المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 254 - بتاريخ: 16 - 05 - 1938 - مجلة الرسالة - جـ ٢٥٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 254

- بتاريخ: 16 - 05 - 1938

ص: -1

‌مصطفى صادق الرافعي

بمناسبة ذكراه الأولى

- 2 -

كان الرافعي رحمه الله حجة في علوم اللسان، ثقةً في فنون الأدب، عليماً بأسرار اللغة، بصيراً بمواقع اللفظ، خبيراً بمواضع النقد، محيطاً بمذاهب الكلام. وقلما تتهيأ هذه الصفات لغير المطبوعين من الأدباء الذين تعاطوا مهنة التعليم فاستنزفوا أيامهم في درس القواعد وحفظ الشواهد وفقه النصوص بحكم الصنعة. فكنت إذا ذاكرته في شيء من دقائق النحو وخواص التركيب وفروق اللغات وجدته على ظهر لسانه كأنما انصرف من مراجعته لوقته. ودراسة الكاتب أو الشاعر للغته وفنه هي في رأيه ورأي الحق شرط لوجوده؛ فلا يكون النبوغ والأستاذية بدونه، ولا تجزي الطبيعة ولا المحاكاة عنه. وكان - شهد الله - فيما بينه وبين أخصائه يرفع أدب العقاد لوضوح هذه المزية في كل ضرب من ضروبه.

ولقد بلغ علم الرافعي بالعربية وآدابها حد الاجتهاد والرأي، فكان يقف في التعليل والاستنباط من ثقاتها ورواتها موقف الند؛ وقد يتعظم أحياناً فيقف منهم موقف الأستاذ. فهو في أدبه مطلق الحرية مستقل الإرادة في حدود المأثور من بيان العرب؛ ولكنه في فلسفته مقيد النظر مسير الفكر لنزوله في الرأي على حكم الدين.

على انك لا تعدو الصواب إذا قلت إن حرية أدبه أشبه بعبودية فكره، لأن مصدرهما وموردهما واحد هو القرآن. والقرآن من جهة الأدب غاية الجمال، ومن جهة الفضيلة غاية الخير، ومن جهة الفلسفة غاية الحق. لذلك كان قوله في القديم والجديد قول العربي الذي يؤمن أن لغته التي تكلم بها الله نامية بذاتها لأنها حية، ومتطورة بطبعها لأنها قوية؛ وكان قوله في المرأة والرجل قول المسلم الذي يعتقد أن دين الله حق لا يبطله قدم، وأن شرعه قانون لا يعطله شهوة. وما دام العرب أحياء فأدبهم متجدد، وما دام القرآن خالداً فدينهم قائم.

على هذين القطبين كانت تدور فلسفة الرافعي الأدبية والاجتماعية. ولعلي تساهلت إذ قلت فلسفة الرافعي، فليس للرافعي فلسفة؛ إنما هي فلسفة القرآن وأدبه قام منها مقام ابن رشد من أرسطو: يقرر ويحرر ويدافع من غير أن يكون لمنطقه حكم ولا لرأيه اعتراض.

كان الرافعي في بعض حالاته يفتن في الصورة التي يرسمها افتنان المصور الخيالي.

ص: 1

يضيف إليها من المشاهد ما لا تقره الحقيقة، ويضع فيها من الألوان ما لا تعرفه الطبيعة. وقصده القاصد من ذلك أن يريك قدرة ذوقه على الملاءمة، وقوة ذهنه على التوليد، ويعطيك للشيء أو للشخص صورة إذا لم تكن كانت، فهي التي ينبغي أن تكون. فهو إذا كتب في موضوعٍ ما سمح لعاطفته أن تجر، ولهواه أن يدفع، ولفنه أن يزخرف، ثم يستخدم براعته في التدليل على صحة العاطفة ونزاهة الهوى وصدق الأداء، فيكون من امتزاج الخيال بالواقع، واشتباه الغلو بالقصد، والتباس البهرج بالصحيح صورة غامضة الدلالة، خافتة الروح، ولكنها بديعة الإطار، رائعة اللون، منمنمة الخطوط؛ وذلك أكثر ما تراه في حديث القمر والسحاب الأحمر، والمساكين، وأوراق الورد. أما إذا اتصل فنه بشعوره، وافتنانه بطبعه، ورأيه باعتقاده. فانك ترى الإشراق في اللفظ، والجلال في المعنى، والسمو في الروح، والإعجاز في الصنعة. وهنالك تجد الرافعي في جلوة الإلهام التي تشدهه هو نفسه فيقول لي ولمن يأنس إليه: إن حالا تشبه حالات الوحي تقوم به في بعض ساعات الليل حين يكتب في إعجاز القرآن أو في الدفاع عن أدبه، فلا يكون فيما ينشئ إلا وسيطاً عن قوة من وراء الغيب. وأكثر ما وقع له ذلك في كتابيه (تحت راية القرآن) و (وحي القلم). وكان من شذوذ العبقرية في الرافعي اعتداده بنفسه إلى حد الصلف، واعتقاده بالغيبيات إلى حد السذاجة. وله في ذلك حوادث وأحاديث ربما عرض لها صديقنا العريان في ترجمته له.

والرافعي بعد ذلك كله كاتب من الطراز الأول قلما يجود بمثله هذا العصر المجنون الذي يتبجح بالسرعة ويريد أن يأخذ حظه الضروري من المعرفة مختصراً في رسالة، أو معتصراً في مقالة.

هذه كلمة مجملة كتبناها عفو الخاطر وفيض الذاكرة في ناحية من نواحي أدب الرافعي، اعتمدنا فيها على خلاصه وحديثه وقراءته؛ أما دراسة الشرح والتفصيل، والنقد والتمثيل، والدعوى والدليل، فتلك لها طريقة غير هذه الطريقة، ومناسبة غير هذه المناسبة. ولعلني أرجع إلى الرافعي في عدد قريب فأعلن ما أفضى به إلي من الرأي الحق في خصميه طه والعقاد.

احمد حسن الزيات

ص: 2

‌مات الرجل العظيم

محمد إقبال

للدكتور عبد الوهاب عزام

- 1 -

في اليوم الحادي والعشرين من أبريل الماضي والساعة خمس من الصباح، في مدينة لاهور مات رجل كان على هذه الأرض عالماً روحياً يحاول أن ينشئ الناس نشأة أخرى، ويسن لهم في الحياة سنة جديدة؛ وسكن فكر جوال جمع ما شاءت له قدرته من معارف الشرق والغرب، ثم نقدها غير مستأسر لما يؤثر من مذاهب الفلاسفة، ولا مستكين لما يروى أقوال العظماء؛ ووقف قلب كبير كان يحاول أن يصوغ الأمة الإسلامية من كل ما وعي التاريخ من مآثر الأبطالوأعمال العظماء؛ وقرَّن نفس حرة لا يحدها زمان ولا مكان، ولا يأسرها ماض ولا حاضر، فهي طليقة بين الأزل والأبد، خفاقة في ملكوت الله الذي لا يحد.

مات محمد إقبال الفيلسوف الشاعر الذي وهب عقله وقلبه للمسلمين وللبشر جميعاً. الرجل الذي كان يخيل إلي وأنا في نشوة من شعره أنه أعظم من أن يموت، وأكبر من أن يناله حتى هذا الفناء الجثماني.

فاضت روح الرجل الكبير المحبوب في داره بلاهور ورأسه في حجر خادمه القديم الوفي (الاهي بخش) وهو يقول: إني لا أرهب الموت. أنا مسلم أستقبل المنية راضياً مسروراً.

كنت أقرأ كلام إقبال في الحياة والموت، ورأى استهانته بالحمام، واستهزاءه بالذين يرهبونه. وما كان هذا خدعة الخيال، ولا زخرف الشعر فقد صدق إقبال دعوته في نفسه حين لقي الموت باسما راضياً.

جد المرض بإقبال منذ سنة، وكان يقترب إلى الموت وهو متقد الفكر، قوي القلب، يصوغ عقله كلماتٍ يوقظ بها النفوس النائمة، وينثر قلبه شراراً يشعل به القلوب الهامدة. وكان يعنى بنظم كتابه (آهنكَ حجاز): لحن الحجاز. وكان قلب الشاعر يهفو إلى الحجاز وقد تمنى في خاتمة كتابه (رموز بي خودى) أن يموت في الحجاز. ومما نظمه في أشهره

ص: 4

الأخيرة:

آية المؤمن أن يلقى الردى

باسم الثغر سروراً ورضا

وقد أنشد هذين البيتين قبل الموت بعشر دقائق، وهما مما أنشأه أخيراً:

نغمات مضين لي، هل تعود

ونسيم من الحجاز سعيد؟

آذنت عيشتي بوشك رحيل

هل لعلم الأسرار قلب جديد!

وآخر ما أنشأ من الشعر بيتان أترجمهما نثراً:

(قد أعدت جنة لأرباب الهمم، وجنة أخرى لعباد الحرم. فقل للمسلم الهندي لا تحزنن، فكذلك للمجاهدين في سبيل الله جنة).

- 2 -

كان تشييع إقبال إعراباً رائعاً عما للرجل الفذ في قلوب أهل الهند عامة ومسلميه خاصة. احتشدت عشرات الألوف تودعه بالبكاء والزفرات، وشاركت النساء بالعويل والنحيب، وتنافس الحاضرون في حمل النعش فوضع على خشبيتين طويلتين ليتسنى لكثير من المشيعين أن يشرفوا بحمل الرجل العظيم إلى مثواه الأخير. وقد بلغت الجنازة شاهي مسجد وخلفها زهاء أربعين ألفاً، فوقف الناس ساعة كاملة حتى تيسر لهم أن يصطفوا للصلاة على الفقيد الجليل، ثم نقلت الجنازة إلى حديقة متصلة بالمسجد. وهنالك الساعة عشر إلا ربعاً من المساء غربت شمس إقبال في جدتها، وطوى الجهاد الذي ملأ الدنيا في لحده، وأدرجت الحكمة والشعر والحرية التي تأبى الحدود والقيود في جننها وضع محمد إقبال في قبره.

وغشى القبر الذي تضمن روضة الشعر بضروب الزهر والريحان، ثم نثرت عليه أزهار أخرى من أقوال الخطباء والشعراء الذين أطافوا بالشاعر الخالد.

وتجاوبت أرجاء الهند بأقوال الكبراء يعربون بها عما أحسوا من لوعة، وما دهى الهند من مصيبة، بموت شاعرها الأكبر. أجتمع على هذا المسلم وغير المسلم؛ فهذا جواهر لآل نهرد يقول:

(لقد دهتني وفاة إقبال بصدمة هائلة. شرفت بلقاء إقبال ومحادثته منذ قليل؛ وكان مستلقياً على فراش المرض، ولكن كان لفكره العالي ونزعته الحرة في قلبي أثر بليغ. لقد فقدت

ص: 5

الهند بفقد إقبال كوكباً لآلاء مضيئاً، ولكن شعره سيخلد في قلوب الأجيال الآتية، وذكراه العظيمة لن تموت).

وهذا الدكتور محمد عالم يقول:

(لا تستطيع أرض البنجاب أن تخرج إقبالاً ثانياً في عصور طويلة). ويضيق المجال عن الإكثار من أقوال أعلام الهند في فقيدهم.

وأرخ بعض الشعراء وفاة إقبال (سنة 1357) في قوله:

تاريخ (بور إقبال شاعر مشرق) - كان إقبال شاعر الشرق. وأرخ آخر بقوله: كنه علامة إقبال سوى بهشت برين: ذهب العلامة إقبال شطر الجنة العالية.

ترك الشاعر النابغة ابنين وبنتاً وأخاً وثلاث أخوات.

- 3 -

ولد محمد إقبال في سيال كوت سنة 1876م من عشيرة قديمة دخلت في الإسلام منذ ثلاثة قرون، وكانت تقيم في كشمير ثم اضطرتها الحوادث أن تهاجر إلى البنجاب واستقرت أسرة إقبال في سيال كوت.

وبدأ تعلمه في البلد الذي ولد به. ودرس على العالم الكبير مير حسن فأذكى في قلبه حب الآداب الشرقية. ثم انتقل إلى لاهور للدراسة العالية فكان من أساتذته السير توماس ارنولد أستاذ الفلسفة الإسلامية. وقد سمعت أرنولد يفخر بأن إقبالاً تلميذ. وفي ذلك الحين شدا إقبال الشعر، فرجا الناس فيه شاعراً خطيراً. ونال درجة أستاذ في الأدب وصار مدرس الفلسفة في إحدى الكليات.

وسنة 1905م سافر إلى أوربا فتعلم في كامبردج القانون، ثم ذهب إلى ألمانيا فدرس الفلسفة. وبعد ثلاث سنين من خروجه من وطنه رجع إليه مرجوا لأمته محبباً إليها. وعمل في المحاماة وقصده الناس لاستشارته والاستعانة به في كثير من الأمور التي كانت تهم المسلمين. وما زال نجمه يسطع، وصيته يذيع، وشعره يجوب أرجاء الهند ويستقر في كل قلب حتى اجتمعت قلوب المسلمين عليه، ورددوا أقواله في خطبهم ومقالاتهم، وتقيلوه في أعمالهم، وكأنما أذكى الشاعر العبقري في كل قلب جذوة، وملأ كل رأس فكراً، وكل نفس حرية وعظمة، حتى مات وكل يتشبه به، ويطمح إلى أن يكون من المهتدين بهديه.

ص: 6

وسأعود إلى الكتابة عن فلسفته وأدبه إن شاء الله.

والله يعوض الأمم الإسلامية ويعزيها عن إقبال بالاستجابة لدعوته والسير على أثره.

عبد الوهاب عزام

ص: 7

‌من برجنا العاجي

منذ عشرة أعوام عقدت معاهدة على جبل (أولمب) بين (أبولون) و (كوبيدون) تتعلق بي. ولا أعرف على وجه التفصيل نصوص تلك المعاهدة. فلقد كانت معاهدة سرية. ولكن يخيل إلى أن (آله الفن) أراد أن يعتبرني من (مناطق نفوذه)، فحرم على إله (الحب) أن يلقي سهما واحداً من قوسه الذهبي إلى هذه المنطقة. وقد تبين لي في مواقف كثيرة من حياتي أن إله (الحب) قد احترم حقاً هذه المعاهدة. وفي أحيان أُخرى رأيت كأن (كوبيدون) ينظر إلى (قلبي) نظرات ملؤها المطامع الاستعمارية، وأنه يتحين الفرص والظروف. وإله الفن، كما هو معلوم، ينادي دائماً بالحرية، إذ لا فن بغير حرية مكفولة في كل زمان. وإله الحب ينزع إلى السلطة والسيطرة والعنف التقييد بالسلاسل والأغلال. ولست أدري لماذا يذكرني هذا الصراع بينهما بالصراع القائم بين (إنجلترا) و (إيطاليا)؟ فإنجلترا بلد الديمقراطية والحرية، وإيطاليا رمز الدكتاتورية والسلطة المطلقة. ولقد وقع حديثاً نزاع بين الطرفين، فأغفلت المعاهدة وألقيت السهام، وأعلن الدكتاتور انه افتتح المنطقة (الحرام). فلم يعترف له منافسه بهذا الفتح. وسارت الأيام سيرها وأنا راض مطمئن اطمئنان (النجاشي) المسكين، إلى أن قرأت في البريد الأخير أن إنكلترا ستحمل العالم على الاعتراف بالفتح الإيطالي (للحبشة)، فوضعت يدي على (قلبي) وأدركت أن (الحرية) الجميلة ليست إلا حملاً ضعيفاً تنتظره دائماً أنياب الذئب، وأن (المعاهدات) ليست إلا (محطات) انتظار لساعات الوثوب.

توفيق الحكيم

صفحة من تاريخ

استيطان العرب لمصر

للدكتور حسن إبراهيم حسن

أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب

كان العرب في مصر جلهم من الجند المقاتلة وقت الفتح، ولم يزد عددهم على ستة عشر ألفاً في هذا الوقت. ولم تكن سياسة الخلفاء الراشدين تسمح بنزول الجند في ريف مصر

ص: 8

بقصد إقطاعهم الأراضي حتى لا يصرفهم ذلك عن الجهاد. وزاد عدد الجند العرب في مصر فبلغ أربعين ألفاً في عهد معاوية بن أبي سفيان.

ولا شك أن هذا العدد أخذ يزداد بازدياد العنصر العربي في مصر، وهذا نتيجة طبيعية لما كان من لحاق نساء الأجناد وأولادهم للإقامة معهم في هذا البلد، واتخاذهم إياه وطناً جديداً، وما كان أيضاً من التزاوج والاندماج في سكان البلاد الأصليين. ولعل العرب لم يفطنوا لأمر إحلال الكتائب بعضهم محل بعض في الأقاليم الإسلامية، اللهم إلا ما كان من تناوب الأجناد الإقامة في الثغور كل ستة أشهر. وليس لدينا من المعلومات التاريخية ما يثبت أن قاعدة استبدال الكتائب في الولايات كانت معروفة عند غير العرب كالرومان والفرس. بيد أن عدم احتمال هذا الأمر أقرب إلينا من جواز احتماله لما كان يتطلبه من كثرة الأسفار.

غير أن العرب في مصر - على الرغم من زيادة عددهم كما بينا - كانوا في أوائل القرن الثاني للهجرة من القلة بحيث رأى عبيد الله بن الحبحاب عامل الخراج على مصر أن يشير على الخليفة هشام بن عبد الملك أن يأذن له في إسكان العرب من قيس في أرض الحوف الشرقي، وأكد للخليفة أن نزولهم لا يضر بسكان البلاد. وكان يقيم في هذه الكورة نفر يسير من جديلة.

نزلت قيس جهة بلبيس. وسرعان ما قارب عددهم خمسة آلاف، واخذوا يستثمرون الأرض ويتجرون في الإبل والخيل، وكانوا يحملون عليها غلات أرضهم إلى القلزم حيث تشحن إلى بلاد العرب. هذا وقد كان لقيس ضلع كبير في الفتن التي أقامها المصريون في وجه الولاة حين هموا بزيادة الخراج.

ولقد وفدت القبائل العربية على مصر تدريجياً، فجاءت قبيلة الكتنز من ربيعة في النصف الأول من القرن الثالث الهجري فأقاموا في الصعيد، واندمجوا في السكان بالمصاهرة، وكانت لهم ضلع في الثورات والفتن التي قامت بمصر وعلى الأخص في أواخر عهد الفاطميين إذ ثاروا على صلاح الدين الأيوبي بعد أن تولى الوزارة بقليل.

على أن اندماج العرب بالمصريين اندماجاً فعلياً لم يتم إلا بعد أن اسقط المعتصم العرب من الديوان، وأحل مكانهم جنداً من الأتراك، فانتشر العرب في الريف واحترفوا الزراعة وغيرها طلباً للرزق؛ وازداد اندماجهم في السكان بالمصاهرة، ومن ثم أخذ التمييز العربي

ص: 9

يتلاشى شيئاً فشيئاً، وبدأ ظل الولاة من العرب يزول بإحلال الولاة من الأتراك محلهم؛ ولم يحكم مصر بعد ذلك عربي إلا إذا استثنينا عنبسة بن اسحق (238 - 242هـ) والخلفاء الفاطميين.

تم فتح مصر على أيدي جند العرب، ولم يشأ عمر أن يقطعهم أرضها ليكونوا على أهبة الاستعداد لتلبية نداء الجهاد وفتح البلاد المجاورة لمصر لتأمن مصر نفسها وليستقر بذلك سلطان العرب فيها. وقد فتح العرب في ولاية عمرو بن العاص الأولى بلاد برقة سنة إحدى وعشرين للهجرة وطرابلس في السنة التالية وغزوا إفريقية سنة 27هـ تحت قيادة عبد الله بن سعد (25 - 35 هـ) والى مصر إذ ذاك، وهزموا الروم في هذه البلاد وقتلوا ملكهم، وخربوا قاعدة ملكه وتوغلوا في بلاد إفريقيا وصالحوا أهلها، وغزوا بلاد النوبة سنة 31هـ حتى وصلوا دنقلة، وفي هذه السنة اشتبك الأسطول المصري مع أسطول الروم فأنتصر الأول في واقعة ذات الصواري، ثم عزوا طرابلس مرة أُخرى في ولاية عمرو بن العاص الثانية.

ويظهر لنا أن هذه الغزوات لم يكن القصد منها الاستعمار لهذه البلاد وإدخالها في حوزة العرب كما كانت الحال بالنسبة إلى مصر، وإنما كان قصد الخلفاء وولاتهم على مصر القيام بها لتأمين مصر من الغرب والجنوب ولذلك كان فتح بلاد المغرب.

وكان العرب يقنعون بما يصيبونه من الأسلاب والغنائم وظلوا على ذلك حتى تحولت وجهة نظر الخلفاء، فأخذوا يهتمون بأمر بلاد المغرب بوجه خاص، فأرسلوا إليها الجند للمحافظة عليها، وقلدوا ولايتها ولاة مستقلين في الحكم عن أمراء مصر أو نائبين عنهم في حكم هذه البلاد إذا جمع بين مصر والغرب لوال واحد.

وقد قام المصريون بدور هام في الغزوات البحرية في هذا العصر، فقد بني مسلمة بن مخلد (47 - 62هـ) في جزيرة الروضة داراً لصناعة السفن وإصلاحها. وكان لبناء هذه الدار فوائدها في حروب مصر البحرية، فقد غزا رودس الأسطول المصري، جهزه عقبة بن نافع سنة 46هـ وتم له فتحها سنة 53هـ ولما جاء عهد سليمان بن عبد الملك (96 - 99هـ) أصبح لمصر أسطول قوي شارك أسطول الشام في غزو القسطنطينية وإن كانت هذه الغزوة قد عادت على الأسطولين المصري والشامي بالفشل.

ص: 10

ولقد خاض الجند العرب غمار الفتن السياسية التي قامت في هذا العصر بين الخلفاء الأمويين والخارجين عليهم، وكذا بين بني العباس ومناوئيهم، وكان لتدخلهم أثر ظاهر في هذا الفتن.

حسن إبراهيم حسن

ص: 11

‌فلسفة التربية

تطبيقات على التربية في مصر

للأستاذ محمد حسن ظاظا

- 16 -

(كاد العلم أن يكون رسولا. .!)

شوقي

(إنما الصعوبة هي في إيجاد أولئك الأساتذة الأفاضل الذين

يستطيعون أن يحملوا الشعلة وان يناولوها غيرهم بجرأة

وحماس وإخلاص وإقدام.!)

(قد نبني المدارس وننفق في تشييدها وإعدادها ملايين

الجنيهات، ولكنا قد نعجز مع ذلك عن تكوين الرجل المنشود!)

(افضل النظم جدير بالفشل التام إذا لم يقم بتنفيذه من هو كفوء

له.!)

(من رسالة الدكتور جاكسون)

6 -

المعلمون

رأيت في المقال السابق بعض أسباب فشل النظام في المعاهد الدراسية وتبينت أثراً لمسؤولية النظار والمدرسين في ذلك الشأن. وسترى اليوم ناحية أُخرى لها من الخطورة والطرافة في عملية التربية ما يجعلنا نهتم بها كل الاهتمام، ونصرح فيها بأشياء ما كنا لنذكرها لولا حرصنا على المصلحة العامة، ولولا أملنا في أن يقابل الجميع الحقائق - على

ص: 12

مرارتها - بصدر رحب وتقدير نزيه:

1 -

حقائق

قال المرحوم شوقي بك:

قم للمعلم وَفِّه ألتبجيلا

كاد المعلم أن يكون رسولا!

أعلمت أشرف أو أجلّ من الذي

يبني وينشئ أنفساً وعقولاً!

وأحسب أن معنى ذلك الشعر العذب واضح لا يحتاج إلى بيان، وصادق لا مبالغة فيه ولا تهويل! فترى هل يشعر المعلم عندنا بكل ما فيه من معنى؟ أو هل تساعده الظروف على أن يتمثل به ويحققه في حياته الخاصة والعامة؟ ذلك هو السؤال العسير الذي فكرت فيه كثيراً وتألمت من أجله طويلاً، ولست أدري متى يقف تفكيري فيه وألمي من أجله!!

إن المعلم أيها القارئ هو الطرف الأول في عملية التربية والتعليم، فإذا لم يستطع أداء عمله كما ينبغي فقل على الأمر السلام!

فترى هل يجوز أن يكون ذلك الطرف مجرد ناقل علم فحسب، ما أن يدخل الفصل حتى يتكلم ويتكلم، ويكتب بالحكك ويكتب، ثم يخرج ويدخل هكذا كل يوم ويخرج، دون أن تقوم بينه وبين الطلبة عاطفة من ود ولا وشيجة من إخاء؟؟

وترى هل يجوز أن يكون ذلك الطرف متبرما من عمله، ساخطً عليه، ثائراً على القدر الذي ابتلاه به، حاسداً لنظرائه في المهن الأُخرى حيث الراحة والجاه، والكسب الوافر والنعيم المرموق؟؟

وترى هل يجوز ألا يقبل ذلك الطرف على تلك المهنة الخطيرة إلا مضطراً لا ميل يدفعه، ولا غرام يحببه، بل هي الوظائف قد أقفلت بعد الجامعة أبوابها في وجهه، وهو (المعهد) قد فتحها ورحب به نائماً وآكلاً ودارساً دون ما أجر؟؟

وترى هل ينبغي أن يكون (بعض) هذا الطرف في المدرس الأهلية، وهي لا تقل عن مدارس الحكومة في عدد طلبتها، مجرد طالب عيش لا يفقه من أمور التربية شيئاً، ولا يدري عن طبيعة الطفل قليلا ولا كثيراً، ولا يستطيع إلا أن يرسل القول محفوظاً، فلا عقلا يكوّن، ولا شخصية يبني، ولا خلقاً يغرس، ولا نظاماً يصون؟؟

2 -

أسباب:

ص: 13

تلك حقائق مرة لها خطورتها الكبرى في عملية التربية كما قلنا، وهناك من الحقائق غيرها ملا يتسع المجال لذكره أو ما لا يليق به أن يذكر!!، ولما كانت التربية الصحيحة شيئاً آخر غير حشو العقول بالكتابة والقول، وتنفير القلوب بالجمود واليأس، وتشويه الشخصية بالجهل والحمق، فمن الخير أن نتلمس بعض أسباب هذه الحقائق علنا نستطيع أن نجد لها علاجاً.

أتعرف ماذا هو عمل المعلم في المدارس الثانوية على وجه الخصوص؟ أتعرف أنه دروس تُحضّر، وحصص تُدرّس، وكراسات تصحّح، ثم أعمال إدارية أو كتابية بغيضة يملأ فيها الأستاذ الكشوف بالأرقام المجموعة وغير المجموعة، ثم ينقلها إلى كشف آخر وكشوف أُخرى، ثم يبعث بها ثلاث مرات في العام إلى أولياء الأمور كما لو كان كاتباً يسجل ويجمع ويكتب كل شيء حتى العنوان؟؟

ثم أتعلم ما هو قدره في عين الدولة والمجتمع بعد كل هذا العناء الذي يبذلهُ ليل نهار، ومع خطورة وشرف المهنة التي ينسب إليها؟؟

لعلك تدري أن قدره في عين المجتمع دون رجل العدالة أو رجل الطب بكثير؟ هذا ينطق بالحق وذاك يشفي الجسم، أما هو فماذا يفعل غير إلقاء الدروس؟ وعسير عليك جداً أن تفهم الناس أن التعليم قد يغنينا عن القاضي أو الطبيب دون أن يغني كل من هذين عن الأستاذ. وعسير عليك جداً أن تدخل في الأذهان أن صاحبنا يبني وينشئ انفساً وعقولاً كما قال أمير الشعراء.

ثم لعلك تدري أن قدره في عين الدولة كان وما يزال دون قدر رجال القضاء وغير رجال القضاء؟ وأين المسكين من أولئك وهؤلاء؟ ألم يخطب يوماً أحد الزعماء ليعبر عن جماعة المعلمين بعثار الجد وسوء الفعل كما لو كانوا جماعة من العمال أو الزراع؟ أولم يرتفع صوت المعلمين مدوياً طالباً المساواة والإنصاف دون أن تستجيب له الحكومات بتلك السرعة وهذه الأريحية التي تستجيب بهما لرجال القضاء أو النيابة أو المحاماة؟ أولا ينظر المعلم اليوم إلى زميله بالأمس في الدراسة الثانوية فيجده في مجال القضاء يقفز القفزات، أو في ميدان الجيش يتناول (العلاوات)، وهو هو في فناء المدرسة تمضي عليه السنون في الدرجة الواحدة، وتتسع الهوة المالية والاجتماعية بينه وبين زميله هذين، إلى حد يخيل إليه

ص: 14

أن لا عدل هناك ولا مساواة، مع أنه يبذل من الجهد، ويؤدي من الواجب، ما لا يقل قيمة وضرورة وقدراً عن أعمال هذين الندين العزيزين؟

قل ما شئت وما لم تشأ في ذنب المعلم وتقصيره، ولكنك لن تستطيع أن تقول أنه فوق البشر فلا يؤذيه الظلم ولا يميته الإغفال. . .! ثم أنت تنشد بعد ذلك للتعليم إصلاحاً! أفلا يليق بك أن تتدبر هذا الأمر بنتائجه البعيدة والقريبة قبل كل شيء وبعد كل شئ؟

محمد حسن ظاظا

مدرس الفلسفة بالمدارس الأميرية

ص: 15

‌بين الرافعي والعقاد

للأستاذ محمود محمد شاكر

- 2 -

نقل الأستاذ الأدب سيد قطب في كلمته الثانية بعض ما نقده الرافعي في قصيدة للعقاد في ديوانه بعنوان (غزل فلسفي؛ فيك من كل شئ)، وذلك حين يقول في حبيبته:

فيك مني ومن الناس ومن

كل موجود وموعودٍ تُؤام

فقال الأستاذ قطب: فلا يرى الرافعي في هذا البيت الفريد إلا أن يقول: (قلنا فإن (من كل موجود) البق والقمل والنمل والخنفساء والوباء والطاعون والهيضة وزيت الخروع والملح الإنكليزي إلى واوات من مثلها لا تعد، أفيكون هذا كله في حبيب إلا على مذهب العقاد في ذوقه ولغته وفلسفته؟)

ثم يعود فيقول: (إن هذا المثال هو (مصداق رأيي في أن الرافعي أديب الذهن لا أديب الطبع، وأنه تنقصه (العقيدة)! التي هي وليدة الطبع أولاً؛ فأي (طبع) سليم يتجه إلى تفسيره بيت غزلي في معرض إعجاب شاعر بحبيبته، واستغراق في شمول شخصيتها بأن (كل موجود) هو البق والقمل والنمل. . الخ) غافلاً عما في هذا الإحساس من (حياة)! (واستكناهٍ)! لجوهر الشخصية، و (خيال بارع) تثيره طبيعة فنية، فيرى في هذه المرأة من متنوع الصفات ومختلف النزعات وشتى المزايا عالماً كاملاً من كل موجود وموعود.

أحد أمرين:

إما أن الرافعي ضيق الإحساس مغلق الطبع بحيث لا يلتفت إلى مثل هذه اللفتات الغنية بالشعور.

وإما أنه يدرك هذا الجمال، ولكنه يتلاعب بالصور الذهنية وحدها، غافلاً عما أحسهُ وأدركه.

وهو في الحالة الأولى مسلوب (الطبع) وفي الثانية مسلوب (العقيدة!) فأيهما يختار له جماعة الأصدقاء)

ثم أتم الأستاذ علينا نعمة نقده بأن قال (أن هذا المثال (يمثل تلاعب الرافعي بالصور الذهنية، واستغلاق طبعه دون تملي الإحساس الفني).

ص: 16

وقد آثرنا أن ننقل في كلامنا كل هذا لا نبذله ولا نحرفه لنقطع بذلك مادة الشك في صحة النقل من كلام الأستاذ قطب، وليجتمع للقارئ فكرهُ على رأي متصل حين ينظر في أعقاب كلامنا بالتعرف أو الإنكار.

ونحن حين قرأنا قصيدة العقاد لأول مرة في مجلة المقتطف (يناير سنة 1933) زعمنا أنها قصيد مؤلفة من مادة غير مادة الشعر، وأن الغزل الفلسفي الذي فيها حديث يتهالك، والفلسفة منطق يتماسك، فهي على ذلك ليس من شعر ولا فلسفة. وهذا هو بديهة الرأي لمن يقرأ هذه القصيدة ويتدبر معانيها، ويقيسها إلى غرض صاحبها فإنه سماها أول ما سمى (غزلاً فلسفياً) ثم أتبع هذا - وفي رأسها - مما يشبه التفسير لهذا العنوان، وما يتضمن فحوى القصيدة، ويحدد جملة معانيها، وذلك قوله:(فيك من كل شئ).

ولسنا ألان بسبيل من نقد القصيدة كلها، وبيان ما أشرنا إليه قبل في أثنائها وتضاعيفها، وإنما نجتزي بالقول في البيت الذي نقده الرافعي، ثم عقب على نقده الأستاذ سيد قطب بما شاء له (طبعه) المفتوح غير المغلق، و (عقيدته) الكاملة غير المسلوبة، و (خياله البارع) غير المتخلف.

وهذا البيت بعينه:

فيك مني ومن الناس ومن

كل موجود وموعود تؤام

إنما هو تكرار لقوله في صدر القصيدة: (فيك من كل شيء) حين أراد الشاعر أن يزيده بياناً ووضوحاً، ويجلوه جلاء المرآة لتصف شخص صاحبته، أو كما قال الأستاذ القطب (لاستكناه جوهر شخصيتها!)

وقد ذهب الرافعي في نقد هذا البيت مذهب العربي حين يسمع الكلام العربي لا ينحرف بألفاظه إلى غير معانيها، ولا يتسع في معاني الألفاظ بغير دلالة ظاهرة أو مسوغ مضمر، ولا يقبض من معانيها إلا بمثل ذلك مما يجيز انقباض بعض معاني اللفظ عن سائره. وقد قال العقاد لصاحبته في الغزل الفلسفي (فيك من كل شئ) و (فيك كم كل موجود). والعرب والفلاسفة جميعاً يزعمون أن لفظ (كلٍ) إذا دخل على النكرة أوجب عموم أفرادها على سبيل الشمول دون التكرار. فكذلك أوجب الشاعر على صاحبته أن يشمل (جوهر شخصيتها) جزءاً من كل ما يمكن أن يسمى (شيئاً)، ومن كل ما يسوغ أن يسمى (موجوداً

ص: 17

وموعوداً). هذا الإطلاق من (فيلسوف يتغزل) يقتضي شمول الأفراد من (كل شيء)، ومن (كل موجود). وليس يشك أحد - ممن لم يسلبهم الله (الطبع) و (العقيدة) ولم يحرمهم (الخيال البارع) - في أن ما ذكره الرافعي في كلامه - من البق إلى الملح الإنكليزي - شيء من الأشياء وموجود من الموجودات. والفيلسوف حين يتغزل أن يريد هذا بغير شك، ولكن أين تذهب بمعنى اللفظ (كلٍ) في العربية؟ وفي حدود الألفاظ التي تدور على ألسنة الفلاسفة؟ وأي دلالة توجب معنى الشمول من هذا اللفظ؟ أو أي مسوغ يجيز الحد من الإحاطة التي يقتضيها هذا الحرف في مجرى قول الشاعر (فيك من كل شيء) وفيك (من كل موجود)؟!

هذا بعض القول في فساد ألفاظ هذا البيت، وبطلان معنى الفلسفة فيه. ولا يفوتني في هذا الموضع أن أدل على موضع الضعف في فهم الأستاذ قطب لكلام الرافعي. فالرافعي يقول:(قلنا، فان من - كل موجود - البق. . . الخ)، والأستاذ الأديب البارع يقول وكأنه يشرح معنى الرافعي:(فأي طبع سليم يتجه إلى تفسير بيت غزلي. . . بأن (كل موجود) هو البق والقمل. . . الخ)؟ غافلاً عما في هذا الإحساس من (حياة) و (خيال بارع)، تثيره طبيعة فنية، فيرى في هذا المرأة من متنوع الصفات وشتى المزايا عالماً كاملاً من كل موجود وموعود). والرافعي رحمه الله لم يقل إن (كل موجود) هو البق والقمل. . . الخ، وإنما قال إن من (كل موجود)، أي من أفراد الموجودات ما يسمى بقاً. . . الخ، فالحرف (من) في كلام الرافعي ليس هو الحرف (من) الذي في شعر العقاد حتى يجوز ما ذهب إليه الأستاذ قطب بما ساء من تعليقه.

وقد أطلت القول في تقرير نقد توحي بصحته سلامة الفطرة، وحسن الذوق، وصفاء القريحة، ويوجبه اصطلاح المنطق، وحد الكلام، وإتقان الفلسفة، ويقتضيه ما ذهب الشاعر يسرده مما هو (في صاحبته) معدداً مبيناً مفصلاً حتى انتهى إلى إجمال المعاني في هذا البيت. فقد قال لها: فيك من الشمس والبدر، ومن الربيع والشتاء، ومن غناء الطير ونوح الحمام، ومن انسياب الماء، ومن طبائع الوحش، ومن حركة الأسماك، وفيك من جوارح الطير، ومن النعام، ومن نار الحياتين، ومن الموت الزؤام، ومن نقص الدنيا، وكمال الآخرة، ومن الملائكة، ومن الشياطين، ومن الخمر، ومن القوت، ومن الماء، ومن الجوع،

ص: 18

ومن الأرض، ومن السماء، ومن عمل الأيام والدهور، ومن الهندسة، ومن الفن. . . ثمَّ

(فيك منى ومن الناس ومن كل موجود وموعود تؤام)!! أفلا يدل هذا على أن الشاعر الفيلسوف كل التفصيل فرمى بالجملة في (كل شيء) من (موجود وموعود) بعد الذي تعب في بيانه وتفصيله وذكره وتعداده؟؟ وأي شيء بقى له لم يعدده من متنوع الصفات ومختلف النزعات وشتى المزايا والعالم الكامل)! إلا هنات هينات كذا وكذا. . . وما ذكر الرافعي

هذا. . . وقد اقتصر الأستاذ على نقل بعض كلام الرافعي في نقد هذا البيت ونحن نتمه للقراء بعد ذلك:

(إن ذلك المعنى الذي بنى عليه هذا المسكين غزله الفلسفي قد مر في ذهن أعرابي لم يتعلم ولم يدرس الفلسفة، ولا قرأ الشعر الإنجليزي والفرنسي والألماني والفارسي، وليس له إلا ذوقه وسليقته وطبيعته الشعرية، فصفى المعنى تصفية جاءت كأنما تقطر من الفجر على ورق الزهر بقوله:

فلو كنت ماء كنتِ ماء غمامة

ولو كنت درّاً كنت من درةِ بكر

ولو كنتِ لهواً كنتِ تعليل ساعةٍ

ولو كنت نوماً كنتِ إغفاَءة الفجرِ

ولو كنت ليلاً كنت قمراَء جُنِّبَتْ

نحوس ليالي الشهر، أو ليلةَ القدر

(ولو كنت كنت) هذا أبدع عنوان لأجمل قصيدة في فلسفة الغزل. وانظر كيف جعل الأعرابي حبيبته أصفى شيء، وأغلى شيء، وأسعد شيء، وكيف صورها شعراً للشعر نفسه. ثم قابل هذا الذوق المصفى بذوق من يجعل حبيبته من كل شيء، ومن كل موجود وموعود تؤاماً وزؤاماً وبلاء عاماً) انتهى كلام الرافعي

فإن شئت أن تعرف كيف يتناول الشعراء هذا المعنى المغسول من الشعر (فيك من كل شيء) فانظر حيث يقول جرير، وهو فيما نعلم أول من أفتتحه:

ما استوصف الناسُ (من شيء) يروقُهم

إلا أرى أمَّ عمْر فوْقَ ما وَصَفوا

كأنها مُزْنةُ غرَّاء واضحة

أو درة لا يوارى ضوءها الصدف

وقد أحسن جرير تحديد المعنى وتجريده من اللغو (من شيء يروقهم) وجعل في صاحبته من ألوان الجمال ما تهفو إليه نفوس الناس على اختلاف أذواقهم وتباين أنظارهم. وكأن أبا نواس نظر إلى هذا المعنى حين قال:

ص: 19

لك وجه محاسن الخلق فيه

ما ثلاثُ تدعو إليه القُلوبا

على أن جريراً قد ناقض وأحال وأفسد ما استصلح من شعره حين رجع فقال في البيت الذي يليه: (كأنها مزنة. . . أو درة) فإن هذا الحرف (كأن) للتشبيه، والتشبيه يدعى قصور المشبه عن المشبه به، وهو قد ادعى أنه يرى صاحبته فوق ما يصف الناس (من شيء) يروقهم أو يروعهم أو يفتنهم.

ثم جاء مسلم بن الوليد يعقب جرير يقول:

مثالها زهرة الدنيا مصوَّرةً

في أحسن الناس إدباراً وإقبالاً

أستودع العينَ منها كلما برزت

وجها من الحسن لا تُلقى بالا

فالعين ليست ترى شيئاً تسرُّ به

حتى تُريني لما استودعت تُمثالا

ففارق مسلم جريراً حيث جعل صاحبته (زهرة الدنيا مصورة) أي محاسنها وتهاويل جمالها، وأنه يجد عندها تمثالاً لكل حسن تسر به العين.

ثم جاء أبو نواس فألبس الشعر والمعنى من توليده وحسن مأخذه ولطف عبارته فقال:

لها من الظرْف والحس

ن زائدٌ يتجدَّدْ

فكل حُسن بديع

من حُسنها يتولَّدْ

ثم جاء أبو تمام فقَصّر، ولم يحسن اختيار اللفظ، وأضعف روح الشعر فيه فقال:

أنظر فما عاينت في غيره

من حَسَن فهو له كله

وتناوله البحتري، فزاد فيه معنى، ولم يجود نسجه فقال:

وأهيف مأخوذ من النفس شكله

ترى العينُ ما تحتاجُ أجمعُ فيه

فالزيادة في قوله (مأخوذ من النفس شكله) وهي جميلة لولا شناعة قوله (مأخوذٌ)، ولو عدل فيها إلى مثل نهجه في صفة الخمر

أُفرغتْ في الزجاج من كل قلب

فهْي محبوبة إلى كلِّ نفس

لأجاد وبذَّ من سبقه. وقد فطن ابن الرومي إلى معنى البحتري فاتخذه لنفسه وسبق حين قال:

وفيك أحسن ما تسمو النفوس له

فأين يرغب عنك السمع والبصر

وقد قصر ابن الرومي في الشطر الأول عن المعنى الذي أراده البحتري، ولكنه جاوز

ص: 20

البحتري ورمى به خلفه في مقابلة قوله (ترى العين ما تحتاجُ أجمعُ فيه) بما قال (فأين يرغبُ عنك السمعُ والبصرُ).

ثم أدار ابن الرومي هذا المعنى ونفلّه من سواه حين قال:

لا شيَء إلا وفيه أحسنهُ

فالعينُ منه إليهُ تنتقلُ

فوائد العين منهُ طارفهٌ

كأنما أُخرياتهُ الأُوَلُ

ولقد كانت أتعجب لبيت العقاد كيف نزل مع كل هذا الشعر، وكيف خفى عنه موضع التقييد من مثل قول جرير (من شيءٍ يروقهم)، وقول مسلم (زهرة الدنيا) و (شيئاً تُسرَّ به) وما إلى ذلك، ووجهتُه مع سائر القصيدة فلم يزل مختلاً ناقصاً معوجاً لا يستوي. وزادني عجباً قوله في نهاية الشعر (تُؤام)، ولم أجد للفظ معنى لا رأيت له وجهاً يتوجهًه مع مقاصد الغزل الفلسفي حتى وقعت لي أبيات ابن الرومي فإذا قوله (تؤام) ترجمة للفظ آخر هي لفظ (معاً) في قول ابن الرومي ينحو إلى هذه المعاني بعينها.

فالعين لا تنفكُّ من نَظَرٍ

والقلب لا نيفكُ من وَطَرٍ

ومحاسن الأشياء فيكِ (معاً)

فَملَا لِتيك مَلَالَتي بَصرِي

مُتعاتُ وجهكِ في بديهتها

جُدُدٌ وفي أعقابِها الأخَرِ

فكأنّ وجهكِ من تجدُّدِه

مُتنقِّلٌ للعين في صُوَرِ

وقول ابن الرومي (ومحاسن الأشياء فيك معاً) هو عمل الشعر في معنى غسيلٍ قدَّم به العقاد لقصيدة غزل فلسفي وهو قوله: (فيك من كل شيء)

ورحم الله الصولي الذي يقول:

أعرفُ مِنها شَبهاً

في كلِّ شيء حَسِن

فقد أتى بالمعنى عامياً لطيفاً مجفوّاً غير صنيع، وهو على ذلك أرق من فيك منى ومن الناس. . .

فهذا مذهب الشعر من لدن جرير إلى يومنا هذا ولم نستقصه في غرض واحد من أغراضه، وذاك مذهب العربية في معاني ألفاظها، وسبيل الفلاسفة في تحديد معانيها، وفي ثلاثتها قصَّر بيت العقاد وفسد واستحال، معناه وتهالك منطقه. فمن أين يمكن وصف الرافعي - إذا نقد هذا البيت - بأحد أمري الأستاذ قطب: إما أن يكون ضيق الإحساس

ص: 21

مغلق الطبع بحيث لا يلتفت هذه اللفتات الغنية بالشعور. . . (وأين وأنى وكيف نجدها يا أستاذ الأستاذين؟) وما أنه يدرك هذا الجمال ولكنه يتلاعب بالصور الذهنية وحدها، غافلاً عما أحسه وأدركه. . . وما ندري كيف كان يحسه الرافعي رحمه الله؟

أكان يحسه ويدركه بقوة الجوع والعطش في البيت الذي يليه

كيف بي أُعزلُ إن أغنيتني

أنتِ، حتى عن شرابي والطعام!

وأخيراً، فقد خير الأستاذ أصدقاء الرافعي بين أن يحكموا عليه بإحدى كلمتيه أن يكون رحمه الله عليه مسلوب (الطبع) أو مسلوب (العقيدة) وقد تبين بعد الذي قلنا أن نقد الرافعي نقد (محكم) في سياق العربية، وفي جوهر الشعر ونزيد فنقول أن قارئ القصيدة (غزل فلسفي) حين يقرؤها إلى أن ينتهي إلى هذا البيت:(فيك منى ومن الناس. . .) لا يجد فيها من (الحياة) ولا من (الخيال) ولا من (غنى الشعور) ولا من (الإحساس الفني) - إلى آخر ما يتنبل به الأستاذ قطب - ما يجعل نقد هذا البيت بعينه دليلاً على ضيق الإحساس واستغلاق الشعور، والغفلة عن الجمال، وفساد الإنسانية في قلب ناقده.

وعلى هذا فقد سقط الدليل الأول من أدلة أحكامه على الرافعي وبان في ذلك ما امتاز به الرافعي من الدقة وصدق الإحساس في إدراك معاني الشعر وما فيه من غضارة ورُوقة وجمال.

محمود محمد شاكر

ص: 22

‌بين الأديب وبين الناس

للآنسة فلك طرزي

(مهداة إلى الأستاذ توفيق الحكيم)

سيدي الفاضل صاحب الرسالة الغراء:

القطعة الأدبية التي أبعث بها اليوم إليك لتنشر على صفحات مجلتك الراقية، استوحيتها من السلسلة الأدبية الأولى التي ينشرها تباعاً الأستاذ توفيق الحكيم في الرسالة تحت عنوان (من برجنا العاجي).

وقد كتبتها يوم كنت في حلوان أنعم بجو هذه المدينة الساحرة وأنفس عن صدري بنشق أرج النسيم المعطر بعبير الزهر المتدلية عناقيده وباقاته في روضات حدائقها النضرة، فأشعر بأثر الصحة يتغلغل بين جوانب هذا الصدر قوياً حاراً يبعث فيه السرور والبهجة والنشاط. ولا غرو فان اسعد أيام حياتي الذاتية هي تلك التي قضيتها على شاطئ وحدة هذه المدينة الفاتنة تحت بواسق نخيلها وفي ظل صمتها وسكونها.

كتبتها يومئذ ثم حالت شواغلي دون نشرها فطاويتها بين أوراقي إلى أن عثرت عليها اليوم بينما كنت اقلب في هذه الأوراق، فرأيت أن أرسلها إليك لتنشرها في (رسالة) الفن العالي والأدب الصادق الحي، ولو أن نشرها سيجيء متأخراً.

لو علم الناس كيف يعيش كل أديب أو مفكر في هذا الوجود، ولو علموا نوع الحياة التي يقضيها هذا الأديب أو ذاك المفكر مرتبكا حائراً بين متناقضات تتركب منها نفسه، لكفوا عن توجيه الملام إليه، ولا اقتصروا عن نعته بمختلف النعوت والصفات التي لا تنطبق البتة على حقيقته مكتفين بالإقرار أن نفسه غير نفوسهم، وان إحساسه لأبعد غوراً وأعمق نفاذاً من إحساسهم؛ ولكن يظهر أن الحياة التي منحهم إياها القدر حين شيعهم إلى باب الوجود قائلاً لهم: اذهبوا فان لكم الحياة ولكن. . . قد غشت أبصارهم بغشاوة الجهل فلم يدركوا مغزى (لكن) هذه التي يخفى باطنها وينم على معان كثيرة فاتهم إدراكها، كما فاتهم أيضاً رؤية البسمة الساخرة التي ارتسمت على ثغرة الهازئ المتهكم ساعة شيعهم إلى باب الوجود! فما علموا أن القدر منحهم أشياء وسلبهم شيئاً هو أعظم أشياء الدنيا وأغلاها قيمة! وما دروا أن القدر حرمهم نعمة لا يبلغ قمتها العالية سوى من ذاق مرارة الألم التي يولدها

ص: 23

الفكر والإحساس، ومن شعر بقلبه يهتز بين جنبيه مختلجاً حائراً بين إحساس وإحساس وبين فكرة وفكرة.

غير أن (لكن) ثابتة كما قلت يا سيدي قد نطق بها القدر أيضاً حين دفع بالأدباء والمفكرين إلى الوجود وأرفقها بصيحة ألقاها في وجوههم قائلاً: (اذهبوا فإن لكم الفكر ولكن. . .) فبلغت (لكن) هذه من شدة دويها مبلغاً جعلهم شديدي الإنصات إليها، حريصين على ألا يفوتهم سماع الصدى الهائل الذي ينبعث من انفجاره في أنفسهم، فيتفتح فيها من جراء هذا الانفجار منافذ وأبواب على العالم الغامض، لينطبع على صفحات هذه النفوس كل صورة ومشهد من صوره ومشاهده، وكل ما يحوي من حقائق مرة لاذعة، وخيالات جميلة عذاب.

ولا أخال الجماعة الذين أدركوا معنى (لكن) هذه وسيروا غورها العميق فعرفوا أن باطنها يحوي متعاً من الحياة قد سلبهم إياها الفكر والشعور ليمنحهم نعمة الشفاء ولذة الألم - قد يحسدون يوماً من الأيام بقية الناس الذين نعموا بالحياة وبكل ما تحويه الحياة وحرموا نعمة واحدة هي أسمى النعم وأرفع اللذات وأعنى بها نعمة الشعور الذي يولد التفكير الصحيح.

وإذا حملهم أحياناً فيض شعورهم لشدة ما ينتابهم من جرائه على حسد ألئك، فان هذا الحسد لا يدون إلا لحظات، ولا يطول أكثر من فترات. ذلك لأن (النوع) الرفيع العالي الذي يطبع سعادة جماعة الفكر والأدب بطابعه السحري، لا يستطيع غيرهم من الناس إدراك كنهه العميق وليس بوسعهم بلوغ قمته العليا.

وهل بإمكان البواعث التي يسعد بها الناس أن تبعث في نفس الأديب أو المفكر أية سعادة ما؟

وهل تسر هذا الأديب أو ذاك المفكر نفس المسرات التي يغتبط بها بقية الناس؟

قد تسعد الأديب ذات البواعث التي تسعد الناس، وقد تسره الأسباب التي تسرهم، غير أن ما يميزه عنهم ويجعل فروقاً بين سعادته وسعادتهم وسروره وسرورهم هو ما يمكن أن تخلفه هذه السعادة وذاك السرور في نفسه من عميق الأثر وما قد ينتج عن هذا الأثر من معان وفكر قد تحولها - أي السعادة والسرور - إلى عكسهما بعد أن يخضعهما الأديب إلى قوانين التحليل والتدقيق.

ولكم سخر أدباء من سعادة كثير من الناس وفضوا عليها شقاوتهم وحيرتهم! ولكم لام

ص: 24

المفكرون ونقدوا أساليب ووسائل يستعين بها أشخاص لبلوغ أمنية السعادة المنشودة دون التفريق بين أسلوب والتدقيق بين وسيلة ووسيلة!

فإذا كان الفكر الإنساني قد حكم على كل مفكر وأديب أن يحبس نفسه في مقر ذاته العميق، وان يرسل نبرات صوته بين أرجاء السكون الذي يملأ هذا المقر، ثم لا يسمع غير صدى هذه النبرات!

وإذا كان قد قضى عليه أن يعيش في تلك العزلة الموحشة عزلة نفسه التي يحرسها (تنين) الوحدة، فعزاؤه عما فاته من متع الحياة انه يصغي في كل لحظة من لحظات عمره القصير بعدد السنين المديد بمقدار الدقائق إلى كل همسة من همسات ضميره ونفسه، وينصت إلى كل نغمة من نغمات الحياة التي لا ننفك أوتار قلبه تعزفها على قيثارة الضلوع.

فلنتغنَّ إذن بين جدران أنفسنا الشاهقة، ولنرسل ألحان هذه الأغاني موسيقى تحوي أنغام الحياة على أنواعها فتتحول عند سقوطها في القاع - قاع أنفسنا - صوتاً قوياً تنبعث منه نبرات الحياة حارة بليغة.

(دمشق)

فلك طرزي

ص: 25

‌آراء حرة

بين العقاد والرافعي

للأستاذ سيد قطب

كنت قد أعددت هذه الكلمة قبل أن أقرا كلمة الأستاذ سعيد العريان الأخيرة، ومقدمته لها. قلما قرأتها لم أجد أن أغير في كلمتي شيئاً. . .

وبقى أن الأستاذ يقول عما كتبت: (ومع ذلك فأن ما أتى به من النقد ليس بشيء عندنا). فإن كان يكفي في الحكم أن يقول الإنسان هكذا فيكون ذلك قضاء، فإننا - على طريقته - لا نتكلف أكثر من حذف أداة النفي فنقول: هو (بشيء) عندنا) وبذلك تنتهي!

وبقي أنه عرض بي في ثنايا مقاله بعد ما تخلى عن الرد وقال إنه مؤرخ. . تعريضا غير لائق. فما مثلي بمن يحتاج لمن يفهمه أدب الرافعي وليس فيه شيء لمثلي غير مفهوم، وما هو بصاحب طريقة في الفكر والفن، إنما هو صاحب طريقة في التعبير، وأنا أحد الأخصائيين في اللغة التي يعبر بها.

على أن هناك ما يضع حداً للجدل. أليس الأستاذ سعيد العريان يفهمه؟. بلى. فأنا إذن من باب أولى أفهمه.

سيد قطب

- 3 -

حين قال الأستاذ سعيد العريان عن نقد الرافعي لوحي الأربعين: انه بلغ فيه ذروته، وجمع كل فنونه، كان صادقا في قوله، وكنت مخطئا في الاعتراض عليه، كما اتضح لي الرأي في هذا الأسبوع الأخير!

وحين قلت: أن الرافعي أديب (الذهن) لا أديب (الطبع) وانه ينقصه (القلب) المهيأ للحب، وانه لا يعنيه إلا أن يصور الحقائق الوقتية الصغيرة في صورة خلابة، لم يكن هذا المعنى واضحاً محدداً في ذهني كما اتضح في هذا الأسبوع الأخير!

وحين ذكرت أن الرافعي ذكي، قوي الذهن، كنت متسامحاً جد التسامح أو مبالغاً جد المبالغة، ولم أعلم ذلك كله علم الأسبوع الأخير! وإليك البيان. . .

ص: 26

حينما أمسكت بالقلم لأكتب الكلمة الأولى بهذا العنوان، كان في ذهني ونفسي صدى مطالعاتي القديمة للرافعي، وهو صدى غامض يدل على الجملة، ولا يمد الناقد بالتفصيل.

وحينما كتبت الكلمة الثانية، لم يكن بين يدي إلا نقده لوحي الأربعين، فأبديت رأيي فيه كما رأى قراء الرسالة.

ولكنني حين رحت أتلمس الأمثلة من بعض كتب الرافعي واخترت أن أبدأ (برسائل الأحزان)، اصطدمت بالرافعي من جديد، واختلف الصدى الغامض القديم، عن الصوت الواضح الجديد. (أحسست صدق الأستاذ سعيد في نعته لنقد وحي الأربعين، فإنه - على ما به - في الذروة من نتاج الرافعي كله كما قال!

وأحسّست أنني أخطأت في عدم تحديد (الذهن) الذي قلت أن الرافعي يصدر عنه في أدبه، فمن الذهن ما هو سليم أو مريض، وما هو مشرق أو خابٍ، وما هو متفتح أو مغلق. . . إلى مالا نهاية له من ألوان الأذهان:

وأحسست أنني خدعت في (قياس ذكاء) الرافعي، ومعرفة طبيعته ودرجته، حتى ردتني إلى القياس الصحيح (رسائل الأحزان)! وإنني لأحس بالغضاضة في هذا التراجع، فيعزيني عنه (الصدق) الذي أعبر عنه حين أنصت لإحساسي وأصور حقيقة رأيي.

الرافعي أديب الذهن. ولكنه الملتوي المعاظل المداخل الذي لا يستطيع أن يسلك أقرب طريق إلى ما يريد، بل يتخذ الدروب والمنحنيات، ويلتف حول نفسه، ويعصر نفسه، مرة ومرة، قبل أن يصل إلى الحقيقة الهينة الصغيرة، التي تعثر بها الأذهان المستقيمة مدى ذراع.

والرافعي يصدر في أدبه عن ذكاء، ولكنه ذكاء اللمحة والومضة، لا ذكاء الإشراق والصفاء. الذكاء الذي يخبط بجناحه هنا، ويخبط بجناحه هناك، فيهيئ للناظر انه يرفرف ويطير، والواقع انه مكب على الثرى، وما هي إلا خفقات الجناح.

والرافعي في رسائل أحزانه يتراءى كأنما يتمطى في أغلال، أو يتنزى في وثاق، يحاول أن يتلفت من هذا وتلك، وهو ينغض رأسه ويضرب بقدميه، ويضرّس أنيابه، في حركات عصبية، ليخلق اللفظة بعد اللفظة، والجملة بعد الجملة، والخاطرة بعد الخاطرة، في جهد وعناء!

ص: 27

وإنك لتسأل بعد قرأتها: أهذه رسائل حب؟ أو ذكرى حب؟ وأنت خليق أن تفتقد فيها الإنسان قبل الفنان.

أسمع قصيدة صدر بها أحد كتبه ولاشك أنه معجب بها، اسمع الشعر الذي يعجب من ينقذ شعر العقاد في الحب:

من للمحب ومن يعينه؟

والحب أهنأه حزينهُ

أنا ما عرفت سوى قسا

وته فقولوا كيف لينهُ

إن يقض دين ذوى الهوى

فأنا الذي بقيت ديونه

قلبي هو الذهب الكر

يم فلا يفارقه رنينهُ

قلبي هو الألماس يع

رف من أشعته ثمينه

قلبي يحب وإنما

أخلاقه فيه ودينه

فهذا الشاعر الذي ينقد شعر العقاد في الحب، هو الذي يعجبه ما يقلد من شعراء الدول المتتابعة والمماليك في مصر، وشعراء أواخر العهد العباسي فنسمع رنين شعرهم في:

(إن يقض دين ذوي الهوى

فأنا الذي بقيت ديونه)

يعجبه هذا الذي لا يرتفع مستواه الفني على أن يذكر (قلبه) في سوق (المجوهرات) من الذهب والألماس، معتقداً أن تلك (المعادن) أثمن من (القلوب) لأنها تقوّم بالمال الكثير في السوق.

وما عن تهكم أصدر في هذا التعبير، فهي حقيقة تعززها الأمثلة الكثيرة في (الرسائل) وسيأتي هذا في موضعه.

أما القصيدة بعد هذا فخطبة منبرية، لا تعرف أن كان صاحبها محباً حياً يثير الحب في نفسه وأعصابه دفعات الحب، وينبه خوالجه وخواطره، ويعمق إحساسه بالحياة، ويضاعف شعوره، أم إنه واعظ يدعو في جفاف وجفوة إلى (عدم الاعتداء على الأعراض) بأسلوب لا يتصل بالقلوب، كمعظم خطباء المساجد في هذه الأيام:

يا من يحب حبيبه

ويظنه أمسى يهينه

وتعف منه ظواهر

لكنه نجس يقينه

كالقبر غطته الزهو

ر وتحته عفِنٌ دفينه

ص: 28

ماذا يكون هواك لو

كل الذي تهوى يكونه

دع في ظنونك موضعاً

إن الحبيب له ظنونه

وخذ الجميل لكي تزي

ن الحسن فيه بما يزينه

إن تنقلب لص العفا

ف لمن تحب فمن أمينُه

الخ. . . الخ

ولعل أصدقاء الرافعي في نشوة حين يطالعهم بهذه الصورة الذهنية:

كالقبر غطته الزهو

ر وتحته عفِنٌ دفينه

ولكن أين هذا أيها (الأحياء) في عالم الحب الحي، وإن هو إلا (اللعب على الحبل) في هذا الميدان؟

ثم ماذا؟ ثم اسمع الشاعر الذي لا يعجبه شعر العقاد في الحب:

حسناء خالقها أتم جمالها

سألته معجزة الهوى فأنالها

لما حباها الله جل جلاله

بالحسن منفرداً أجل جلالها

تضنى المحب كأنما أجفانها

ألقت عليه فتورها وملالها

هيفاء قد شب النسيم قوامها

غصناً فإِن خطر النسيم أمالها

سيالة الأعطاف أين ترنحت

تطلق لكهربة الهوى سيالها

هكذا نعود إلى شعراء الدول المتتابعة في التكلف والمعاني المطروقة التي يباع كل عشرة منها بقرش في هذه الأيام! ولا نرتفع عن (الأجفان التي تلقى على المحب فتورها وملالها)، ولا عن (النسيم الأعمى أو الأصم أو الثقيل الحس الذي يحسب المحبوبة غصناً، لعماه أو صممه أو ثقل حسه، فيميلها عند مروره!

وهكذا لا ندخل أبداً في زحمة الحياة وتياراتها، ولا نحس الحياة في خالجه أو خاطرة، ولا (نعيش) في هذا الحب عيشة الأحياء الذين يتأثرون بحسهم وأعصابهم وخوالجهم بجانب أذهانهم، أو حتى الأحياء الذين تلتفت أذهانهم وحدها إلى صور الحياة وأشكالها، ودوافعها وأمواجها ولو لم يندمجوا فيها، ويتأثروا بها!

ولكن لا، فقد كسبنا التفاته ذهنية رخيصة، لا بل التفاته عرفية أو كلامية، فأن هذه الحبيبة لما (انفردت) فكانت لها صفة (الوجدانية) في الحسن (أجل جلالها) الله جل جلاله.

ص: 29

فليلق بالهم إلى ذلك علماء (الكلام)، فما كتب إلا لهم وحتى لا تفهم أن الشاعر قديم، أقرا التجديد الذي تندق دونه الأعناق!

سيالة الأعطاف أين ترنحت

تطلق لكهربة الهوى سيالها

أفبعد (الكهرباء) وهي آخر ما كشف من قوى الطبيعة قولة لقائل من المجددين الذين ينقدهم الرافعي النقد الشديد؟

فمن يكن في شك أو ظل من شك فليقرأ، ليعرف أنها لم تكن خطرة عابرة في التجديد، وإنما هي عن تعمد وسبق إصرار.

يا نجمة أنا في أفلاكها قمر

من جذبها لي قد أضللت أفلاكي

هناك الكهرباء، وهنا الجاذبية، أبعد هذا يكون شك أو ظل من الشك؛ لا. وألف مرة لا!

ولا شيء وراء هذا العبث الذي لا نريد له نقاشاً وان كان فيه - لو شئنا سلوك طريقة الرافعي في النقد - مجال لعشرات الغمزات والتهكمات.

وقد قلت لك: أن الرافعي يغالي (بالمجوهرات) فأسمع:

يقول للصديق المفروض أن هذه الرسائل تكتب أليه. إنه سيقص له قصة حبه لا بالترتيب.

(فإن هذا مما يحسن في تاريخ صخرة تتدحرج، أما أنا فسأقدم لك تاريخ لؤلؤة فريدة).

ولست ادري الفرق لدى الفنان (الحي) بين أن يقص تاريخ صخرة وتاريخ لؤلؤة إلا أن يكون (الثمن) هو الفارق بينهما.

أفهم أن يقول: (إن هذا مما يحسن في تاريخ صخرة، أما أنا فسأقدم لك قصة حياة. أو قصة بنية حية يدخل في تأليفها ودوافعها شيء غير الزمان والمكان، هو الحس والشعور. أو تاريخ نبتة تنمو من داخلها أكثر مما تنمو في خارجها) أو أي تعبير آخر يدل على أن القائل يستشعر الحياة في أعماقها، أو ظواهرها على الأقل، ويرى (القلب) شيئاً حياً، جماله في حياته، وان لم يقوّم في سوق المجوهرات بعشر ماسة أو قطعة صغيرة من الذهب! ثم اسمع: يقول في إحدى الرسائل: (أما سمعت بذلك الأعرابي الذي قيل له: ما بلغ من حبك لفلانة؟) فقال: والله إني لأرى الشمس على حائطها أحسن منها على حيطان جيرانها. . .، قد ولله صدق وبرت يمينه) فإن في كلماته الشعرية لأثراً من (عينيه)، إذ يرى الشمس على حائطها كالشمس على (البلور الصافي) لا على الحجر والمدر).

ص: 30

أن الأعرابي ليرتفع إلى الذروة الفنية في قولته الساذجة، ويخيِّل إليك الحياة المشرقة في (ضميره)، - لا عينيه وحدهما - وهو ينظر إلى الشمس على حائط حبيبته ويكشف عن (الخصوصية) الدقيقة التي ترى (شمس حبيبته) وكأنها خلقة خاصة بها لا يشاركها فيها سواها. . . الخ ما يتسع له التصور من ألوان الامتياز الوجداني في هذا الأعرابي.

ولكن صاحبنا لا يرى في هذا إلا أن (الشمس على حائطها كالشمس على البلور الصافي، لا على الحجر والمدر).

فمدار الجمال إذن هو نفاسة ما تطلع عليه الشمس وثمنه في السوق، ولاشك أن البلور أغلى من الحجر والمدر!

ولعله هو أو أحداً من أصدقائه لا يستطيع أن يصدق أن الشمس على (الحجر والمدر) الرخيصين أجمل؛ أو على الأقل قد تكون في وضعٍ ما أجمل من الشمس على (البلور) الغالي الثمن، وذلك عند (الطبع) الحي، الذي يعيش في الحياة الرحبة، لا في سوق المجوهرات!

واسمع. . . في رسالة أخرى:

(ثم يجري كلامه فيها شعراً خالداً مطرداً كنهر الكوثر في رياض الجنة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت)

أرأيت؟ الذهب والدر والياقوت!

ولا يتشكك صاحبنا في أن النهر الذي حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت أجمل من النهر الذي حافتاه من العشب الأخضر، ومجراه على الرمل والطين.

لا يلتفت إلى أن الأول مصنوع قد يهيج العين لحظة ثم لا تحس وراءه حياة، ولا معني أعمق من ظاهره، فتمله النفس؛ أما الثاني فهو لا يأخذ (العين) بالبريق والوهج، ولكنه يملأ (النفس) بالروعة والجمال، ويتيح لها التأمل العميق في الطبيعة، والاندماج بين الحياة الجارية في النهر والحياة الجارية في النفس، لقرب النشأة والتكوين.

لا لا. فالمهم هو البريق الذي يخلب الحس، والأهم هو (السعر) المقدر للياقوت والطين. وشتان شتان!

وبعد فقد كان في هذه الأمثلة الكفاية لتوضيح نظرتي في الرافعي والبرهان عليها، كل مثال

ص: 31

يغني عن سواه. وقد تعمدت أن اختارها من اللفتات الصغيرة الخاطفة، وما يستجاد عند مدرسته، وهي أدل على طبيعة الفكر ومعدن الذهن.

ولكن لدي أمثلة في نهج آخر يؤدي إلى النتيجة نفسها، وموعدي مع قراء الرسالة ي ذلك كلمة أخرى بعد أن طال هذا المقال.

(حلوان)

سيد قطب

ص: 32

‌ليلى المريضة في العراق

للدكتور زكي مبارك

- 18 -

- كان فضيلة الشيخ دعاس العيسوي والد عبد الحسيب يقيم بالزمالك، أعني في بولاق.

- ما هذا الخلط يا ظمياء؟

- كنا نفهم انه يقيم بالزمالك، ثم عرفنا انه يقيم في بولاق، وقد فهمنا أن سكان بولاق يحبون أن يسموا محلتهم زمالك.

- شئ غريب!

- وما وجه الغرابة في لك؟ إن بولاق تشرف على النيل كما تشرف عليه الزمالك

- ولكن بولاق في الضفة الشرقية، والزمالك في الضفة الغربية، فبولاق شرق، والزمالك غرب، والشرق والغرب لا يلتقيان

- أيش لون؟

- هذه معان لا يفهما غير الفلاسفة يا ظمياء

- وكنت أذهب في صحبة ليلى إلى منزلي الشيخ دعاس العيسوي، وكان شيخاً يقارب الستين، ولكنه كان أعجوبة الأعاجيب في مغازلة النساء. كان يصوب بصره إلى ليلى ويقول:(يا بنت يا كهرباء) وكانت ليلى ترتاح لهذا الوصف الطريف. ولعلها كانت تود لو سمعت هذه العبارة الطريفة من عبد الحسيب، وكانت السيدة نجلاء. . .

- هل تعرفين شيئاً من تاريخ نجلاء؟

- أعرف كل شئ: كانت فتاة خفيفة الروح عرفها الشيخ دعاس وهو يصطاف في لبنان قبل الحرب بأعوام طوال، فتزوجها ونسى من أجلها زوجته وأبناءه في (شمون).

- وهي أم عبد الحسيب؟

- بالتأكيد، وعنها ورث خضرة العينين

- فهمت. هاتي بقية الحديث

- وكانت ليلى ترفض الجلوس على المائدة مع الشيخ دعاس وابنه عبد الحسيب، ثم استأنست بعد حين، فقد اطمأنت إلى شرف القلوب في ذلك البيت. وكان فضيلة الشيخ

ص: 33

دعاس يتناول على المائدة دواءً كميت اللون يصلح الأمعاء. وكان هذا الدواء يحفظ في صوان خاص ويُقدَّم إليه في الغداء والعشاء. وفي ظهر يوم طرق الباب وأعلن الخادم قدوم الشيخ الزنكلوني فأسرعت ربة البيت وأخفت زجاجة الدواء. ودخل الشيخ الزنكلوني فرأيناه رجلاً عليلاً وعجبنا كيف يبخل عليه الشيخ دعاس بقطرة من الدواء الذي يصلح الأمعاء.

- عمن تلقيت دروس اللؤم يا ظمياء؟

- تلقيتها عن طبيب مصري يقيم في بغداد

- وأين عيادة هذا الطبيب؟

- هو طبيب بلا عيادة، على وزن وزير بلا وزارة

- فهمت. ويسرني أن يكون تلاميذي جميعاً أذكياء. وماذا صنع الشيخ الزنكلوني حين رأى ليلى؟

- قبّل جبينها وقال: أنت درية؟ فلما عرف أنها فتاة من العراق قبّل جبينها مرة ثانية وقال: أنا احب العراق ونسائم العراق وجميع ما يرد من وطن أبي حنيفة النعمان. اسمعي يا بنيتي، أنا من الشافعية، ولكني أستظرف الحنفية.

وهنا تدخل الشيخ دعاس فقال: ولكن أبو حنيفة كان يبيح النبيذ.

فثار الشيخ الزنكلوني وقال: هذه دسيسة مذهبية، فما أباح أبو حنيفة النبيذ، وإنما أباح العرقسوس

وتشجعت ليلى فقالت: رحم الله أبا حنيفة فقد كان يعرف أن العرقسوس يصلح الأمعاء.

وكانت أول مرة فهم فيها الشيخ دعاس أن ليلى لم تكن من الغافلات

ثم دعانا الشيخ الزنكلوني لزيارة منزله في حارة أو الغلام

- وزارته ليلى هناك؟

- وعدت ثم أخلفت، فقد رابها تظرف المشايخ

- ضيعتم فرصة ثمينة يا ظمياء. فما الشيخ الزنكلوني متظرفاً وإنما هو ظريف

- سنزوره حين نرجع إلى مصر يا مولاي

- ومتى ترجعون إلى مصر، يا ظمياء؟

ص: 34

- حين تسمن الأسماك

- ومتى تسمن الأسماك؟

- حين ينضج التوت

- ومتى ينضج التوت؟

- حين تعقل ليلى وترجع إلى التلطف مع طبيبها النبيل

- إذاً لن ينضج التوت ولن تسمن الأسماك

- صبراً يا دكتور فإن الله مع الصابرين

- سأصبر يا طفلتي الغالية. . . ولكن كيف كانت ليلى مع عبد الحسيب؟

- كانت تتغطرس عليه كما تتغطرس عليك، فتتجاهل ما تملى عليه الصبابة من نظرات وأحاديث. المحبون يتغطرسون لأنهم أذلاء، ولو كانوا على شيء من العزة لاحتقروا الكبرياء. وهذا هو السبب في أن الأحباب يحرم بعضهم عطف بعض. فالحبيب يريد أن يذل له المحب، والمحب يريد أن يذل له الحبيب؛ وفي ظلمات هذا العتاد السخيف تنفصم الأواصر والصلات. وكان المسكين عبد الحسيب يسلك إلى قلب ليلى كل سبيل. كان يحتال ليظفر منها بابتسامة. كان يغرب في سرد أخبار الشيخ كراوية

- ومن الشيخ كراوية يا ظمياء؟

- أستاذ كان يدرس اللغة العربية بمدرسة المساعي المشكورة بالزقازيق.

- أنت جاهلة يا ظمياء، فمدرسة المساعي المشكورة في شبين الكوم لا في الزقازيق

- أؤكد لك أنها في الزقازيق. ولك أن تسأل ليلى فعندها الخبر اليقين

- إذا أخذت العلم عن ليلى فعلى العلم العفاء

- وكان عبد الحسيب يقف فيقلد صوت الشيخ كراوية وهو ينشد قول جرير:

إن العيون التي في طرفها حور

قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به

وهن أضعف خلق الله إنسانا

وكان يصوب بصره إلى ليلى حين يصل إلى عبارة (وهن أضعف خلف الله إنسانا)، وكان يرضيها أن ترى هيامه بها فتبالغ في التغطرس والازدهاء

وفي إحدى العصريات دخل عبد الحسيب غضبان فانزعج الشيخ دعاس وانزعجت السيدة

ص: 35

نجلاء، فنظرت إلى وجه ليلى فرأيته يشبه دجلة في أيام نيسان

- إيش لون؟

- وأنت يا مصري نقول (إيش لون؟)

- إيش لون؟ إيش لون؟

- دجلة في نيسان تحاول من فرط الشوق والحيوية أن تلطم وجه بغداد

- وكانت ليلى تحب أن تلطم وجه عبد الحسيب؟

- كانت تهم بافتراسه لأنها كانت تنكر أن يدرك معنى البؤس وهي في دنياه

- كانت تحبه؟

- وأي حب؟ وهل في الدنيا فتاة تحبس قلبها عن فتى وافر الرجولة متين الأخلاق؟

- وما هي أسباب ذلك الغضب الذي سيطر على عبد الحسيب؟

- قال إنه تلقى محاضرة في مدرسة البوليس ألقاها الصاغ على حلمي عن (القوة المعنوية) فثار صدره وعجب كيف يعجز عن التسلح بالقوة المعنوية، وجلس على المائدة وهو في غاية من العقل، فلا نوادر ولا فكاهات، ولا الشيخ كراوية ولا عبد الله شعيب. فعرفت ليلى أن الشاب ابتدأ يحاربها بلا رحمة ولا إشفاق. آه، ثم آه!

- لا تتأوهي يا ظمياء فقد مزقت قلبي

- تحبني يا مولاي؟

- استحي يا ظمياء فأنت في حضرة طبيب

- وبعد ليال دعتنا السيدة نجلاء لسماع المغنى عبد اللطيف البنا في ملاهي المعرض فسمعناه يقول:

(سلامة القلب من حبك يا قاسي)

فتحدرت مدامع ليلى وأصابها إغماء. وكانت ليلة قضيناها في كروب وأشجان. وفي الليلة التالية صممت ليلى على أن نذهب وحدنا إلى ملاهي المعرض، فسمعنا أم كلثوم تغني

يا للي شغلت البال

يا ليت أكون على بالك

الوجد له أحوال

يا ليتني أعرف حالك

فأخذت ليلى تبكي بكاء لا تجود بمثله عيون الأطفال، فخشيت أن نفتضح وأخذتها في

ص: 36

سيارة إلى المنزل الذي كنا نقيم فيه بشارع قصر النيل، واحبسنا عن جميع الناس ثلاثة أسابيع

- ثم ماذا؟

- ثم تفضل الشيخ دعاس والسيدة نجلاء والآنسة درية بالسؤال عنا فتشجعت ليلى وسألت عن عبد الحسيب، فأبتسم الشيخ دعاس وقال: تحبينه يا ليلى؟ فقالت: ما أحبه، وإنما أشتهي أن يحدثني مرة ثانية بحكايته يوم تشيطن فأخذ زجاجة الزيت وملأ بها حابر زملائه من التلامذة الأقباط حين كان تلميذاً بمدرسة المساعي المشكورة الثانوية.

وقهقة الشيخ دعاس وهو يقول: وما رأيك يا ليلى إذا كان التلامذة الأقباط اصبحوا يرحبون بوضع الزيت في محابرهم على أيدي التلامذة المسلمين؟

ولم تفهم ليلى ما يريد، فاستطرد الشيخ دعاس قائلا: نحن ائتلفنا يا بنيتي على يد الشيخ الصالح سعد زغلول، وأنا وضعت قواعد الائتلاف قبل سعد زغلول، فزوجتي نجلاء كانت مسيحية وأسلمت لتربط بين مصر ولبنان. فما رأيك لو خطبتك لعبد الحسيب؟

فاستأنست ليلى وقالت: هل قرأت يا فضيلة الشيخ أخبار عمر بن أبي ربيعة؟

فقال: ما قرأتها، لأن أخبار عمر بن أبي ربيعة لا تدرس في الأزهر الشريف.

فقالت ليلى: كان ابن أبي ربيعة يستهوي جميع النساء اللائي يشهدن موسم الحج، إلى أن فتنته امرأة عراقية، فراودها عن نفسها فاستعصمت، فخطبها لنفسه فأبت وقال: تعال إلى العراق واخطبني من أهلي. وكان ابن أبي ربيعة ماجناً فلم يتبع معشوقته إلى العراق، وحرمه المجون من التشرف بمصاهرة أهل العراق.

فإن كان عبد الحسيب صادقا في حبي فليمض إلى العراق وليخطبني من أهلي هناك.

وعرف الشيخ دعاس أن هزل الحب جد، فانصرف وهو مكروب!

- ثم ماذا يا ظمياء؟

- ثم انتظرنا أسابيع فلم يسأل عنا الشيخ دعاس ولا ابنه عبد الحسيب، فرجعنا إلى العراق ونحن نبكي سلامة لأخلاق في بلاد الفراعين

- شئ مزعج، شيء مزعج!

- لا تحزن يا مولاي ولا تبتئس، فقد وقعت أعاجيب - أفصحي يا ظمياء

ص: 37

- في اليوم الثالث والعشرين من تشرين الأول سنة 1926 طرق الباب زائر غريب، فنظرنا فإذا هو الضابط عبد الحسيب بعينيه الخضراوين وقوامه الرشيق؛ وهجمت ليلى عليه فقبلت جبينه وخديه بلا تهيب ولا استحياء، ودعوناه للنزول في ضيافتنا فرفض، وقال إنه جاء لخطبة ليلى، وإنه ظفر بدبلوم مدرسة البوليس، وأنه مرشح لرياسة نقطة النعناعية، فنظرت ليلى إليه بعيني اللبؤة العادية وقالت: لن اقبل يدك أو اختبر أخلاقك!

- ثم ماذا؟

- ثم استيأس الشاب المسكين وقال: وبأي صورة أعيش في بغداد؟ فقالت ليلى: ذلك إلي

- ثم ماذا؟

- ثم تحمّلْت ليلى بأهلها ومعارفها إلى نوري باشا السعيد وكان يومئذ وكيل القائد العام، وكان برتبة زعيم فالحق الضابط عبد الحسيب بالجيش العراقي بحجة التقريب بين مصر والعراق

- شيء جميل!

- انتظر يا دكتور، فقد أفسدت ليلى كل شيء

- وماذا صنعت الحمقاء؟

- بثت من حوله العيون لترى كيف يفكر وكيف يصنع، فصح عندها انه كافر بالحب وكافر بالعروبة فأصلته نار الصدود

- ثم ماذا يا ظمياء؟

- ثم رحل المسكين إلى مصر بدون أن يستأذن رئيسه نوري باشا السعيد

- ثم ماذا يا ظمياء؟

- ثم خلت حياة ليلى من حبيبها الغالي فلم تعد تعرف طعم الحياة وحالفها الضنى والنحول

- ثم ماذا يا ظمياء؟

- ثم علم الشاب المسكين بمرض محبوبته الغالية فلاذ بأمه الرءوم فمضت إلى الأستاذ خليل مطران تستفتيه، فكان من رأيه أن ينتقم من ليلى بطريقة دولية تضج لها المشارق والمغارب، وصح عنده أن تغني السيدة نادرة هذا البيت:

يقولون ليلى في العراق مريضة

فيا ليتني كنت الطبيب المداويا

ص: 38

ولم يقف عند هذا الحد، بل أشار بوضع هذا الصوت في شريط (أنشودة الفؤاد).

- ثم ماذا يا ظمياء؟

- ثم تنكر أهل العراق لذلك الشريط وقاوموه غيرة على ليلى فلم يعرض في بغداد غير مرات معدودات

- ثم ماذا يا ظمياء؟

ثم لطف الله بليلى فجاء الدكتور زكي مبارك لمداوتها منتدبا من الحكومة المصرية

- وما الرأي يا ظمياء إذا عوفيت ليلى ومرض الطبيب؟

- الأمر يومئذ لله

ليلى، ليلاي

أنت تعلمين أنني تركت في سبيلك وطني وأهلي. أنت تعلمين أن صحتي اعتلت وأنني أعيش على منقوع الفواكه منذ أسابيع وأسابيع. أنت تعلمين ما أنا صائر إليه أن دام هذا الصدود. أنت تعلمين إني ضحية الواجب والعقيدة والوجدان. فما هذا التجني يا ليلى والإحساس ما خنت العروبة ولا كفرت بالحب؟

أحبك يا ليلى، احبك، فاصنعي بقلبي ومصيري ما شئت وشاء الهوى وشاء الدلال

أحبك يا ليلى في غضبك ورضاك. احبك حباً ما سبقني إليه سابق، ولن يلحقني فيه لاحق. أحبك يا ليلى واحب من أجلك جميع ما في الوجود حتى قيظ بغداد. أحبك يا ليلى ورأي وجهك مسطور الملامح والتقاسيم في كل ما تقع عليه عيناني. أحبك واحب من أجلك نعيم الحياة وبؤس الحياة؛ وما احب الحياة لنفسي يا ليلى فقد شبعت منها ورويت، وإنما احب الحياة ليبقى لك في الدنيا محب صادق يرى الضلال في هواك أشرف من الهدى، ويرى الظلام في هواك أكثر إشراقاً من بياض الصباح.

أحبك يا ليلى وأتمنى إلا تحبيني؛ فما يرضيني أن تعاني في الهوى بعض ما أعاني

أنا اكره لك يا معبودتي أن تذوقي ملوحة الدمع، وان تهيمي بعهد نجوم الليل، وان تقفي موقف الجمود أمام الأزهار والأشجار والأنهار فلا تدركين كيف يبتسم الوجود

- ظمياء!

- عيوني!

ص: 39

- ظمياء!

- عيوني، دكتور زكي، عيوني!

- خذي بزمامي إلى الجحيم

- وأين الجحيم يا مولاي؟ حماك الله ونحاك!

- أين الجحيم؟ أما تعرفين؟ خذي بزمامي إلى دار ليلى علني أعرف مصيري في هوى تلك الظلوم

- في المساء؟

- في هذه اللحظة

- انتظر حتى أراها وارجع إليك، فان اصطدام العاشقين في فورة الغضب قد يحملك على أن تمن عليها أو تجرها إلى أن تمن عليك، والمن يصنع بالحب ما تصنع أنار بالحلفاء

(للحديث شجون)

زكي مبارك

ص: 40

‌مصطفى صادق الرافعي

بمناسبة مرور سنة على وفاته

للأستاذ فليكس فارس

بقية ما نشر في العدد الماضي

لكل كاتب منهجه، ولكل مفكر تقديره. وما اذهب إليه في تحديد الرافعي هو ما تيقنته فيه قبل أن تنشأ بيننا أية علاقة شخصية، إذ رأيت فيه الأديب المطبوع المتمرد على كل مشايعة وتقليد. فهو مثال جديد للأدب العربي القديم يستلهم أجواء الشرق ويلبس تفكيره حلة من لغة الجنان لا يسع كاتباً من عباقرة سائر الأمم أن ينسج على منوالها.

الرافعي هو أحد أعلام العرب المعدودين، أحد الأئمة السائرين في الطليعة من فيالق الأدباء في عصر النهضة الجديدة. ولا يجوز لأي كاتب منصف أن يصوره للتاريخ متخلقا خطوة واحدة عن رفاق جهاده. فمن الجناية على الحق أن نقيم في وهمنا حلبة نستركض عليها عباقرتنا ونتسلى بالنظر إليهم كأنهم جياد السباق يتجهون إلى أمد واحد. فليس الأدب حلبة اختط المراهنون عليها طريقاً واحداً لتغلب فريق على فريق؛ إن الأدب إلا أجواء تتطاير فيها القرائح فراشات تستهويها أنوار وأنوار. . . ولكل نور جذبته، ولكل نور جماله، إذا هو اقتاد المنجذب إليه نحو الحق والخير. وما ادري أن بين كتابنا وشعرائنا أمواتا وأحياء من يبز مصطفى في أيمانه ووطنيته وقوميته وإشراق بيانه ومتانة أسلوبه ولطافة شعوره وعمق تفكيره.

هذه قطعة (رؤيا في السماء) إن وجدت لها مثيلاً من حيث الفن بين ما كتب اشهر الرمزيين من أبناء الغرب، فإنك لم تجد ما يشبه روعة بيانها ولا إشراق إلهامها وقد تلألأت في سطورها من الأحاديث الشريفة، ومن حكم السلف الصالح ما يدفع بك وأنت تتلوها إلى السجود كأنك تصلي بأصوات القبور المتعالية من خفايا فطرتك وأعماق روحك.

اسمع صرخة الإلهام في روح الرافعي تخرج من فم ملاك يؤنب رجلاً فضل العزوبة على الزواج ووقف في البرزخ الفاصل بين العالمين متخذاً من تنسكه وتعبده زلفى إلى الحق.

قال الملاك: (جئت من الحياة بأشياء ليس فيها حياة، فما صنعت للحياة نفسها إلا أن هربت

ص: 41

فيها وانهزمت من ملاقاتها؛ ثم أنت تؤمل جائزة النصر على هزيمة. . عملت الفضيلة في نفسك ونشأتك، ولكنها عقمت فلم تعمل بك. لك ألف ألف ركعة ومثلها سجدات من النوافل، ولخير منها كلها أن تكون قد خرجت من صلبك أعضاء تركع وتسجد).

أسمعت كيف يعتر الرافعي عن أيمانه فيدعوك إلى الأيمان؟ فاسمع ألان كيف يهيب بالشباب إلى إقامة الوطن المنشود!

(يا شباب العرب، لم يكن العسير يعسر على أسلافكم الأولين كأن في يدهم مفاتيح من العناصر يفتحون بها. أتريدون معرفة السر؟ السر انهم ارتفعوا فوق ضعف المخلوق فصاروا عملاً من أعمال الخالق. غلبوا على الدنيا لما غلبوا في أنفسهم معنى الفقر ومعنى الخوف والمعنى الأرضي. وعلمهم الدين كيف يعيشون باللذات السماوية التي وضعت في كل قلب عظمته وكبرياءه القوة القوة يا شباب العرب! القوة التي تقتل أول ما تقتل فكرة الترف والتخنث. اجعلوا رسالتكم أما أن يحيا الشرق عزيزاً وإما أن تموتوا).

أسمعت كيف يلهب الرافعي النفوس شوقاً إلى العظمة التي تكشف لك في آن واحد عظمة الحياة الدنيا ومجد الحياة الخالدة؟ فاسمع ألان كيف يصور لك الرافعي سعداً بأسطر وهو من يكاد ينوء التاريخ بإحصاء صفاته.

(أن سعداً العظيم كان رجلاً ما نظر إليه وطني إلا بعين فيها دلائل أحلامها، كأنما هو شخص فكرة لا شخص إنسان. فإذا أنت رايته كان في فكرك قبل أن يكون في نظرك، فأنت تشهده بنظرين أحدهما الذي تبصر به والآخر ذاك الذي تؤمن به. رجل الشعب الذي يحس كل مصري انه يملك فيه ملكا من المجد. وقد بلغ في بعض مواقفه مبلغ الشريعة فاستطاع أن يقول للناس: ضعوا هذا المعنى في الحياة وانزعوا هذا المعنى من الحياة).

أسمعت الرافعي في مجال العقيدة الروحية والوطنية؟ فاسمعه ألان كيف يسير غور معضلة الانتحار بقوله:

(وليس يخيب الإنسان إلا خيبة عقل أو إرادة؛ وألا فالفقر والحاجة والمرض والاختلال والذل والبؤس والعجز عن الشهوة وفساد التخيل، كل ذلك موجود في الناس يحمله أهله راضين به صابرين عليه، وهو الغبار النفسي لهذه الأرض على نفوس أهلها ويا عجبا. . . إن العميان هم بالطبيعة اكثر الناس ضحكاً وابتساماً وعبثاً وسخرية، أفتريدون أن

ص: 42

تخاطبكم الحياة بأفصح من ذلك. .)

هذه عبارة من بحث طويل في الانتحار قد لا تجد ما يضاهيه من أبحاث الغرب تحليلا وتصويراً واستنتاجاً

هذا هو الرافعي الفيلسوف، فاسمع ألان إلى قلب الرافعي يتدفق حناناً ورقة وهو يصف طفلاً ماتت أمه:

(وطغت عليه الدموع، فتناول منديله ومسحها بيده الصغيرة، ولكن روح اليتيمة تأبى إلا أن ترسم بهذه الدموع على وجهه معاني يتمها. ونهض الصغير ولم ينطق بذات شفة، نهض يحمل رجلوته التي بدأت منذ الساعة).

(انتهت، أيها الطفل المسكين، أيامك من آلام، هذه الأيام السعيدة التي كنت تعرف لغد فيها قبل أن يأتي معرفتك أمس الذي مضى إذ يأتي الغد ومعك أمك. وبدأت، أيها الطفل المسكين أيامك من الزمن وسيأتي كل غد محجباً مرهوباً إذ يأتي لك وحدك، ويأتي وأنت وحدك).

وهذه عبارة من مقال (عروس تزف إلى قبرها)

(ودخلت أعودها فرأت كأنني آت من الدنيا، وتنسمت مني هواء الحياة كأنني حديقة لا شخص. ومن غير المريض المشفى على الموت يعيش بقلوب الناس لا بقلبه).

إلى أن قال:

(وباقتراب الحبيب المحتضر من المجهول يصبح من يحبه في مجهول آخر فتختلط عليه الحياة بالموت، ويعود في مثل حيرة المجنون حين يمسك بيده الظل المتحرك ليمنعه أن يذهب، وتعروه في ساعة واحدة كآبة عمر كامل تهيئ له جلال الحس الذي يشهد به جلال الموت. . .)

وهذا أيضا مقطع من (لحوم البحر)

(الفتاة ترى في الرجال العريانيين أشباح أحلامها، وهذا معنى السقوط، والمرأة تسارقهم النظر تنويعا لرجلها الواحد، وهذا معنى المواخير. . .

(أين تكون النية الصالحة لفتاة أو امرأة بين رجال عريانيين؟ يا لحوم البحر، سلخك من ثيابك جزار. . .

ص: 43

(والبحر يعلم اللائي والذين يسبحون فيه كيف يغرقون في البر لو درى هؤلاء وهؤلاء معرة اغتسالهم معاً في البحر لاغتسلوا من البحر، فقطرة الماء التي نجستها الشهوات قد انسكبت في دمائهم وذرة الرمل النجسة في الشاطئ ستكبر حتى تصير بيتاً نجساً لأب وأم.

(يا لحوم البحر سلخك من ثيابك جزار. . .)

هذه نماذج تلمح الرافعي من خلالها لمحاً، نضمنها هذا المقال لتشهد هي له بأنه الكاتب المطبوع على سجية نفسه، والمفكر المبتكر للمعاني من حياة الشرق نفسها، لا مما صوره عباقرة الغرب من حياتهم في تأليفهم. وإذا أنت أردت أن تعرف الرافعي وتحيط بآفاق تفكيره وشعوره فانك لتجد فيما كتب ما يستطير لبك ويشغل ذهنك حولاً كاملاً. ولكن يكفيك لتخشع أمام الرافعي وتعلم في أي مقام يضعه بيانه من الأدب العالمي، أن تقلب مصنفاته ساعة فترى كان أناملك تفتح لك من كامنات نفسك ما كنت تحس به غمامًا فإذا هو الفلك الخفي يدور أمامك بكواكبه ويبهرك بأنواره. . .

إن كتابنا البارزين ممن أجادوا لغات الغرب ووعوا تواريخها لا يسعهم، إذا نحن استثنينا النذر اليسير من المجددين بينهم، أن يلبسوا تفكيرهم وشعورهم بياناً عربياً دون أن تظفر من هذا البيان صور وانطباعات تنقل إليك رواشم اصلها. فإن في أدبنا اليوم ارتشاحات فرنسية وإنكليزية وألمانية وروسية الخ. . . ولكم من قطعة أدبية لولا ثقتك بعبقرية كاتبها لحسبتها مترجمة عن اللغة الأجنبية التي يجيدها لا مستلهمة من أجواء بلاده وأدب قومه. ولكم من رواية يكفيك أن تبدل الأسماء العربية فيها بأسماء إفرنجية ليصح أن يدعى تأليفها إلى كاتب أجنبي يصوّر إخلاف الغرب ونظمه وعاداته.

إذا كان التفكير العلمي المحض مشاعاً بين الأمم ولا قبل لك بالتمييز بين اكتشاف يوفق إليه جرماني، واكتشاف آخر يظفر به لاتيني أو عربي، فليس الحال كذلك في الأدب، لأنه خطرات أفكار، وسانحات شعور، تخرج من صميم الفطرة وتتخذ حتما الصور والألوان الخاصة بلغة كل شعب وتقاليده وأخلاقه، فليس هنالك أدب عالمي كما انه ليس هنالك فن عالمي وموسيقى عالمية بما تدل عليه هذه الكلمة من الإطلاق. غير أن هنالك آدابا وفنونا وموسيقى تبلغ الذروة من الإبداع، فإذا نقلت إلى أمة غريبة عن منشئها احتفظت بالقدر الكافي من الجمال لتؤثر في نفوس الأمة الغريبة.

ص: 44

إن بين آثار كتابنا في هذا الزمان قطعا فنية تتدفق روعة وجمالاً، ولكنك لا تجد إلا اليسير منها ما يمكنك أن تنقله إلى لغة أجنبية دون أن يقول لك أهلها إنهم قرءوا مثلها في مؤلفات كتابهم. . .

لكأن العناية قد أرادت بعث الأدب العربي صافياً ليجمع ما انفرط من شمل هذه الأمم التي تناهبت الأذواق العربية بيانها، فأرسلت من اختارت في مطلع نهضتنا يبعثون لغة الجنان بعد طول هجوعها، يبعثونها ملهمة من الوحي ومما أبدعه استغراق المتقدمين حين كان شعورهم تسبيحا وتفكيرهم صلاة وسجوداً. يبعثونها لا يكدر نهرها المتدفق ينبوع دخيل، ولا تشوه أساليبها عجمة، ولا يحتل إعجازها بإيجازها وإحكامها، ما لا قبل لها به من الأساليب الغريبة. لكأن العناية أرادت أن تفتح آذان الجيل الناشئ إلى أصوات الأجيال المتوارية، فاختارت لها رسلها وفي طليعتهم الرافعي، انشاته في بيئة خاصة، وقضت له بألا يجول إلا في دوائر الأدب العربي، وبلته بالصمم كيلا يسمع صوتاً إلا صوت نفسه تتجاوب أصداء العروبة فيها من جميع حقبها وأطوارها، ليصرخ صرخته المدوية كأنها هتفة بوق النشور في هذه الشعوب التي أضاعت استقلال تفكيرها، فتناهب بيانها الغريب من كل بيان حتى فقدت ثقتها بنفسها فقضت على ميزاتها وعزة حياتها.

فليكس فارس

ص: 45

‌التاريخ في سير أبطاله

أبرا هام لنكولن

هدية الأحراج إلى عالم المدنية

للأستاذ محمود الخفيف

- 11 -

يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من

سيرة هذا العصامي العظيم

والحق أن مسالة العبيد تزداد تعقيدا كلما تقدمت الأيام؛ ولكن ابراهام لم يكن الرجل الذي يضل السبيل إذا تعقدت من حوله مسالكها. رأى بنافذ بصيرته أن السماح بانتشار العبيد وراء الحد الفاصل معناه سيادة أهل الجنوب وبقاء نظام العبيد إلى أمد بعيد؛ ورأى كذلك أن الدعوة إلى التحرير تؤدي لا محالة إذا اشتدت إلى انسحاب أهل الجنوب من الاتحاد فينهار البناء، وتعصف بالوحدة القومية الأنواء. إذا فليتنظر وليحذر وليترقب ما تأتى به الأيام. . .

انصرف دوجلاس ولكنه قبل أن ينصرف أبى إلا أن يأتي ما يدل على طبعه، فلقد نقض العهد وألقى بعد يومين خطاباً جديداً حاول فيه أن يدافع عن آرائه، ولم يستطع لنكو لن إلا أن يظل عند كلمته، فأبى أن يتكلم وقد جعل بينه وبين خصمه ميثاقاً أن يقطعا حبل الجدل.

ولقد كان لانتصار لنكو لن على دوجلاس العظيم ذلك السياسي الملحوظ المكانة اثر بعيد في حياة ابن الغابة قاطع الأخشاب بالأمس وعامل البريد، وفتى الحانوت البائس الفقير؛ ذلك انه ازداد ثقة بنفسه فاخذ يشتد طموحه ويمتد بصره؛ وازدادت كذلك ثقة الناس فيه واشتد إعجابهم به واطمئنانهم إلى مقدرته وجدارته.

ولذلك نراه يخطو خطوة جديدة في مضمار السياسة فيطمع أن ينتخب عضوا لمجلس الشيوخ ويأمل بذلك أن يعود إلى وشنجطون. وهل كان يرى نفسه دون دوجلاس مقدرة ومكانة وهو قاهره على أعين الناس في أمر له عند الناس خطره؟ ولقد انتخب أول الأمر

ص: 46

عضواً في مجلس المقاطعة ولكنه ما لبث أن استقال منه واخذ يدعو لنفسه ليختار عضواً في مجلس الشيوخ للولايات. . . وكان منافسه في هذا شيلدز، ذلك الرجل الذي تحداه من قبل إلى مبارزة بالسيف لما كتبه لنكولن عنه في إحدى الصحف وعده هو إهانة له.

وكان الذين ينتخبون عضو مجلس الشيوخ هم أعضاء مجلس المقاطعة، وكان المجلس يومئذ يجمع أنماطا من الرجال فرقت بينهم الأهواء وباعدت الآراء، ففيهم بقايا حزب الهوجز الذين يمقتون التطرف، وفيهم الديمقراطيون أنصار مبدأ العبيد، وفيهم المعارضون لقرار نبراسكا، وفيهم غير هؤلاء وهؤلاء ممن تتذبذب سياستهم حسب ما يقوم في رؤوسهم من الآراء في مسألة العبيد.

وكان يظفر أبراهام بما يتوق إليه وبما باتت زوجته تمنى النفس به لولا أن دعا الديمقراطيون في اللحظة الأخيرة إلى رجل غير لنكولن ومنافسته؛ وعندئذ أشار لنكولن على نصرائه أن يمنحوا هذا الرجل الجديد أصواتهم ليفوت الأمر على منافسه الأول إذ كان هذا من أصحاب دوجلاس بينما الآخر ممن يعارضون قرار نبراسكا؛ وهكذا يذوق لنكولن مرارة الفشل من جديد!

ولكن الفشل هذه المرة لم يبلغ من نفسه ما كان يبلغه في الأيام السالفة، فهو اليوم مطمئن إلى نصيبه من رضاء الناس وإلى حظه من الصيت والنفوذ. لقد قابل الأمر بدون اكتراث لولا ما أظهرته زوجته من غضب وحنق، على أنها ما لبثت أن رضيت وسكنت ثورتها، ذلك أنها كانت تكاد ترى رأى العين ما ينتظر زوجها من مستقبل عظيم. . .

ولم يصرفه الفشل عن السياسة كما كان عسَّيا أن يفعل في ظروف غير هذه؛ فلقد عرف أن فشله يومئذ إنما يرجع إلى أسباب لا يستخذي لها، ومن أهم تلك الأسباب ما فعله دعاة التحرير، فلقد حشروا اسم لنكولن على غير علم منه في معضديهم وراحوا يباهون به الأحزاب؛ ولقد أدى هذا إلى انزعاج كثير من الديمقراطيين إذ حسبوه قد مال إلى الطفرة في مشكلة العبيد، كذلك أنكر الهوجز عليه أن ينحرف عن سياسته القائمة على الحذر، ولقد كانوا يحبون منه اكتفاءه بمقاومة انتشار العبيد، أما أن يميل إلى التحرير فجأة فيعمل مع المتطرفين على القضاء على الاتحاد فذلك ما لا يقبلونه منه؛ وهكذا اخذ على الرجال ما لم يجنه فأصابه من الخذلان ما أصابه. . .

ص: 47

لا جرم انه اليوم رجل سياسة اكثر منه رجل محاماة، ولا جرم أن معضلة العبيد قد صار لها المكان الأول من همه فهو لن يرجع حتى ينفس عن صدره بما يفعل في هذه المعضلة التي صارت المحور الذي تدور عليه سياسة الاتحاد، والعقدة التي يتوقف على حلها مصير البلاد؛ وإنا لنرى فيه الرجل الذي يتطلبه الموقف شأنه في ذلك كغيره من عظماء الرجال الذين يظهرون في فترات الزمن ليتم بهم للتاريخ وسيلة تحركه، إذ يصبح لديه الرجل العظيم والفكرة العظيمة، فما أن يتمثل العظيم الفكرة ويمزجها بنفسه حتى يقدم لا يلويه شيء عن الغاية فيضل أو يهلك دونها وبذر البقية لمن يليه. . .

على انه كان في سنه يومئذ قد وصل من المحاماة إلى أوج الشهرة، فكان وهو في السابعة والأربعين الرجل الذي يظفر في مهنته بأطباق الناس على توقيره وإجماعهم على التسليم له بالنبوغ وطول الباع وسعة الخبرة، هذا إلى ما انفرد به من سجايا جعلته بينهم وكأنه اكثر من أن يكون منهم!. . .

وتوافت له فيما توافى من أسباب العظمة تلك الخصلة التي لا تقوم عظمة بدونها؛ والتي تجعل العظيم يظهر بين الناس وفيه شيء يحملهم على إكباره طائعين أو كارهين؛ شيء يحسونه وإن كان أكثرهم يجهلونه، شيء مبعثه ذلك السر العجيب الذي نعبر عنه بقولنا روح الرجل العظيم والذي يسميه بعض الناس الحماسة ويسميه بعضهم الإخلاص ويسميه آخرون الأيمان والذي هو في الحق مزيج من هذا كله لا ندري كيف يتم، مزيج ينبض به قلب العظيم ويجري في نفسه جريان الدم في عروقه. . . ومن الناس من وهبوا الذكاء الحاد والمهارة الفائقة ولكنهم حرموا تلك الخصلة فما استطاعوا في أعمالهم أن يرقوا بأنفسهم إلى مستوى أعلى من مستوى غيرهم؛ ومنهم من لم يعظم ذكائهم ولكن يمس قلوبهم قبس من ذلك السر العجيب فإذا هم غير الناس، ثم إذا هم فوق الناس. . . ومن هؤلاء النفر ذلك الرجل الذي درج في الغابة والذي بنى نفسه فسار في الحياة على نهج من قلبه وعلى دليل من طبعه، ذلك الرجل الذي لا يذكر لأحد عليه يدا والذي تنكرت له الأيام وعركته المحن فبقى كما يبقى الجوهر الحر لا تترك فيه النار من اثر إلا البرهان القاطع على انه جوهر حر لا مظهر. . .

وتشاء الأقدار أن تقوم عظمة أمريكا على كاهل رجلين من أبنائها درجاً في مدرج الشعب

ص: 48

وبرزا من صفوف العامة وهما جورج وشنجطون وأبراهام لنكولن؛ أما أولهما فيرفع القواعد ويقيم الصرح، وأما الثاني فيمسكه أن ينهار؛ وتكون بذلك عظمة أمريكا عظمة ذات أصالة إذ لم تنشا عن تقليد أو تستند إلى مهرج من سلطان زائف، ويكون صرحها كالجبل الذي هو من أوتاد الأرض، لا كالبناء الذي يقوم على أسس يجوز عليها أن تجتث من وفق الأرض. . .

ومضت الأيام تسير بابن الغابة سيراً معجلاً وثيقاً ليؤدي رسالته، ولعله اشرف من حاضره على ما يعده له الغد القريب. اجل لعله أخذ يدرك أن مسألة العبيد مفضية حتما إلى خطوة واسعة يخطوها غداً فيحس بعدها أنه ترك في تاريخ بلاده ما تذكره به الأجيال. أقرأ كتابه إلى صديقه سبيد تقع فيه على رأيه وتتبين كثيرا مما كان يجول في نفسه، قال:(في عام 1841 قمنا معاً برحلة مملة على صفحة ماء منخفض في قارب بخاري من لوسفيل إلى سان لويس، ولعلك تذكر كما أذكر أنه كان على ظهر القارب عشرة أو اثنا عشر عبداً مقرنين في الحديد. ولقد كان هذا المنظر مبعث عذاب مستمر لي، وإني أبصر شيئاً مثله كلما لمست نهر الأهايو أو أي جهة من جهات العبيد. وخلاف الجميل منك يا صديقي أن ترى في أني لا اهتم بالشيء الذي ينطوي على قوة تكربني والذي لا يفتأ يسبب لي الكرب. لقد كنت حرباً أن تتبين إلى أي حد يقتل سواد الناس في الشمال مشاعرهم حتى يستطيعوا أن يحتفظوا بولائهم للدستور وللوحدة)

في هذه الكلمة القصيرة، ينجلي لنا رأيه في مسالة العبيد فهي مبعث آلم في نفسه، ألم استقر فيها منذ القدم فما يبرحها، وهو على الرغم من هذا الألم يحرص على الوحدة وعلى الدستور وفي ذلك تلخيص دقيق لمنهاجه الذي سيأخذ به نفسه حين يهم أن يهوي بالضربة الحاسمة فهو ضنين بالوحدة أن تتزلزل كما هو حريص أن يمحو كل اثر للعبودية في البلاد. . .

لن يضيره اليوم ألا يصل إلى مقعد في مجلس الشيوخ بل ربما كان الشر في أن يظفر بهذا المقعد، فلقد كانت له بعد فشله جولات لها خطرها في حياته، جولات تنتهي به حتما إلى رياسة الجمهورية فلم يبق ثمة على الدرب إلا مرحلة. . .

وكثيراً ما يبتئس المرء إذا فاتته فرصة كأنما أغلقت بفواتها مسالك الفوز من دونه، وهو لا

ص: 49

يدري أنه ربما كان الخير في فواتها! والحياة مليئة بالأمثال حافلة بالعبر؛ والعظماء وحدهم هم الذين لا يلويهم فوات الفرص وان ابتأست لفواتها أحيانا نفوسهم، بل انهم ليحمون على الشدائد ويستعرون على الكفاح ويستشعرون اللذة في النصر، كما يستشعرونها في ركوب الصعاب إلى ذلك النصر، ولن ينقص منها ما قد يصيبهم من خذلان.

ولقد كان لنكولن من هؤلاء البواسل الأفذاذ الذين لا يحفلون الصعاب، والذين لا يحول بينهم وبين وجهتهم خذلان مهما عظم؛ بقي في سبر نجفيلد بعد فشله ليكون في المدينة زعيم الحزب الجديد الذي تستقبل البلاد مولده؛ وهل كان غيره تجتمع عليه القلوب والأهواء؟

كانت البلاد تستقبل حزباً جديداً هو الحزب الجمهوري؛ ولقد تألف هذا الحزب من عدة عناصر يجمع بينها حرصها على مقاومة انتشار العبيد حسب ما جاء في اتفاقية سوري، فكان ينتظم عدداً من الهوجز وعدداً من الديمقراطيين وجماعة من دعاة التحرير؛ وكان قيام هذا الحزب في تاريخ البلاد فاتحة فصل جديد كما كان في تاريخ لنكو لن مبدأ عهد جديد.

(يتبع)

الخفيف

ص: 50

‌الرافعي في ذكراه الأولى

للأستاذ محمد سعيد العريان

(نص الكلمة التي أذاعها الأستاذ محمد سعيد العريان من محطة الإذاعة الفلسطينية بالقدس في مساء الاثنين 9 مايو سنة 1938 لمناسبة تمام سنة على وفاة فقيد الأدب العربي المرحوم مصطفى صادق الرافعي)

سيداتي، آنساتي، سادتي

سلام الله عليكم أهل هذه الأرض الطيبة. . . ومعذرة، وشكراً. . .

لكأني بكم ترهفون السمع لتسمعوا ما يمكن أن أحدثكم به عن الرافعي في ذكراه الأولى، وما أنا بمستطيع في هذه الفترة القصيرة من الزمن أن أبلغ ما أريد وتريدون من الحديث عن الرافعي

لم يكن الرافعي أديبا كبعض من نقرأ لهم من أدباء الصحافة ولكنه كان علما من أعلام الأدب، وإماما من أئمة الدين، وبرهاناً من براهين العربية تجالد به حين يعوزها البرهان.

ولقد يكون من فضول القول أن أتحدث إليكم عن أدب الرافعي، وآثاره الأدبية بين أيديكم وتحت أعينكم؛ وأنكم لتعرفون أدبه وتعرفونه بأدبه. ولكني قد صحبت الرافعي عمراً من عمري، فعرفته أكثر مما يعرفه الناس؛ فليكن حديثي الليلة عن الرافعي الذي عرفته. . .

لقد سمعت أسم الرافعي لأول مرة منذ بضع عشرة سنة، وكنت يومئذ غلاماً حدثاً، لا أكاد افهم ما يلقى إلي، سمعت به والإحساس طالب في الصفوف الأولى، فسمعت اسما له جرس ورنين، وله نشيد تتجاوب أصداؤه في جوانب نفسي، فحبب إلى من ذلك اليوم أن ألقاه. . .

وقال لي رفيقي: (وي! أتعرف من ذلك الذي آخذت عليه الطريق عامداً؟) قلت: (صه، لا يسمعك فيسؤني جوابه!) قال: (لا عليك! أن في آذنيه وقرأ فلا يسمع!)

وتبدلت في نفسي صورة بصورة، أمحى آلم ليحل في نفسي من بعده آلم آخر. . . وعرفت وقتئذ لماذا لم يرفع عينيه إليَّ ولم يرد التحية. . .

ولقيته بعد ذلك مرات كثيرة في الطريق، وفي القهوة، وفي السيما؛ وقرأت له مرات أكثر في الكتب، وفي الصحف وفي المجلات، وعرفته ولم أزل كل يوم ازداد عرفاناً به، ولكني لم اعرفه العرفان الحق إلا بعد هده الحادثة بعشر سنين. . . حين جلست إليه لأول مرة في

ص: 51

دار كتبه من داره، عرفته على حقيقته وفطرة نفسه، فكأنني لم اعرفه قبل ذلك اليوم. . . وما فارقته من بعد حتى فرق بيننا الموت. يرحمه الله!

أنني لاحس حين اذكره الساعة كأنني لست وحدي، وكان روحاً حبيبة تطيف بي وترف حولي بجناحين من نور، وكان صوتا ندياً رفيع النبرات يتحدث آلي من وراء الغيب حديثاً أعرف جرسه ونغمته؛ وكان عينين تطلان عليَّ من عالم غير منظور لتأمراني آمرا وتلهماني الفكر والبيان؛ ولكنني لا آري؛ ولكنني لا اسمع؛ ولكني هنا وحدي، تتغشاني الذكرى فتخيل آلي ما ليس في دنياي. هيهات هيهات لوهم الأماني!

لقد كان هنا صوت يتجاوب صداه بين أقطار العربية. لقد كان هنا إنسان يملأ فراغاً من الزمان. لقد كان هنا قلم يصر صريراً فيه رنات المثانى، وفيه أنات الوجه، وفيه همسات الأماني، وفيه صرخات الفزع؛ فيه نشيج البكاء، وفيه موسيقى الفرح. . . خفت الصوت، ومات الإنسان، وتحطم القلم؛ ولكن قلب الشاعر ما زال حياً ينبض، لان قلب الشاعر أقوى من الفناء.

في كل يوم يموت أديب من أدباء العربية وينشا أديب؛ فأين، أين الأديب الذي يقوم لما كان يقوم له الرافعي؟ أين. . . أين الأديب الذي ينتدب بعد الرافعي ليقف لكل من يحاول التقحم على قدس القرآن؟ أين. . . أين الأديب الذي يقف قلمه وبيانه للدفاع عن العرب والعربية والإسلام؟ أيمانه. . أين الكاتب الألمعي الذي يصور طهر الحب، وسمو الإنسانية، والأم البشرية وأفراح الحياة، فتنبثق نورا في كل قلب، وتتفجر شعورا في كل وجدان؟ أين خليفة الرافعي الذي يقوم على سداد هذا الثغر المعطل؟ أين حامل اللواء، وأين صاحب القلم؟

لقد كان الرافعي عصراً بتمامه من عصور الأدب، وجيلاً بناسه في تاريخ العرب، وفصلاً بعنوانه في مجد الإسلام.

كانت الدنيا تموج من حوله بأناسيها وحوادثها، وتضطرب حواليه في أمانيها ونوازيها، وتصطخب في محيطه بشهواتها ونوازعها؛ وهو وحده يعيش من هذا المحيط المضطرب المائج المصطخب في دنيا وحده لا يسمع إلا همسات روحه، ولا يحس إلا خلجات قلبه، ولا ينظر إلا الهدف الذي يسعى إليه. وهيأه القدر بوسائله العجيبة لهذه الوحدة العقلية منذ صباه حين سلبه السمع، فعاش حياته بعيداً عن دنيا الناس، ومضى في طريقه كما يمضي

ص: 52

عابر السبيل: لا يلقى باله إلى شيء مما حواليه أو يبلغ إلى غايته. . .

لم يكن الرافعي ليعرف شيئاً في سياسة الحكومات العربية المتعاقبة، ولكن له هدفاً عاش يسعى جاهداً لتحقيقه: هو أن يبعث الحمية الإسلامية في نفس كل مسلم، ويوقظ النخوة العربية في قلب كل عربي؛ فكان بذلك رسول العروبة والإسلام إلى كل مسلم وكل عربي؛ فلا جرم كان بذلك احب كتاب العربية إلى كل مسلم وكل عربي.

حياته الأدبية كلها تدور حول هذا المحور، ومنشآته الأدبية كلها يسعى بها إلى هذا الهدف، ومعاركه الطاحنة كلها تنشب في هذا المعترك؛ وما عادى عدواً قط من أدباء العربية إلا للدين أو اللغة أو القرآن؛ وما اتخذ صديقاً من رجال الأدب أو السياسة إلا للدين أو اللغة أو القرآن.

وليس من عجب أن تكون فلسطين هي اسبق بلاد العربية إلى تجديد ذكرى الرافعي؛ فقد كانت فلسطين هي حب بلاد العربية إلى الرافعي؛ وما أحسبه كتب شيئا يتصل بشأن خاص من الشؤون القائمة في بلد من بلاد العربية، وان له في فلسطين لمقالات يذكرها كل عربي في فلسطين!

لقد حاول كثير من مؤرخي الأدب أن يتحدثوا عن الرافعي في حياته؛ فقالوا شاعر. وقالوا كاتب. وقالوا أديب. وقالوا عالم. وقالوا مؤرخ. ولكنهم لم يقولوا الكلمة التي كان ينبغي أن تقال: لقد كان شاعراً، وكاتباً، وأديباً، وعالماً، ومؤرخاً؛ ولكنه بكل أولئك، وبغير أولئك، كان شيئاً غير الشاعر والكاتب والأديب، وغير العالم والمؤرخ؛ كان هبة الله إلى الأمة العربية المسلمة في هذا الزمان، لينبهها إلى حقائق وجودها، وليردها إلى مقوماتها، وليشخص لها شخصيتها التي تعيش باسمها ولا تعيش فيها، والتي تعتز بها ولا تعمل لها.

وكان يشعر انه وحده في الميدان والجميع ألبٌ عليه، فعاش حياته كلها يصارع ويكافح، ويقاوم ويناضل، حتى خر صريعاً وفي يداه الراية؛ لم يتركها حتى انتزعها الموت من يده!

كثر ما قال عنه أعدائه وغير أعدائه في حياته: انه حديد اللسان. انه لدود الخصام. انه لا يرعى اعتباراً مما تقوم به الصلات بين أهل الأدب، حين ينزل إلى معترك من معارك النقد. . . صدقوا، ولكن. . . أرأيت معرة على البدوي الثائر لعرضه أن يسفك الدم؟ انه هو هو؛ فمن ذلك كانت شدته وصرامته ولدده في الخصام: في سبيل القرآن، ومن اجل

ص: 53

العروبة، ولكرامة الإسلام. كان ذلك عرضه الذي يحرص عليه أن ينتهك؛ فمن ثم كانت خصوماته الأدبية كلها فيها معنى الدم!

الدين، واللغة، والقران، أو العروبة والإسلام: ذلك كان مذهبه في الأخيرة، وله كان جهاده؛ حتى في الحب - وللرافعي حب مشهور - وحتى فيما أنشأ من رسائل الحب، لم يكن الرافعي يعتبر إلا مذهبه والهدف الذي يسعى إليه: للدين، وللغة، وللقران. . .

من شاء فليقرأ كتبه الثلاثة في فلسفة الجمال والحب، ليرى فيها كيف تسمو روح العاشق على شهوات البشرية حتى تتصل بخالقها الإطلاق؛ ثم ليرى العربية أسلوباً جديداً، فيه عمق الفن، ودقة التعبير، ووضوح الأداء، حتى في الترجمة عن أعمق ما تجيش به خفايا النفس الإنسانية.

ولأدب الرافعي ميزة ليست لكثير من أدباء الجيل؛ فهو أدب عليه طابع الخلود وتلك آداب إلى زوال. هذا أدبه بين أيدينا وتحت أعيننا، ما تزال تدفعنا إليه دوافع من أنفسنا في فترات متقاربة أو متباعدة، لنعيد قراءته ونتملى ما فيه من جمال وصدق وقوة. وذلك أدب الأدباء، ما يكاد القارئ ينتهي منه إلى ما يريد حتى ينساه فلا يعود إليه ولا يذكره، على ما فيه من لذة ومتاع!

لم يكن الرافعي يكتب تلك الكتابة الصحافية السوقية التي تلتمس للهو وإزجاء الفراغ؛ ولكنه كان يكتب ليضيف ثروة جديدة إلى اللغة، وينشئ أدباً يسمو بضمير الأمة، ويشرع طريقاً تسير فيه إلى عظمة الخلد، وسعادة الأبدية، ومجد التاريخ.

الرافعي! يرحمه الله! لقد عاش في خدمة العربية سبعاً وثلاثين سنة من عمره القصير، وصل بها حاضرها الماثل بماضيها البعيد؛ فهي على حساب الزمن سبع وثلاثون، ولكنها على الحقيقة شطر من عمر الزمان، وباب من الأدب، وفصل في تاريخ الإسلام.

لقد عاش غريباً ومات غريباً؛ فكأنما كان رجلاً من التاريخ بعث في غير زمانه ليكون تاريخاً حياً ينطق بالعبرة ويجمع تجارب الأجيال، يذكّر الأمة العربية الإسلامية بماضيها المجيد؛ ثم عاد إلى التاريخ بعدما بلّغ رسالته. . . لقد خفت الصوت، ولكنه خلَّف صداه في أذن كل عربي، وفي قلب كل مسلم، يدعوه إلى الجهاد لمجد العرب، ولعز الإسلام.

(القدس)

ص: 54

محمد سعيد العريان

ص: 55

‌إلى الشباب

بين جوته وإيكرمان

للأديب نصري عطا الله سوس

جينا - الثلاثاء 18 سبتمبر سنة 1823

في صباح الأمس وقبل أن يعود جوته إلى (فيمار) حظيت مرة أخرى بسعادة الحديث معه؛ وما قاله لي هذه المرة لا يثمن بالنسبة لي؛ ويجب على جميع شعراء الشباب الألمان أن يلموا به بداء بسؤالي عما إذا كنت قد كتبت شعراً هذا الصيف، فقلت كتبت بعض القصائد ولكن كان ينقصني على العموم المؤتاة الضرورية، فقال جوته: حذار من محاولة كتابة موضوع كبير. إن هذا هو ما يضر بأكبر العقول عندنا حتى أولئك الذين يمتازون بأذهان حادة ومجهودات جدية؛ ولقد عانيت شخصياً هذه العلة. وأني لأعرف كم من أضرار أوقعت بي. وأنوار شيء لم اتركه يسقط في البئر. ولو كتبت كل ما وددت أن اكتب ما كفاني مائة مجلد. يجب أن ينال الحاضر حقوقه. فالأفكار والاحساسات التي تجول في نفس الشاعر يوما بعد يوم يجب عليه أن يعبر عنها - ولكن إذا شغلت رأسك بموضوع كبير فلن تعيش أي فكرة أُخرى بجواره. كل الأفكار ترفض وتصد، حتى لذة الحياة نفسها تفقد وقتئذ. وأي مجهود عقلي تبذل كي تنظم وتلم شعث موضوع كبير! وأي قوة وأية طمأنينة تحتاج حتى يتسنى لك التعبير عنه في سلاسة لائقة! وإذا خانك توفيق في أي جزء منه فكل مجهودك ضائع. وإذا عالجت موضوعاً كبيراً ولم تكن على معرفة تامة بكل تفاصيله فسيكون إنتاجك ضعيفاً وتستهدف للملام. فبدلاً من المكافئة والسيادة جزاء على ما بذل من مجهود وتضحية لا يحظى الشاعر إلا بالانزعاج وشلل قواه العقلية. وهاك (آرنست هاجن) ذهن رائع. . . هل قرأت كتابه (الفرد وليسنا) هناك نبذ بلغت الغاية من السمو، نبذ فخمة ولكن الكتاب لا يرضى أحدا. وأنوار مجهود وقوى أنفقها الكاتب؟ لقد أنهك نفسه؟ انه يكتب مأساة الآن) وهنا اتسم جوته وسكت برهة فقلت:(إذا لم تخن الذاكرة، فأنت قد نصحت هاجن بمعالجة الموضوعات القصيرة) فقال جوته: (حقا! لقد فعلت، ولكن هل يتبع الناس نصائحنا نحن الشيوخ؟ كل يظن انه أدرى بنفسه ومن الآخرين. وهكذا يفشل البعض فشلاً نهائياً بينما يشرد البعض الأحياء في مهامه الزلل لمدة طويلة - لقد كان الماضي زمن

ص: 56

العثار. . . ماضينا نحن الشيوخ هما فائدة أبحاثنا وأغلاطنا إذا سار الشباب في الطريق نفسه من أوله مرة ثانية؟ بهذا الطريق لا يمكن أن نتقدم أبدا. لقد كابدنا أغلاطنا لأننا لم نجد طريقاً واضح لمعالم نسير فيه؛ لكن ذلك الذي يأتي أخيرا ليس في حاجة لان يبحث ويدل. بل يجب أن يتبع تعليمات الشيوخ كي يسير في طريق السوي من المبدأ. ولا يكفي مطلقا أن تخطو خطوات قد تؤدي إلى غاية يوماً ما، بل يجب أن تجعل كل خطوة غاية في حد ذاتها).

(تأمل هذه الكلمات وتبصر كيف يعمل بها. أنوار لست قلقاً عليك، ولكن نصائحي ستساعدك على إنهاء مرحلة لا تلاءم مركزك الحالي. فإذا ما عالجت الموضوعات الصغيرة، وأدب ما كتبت ما يعرضه عليك (الحاضر) يوماً بعد يوم فستستنتج جيداً. وكل يوم سيجلب لك سعادة جديدة. ابعث بما تكتبه إلى المجلات ولكن لا ترضى أبدا بكتابة ما يفرضه عليك الآخرين اتبع وحي نفسك دائماً).

(إن في الدنيا من العظمة والفن والحياة والتنوع بحيث لا يمكنك أن تفقد روائع الشعر؛ ولكن الشعر يجب أن يكون له بواعث. . . أعني أن الحقيقة يجب أن تمد الشاعر بالدوافع والمادة. أن الحادثة المعينة تصبح حادثة عالمية وشعرية. إذا ما تناولها الشاعر. كل قصائدي لها بواعث، وقد دعت أليها الحياة الحقيقية، ولها في ذلك أسس ثابتة. أنا لا أعير أي اهتمام للشعر الذي ينتزع من الهواء).

(إن أحداً لم يقول إن الحقيقة تنقصها روح الشعر، وهنا يفلت الشاعر مقدرته بتمكنه من فن تناول موضوع العادي من وجه نظر خاصة بحيث يصبح مهمّاً. الحقيقة يجب أن تمد الشاعر بالدافع إلى الموضوعات التي يود التعبير عنها. النواة ووظيفة الشاعر هي أن يخلق من هذه المواد وحدة جميلة حية. هل تعرف (فرنستيل)؟ انه يدعى شاعر الطبيعة. لقد كتب ارق ما يمكن من القصيد عن زراعة حشيشة الدينار. لقد اقترحت عليه أن يؤلف أواني على السنة أرباب المهن المختلفة، خصوصاً النساج. وإني لواثق من انه سيجيد، لأنه عاش بين هؤلاء منذ صباه. ولذا كان سيد مادته. تلك هي ميزة الموضوعات الصغيرة. كل ما عليك أن تختار ما تعرفه جيداً. ولكن هذا لا يتأتى في الموضوعات الصغيرة، في هذه الحالة لا يمكنك أن تتفادى أي جزء. وكل ما يتعلق بتوحيد مادة الموضوع وما يدخل ضمن

ص: 57

عناصره يجب أن يصور بدقة. . . وفي زمن الصبا ينظر الشباب إلى الأشياء من ناحية واحدة؛ والموضوع الكبير يتطلب إمكان النظر من نواحي عدة. . . من هنا الفشل!)

وأخبرت جوته أني كنت أفكر في كتابة قصيدة طويلة عن الفصول اضمنها الكلام عن أعمال وملاهي الطبقات كلها فقال: (هذا في قلب الموضوع. قد توفق في بعض الأجزاء، ولكن قد تخفق في البعض الآخر عندما تكتب عما لم تبحثه أو تخبره جيداً، وقد تكتب عن (السماك) جيدا، ولكن قد يخونك الحظ في الكتابة عن (الصياد). وإذا أخفقت في أي جزء فالنتيجة هي الفشل مهما أجدت في بعض الأجزاء. وبدا تكون قد أنتجت إنتاجا مبتوراً. اكتب كل جزء على حدة واقتصر على ما تعرفه. ومن المؤكد انك ستنتج ما يرضي. وأحذرك خاصة من (الابتكارات) لأنه قد ترمي إلى التعبير عن فكرة خاصة عن العالم، والشباب قلما يكون من النضج بحيث يوفق في هذا. فضلا عن أن الشخصيات والآراء التي يضمنها ابتكاراته تنفصل عن عقل الشاعر وتحرمه من (الامتلاء) اللازم لكتاباته المستقبلة. وأخيراً، كم من الزمن يفقدني الابتكار والترتيب والتركيب. هذا ما لا يمدحنا أحد عليه، حتى ولو كتبتا بنجاح. ولكن في حالة ما يعطي الشاعر المادة تكون الأمور احسن واسهل. فإذا ما مد الشاعر بالشخصيات والحقائق يكون عمله أن ينفخ الروح فيها فقط، فيحتفظ بامتلائه ولا يفقد كثيراً من الزمن والمجهود. إني أنصح دائما باختيار الموضوعات التي طرقت قبلاً. فكم من (أفيجينيا) كتبت ولكن كلهن مختلفات. كل شاعر يتناول القصة حسب طريقته. عليك أن تترك التفكير في الموضوعات الكبيرة الآن. لقد آن لك أن تعيش ذلك الطور البهج من الحياة، ولأجل أن تصل إلى هذا فعالج الموضوعات الصغيرة. . .)

. . . وكنا نسير في الغرفة جيئة وذهوبا ولم يسعني إلا التسليم شاعرا بصواب كل كلمة. ومع كل خطوة كنت أحس نفسي أسعد وانشط. ويجب أن اعترف أن الخطط الكبيرة واللاتي لم يمكني أن اخلص إلى فكرة واضحة بصددها لم تكن بالعبء الهين عليّ.

إني لأشعر أن كلمات جوته زادتني حكمة سنوات، وعرفت ما في مقابلة الأستاذ الحق من التوفيق والخير.

نصري عطا الله غطاس

ص: 58

‌رسالة الشعر

ذكرى سيد الوجود

محمد

للأستاذ أنور العطار

نَحْنُ فِي مَوْلِدِ الْمتَوَّجِ بالنُّو

رِ وفي لَيْلةِ الرِّضا والمَغَانِمْ

حَفَلَتْ بالطُّيُوبِ فالعَالَمُ الوا

سِعٌ حَقْلٌ مِنَ الأزَاهِيرِ فَاغِمْ

والنجُومُ المُفضَّضاتُ عُيُونٌ

شَاخِصَاتٌ والكائِناتُ مَبَاسِمْ

كلُّ مَنْ في الوجُودِ رانٍ أخيذٌ

ذاهبُ اللبِّ مُستَطارٌ سَاهِمْ

طفَحَ الكَوْنُ بالأذَى والضَّلَالا

تُ وضَجَّتْ رِحَابُهُ بالمآثمْ

فَمَنِ الحامِلُ البَشَاَئِرَ لِلأَرْ

وَاحِ، مَنْ ذَلِكَ الحَبيبُ القَادِمْ

وَهَبَ الُبْرَء للقلوبِ الوَجِيعا

تِ، ونَحَّى عَنِ الحَيَاةِ المَظَالِمْ

وأعَادَ الإنسَانَ رُوحاً نقيّاً

خَالِصاً من حُقُودِهِ والسَخَاِئمْ

صَفْوَةَ الخلْقِ أيُّ نُورٍ على الأفْ

قِ بَهيّ جَمِّ التَّلَامِيعِ، حَائِمْ

سَطَعَتْ مِنْ سَنَاكَ هِذِي السَّموا - تُ وَرَفتْ بكَ الدُنا والعَوَالِمْ

أنْتَ نَجْوَى الأرْواحِ في كُلِّ جيلٍ

وَشُعَاعُ الهُدَى، وَروْحُ النَّواِسمْ

تَتَنَاجى بِك القلوب الحَيارَى

وَتَغَّني بِكَ النفوُسُ الهَوِائمْ

يا سَمَاَء الجَلاِل يا رَفْرفَ الخُل

دِ ويا صُورةَ النَّعِم الدًّاِئمْ

لأصُوغَنَ مِنْ نَدَاكَ الأناشي

دَ، وَأفتنُ في ضُرُوبِ الملاحمْ

كُلُ بَيْتٍ يكادُ يَقْطَرُ بالرِّف

قِ وَيَخْضَلُ بالدُّموع السَّوَاِجمْ

يا ندَاَء المعذَّبينَ الأسرى

وَدُعَاَء المرَوَّعاتِ النوادمْ

كلَّهُمْ راكِضُ إليكَ يُرَجّي

كَ، وكلُّ مُوَلٌّه بِكَ هَائمْ

ظَفرُوا منكَ بالسَّماحاتِ تتْرَى

وَغنُوا بالرِّضا الشَّهِي المناعمْ

صُغتَ للنَّاسِ شِرْعةً من علاءٍ

وحناَنٍ وطيبةٍ ومراحِمْ

الهِدَاياتُ حانياتُ عليها

والعِناياتُ طائفَاتُ حوائمْ

ص: 59

لُذْتَ بالغَاِر تَتَّقي شِرَّة النَّا

سِ وتنَسْى العُدْوانَ من كلِّ ناقمْ

وَحِرَاءٌ بكَ استْطَاَلَ على النَّجْ

م وَتَاهَتْ بهِ الصُّخُورُ الجواثمْ

يَشْتَهِي الخْلدُ لو تَغَلْغَلَ فيهِ

حُلُماً فتنَ المَسرَّاتِ ناعمْ

ضمَّ في ساَحَتيهِ نوراً من اللّ

هِ تسَامَت بهِ العُلى والمكارمْ

وبِنفَسي عنَاكِبٌ ناسِجاتٌ

لك ستراً يقيك من كلِّ آثمْ

سَعِدَتْ بالهدى رحاَبُ الصَّحَاَرى

وَتلَالتْ فيها الموَاِمي الطَّوَاسمْ

أَعْشَبَ القَفْرُ وازْدَهَى الصَّخر الصَّ

لدُ وفاضَتْ مِنْهُ العيونُ النواجمْ

وَتَنَّدتْ هَذي الرِّمالِ العَطاشَى

كاللآلي فرائداً وَتوائمْ

تَتَغَنى والكَوْنُ يَهِتفُ جَذْلا

نَ فَتَهَتز في العَلاءِ الغَمَائمْ

فَهيَ حُلمْ على الليالي جَمِيلٌ

وَهيَ نَايٌ على مَدَى الدَّهرِ ناغمْ

اسْمَع الرَّمْل يَمَلأ الأرْضَ تَسبي

حاً بصوتٍ مُجَلجلٍ كالزَّمازِمْ

رَعَدَتْ في مداهُ تكبيرةُ اللّ

هِ وسَاَلتْ بهِ الجيوشُ الخضاَرِمْ

قَهَرَتْ بالكَتائِبِ الغُلْبِ كِسْرَى

وَهرَقلاً وَكلَّ مَلْكٍ ضُباَرمْ

رَفْرَفتْ رَايةٌ النَّبيِّ عَلَيْهَا

فاسْتظَلَتْ بها النشُورُ القَشَاعِمْ

فإذا الكائناتُ تَسْبحُ بالُّنو

رِ وَتَفْترُّ عن ثُغُورٍ بَوَاسمْ

فَعَلى الأفْقِِ منْ َسَناهَا رُسُومٌ

وعَلى البِيدِ مِن رُؤَاها عَلائمْ

يا صِحَابي ومَعَشْري وَقبَيلي

آن أن تَسْتفيقَ تِلكَ الصَّوارِمْ

صَدَأ الدَّهر لم يَنَلْ من ظبَاها

فهي مَسْنوُنَةُ الشِّفارِ حَوَاسمْ

فامْنعُوها غُمودَهَا وَكرَاها

واسْتشِيروا بها دَفينَ العَزَائمْ

لا تَنَامُوا على الإسَار وَتُغْفُوا

فلقد مَلَّتِ القُيُود المعَاصمْ

وانفُضوا عَنْكمُ الرُّقاَدَ وَهُبُّوا

لم تَلِنْْ هذه الحياةُ لنائمْ

يا لُحلمٍ مُلفَّقٍ قدْ أضَعْنا

في رُؤاهُ تيجاَنَنا والعواصمْ

فَنِيتْ في دُجاهُ قافِلةُ المجْ

دِ ومَاَتتْ فيه النفُوسُ القَوَاحمْ

يا نبيَّ الهَدى لقد ذَلَّت العُرْ

بُ وَقيدتْ إلى الرَّدى بالشَّكائمْ

سُِلبتْ حَقَّها ودِيسَ حِماَها

واسْتكانَتْ لِكلِّ أَرْعَنَ ظالمْ

ص: 60

يا سَمَاءُ اهِبطي وَيا أَرض مِيدِي

عَصَبَ الألأمُونَ مَجَدْ الأكارمْ

أينَ وأينَ مُلْكٌ على الدَّهْ

ر أضَاءتْ بهِ الليالي القَوِاتمْ

زَيَّنوا مَفْرِقَ الزَّمَانِ وَتَاهَتْ

بهِم هَذهِ النُّجُومُ اخَوَاِلمْ

يا بَقَايا السُّيوفِ، رَمْزَ الأضَاحِي

وَشِعَارَ الفِدَا، وَسِرَّ العَظاِئمْ

أوقِدوهَا حَمْرَاَء تَلتهِمُ الأف

قَ فَتشْوى بها اللَّظى والتَماِئمْ

وامْنحُوها دِماءكُمْ تَتَنزى

وامهرُوهَا أرواحكُم والجَمَاجِمْ

وامْلِكُوا الأرضَ أَنتم ساَدةُ الأرْ

ضِ، وأنتم بنو اللُّيوثِ الضَّرَاغِمْ

أنتم الأسْبَقُون في حَلْبَةِ العِزِّ

بِكمْ تَنْجَلى الَعوادِي الغَواشِمْ

. . . كذَبَتْنَا أَحلاُمَنا والأماَنيُّ

فيا ضيعَة الذِليل الحَاِلمْ

وخَسِرنا أمَجادَنا وعَلانا

وذَلَنَنا كَما تَذِلُّ البَهَائمْ

واَفْقَنا نهيئ لكلِّ أَثيمٍ

وَحِمَانا والسَّاكِنُوهُ غَنَائِمْ

يَاَ لرَبْعٍ مُهَدَمٍ مسُتبَاحٍ

دَنَّسَتْ قُدْسَهُ نِعَالُ الأعَاجِمْ

وهو عَرْشُ الشُّموُسِ، مَهْدُا البَهالي

لِ، وَمثَوَى المنَافِحينَ الصَّلادِمْ

قدْ ضَجَجْنا من البُكَاءِ كأنهُ

قد سَلَبْنا الُّنوَاحَ هَذِى الَحَمائِمْ

وَلَهَوْنَا عَنِ الُعلى بِحَزَازَا

تٍ شِدَادٍ لَهُنَّ فِعلُ الأرَاقِمْ

وأَقَمْنا على العَوِيلِ كَأَنا

حَشرَجَاتُ تَضِيقُ عنها المآتِمْ

بغداد

أنور العطار

ص: 61

‌فراش الربيع

للأستاذ محمود الخفيف

طِرْ من الحْقلِ إلى الرَّوْض الَمريعْ

باحثاً عن نَشْرِهِ

أفضِ للزَّهرِ بأسرارِ الرَّبيعْ

واسْتَرِق من عِطرِهِ

وافِهِ بيْنَ شتيتٍ وجميعْ

واقْتبِسْ وشىَ الضُّحَى من سِحْرِه

مِلْ إلى الجدْوَل وارقُصْ حَولهُ

غاِزِل الشَّاطئَ واشْهَدْ صُوَرَهْ

ثِبْ إلى الدَّوْح تفَيَّأ ِظَّله

لاعِبِ الغُصْنَ وداعِب ثمرَه

مَلْعَبٌ يَصبُو لهُ

كلُّ قَلْبٍ خَبَرَه

خُذْ جَنَاهُ كلهُ

زَهْرَهُ أو شجَره

تَتَوافَى لَكَ أسَبابُ المَنى

أيُّها الرُّوحُ الدَّؤوبُ الحائمُ

فهنا حيناً وحيناً هاهناً

نازِحٌ طوْراً وطوْراً قادِمُ

أمشوقٌ هائم؟

أم خَلِىٌّ ناعمُ؟

أمْ شَرُودُ

أنتَ لاهٍ سائم؟

أنتَ يا رَفَّافُ مَوصُولُ الجذلْ

أيُّ هَمّ شَغلكْ؟

ثَمِلٌ ترْقُصُ من فَرْطِ الثَّملْ

إذ تلقى املك

يا طليقاً ما َدرَى مَعْنَى الملَل

أيُّ حُسنٍ رائع لم يَكُ لك؟

يا طَرُوباً لْيسَ يدرِي ما الشَّجَن

وَيْكَ يا هَيَمانُ وَيْكَ!

رَفَّ في مَرْ آكَ مطِوىُّ الزَّمَنْ

فحَنتْ روحي عليك

ما لِقَلْبي بين شَجْوٍ وسَكَنْ

خافِقاً يَهْوِى إليك؟

ذكرَ الَعْيش الذي لو يُشْترَي

اشترى الأيامَ منِهُ بالسِّنين!

فيكَ مَرْآهُ وفي دُنيا الكرى

وادِّكارِ الَّنفْسِ حيناً بعد حِين

حينما كُنَّا صغيرين معاً

لا نَمَلُّ الوثبَ في ظِلَّ الشَّجَرْ

ونرَى الرَّوضَ جميعاً مرتعاً

كم تَمَلَّيْنا بهِ أبْهَى الصُّوَرْ

زهرَتي فيهِ تَبَدَّتْ أرْوَعَا

من سَنَا الصُّبح ومنْ سِحْرِ الزَّهَرْ!

آه! كم توجعُ نفسي (حينما)

يا خَليًّا لَيْسَ يدْرِي ما بِيَهْ

ص: 62

وَيْكَ يا قَلْبي! أتهفو كلَّما

طافَتْ الذِّكرى وتصبو ثانية؟!

كُفَّ يا قلبُ عن الشكوى فما

ينقعُ الآلُ قُلوباً صادِيهْ

كم جَهْدنا وجَرَينا في الضُّحَى

لا نُرَى في لهوِنا إلا لديكْ

ومللنا الرَّوضَ إلا مسْرَحَا

نتَهاوَى فيهِ بالأيدي عليك

أنْأ ياهيمانُ عنِّي واقتربْ

كالرؤى طافت بحُلْم الناعِسِ

هِجْتَ يا لاعِبُ نفسي لِلَّعِبْ

ما غَنَائي من زَمَاني الدَّاِرسِ؟

ويك! إنا نلعب اليومَ كما

قد لعِبْنا أمس في غَيْر مَلَلْ

َنْبدَأُ الشَّوْطَ ونَمْضي كلَّما

رَفَّ يا رَفَّافُ للَّنْفسِ الأملْ

لهْوُنا الَيْومَ بِهَاتيك المنى

تَتَراءى بينَ نَشْر وَعَدمْ

نحنُ كالأطفالِ إلا أننا

نقتلُ اللذَّةَ فيها بالألم!

نَقرعُ السِّنَّ على ما فاتنا

ونذوقُ الصَّلب من كأسِ النَّدمْ

رِفَّ يا لاعِبُ وارتع وانعَم

واقضِ من عيشك في الزَّهرِ الوطرْ

اجتن الَّلذَاتِ واخترْ واغنَم

لكَ في نورِ الضُّحَى عُمرُ الزَّهرْ

وَيحَ للإنسان ما أَجدَرهُ

بِهُيام مِثل هذا ومِراحْ

عُمرُهُ المكدُودُ ما أقصَرَهُ

خَفَقَاتٌ من مَساءٍ وصَبَاحْ

الخفيف

ص: 63

‌رسالة الفن

التصوير التوضيحي في المخطوطات الإسلامية

للدكتور أحمد موسى

- 2 -

كان من حسن الحظ أن ساهمنا في العدد الممتاز الذي أصدرته مجلة الرسالة بمناسبة العام الهجري بموضوع آتينا فيه على بعض ما للعرب في مختلف الفنون التصويرية لتوضيح النصوص وتصوير كتب العلم والأدب مما يجلو غوامضها للقراء والراغبين في العلم، فنشرنا بضع صور ضوئية منقولة عن بعض المخطوطات القيمة في علم تخطيط الأرض والفروسية والتوقيت والكيمياء. وقد وعدنا القراء في ختام المقال السابق باستيفاء هذا الموضوع الطريف حقه من البيان. وهانحن أولاء قد وفقنا بعد البحث إلى ثلاثة كتب مخطوطة زينها مؤلفوها بالتصاوير والأشكال الحقيقية تارة والرمزية طوراً؛ ففي كتاب (نهاية الإدراك في دراية الأفلاك) لمؤلفه قطب الدين محمد بن مسعود الشيرازي جملة صور فلكية أهمها صورة كسوف الشمس وقد جاء فيها:

(لكون القمر هو الكاسف والتوالي من المغرب إلى المشرق وهذه صورة الكسوف، الفصل الرابع في أزمان ما بين الخسوفين، أما الأول فمعرفته مبينة على معرفة حدود الخسوفات وهي مقدرة باثني عشر جزءاً من بعد القمر عن إحدى العقدتين في أي جهة كان، لأن عرضه إذا جاوز هذا الحد زاد على نصفي القطرين، لأن غاية عظم نصف قطر دائرة الظل وهو إذا كان في القمر في حضيض التدوير ست وأربعون دقيقة. وغاية عظم نصف قطر القمر ثماني عشر دقيقة، والعرض المساوي لمجموعهما وهو أربع وستون دقيقة إنما حصل على بعد اثني عشر جزءاً وكسر من العقدة أو على بعد إحدى عشرة درجة ونصف بالتقريب يكون العرض درجة فبعد تجاوز العرض عن الحد يزيد على نصفي القطرين ولا يمكن الخسوف حينئذ وبهذا الاعتبار ينقسم المائل إلى أربعة أقسام. . . الخ).

وقد زين هذا المتن بصورة القمر والشمس من أعلاه والأرض من أسلفه، ورسم دائرة كبرى كتب على محيطها الفلك الممثل ومر محيطها بمركز الشمس، وداخلها دائرتان

ص: 64

متساويتان القطرين تقابل محيطاهما في مركز القمر. وكتب على محيط اليسرى منهما منطقة ممثل القمر، وعلى اتجاه مركز القمر وفي استقامة اتجاه مركز الشمس رسم الأرض مبيناً مركزها، وعلى محيط الأرض اختار موضع الناظر، كما اظهر مخروط القمر ومخروط الظل.

ويرى الناظر المتأمل أن هذه الصورة لا تختلف شيئاً عن التصوير العلمي لمقر النيرين في وقت الكسوف، فضلا عن الدقة التي اتبعها المؤلف في رسم الدوائر الست بالرغم من أن عصر المؤلف يرجع إلى القرن الخامس عشر الميلادي.

أما الكتاب الثاني فهو في الكيمياء القديمة ويرجع تاريخ تأليفه إلى القرن الخامس عشر على الأرجح، وهو يتناول ضمناً تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب. ونص الصفحة التي ننقلها هو (صفة ما نقل من صحف ووسيموس وأوتاسيا: خذ من حجر - كا - ما شئت وهو الكبريت الأحمر الذي لا يخلو منه مكان والقي من الكبريت الأبيض مثله واسحقه فأنه يذهب بصلابته والقي مثلهم زيبقاً بحذروا عملهم في النار ساعة ثم أعيد عليهم السحق والسقي إلى أن يعجبك لونه، فألقي منه على حجر (؟) سير ذهباً ابريزاً والحمد لله تعالى. . .) وتحت هذا المتن متن آخر انفصل عنه بصورة المثل ستة رجال بوجوه كاملة الاستدارة (ش2)، والى يمين هذه الرؤوس صورة لهلال والى يسارها صورة البدر، والى يمين ويسار المتن وقف رجلان امسك كل منهما بسلسلة التفت حول عنق الستة الرجال الذين وضع كل منهم يسراه على صدره. وفي نهاية الصورة رموز شملت بعض حروف إغريقية وهيروغليفية وعربية، فكانت إلى الطلاسم اقرب منها إلى الكلام المفهوم. ويرى المتأمل فيها بعض صور أشبه شيء برسم اللقب والسيف والصليب.

والصورة (ش3) منقولة عن كتاب صور الكواكب لعبد الرحمن بن عمر الطوسي ويرجع تاريخه إلى منتصف القرن السابع عشر الميلادي. وهي تمثل النسرين الواقع والطائر. وقد جاء فوق صورة النسر الأيمن ما أوله: المجرة عند القدر الخامس بينهما مقدار شبر من راس العين. . . الخ وحلّى كل نسر منهما بعدد الكواكب المشرقة في بدنه وجناحيه وذيله ومخالبه.

ويرى القارئ مما تقدم أن التصوير كان مستعملا عند العرب لتفسير ما غمض في

ص: 65

المؤلفات العلمية بقصد تمام التوضيح على قدر ما سمحت به وسائلهم ولا سيما في علمي الكيمياء والفلك، فإن أدوات الرصد كانت معدمة تقريباً، ولم يكن لدى الفلكي منهم سوى قواعد الحساب على الطريقة القديمة، كما كانت الأدوات الكيميائية ووسائل الصهر غير موجودة بالصفة التي نراها الآن.

وإذا كان العرب قد اجتهدوا في تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب وأخفقوا، فان نظريات الكيمياء والطبيعة الحديثة أثبتت إمكان تحويل المعادن بالصهر. ولا ننس آخر الأنباء من أن عالماً ألمانيا هو الأستاذ ميتا أمكنه تحويل الزئبق إلى ذهب بالحرارة، فكأنه بذلك سجل الأقدمية لعلماء العرب.

وفي مقالنا القادم سنتناول ناحية أُخرى من نواحي التصوير الإسلامي.

أحمد موسى

ص: 66

‌القصص

كارنا وكونتي

للشاعر الفيلسوف رابندرانات طاغور الهندي

للأديب شكري محمد عياد

(كان لكونتي ملكة (بنداوا) قبل زوجها ولد هو كارنا الذي اصبح في رجولته قائداً لرهط الكيراويين، ولكي تدفع عن نفسها العار هجرته عند مولده فرباه حوذي اسمه اجيرانا)

كارنا - إنني أنا كارنا، ابن الحوذي اجيراتا، أجلس هنا على ضفاف الكنج أعبد الشمس الغاربة، فمن أنت؟

كونتي - إنني أنا المرأة التي فتحت عينيك لأول مرة على هذا النور الذي تعبده

كارنا - لست افهم، ولكن عينيك تصهران قلبي، كما تقبل الشمس ثلجاً على قمة جبل، وصوتك يبعث في حنايا صدري حزناً أعمى، ثوى السر فيه بنجوة من ذكرياتي الأولى. خبريني أيتها المرأة الغريبة، أي لغز يصل مولدي بك؟

كونتي - صبراً جميلاً يا بني. سوف أجيبك حين تنسدل أجفان الظلام على عيون النهار المستطلعة. أما الآن فاعلم إنني كونتي

كارتا - كونتي! أم اريونا؟

كونتي - نعم بلا ريب، أم غريمك اريونا. ولكن لا تبغضني لذلك يا ولدي. إنني ما برحت اذكر يوم السلاح في هاستينا، حين قفزت إلى الحلقة في جرأة وأنت غلام مغمور، فكنت كشعاع الفجر بين نجوم الليل. آه! من كانت تلك المرأة التي قبلت عيناها جسدك العاري الرشيق من خلال دموع كانت تباركك وهي جالسة بين نساء القصر الملكي وراء السجوف؟ كيف؟ لقد كانت أم اريونا! حينذاك برز البرهمي أستاذ السلاح وقال:(ليس شباب وضيع النسب أن يباري اريونا) فوقفت لا تتكلم، كسحابة برق تأتلق عند الغروب بنور مكتوم. ولكن من هي المرأة التي اشتعل قلبها لعارك وغضبك وأرسل في سكون لهيب النار؟ هي أم اريونا؟

رعى الله دريوجانا الذي عرف قدرك، وتوجك ثمة ملكا على الأنجا، فكسب للكرواسي

ص: 67

بطلاً. لقد ملأ الفرح قلب اجيراتا، فشق الحشد نحوك، فهرعت إليه وألقيت عند قدميه تاجك، وإذا البنداويون وأصحابهم هازئون ضاحكون. ولكن امرأة واحدة من بيت البنداوييت توهج قلبها فرحا بما في تواضعك من كبرياء البطولة - لقد كانت أيضاً أم اريونا!

كارنا - ولكن ماذا جاء بك هنا وحدك يا أم الملوك؟

كونتي - لقد جئت أسألك معروفا

كارانا - مريني، وأيما سمحت رجولتي وشرفي الشاتري فسوف القيه عند قدميك.

كونتي - لقد جئت لأخذك

كارنا - إلى أين؟

كونتي - إلى صدري الظامئ لحبك يا بني

كارنا - أيتها الأم السعيدة بخمسة ملوك أشاوس؛ كيف تجدين في قلبك متسعاً لحبي وما أنا إلا قائد وضيع النسب؟

كونتي - إن مكانك فيه قبل كل أبنائي

كارنا - ولكن بأي حق احتله؟

كونتي - بحقك الموهوب من لدن الله في حب أمك

كارنا - ها هي ذي غبشة المساء تنتشر على الأرض، والسكون يرين على الماء، وصوتك يرجع بي إلى دنيا من الطفولة تتناهى في الذكريات. فليكن هذا حلماً، أو فليكن شعاعاً من حقيقة منسية، ولكن تعالي وضعي يمناك على جبيني. إن الناس يتناقلون أن أمي هجرتني. وكم من ليلة زارتني في نومي، ولكن حين كنت أصيح بها:(ارفعي عنك القناع، أريني محياك!) كان شبحها دوماً يتلاشى. فهل زارني الليلة عين ذلك الحلم وأنا يقظان؟ انظري! هاك المصابيح تلوح عن بعد وراء النهر مضاءة في خيام ابنك؛ وعلى هذه الضفة خيام أصحابي الكيرويين كأمواج عاصفة في البحر علقها ساحر. لماذا يجيئني صوت أم غريمي اريونا برسالة من الأمومة المنسية، في رهبة هذا المرج حيث يدوي طنين معركة الغد؟ ولماذا يسكب لسانها في اسمي هذه الموسيقى فيجتذبني إليه والى اخوته؟

كونتي - أذن فلا تتريث يا بني، تعال معي!

ص: 68

كارنا - اجل، سوف أجئ ولن أسألك سؤالا، فلا تساورك إذن ريبة. إن روحي تستجيب لندائك، والكفاح في سبيل النصر والذكر ونار الشنآن قد عادت أمام عيني أوهاماً وضلالات؛ كما يتلاشى هُذاءَ الليل في جلال الفجر. خبريني أنىَّ تقودينني؟

كونتي - إلى الضفة الأُخرى من النهر حيث تشتعل هذه المصابيح في شحوب الرمال المروع

كارنا - أوَسوف أجد هناك حتى الأبد أمي المفقودة؟

كونتي - آه يا بني!

كارنا - إذن فلماذا طردتني شريداً جث من أرض أجداده، صعلوكاً يرجحن في تيار من الخزيان؟ لماذا ضربت بيني وبين اريونا هوة لا تجتاز، ورددت أزكى ميول الدم إلى أنكى عواطف البغضاء؟ إنك تبقين صامتة. إن عارك يسري في الظلام البعيد ويبعث في أطرافي رعدة لا ترى. أبداً لا تذكري لي ما جعلك تسلبين ولدك حب أمه: ولكن خبريني لماذا جئت اليوم تسترجعينني إلى أطلال سماء ثللت عروشها بيديك؟

كونتي - إن لعنة تحل عليّ هي اشق من لومك. إني وإن تكنفني خمسة أبناء ليرفرف قلبي كقلب أم حرمت بنيها؛ ومن هذا الجرح الذي انشق على أول أبنائي، ولّت كل مسرات حياتي. في ذلك اليوم اللعين حين خنت أمومتي، لم تكن أنت تستطيع أن تفوه بكلمة. واليوم تضرع إليك أمك الغادرة أن تمنحها من لدنك ألفاظاً كريمة. دع غفرانك يحرق قلبها كالنار ويلهم خطيئته.

كارنا - أماه، تقبلي مني دموعي؟

كونتي - ما كان أملى من المجيء أن أعيدك إلى ذراعي، بل لأعيد إليك حقوقك. تعال وتقبل كابن ملك مكانك بين أخوتك

كارنا - إنه أحب إليّ أن أكون ابن حوذي. إني لا أتوق إلى مجد نسب أعظم من نسبه

كونتي - فليكن ذلك كما تريد. ولكن تعال واسترجع مملكتك فهي حقك!

كارنا - أتعزينني بمملكة وأنت التي استكثرت على حب أم؟ إن صلة الرحم التي اجتثت جذورها قد ماتت، ولن تستطيع أن تحيا مرة أُخرى. لي العار إن أنا ناديت أم الملوك أماً، ونبذت أمي في بيت الحوذي!

ص: 69

كونتي - أنت عظيم يا بني! لكم ينمو قصاص الله من بذرة ضئيلة إلى حياة حافلة! ها هو ذا الوليد الذي نبذته أمه يعود فينبعث من ظلام الحادثات رجلاً يسحق اخوته

كارنا - أماه لا تخشي شيئاً! إني لعلى يقين من أن النصر للبنداويين، وفي هذا الليل الهادئ الساجي يمتلئ قلبي بموسيقى من المغامرة اليائسة والنهاية الغامضة. لا تسأليني أن انسل من بين أولئك الذين حقت عليهم الهزيمة؛ فليكسب البنداويون العرش إذا لم يكن من ذلك بد، ولأبعد أنا مع اليائسين والمحزونين. لقد تركتني للخزي ليلة ميلادي، عارياً غير مسمى؛ فاتركيني مرة أُخرى بغير شفقة انتظر الهزيمة والموت في هدوء!

شكري محمد عياد

ص: 70

‌البريد الأدبي

في معرض الفنون

سيدي صاحب الرسالة

في (الرسالة) رقم 253 مقال عنوانه: (جولة في معرض الفنون) بقلم نصري عطا الله سوس. وقد كنت أعددت للرسالة مثل هذا المقال، فإذا المقال المنشور يوافق ما كنت أعددته، فرأيت إهماله. غير إني احب أن أزيد على ما جاء في مقال الأستاذ نصري عطا الله سوس النفيس أن ابرز ألواح المعرض إنما هي من صنع السيدة إيمي نمر وطريقتها التأثرية الرقيقة البعيدة عن تعقيدات (المدارس)، ثم الصديق محمود بك سعيد وان اصبح ينسج على منوال واحد من التعبير، ولكنه تعبير قوي اقرب إلى فن النحت التمثيلي منه إلى التصوير. ثم إني لأشارك الأستاذ سوس في ذهابه إلى أن أسلوب ادمون صوصة لا يعدو المحاكاة الضاربة إلى (الفوتوغرافية). وأما جورج صباغ فأسلوبه فوق هذا، لأن محاكاة الطبيعة عنده إنما يجري بين جوانبها ماء الفن، إلا أنه فن يرجع إلى الحذق والدراية لا إلى التأثر الدفين واستلهام ما وراء المنظور وتدوين اللوائح والهواجم. وذلك لان جورج صباغ - على نباهته - أو قل من اجل نباهته يندرج في سلك (الأكاديميين).

بقي أن الأستاذ سوس وعدنا أن ينشر في الرسالة (سلسلة من المقالات بين فيها فلسفة الفن الحديث وأصوله ومذاهب الفنانين المختلفة ومميزات كل مدرسة، إلى غير ذلك مما يتصل بالتصوير والنحت والرسم) لأنه (لاحظ أنها مجهولة تماما بين كل من تعرف إليه). وهذا قول حق، فان من المتعذر على ناقد الفن أن ينشئ المقالات وجمهور القراء عن أصول الفن وتاريخه متغافلون قليلا أو كثيراً. ولقد أفضت في هذا الموضوع لسنتين مضتا في صحيفة الأهرام (18مايو سنة 1936):(على هامش معرض الصور). فعسى الأستاذ سوس أن ينبري للكتابة فيما يشغل صدره وصدر المشتغلين بالفن أو بنقده.

بشر فارس

المصريون واللغة الحبشية

من مآثر الشباب المصري الذين يطلبون العلم الرفيع في جامعات أوربا ذلك السفر النفيس

ص: 71

الذي نشره لشهرين مضيا الأستاذ الدكتور مراد كامل وهو ممن بعثته الجامعة المصرية لتلقي اللغات السامية في ألمانيا.

وموضوع هذا السفر (ويقع في 381ص من القطع الكبير)(تاريخ اليهود) ليوسف بن كريون المشهور بيوسفوس، وقد طبع باللغة العبرية غير مرة وباللغة العربية مرتين. وأما باللغة الحبشية فلم يطبع منه سوى صفحات معدودة، فرأى الدكتور مراد كامل أن يطبع الترجمة الحبشية لهذا الكتاب، واعتماده في ذلك على اثنتي عشرة مخطوطة أصابها في برلين وفرانكفورت أم مين ولندن وباريس وشتراسبرج. وقد عمل للكتاب مقدمة علمية غاية في الدقة وصف فيها المخطوطات وبحث في الأصل العبري والترجمة العربية له، ثم زاد على هذا جدولاً اثبت فيه ما سقط في النص العربي وهو مدون في النص الحبشي، ثم ما سقط في هذا وهو مدون في ذاك إتماماً للفائدة.

ونشر الكتاب دليل ناهض على رسوخ الدكتور مراد كامل في معرفة الحبشية والعبرية والعربية وتمكنه من فن الاستشراق وأساليب البحث العلمي وطرق معارضة الأصول ونشر المخطوطات. ثم أن هذا السفر النفيس نال به ناشره الدكتوراه في العلوم الفلسفية من جامعة توبنجن بألمانيا على يد المستشرق الكبير الأستاذ لتمن من أعضاء مجمع اللغة العربية الملكي. وسيقفل الدكتور مراد كامل إلى مصر بعد اشهر معدودة ليقوم بتدريس اللغات السامية في الجامعة المصرية، وهو يطبع الآن في ألمانيا رسالة أُخرى لنيل إجازة التدريس العالي (الأجريجاسيو)، وموضوع الرسالة (الفعل الرباعي في اللغات السامية).

مستشرق يسطو على كاتب شرقي

نشر المستشرق الفرنسي الأستاذ أميل درمنجهيم في المجلة الفرنسية (عدد مارس، أبريل 1938) بحثاً عنوانه: (الحالة الحاضرة للأدب العربي) وقد نقلته جريدة (المكشوف) البيروتية إلى اللغة العربية. والحق أن هذا البحث لا يعدل المباحث القويمة التي يكتبها كبار المستشرقين أمثال كراتشكوفسكي وجبّ وماسينيون وكامفماير؛ وإنما هو عرض جاف لا ينم على اتصال بالحياة العربية، ولا على تفهم لأسرار اللغة العربية، ولا على تذوق لتأليف كتابنا المحدثين. والسبب في ذلك أن المؤلف لم ينظر في الأصول نفسها ولم يدرس حياتنا الاجتماعية عن كثب، ولكنه اعتمد على ثلاثة مباحث، فجاءت كتابته ضرباً من

ص: 72

الفضول. وأما المباحث الثلاثة فالكتاب الذي ألفه كامفماير وخميري باللغة الإنكليزية سنة 1930 وعنوانه (الزعماء في الأدب العربي الحديث)، ثم المقالات التي نشرها الأستاذ جب في (صحيفة مدرسة اللغات الشرقية) حول الأدب نفسه ونقلتها جريدة السياسة إلى العربية، ثم المحاضرة التي ألقاها الأستاذ الدكتور بشر فارس في معهد الدراسات الإسلامية في السوربون ثم نشرتها (مجلة الدراسات الإسلامية) لمنشئها الأستاذ ماسينيون سنة 1936 (الجزء الثالث) في باريس. ولما كانت هذه المحاضرة موقوفة على الأدب العربي الحديث جداً وتتناول موضوعات مهمة مثل الصعوبات التي يلقاها الكاتب العربي الحديث في ميادين اللغة والثقافة والاجتماع، فقد سطا عليها المؤلف بغير دراية دفينة بالموضوع، فاخذ منها كلامه على المشكلات اللغوية، ومصاعب الحياة الاجتماعية، وطرائق الكتاب في التأليف، وألوان معالجة الموضوعات وخصائص الأساليب من قديمة وحديثة، وتأثير اللغة الإفرنجية في الإنشاء العربي، وظواهر النضال القائم بين أنصار التقليد وأنصار التجديد. وكأن المؤلف شعر بأنه غلا في الأخذ فذكر صاحب المحاضرة مرة واحدة في الهامش. وذلك لأنه اقتبس عنه نصف صفحة كاملة بحروفها عند الكلام على جمود اللغويين عندنا، فلم يكن بد من الإشارة إلى الأصل. فان اتهم بعض كتابنا بالسطو على تأليف المستشرقين، فهؤلاء المستشرقون يسلطون أيديهم على تأليف بعضنا!

كتابة الهمزة

في (الهلال) الغراء - جزء مايو 38 - هذا القول لسعادة الدكتور بهي الدين بركات باشا: (أن الهمزة وطرق رسمها من المسائل المعقدة التي يبذل تلاميذ المدارس مجهوداً شاقاً في فهمها وحفظ قواعدها. ومع ذلك فكثيراً ما يقع الخطأ فيها حتى من جهات لا ينتظر أن تقع فيه. وإلا فما القول في أن وزارة المعارف تحتفل بعيد المدرسة الخديوية المئيني وتوزع على طلبتها السابقين استمارات تكتب فيها لفظ (يملؤها) خطأ، إذ ترسمها على (ألف) بدل الواو.

أقول: كتابة (يملأها) والهمزة فوق الألف مثل كتابة (يملؤها) والهمزة) فوق الواو، كلتاهما صحيحة. ومن قول ابن قتيبة في ذلك في (أدب الكتاب): (وإنما اختار الألف لان الوقوف إذا إنفرد وأبدل من الهمزة - على الألف، وكذلك يكتب منفردا، فتركه على حاله إذا

ص: 73

أضيف).

وقاعدة الهمزة اسهل قاعدة في الدنيا، وتعليم معظمها الطلاب لا يقتضي اكثر من ربع ساعة. وهذه قاعدتها بالقول المسهب: دع الهمزة، وتلفظ بالكلمة تلفظا مقبولاً، ثم ضعها فوق حرف العلة إن كان.

تصويب

جاءت (من عبقرية نابغة العرب) في مقالة (أبو العلاء حرب الظالمين) في أول المقدمة لأقواله وإنما هي العنوان الثاني، وفي الشذرة (10)(ستر ضوءها)، وفي الشرح (الفداء) وهو الفراء.

بين العقاد والرافعي

قرأت ما كتبه (العضو المنتدب) الأستاذ محمود محمد شاكر فرأيت انه في الصفحتين الطويلتين اللتين كتبهما، لم يقل في الموضوع الذي اكتب فيه شيئا، إنما هو تعريض وغمز ولمز، وجمل إنشائية، وقولة مأثورة من هنا وبيت شعر من هناك على نظام موضوعات الانشاء، مما لا يتمشى وروح العصر الذي نعيش فيه. ولا أستطيع أن اخذ نفسي به.

وقد أثرت أن اذكره براس الموضوع الذي نتحدث فيه: فهو (أدب العقاد وأدب الرافعي، وما يدل عليه أدب كليهما من نفسه). ثم انتظر أن يكتب شيئاً في الموضوع، فان فعل ناقشته وإن لم يفعل فهو وشانه، وسأستمر في طريقي.

وتلك خطتي كذلك مع من كتب في العدد نفسه، يعرض بين السطور!

سيد قطب

حول كلمة (هال ها)

أشكر للأستاذ محمد عبد الغني حسن لقاءه الكريم لقصيدتي (البعث)، واعتذر من إبطائي في الرد على رأيه في كلمة (هال ها).

وبعد فأجيبه أن هذه الكلمة كما ذكرت ابتدعها الأستاذ فريد، وما دام الأمر أمر ابتداع فلا محل إذا لردها إلى اصل لغوي. وإذا صح ما ذكره الأستاذ من أن كلمة هال نداء لزجر الإبل فإنها محض مصادفة، إذ لم يدر بخلد الأستاذ فريد عند كتابة هذه الكلمة في رواية

ص: 74

(ميسون الغجرية) أي أصل لغوي كما اخبرني بذلك.

وأما من حيث معنى كلمة الإنكليزية فهي أيضاً كلمة مبتدعة في تلك اللغة، فمدار معرفة معناها على استعمالها. وقد استعملها شكسبير وغيره في بدء أغانيهم التي يريدون بها التعبير عن المرح والانطلاق من القيود كما جاء في رواية ولقد رجعت إلى قوم من أهل تلك اللغة فاتفقوا على أنها لا تستعمل إلا في بدء الأغنيات. أما عن معناها بالضبط فلم اظفر منهم بتحديده، ومرجع ذلك إلى أنها كلمة سماعية مبتدعة جرت في الأغاني دون أي اشتقاق لغوي. . . هذا وللأستاذ الفاضل شكري على اهتمامه ودقته والسلام.

الخفيف

جوائز وزارة المعارف لوضع كتاب في تاريخ الأدب

المصري

من الفتح الإسلامي

رأى معالي وزير المعارف تمكيناً للدراسات المصرية وتشجيعاً للبحث الأدبي وضع مسابقة في تاريخ الأدب العربي في مصر من الفتح الإسلامي إلى الآن.

ويتلخص موضوع هذه المسابقة فيما يأتي:

(للأدب العربي في مصر طابع خاص اختلف في العصور الأولى للفتح الإسلامي عنه فيما تلا ذلك من العصور وهو يتناول إنتاج الكتاب والشعراء الذين وفدوا من البلاد العربية والإسلامية إلى مصر وأقاموا بها كما يتناول إنتاج الكتاب والشعراء المصريين الصميمين.

وقد تأثرت مصر بالطابع العربي في أدبها في حقب مختلفة، وأثرت في الأدب العربي بتفكيرها وثقافتها وبحكم البيئة المصرية في حقب مختلفة أُخرى.

والذي تطلبه وزارة المعارف وضع رسالة في نحو 600 صفحة من القطع المتوسط حرف مطبعة بولاق بنط 15 تتناول تاريخ الأدب العربي في مصر مقسما قسمين: أدب المصريين الصميمين، وأدب غير المصريين ممن قاموا بمصر واثروا فيها أو تأثروا بها، مع إظهار صلة الأدب من إنتاج هؤلاء وأولئك بالحياة العامة اجتماعية وسياسية واقتصادية، وإظهار الصورة التاريخية التي يرسمها هذا الأدب المصري في عصوره

ص: 75

المختلفة.

أما الجوائز المقترحة فثلاث مجموعها 500 جنيه توزع بين الفائزين حسب رأي لجنة التحكيم على أن تقدم الرسائل إلى الوزارة في ميعاد لا يتجاوز آخر يناير سنة 1939.

عصر الفيلسوف ابن مسكويه

سيدي الأستاذ الفاضل محرر الرسالة

بعد التحية: ذكر حضرة الصديق الفاضل الأستاذ محمد حسن ظاظا في العدد الماضي من الرسالة الغراء أن ابن مسكويه عاش في العصر العباسي الثالث أي في العصر الذي يمتاز بضعف الخلافة العباسية. ولعل حضرته يقصد العصر الرابع لان ابن مسكويه عاش من سنة 330 إلى سنة 421. وهذه الحقبة من العمر تقع في العصر الرابع لا الثالث.

وقد ذكر حضرته أيضاً أن هذا العصر يمتاز بتكوين المعاجم اللغوية، وهذا الكلام القليل يحتاج إلى تفصيل؛ فان علماء اللغة في هذا العصر لم يبلغوا في الكثرة والإحاطة ما بلغه علماء العصور التالية إلى القرن التاسع الهجري.

واشهر لغويي العصر الرابع ابن دريد صاحب الجمهرة، والأزهري صاحب التهذيب، والجوهري صاحب الصحاح. أما علماء العصور التالية فأشهرهم ابن سيده صاحب المحكم وقد عاش في القرن الخامس. والصاغاني صاحب مجمع البحرين، وقد عاش في القرن السابع. وابن الأثير صاحب النهاية، وابن مكرم صاحب لسان العرب وقد عاشا في القرن السابع أيضا. والفيومي صاحب المصباح وقد عاش في القرن الثامن. والفيروزبادي صاحب القاموس وقد عاش في القرن الثامن وأدرك طرفا من التاسع.

(المنصورة)

محمد عبد الغني حسن

ما تهم معرفته كل أديب عربي

تلوت في جريدة المكشوف الأدبية كلمة تحت هذا العنوان منقولة عن حديث للأستاذ فؤاد افرام البستاني، وللأستاذ حفظه الله عندي مكانة متينة واعتقاد حسن بما يكتب ويقول، لأنه لا يقول إلا بعد تثبت، ولا يكتب إلا بعد دراسة وافرة. يعالج كل ذلك بصبر وجلد ونشاط.

ص: 76

وقد وقع عندي موقع الغرابة رأى له في المستشرقين لا ادري كيف كونته له نفسه.

يقول: (وإن اذكر شيئاً من هذه المؤلفات المفيدة على ما فيها من خطأ وصواب فلابد من أن انوه بمعلومات الأب - لا منس - وهي في نظر كبار المشتغلين بالأدب العربي في ذروة الأبحاث العلمية. . .).

فالأب - لامنس - مستشرق كبير ولا سبيل إلى الشك فيه. ولكن هل كتب تاريخ العرب بالروح المجردة التي ينبغي أن يكتب بها؟ (ولا سيما في المسائل الإسلامية التي بالغ في التعصب عليها، مما جعل المؤرخين وعلى رأسهم المستشرقون يشكون في أمانته العلمية ويتهمونه بركوب متن الشطط). وهل يغني في الرجل سعة اطلاعه وقوة حجته عن الأمانة التي أفسدها؟ (وهو الذي كان يسلب العرب الفضائل والصفات الخلقية الجميلة التي اجمع المستشرقون على نسبتها إليهم، وكان في خصومته هذه يعمد في بعض الأحيان إلى السفسطة والمغالطة).

ومثل هذه المغالطات في تفهم التاريخ، أو قل في تأويله بحسب النزعات الشخصية لا يغني عنها ذكر كلمة - على ما فيها من خطأ وصواب - لأننا نفهم من الخطأ والصواب شيئاً غير هذه المغالطات المبينة على حاجات هي في نفس يعقوب. وإذا كانت هذه طريقة الأب - لامنس - في كتابة التاريخ الإسلامي، فهل يا ترى من المعقول أن تصبح آثاره في ذروة الأبحاث العلمية، والأبحاث العلمية لا يجليها عادة إلا عقل متجرد عن كل هوى، وروح طهرت نفسها من كل درن موروث.

ويتم الأستاذ المحدث كلمته: (أما ما ينقل في بعض الصحف العربية من أبحاث لغوستاف لوبون وسيديو ورينان، يهول ناقلوها بنعوت المستشرقين يلصقونها بأولئك المؤلفين، فلقد كان من الخير للاستشراق والناقلين وللصحف أن تدعها في أماكنها من زوايا المكاتب). وهذه كلمة ثانية كشفت عن السر الذي أملى الكلمة الأولى لان التاريخ الذي كتبه هؤلاء المستشرقون هو تاريخ كأنما سطره الغرب للعرب. لأن هؤلاء استطاعوا أن يتجردوا من العوامل الموروثة والتقاليد المذمومة، فكتبوا كما أوحى إليهم ضميرهم، ولم تعمهم محاسن النصرانية عن محاسن الإسلام، ولم يطمس التعصب على قلوبهم شأن من طمس عليهم. ولا أدري أكان هؤلاء ممن يسرون ما لا يعلنون، أم كانوا يخادعون فيما يسطرون؟ ولا

ص: 77

أدري أية حاجة تدفعنا إلى إيثار المصادر التي تنهج نهج الطريقة الأولى في الطعن على العرب والنيل منهم واعتبار هذه الطريقة الطريقة العلمية الصحيحة؟

أرجو من الأستاذ الكريم أن يفسر الأسباب التي دعته إلى إيثار هذا الرأي إذ ليس من الحق إعطاء نتيجة من غير أسباب. وأرجو أن يفيدنا عن قيمة النصوص التاريخية التي اعتمد عليها كل من أصحاب الطريقتين وعن العوامل التي جعلته لا يزكي أصحاب الطريقة الثانية. حتى إذا كان في رأيه ما يعتقد به العقل المجرد أودعنا ما عندنا من كتبهم في زوايا المكاتب، وإن أراد أطمعناه النار!

حقاً لقد تركنا المستشرقين في حيرة من أمرهم فهم إن كتبوا بم يلائم هوانا وعزنا قلنا عنهم: إنهم يخادعون ويكذبون؛ وإذا سطروا بما يجردنا من كل فضل وعزاً رفعنا على فضلهم مناراً وأقمنا لعلمهم علماً!

أما وقد كذبوا علينا مراراً فليخطئوا مرة واحدة.

خليل هنداوي

نباتات الزينة العشبية

ظهر حديثاً في عالم المؤلفات الزراعية كتاب (نباتات الزينة العشبية) للأستاذ محمد كامل حجاج. والمؤلف هاو كبير ومحب عظيم للنباتات. وهو يكرس لها وقته وجهده وماله. وقد سلخ الشطر الأكبر من حياته في دراسة نباتات الزينة دراسة عملي مستفيضة يحدوه شغف عظيم بها وحب طبيعي لها حتى اصبح ثقة من ثقاتها القليلين في مصر.

قدم للكتاب بمقدمة وجيزة ضمنها نبذة صغيرة عن تاريخ الحدائق بمصر، وكذلك شيئاً عن المناخ والتربة وما ينجح من النباتات بمصر وما لا ينجح بها والظروف الملائمة لها، ثم عن الإكثار والأسمدة مما لا غنى عنه لمبتدئ مسترشد.

وبعد ذلك قسم النباتات إلى صيفية وشتوية وتكلم عن كل منها في ترتيب أبجدي شامل. ولم ينس في الآخر أن يخص تزيين الشرفات والموائد ببضع صفحات شائقة قيمة.

ويمتاز الكتاب بشيئين بارزين:

أولهما الإيجاز التام في الشرح والأداء إيجازاً لا يخل بمادته.

ص: 78

ثانيهما: كثرة الصور الجميلة الواضحة مما يندر أن نصادف مثلها في مؤلفاتنا العربية.

فالكتاب يصح أن يكون مرجعاً سهلاً ثميناً للهاوي والمحترف. واعتقد انه سد ثغرة كبيرة كانت شاغرة في فلاحة الأزهار.

محمد بهجت

5

ص: 79