناحية العاطفة؟

الآن لا أسمع إلا جواباً واحداً: لقد انتصرت، لا، بل قد انتصرت الطبيعة، لا، بل قد انتصرت المرأة وعزت مكاناً عند نفسها وعند الرجال.

ولكن صوتاً واحداً فرداً مازال يهمس هناك، إنني أسمع من يقول: وحين يذهب الرجال إلى الحرب فلا يبقى في المدينة إلى جانب النساء أحد إلا. . .؟ وحين تأكل الحرب الشباب فيربى النساء عدداً على الرجال؟ هذا سؤال. . .

إن في الإسلام العلاج لكل مشكلات البشرية، وهذه مشكلة أعد لها علاجها منذ ألف وثلاثمائة وخمسين سنة، يوم أعطى المرأة التي لا تجد لها زوجاً، الحق في أن تطالب أختها المتزوجة - أعني أختها في الإنسانية. . . أن تطالب أختها هذه بنصف رجلها أو ثلثه، أو ربعه، ولا تبذل نفسها في علم ما لا ينبغي أن تعمل، أعني عندما أباح تعدد الزوجات للرجل الواحد

إن تعدد الزوجات ضرورة لتعالج ضرورة، وهو نعمة على المرأة وإن عدتها أكثر النساء نقمة، وما يجعلنها نقمة إلا لأن أكثر الرجال مع الأسف لم يفهم حكمة الله فيما أباح وشرع. اسألوا المرأة التي تكسد سوقها في مثل هذه الضرورات الحربية ولا تجد من يعولها: أخير لها أن تكون بلا زوج، أو أن يكون لها نصف زوج؟ إنكم تعرفون الجواب.

ولكن مالنا نتحدث عن الضرورات، ومالنا نستشهد بفلانة وفلانة ممن زاحمن الرجال فزحمنهم، وطاولنهم فطلن عليهم. إنني لا أريد أن أعرض لذلك.

هبوا أن المرأة تقوى على عمل الرجل كالرجل، بل هبوها أقوى منه، وهبوا نساءً كثيراتٍ نجحن فيما أخفق فيه الرجال وبرزن فيما قصروا فيه، فهل هؤلاء كل النساء وكل الرجال؟ وهل هذا يعطينا الحق في أن نقول لكل امرأة: إنك تستطيعين أن تكوني رجلاً إذا أردت؟ هيهات إلا أن يستطيع كل رجل أن يكون امرأة وأماً ومديرة بيت.

هيهات! هيهات! إن المرأة هي المرأة ما في ذلك شك، وإن كل امرأة لتشعر في نفسها بأنها امرأة، حتى لو استطاعت أن تصطنع لوجهها شارباً ولحية، ولكنها مع ذلك تحاول أن تكون رجلاً، وفي هذه المحاولة نفسها البرهان كل البرهان على أنها لا تستطيع، ولقد يدفعها الغلو

ص: 36

في هذه المحاولة إلى أن تبالغ في كل ما يخيل إليها أنها تقترب به من صفات الرجولة، حتى لتوشك أن تكون رجلاً أكثر من الرجل. . .!

هذه الأذرع العارية، وهذا الصدر المكشوف، وهذا الصوت الذي يجلجل في الترام وفي السيارات العامة بالأحاديث الخاصة، إن هو إلا مظهر من مظاهر المرأة التي تزعم لنفسها أنه لن تبلغ منزلة الرجل إلا أن تخلع الحياء الذي هو أخص صفات المرأة وأجمل زينتها.

ماذا أقول ولماذا أتحدث؟ أراني قد وصلت إلى موضع الإقناع في نفوسكم ولما أنته إلى ما أريد، فحسبي هذا الآن وحسبكم، وحسب كل فتاة أن تعلم أن الله خلقها أنثى وركب فيها غرائز الحب والرحمة والحنان والعطف والمواساة والترفق، هذه الصفات التي اجتمعت للفتاة، وإنها لفي كل فتاة، هذه الصفات ليست من صفات القاضي، ولا النائب، ولا الحاكم، ولا المدير، قد تكون الرحمة شيئاً جميلاً ولكن الحاكم الصارم أقرب إلى عدل السماء

كلية الآداب

زينب الرافعي

ص: 37

‌عدو المرأة

للسيدة وداد سكاكيني

ما لأيدينا حيلة بابي العلاء، فلقد أتى على وفاته ألف سنة أو ما يزيد. لقد كانت المرأة بغيضة إلى نفسه، كريهة على سمعه، ولو استطاع أن يبيد من الدنيا كل أنثى لفعل. فوا حرباً مما في لزومياته عن بنات حواء! ما لنا حيلة به فلقد مات وخلد علينا مقابح الوصف ومطاعن الهجاء. ولعل له عذراً في امرأة أساءت إليه فعد كل النساء مسيئات، وغضب عليهن، وقد عرفه القوم فيلسوفاً متشائماً ناقماً على الحياة والناس أجمعين. ثم أتى على أدب العرب حين من الدهر استراحت فيه المرأة من أعدائها والساخرين منها حتى كان زمننا وجاء توفيق الحكيم

يقول الناس عن توفيق الحكيم إنه عدو المرأة، ويقول هو ذلك عن نفسه تياهاً مباهياً، ثم جد في قوله حتى كتب قصته (عدو المرأة) فعجبت له وقد ألقى سلاحه أمام ناتالي الراقصة البولونية، وعجبت من مذهبه في البغضاء فسألته هل أبغض أمه وأخواته وخالاته وعماته؟ وهل كان رجلاً من حمل به ثم ولده فملأ الدنيا بتوفيق الحكيم وشغل الناس بأدبه الرفيع؟

إذا أقام توفيق الحكيم على رأيه واستبد به فليعش في عالم غير عالمنا، فإن من جنسنا الشمس والأرض، ومن أنوثتنا الحياة. وليحص الأسماء في المعاجم فيجد فيها الكثير مؤنثاً كالمرأة، وليترك الزهرة لا يشمها والتفاحة لا يأكلها، وليعش وحده في كون من الرجال ممن طالت لحاهم وعرضت مناكبهم وخشنت أصواتهم وقست قلوبهم، وليترك النساء الرعابيب، والغيد الأماليد لغيره من الرجال

ولكن على رسله! ألم تلهمه المرأة رواياته الرائعة، ومقالاته البارعة؟ ألم تكن شهرزاد من النساء؟

إن من عرف باريس وفيها الغواني الحسان لا يكون عدو المرأة إلا إذا نهل منها حتى ارتوى وقاء كالمثخن الجريح يخرج من القتال وهو عدو له، ولكنه لا يظل محارباً عظيماً، فأهل الفروسية أبداً يدفعهم الشوق إلى استعادة الحرب

المرأة ريحانة من السماء عطر الله به جنات هذه الأرض وجعلها فيض الحنان وفتنة الوجود. أتماري - وأنت تنشد الحق - في سلطانها المطلق ومعانيها التي لا تحد؟ انظر

ص: 38

إلى المتنبي فإن خلود شعره من وحي خولة. وتطلع نحو بيرون فقد مات في سبيل امرأة من اليونان. وتذكر وريث التاج بالأمس أدوار كيف انطلق من قيود العرش ليخضع للمرأة. وإذا كنت مسلماً فإن رسولك أحب كثيراً من النساء

لم تصيخ بسمعك إلى أعداء المرأة وغلاظ القلوب؟ ألا سامح الله المعري وشوبنهور، فلقد أورثاك الشنآن، وطبعاك على التشاؤم. إنهما يسولان لك هذه البغضاء ليعطلا قصصك من مباهج الأرواح، ومتع الحياة. إنهما يريدانك على الخمول والفتور، ولئن كنت في ريب مما أقول، فاجمع كتبك واحرقها ثم أعد صفها وطبعها، وهي خلو من ذكر المرأة، كل من فيها من الأبطال، رجال في رجال، ثم انظر ماذا يكون، إنها ستبلى ويعلوها الشحوب، وهي معلقة بأبواب الوراقين، حتى إذا يئس الباعة من عرضها على المعرضين عنها نبذوها وراءهم، وطرحوها جنبات الدروب حتى يمر بها الكانس فيلمها ويرميها في مطارح الإهمال والبلى. وستمر بك أيام أشد سواداً من الليل تهدهد كبرياءك وتخمد صيتك، فينساك بعدها الناس، وتنطفئ من الأدب العربي الحديث شعلة ساطعة، فإذا صرت إلى هذا الدمار جن جنونك، وضربت بيدك منضدة الكتب، فمادت بما عليها واندلع الحبر من دواتك على القراطيس البيض، فيثور ثائرك وتحطم قلمك وتقذف به إلى حيث لا تمسك به ما حييت

أنت يا عدو المرأة فيك طبع المرأة. يقول الفلاسفة الذين أفسدوا قلبك عليه: إذا أجابت المرأة بلا فإنما هي قائلة في سرها نعم. وإذا أبغضت فقد أحبت، وإن كثيراً من النساء كن يكرهن الرجال فهوين على أقدامهم مقبلات، وما أنت يا توفيق الحكيم إلا أشد محب للمرأة وأصدق نصير لها، تملأ أحلامك بالرواء والبهاء، وتطوف بروحك كما يطوف الجمال بفنك، ونراها تسكب في فكرك سراجاً وهاجاً يضيء عبقريتك، ويلهمك البراعة والإبداع. ومن يدري فلعل وراء آثارك العظيمة امرأة تهزك وأنت تحلم، وتوحي إليك وأنت تكتب، من عندها تفجر نبوغك، ومن أنوثتها لمع نجمك حتى شهدناه مشرقاً في آداب العرب، متألقاً في سماء هذا العصر. ومن غيرك أجدر بأن يحب المرأة ويحن إليها ويحنوا عليها؟ بل ما يليق بالكاتب المبدع أن يعيش في الأرض التي لا تعطرها المرأة وتزهو على حواشيها النضرة

ليس كل النساء كجوديت؛ ولكم بين الرجال من هو (لاندرو)؛ ولن تكون الحرب إلا ليكون

ص: 39

السلم؛ فإذا شئتها عواناً مأيمة كحرب البسوس فستجدن من بيننا الكثيرات تقول كل واحدة لك: أنا عدوة الرجل

(دمشق)

وداد سكاكيني

ص: 40

‌بين الرافعي والعقاد

للأستاذ محمود محمد شاكر

قرأت ما كتب الأستاذ سيد قطب في العددين السالفين من الرسالة، وكنت حرياً ألا أعبأ بما يكتب عن الرافعي في أوان حول وفاته، وقد تهيأ أهله وأحباؤه وأصحابه تتلفت قلوبهم لذكراه الأولى بعد أن سله الموت من بينهم اغتراراً

والأستاذ سيد قطب قد أبى له حسن أدبه، وجميل رأيه، ومروءة نفسه، ونبل قلبه، وشرف مقصده، وإشراق نقده، إلا أن ينبش ماضي الرافعي وما سلف من أمره، ليستخرج حلية يتحلى بها إذ يكتب عن خصومة بين رجلين: أما أحدهما - أنسأ الله في أجله وأمتع به - فما برح يتلطف للناس بما يستجيد من عمل يجدد به مطارف آخرته؛ وأما الآخر - رحمة الله عليه - فبين يدي ربه يتقرب إليه بعمل قد أبلى به أثواب دنياه. فلولا أن الميت لا يدفع عن نفسه في ساعة موته مثل الذي كان يدفع في أيام حياته، وأن ذكر الحي أقرب إلى الناس من ذكر الميت - لكان جديراً بنا أن ندع الأستاذ المهذب الفاضل يتكلم بالذي يهوى على ما خيلت له. فليس للأدب اليوم من الحرمة، ولا فيه من النبل، ولا عليه من الحياطة والحرص، ما يحفز أحداً للمراصدة دونه أن يمتهن أو يسترذل

هذا. . .، وقد جعل الأستاذ الفاضل يستثير دفائن الإحن والأحقاد كانت بين الرافعي والعقاد، ليتخذ منها دليله الذي يفزع إليه في أحكامه!! على الرافعي. لا بل على قلب الرافعي ونفسه وإيمانه بعمله وعقيدته فيه!! ثم لم يرض بذلك حتى نفخ فيها من روح الحياة، ما جعلها مما يكتب الأحياء عن الأحياء للإيلام والإثارة، لا للجرح والتعديل والنقد؛ وكأن الفتنة عادت جذعة بين الرافعي نفسه وبين العقاد. ولقد بدا لبعض الناس رأي فيما كتب الأستاذ المهذب، ولكنا نفيناه إذ سئلنا عنه، فنحن نعلم أن العقاد لا يرضى اليوم أن يكتب مثل هذا الذي كتب عن الرافعي. ولقد ساء ظن امرئ بالعقاد ألا تكون للموت في نفسه حرمة، حتى يكون هو يعين عليه أو يرتضيه أو يسكت عنه إلا سكوت الغضب والاستهانة

فنحن إذ نكتب في رد كلام هذا الأستاذ الفاضل سيد قطب لا نبغي أن نسدد له الرأي فيما يحب أن يرى، فما علينا ضل أو اهتدى، ولا أن نقيم مذهب الرافعي على أصله وقد ذهب

ص: 41

سببه وبقي أدبه؛ ولا أن نسوء العقاد حفيظة نتوارثها له عن الرافعي أو من ذات أنفسنا، فما من شيمتنا مثل ذلك؛ كلا، بل نكتب لنميط الأذى عن حرم الموت، وكفى بالموت حقاً وجلالاً

ورحم الله الشعبي فقد كان يقول: (تعايش الناش زماناً بالدين والتقوى، ثم رفع ذلك فتعايشوا بالحياء والتذمم، ثم رفع ذلك فما يتعايش الناس اليوم إلا بالرغبة والرهبة. وأظنه سيجيء ما هو أشد من هذا) ولقد جاء وفات ما نحن فيه ظنون الشعبي. فما يتعايش الناس اليوم إلا بثلب الموتى!

وإلا فما الذي رمى في صدر الأستاذ سيد قطب بهذه الغضبة الجائحة من أجل العقاد؟ ألم يكتب الرافعي للعقاد يوم كان يملك يكتب ويقول؟ أولم يكتب العقاد للرافعي ما كتب؟ ثم نامت الثائرة ما بينهما زمناً كان حده الموت. يقول الأستاذ: إنه - هو لا العقاد - (كان مستعداً للثورة والحنق، لو تناول بعض هؤلاء - يعني الرافعي ثم مخلوفاً - أدبه! بمثل هذا الضيق في الفهم، والاستغلاق في الشعور. . .) أفكان كلام سعيد العريان - وهو يؤرخ أحقاداً قد سلها الموت إذ سل أسبابها - هو الذي أثار هذا الحي المستعد للثورة على ذلك الميت العاجز عن دفع الثورة؟ ثم ما الذي يحمله على أن يلبس هذه الثورة جلد النقد؟ والعجب أن يثير ما كتب (سعيد) حياً ليس شيئاً في الخصومة بين الرافعي والعقاد، وهو ليس يثير العقاد أحد طرفي الخصومة، وهو الذي يملك أن يقول لسعيد أخطأ أو صاب. . .! أشهد أن ما بالأستاذ قطب النقد، ولا به الأدب، ولا به تقدير أدب العقاد أو شعره. فما هو إلا الإنسان وجه يكشفه النور ويشف عما به، وباطن قد انطوى على ظلمائه فما ينفذ إلى غيبه إلا علم الله

وأنا أقدم بين يدي كلامي حقيقة لابد من تقريرها عن الرافعي والعقاد، وذلك أن الرافعي رحمه الله لو كان يرى العقاد ليس بشيء البتة، وأن أدبه كله ساقط ذاهب في السقوط، وأن وأن. . . مما كان يكتب ليغيظ به العقاد من جراء العداوة التي ضربت بينهما - لما حمل الرافعي عناء الكتابة في نقد العقاد وتزييف أدبه وإبطال أصل الشعر في شعره. ولو كان العقاد يرى الرافعي بعض رأيه الذي كتب لما تكلف الرد على الرافعي ولا التعرض له. وكم من رجل كتب عن الرافعي وعن العقاد ونال منهما وأوجع! ولأنه ليس يدخل في

ص: 42

حسابهما، ولا يقيمان لأمثاله وزناً، ولا يعبآن بقوله ونقده وثورته - فقد تركاه يقول فيكثر فيمل فيسكت. ولم يكن بين أحد منهما وبين مثله كالذي كان بين الرافعي والعقاد

فالرافعي والعقاد أديبان قد أحكما أصول صناعتيهما، كل في ناحيته وغرضه، وأفنيا الليالي والأيام والسنين في ممارسة ما هو في وإليه، وكلاهما يعلم عن عمل صاحبه مثل ما يعلم عنه، ولا يظن بأحدهما أنه يجهل قيمة الآخر. فلما كانت العداوة بأسبابها بينهما بدأت قوة تعارض قوة، ورأي يصارع رأياً، وكان في كليهما طبيعة من العنف والعرام والحدة، وولع العقاد بإرسال العبارة حين يغضب على هينتها صريحة لا صنعة فيها، وأغري الرافعي بالسخرية والمبالغة في تصوير ما نصبه لسخره وتهكمه على طريقة من الفن؛ فمن ثم ظهرت العداوة بينهما في النقد وفي أذيالها أذى كثير وغبار ملؤه القواذع والقوارص من اللفظ، وعلى جنباته صور ينشئها أحدهما لصاحبه للكيد والغيظ والحفيظة، لا يراد بها إلا ذلك. ولقد شهدت أن الذي كان يكتبه الرافعي عن العقاد لم يكن عندي مما يحملني على الحط من منزلة العقاد التي كان ينزلها في نفسي، بل أستيقن أن الذي يكتبه إنما يراد به النيل من غيظ العقاد لا من العقاد نفسه. وعلى مثل ذلك كنت أجد ما يكتبه العقاد عن الرافعي، فلم يكن نيل العقاد من الرافعي - وأنا أحبه - مما يحملني العداوة له أو يدفع بي إلى الغيظ والحنق والثورة

وخليق بنا وبآدابنا أن نطوي الآن سيئة رجلين قد تفارط أحدهما في غيب الله، وبقي الآخر تحوطه الدعوة الصالحة بطول البقاء وامتداد الأجل وسداد العمل

والكلمة الأولى من كلمتي الأستاذ سيد قطب، إنما تدور رحاها ورحى (بغضائه) للرافعي - أو كما قال - عن نفي الإنسانية عن ذلك الإنسان رحمة الله عليه، وخلوه من النفس، وفقدانه الطبع، وفقره إلى الأدب النفسي - وما إلى ذلك من لفظ قد ضل عنه معناه، وتهافت عليه حده - وأنه كان (رحمة الله عليه) ذكياً قوي الذهن، ولكنه كان مغلقاً من ناحية الطبع والأريحية، وأن أدبه كان أدب الذهن لا أدب الطبع، فيه اللمحات الذهنية الخاطفة، واللفتات العقلية القوية، ولكن الذي ينقصها أنه ليس وراءها ذخيرة نفسية، ولا طبيعة حية، إلى غير ذلك مما حفظه الأستاذ من شوارد اللفظ، وأوابد المعاني. . . وأسمع جعجعة ولا أرى طحناً

ص: 43

وأنا كنت أتنظر بالأستاذ أن يأتي في كلمته الثانية بشيء من النقد ينسي إليه ما قدم في الأولى من سوء العبارة وشنعة اللفظ في ذكر الرافعي الميت؛ ولكن خاب الفأل، وجاءت الثانية تدل من يغفل عن الدلالة البينة، على أن هذا الأستاذ الجليل لا يزال يستملي ما يكتب من بغضائه. وهان شيئاً أن يكره الأستاذ الجليل رجلاً كالرافعي حتى يأكله السل من بغضه؛ ولكن الأمر كل الأمر حيث ذهب يزعم فيما يكتب أن هذه البغضاء التي يستملي منها هي النقد، وأن أحكامه على الرافعي إنما هي أحكام قاض قد لزم المتهم حتى أنطقه واشهد عليه لسانه، فاستوعب كلامه، واستنبط الحجة عليه من ألفاظه، واستوثق للتهمة من قوله، ثم بنى (الحيثيات) من فحوى عباراته، ثم حكم وما حكم على المتهم إلا كلامه، ولا شهد عليه إلا لسانه

فلهذا كان علينا لزاماً أن ننظر في الذي أتى من كلام الرافعي، ثم قوله في فيه، واستنباطه الدلائل منه، وتحليله نفس الرافعي من لفظه حتى جعله مستغلق الطبع مسلوب العقيدة. ثم هو فوق ذلك لا يزال يبدئ ويعيد في كلامه ذكر أصدقاء الرافعي وأصحابه ويسخر منهم ويتحداهم، ويحملهم على مركب وعر، ويضطرهم بين خطتي خسف في أحكامه على الرافعي، ويخيرهم أن يختاروا للرافعي طرفاً من طرفين يحسب أنه يلزمهم شناعة من شناعاته التي سماها أحكاماً على الرافعي. وسنتولج فيما لا نحب، لا كرامة للأستاذ الجليل أو استجابة لدعائه، بل لميط الأذى عن نفس مطمئنة لحقت بالرفيق الأعلى راضية مرضية

ولولا أن يقال هَجَا نميراً

ولم نسمع لشاعرهم جوابا

رغبنا عن هجاء بني كليب

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

محمود محمد شاكر

ص: 44

‌أهمية الترجمة وحركاتها في التاريخ

2 -

الترجمة في الإسلام

صفاتها وفهمها في أوربا

للأستاذ عبد العزيز عزت

نظرية رينان

وتتلخص آراء رينان ومدرسته في فهم التراث الإسلامي الذي بني على الترجمة في القرن التاسع الميلادي في ثلاثة أفكار يجدها القارئ في المحاضرة التي ألقاها رينان بباريس عام 1883 (29 مارس)، وعنوانها (الإسلام والعلم)، والذي أوحى إليه هذه المحاضرة هو مرور الشيخ الأفغاني بباريس في ذلك الحين. فرينان نفسه يقول في كتابه (مقالات ومحاضرات) صفحة 403 (منذ شهرين عرفت الشيخ جمال الدين بفضل مساعدنا الفاضل المسيو غانم، وقليل من الناس تركوا في نفسي أثراً كأثره. إن مناقشاتي المتعددة معه هي التي دعتني أن أحول موضوع محاضرتي عن العلم والإسلام) هذه المحاضرة رد عليها الشيخ الأفغاني بتاريخ 18 مايو سنة 1883 في جريدة الديبا وعقب على هذا الرد في اليوم التالي رينان في نفس الجريدة:

أولاً - يقول رينان ما ترجمته: (يمكن أن يقرر الإنسان بسهولة تامة التأخر الواقعي لبلاد الإسلام، وتدهور الحكومات القائمة على هذه البلاد، و (انعدام الفكر) في تلك الشعوب التي تخضع لهذا الدين فقط في ثقافتها وفي تعليمها، لأن الطفل المسلم حتى العاشرة أو الثانية عشرة من عمره يلحظ فيه نوع من الذكاء؟ وفجأة عندما ينتبه إلى تعاليم دينه، تأخذه نزعة صوفية تنتقل به إلى نوع من الإغماء العقلي كنتيجة لتلك النعرة الجنونية: إن الإسلام هو الحق والحق وحده. لهذا يشعر المسلم في أعماق نفسه بنوع من الاشمئزاز للتعلم والعلم، وكذلك لفكرة الجنس والقومية لأن الإسلام يرفع الفوارق بين الأمم)

ثانياً - يقول رينان ما ترجمته (إذا كان في الحضارة الإسلامية علماء وفلاسفة، وكانت هي أثناء عدة قرون سيدة الغرب المسيحي، وإذا وجد حتى عهد ابن رشد تراث فلسفي يسمى تراثاً عربياً (لأنه كتب بالعربية)، فكل هذا في واقع الأمر كان تراثاً يونانياً فارسياً أو

ص: 45

بالأصح يونانياً، لأن العنصر الأساسي فيه أقبل من بلاد اليونان. إن الفلسفة وجدت دائماً في بلاد الإسلام ولكنها بعد عام 1200 طغت عليها الموجة الدينية وقضت عليها، وساد بعد ذلك علم (النجوم) لأنه وسيلة لتحديد أوقات العبادات)

ثالثاً: يقول رينان ما ترجمته (حركة الترجمة العجيبة التي وجدت إبان ذلك كانت كلها من وضع الفرس والنصارى، واليهود والحرانيين، والاسماعيليين، والمسلمين الذين ثاروا على دينهم، وهذه الحركة لم تلق من علماء الإسلام إلا كل اضطهاد، لأن الإسلام في واقع الأمر يعادي دائماً العلم والفلسفة، وانتهى بالقضاء عليهما. الإسلام صارم يتحكم في العبد وفي دنياه وفي أخرته، هو ذلك القيد الثقيل الذي لم تصب بمثله الإنسانية في تاريخها. . . لا يمكن أن نطلب من العلم ولا من الفلسفة احترام الإسلام، كما لا يمكن أن نطلب من المكتشفات الحديثة والعلم الحديث احترام رجال الدين عامة)

الرد على نظرية رينان

أولاً - إن ما يأخذه رينان على بلاد الإسلام من تأخر لا يمكن أن يرجع إلى الإسلام ومبادئه، لأن هذا الدين وهذه المبادئ كانت في يوم ما من أيام التاريخ وسيلة للانتشار والحضارة والتقدم أثناء ازدهار الإسلام خاصة في عهد الرشيد والمأمون وهو ما يشابه عهد شرلمان في أوروبا، وأن هذا الانتشار وهذا التقدم كان له الأثر الطيب الذي لم ينكره الأوربيون أنفسهم خصوصاً في حركة الترجمة التي قام بها علماء اليهود الأعلام في أسبانيا وآباء الكنيسة إبان القرن الثالث عشر الميلادي، وأن مرجع هذا التأخر يعزى في واقع الأمر إلى أسباب تاريخية محضة لا مذهبية هي: أن إغارة الترك والتتار والمغول، وهي أمم من (غجر) الشعوب بائسة في الفهم والحضارة، قد عاقت تقدم الإسلام ومنعت ازدهاره (اقرأ فاجيري عن الإسلام)، وبجانب هذا فإن الإسلام دين كسائر الأديان الأخرى كاليهودية والنصرانية، فما يؤخذ عليه يمكن أن يؤخذ على هذه الأديان؛ ومع ذلك فهو يمتاز عنها بأنه لا يمكن للباحث أن يعثر فيه على نص يحرم به العلم والتعلم كالذي نجده مثلاً في (الإنجيل) باب القديس بولس، البند الخامس. ثم لا تجد في الإسلام قوة تتوسط بين الله والعبد تسيطر عليه باسمه تعالى كسيطرة الكنيسة إبان القرون الوسطى. وكذلك في العهد الحديث تجد فرقاً بين أن يطلع القارئ على ما كتبه شيخ الإسلام فضيلة الأستاذ الأكبر

ص: 46

محمد مصطفى المراغي عن (الإخاء في الإسلام) - وقانون الكنيسة الصادر في 5 سبتمبر سنة 1908 الذي به يحرم بيوس العاشر على أتباعه المساهمة في الحركة العلمية الحديثة، واضطهاد روح التجديد في كل شيء.

ثانياً - أما أن تكون الثقافة الإسلامية في أساسها ثقافة يونانية، فهذا ليس بعيب على الإسلام، لأن المطلع على نهضات الأمم في التاريخ يقرر أن هذه النهضات بنيت دائماً على عنصرين أولاً: عنصر الإيمان الذي هو السبيل الوحيد للتسيطر على النزعات الجامحة (لقطيع) البشر والوصول بهذا الجمع الحاشد من عباد الله إلى أنبل الغايات الدنيوية والأخروية. وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق الدين والثاني: هو عنصر العقل الذي هو السبيل لتهذيب ملكات السادة من الناس ومن يتصدى للرياسة وهذا عن طريق العلم، والعرب في هذا الباب آصل من الرومان والأمم الأوربية الحديثة أولاً: لأنهم خلقوا هجرة الإيمان بخلق دين (جديد) يمثل (عبقريتهم الخاصة) وطابعهم الخاص وفرضوه على الناس بالخيار، وهذا ما لم يصل إليه من تقدم ذكرهم من الشعوب. ثانياً: أنهم مهدوا لخلق هجرة العقل وهم في ذلك مثل سائر الأمم وإنما فاقوهم فقط في أن ترجماتهم كانت أكمل وكانت أصح، وعن هذه الترجمة نقلت الترجمات اليهودية والنصرانية، وعن هذه الترجمات الأخيرة خلق أرسطو من جديد في أوروبا إبان القرن الثالث عشر فكان (بدعة) وثنية في وسط سادت فيه المسيحية بنزعتها الصليبية، وهذا مهد حرب العقل الحديثة بين باكون وديكارت من ناحية، وأرسطو العربي المغترب من ناحية أخرى

ثالثاً - أما أن يأخذ رينان على حضارة الإسلام أنها حضارة بنيت على عناصر خارجية كالفرس والنصارى واليهود. . . وهلم جرا، فالتاريخ يحدثنا أن الحضارة المسيحية في القرون الوسطى بنيت أيضا على مثل ذلك، فالمذهب الرسمي للتفكير في المسيحية هو مذهب للقديس توماس (اطلع على مكتوب الكنيسة الصادر في 14 يناير سنة 1904) وهذا المذهب يتأثر بمذهب أرسطو وبني في أصله على حركة الترجمة في القرن الثالث عشر في باريس، وزعيم هذه الحركة وأستاذ القديس توماس نفسه: هو القديس ألبير الكبير وهو ألماني الأصل وساعده في أبحاثه علماء اليهود في إسبانيا لأن علم العرب انتقل إليهم في ذلك الحين، (اقرأ منك في كتابه (الفلسفة العربية واليهودية)) ولهذا عندما يهتم الكردينال

ص: 47

مرسييه بإصلاح التعليم الكاثوليكي ضد حركة التجديد في القرن العشرين يقول حسب تعاليم الكنيسة بتعلم اللغة العربية حتى يقف المسيحيون في أوروبا على وصول مذهب القديس توماس (اقرأ مكتوب الكنيسة الصادر في 27 مارس سنة 1906)، ثم إن العناصر الخارجية في أي زمان وفي أي مكان هي قانون عام بين الأمم لتبادل الثقافة. فالآن الخبراء العالميون ينتقلون من وطن إلى وطن في أرقى الأمم المتحضرة، والجنود المأجورة أو المساعدة في الحروب تفعل مثل ذلك، وفي فرنسا مثلاً الآن كثير من زعماء الفكر من أصل أجنبي كالفيلسوف الخالد برغسون وكذلك مدام كربيه، العلامة المشهور ميرسن، بل إن أستاذ اللغة الفرنسية نفسها في السربون (سيبويه الفرنسي) من أصل خارجي وهو العلامة فرتينا ستروفسكي، ومع ذلك فإن أحداً من الناس لا يمكن أن يشك في أن هناك حضارة فرنسية قائمة وأن أثرها معروف في العالم

ومجمل القول أن رينان هذا رجل يؤمن قبل كل اعتبار بالمذهب الوضعي، وهو مذهب (العلم) الحديث الذي يبنى على المنهج التجريبي الرياضي في العلوم الطبيعية، ويسعى أن يجعل من علوم الإنسان الأدبية علوماً لا تقل دقة في أبحاثها عن العلوم المتقدمة. وهذا الفهم في نظر اتباع هذا المذهب يناقض في أصوله ما ساد في تاريخ البشرية من نزعات الفكر التي تتلخص في نظرهم في نزعة دينية قالت بالوثنية تارة، وبعبادة مظاهر الطبيعة تارة أخرى، وبالتأليه تارة ثالثة، ونزعة تجريدية خالصة يمثلها العهد اليوناني وهي تبنى كأساس على منطق أرسطو، والفلسفة الإسلامية تتبع هذا العهد. لهذا خرج رينان على المسيحية، ولهذا أيضاً اعتبر الترجمة في الإسلام كنقل حرفي أي الفلسفة اليونانية (مخطوطة) بحروف عربية، وهذه الترجمة ما هي إلا ترجمة مؤلفات أرسطو (بالذات)، وتعاليم هذا الفيلسوف هي (الوحيدة) التي سادت التراث الإسلامي من أوله إلى آخره، وأن هذه الفلسفة لاقت الاضطهاد من علماء الإسلام لأن هذا الدين ضد حرية الرأي والتفكير، فعداء رينان للإسلام وترجمته وفلسفته، عداء يتعلق إذاً بمذهبه العام الذي ساد في فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر. لهذا لزم أن يضاف إلى ردود من عقب على كتاباته من المسلمين رد جديد ملخص يشتق من طبيعة الآراء والمعارف في القرن العشرين.

عبد العزيز عزت

ص: 48

عضو بعثة الجامعة المصرية لدكتوراه الدولة

ص: 49

‌من برجنا العاجي

في ورقة منفصلة بين مخلفات (بتهوفن) وجدت هذه الأسطر الدامعة: (الحب، ليس غير الحب، هو وحده الذي يستطيع أن يجعل حياتك سعيدة. آه يا إلهي، دعني أجدها أخيراً، تلك التي في مقدورها أن تدعم فضائلي، تلك التي قد سمح لي أن تكون زوجتي)

ومات بتهوفن ولم يسمح له. أترى الطبيعة عدوة الفنان، تضن عليه بما تمنحه للآخرين؟ نعم. إنها لتقسو عليه، وإنها لتغار منه أحياناً وتقول له في لغتها الصامتة البليغة:

- أنت تطلب ألي أنا أن أمنحك الحب؟ لا، إني أمنحه كل الناس إلا أنت. إني أمنحه أولئك المساكين الذين لا يستطيعون أن يخلقوا شيئاً؛ أما أنت فتستطيع أنت نفسك أن تخلق (الحب). إنك مثلي عبقرية خالقة. كل عملك في هذا الوجود أن تصنع (الحب) وتمنحه الناس.

وهكذا تتخلى الطبيعة غالباً عن الفنانين العظام، وتتركهم يبحثون سدىً عن السعادة فلا يجدونها كما يجدها الآخرون ملقاة كالفاكهة الناضجة ساقطة تحت الأشجار. إنما هي شيء بعيد، كلما مدوا إليه أيديهم ابتعد عنهم وتركهم يائسين. عندئذ ينكبون طول حياتهم على كنوز نفوسهم وحدائقها اليانعة يستخرجون منها للناس فاكهة من ذهب وفضة، تقصر الطبيعة أحياناً عن تقديم مثلها. ولكن الطبيعة تنظر إلى الفنان نظرة التشفي مع بسمة السخرية

- أفهمتني الآن، وعلمت أن كلينا يعيش في الحرمان، وأن سر وجودنا أن نعطي ولا نأخذ؟

فيقول لها الفنان في نبرة ألم:

- نعم، ولكنك أنت الطبيعة. أما أنا فآدمي مسكين. إنك لا تتألمين، أما أنا فأتألم؛ إذ أرى الحياة تزول من تحت قدمي، ولم يسمح لي بحظ قليل من الهناء الذي يسخى به على الآدميين!

على الآدميين؟ ومن قال إنك منهم؟ عندما وضع على منكبيك رداء (العبقرية والخلود خلع عنك في الحال بعض خصائص الآدميين!

توفيق الحكيم

ص: 50

‌إيضاح وتعليق

بحث في الرمزية

للأستاذ زكي طليمات

مفتش التمثيل بوزارة المعارف

نشر الأستاذ الدكتور بشر فارس تعليقاً ضافياً في المذهب الرمزي نشرته الرسالة في عددها رقم 251 جاء تكملة لبحثه القيم الذي صدر به روايته (مفرق الطريق)

والحديث في الرمزية شيء يطول، فلا تحلو مطالعته في مجلة تحرص على أن تقدم لقرائها نبعة من كل ينبوع

بيد أنه يعنيني من تعليق الأستاذ شيئان لهما اتصال وثيق بما سبق أن نشرته عن الرمزية في هذه المجلة منذ ثلاثة أسابيع. .

الأمر الأول هو ابتهاج الدكتور بشر بأن يراني أعمد إلى بعض تراكيب جرت في توطئة مسرحيته المذكورة في التعبير عن معان وألوان في الرمزية. وهاأنذا أبادر بتسجيل ما يزيد في ابتهاج الأستاذ الدكتور، بل ويبعث زهوه، فأصرح بأنني حقاً عمدت إلى اقتباس تركيبين أو ثلاثة تراكيب وجدت فيها التعبير الكامل عن خلجات وآراء كانت تجول في نفسي منذ أن كنت أدرس الرمزية في الإخراج والتمثيل في معاهد أوربا. ولا يسعني إلا أن أهنئ الأستاذ الدكتور على توفيقه في إيجاد هذه التراكيب وإطلاقها حية قوية تنبض بالمعنى البكر، وتشق طريقها بين التراكيب الفنية والأدبية لتستقر في صلب اللغة العربية

أما الأمر الثاني، فالتباس عرض للأستاذ الدكتور حينما أردت أن افرق بين طبع الدكتور فارس وطبع غيره ممن عالجوا الرمزية من قريب أو من بعيد، فأجريت في مقالي الثاني ما نصه:(فبشر فارس وتوفيق الحكيم يغترفان من مصدر واحد، الأول يكتب متثبتاً بما تلقنه. . .)

ولا يسعني أن أعلق على هذا قبل أن أبدي عجبي من ذلك الالتباس الذي خالط ذهن الدكتور؛ إذ المعنى جلي واضح العبارة، يزيده إيضاحاً ما أوردته في صلب ذلك المقال، وفي نقدي السابق لمسرحيته (مفرق الطريق) الذي نشرته الرسالة قبل بحثي في الرمزية.

ص: 51

قلت: إن بشر فارس وغيره من الكتاب الشرقيين يغترفون من معين واحد؛ وإذا اغترف كاتب من معين، فمعناه أنه تلقن مبادئ وأساليب معينة. إلا أن هناك من يكتب وقد اخذ متثبتاً بما تلقنه، ومن يكتب وقد خالط ما تلقنه خيال طارئ

هذا وقد أعطيت الشيطان حقه حينما أنصفت بشر وتوفيق الحكيم بما نصه: (إلا أن لكل منهما طرائقه في التعبير عن رمزيته) فالأستاذان كاتبان مجيدان في الرمزية، ولكل منهما سحره فيما يكتب، ولا يضير الاثنين أنهما يصدران عن نبعة واحدة مادامت طرائق كل منهما تحمل طابع شخصية مستقلة

وزيادة في الإيضاح أقول إن منحى بشر فارس في الرمزية هو منحى يقوم على التأثر الدفين تمازجه الوجدانيات والفلسفة، في حين أن منحى الأستاذ توفيق الحكيم يأخذ سمت السخرية بالعواطف ليدلل على إفلاسها أو ليناقش عابثاً هازئاً بمدركات مجردة؛ وكلتا الرمزيتين لها طلاوتها، ولها فلسفتها، ولها أسلوبها في الكشف عن الغامض والمبهم والتائه في لفائف الروح

أما ما ذهب إليه الدكتور فارس من أن مسرحيته تستقر في الرمزية المستحدثة - فأمر لا يغير شيئاً من منحى مسرحيته مادامت تصعد إلى الرمزية الأولى التي شرحناها أنا والدكتور بشر. فروايات (إدمون روستان) مثلاً تعتبر من صميم الرومانسية، وهي مع ذلك من الرومانسية المستحدثة كما يقول النقاد

وما الرمزية إلا خلجة من خلجات النفس خرجت ولها طابع خاص لم يلبث أن خالطته ألوان نفسية جديدة قد تحور من مظاهرها وتبدل من أشكالها، ولكنها لا تطغي على صميمها؛ وشأنها في ذلك شأن أية عاطفة بشرية. ولو أردنا أن نحصي الألوان التي داخلت الرمزية منذ نشأتها لتعذر علينا البحث ولأعيانا الأمر ولوقفنا موقف من يريد أن يقسم الشعرة الواحدة من الرأس إلى أربعة أقسام كما يقول الفرنسيون!

يبقى بعد هذا أن أبدي سروري بأنني كنت في طليعة من نوه بمقام مسرحية (مفرق الطريق) وأنا الرجل الذي يشغله المسرح عن كل شيء عداه. ويسرني أيضا أن أرى هذه المسرحية تشغل تفكير نخبة من الأدباء أمثال أمين الريحاني وميخائيل نعيمة، وحافظ محمود، وكامل محمود حبيب، والأب العلامة الكرملي، وصديق شيبوب وغيرهم. وأعجب

ص: 52

وفي مصر نخبة من الأدباء الذي يجردون أقلامهم لكل حادث أدبي، كيف أن هذه المسرحية الطريفة لم تحرك أقلامهم بالكتابة لها أو عليها، والرواية كما قلت من قبل حدث في الأدب العربي الحديث!

زكي طليمات

ص: 53

‌جولة في معرض الفنون

بقلم نصري عطا الله سوس

يقول بول فاليري في معرض الكلام عن قصيدته (المقبرة البحرية) إنه ليس من حق الشاعر أن يفرض على قارئه معنى خاصاً لقصيدته ولا أن يفسرها له. فالشاعر قد فسر شعوره في أبياته فما معنى تفسير هذه الأبيات بعد ذلك؟ إن التفسير لا يكون إلا في حالة العجز والقصور. فلكل قارئ أن يستخلص ما يشاء إلا إذا كان ممن عناهم المتنبي بقوله: -

ومن يك ذا فم مرٍ مَرِيض

يجد مُراً به الماء الزُّلالا

فالشاعر قيثارة تستنطقها الطبيعة ألحاناً تختلف النفوس في تلقي موحياتها وتفسير معانيها؛ والنفس الإنسانية أوسع وأرحب من أن يحدها تفسير. وما يجهله الإنسان من نفسه ومما حوله أكثر مما يعرفه معرفة اليقين. والفن رسالة توحيها النفس الباطنة أكثر مما توحيها النفس الواعية. والنفس الباطنة كثيراً ما تلغز وترمز دون أن توضح

وكان الموسيقي الكبير (رافيل) يقول: ليس هناك (فنون) بل هناك (فن)، فن واحد يبدو طوراً ألحاناً خالصة، وطوراً كلمات منظومة، وطوراً خطوطاً وألواناً، صور مختلفة تعبر فيها الروح القوية عن مشاعرها واحساساتها - ومن هنا ترى أن ما قاله بول فاليري عن الشاعر ينطبق تماماً على الفنان. ولما كنت أعتقد أن الفن تعبير قبل كل شيء، فقد ذهبت إلى معرض الصور وأنا أقول لنفسي:(انتبه. تبين أي الصور ستوجه نفسك إلى نواحي جديدة في الحياة لم تسعفك تجاربك بتمليها؟ وأي الصور ستجدد وتعمق إحساساتك بما عرفته وحبرته. .)

يتفاوت مستوى الإجادة الفنية بين العارضين تفاوتاً كبيراً؛ فإلى جانب الصور القوية الناضجة نجد صوراً تذكرنا بما كنا نلقاه في كتب المطالعة الابتدائية من صور؛ ولا ندري كيف تسربت هذه إلى المعرض. ونسبة العارضين من الطلبة كبيرة جداً. وقد راعنا فقدان الروح الفنية بينهم تماماً. والفنان كالشاعر يولد ولا يصنع. ومدارس هؤلاء تعلمهم إتقان الرسم والتعبير، ولكن التعبير عن ماذا؟؟ هذا ما نحب أن نسأل عنه فناني الجيل المقبل. . وأغلب من حادثتهم من العارضين لا يهتمون إلا بطريقتهم في رسم الصورة. وهذا قصور بارز، ولعله أكبر آفة تحل ببعض الفنانين المعروفين. فكل يريد أن يكون زعيم مدرسة

ص: 54

وصاحب طريقة خاصة يعرف بها وتنسب إليه. وهذا جميل ومعقول بشرط أن يكون تلقائياً ويتطلبه مثل الفنان الأعلى ومنزعه. وأما أن يركب الفنان الشطط لا لغاية أكثر من الشهرة والاختلاف عن غيره، فهذا ما لا يرضاه الفن. فلست أدري ما الذي يدعو الأستاذ راغب عياد مثلاً إلى أن يقصر فنه على دراسة الأسواق وما شاكلها من نواحي الحياة المصرية التي سيأتي عليها الزمن بعد حين. قيل لنا إن عياداً يود أن يخلق فناً محلياً. وهذه رغبة نبيلة دون شك، ولكن الفن المحلي الذي يموت لتوه إذا نقل إلى بلد آخر، غير جدير باسم الفن. ومحلية الفن لا تتنافى مع عالميته. فالفن الإغريقي القديم له مميزات خاصة (وكذا المصري القديم والإيطالي في عهد النهضة) تمليها البيئة التي نشأ فيها، ولكن هذا لم يمنعه من أن يكون فناً عالمياً يدرس ويستوحي في كل مكان

ويظهر أننا نخطئ فهم كلمة (محلي) كثيراً. فالفنان عالمي الذات بطبعه وروحه؛ والفن القوي يحقق شرطين: (1) القدرة على البقاء والاستمرار (2) العالمية. ولكن عندما يعمد الفنان إلى رسم رقصات روحه وهمسات نفسه مضطر إلى أن يختار لها أشكالاً وألواناً مما حوله أي من البيئة التي يعيش فيها. وكذا (روح العصر) تدفع الفنان إلى أن يبرز ويؤكد بعض نواحي الحياة ويترك بعضها. فهو يبين لنا تفاعله مع عصره بتوجيه الأنظار إلى ما هو خافٍ، وتشنيع ما هو مستهجن، وتمجيد كل ما هو نبيل، وهكذا. ولكن عناصر الحياة هي هي في كل زمان ومكان. والبيئة والعصر عاملان لا يكتمل فن بدونهما، ولكن جوهر الفن واحد في كل زمان ومكان

وحسبنا بعد ذلك أن نذكر أهم الفنانين:

لا مراء في أن الأستاذ محمود بك سعيد أبرز العارضين وأعمقهم شاعرية وإحساساً، وفنه يفرض نفسه عليك فرضاً: فن ممتلئ قوة ودماً، ورسوم تكاد من فرط حيويتها تترك لوحاتها وتشارك الأحياء حركة وكلاماً. والفنان يشعرك أنه يحب الحياة حباً لا نهاية له، ويمجد جمالها تمجيداً تقصر عنه الكلمات وتقربه الألوان إلى النفس بعض الشيء، وألوانه القوية تقول لك إنه يعتقد أن الحياة جميلة غنية محببة عميقة لا تعرف نفسه سبيلاً إلى الارتواء والاكتفاء مهما عب من معينها. وتجتمع عند الأستاذ سعيد خواص قلما تجتمع عند غيره، أهمها التوفيق بين التعبير العاطفي القوي مع محاكاة الطبيعة. وفنه خير مثال للتعريف

ص: 55

القائل بأن الفن هو الطبيعة وشعور الفنان مجتمعين

ولا أعرف أقصداً أم صدفة جاءت لوحات السيدة إيمي نمر قبالة لوحات سعيد بك، وفن السيدة الفاضلة فن قوي ولكنه نقيض فن سعيد تماماً. ألوان سعيد تدل على الحيوية والفرج؛ أما فن السيدة إيمي فهو قاتم حزين، وألوانها توحي للنفس تأمل الفيلسوف الزاهد الذي يركز بصره على الناحية القاتمة من الحياة. وأي نفس لا تهش لمنظر البحر ويطربها انعكاس الألوان والأضواء على سطحه، وتسلسل أنغامه، وجيشان أمواجه وما ترسم على وجهه الريح من رموز وأسرار، ولكن الفنانة تتغاضى عن كل هذا وترسم لك (منظر تحت سطح البحر) وماذا تعرض عليك؟ عدة هياكل عظيمة (ومنظر طبيعي) يمثل الخريف بأقفاره وسهومه ووجومه، (والأمومة) يخالط الأم فيها البؤس والشقاء وعبء الأمومة مع ما فيها من حنان، (ومكتوفة اليدين) أبلغ ما يمثل لك الحيرة والبؤس والأسى وتفاهة الحياة مجتمعة - ولوحاتها تدل على أن طاقتها الفنية عميقة جداً

وفن السيدة برسيلون نوس (مصرية) فن ناضج، ويتمثل نضوجها في اختيار الألوان بحيث تعبر عن الجو العاطفي للصورة. وأحسن ما يبدو هذا في (الكهولة) حيث يغلب اللون الأصفر الممزوج بالأحمر؛ وفي (الرجل والزجاجة) - أما (رأس صعيدي) فتمثل روح الوجه القبلي تماماً، و (رأس امرأة مصرية) تكاد تنطق روعة وشباباً. وبالجملة فهي رسامة شاعرة

وقد قال لي بعض من يعرفون الأستاذ حسين محمد بدوي إنه لا يعرض (فناً) وإنما يعرض طريقته الخاصة. وعلى كل فرسومه تدل على مقدرة فائقة، ولكن هذا ليس كل شيء، فما فائدة مقدرة لا يعرف صاحبها كيف يستخدمها. وطريقة الأستاذ لا تتفق إلا وموضوعات وحالات نفسية معينة لو تعدتها إلى غيرها تضر ولا تنفع. ولو عني الأستاذ بهذه الناحية لكان فنه أوقع وأمتع وأبدع. وفن الأستاذ نجيب أسعد يغري بالمقارنة بفن الأستاذ حبيب جورجي؛ إلا أن الأخير أرحب روحاً وأعمق نفساً. فمناظر الكنائس والأديرة التي رسمها الأستاذ جورجي يبدو فيها جلال الدين وقداسته. أما تلك التي رسمها الأستاذ اسعد ففيها تبدو الوحشة والكآبة التي تخيم على مثل هذه الأماكن. وهناك رسوم تدل على تمكن أصحابها من الرسم، ولكن تنقصهم الرحابة الفنية. وأهم هؤلاء هم الأساتذة محمد محبوب، ولبيب

ص: 56

أيوب (وحسبه (العود) فهي لا عيب فيها) ونعيم جاب الله، وإن كانت رسوم الأخير تدل على فهم تام بطبيعة الألوان وذوق دقيق في اختيارها

وهناك طبقة أخرى اكتفت بأن حاكت الطبيعة محاكاة تامة، ولوحاتهم تدل على تمكن من الصنعة ودقة ملاحظة، ولكن لا أثر للفن فيها، لأن الفن شيء والمحاكاة الفوتوغرافية شيء آخر. وأبرز هؤلاء الأساتذة إدموند صوصه، وهيدايت دانش وجورج صباغ

وعدد الصور الآدمية في المعرض كبير جداً. وهذه ناحية من نواحي الفن التي يقل فيها المجيدون، لأن الغرض منها ليس نقل الملامح فقط بل نفسية الشخص ومميزاته الخلقية. ولذا فالفنان مجبر على دراسة من يتصدى لرسم صورته دراسة نفسية عميقة قبل أن يتناول ريشته. ولهذه الكثرة تفسير نفسي مقبول، وهي أن النوازع النفسية التي تدفع الفنان إلى رسم الأشخاص تختلف، وبعض هذه الدوافع تنتج فناً أصيلاً، وبعضها ينتج فناً زائفاً - مثال هذه الأخيرة حب المدح وحب السيطرة والتملك. والفنان الأصيل يحلل مشاعره قبل أن يرسم

وهناك فنان شاب هو موريس فريد، ولفنه ميزات بارزة أهمها اندماجه النفساني في جو الموضوعات التي اختارها للوحاته، وألوانه

وخطوطه تمتازان ببساطة معبرة تلائم روح المناظر الطبيعية التي تمثل سلام الطبيعة وسكونها وصفاء شمس مصر

أما في فن النحت فمن أحسن العارضين الفنان الشاب فتحي محمود علي؛ وحسبه (الأمومة)، ففيها كل العناصر التي يتألف منها الفن الناضج؛ وأديب يس يوسف وإن كان فنه فجاً بعض الشيء إلا أنه يحتوي على العوامل التي تصلح أساساً متيناً لفن قوي ممتاز، والفنان الإيطالي فيتوريو روسين

وأرجو أن يتاح لي أن أنشر في الرسالة قريباً سلسلة من المقالات أبين فيها فلسفة الفن الحديث وأصوله ومذاهب الفنانين المختلفة ومميزات كل مدرسة، وأعرض للنواحي البارزة لفن كل أمة. ورغبتي المتواضعة هي أن يتاح لدارس الفن ومحبيه الاطلاع على هذه النواحي ودرسها فقد لاحظت أنها مجهولة تماماً بين كل من تعرفت إليهم. كما أن صور أغلبية من لا أعرفهم لا تدل على عرفانهم إياها

ص: 57

نصري عطا الله سوس

ص: 58

‌بعد عام

مصطفى صادق الرافعي

للأديب أحمد فتحي

تلكَ أنغامُهُ، وهذا نشيدُهْ

رَنَّ في مِسْمَع العُلي ترديدُهْ

أَسْعَدَ الليلَ بالأغاريد، حتى

غمر الليلَ بالمنَى، غِرِّيدهْ!

هاكَ أعوادَهُ تمايَلُ في الرَّوْ

ضِ، فتهفُو إلى ذَرَاها وُرودُه

كلما هَمَّ بالغِناءِ تَثنى

مثل لَيْلَايَ في المشارِفِ عُودُه

طائر دَفَّ في الدُّجَى بجناحَيْ

هِ على النَّهْلِ يُسْتَسَاغ ورودهْ

كلما شارف المواردَ رَدَّتْ

هُ شجونٌ يضجُّ منها جليدُهْ!

قَبَّلَ الطلُّ خَدَّهُ، وتَمادَى

نحو ثغرٍ يحكي الرُّضاب بَرودُهْ

وترامى الدجى على قدميه

والليالي كأنهن عبيدُهْ!

وهو هيمانُ ما يَرُدُّ سؤالاً

بيض أفكارِهِ سواءٌ وسُودُهْ

إن طَوَتْ ذِكْرَهُ الليالي فمازا

لَ عزيزاً، قديمُهُ، وجديدُهْ

إيه يا مصطفى، وقد طُوِىَ العا

مُ، ورَفَّتْ على البرايا بُنُودُه

كيف أصبَحْت في مكانك بالخُل

د، وَأيْنَت صلاتُهُ وسجودهْ

عيشُنَا عارياتُ ربكَ في الدُّن

يا، وللمُتَّقينَ فيها خُلوُدُه

يعشقُ الناسُ في مباهجِهِ المجْ

دَ ويَفْنَى طريفُهُ وتَلِيدُه

ما ترى في معاشر جحدوا الشِّع

رَ وقد طابَ في ذَراهُهْم جُحودُهْ

إنَّ منه لحكمةً تترك الَقلْ

بَ قعيداً يملُّ منه قُعُودُه!

فيمَ سَعْيُ الأنام والعيش نَجْمٌ

يبهرُ العين نحسه وسُعُودُه؟

زخرفٌ كُلهَا الحياةُ احتواها

أمَلٌ يَخْدَعُ الرجالَ شرودُه!

ما ترى العينُ غيرَ مُلكٍ من الوَهْ

مِ تناهَتْ سهولُهُ ونجودهْ

سَرِّحِ الطرف، هل تَرَى غير خلق

يتباكى شَقيُّهُ وسعيدُهْ؟!

كذب كلها الحياةْ، وعمرٌ

ليس يبقَى قصيرُهُ ومديدُه!

يا فقيدَ البيان، والشعر وَحْيٌ

مِنْ عُيونِ السماء تَهْمي قصيدهْ

ص: 59

قد حفظنا عهودَهُ، لم نُضِعْهَا

ولقد طالما أُضيعَتْ عُهُودُهْ

ظَلَّ فينا القريضُ قُدْسَ تراثٍ

أنا بَشَّارُه، وأنتَ لبيدُهْ!

شَدَّ مَا ضلَّ فِتْيَةٌ رغبوا للتَّحْ

ويرَ فيه، وشَاقَهُمْ تجديدُهْ

زعموا الشعر كالثياب، بعصر

يَتَشَهَّى استحداثَها فيه غِيدهُ

قَلدُوا الغَرْبَ في نظام القوافي

وهي عِقْدٌ ما ينبغي تَقْلِيدُهْ!

أين تلك الحصباءُ من ذلك الدرْ

رِ صحيحاً يَتِيمهُ وفريدُهْ!؟

يا حبيبَ القران، وهو بيانٌ

لاحَ إعجازُهُ وَعَيَّ حَسُودُهْ

لم تزلْ هاتفاً به تَتَغَنَّى

يبعثُ السِّلمَ في النفوس نشيدُه

لك من طُهر آيه بركاتٌ

تُجْزِلُ الأجر للتُّقَى وتزيدُهْ

إن شكوتَ الجحود في ظل دهرٍ

قد تساوَتْ جَراؤُهُ وأُسُوده!

فَلَكَ الغاية التي وَعَدَ الله

ويا حُسْنَ ما أعدَّتْ وعوده

جَنَّةً عَرْضُهَا السماواتُ والأرْ

ضُ، وظلاً ما ينطوي ممدوُه

(القاهرة)

احمد فتحي

ص: 60

‌القصص

مطالعات في (ألف ليلة وليلة)

عبد الله البري وعبد الله البحري

قصة فلسفية دينية

للدكتور حسين فوزي

إنني أراه هذا الصياد المعدم وقد عاد من صيده فارغ الجعبة ينتظره بالبيت تسعة عيال وأمهم التي وضعت في هذا اليوم بالذات مولودها العاشر. أراه في عودته واقفاً بباب الخباز وسط الزحام وكان (وقت غلاء، ولا يوجد عند الناس من المؤن إلا القليل في تلك الأيام)، يرمق الأرغفة المتراصة بنظر زائغ، ويستعبر رائحة (العيش السخن) تشتهيه نفسه. أراه ماثلاً أمامي هذا الصياد (الغلبان) خرج صباح اليوم يلقي الشبكة (على بخت المولود الجديد) فلا تصيد إلا رملاً وحصى وأعشاباً. وهو يتساءل (كيف يخلق الله هذا المولود من غير رزق) وقد حفظ من أقوال الأقدمين:(من شق الأشداق، تكفل لها بالأرزاق، فالله تعالى كريم رزاق)

وإذا بالخباز يناديه ويسأله إن كان يطلب خبزاً. ثم يلح عليه في أن يحمل منه ما يريد فهو صابر عليه حتى يأتيه الخير. ويرضى الصياد على شريطة أن يقدم شبكته رهناً، فيرفض الخباز احتجاز الشبكة التي يقوم عليها أود الصياد، ويعطيه خبزاً بعشرة أنصاف فضة، ويقدم له عشرة أنصاف فضة (ليطبخ بها طبخة). على أن يجيئه بسمكة في الغد.

وفي اليوم التالي يخفق في صيده كما أخفق في اليوم السابق، فيخجل أن يقف بباب الخباز. بل هو يعجل بخطاه أما حانوته ولكن الخباز يناديه قائلاً (يا صياد، تعال خذ عيشك ومصروفك فإنك نسيت). ودام الحال على هذا أربعين يوماً حتى سئم الصياد هذه الحياة، وود أن لم يكن المخبز في طريقه إلى البحر حتى لا يضطر إلى المرور بالخباز الكريم. ولكن زوجه تشجعه على المضي إلى البحر، وتشكر الله الذي قيض لهم هذا المحسن

ويذهب الصياد إلى البحر في اليوم الواحد والأربعين وهو يدعو الله أن يرزقه (ولو بسمكة واحدة يهديها للخباز): وإذا بالشبكة متثاقلة يسحبها في مشقة. حتى إذا هي عادت إليه ألفاها

ص: 61

تحمل. . . حماراً ميتاً! وهرب من الرائحة الكريهة إلى ناحية أخرى من الشاطئ. وتثاقلت عليه الشبكة أكثر من المرة السابقة، حتى إذا ما جذبها إليه خرج منها رجل حسبه الصياد (عفريتاً ممن اعتاد سليمان أن يحبسهم في القماقم يرمي بها إلى البحر). وصاح الصياد:

- الأمان، يا عفريت سليمان!

فيجيبه الرجل:

- تعال يا صياد، لا تهرب مني فأنا آدمي مثلك. خلصني لتنال أجري.

يخلصه الصياد ويعلم من أمره أنه ليس عفريتاً من الجن. فيسأله عمن رماه في البحر، ويجيبه بأن البحر مقره ومثواه. فهو من (أولاد البحر) وقع بالشبكة صدفة، وكان بوسعه أن يقطعها ليخلص نفسه، لولا أنه (راض بما قدر الله). ويسأل الصياد أن يعتقه (ابتغاء لوجه الله). ويتفق وإياه أن يجتمعا في ذلك الموضع كل يوم، فيأتيه الصياد بفواكه البر (وعندكم منها العنب والتين والبطيخ والخوخ والرمان وغير ذلك) ويأتيه هو (بمعادن البحر من مرجان ولؤلؤ وزبرجد وزمرد وياقوت وغير ذلك).

ويقرآن الفاتحة، ويخلصه الصياد من الشبكة ثم يتفقان أن ينادي الصياد عليه من البر كلما أراد، قائلاً (أين أنت يا عبد الله يا بحري!) فيلبي.

- والآن ما اسمك أيها الصياد؟

- اسمي عبد الله

- أنت إذن عبد الله البري، وأنا عبد الله البحري. انتظر حتى آتي لك بهدية

ويختفي عبد الله البحري في الماء هنيهة تبدو لعبد الله البري كأنها دهر. ويتأسف على تركه هذا المخلوق يفلت من يديه، وكان في استطاعته أن يأخذه إلى المدينة يعرضه في الأسواق، ويدخل به (بيوت الأكابر)

ويعود عبد الله البحري باللؤلؤ والمرجان والزمرد والياقوت ملء اليدين. ويعتذر لأخيه عبد الله البري عن عدم تمكنه من أن يحمل اله أكثر من ذلك. ولو أن (عنده مشنة لملأها له) ويتواعدان على اللقاء في الأيام التالية

وغدا عبد الله البري رجلاً واسع الثروة بفضل صداقته لسميه البحري. وقد أخفى سره إلا عن الخباز الذي أحسن إليه في عسره. وراح يقاسمه الجواهر البحرية

ص: 62

ولكن هذه الثروة المفاجئة تستثير شكوك الناس. وينتهي الأمر إلى أن يتهمه شيخ الجوهرية بسرقة حلي ابنة الملك. ويقتاده الحرس إلى القصر، فتنكر الأميرة أن هذه جواهرها. وترسل إلى والدها من يقول له بأن بعض اللآلئ أجمل من لآلئ عقدها. فيغضب الملك وينهر شيخ الجوهرية وأتباعه. فإذا اعتذر الرجل بأن (الصياد كان فقيراً فاستكثرنا عليه هذا الغنى المفاجئ) صاح الملك فيه وفيمن حوله:(أتستكثرون النعمة على مؤمن؟ اخرجوا لا بارك الله فيكم)

وسأل الصياد عن قصته فسردها عليه. وهنا يطأطأ الملك الحكيم رأسه هنيهة ثم يرفعه قائلاً:

- يا رجل هذا نصيبك. ولكن المال يحتاج إلى الجاه، وأنا أسندك بجاهي

ثم يزوجه ابنته ويقيمه وزيراً له، ويحنو على أطفاله العشرة وتكون زوجة الصياد موضع تكريم الملكة (فتنعم عليها، وتجعلها وزيرة عندها)

وغداة الزواج يطل الملك من النافذة فيرى وزيره وصهره عبد الله حاملاً على رأسه (مشنة) ملأى بالفواكه فينكر عليه ذلك، ويجيبه صهره بأن لا قبل له بإخلاف ميعاد صديقه عبد الله البحري، خصوصاً في الظرف الحاضر إذ يحق له أن يتهمه بأن (إقبال الدنيا عليه، قد ألهاه عنه)

يحافظ عبد الله البري على عهد صاحبه البحري، ويواصل قسمة الجواهر بينه وبين صاحبه الخباز. ثم ينتهي إلى التحدث بشأنه مع الملك الذي يقول له (أرسل إلى صاحبك الخباز وهاته لنجعله وزير ميسرة)

وربما حسبت القصة منتهية عند هذا الحد، والواقع أن مجرد استقرار الحال قد يؤذن بختامها. فعبد الله البري يذهب كل يوم بسلة الفواكه يستبدلها بجواهر البحر. وحين تخلو البساتين من الفواكه يحمل إلى صاحبه الزبيب واللوز والبندق والجوز والتين. ويدوم الحال على هذا عاماً تتطور القصة في آخره تطوراً جديداً أسرده عليك

جلس عبد الله البري ذات يوم على شاطئ البحر يتحدث إلى صديقه عبد الله البحري فيبادره هذا قائلاً:

- يقولون يا أخي إن النبي صلى الله عليه وسلم مدفون عندكم في البر، فهل تعرف قبره؟

ص: 63

- نعم، فهو في مدينة يقال لها طيبة

- وهل يزوره أهل البر؟

- نعم.

- هنيئاً لكم يا أهل البر بزيارة النبي الكريم. فمن زاره استوجب شفاعته. هل زرته أنت يا أخي؟

- لا، فقد كنت فقيراً لا أجد ما أنفقه في الطريق. ولم أصبح غنياً إلا منذ عرفتك. والآن وجبت علي زيارته بعد أن أحج إلى بيت الله الحرام. وما منعني عن ذلك إلا محبتي لك

- وهل تفضل محبتي على زيارة قبر رسول الله الذي يشفع لكم يوم العرض على الله؟

- إن زيارته والله مقدمة عندي على كل شيء. وأطلب منك إجازة أزوره هذا العام

- أعطيك الإجازة بزيارته. وإذا وقفت على قبره فأقرئه مني السلام. وعندي أمانة فادخل معي في البحر حتى آخذك إلى مدينتي وأدخلك بيتي، وأعطيك الأمانة لتضعها على قبر الرسول

- يا أخي، أنت خلقت في الماء، ومسكنك الماء فهو لا يضرك. فهل إذا خرجت منه إلى البر يصيبك ضر؟

- نعم، يجف بدني وتهب علي نسمات البر فأموت

- كذلك أنا، خلقت في البر ومسكني البر. فإذا دخلت البحر يدخل الماء في جوفي ويخنقني فأموت

- لا تخف، فإني آتيك بدهان تدهن به جسمك فلا يضرك الماء، حتى لو قضيت فيه بقية عمرك

وعبد الله البري رجل كله إيمان واستكانة. فهو راض أن يأتيه بذلك الدهان يجربه. ويحمل عبد الله البحري (المشنة) ويغوص في البحر. ثم يعود بها ملأى (شحماً مثل شحم البقر، لونه أصفر كلون الذهب، ورائحته زكيه). ويخبر صاحبه بأنه شحم نوع من الأسماك يقال له (الدندان، أعظم أصناف السمك خلقة)

- وهو أشد أعدائنا علينا، وأكبر من أي دابة من دوابكم في البر. ولو رأى الفيل لابتلعه

- وماذا يأكل هذا المشؤوم يا أخي؟

ص: 64

- يأكل من دواب البحر. أما سمعت المثل القائل: مثل سمك البحر، القوي يأكل الضعيف؟

- يا أخي، إني أخاف إذا طوفت معك في البحر أن يصادفني هذا النوع فيأكلني

- خفف عنك، فإنه متى رآك عرف أنك ابن آدم فخاف منك وهرب. فالدندان أشد ما يكون خوفاً منكم. لأن شحم ابن آدم سم قاتل له. بل ليكفي أن يسمع صياح ابن آدم فيموت هلعاً

(وتوكل عبد الله البري على الله، وخلع ملابسه ودفنها في رمال الشاطئ. ثم دهن نفسه بشحم الدندان وغاص في الماء. وفتح عينيه ومشى يميناً وشمالاً والماء لا يضايقه. وجعل ينزل إلى القرار ثم يرتفع بكل سهولة)

واندفع عبد الله البحري أمامه دليلاً له في تلك النزهة البحرية النادرة. فرأى عن يمينه وشماله جبالاً. وشاهد أصنافاً عديدة من الأسماك (البعض كبير، والبعض صغير. منها ما يشبه الجاموس، ومنها ما يشبه الكلاب، وشيء يشبه الآدميين. وكلما قرب عبد الله البري من نوع هرب هذا منه. فيسأل صاحبه:

- يا أخي، ما لي أرى كل هذه الأسماك تهرب منا؟

- مخافة منك يا أخي. فجميع ما خلقه الله يخاف ابن آدم

ووصلا إلى جبل عال، فمشى عبد الله البري بجانب الجبل. وإذا بصيحة عظيمة اتجه إلى مصدرها بنظره فرأى شيئاً أسود منحدراً نحوه من الجبل، وهو (أكبر من الفيل والجمل). وسمع صديقه عبد الله البحري ينادي عليه:

- دونك وهذا الدندان، فهو متجه إلينا في طلبي ليأكلني. صح به!

وصاح عبد الله البري فزعاً وطائعاً في آن واحد. فإذا بالدندان يقع ميتاً. يتعجب عبد الله البري ويقول: (سبحان الله! لم أضربه بسيف ولا بسكين. وهاهو ذا على ضخامة جسده لا يتحمل صيحتي!)

ويدخل الصاحبان مدينة (بنات البحر)، فيهتم عبد الله البري بأمر هذه الإناث لا ذكور لها ويتساءل كيف تستطيع أن تخلف نسلاً

- إنهن منفيات في هذه المدينة بأمر ملك البحر. ولا يمكنهن الخروج من هذا المكان، أو تلتهمهن دواب البحر

- هل في البحر غير هذه المدينة؟

ص: 65

- كثير

وجعل عبد الله البري (يتفرج على عجائب البحر). وقد رأى لبنات الماء (وجوهاً كالأقمار، وشعوراً كالنساء. ولهن أيد وأرجل نابتة في بطونهن، وذنب كذنب السمك امتد من مؤخرتهن). وكان هذا شأن رجال المدن البحرية

- يا أخي، إني أرى الإناث والذكور مكشوفي العورة.

- لأن أهل البحر لا قماش عندهم

- وكيف يصنعون إذا تزوجوا؟

- أهل البحر - فيما عدا المسلمين منهم - لا يتزوجون. وكل من تعجبه أنثى. . .

ومازال عبد الله البحري بصاحبه يدور به على المدائن وأهلها في أغوار البحر مدى ثمانين يوماً. فيسأله عبد الله البري

- يا أخي، هل بقيت في البحر مدائن؟

- لو كنت فرجتك ألف عام، كل يوم على ألف مدينة، وأريتك في كل مدينة ألف أعجوبة، لما أظهرتك على قيراط من مدائن البحر وعجائبه.

- يكفيني هذا، فقد سئمت أكل السمك، وأنت لا تطعمني صباحاً ومساء إلا سمكاً طرياً، لا مطبوخاً ولا مشوياً. فرجتني على مدائن كثيرة، فأين مدينتك منها؟

ويبلغان مدينة عبد الله البحري، فيقوده إلى مغارة ويقول له:

- هذا بيتي. وكل من أراد أن يكون له بيت ذهب إلى الملك وعين الموضع الذي اختاره مسكناً. فيرسل معه الملك طائفة من السمك تعرف بطائفة (النقارين)، لأن لها مناقير تفتت الجلمود

وإذ يدخلون البيت، تتقدم ابنة عبد الله البحري وتبادر أباها بالسؤال، وقد نال منها العجب أن ترى مخلوقاً لا ذنب له:

- يا أبي، ما هذا الأزعر الذي جئت به؟

- هذا صاحبي البري يا بنيتي، من كنت أجئ لك من عنده بالفاكهة البرية. تعالي سلمي عليه

وتتقدم إليه الغادة، وتسلم عليه (بلسان فصيح، وكلام بليغ) وتقدم له القرى، سمكتين

ص: 66

كبيرتين (كل واحدة منهما مثل الخروف) فيأكل متبرماً بهذا السمك النيئ

وتحضر امرأة عبد الله البحري، وهي (جميلة الصورة. ومعها ولدان، كل ولد في يده فرخ سمك يقرش فيه كما يقرش الإنسان في الخيار). وما أن رأت عبد الله البري حتى صاحت:

- أي شيء هذا الأزعر؟

وتتقدم هي وولداها، يطيلون النظر إلى مؤخرة عبد الله البري ويقولون (أي والله إنه لأزعر) ويتضاحكون طويلاً حتى يضيق ذرع عبد الله البري بهذا الضحك فيلتفت إلى صاحبه ويقول:

- يا أخي، هل جئت بي إلى هنا سخرية أولادك وزوجك؟

ويعتذر عبد الله البحري عنهم مؤكداً له أن المخلوق الذي لا ذنب له في البحر نادر. وإنه إذا وجد واحد من غير ذنب فإنهم يأخذونه للسلطان ليضحك عليه. فلا تؤاخذ هذه المرأة وهؤلاء الصغار، فعقولهم كما تعرف ناقصة)

وبينما هم في الحديث يفد عليهم عشرة أشخاص كبار شداد، ويقولون لعبد الله البحري (لقد عرف الملك بأنك جئت بأزعر من زعر البر، وهو يريد أن يراه حالاً)

ويأخذونه إلى الملك فيتلقاه ضاحكاً وهو يقول (مرحباً بالأزعر). وجعل من في حضرة الملك يتضاحكون مرددين (أي والله إنه لأزعر!)

ويقص عبد الله البحري على الملك قصة صاحبه، ثم يستأذنه في أن يعود به إلى البر (لأنه سئم أكل السمك نياً، ولا يحب أكله إلا مطبوخاً ومشوياً). ويأذن الملك له بالرحيل بعد أن يزوده بهدية عظيمة من درر البحر وجواهره

ثم يعود به عبد الله البحري إلى مغارته، ويسلمه الهدية التي يرجو أن يوصلها إلى قبر النبي، ويصطحبه عائداً إلى البر

وبينما هما في طريقهما وسط الماء، يلتفت عبد الله البري إلى جماعة من أهل البحر يغنون ويرقصون حول سماط ممدود من السمك. فيسأل عما إذا كان عرساً هذا، ويجيبه عبد الله البحري: إنما هو مأتم

- أو إذا مات عندكم ميت تفرحون له، وتغنون وتأكلون؟

- نعم. وأنتم يا أهل البر، ماذا تفعلون؟

ص: 67

- نحن نحزن عليه ونبكي. وتشق النسوة جيوبهن، ويلطمن ويندبن الميت

وهنا يحملق عبد الله البحري في صاحبه البري، ويستأذنه في أن يسترد الأمانة. وعند وصولهما إلى البر يقول له:

- لقد قطعت صحبتك وودك، فلن تراني بعد اليوم

- لم هذا الكلام؟

- ألستم يا أهل البر أمانة الله؟

- نعم

- كيف يحزنكم أن يأخذ الله أمانته؟ وكيف أعطيك أمانة النبي وأنتم إذا أتاكم المولود تفرحون به، وقد أودع الله الروح فيه أمانة. فإذا استردها تندبون وتولولون؟ كلا، ما بي حاجة إلى صحبتكم بعد اليوم يا أهل البر!

ويختفي عبد الله البحري وسط الأمواج

ويعود عبد الله البري إلى صهره الملك يقص عليه ما رأى من عجائب البحار

وقد لبث زمناً طويلاً يذهب إلى الشاطئ ينادي صاحبه عبد الله البحري فلا يلبي النداء

وتنتهي القصة بالصيغة التقليدية إذ تقول بأنه أقام والملك نسيبه وأهلهما في أسعد حال، حتى أتاهم هادم اللذات، ومفرق الجماعات، وماتوا جميعاً. فسبحان الحي الذي لا يموت، ذي الملك والملكوت

أما أن الموت مفرق الجماعات فليس من شك في ذلك. ولو أنه يشترك في هذا مع الحياة ذاتها، فقد تكون الحياة مفرقة الجماعات، ويمتاز الموت عنها بأن تفرقته نهائية لا مرد لها في هذه الدنيا

وأما أن الموت هادم اللذات، فهو أيضا نهاية الآلام. وصاحب أو أصحاب قصص (ألف ليلة) هم آخر من يتكلمون عن اللذات، وعن أن الموت هادمها. فإن أبطال قصصهم يلاقون الأهوال، ويعانون آلام النوى والبعاد والفقر، وغير هذا من متاعب الحياة. نعم إن القصص تنتهي في الغالب إلى خاتمة سعيدة، يحاول المؤلف أن يلقي في روعنا دوامها حتى مجيء مفرق الجماعات وهادم اللذات، إلا أن هذا أمر نشك في صحته كثير الشك

وهذه مسألة ثانوية على أية حال. والأهم لنا أن نكشف عما في قصة (عبد الله البري، وعبد

ص: 68

الله البحري) من نفحة دينية عميقة، تجعل لها مقاماً خاصاً بين قصص (ألف ليلة)

فهذا رجل معدم كثير العيال تقول القصة بأنه لا يمتلك إلا شبكته، يروح بها كل يوم إلى البحر. فإن اصطاد قليلاً باعه وأنفق على أولاده بقدر ما رزقه الله. وإن اصطاد كثيراً (طبخ طبخة طيبة، واشترى فاكهة، ومازال يصرف حتى يأتي على آخر ما معه وهو قائل في نفسه: رزق غد يأتي غداً) ويوم تضع زوجته مولودها العاشر يخرج على بركة الله تعالى إلى البحر (على بخت هذا المولود الجديد) فتقول له امرأته (توكل على الله)

يمارس هذا الرجل الفقير وزوجه إذن فضيلة من الفضائل الدينية بإيمان كامل. ولكن التجربة في الولد العاشر كانت شديدة الوقر على الصياد. فقد مضى عليه أربعون يوماً لا يجد في شبكته رزقاً.

وهنا تنتقل بنا القصة إلى طبقة اجتماعية أرقى قليلاً من طبقة الصياد. وتقدم لنا مثلاً جديداً من أمثلة الطيبة والورع في صاحب المخبز الذي يتكفل بأود الصياد وأسرته أربعين يوماً دون تذمر وفي لباقة مؤثرة إذ يؤكد للصياد أنه لا يعطيه إحساناً. بل هو محاسبه يوماً على ما قدم خبز وعشرات فضة، ولكن عندما يأتيه الخير، لا قبل ذلك. ولندع القصة نفسها تتكلم، فتفصح لنا عما انطبعت عليه نفس هذا الخباز من الخير:

(ووقف الصياد ينظر ويشم رائحة العيش السخن. فصارت نفسه تشتهيه من الجوع. فنظر إليه الخباز وصاح عليه: تعال يا صياد. أتريد عيشاً؟ فسكت. فقال له: تكلم ولا تستح فالله كريم. إن لم يكن معك دراهم فأنا أعطيك، وأصبر عليك حتى يجيئك الخير)

ثم انظر إلى امرأة الصياد يشكو لها زوجها أمره مع الخباز فتقول له: الحمد لله الذي عطف قلبه عليك. هل آذاك بكلام؟ فيجيبها: كلا، وهو يقول لي دائماً، انتظر حتى يأتيك الخير. وأنا أسألك، متى يجيء الخير الذي نرتجيه؟ ويكون رد الزوجة: الله كريم. فلا يتردد الصياد في القول: صدقت. ويحمل شبكته إلى البحر في اليوم الأول بعد الأربعين.

فإذا بها تصيد حماراً ميتاً (منفوخاً ورائحته كريهة) فيقول (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) ثم يكاد إيمانه يتزعزع وهو يخاطب نفسه (قد عجزت وأنا أقول لهذه المرأة، ما بقي لي رزق في البحر، دعيني أترك هذه الصنعة. وهي تقول: الله كريم سيأتيك بالخير. فهل هذا الحمار الميت هو الخير؟)

ص: 69

ويتوجه في غم شديد إلى مكان آخر مبتعداً عن رائحة الحمار ويلقي شبكته فتحمل إليه الخير كل الخير، في صورة سميه البحري يبادله فاكهة البر بجواهر البحر.

ويقيني أن صاحب القصة لم يختر اسم عبد الله اعتباطاً. وهذا الاسم يعزز ما أنا ذاهب إليه من أن القصة يحركها روح ديني، ويسري في أعطافها إيمان عميق. فلم يختص المؤلف عبد الله البري وعبد الله البحري بهذا الاسم. فهذا الملك يسأل صهره عمن يكون صديقه الخباز وما اسمه، فيجيبه الصياد (اسمه عبد الله الخباز. وأنا اسمي عبد الله البري. وصاحبي اسمه عبد الله البحري) فيقول الملك (وأنا اسمي عبد الله، وعبيد الله كلهم إخوان)

وهانحن أولاء نرى شخصاً آخر من أشخاص القصة - وليس من الطبقة الفقيرة كالصياد، ولا من الطبقة الوسطى كالخباز، بل هو ملك البلاد بالذات - مفعماً إيماناً وثقة بالله، فهو قائل لشيخ الجوهرية ومن جاءوا يتهمون الصياد بالسرقة (يا قبحاء! أتستكثرون النعمة على مؤمن؟ لماذا لم تسألوه أولاً؟ ربما رزقه الله من حيث لا يحتسب. اخرجوا، لا بارك الله فيكم)

وهو القائل بعد سماعه قصة الصياد (يا رجل، هذا نصيبك ولكن المال يحتاج إلى جاه، فأنا أسندك بجاهي) ثم يزوجه الأميرة ابنته

وماذا تتوقع أن يكون اسم الأميرة بعد هذا؟ أم السعود! لو أن كاتباً رمزياً كتب قصة الإيمان لما اختار للأميرة اسماً أفضل من هذا. (أم السعود)، السعود الذي يلمع في طالع المؤمن القانت.

وتعال معي إلى القسم الثاني من القصة، ماذا نرى؟

هذا عبد الله البحري يسأل صاحبه عن قبر النبي ويقول:

(هنيئاً لكم يا أهل البر بزيارة هذا النبي الكريم). ثم يدعو عبد الله البري أن يغوص بصحبته في أغوار البحر ليحمله هدية إلى قبر النبي

وتتجه القصة بعد ذلك اتجاهاً فلسفياً واضحاً لمن يطالع ما وراء السطور. فهذا البحر مظهر من مظاهر الكون تتضاءل حياله الأرض التي نعرفها. وهاهو ذا (الدندان) أكبر أحيائه طرا يأكل من دواب البحر (أما سمعت المثل القائل: مثل سمك البحر القوي يأكل الضعيف؟) حكمة الخالق يصدع بها المخلوق

ص: 70

ويخشى عبد الله البري إذا نزل مع صاحبه إلى البحر (أن يصادفه هذا النوع فيأكله). وهنا يكشف صاحب القصة عن مرماه الفلسفي، إذ يؤكد لنا بأن (الدندان) يموت لساعته إذا أكل ابن آدم. وليكف أن يصيح فيه الإنسان صيحة ليموت. أي تأمل ما تميز به الإنسان الضعيف بجسمه، فهو يستطيع بعقله أن يتغلب على المخلوقات الأخرى. وهذا عبد الله البري يسبح في أمواه البحر فيرى جميع الأحياء البحرية تهرب منه. ويسأل صاحبه عن هذا فيجيبه (مخافة منك، لأن جميع ما خلقه الله يخاف ابن آدم)

ويشهد بطل القصة عجائب البحار كما تخيلها المؤلف. وخياله في أغلبه شبيه بتخيلات الشعوب الفطرية التي ترى في آلهتها صوراً مما تشاهده حولها، إنساناً أو حيواناً أو جماداً، ففي هذا البحر الخيالي جبال ووهاد ومدائن. وفيه (شيء يشبه الجاموس وشيء يشبه البقر، وشيء يشبه الكلاب، وشيء يشبه الآدميين)

وخيال صاحب القصة قائم على الـ حسب ما اصطلح عليه الباحثون في نفسية الشعوب الفطرية. فهو يصور بعض الأحياء البحرية تصويراً آدمياً مع تغيير طفيف اقتضته حياتها في الماء: كالزعنفة الذنبية، وتلك الأطراف النابتة من بطونها. ولهذا التصوير أصل من الواقع. وربما سمع صاحب القصة أو رأى نوعاً من الفقم يعرف بالدوجونج لا تزال تعرض بعض نماذجه على شواطئ المحيط الهندي باعتبارها (أبناء البحر وبناته). وقد عرض علي بعض اليمانيين في عدن ذكراً أو أنثى من تلك الحيوانات اللبونة على هذا الاعتبار

وللقارئ أن يفاضل بين قصة (عبد الله البري وعبد الله البحري) وبين قصص (السندباد) - وربما عالجت تلخيصها على هذه الصفحات يوماً - ليرى في هذه الأخيرة خيالاً أغزر مادة وأبرع أسلوباً. وفي رأيي أن الخيال في قصص (السندباد) غاية ينتهي إليها الوصف. بينا هو في قصة (عبد الله) واسطة لغاية هي ما نحن بسبيله من المرامي الفلسفية للقصة

وأود بهذه المناسبة أن أشير إلى قصيدة (شيللر) وعنوانها (الغواص). وفيها يرسم لنا خيال الشاعر (الرومانتيكي) صورة لأعماق البحر من نوع يختلف كثيراً عما نحن بصدده في قصة (عبد الله البحري). إذ يطلق (شيللر) العنان لخياله في أسلوب جمع كافة المميزات الشعرية. بينما ينهج صاحب قصة (ألف ليلة) نهجاً واقعياً مباشراً في وصف عالم البحار.

ص: 71

كأن عبد الله البحري أحد الأدلاء يشرح للسائح عبد الله البري ما تقع عليه باصرته تباعاً

وبرغم هذا الأسلوب الواقعي، يلقي علينا المؤلف درسه الديني من طرف خفي. ويظهرنا على قدرة الخالق بما يسرده علينا من وصف أنواع غريبة من المخلوقات. وإذ يبدي عبد الله البري عجبه لكثرتها، يجيبه عبد الله البحري (وأي شيء رأيت من العجائب. أما سمعت المثل القائل: عجائب البحر أكثر من عجائب البر؟). وهذه حقيقة لا مغالاة فيها، يعرفها كل من درس علم الأحياء

ويدخل الصديقان مغارة عبد الله البحري. وهنا منظر عائلي كله أنس وبهجة. تأمل كيف تتندر الأسرة بالضيف (الأزعر) وانظر إلى دخول ولدي صاحب البيت (وفي يد كل ولد فرخ سمك يقرش فيه كما يقرش الإنسان في الخيار)

فهذه القصة اشتملت على عناصر كثيرة تجعلها في رأيي من أحسن قصص (ألف ليلة وليلة) بل ومن أفضل القصص في آداب العالم. كتبت بأسلوب واقعي يتجنب فيها الكاتب الارتفاع الشعري. وصاحب القصة مع هذا يتدرج بك من عالم الواقع حيث الصياد كثير العيال يكدح لكسب قوته وقوتهم، إلى عالم بين الواقع والخيال حين يقع عبد الله البحري في شباك عبد الله البري، إلى عالم كله خيال حين ينزل الصاحبان إلى أغوار البحر يتجولان في أرجائه دون أن يغير في أسلوبه كأن الأمر عادي، وكأن الصاحبين غادرا البصرة أو مسقط إلى بلاد السند أو زنجبار

والكاتب في هذا لا يغفل عن غرضه الفلسفي الأول: قدرة مبدع الكون، وقوة الإيمان، والخضوع لأحكامه. ومع أنه لا ينسى أن يميز الإنسان على سائر المخلوقات كما رأينا، إلا أنه يلقي عليه درساً كبيراً تختتم به القصة. ذلك حين يغضب عبد الله البحري إذ يسمع بأن الإنسان يبكي موتاه، وهم في البحر يفرحون إذا ما استرد الله أمانته، أي (الروح التي أودعها الجسد).

لا مراء إذن في أن قصة (عبد الله البري وعبد الله البحري) من أولها إلى آخرها تختلج بروح ديني عميق تميزت به عقائد أهل الشرق عن عقائد أهل الغرب. هو روح استكانة المخلوق للخالق، واعتباره الخضوع لأحكامه صورة مثلى للإيمان

ولسنا في حاجة أن نعرف إذا كان صاحب القصة قصد إلى ذلك أو لم يقصد. فأمامنا القصة

ص: 72

بنصها في الجزء الرابع من كتاب (ألف ليلة وليلة). وقد حللنا العناصر التي تتألف منها واستخرجنا من بين سطورها ذلك الروح بلا عناء، ودون أن نجد فيها ما يناقض أو ما يضعف الاستنتاج الذي خرجنا به.

حسين فوزي

ص: 73

‌البريد الأدبي

المغرب الأقصى كما هو اليوم

في الأسبوع الفائت ألقى ضيف مصر الكريم الأستاذ محمد المكي الناصري مدير معهد الأبحاث المغربية في تطوان محاضرة عن (المغرب الأقصى كما هو اليوم) بدأها بالكلام عن المغرب قبل دخول الإسلام إليه وقال إن هذه الكلمة كانت تطلق على الجزائر وتونس ومراكش قبل أن يفصلها الاستعمار الأوربي بعضها عن بعض فأصبحت كلمة المغرب تطلق على مراكش فقط.

ثم تكلم عن حدود البلاد ومناخها وخصب تربتها وغناها بالمعادن ومما هو كفيل بإيجاد نهضة زراعية وصناعية كبيرة لو أتيح لها ما تصبو إليه وتجاهد من أجله وهو نيل الاستقلال التام وإدارة شؤونها بنفسها. ثم تكلم عن أهل البلاد وعناصرهم الأولى قبل الإسلام وقال إن الفتح الإسلامي لما دخل هذه البلاد وحد عناصرها المختلفة

ثم ألقى المحاضر نظرة على الأسر التي تعاقبت على الحكم في المغرب. ثم تكلم عن عهد الاحتلال الحالي وأفاض في وصف مطامع المستعمرين وجشعهم وقال إن فرنسا لما دخلت البلاد أدخلت نظاماً من مقتضاه إيجاد سلطتين سلطة مغربية والأخرى فرنسية وهما سلطتان متباينتان كثيراً ما تتغلب إحداهما على الأخرى ولهذا قضي على الوحدة فتجزأ المغرب وأعطيت لفرنسا المنطقة السلطانية ولأسبانيا المنطقة الخليفية واعتبرت منطقة طنجة منطقة دولية

وتوجد بجانب كل إدارة وطنية إدارة أخرى أجنبية تهيمن عليها وتكاد تجعلها صورية، فالسلطة التشريعية في يد الأجانب، أما السلطة التنفيذية فيوجد في كل مدينة إلى جانب الحاكم الوطني حاكم يطلق عليه لقب (الباشا) وحاكم القرية يلقب (بالقائد) ويلقب الحاكم في المنطقة الخليفية (بالمراقب) وفي المنطقة السلطانية (بالحاكم) وأسهب في وصف مساوئ هذه الإدارة المزدوجة وقال إنه توجد هناك محاكم للأحوال الشخصية تصدر أحكامها وفقاً لمذهب الإمام مالك وتوجد إلى جانبها (محاكم القواد) للفصل في قضايا الجنح والسرقات وغيرها. ويوجد مجلس أعلى تستأنف إليه أحكام محاكم الجنح ومجلس شرعي تستأنف إليه أحكام المحاكم الشرعية

ص: 74

ويوجد قسم كبير من الأراضي موقوف على التعليم الديني ولكن الاحتلال وضع يده عليها فحول كثيراً منها في غير الوجهة التي أوقفت عليها ما عدا المنطقة الخليفية فقد سلمت الأراضي الموقوفة فيها إلى يد الخليفة. وقال إن التعليم في البلاد ينقسم إلى ثلاثة أقسام رسمي وديني ووطني؛ فالرسمي مهمته الكبرى في المنطقتين هي بث روح الاستعمار بين الأهالي، وقد استصدروا أمراً في المنطقة الخليفية بتعريب التعليم فيها ولا يزال السعي مبذولاً لتنفيذه، أما التعليم الوطني فيشمل جميع البلاد، ولكن الاستعمار أصدر أمره في أكتوبر الماضي بأن يقتصر هذا التعليم على مادة تحفيظ القرآن فقط، وأما التعليم الديني فنحن نطالب بتجديده وتنظيمه وفق النظام المتبع في الأزهر الشريف في مصر

وبعد ما تكلم المحاضر عن كثرة الأحزاب في المغرب قال إن البلاد فيها نهضة أدبية وفنية وفيها كثير من الأدباء والمثقفين الذين يعتمد عليهم في الجهاد لتخليص بلادهم من أيدي المستعمرين. وقد تألفت فيها كتلة العمل الوطني لهذا الغرض بزعامة الأمير محمد بن عبد الكريم المعتقل الآن، وهي تتأثر في عملها بمصطفى كامل وسعد زغلول وغيرهما من زعماء الشرق

وهنا قويت حماسة الخطيب البليغ فاندفع كالسيل يقول إن ما ننتظره الآن من المشارقة ومن مصر خاصة باعتبارها زعيمة الشرق أن يتجهوا بأبصارهم إلى بلاد المغاربة باعتبارها أوسع رقعة في بلاد شمال أفريقية ومن أكثرها تمدناً ورقياً وأقواها جلداً على الجهاد في سبيل رفعة شأن الإسلام

فلسطين والأستاذ الأكبر شيخ الأزهر

فلسطين (فيها بيت المقدس) وفي هذا موطن (الإسراء) ومتصل (قوة الأرض) بـ (قوة السماء)(سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى)

إنما (القدس) منزل الوحي مغنى

كل حبر من الأوائل عالمْ

كُنِفت بالغيوب فالأرض أسرار (م)

مدى الدهر والسماء طلاسم

وتحلت من (البراق) بطغراء (م)

ومن حافر البراق بخاتم

فإذا قرأت اليوم الكتاب المبين من الأستاذ الأكبر (الشيخ محمد مصطفى المراغي) إلى رئيس الوزراء في الدولة المصرية فقل: إنما هو شيخ الإسلام يغضب للدين، وإنما هو أمام

ص: 75

المسلمين يرفرف - وقلبه خافق - على اخوته المؤمنين، والله تعالى يقول:(إنما المؤمنون أخوة)، فالملة ملته، والأمة أمته، والقوم في الدين اخوته. وليست هذه المائدة بأول يد لمصر على فلسطين، فشكراً ثم شكراً، ثم شكراً.

محمد إسعاف النشاشيبي

تقريب مناهج التعليم بين مصر والشرق العربي

أشرنا من قبل إلى الاتجاه الذي بدأ أخيراً في وزارة المعارف وهو التقريب بين المناهج التعليمية في مصر والبلدان العربية الشرقية، والاقتراح القائل بوجوب عقد مؤتمرات دورية تضم المبرزين في شئون التربية والتعليم في الحكومات المختلفة، ليتذاكروا فيما يتصل بالنهضة العلمية والتعليمية

ونضيف اليوم أن صاحب المعالي محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف، قد طلب الملف الخاص بتلك الفكرة، وباحث فيها صاحب العزة وكيل الوزارة

وقد وافق معاليه على الاقتراح من حيث المبدأ، وطلب وضع تفاصيل التنفيذ، حتى يمكن البدء به في أول فرصة مناسبة

العلاقات الثقافية بين مصر والمغرب الأقصى

قدم إلى مصر الأستاذ محمد المكي الناصري مدير المعهد الخليفي للأبحاث الإسلامية في مدينة تطوان للتفاهم على إيجاد علاقات علمية وثقافية بين مصر وبلاد المغرب الأقصى وتمكينها بين البلدين الشرقيين الإسلاميين بواسطة وزارة المعارف المصرية والأزهر

ومن المشاريع التعاونية التي قدم للتفاهم عنها الاتفاق مع مشيخة الأزهر على العمل لنشر الثقافة الإسلامية في بلاده بالطرق النظامية الحديثة التي أدخلت على الأزهر. وإرسال بعثة من بعض أصحاب الفضيلة علماء الأزهر لتدريس علوم الشريعة واللغة وفق هذه الأنظمة وبصفة رسمية، والعمل لنشر ثقافة الأزهر والإسلام بصفة عامة

ومن هذه المشروعات أن يقبل الأزهر بعثة من الطلبة المغاربة الذين أتموا دراساتهم في مدارس الحكومة هناك لدراسة علوم الشريعة والتخصص فيها. وقبولهم بكلية الشريعة الأزهرية بصفة نظامية. وستوفد هذه البعثة رسمياً حكومة المغرب

ص: 76

بين العقاد والرافعي

جاءتنا المقالة الثالثة من مقالات الأستاذ سيد قطب، فرأينا إرجاء نشرها إلى العدد القادم احتراماً لذكرى الرافعي. ونذكر بهذه المناسبة أننا تلقينا عشرات من المقالات في هذا الموضوع لم يراع كاتبوها الأفاضل خطة الرسالة في اجتناب فحش القول ومغسول الكلام. لذلك نستميحهم العذر إذا لم ننشر منها إلا ما نرى فيه فائدة للقراء وخدمة للأدب

حول كلمة (هال ها) أيضاً

سيدي الأستاذ الجليل صاحب الرسالة

بعد التحية: لاحظ الأستاذ محمد عبد الغني حسن في العدد الأخير من الرسالة (252) على الشاعر (الخفيف) بعد كلمة (هال) عن المعنى الذي يقصده. وقال في ختام كلمته تلك إن كلمة (هال) هذه تقال لزجر الإبل. والذي أعرفه أن الكلمة التي تقال لزجر الإبل ليست (هال) ولكنها (هلا) وقد استعملها المرحوم شوقي بك في مسرحيته الخالدة (مجنون ليلى) حيث قال:

هلا هلا هيا

اطو الفلا طيا

وقربي الحيا

للنازح الصب

ولقد خشيت أن يكون الأستاذ الفاضل قد اشتبه عليه الحديث ولكنني اتهمت نفسي فعدت إلى كتب اللغة استلهمها الصواب فأيد القاموس والصحاح رأيي. فهل للأستاذ الفاضل أن يدلني على المرجع الذي قرر أن كلمة (هال) تستعمل لزجر الإبل أو الخيل بدلاً من (هلا) وله مني مزيد الشكر وخالص التحية

عبد المؤمن محمد النقاس

الموسيقى العربية للبارون رودولف دير لانجيه

قد نشرنا في العدد الماضي من الرسالة (252) نقداً بقلم الأستاذ بشر فارس الدكتور في الآداب من جامعة باريس في المجلد الثاني من مجموعة التأليف الموسيقية العربية المنقولة إلى اللغة الفرنسية على يد البارون رودولف دير لانجيه. وقد سألنا بعض القراء عن ناشر هذه المجموعة وعن اسمها باللغة الفرنسية. ونحن نذكرهما هنا:

ص: 77

' -

،

ذكرى الرافعي في محطة الإذاعة الفلسطينية

سافر أمس إلى فلسطين الأستاذ محمد سعيد العريان، إجابة لدعوة مصلحة الإذاعة الفلسطينية بالقدس؛ ليذيع في تمام الساعة السابعة من مساء اليوم (الاثنين 9 مايو) من محطة القدس، حديثاً أدبياً عن فقيد العربية الكبير المرحوم مصطفى صادق الرافعي، لمناسبة تمام سنة على وفاته

ص: 78

‌المسرح والسينما

جولات ومطالعات في المسرح والسينما

بقلم محمد علي ناصف

اللغة العربية في السينما

اقترح بعض حضرات النواب المحترمين سن قانون يقضي بوجوب استعمال اللغة العربية في مختلف الشركات والمتاجر التي تنشأ في مصر سواء كان أصحابها أجانب أم مصريين. وهذا واجب مشكور أعتقد أن إهماله هو إهمال لكرامتنا ونسيان لقوميتنا وإلغاء لأبسط قواعد استقلالنا

وليس يخفى أن مثل هذا القانون المقترح يحتاج إلى خطوات أو مهلة محدودة يتم في نهايتها تنفيذه. ولكن هناك نواحي أخرى لا يحتاج الأمر فيها لرعاية لغة البلاد واحترامها إلى مثل هذا الإمهال، كالسينما مثلاً

فالأفلام الأجنبية التي تعرض بمصر وترد إليها من عدة أمم مختلفة، تعرض هذه الأفلام بداهة بلغتها الأصلية، ولكنها تصحب بترجمة على نفس الشريط بلغة ثانية. المفهوم بداهة وعقلاً أن هذه الترجمة تكون بلغة البلاد التي تعرض فيها الأفلام. فالفلم الإنجليزي مثلاً حين يعرض بفرنسا تصحبه ترجمة فرنسية والعكس. والفلم الألماني يشهده الجمهور الإيطالي بترجمة إيطالية والعكس

ولكننا مع الأسف الشديد والعجب الأشد نختلف عن الأمم جمعاء؛ فالترجمة التي تصحب كل فلم أجنبي يعرض بمصر تكتب بإحدى لغتين إما الفرنسية وإما الإنكليزية كأنما هذه الأفلام لا تعرض للمصريين، وكأن المصريين الذين يدفعون - شعباً - إلى أصحاب هذه الدور ويتسامحون - حكومة - مع الشركات المنتجة فلا تقيدها بضرائب مرتفعة ولا بنسبة تحدد من إنتاجها ولو بحجة حماية الإنتاج المحلي كما تفعل دول كثيرة؛ وفي مقابل هذا الكرم لا تكون إلا الإساءة وإلا الإهمال

وما من أحد يستطيع أن يصف هذا الأمر إلا بأنه إساءة وإهمال. فأي عذر تتعلل به هذه الشركات أو أصحاب هذه الدور الذين ينتفخون على حسابنا ومن أيدينا؟

ص: 79

إن العذر الوحيد الذي قد يقوم نصف قومة في مثل هذه الحالة هو أن تكون لغة البلد غير معروفة إلا لدى قلة لا تستأهل جهداً خاصاً، ولكن شيوع العربية على ألسنة الملايين وبين كثير من الشعوب ينفي مثل هذا العذر. ولقد رأينا بعض الأفلام القليلة النادرة المترجمة إلى العربية على نفس الشريط فكانت مؤيدة لوجهة نظرنا في هذا الموضوع وهي الوجهة التي قدرها أصحاب هذه الأفلام من حيث ضمان مصلحتهم المادية فضلاً عن مصلحتهم الأدبية في اكتساب احترامنا وودنا

هناك حقاً لوحة صغيرة من القماش توضع بأحد جانبي الشاشة لعرض ترجمة عربية ركيكة مقتضبة نسميها ترجمة على سبيل المجاز؛ وكثير من الدور لا تكلف نفسها وضع هذه اللوحة فتكتفي بانعكاس الترجمة على الحائط.

ولكن هذه الوسيلة الحقيرة لا تجدر مطلقاً بلغة البلاد لغة الدين والعرش والحكومة. هذه الوسيلة الثانوية جديرة بأية لغة أخرى يشاؤها صاحب الفلم، أما لغة البلاد ففوق مشيئته ولها المكان الأول، وإلا فنحن في غنى عنه وهو ليس في غنى عنا. ولقد اجتمعت في هذه الوسيلة كل النقائص؛ فهي تجهد بصر المتفرج باضطراره أن يتتبع الصورة والترجمة في اتجاهين بدلاً من اتجاه واحد، كما أن الترجمة كثيراً ما تتخلف عن الصورة أو تتقدمها لأن لكل منهما جهازاً خاصاً - فيضيع بذلك كثير من الفائدة على متتبع الفلم، هذا فضلاً عن نقص الترجمة وعدم الاعتناء بها

إننا لن نسكت بعد عن هذه المهزلة ونرجو ألا يسكت عنها كذلك أولو الأمر ورجال الصحافة. وكل امرئ يهمه احترام نفسه وبلاده.

الأديب والمخرج

في حديث عن شئون المسرح والسينما للأديب الإنجليزي وليام جراردي مؤلف كتاب الشهر (إبريل)

' يرى الأديب أن الوضع الصحيح لمخرج المسرحية أو الفلم أن يكون نفس المؤلف لأنه أقدر من أي إنسان آخر على اختيار الممثلين لشخصياته التي خلقها وعرف صفاتها وللمناظر التي رسمها وتمثل مشتملاتها ودقائقها وللجو الذي ابتدع فيه الحوادث. وهذا رأي له رونقه وبريقه ولكنه يفتقد الحقيقة في كثير من نواحيه.

ص: 80

فالإخراج فن آخر غير فن التأليف. وهو ليس مقصوراً على اختيار الممثلين ورسم المناظر وحبكة الجو. ولكنه يشتمل على أمور كثيرة لا يستطيع اكتناهها أي فرد بينما قد يستطيع القارئ العادي أن يفهم ما كتبه وما تمثله المؤلف من كل سطر ومن كل شخصية من شخصياته، وقد لا يعوزه تصور الجو الحقيقي للحوادث وكذا تعرف الممثلين الذين يليقون بشخصيات المؤلف. وكثير من المخرجين يخلقون من أعمال المؤلف حياة أخرى هي في الواقع أقوى من الحياة التي تدب بين سطور كتابه وإن كنت لا أنكر أن كثيرين من المخرجين يمسخون بعض المؤلفات لأسباب شتى بعضها يخرج عن طاقة الإخراج

وبعض المؤلفين يخرجون مسرحياتهم أو أفلامهم بأنفسهم ولكن أكثر هؤلاء ليسوا في المرتبة الأولى بين الأدباء أو المخرجين وندر من يوفق منهم في كلتا العمليتين

محمد علي ناصف

ص: 81