الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 255
- بتاريخ: 23 - 05 - 1938
جوائز وزارة المعارف
تشجيع التأليف
الإنجاز منذ قيل إن الأمر قد استوثق للحكومة أو كاد. ورأى الأستاذ الوزير أن يبدأ سياسة الإنعاش الأدبي بالجوائز، لأنها لا تزال منذ كان الأدب أشد القوى المحركة له، وأقوى العوامل المؤثرة فيه؛ بله الإمكان والسرعة، لأن سنها لا يحتاج إلى تصديق وزير المال ولا استشارة وزير العدل. ولكن الجوائز المالية لا تبلغ الغاية من وجودها إلا إذا قامت على فكرة صالحة وسارت على طريقة مؤدية. فهل الجوائز التي يقترحها وزير المعارف بنجوة عن مرامي الظنون ودواعي الفشل؟
يقترح معالي الوزير جوائز وقتية عامة على وضع كتاب في (تاريخ الأدب العربي بمصر من الفتح الإسلامي إلى الآن)، وجوائز دائمة خاصة لتشجيع الإنتاج بين المدرسين بالمدارس الرسمية والحرة؛ والفكرة التي أوحت إلى معالي الوزير هذين الاقتراحين سليمة مستقيمة لا غبار عليها ولا جدال فيها. فإن الأدب المصري لا يزال بجانب الأدب العراقي والأدب الأندلسي مطموس الأثر مجهول التأثير مشتت المادة؛ فدراسته على الطريقة العلمية تثبيت لمعنى القومية في نفوس النشئ، وكشف لناحية خصيبة من نواحي الأدب. وإن المدرسين كما قال قرار الوزير (هم في جميع البلاد المتحضرة مصدر التجنيد العلمي والفكري والعملي في توجيه الحياة الاجتماعية إلى أحدث المبادئ وأدق الآراء العلمية والأدبية والفنية) فينبغي (حفزهم إلى البحث والتأليف في موضوعات اختصاصهم وما يتصل به، بما يؤدي إلى تقوية شخصيتهم العلمية وتكوين ذخيرة من الرسائل العلمية والأدبية تدعو إلى نشاط التفكير العام).
بقي أن ننظر في الطريقة التي تريد الوزارة أن تسلكها إلى تحقيق هذه الفكرة. فهي ترى أن تصل إلى غايتها من طريق المسابقة والتحكيم، وتنقسم في ذلك الهيئات الأدبية الرسمية التي استشارها إلى فريقين: فريق الجامعة، ورأيه اختيار لجنة من الباحثين المعروفين تضع هذا الكتاب المقترح في سنة وأربعة أشهر ثم تعطي ألف جنيه مكافأة على وضعه؛ وفريق دار العلوم وتفتيش اللغة العربية في الوزارة، ورأيه أن يترك وضع الكتاب إلى المسابقة الحرّة، فإن في ذلك حفزاً لهمم الشباب، وتوخياً لمعنى العدل، ومنعا (لاحتكار
علمي) دلت السوابق على وقوعه بحكم العادة أو النفوذ أو المجاملة. وكلمة (الاحتكار) التي جرت على لسان دار العلوم تنم عن شيء من الحنق الدفين على اختيار اللجان الأدبية، فقد أصبحت هذه اللجان وقفاً على نفر من الأدباء لا تنظر الوزارة إلا إليهم، ولا تعتمد في أعمالها إلا عليهم. كأنهم طائفة المستوزرين لا تحل الأزمات إلا بهم، ولا تؤلف الوزارات إلا منهم. ومرجع هذا الجمود إلى العادة الآلية التي تسير عليها السياسة والإدارة في الحكومة.
وفي رأينا أن إطلاق المشروع في مسابقة أو تقييده في لجنة لا يخلو من غميزة، فإن الموضوع المقترح لا تجدي فيه المسابقة ولا تؤدي، إذ الأدباء القادرون تعودوا ألا يدخلوا المسابقات تنزيهاً لكبريائهم الفنية عن حكم الأشباه، وضنا بجهودهم المضنية على تحكيم المصادفة، واكتفاء بما أخذوا به أنفسهم من الإنتاج الذاتي المستمر. والجائزة بعد ذلك كله ضئيلة لا تغري إرادة الكاتب وإن ضمنتها قدرته. أما غير هؤلاء فسيعالجون الموضوع معالجة الدارس الناشيء، يستزيد من دراسته ومعاناته علماً وفهماً لنفسه، ولكن ما يكتبه فيه قد يكون بعيداً عن قصد الوزير وخدمة الأدب وفائدة القاريء، لما يعوزه من اللقانة الخاصة التي يكتسبها فقيه الموضوع بالمران والزمن. تلك حال المسابقة؛ أما تأليف اللجنة فقد يكون أوجه الرأيين لو جرى الأمر فيه على مقياس الكفايات لا على تمثيل الهيئات وتمييز المناصب. ومن قبل أراد صاحب الجلالة المغفور له الملك فؤاد تأليف كتاب جامع في تاريخ إسماعيل، وكتاب ثبت في تاريخ مصر؛ فجاءه عن طريق المسابقة كتاب الأيوبي، وعن طريق الاختيار كتاب هانوتو؛ والفرق بين العملين هو الفرق بين السيرة والتاريخ، وبين الحيرة والخبرة.
ولكن أخوف الخوف - إذا غلب هذا الرأي - أن ينتهي الأمر إلى لجنة من اللجان الرسمية المحفوظة فلا نضمن التشجيع ولا الإجادة.
ولعل أجدر الوسائل بالنظر أن تنشئ الوزارة هيئة أدبية دائمة تنتج وتقترح وتراقب، ثم يوضع في يديها ست جوائز مقدارها ثلاثة آلاف جنيه، ويكون من عملها غربلة ما تخرج المطابع كل عام، ثم توزيع الجوائز على المجلين في فنون الأدب المختلفة في احتفال رسمي عام. ذلك أدنى إلى إنهاض الأدب وتجديده وتسديده. ولو أن مجمع اللغة العربية
أَلف على غير الأسلوب الذي تؤلف به اللجان الرسمية لكان خليقاً بهذا الأمر، ولكن. . . وهيهات أن تبرأ أقوالنا وأعمالنا من لكن!!
الإصلاح المنشئ والإصلاح الآلي
للأستاذ عباس محمود العقاد
الإصلاح اصلاحان: منشئ تسيطر به الإرادة على العوامل الخارجية، وآلي بعيد من هذه السيطرة لأنه يبدأ بالتسليم وينتهي بالتسليم، وينقاد للعوامل الخارجية في الأساس والجوهر، ولا يجترئ على مخالفتها وتعديلها إلا فيما هو عرض من الأعراض.
الإصلاح في الحالة الأولى مسألة حية أو مسألة نفسية والإصلاح في الحالة الثانية هو مسألة عدد أو مسألة تطبيق حسابي قلما تشترك فيها الإرادة الإنسانية إلا بالمقدار الضروري الذي لا يمكن منعه، لأن تجريد الأعمال الإنسانية من إرادة وشعور كل التجريد أمر لا يستطيعه الإنسان، إذ هو مستحيل
مثال ذلك فندق في مدينة يراد إصلاحه واستحداث نظام غير نظامه
فعلى قواعد (الإصلاح الآلي) كل ما يفكر فيه المصلحون أن يعرفوا أن أثاثه قديم فهو محتاج إلى التغيير، وتلك معرفة لا تفتقر إلى ابتكار عظيم
وأن يعرفوا أن عدد النازلين به يزداد فهو محتاج إلى بناء جديد فيه كذا من الجوانب وكذا من الحجرات، وتلك معرفة أرقام وتطبيق حساب
وأن يعرفوا أن الخدم مقصرون أو قليلون، ومن السهل أن يصل الإنسان إلى هذه المعرفة بغير قدرة على الإنشاء والاختراع
أما الإصلاح على قواعد الإنشاء والاختراع فهو يتناول فن البناء وموقع الفندق وموافقة الإضاءة والتهوية لأحدث الكشوف العلمية، ودراسة النفوس وما تهواه من منظر ورياضة وطعام وأساليب في الخدمة، وإقداما على سبق جميع الفنادق الأخرى في المرغبات والمحسنات، وتفكيراً في ترجيح المدينة كلها على المدن المرتادة للسياحة والتفرج والاستشفاء، لا يقتصر على انتظار السائحين والمتفرجين والمستشفين حتى يصلوا بحكم العادة إلى المدينة، فيجدوا الفندق الذي لا بد أن يجدوه
كل إصلاحنا نحن ينحصر في القواعد الآلية، ولا يجترئ على جانب الابتكار والاقتحام إلا من بعيد، وبعد فوات الأوان.
وقد ألقيت من يدي كتاب (على هامش السياسة) لمؤلفه صاحب السعادة حافظ عفيفي باشا
وأنا أضيف مثلاً جديداً على الأمثلة العديدة التي ترجح ما أقول
قرأت فيما قرأت من هذا الكتاب فصل التعليم الجامعي فإذا بالإصلاح المنشود ينحصر:
(أولاً) في أن يجد جميع من أتم سلسلة من حلقة هذه الدراسة المكان الذي يطلبونه في السلسلة التالية، بمعنى أنه يجب أن توجد محال كافية في المدارس الثانوية لمن ينتهي بنجاح من الدارسة الابتدائية، وأن يجد من ينتهون بنجاح من الدارسة الثانوية الأمكنة اللازمة لهم في المدارس العالية مندمجة في الجامعة أو منفصلة عنها الخ الخ.
و (ثانياً) في إيجاد التناسق المرغوب فيه بين أجزاء التعليم فلا تنشئ مدرسة ابتدائية أو ثانوية من الآن إلا بعد أن تنشئ عدداً من المدارس العالية الخ.
و (ثالثاً) يجب أن يراعى في هذا التعليم بجميع أجزائه ألا يزيد عدد الفرقة عن الحد المعقول الذي يسمح للمدارس بمراقبة سير تلاميذه، والذي يمكنه من متابعة الإشراف عليهم وتعهدهم وإدراكه مواطن الضعف والقوة في كل منهم.
و (رابعاً) ألا يزعج التلاميذ والمدرسون بنقلهم من بلاد إلى أخرى لتمضية الامتحان في حرارة الصيف المحرقة حيث يحشرون في أماكن تقام للضرورة تحت الخيام الخ.
وقس على ما تقدم سائر الإصلاحات المنشودة في نظام التعليم الجامعي وما يترقى إليه من تعليم المدارس الابتدائية والمدارس الثانوية.
أي إنه إصلاح (ضابط) أو رئيس ضباط في مدرسة واحدة أو مجموع مدارس مختلفة، وليس بإصلاح سياسي يضع البرامج وينشئ العقول والنفوس.
انتقل من مشكلة التعليم الجامعي والتعليم كافة في نظر سياسي مصري إلى هذه المشكلة بعينها في أنظار الساسة الأوربيين، واجتهد أن تقيس المسافة الشاسعة التي تفرق بين النظرتين.
مشكلة التعليم في الغرب هي: هل يتعلم الشاب على أساس الحرية الفردية، أو على أساس غلبة الدولة وانغماس الفرد في الأمة أو في الهيئة الحاكمة؟ فإذا تعلم على أساس الحرية الفردية فالنتيجة تشمل كل نظام في الأمة من حقوق دستورية، وحقوق اجتماعية وطموح إلى النقد، وقدرة على المخالفة، وإيمان بالتقدم والفكر الإنساني والمناقشة العقلية.
وإذا تعلم على أساس غلبة الدولة، فالفضيلة الكبرى هي الطاعة والإذعان والإيمان بعصمة
القادة، وأن التقدم الإنساني وهم من الأوهام، وأن القوة هي السلطان الأعلى في الزمن القديم وفي الزمن الحديث، وأن التواريخ والآداب لا ينبغي أن تفهم ولا أن تدرس إلا على هذا الاعتبار.
مشكلة التعليم في الغرب هي: هل يتعلم الشاب على دين العصبية الوطنية والغلو في تمجيد الذات وتغليب الوطن على جميع الأوطان، أو يتعلم الشاب على دين المعاونة الإنسانية والعقائد التي تمثلها عصبة الأمم ويبشر بها دعاة الوحدة العالمية
مشكلة التعليم في الغرب هي: هل يتعلم الشاب على اعتقاد أن الآداب والفنون والأديان هي ترجمان طبقة واحدة أو سلاح طبقة واحدة في حرب الطبقات، أو يتعلم الشاب على اعتقاد أن الآداب والفنون والأديان هي ثروة بني الإنسان جميعا من قديم الزمان، وستظل ثروتهم جميعاً إلى آخر الزمان.
تلك هي مشاكل التعليم الحقيقية أو هي بعض مشاكله الكثيرة في العهد الحاضر، وليست هي عدد الفصول وعدد المدارس والمدرسين وأماكن الامتحان
ومشكلة الامتحان عندهم ليست هي الخيام التي تقام أو لا تقام، وإنما هي البحث في الوسيلة الصحيحة لاختبار الملكات الذهنية والنفسية: هل هي بالسؤال والجواب، أو هي بالملاحظة الطويلة في أثناء العمل، أو هي بالاختبارات (الإيحائية غير المباشرة) التي تكشف القوى الكامنة دون سؤال صريح في ظاهر الموضوع.
وقبل أن يصلوا إلى مشكلة الامتحان تقوم مشكلة أخرى وهي مشكلة المواد التي يجري فيها الامتحان وتقسيم الدارسين على حسب تقسيم الدروس
فهل العقول الإنسانية لا تنقسم إلا إلى عقل عالم وعقل أديب! أو هناك أقسام شتى يدخل فيها العقل الفنان، والعقل الصنع، والعقل الإداري، والعقل المشارك في المداورات الاجتماعية الذي يربح بحسن الدخول بين الناس مالاً يربحه أعلم العلماء ولا أبرع الأدباء بالنجاح في ميادين العلوم والآداب؟
وهل حتم على العقول الإنسانية جميعاً أن تتذوق الرياضة والجغرافيا والكيمياء وإلا كانت ناقصة معيبة، أو هناك عوالم للتفكير والشعور وراء الرياضا والجغرافيا والكيمياء، وهناك عقول تصلح لهذه العوالم وإن كانت لا تصلح لما عهدناه من برامج الدروس
تلك أيضاً بعض مشاكل التعليم التي تدخل في نطاق من يصلحون البرامج وينشئون الأفكار، ولكنها لا تدخل في وظيفة الضابط أو كبير الضباط.
أذكر أن إصلاح التعليم العالي عرض للبحث منذ سنتين، فكان بعض المصلحين (على الترتيب والتعقيب وخط المسطرة والبركار) يقولون إننا نبدأ بالتعليم الابتدائي حتى نعرف ما نحتاج إليه في المدارس العالية، كأنما المسألة مسألة بيت يبني الدور الأرضي منه قبل أن تبني الأدوار العليا، أو كأنما المسألة مسألة طريق لا تصل إلى الميل الثاني منه قبل أن تجتاز الميل الأول، أو كأنما هي أعمار لا تكون في الثلاثين إلا بعد أن تكون في العشرين، وهي ليست بهذه ولا هذه ولا تلك، وإنما هي مسألة غاية ترتب عليها البداية وتعرفها قبل أن تخطو خطوة واحدة في طريقك إليها؛ ومن ثم وجب أن تبدأ بالتعليم العالي ثم تعلم التلاميذ في المدارس الابتدائية وفي المدارس الثانوية ليستعدوا له وينتهوا إليه؛ ولا ضرورة على الإطلاق لانتظار السنة الأولى الابتدائية وأنت تفكر في تقرير المناهج الجامعية، وإنما هي ضرورة وهمية عند من يمشون على المسطرة ولا يخرجون على الترتيب المرسوم!
علينا أن نصلح المصلحين ونداوي أطباءنا وليس هذا بميسور أو علينا أن نكسر المسطرة القديمة ونترقب نوازع الاقتحام في الجيل الجديد وإن طاشت في بداية اقتحامها، وذلك أيسر الأمرين.
عباس محمود العقاد
المذهب الرمزي
أهو نزعة سليمة في التفكير؟
للأستاذ عبد العزيز عزت
يعزو المذهب الرمزي اسمه الفرنسي إلى مورياس في نشرة طبعها عام 1886 وفي أحد أعداد جريدة هذا المذهب عند أوائل ظهورها، وأسمها (الرامز) - بطبيعة الحال - يجد القارئ مكتوباً فيها - بحبر!! - ما ترجمته:(الشيء الموجود ما هو إلا مظهر، مظهر خداع، لأنه يكفي أن تتغير حالتي النفسية حتى يتغير وجوده) - هكذا! - ويقول العلامة مارتينو مدير جامعة بواتييه في كتابه وعنوانه (المذهب البرناسي والرمزي) ما نصه (إننا نجد عند فرلين، وعند ملارميه، وعند رامبو وكثير من الرمزيين، أن الشيء الواقع ومثوله، حاضراً كان أم ماضياً، لا قيمة له مطلقاً.
ولكن إذا كان المذهب الرمزي يبلغ من العجز أن يتعامى وينكر وجود الأشياء الواقعة، ويجعلها إضافية إلى عوارض النفس وانفعالاتها، فماذا يستعيض بها يا ترى؟؟ يجيب مدير الجامعة السابق في نفس الكتاب صفحة 140 بقوله) إن عباقرة هذا المذهب يحلون هواجس النفس وشؤم التصور وإبهام الطلامس وضعف الإقدام، في مكان الرأي الواضح).
وعليه؛ فالمذهب الرمزي في الأدب وفي غير الأدب من فن ودين، هو نوع من الغمز واللمز في التفكير، لا يستقيم له عود ولا تمتد له ظلال. ذلك لأنه مبدأ بني على الالتواء والغموض الفكري، تنعدم فيه الصراحة، ويفسد فيه الوضوح، ويختل فيه ثبات الآراء بالمعنى الأفلاطوني. ولما كانت الصراحة والوضوح هما أساسي الحقائق الفكرية الثابتة التي بدونهما لا يستقيم للعقل منطق، ولا للشعور انسجام، كما يؤيد هذا ديكارت في كتابه المعنون (مقال عن المنهج) في إحدى قواعده الأربع العقلية؛ ولما كانت الحقيقة والفضيلة متكافئتين متعادلتين في فلسفة ديكارت، فقد أضحى هذا المذهب يتناقض وأول أصول العلم الحديث، ويتعارض وبديهيات مبادئ الأخلاق، هذا من الوجهة النفسية.
والرأي صحيح إذا نظرنا إلى المسألة من وجهة تطور التفكير الإنساني، على صفحة الزمان، وتسلسل المعارف البشرية وتعاقب الملكات النفسية التي عملت على خلق التراث البشري في التاريخ. هذا التطور يؤكد لنا منطقاً لا يحيد مجراه، فلا تختل له حقبة من
الزمن ولا (ينفك له تماسك في دورته، وقد عبر عنه أبو التفكير الإنساني الحاضر القائم في العلوم والأدب (أوجزت كنت) في كتبه المتعددة، وخاصة في كتابيه (الفلسفة الوضعية) و (التفكير الوضعي)(وهو يلخص كل فلسفته)، فهو يثبت إن الإنسانية تطورت في ثلاث حالات: الحالة الأولى وتسمى حالة (التصوف) أو (الدين) والحالة الثانية (التجريد العقلي) التي تتمثل في الحضارة اليونانية القديمة وعلى الخصوص في فلسفة ارسطو العظيم، والحالة الثالثة تسمى بالحالة (الوضعية) التي تحتل حالة العالم في زماننا هذا أي عهد التجربة الذي يقوم على ملاحظة مظاهر الطبيعة ومظاهر النفس لتحديد (علاقاتها) وصوغها في قوانين خاصة، أو لا تؤدي حتما إلى قوانين عامة بها، ولكن للإنسان أن يستغلها عملياً ويتنبأ نما سيؤدي إلية نشاطها في المستقبل القريب والبعيد
والذي يهمنا من هذه الحالات الثلاث، هي الحالة الأولى لما بينها وبين المذهب الرمزي من التشابه. فأوجزت وكونت يعرفها قائلا: أنها تمثل مظاهر الوجود، كاحساسات نتخيلها. فهي بهذا الاعتبار في مقدور تصورنا، نتوقف على إدراكنا لها بالبصيرة): أي إن الأشياء على اختلافها لا قيمة لوجودها الذاتي، ولكن بالنسبة إلى حالة النفس وأهوائها في مناسباتها المختلفة. ويقول إنها حالة النفسية تسود عند الزنوج والقبائل المتوحشة لعجزهم عن فهم المظاهر الخارجية، ولقصر إفهامهم عن إدراك المعاني النفسية المجردة؛ لهذا يستعيضون عن ذلك برموز يقدسونها لمدلولاتها، وبحركات وطقوس يرددونها في مناسبات معينة، ظناً منهم أنها تفي بما يرتسم لها من عقيدة في أذهانهم، وبعناصر الطبيعة يفرضون عليها الحياة، ثم يؤلهونها باعتبارها قطب الاتصال الروحاني بنفوسهم الحائرة!
كذلك المذهب الرمزي يمثل نوعاً من الدخول إلى النفس والتغلغل فيها، ونوعاً من الحرية الجامحة في إمكان التصوير والتعبير لمظاهرها التي لا نستقر على قرار. لهذا كان (الرامز) لا يخرج إلى الناس في وضوح العقل وانسجام المنطق، فهو أضعف من أن يرتفع إلى هذا المستوى الإنساني وكان لا يتبادل الخير وفضل المعاملة الفكرية مع بنى الإنسان في المجتمعات البشرية؛ وكان لغموض احساساته الإنسانية وتضارب نزعاته لا يقبل على تفهم أمر الوجود العالمي ماديا كان أم تاريخيا وإنما كان يمثل حالة نفسية هي أقرب إلى المريض منها من إلى شيء آخر، يسودها محض الخيال والوهم والأنانية الفردية بعينها،
لأن العالم في كل نواحيه وفي كل مدلولاته الصحيحة، وكذلك التراث الإنساني الذي اتفق على استقامته العلماء والحكماء منذ العهود الأولى يصبح باطلا؛ ويجب أن تبتدئ الخليقة دورتها من جديد، وأن تتخذ في ذلك من (هواجس) هذا الرامز أسسها الأولى. وليس بعد ذلك من دليل على الخروج على إجماع السلف والخلف وقلب الحقائق والوجود في كل شيء؛ فالتاريخ يكذب، والمنطق يحتضر، والإجماع ينكر. . . وإنها لنزعة تذهب بالإنسانية إلى عهد تهيم فيه على وجهها في الأرض، فلا تخرج عن حد الفطرة والعراء!
وثالثاً - فان الرأي صحيح كذلك من الوجهة الاجتماعية، لأن العلم في نظر أبي الاجتماع الحديث (دركيم) هو التعاون المشترك بين العلماء. ونشوء المدارس الفكرية، التي تبغي إقامة قوانين ثابتة لمظاهر الوجود في كل شيء ترتكز على نظريات يدعمها البحث والاستقصاء. وهو أيضاً إشراك الناس في مفهوم الحقائق المكتشفة، ورفع الغموض والالتباس عن إفهامهم ليقروا في إجماع الحقائق واضحة. فالعلم إذاً مظهر من مظاهر الاجتماعي البشري مهمته خلق التماسك الفكري في عقلية الفرد عن طريق الوضوح، وخلق نفس هذا التماسك في عقلية الأفراد عن طريق ثبات الآراء والنظريات، لأنه كلما رفع الجهل والغموض والإبهام عن عقول الناس زاد (الوفاق) فيما بينهم، لاتحادهم في نفس وجهات النظر والتفكير
وأكبر دليل على صحة ما نقول هو أنه عندما ساد مذهب السوفسطائية في المجتمع اليوناني القديم الذي يرتكز على مبدأ (الشك) ومرض (الحيرة) الفكرية، لأنهم كانوا يبشرون بنظريات يصح أن يلقنوا الشبيبة نقيضها في الغد، فالعلم في نظرهم هو علم (الفرد) وعلم (المناسبات)، وعلم الفصاحة والثرثرة والرغاء، لهذا ساد الفهم (النسبي) للحقائق في ذلك الزمان، وأدى المنطق الفاسد إلى سوء الأخلاق لعجزهم عن تصور علم واحد ذي منهج واحد يوجد بين الناس ويوجه أفكارهم إلى الغايات المتحدة في الفهم، فلزم للقضاء على السوفسطائية قيام ثلاث ثورات لتنظيف المجتمع اليوناني من أدران أفكارهم: الأولى ثورة سقراط في الأخلاق، والثانية ثورة أفلاطون في الطبيعة، والثالثة ثورة أرسطو في المنطق. والمذهب الرمزي كالسفسطة ينعدم فيه الفهم الاجتماعي، لأنه يرجع الحقائق إلى محض (الفرد) أي هواجس نفس الرامز وتصوراته الملتوية وغموض احساساته التي
تخرج عن أساليب المنطق، وتتناقض وعرف المجتمعات البشرية. لهذا كان هو مذهباً أنانياً أشد خطراً من الشيوعية بل ومن الفوضوية؛ لأن هذه المذاهب على ما بها من قبح دنيء تبغي في النهاية نوعاً من الخير للمجموع في نظامها الخاص المبتور. ويؤيدنا في رأينا هذا مدير جامعة بواتيية السابق الذكر، في كتابه صفحة 142 إذ يقول (المذهب الرمزي مذهب ثوري يركن إلية الشبان باسم التجديد لهدم النظام السياسي والاجتماعي والعقلي والفني الذي قد ورثوه عن سلفهم الصالح في بلادهم. ولهذا يجب أن يتخذ القائمون بالأمر فيها الحذر من مثل هذه النزعات الطائشة والصرخات الجامحة، التي تبغي قلب نظم المجتمعات الهادئة التي تساير التطوير العام لدورة النشاط المتزن في سائر أمم العالم)
(ويقول هذا العلامة كذلك في صفحات 209، 210، 211 من نفس الكتاب: إنه بالرغم من قيام مبادئ الحرية التامة في التعبير عن الآراء في بلد كفرنسا، وبالرغم من أن هذا البلد يعيش خاضعاً لمبادئ الثورة الفرنسية التي يدين بها نظام الحكم الجمهوري فيها، فإن المذهب الرمزي عندما ابتدأ ظهوره وأخذت (أبواقه) ترتب الدعاية والنشر له، قامت قائمة الناس في فرنسا وسموه (النزعة الجنونية) لما يتضمنه من القضاء على الروح الاجتماعية والتضامن بين أهل البلد الواحد. ولهذا أجمعت الناس في فرنسا على جموحه وشره الفتاك، وقاوموه بكل ما عندهم من قوة، وأمكنهم - كما يذكر العلامة المدير - أن يقضوا علية في عشرة أو خمسة عشر عاماً من ولادته، ودفنوه (غير مأسوف عليه)
وأقول بعد ذلك: إن مذهب (الرمزية) من أصول الكثلكة. فهي تذهب إلى نوع من التصوف يغمض كثيراً على عقول تابعيها. لهذا تعمد لتقريبه إلى إفهامهم إلى رموز خارجية محسوسة، كل منها له معنى بعيد يكفل لهم نوعاً من الترجيح في التصور. وهي في هذا تسير على الخصوص مع تعاليم القديس أوغسطين الذي كان يعتقد أن ليس هناك دين صحيح أو باطل، إلا وله ولتابعيه اتفاق محدود على رموز معينة لها مدلولات خاصة تنحصر فيها إفهامهم. وهذا ما دعا بعض الناس إلى اتهام الكاثوليكية بالوثنية، وعلى الخصوص عندما صرح رؤساؤها بأن المذهب الغالب في تعاليم الكنيسة هو مذهب القديس توماس؛ لأن هذا الحبر الكبير كان يخضع في تعاليمه إلى فلسفة أرسطو. والكل يعرف أن هذه فلسفة أرسطو هي فلسفة الصنم، لأن أساسها كأساس سائر الفلسفات القديمة. وكذلك
فلسفة ديكارت في العهد الحديث هي علم الألهيات، وهذا العلم تنحصر أبحاثه في تحديد طبيعة العناصر الأولية التي بها يجب أن يتحقق الشكل الكامل في الهيولا العارية فيبدو ناصعاً كحقيقة وكغرض. وصحة قولنا هذا تؤيده نظرية تقسيم العلوم في هذه الفلسفات، وما كتبه على الخصوص العلامة المشهور رافينسون وهاملان عن أرسطو.
عبد العزيز عزت
عضو بعثة الجامعة المصرية لدكتوراه الدولة
من برجنا العاجي
ينبغي أن نحترم أولئك الذين يحترمون الفكر. رأيت هذا لأسبوع واحداً من هؤلاء: هو طبيب فاضل، طلبني في منزلي بالتلفون مرات، ثم زارني في مكتبي مرتين دون أن يظفر بلقائي. ولم ييأس، فحضر الثالثة فوجدني، وأخبرني أنه يحتفظ بكل كتبي إلا كتاباً واحداً، بحث عنه كثيراً فلم يجده. وهو يدفع فيه الآن ابهض ثمن حتى لا تنقص مجموعته المجلدة أفخر تجليد. فلم يؤثر في نفسي أيضاً هذا الكلام، وأحلته في اختصار إلى مكتبة باعته النسخة بضعف ثمنها. وإذا بخطاب شكر واعتراف بالجميل يصل إلي من هذا الرجل في اليوم التالي شكر على ماذا؟ لست أدري. ولكني تأملت قليلا فخجلت. إن هذا الرجل يحترم الفكر في ذاته وينفق في سبيله الجهد والمال. إن هذا الرجل يشكرني وقد دفع ثمن النسخة بينما أراني قد أهديت كتبي تورطا أو حمقا إلى أناس لو يعنوا حتى بإرسال بطاقة شكر. وتذكرت أولئك الذين لا يفعلون شيئاً إلا أن ينتظروا أن نهدي إليهم كتبنا ليقرءوها متفضلين، أو لا يقرءوها مهملين. مثل هؤلاء ينبغي أن نحتقرهم مهما كانت مكانتهم. إن الفكر ما أرتفع قدره يوما إلا على أيدي رجال من طراز ذلك الطبيب الفاضل. وما صغر شأنه إلا على أيدي هذه المخلوقات التي تبذل مالها في كل شيء إلا في كتاب!
ولقد سرت عدوى هذا (التسول) الأدبي إلى الهيئات العلمية والثقافية. فقد جاءني كذلك هذا الأسبوع خطاب من دار الكتب الحكومية تطلب نسخاً من كتابي الجديد هدية أو (صدقة)! وقد علمت أم الدار لها (مال) مخصص لاقتناء الكتب. ولكن ماذا نقول في زمن هانت فيه قيمة الفكر حتى بين الهيئات العلمية الرسمية؟ إلا فليعلم الناس منذ اليوم أني سأبطل عادة (الهدايا) ابتداء من كتابي القادم، وأني لن أقدم جهدي إلا لقرائي المخلصين الذين يقدمون إلي جهدهم وعنايتهم ومالهم. أما الآخرون فلن أعترف لهم بوجود. وإني منذ اليوم لن أحترم إلا من يحترم فكري ويسعى إلي ويبذل فيه ما يستطيع
توفيق الحكيم
قاسم أمين
هل كان كردياً؟
لأستاذ جليل
قرأت في (الرسالة) الغراء قصيدة (الأستاذ علي الجارم بك) في (ذكرى قاسم أمين) العالم الفقيه المشهور، فلما جئت إلى هذا البيت:
يا فتى الكرد، كم برزت رجالاً
…
من صميم الحمى ومن أعرابه
استعجبت من القول والقائل. والأمر حقيق (والله) بالاستعجاب والاستغراب؛ فأني أعرف المعرفة البليغة أن (قاسماً) كان عربياً مصرياً، ولم يكن كردياً ولا أرمنياً، وقد ولد في مصر في القاهرة وتثقف فيها وعمل لسلطانها، فكان قاضياً يحكم بين الناس بالعدل، وكان خدين إمام المسلمين كلهم أجمعين وسيد العرب المصريين في زمانه الأستاذ الأمام (الشيخ محمد عبده) وحميم تلميذه نبي الوطنية العربية المصرية (سعد) العظيم. وكتب بالعربي كتباً، ولم يكتب بالكردي سطراً؛ ولن يضيره عند الله ولن يضع منه عند العقلاء أن القوم لم يعقلوا مقاصده فضلوا ولم يهتدوا. وذهبنا نردد صباح مساء قول أستاذ الدنيا جار الله (أستعذ بالله من الشر ما أنت راء، فإن الدنيا كل يوم إلى وراء) وأبصر بحر الإسكندرية في صيفه وفي سيفه مشاهد لم يبرح من أجلها ملتجأ مصطخب الموج مزمجراً يوشك أن يعيدها نوحية. . . وها قد أقبل الصيف وبدت هناك جنادعه. . .
وربما أراد الأستاذ الجارم أن يقول: (يا فتى أصله من الكرد) فلم ينجده الوزن الموروث هو وأخته القافية المتقفاة منذ أكثر من (1400) سنة. فهو يعني - أن أراد ذاك القول - أصل الرجل لا الرجل.
وهذا القول مفند قائله مدفَّع فالمرء بفضله وفصله، لا بزخرفه وأصله. والأمة إنما هي بلغتها وأدبها وعقيدتها ومصلحتها. وقد قال أحمد بن الحسين الهمذاني صاحب الرسائل والمقامات:(المرء من حيث يوجد، لا من حيث يولد. والإنسان من حيث يثبت. لا من حيث ينبت) وقاسم قد وجد وولد في مصر، وثبت ونبت في مصر. وإنا إذا فتحنا هذا الباب وأنشأنا نقول: يا فتى الأكراد، ويا فتى الأتراك، ويا فتى الأعراب، ويا فتى الإغريق، ويا فتى الشركس، ويا فتى الألبان، ويا فتى الفرس، ويا فتى الهند، ويا فتى الصومال، ويا فتى المغرب، ويا فتى الشام، فقد تشظت الأمة (العربية المصرية) - يا أخا العرب - وهفت
هفواً
وإذا احب الناس أن يفتشوا عناصرهم، ويفحصوا مستقصين عن جراثيمهم صاروا إلى المقالة العربية المشهورة التي لخصها أبن خلدون وأوضحها الأئمة دروين والأستاذ (أرنست هيكل) وهكلسي وبخنر وغيرهم وفصلوها تفصيلاً. وهذا تلخيص المقالة:
(أنظر إلى عالم التكوين كيف أبتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج. آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش ومالا بذر له. وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف ولم يوجد لهما إلا قوة اللمس فقط. ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن أخر أفق منها مستعد الاستعداد الغريب لأن يصير أفق الذي بعده، واتسع عالم الحيوان، وتعددت أنواعه وانتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان)
وقد سمعت العلامة الأستاذ الكبير السيد عبد العزيز الثعالبي أيده الله وقواه يقول في أحد مجالسه في الإسكندرية: (إن الناسخين حذفوا عبارة مهمة من قول ابن خلدون مستحين منها)
(والله لا يستحي من الحق) وهل في الدين والعلم حياء يا أبناء. . . يا عترة الفلحس واخوة الرباح والأمة الفرنسية - وما غيرها إلا مثلها - ملفقة مؤلفة (كما ذكر كاتب في مبحث في مجلة أسبوعية قبل الحرب المعلومة - من ثلاثة وعشرين جنساً، منها العربي. وكل واحد من القوم يقول اليوم منتفخاً: أنا فرنسي، أنا فرنسي. أنا ابن الغول وقد يكون (المقيم) في تونس ووالي الجزائر والضيزن الفرنسي في المغرب الأقصى (مراكش) المنكمشون الجادون في تثبيت دين محمد. . . وارساخ اللسان المبين. . . في الأقاليم المغربية - من قحطان. وقد يكون ظهراء (الظهير البربري) من قريش الظواهر أو من قريش البطاح فهل نقول لهم: يا سلالة عدنان، ويا فتيات قحطان. . .
وبعد فالقصيدة علوية جارمية وعربية علوية والأستاذ الجارم أديب كبير، و (عربي مصري) كريم، وما ظلم على قومه العرب المصريين؛ ولكن القافية - والقصيدة على الباء - كانت من الظالمين. . .
الإسكندرية
* * *
فلسفة التربية
تطبيقات على التربية في مصر
للأستاذ محمد حسن ظاظا
(يجب أن يكون (الربح) آخر ما يفكر فيه أصحاب المدارس الحرة!!)
(أترى تلك مدارس للتربية والتعليم. أم هي مزيج من الفوضى والاضطراب، والغش والخداع، والحشو التافه والأعداد السقيم؟؟)
7 -
مثال سيئ للتعليم الحر
أشرت من قبل إلى بعض نواحي النقص في (التعليم الحر) ووعدت القراء بكشف ما أعلم من أسرار هذا التعليم فيما بعد وأنجز اليوم وعدي في حدود تجربتي الماضية القاسية التي كنت فيها ناظراً لإحدى مدارس جمعية تعمل فيما تدعي للخير وكرم الأخلاق!!
1 -
وظيفة التعليم الحر
وأحسبك تدري - قبل أن أتكلم - أهمية التعليم الحر في بلد لا تستطيع معاهد حكومته أن تتسع لأكثر من نصف النشء الراغب في التربية والتعليم! بل أحسب أنك ترى معي أنه مادام الأمر كذلك فيجب ألا تقل مدارس ذلك التعليم عن مدارس الحكومة ولاسيما في الغاية النزيهة، والنظام المأمون، والكفاءة المنشودة. ولكن الأمر يا عزيزي كان ومازال على غير ما يجب أن يكون! أو قل إنه ما يزال مضطرباً في الكثير من هاتيك المدارس التي لم يؤسسها أصحبها إلا لتكون لهم تجارة رابحة قبل أن تكون للوطن حصناً وللتربية موئلا. وهاأنذا أخوض بك في مثال سيئ لهذه المدارس مؤكداً أن بعض ما به من شر موجود في غبره وغيره من مدارس العواصم والمراكز، وأنه لا يكاد يخلو من هذا الشر إلا مدارس تلك الجمعيات الخيرية المحترمة، أو مدارس أولئك الذين للعلم عندهم كرامة، وللخلق رهبة وجدارة!
2 -
مثالنا السيئ
ويؤسفني كل الأسف أن أرى نفسي مضطرا - إزاء المصلحة العامة - إلى أن أصرح بهذه الحقائق القاسية التي لا تشرف هذه المدارس ولا ترضي أصحابها. وأعلم تماماً أن
بعض هؤلاء الأصحاب والمديرين سيثور عليّ، وسيحاول عبثاً أن يدافع عن نفسه وعن مدرسته بمختلف الأعذار وشتى الادعاءات. ولكن ما حيلتي وهذا الحقائق الصارمة الصارخة تعلن عن وجودها على لسان المدرسين والطلبة وأوليا الأمور جميعاً؟؟
مثالنا السيئ هو جمعية تعمل للخير وكرم الأخلاق كما قلت، وتتخذ من بعض الشخصيات الكبيرة الساذجة أصناماً تتقدم بها للجمهور كما يغفل عن أسرارها ومخازيها. وقد رأت هذه الجمعية أن المدارس من أربح الوسائل وأشرفها مظهراً، فراحت تفتح منها ما تستطيع فتحة وتحشد فيها ما يزيد على الألف تلميذ وتلميذة!! فهل تدري من يدبر أمور هؤلاء التلاميذ؟ ومن يقوم بتعليمهم؟ وأين تذهب أموالهم؟
أما المدبر أو المدير كما يدعونه فهو رجل متعلم ولكنه عجيب الأطوار، محب للسلطة والاستبداد، سماع للأكاذيب والوشايات معتوه أو كالمعتوه، لأنه سب يوماً أمامي وأمام التلاميذ جميعاً في (طابور) الصباح أستاذ الدين ورئيس (المطبخ) سباً مقذعاً بينما كان الأستاذ المسكين واقفاً وسط التلاميذ، ولأنه أحذ هراوته مرة وجرى بها خلف خادم صغير على مرأى من بنات المدرسة وكن واقفات يتأهبن لسماع نصائحه الغالية في الفناء الكبير! ثم هو فضلاً عن ذلك مادي جشع قد احتكر لنفسه إيراد المطعم والمقصف وتنظيف الأحذية لقاء ما يقول به من إدارة بريئة وإشراف نزيه!. وقد لا يكون في ذلك إثم كبير لولا ما يقدم للتلاميذ من طعام سيئ، ولولا ما يحملهم به على هذا الطعام وذلك التنظيف من ألوان العسف والامتهان والحرمان والتعنيف مما لا أول له ولا آخر
وأما المدرسون فهم مجموعة متنافرة يطغى فيهم العنصر غير الفني على الفني، لأن فيهم راسب الكفاءة والبكالوريا أو حاملها مع فريق من سيدات ورجال التعليم الإلزامي ممن لم يجدوا عملاً في الحكومة فجاءوا إلى هذه المدارس الابتدائية الأهلية يلتمسون فيها عيشاً. ويضاف إلى أولئك وهؤلاء واحد أو اثنان من الفنيين لإدارة حركة المدرسية بهذا (الطقم) العجيب الذي لا استعداد فيه للتعاون والعمل بتلك المبادئ التي اصطلح الناس على أنها أصول للتربية الصحيحة والتعليم السليم! فماذا تريد بعد هذا وقد رأيت الرأس معتلاً والأعضاء خائرة منهوكة؟ قل ما شئت من إرهاق لهؤلاء المدرسين ومن انتدابهم ليعملوا ككتبة في شئون الجمعية الخاصة والعامة. وقل ما شئت من تضافر القوى في الجمعية على
امتهان المدرس ذي الكرامة وإحراجه بتلفيق التهم ونصب الأشراك. وقل ما شئت من تدخل المدير العجيب في الشئون الفنية الخاصة وصبغة للنظام العام بهراوته المضحكة وبشخصيته المادية المتناقصة وبميوله النهمة الغادرة، حتى لتشعر أنك في عصابة أو مارستان. ثم قل أيضاً ما شئت من التظاهر أمام حضرات المفتشين بما ليس موجودا، ومن وضح خزانات بغير ماء في المراحيض كدليل على النظافة وتوفية الشروط!!. أما التلاميذ المساكين فما أقل ما يتناولون من الكتب والكراسات! وما أكثر ما يدفعون من الضرائب والإتاوات! وما أشد ما يتحملون من الكلمات والضربات! وما أخطأ ما يعاملون به من طرق لا تكون العقل ولا تبني الشخصية ولا تهذب الشعور!
ستعجب مما أقول، وستتخيل أنه إنما كان بالأمس البعيد ولا وجود له اليوم. وسأقول لك إني لمسته بيدي منذ عامين اثنين ولقيت منه الأمرين وخرجت ثائراً علية عندما لم أقو على العيش فيه. وإذ كانت الوزارة قد خففت كثيراً من مثل تلك الفوضى بأعمال رقابة التعليم الحر فإن العيب لم يزل جسيماً، ومجال التلاعب والعبث واسع عريض، وممارسة التربية كفن صحيح سليم لا تكاد تتحقق في هذه المدارس ألا شذ وندر
وقد تسأل بعد هذا عن تلك الأقوال الكثيرة التي تجنيها الجمعية من إعانة الوزارة ومصرفات التلاميذ؟ وسأقول لك سل العمارات الشاهقة التي يبنيها المدير أو يفاوض في شرائها وسل المدرسين المساكين الذين يتناولون الأجر الضئيل ويشاهدون التضخم الهائل الشديد. وسل تلك الأبنية الرطبة القذرة التي يحشدون فيها التلاميذ بغير حساب!!
ثم ليت الوقت يتسع لأقص عليك طريف ما يحدث في تلك الدور، أو ليته يسمح بإخبارك أن الطلبة في المدارس الثانوية الأهلية كالوحوش يرهبهم الناظر لأنه يبغي مالهم، ويخشاهم الأستاذ لأنهم لا يرهبون أحد؛ نعم ليته يتسع أو يسمع بذكر هاتيك المخازي الكثيرة التي أسمع عنها كل يوم هنا وهناك فحسبك اليوم ذلك، وإلى اللقاء حيث أحدثك عن ناحية أخرى
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بشبرا الثانوية الأميرية
بين الرافعي والعقاد
للأستاذ محمود محمد شاكر
- 3 -
ثم ماذا؟ ثم يقول الأستاذ سيد قطب في ثالث أدلته على أحكامه: (يقول العقاد في طرافة ودعابة عن حِسان شاطئ استانلي!!
ألقى لهن بقوسه
…
قزح وأدبر وانصرف
فلبسْنَ من أسلابه
…
شتى المطارف والطرف
فلا يجد الرافعي في هذه الطرافة إلا أن يتلاعب بالألفاظ فيقول: فقزح لا يلقي قوسه أبداً إذ لا ينفصل منه قال في اللسان: (لا يفصل قزح من قوس). فإذا أمتنع فكيف يقال: (أدبر وانصرف). أما قزح العقاد، فلعل الخواجه قزح المالطي مراقب المجلس البلدي على شاطئ استانلى الذي قيلت فيه القصيدة
ثم يقول إن هذا المثال (فيه تلاعب وروغان، وهو في هذه المرة (التلاعب) أخسُ من السابقة، ففي الأولى كان تلاعباً بصورة ذهنية، وهو هنا تلاعب بألفاظ لغوية!)
أولاً، فمن ذا الذي يغفل عن طرافة هذا (الخيال) الذي يتصور (قزحاً) ملقيا بقوسه لهؤلاء الحسان، وهن يتناهبن هذه الأسلاب، بينما هو مدبر منصرف مغلوب على أمره، لا يستطيع النصفة ممن غلب جمالهن جماله!
ألا تستحق مثل هذه الطرفة، ومثل تلك الحيوية! من الناقد إلا أن يذهب إلى القاموس أو اللسان، ينظر هنالك، هل يفصل قوس عن قزح أو لا يفصل؟ ثم يكمل الكلام بتهكم بارد لا يرد على الفطرة المستقيمة في معرض هذا الجمال!!
أهذا هو النقد الذي هو (أقرب إلى المثال الصحيح)؟ وما قلته في المثال الثاني يقال بنصه هنا، فلترجع إليه جماعة الأصدقاء
ثم يعود فيقول عن هذا المثال أنه يمثل (تلاعبه بالألفاظ اللغوية، والوقوف بها دون ما تُشعه في الخيال من صور طريفة) انتهى كلام الأستاذ الجليل
ومن أعجب العجب أن يعد اعتراض الرافعي ونقده هذا البيت تلاعباً بالألفاظ اللغوية، ولا يكون هذا الشعر نفسه قد بُني على التلاعب في غير طائل، وعلى تكلف اللفظ لترميم قافية
البيت. وأول ما نقول في هذا أننا نخالف بعض رواة العربية ثم الرافعي في أن يلزم أحد هذا الحرفين صاحبة على كل حالة وفي كل ضرب من ضروب القول
وبيان ذلك أن لأصحاب العربية في هذا الحرف (قُزَح) ثلاثة اوجه من الرأي:
الأول: أن (قزح) اسم شيطان، أو أسم ملك موكل به والثاني: أن (القزح) هي الطرائق والألوان التي في القوس، والواحدة قزحة
والثالث: أن يكون من قولهم: قزح الشيء وقحز إذا ارتفع قلت: وكأنهم أرادوا أن يجعلوه معدولا به عن (قازح)، وهو المرتفع
ففي الوجه الأول لا يضير أن ينفصل الحرفان؛ إذ كان (قوس) أسم جنس، و (قزح) أسم علم بعينه، وأضيف أحدهما إلى الأخر إضافة نسبة. فهو بمنزلة قولك (كتاب محمد). ومن هنا جائز أن يبدلوا تسمية العرب الأوائل فقالوا له:) قوس الغمام) و (قوس السحاب). ويقول أبن عباس رضي الله عنه: (لا تقولوا قوس قزح، فإن قزح من أسماء الشياطين. وقولوا (قوس الله) عز وجل. وعلى هذا يجوز قول القائل: (ألقى قُزح قوسه) بإضافة القوس إلى ضميره. على أن الشيطان، أو الملك الموكل بالقوس. قد ألقى (قوسه)
وأما الوجه الثاني والثالث فلا يجوز الفصل معهما البتة على إرادة (الاسم) الذي تعرف به هذه الطرائق المتقوسة التي تبدو في السماء. فأن الحرفين في حالتهما ينزلان منزلة الكلمة الواحدة إذ ذاك. وللقول في هذا مجال ليس هنا مكانه ولا أوانه.
ونحن نرى أن العقاد قد ذهب - وإن لم يرد ذلك - إلى الوجه الأول، وأن شعره يحمل على رأي جائز في العربية
هذا، قد ذهب الرافعي في نقد بيت العقاد إلى رأي أصحاب اللغة في امتناع الفصل بينهما، وأن الحرفين كالكلمة الواحدة على تتابعهما. وعلى ذلك لا يقال (ألقى (قُزح) قوسه) وأولى إذن أن لا يقال إن (قُزح) أدبر وأنصرف، لأنه ليس بذاته يُدل على معنى، أو يقع اسماً لشيء بعينه؛ فهو إذن لا يجوز عليه الإسناد إسناد الخير أو الفعل كالإلقاء والأدبار والانصراف: فأين التلاعب في هذا الرأي باللفظ اللغوي؟ ولو قد كان وقع في بعض كلام الرافعي فصل أحدهما عن الأخر لأمكن أن يقال إنه يتلاعب باللفظ، ولكن ذلك لم يكن. . .!
وأما الأستاذ العقاد فقد نقد رواية قمبيز في سنة 1932، وجعل من ملاحظاته أن هذه الرواية (لم تخل من مخالفة للنحو والصرف في القواعد المنصوص عليها)، وأتى في هذا الموضع من نقده بما خطأ فيه شوقي وليس بخطأ.
يقول شوقي على لسان أحد المجان (ص 32)
ألقدحا ألقدحا
…
الخمر تنفي الترحا
قصراً أرى أم فلكاً
…
وشجراً أم قُزحاً
ثم علق (شوقي) في الوجه (32) نفسه فقال: (قالوا: إن قزح لا يفصل من قوس، ولكن الناظم لم ير بأساً في فصله لسهولته وكفاية دلالته) انتهى. ونحن نجيز هذا في العربية ولا ننكره
قال ذلك شوقي في التعليق، ثم جاء الأستاذ العقاد في كتابه (رواية قمبيز في الميزان) يقول ص15 (. . . ويقول (قُزَح) ولا تذكر قزح إلا مع قوس). وبين أن كلام الأستاذ العقاد ليس عربي العبارة، فإن أصحاب العربية منعوا (فصل) قزح من قوس، ولم يمنعوا (ذكر) قزح إلا مع قزح. والفرق بين اللفظين كبير. وبينٌ أيضاً أن هذا ليس نقداً فإن لم يأت بأكثر من تكرار ما ذكره شوقي في تعليقه، وكان الوجه أن يبين فساد رأي (الناظم) إذ لم يرى بأساً في الفصل للعلة التي ذكرها
ومع ذلك. . . فقد كان نقد العقاد في يونيه سنة 1933، ولم تمض ستة أشهر أي في يناير سنة 1933 حتى فصل العقاد نفسه بين (قزح) وقوس في شعره هذا!! فلعل هذا أن يكون بالتلاعب بالألفاظ اللغوية أشبه، بتصريف النقد على الهوى أمثل. وأما بيتا العقاد:
ألقى لهنّ بقوسه
…
قزحٌ وأدبر وأنصرف
فلبسن من أسلابه
…
شتى المطارف والطرف
فقد بُنيا على ألفاظ يدفع بعضها بعضاً عن معنى يولده - من لفظ (القوس) التي هي من آلات القتال. وكان سبيل التوليد هكذا: القوس من آلات القتال، واستعيرت للطرائق في السماء مضافة إلى (قُزَح)، فيكون ماذا لو أنشأ من لفظ هذا القوس صورة للقتال بين (قُزح) وبين جميلات الشاطئ أستانلي؟ ويكون ماذا لو زعم أن الجميلات انتصرن على (قزح) صاحب القوس فألقى سلاحه ثم أدبر وأنصرف؟ ويكون ماذا لو جعل ألوان (قوس قزح)
أسلاباً كأسلاب المحاربين في القتال ظفر بها الجميلات بعد انهزام (قزح)؟ ويكون ماذا لو زعم أنهن اتخذن هذه الألوان مطارف وطرفا يلبسنها ويتحلين بها؟ وهكذا
وهو توليد كما ترى وتوليد من لفظ واحد. ونحن لا نرى بأساً - وإن كنا لا نرتضيه - أن يأتي الشاعر بالمعاني مولدة من ألفاظ اللغة، فإن من بعض اللفظ بالعربية لما يضرم الفكر ويؤرث المعاني ويستفز الخيال إلى أعلى مراتبه. على أن هذا لا يتحقق إلا أن تستقيم الطريقة للفكرة، وبتراحب المجال للمعاني، ويسمو المدى بالخيال، على أن تصح المقابلة بين معاني اللفظ وسائر الصور التي تتولد منه.
والمقابلة في هذا الشعر فاسدة باطلة. فهي مقابلة بين (قزح) وبين الجميلات على شاطئ أستانلي، ثم بين الطرائق المقوسة ذات الألوان في السماء (القوس) وبين ما ترتديه الجميلات من مطارفهن. وكان حق المقابلة أن يكون (قزح) هذا مشتهراً بالجمال موصوفاً به، حتى إذا ما ذكر في معرض الكلام عن الحسان الجميلات تمت المقابلة بينه وبينهن. فإن لم يكن ذلك كذاك، فلا أقل من أن يكون في الشعر ما يدل على سبب (حالة الحرب) التي أنشبها الشاعر بين حسان شاطئ ستانلي، وبين العم (قزح)، ثم ما كان من علة لإلقاء سلاحه ثم انهزامه وإدباره
فأما إذ لم يكن (قزح) جميلاً، ولم يأت الشاعر بسياق جيد لهذا التوليد، فقد بطلت الأفعال التي أسندها إلى (قزح) من إلقاء قوس وإدبار وانصراف، وما أضافه إليه من الأسلاب، وصار كله لغواً لا فن فيه. وهذا الضرب خاصة من ضروب الشعر الذي يتضمن التصوير والوصف لا يأتي جيده إلا على دقة الملاحظة، وتقدير النسب بين الألفاظ والمعاني والصور. فلو أقتصر الشاعر فجعل (قزح) يهدي إلى الحسان تحاسين قوسه، فاتخذن منها (شتى المطارف والطرف) لكان أجود وأقرب إلى الإتقان. أما إعلان الحرب بينهما فليس جيد ولا براعة فيه كما رأيت
وقد أجاد أبن الرومي - ويقال أنها لسيف الدولة - إذ يقول:
وقد نشرت أيدي الجنوب (مطارفاً)
…
على الجو دُكناً، والحواشي على الأرض
يطرزها (قوس السحاب) بأصفر
…
على الأحمر في أخضر وسط مبيض
كأذيال خودٍ أقبلت في غلائل
…
مصبغة والبعض أقصر من بعض
وهو قريب جيد في الوصف
ونحن لا نذهب مع الأستاذ قطب فيما يتخير من اللفظ لوصف هذا الشعر وما فيه، بذكر (الطرافة) و (الدعابة) و (الخيال) و (الحيوية) و (معرض الجمال)، وما إلى ذلك من ألفاظ لو أقيم ضدها مكانها لقام، إذ كان لا يبين أسبابها ولا يوجه معانيها ولا يأتي كلامه في مثل ذلك إلا على طريق صاحب كتاب (الوشي المرقوم في حل المنظوم) إذ يقول:(أولا فمنذا الذي يغفل عن طرافة هذا (الخيال) الذي يتصور (قزحاً) ملقياً بقوسه لهؤلاء الحسان. . . . الخ)
وقد وضح الآن أن ليس في كلام الرافعي تلاعب بالألفاظ اللغوية، وأنه ليس في هذه الألفاظ (ما يجعلها تشع في الخيال صوراً طريفة)، وذلك لما ذكرنا من تخالف ألفاظها وتدافعها وبعد صورها عن جودة التوليد، إذ كانت هذه الصور مولدة من اللفظ على غير نسق متصل أو طراز جميل ثم. . أتى الأستاذ قطب بالمثال الرابع فقال: (ويسمع العقاد صيحات الاستنكار للهو الشواطئ، وما تعرض من جمال، فيصيح صيحة الفنان الحي المعجب بالحيوية والجمال:
عيد الشباب، ولا كلا
…
م، ولا ملام، ولا خرف
فإذا الرافعي يقول: (إن غاية الغايات في إحسان الظن بأدب العقاد أن تقول إن في هذا البيت غلطة مطبعية، وأن صوابه:
عيد الشباب، فلا كلا
…
م، ولا ملام، (بلا قرف)!
ثم يقول بعد إن هذا المثال يغنيه الرافعي عن الحديث فيه (فهو لم يزد على أن أورد البيت، ثم أستغلق دون استيعاب ما يعبر عنه من روح الفنان الحي، الموكل بالجمال حيثما وجد، وكيفما كان، الهازئ بخرف التقاليد وقيود العرف، ولم يجد ما يقوله إلا (بلا قرف) وهو قول لا تعليق لنا عليه)
ثم يعود فيقول: إن هذا يمثل هروب الرافعي (من مواجهة النقد الصحيح إلى المراوغة وكسب الموقف - في رأيه - بنكتة أو تهكم أو شتيمة)
وأنا لا أعجب لكلام الأستاذ سيد قطب، لأنه على طريقته في حل المنظوم، وإن أعجب فعجبي لصاحب (وحي الأربعين) كيف أرتضى أن يثبت البيت في قصيدته، وفي عقب
هذه القطعة بالذات، وينتقل من الوصف والتأمل وإمتاع النظر، وإمداد الفكر بأسباب من الجمال، أو كما يقول الأستاذ قطب من الطرافة والدعابة والخيال والحيوية! إلى صيحة الاستنكار والتفزع بقوله:(فلا ملام ولا كلام) ثم الغضب الذي لا يتورع في قوله: (ولا خرف). إن هذا الانتقال ليس من منطق الفن ولا من نهجه وسبيله
وما أظن الرافعي أراد، ينقد البيت - لأنه ليس بسبيل مما يحسن أن ينقد، وإنما وضعه هكذا للعقاد وهو يريد ما قلناه في كلمتنا الأولى مما جرته العداوة التي اضطرمت بينهما
وبعد فقد قرأت كلمة الأستاذ الجليل المهذب سيد قطب في البريد الأدبي من العدد السالف من الرسالة، وقد أعلن فيها بعض رأيه فيما نكتب، وحكم بحكمه على ما قلناه، وحاول أن يتهكم، ووعظ وذكر. ونحن ندعه لما به عسى أن يرى يوماً غير هذا الرأي وله الشكر أحسن أو أساء
محمود محمد شاكر
بين العقاد والرافعي
للأستاذ سيد قطب
- 4 -
الآن تحدث الأستاذ شاكر - حديثاً ما - في الموضوع الذي نحن بصدده، وإن كان حديثاً (رافعياً) على الطريقة التي بينت ما فيها من استغلاق وقصور، ولكنه على أية حال شئ غير اللمز والتعريض - وإن لم يخل منهما - فالآن يستطيع الإنسان أن يلقي باله إلى هذا الذي قيل
ولما كانت لي بقية من حديث عن الرافعي، فسأجعل نقاشي مع الأستاذ شاكر، بقية لهذه البقية في كلمة أخرى
وعدت أن أعرض من أساليب الرافعي نماذج غير ما عرضت تأخذ في نهج آخر، ولكنها تصل إلى الهدف الأول، من إثبات طبيعته كما عرفها، بالنماذج والأمثلة
وأنا ماض في طريق هذا، لا يحولني عنه ما يبدو من بعض أصدقاء الرافعي من تعريض أو إثارة؛ ولن يستفزني ما يكتبون فأحيد عن نهجي الهادئ
وطريقتي في هذا الموقف أن الرافعى قد مات، وله نوع من الأدب، فسأناقش أدبه هذا، وما يدل عليه من نفسه وذهنه نقاش الناقد المطمئن لما يقول
وله أصدقاء أحياء، فسأناقشهم حسبما يكونون هم: نقاداً أو متهجمين. ولن أخلط بينه وبينهم في الحساب، فلا ذنب للرجل فيهم، ولا تبعه علية بعد موته فيما يصنعون!
تلك طريقتي. وهي ترضيني. . .!
قلت: إن الرافعي أديب الذهن، ولكنه الذهن الملتوي المعاظل المداحل. واليوم أقول هذا، وأزيد عليه: أنه (الذهن الشكلي) الذي تلهيه الأشكال والسطوح عن الكنه والأعماق، والذي لا يلمح فرقاً بين صورة وصورة، مادام ظاهرهما متشابهاً. فإن أراد أن يطبق أمراً على أمر، أخذ في قياس الزوايا والخطوط ولم يلق باله لحظة إلى ما في طبيعة كلا الأمرين من خلاف أو زيادة ونقص في بواطن الأجزاء. وإليك البيان:
(القمر) كوكب لا يشرق إشراقه ألا في الليل والظلام، و (الحبيبة) تعود الناس أن يشبهوها بالقمر و (هي) لا تشرق إشراقها إلا في إبان (الحب)
فإذا شاء الأديب أن يعقد من هذه الأطراف تشبيهاً، وجد قمراً يشرق إذا جن (الظلام) ووجد حبيبة تشرق إذا (توهج الحب) فكان لا بد من التصرف في التشبيه
ولكن الرافعي لا يتصرف؛ فما دام القمر يجلوه الظلام، فالحب إذن (ظلام) لأنه يجلو حبيبته، وسينساها متى انقطع عهد الحب وتختفي من أفقه، كما أن القمر يخفى إذا طلع الصباح. وهكذا يقول:
يا من على الحب ينسانا ونذكره
…
لسوف تذكرنا يوماً وننساكا
إن (الظلام) الذي يجلوك يا (قمر)
…
له (صباح) متى ندركه (أخفاكا)
فأما البيت الأول فمأخوذ عن العقاد الذي لا يعجب الرافعي شعره! وأما الثاني فهو الذي يعنينا. وفيه ترى (الذهن الشكلي) الذي يستسيغ أن يجعل فترة الحب (ظلاماً) كالليل، فترة انقطاعه (نوراً) كالصباح، لا لشيء إلا لأن القمر المشبه به يشرق في الليل ويخبو بالنهار
والحب الذي هو ظلام، لا يحتاج للتعليق، فما يوجد حب في الدنيا تظلم به الأرواح ولكن الرافعي هكذا يقول. . .!
وليست هذه خطرة عابرة تلتمس لها الأعذار فإن لها أشباهاً في هذه (الخاصية)
يقول الرافعي عن (حبيبته) بعد عدة جمل مملوءة بقياس الأبعاد والجهات والزوايا:
(فكأنها في كل ذلك دائرة مرسومة من الفكر لا يهديك البحث إلى موضع طرفيه هي محيطة بروحك من ثلاث جهات فلم يبق لك إلا الجهة التي تتصل روحك منها بيد الله)
فدعك من مدلول هذا الكلام وقيمته من (إنسان يحب) أو (يصف الحب)؛ ودعك من أنه كلام ذهني لا ينبض بحياة، ولا يدل على خلجة في الشعور، أو نبضة في الضمير، ولا يتعدى أن (متكلماً) يصور في (الذهن) أشكالاً تقع أو لا تقع، ولكنها يمكن عقلاً أن توجد، كفروض المناطقة
دعك من كل هذا، وتعال وأنظر كيف يتصور الرجل العوالم الروحية، أو العوالم الذهنية. . . أنه يتصور لها جهات. ولا بد أن تكون هذه الجهات الأربعة كالموسومة في علم الجغرافيا بالجهات الأصلية، وأنه متى أحيط الإنسان بثلاث منها فلم تبقى له إلا واحدة وهي الجهة الرابعة!
ولا يتأتى له أن للحياة - ولا سيما في فترة الحب - ألف جهة وألف منفذ، وأنها تؤتى من
هذه الجهات والمنافذ، ومن مسارب أخرى ومنعرجات وكُوىً ومداخل لا عداد لها. لأن الذي يتأتى له ذلك لا بد له من (نفس)، ومن (حس). أو لا بد له على الأقل من (ذهن) مشرق مرهف، لا تحده الأشكال الصماء.
على أن هناك خطأ نكشفه من باب الدعابة، (فالدائرة) ليست لها أربعة جهات كما تصور الرافعي، حتى إذا أحيط الإنسان من ثلاث لم تبقى إلا الرابعة، إنما يكون ذلك في (الأشكال) الأخرى، كالمربع والمستطيل!!
وبسبب من هذا يأخذ قوله عن الناس:
(وألبسهم على تفصيلهم قصاراً أو طوالا، كما خرجوا من شقي المقص: المجتمعين من الليل والنهار تحت مسمار الشمس)
أرأيت إلى (استيفاء (الأشكال) في التشبيهات؟ الليل والنهار كالمقص، في تفصيل الناس قصاراً وطوالا. . . لا باس! ولكنه تذكر أن للمقص المستعمل (الآن) مسماراً في وسطه فلا بد أذن من (مسمار) في المشبه؛ وهذا المسمار هو الشمس وبذلك يتم (الشكل) بالدقة بين عمل المقص، وعمل الليل والنهار، وبين تركيبه وتركيبهما مع الشمس كذلك!
ولن يخطر على بال الرافعي أن الليل والنهار وتحت الشمس من الظواهر الأزلية العميقة، وأن بناءها هكذا عمل سرمدي دائم من بدء الخليقة إلى نهايتها. أما بناء المقص فهو شكلي ووقتي؛ ليس بلازم أن يكون هكذا أبداً؛ كما أنه ليس بلازم أن يكون (التفصيل) بأداة واحدة هي المقص وهي على هذا الشكل؛ وما بين يوم وليلة تتغير الأدوات والآلات! فما تكون الشمس إذ ذاك؟
لا. لا شيء من ذلك يخطر على الذهن، ما دام الشكل مستوفي بكامل أجزائه وأوضاعه. وتلك هي العناية بتصوير الحقيقة الوقتية العارضة دون التفات إلى الحقيقة الأزلية الدائمة. وهذا ما أشرت إليه في أول المقال!
ويبدو لي أن الرافعي كان شديد الأثر في تلاميذه من ناحية (الأشكال)؛ فما هو ذا الأستاذ سعيد العريان يكتب عنه من كلمته الأخيرة بالرسالة فيقول:
(فكان يرسل عينه وراء كل منظر، ويمد أذنه وراء كل حديث، ويرسل فكره وراء كل حادثة، ويلقي باله إلى كل محاورة)
فهو قد أراد بهذا أن يستوفي جميع أشكال التنبه والاستيعاب دون أن يلاحظ الصدق والواقع وما يمكن تحققه من هذه الأشكال بالنسبة لمن يتحدث عنها. ذلك أن المرحوم مصطفي صادق الرافعي لم يكن (يمد أذنه وراء كل حديث) كما يعرف من يعرفه؛ ولم تكن هذه الحاسة من أدواته في التنبه والتأمل، فكان من (الصدق) ألا تذكر دون أن يضيره هذا أو يعيبه، إذ كان هذا مما لا يعاب. غير أن أحب استيفاء جميع الأشكال والفروض هو الذي يدفع الأستاذ سعيداً إلى هذا التفصيل
وليس ذلك بقليل الدلالة على هذه الظاهرة في مدرسة الرافعي؛ وما قصدت بإثباتها أن ألمز الرجل كما قد يفهم بعض ذوي الطبائع المنحرفة، فأخلاقي - على الأقل - لا تسمح لي باللمز، ولكني أردت إثبات الظاهرة في أحد تلاميذه، بفلته عارضة غير ملتفت إليها، وهي عميقة الدلالة على اتجاه المدرسة كلها
وقد أسلفت أنني تلقيت نبأ (حب الرافعي) بكثير من الدهشة لأن (الحب) يتطلب (قلباً) وهو ما كنت أفتقده فيه.
والآن أقول: إنني بعد أن فحصت عن هذا (القلب) في (رسائل الأحزان) لم أجد له ظلاً؛ ثم وجدت هنالك رجلا لا (يفهم) عن الحب شيئاً، ولا يدرك أثره في النفس حية ولو من باب الدراسة والملاحظة
وإليك البرهان:
ليس أدل على الجهل بطبيعة الحب من تصويره ظلاماً كما مر وهو النور المشرق الذي يفتح النفس والذهن والعين على عوالم لا عداد لها ولها شطآن. فإذا جاز أن نقول من باب الدعابة: أن التشبيه هناك كان أعز من الرافعي من الحب، وإن (الصنعة حكمت) كما يقولون! فكيف نقول في تشبيه الحب بعد ذلك بالموت حين يقول:
(ولكن هناك موتاً لا ينقل من الدنيا إلى الآخرة، بل من نصف الدنيا إلى نصفها الآخر. . . وهو من أسرار الإنسانية عكس ذلك (الموت) لأنه أظهر ما خفي وهو الحب)
فما معنى أن الحب (موت عكس الموت؟) وأنه لا ينقل من الدنيا إلى الآخرة ولكن من نصف الدنيا إلى نصفها الآخر؟ العب بالألفاظ أم (شقلبة) في الأشكال؟ وعلى أية حال فأين الحب في كل صوره وأشكاله، من الموت في كل صوره وأشكاله، حتى يسوغ لإنسان أن
يجد وجهاً للشبهة بين هذا وذاك؟
إن الحب من صميم الحياة بكل ذراته وآثاره؛ ولن يكون موتاً أبداً لا في الخارج ولا في الضمير. وألف سفسطة في التخريج لا تفسر اقتران الحب بالموت في (ذهن) من الأذهان! ويقول:
(وما من أحد في الأرض يستقيم طبعه على الجمع بين هم الحب وهم الحياة، فإن قام بواحد زاغ من الآخر لا يبالي به، إذ هما حقيقتان متدافعتان كتياري الكهرباء، لو أمكن شيء، من المستحيل، لما أمكن أن يطردا في سلك واحد، أطرادهما في السلكين)
هذه قولة الرافعي وهي دليل لا ينقض على أنه لم (يحس) الحب في حياته، ودليل كذلك على أنه لا (يفهم) إحساس الحب في سواه، ولا يحسن تعليل ظواهره وتفسير دوافعه، ككل ذي ذهن مشرق مستقيم
هو يرى أن الذي يحب يستخف بهموم الحياة، حتى يخيل إليه أنه نسيها. فيفهم من ذلك أن هم الحب قد طردهم العيش، لأنهما متناقضان متدافعان. وذلك في (الظاهر) وفي (الشكل) الصحيح ولكن الحقيقة الباطنة أن الحب يضاعف القوى الباطنة ويفسح في الحياة ويعمق جوانبها فتخف تبعا لذلك على النفس هموم الحياة، حتى يخيل لصاحبها ذاته أنه ينساها
فليس عن تضاد بين الهمين ولا تدافع ينشأ هذا الشعور، ولكن عن فسحة في النفس، وقوة في الحس لا تضير ولا تتبرم بهموم الحياة، لأن النفس أصبحت أكبر وأرحب منها فلا تحس بها وكل شيء نسبي بين القوه والمقاومة
وهذا هو التعليل (الإنساني) والتعليل (النفسي) الذي لا يدركه أدباء الذهن الكليل. ومن هذا النحو قوله:
(فأن في كل عاشق معنى مجهولا، لا يحده علم، ولا تصفه معرفة، وهو كالمصباح المنطفئ ينتظر من يضيئه ليضئ، فلا ينقصه إلا من فيه قدحة النور، أو شرارة النار. وفي كل امرأة جميلة واحدة من هذين)
فهكذا يتصور الرافعي أن المحب عند تهيئه للحب، يكون كالمصباح المنطفئ الخامد الهامد، وقدحة النور أو شرارة النار، إنما تأتي له من (الخارج) وليست كامنة في (ضميره). وهذا التصور يتمشى مع خواء الرافعي وسطحيته
أما الحقيقة الروحية التي يفهمها ذوو (النفوس) فهي أن الحب فيض في النفس، وامتلاء في الشعور، يحس معه الإنسان أنه بحاجة إلى صلة إنسان آخر، لكي يفيض على هذا الإنسان من القدر الفائض في نفسه ويعطيه مما يزخر به شعوره؛ فالمصباح حين التهيؤ للحب لا يكون منطفئا خامدا هامدا بل يكون موقدا مشرقا يبحث عمن يفيض عليه من نوره، ويبذل له من إشراقه ووميضه. وحقيقة أن (الجميلة) التي يصادفها إذ ذاك تزيد في إشراقه وتوهجه، ولكن كما يزيد الزيت في لألأة المصباح الموقد، لا كما تصنع الشعلة في المصباح المنطفئ
وهذا هو الحب في الحياة، أما الحب في (الذهن) وحده فقد يكون ذاك!
والرافعي في زحمة الحب، وفي فيضه وأنبساطه، لا ينسى عالم الحقد الضيق، ولا رقعة الغيظ المحدودة، فتلمس في كلماته ونبراته صوت تضريس الأسنان من الحنق، وتنزى الأعضاء من الضغن، وذلك شأن غريب
نعم غريب، فقد كان مفهوما أن يبلغ به الضغن والحقد على العقاد أن يحجم عن شراء (وحي الأربعين) كما حكى تلميذه العريان، ولكن الذي لا يفهم أن تلازمه طبيعة الحقد وهو في معرض الحب والحقد تيبس في الشعور
ومن أراد أن يعرف أهم أسباب الحقد في نظر الرافعي، وأظهر دوافعه، فليعلم أنه فوقان إنسان على إنسان في النتاج الأدبي! ولعل هذا سبب ما بينه وبين العقاد! فهو يقول عن (حبيبته)
(ولو أن الله مكنها من لغة كتابه الكريم، لغص منها في هذا الشرق العربي كل كاتب وكاتبة غصة لا تساغ ولا تتنفس)
أي لو أن هذه المرأة كانت متمكنة من دراسة اللغة العربية لما كان الأثر الذي تخلفه في نفس كل كاتب وكاتبة بلا استثناء إلا الغصة التي لا تساغ ولا تتنفس
هكذا لا تسمح طبيعة الحقد الأصلية أن تتصور أن إجادة الأديب تهيئ له معجبين بأدبه، أحباء إليه، كلا، بل لا بد من الغصة في صدورهم. وأية غصة؟ هي التي لا تساغ ولا تتنفس. . .
وهكذا كان الرافعي مع العقاد! إن فلتات اللسان، تظهر كوامن الإنسان؛ وهذه فلتة كشفت
عن الرافعي في أعماقه، وأرتنا أهم عناصر حقده، ولكنها ليست الوحيدة فأسمعه يقول:
(نصيحتي لكل من أبغض من حب، ألا يحتفل بأن صاحبته (غاظته) وأن يكبر نفسه عن أن يغيظ امرأة. إنه متى أرخى هذين الطرفين سقطت هي بعيداً عن قلبه، فأنها معلقة إلى قلبه في هذين الخيطين من نفسه)
أرأيت!. . . إن الحبيبة بعد انقطاع الحب، لا تتعلق بنفس من كان يحبها إلا بخيطين أثنين: غيظها له، وغيظه لها! ولا شيء وراء ذلك!
أما أن تكون معلقة بالذكريات المختلفة الألوان، وبالساعات والدقائق والثواني التي ضمتهما في عمرهما، وبالآمال المحطمة في قلوبهما، وبالفجيعة الدامية في حبهما، وبالصور المتعاقبة من إقبالهما، وإدبارهما. . . ومن. ومن. مما لا يستطاع حصره بعد أن تهدأ فورة الحب في النفس، ويأخذ المحب في الاستعادة والتذكر والإحصاء والتسجيل - أما كل ذلك فلا وجود له عند الرافعي. وإنما يوجد خيطان اثنان من نسيج واحد، هو نسيج الغيظ والغل والحقد، والتيبس في الشعور!
وبعد فقد طال الحديث، ووراء هذه الأمثلة التي ضربتها، أمثلة أخرى من نوعها، وفي كل صفحة من الكتاب أمثال غيرها فلا داعي للتكرار
على أن هناك حديثاً عن (ذوق الرافعي) في التعبير وذوقه في النقد وموعدي به كلمة أخرى
(حلوان)
سيد قطب
نزاهة النقد
للأستاذ عبد الفتاح غندور
رأينا ما كتبه الأساتذة خصوم الرافعي وأنصاره فسرنا أن نلتمس النقد وساءنا أن نجد ما لا يرضي. وما كان لمثلي أن يلج هذه المعركة ناقداً أو حكماً قبل أن تنتهي لئلا يفوتني شيء من مواقفها فأصدر عن جهل فيما أحكم وأقايس، فأقع في السنة النقاد وأقلامهم، ويالها من ورطة حامية الوطيس إذ ذاك. غير أني آثرت الإقدام إذ وجدتني مضطراً - بعد تفكير - لتقديم رأي قبل أن تنتهي هذه المعركة، ويلوح لي أنها لا تنتهي، لعلي أصل إلى بعض ما يمكن أن يصل إليه حكم عدل وناقد بريء. فأقول:
قبل كل شيء يجب أن نعرف أن كل إنسان يستطيع أن يسيء وليس كل إنسان يستطيع أن يحسن وإذن فلا يصح أن يعتبر السوء يوماً ما أداة لمفخرة أو تكأة لمكرمة، لأن الناس كلهم فيه سواء ولأنه سوء أيضاً؛ وعلينا أن نتوسع في معنى السوء - كما نتوسع في معنى الحسن - ولندرك جميع شظاياه التي تفتك وتؤذي. وإذا توسع الأديب في ذلك أدرك الخطر وتسنى له أن يطير - كما يطير في كل مجال - إلى خيالاته العذبة ليفصل على جسم هذه الحقيقة ثوباً يليق، حتى إذا ما رأى حقيقة ماثلة بثوبها الخيالي الفخم أعطي كل شيء حقه ثم أهتدي إلى أن هذا الضرب من المعاملة الخشنة لا يجدي ولا يفحم، بل يؤذي ويؤلم، ولا سيما إذا كان مصدره الأدب والأدباء والنقد والنقاد
عاش الرافعي ليكتب أدبه ثم يموت؛ وقد أراد الله للرافعي أن يكون في هذه الدنيا عجباً، وشاء أن يجعل أدبه نسخة عجيبة لم ينسج على منوالها قلم لتكون مشكلة من المشاكل التي يختلف عليها الناس فيذهبون في تأويلها مذاهب شتى وللناس مذاهب فيما يعشقون
أما الرجل فقد مات، وأما أدبه فموجود، وأما آراء الناس فيه فكثير؛ ويعجبني التقدير للجهد والاحترام للأدب والإنصاف في النقد والحسن في الخلق. وإذا تم للرأي في هذا القانون والكامل أصدر عن روية ونقد في نزاهة وسبر غور الموضوع كالطبيب الماهر الذي كيف يحتال للجراحة وتفاصيلها ليصح المريض على يديه لا ليموت. وبعد ما مات الرافعي جعلت أرقب أقوال الناس، أرهفت أذاني وأيقظت نفسي؛ وكان أن كتب الزيات وغيره مقالاتهم في هذا الشأن فجثمت لقرأتها والتأمل فيها فأجتمع لي بعض الرأي وأعقب ذلك
فترة طويلة كان العريان فيها يكتب تاريخ الرافعي، على أنني كنت أرقب حلول مفتتح هذا العام لأقرأ مقالات الأدباء بمناسبة مرور عام على وفاته، فظفرت في الرسالة بمقالة عنوانها (بين الرافعي والعقاد) للأستاذ سيد قطب فالتهمتها التهاماً؛ ثم عدت مرة أخرى أروي تأملاتي فيها فلذ لي من الأستاذ أدبه وذكاؤه وصراحة ضميره، وتمنيت أن لو ضم إلي ذلك حسن المواجهة ولين المجابهة تجاه أخيه الأديب الذي هو شريكه في الشعور والفكرة والقلم. وأخذت أفكر في حسن هذه المواجهة وكيف يجب أن تكون؛ وقلت ما كان ضره لو قال قولاً أرق وأحسن وأدعى لحرية النزاهة: يا ليته ويا ليته. . . وأستميح الأستاذ أني كنت أخذت عليه ما كتب كما أخذت على الأستاذ محمود محمد شاكر ما أملاه في الرد أيضاً، ولكنه معذور بعض العذر لأن الجروح قصاص. ولو كتب الأستاذ شاكر رداً جميلاً أرق مما كتب فهل كان الأستاذ قطب يستمر ويزداد في غلوائه يا ترى؟ ولا أدري هل يحجني الأستاذ شاكر بأن الأستاذ قطب قد شن الغارة دفعة وغلا ثم غلا وتحدى أصدقاء الرافعي فكان لزاماً أن تحفظ كرامة الرجال وكرامة الشعور فرددنا عليه بما يلائم المقام؟
وهنا يجدر بي أن أذكر ما كان وقر في نفسي اتجاه أستاذي الكبير (الزيات) حفظه الله عند ما كتب الأستاذ قطب حديثه هذا. . . ليغفر لي سوء ظني على رغم أن لي مندوحة عن هذا الغفران بالتوبة المستورة، ولكن الأديب يلذ له إظهار ما يخفيه الناس. قلت في نفسي كان يحسن بأستاذنا أن يعتذر من نشر مقال الأستاذ قطب أو يكتب له كلمة على الأقل في هذا المعنى ويبين له فيها وجه الأحجية وحسن الاختيار في العدول عن هذه الخطة لا حباً للرافعي، ولا بغضاً للأستاذ قطب، بل تحرياً للأولى واحتياطاً لما سينجم عن ذلك كله. ولما صدر العدد 253 والعدد 254 وقرأت مقالي الأستاذ الزيات عن الرافعي أخذتني - والله - هزة الطرب ونشوة الأدب لما فيهما من الصفاء النقدي النزيه الذي لا تشوبه ثورة ولا تخالطه كدرة، حتى لكأن هذين المقالين صورة روحية للرافعي لو صبتا في قالب الحياة لكانتا هما الرافعي نفسه. ولا تؤاخذني يا صاحب الرسالة فيما رميتك من سوء الظن. وما كنت أدري أن سماءك الصافية ستغدق وابلا من الخير والجمال والحياة تعلمنا فيه - معاشر المتأدبين - كيف نرتع في رياض الأدب الجميل الذي لا تصلح له إلا ملائكة السماء أو
ملائكة الأرض ليكون مثلا أعلى للناس دائما
ماذا يضيرني إذا قلت للمخطئ إنك مخطئ بدلا من أن أقول له إنك غبي. . . بليد. . . لا، بل يجب عليّ - وأنا أديب - أن أحتال في إفهام المخطئ خطأه من غير أن أصارحه به ما دام هناك شعور رقيق وإحساس مرهف. وما دمنا نحمل بين جوانحنا الإنسانية المتأدبة التي تحتم علينا الإحسان والرفق والمودة فلن نجد إلى غيرها سبيلاً
أرأيت ما الذي أثار الرافعي والعقاد تلك الثورة المشهورة؟ أليس رضاء النفس والشهوة والكبرياء بما حصل، أليست تلك زلة الإنسانية التي أبتلى الله بها البشر؟
آه! ما أحوجنا إلى أدب صاحب الرسالة عسى أن نلتقي جميعاً ذلك اللقاء المحبب ونضم تلك الأجنحة بعضها إلى البعض لتطير في آفاق الجمال واللذة والنور وندخل في عالمنا الحافل المليء بأعاجيب السحر وأناشيد الخلود، ذلك خير مستقر وأحسن موئلا
وأخيراً أرجو الأستاذ قطب أن يحسن بي الظن ما استطاع وألا يظن أني قصدته وحده فيما كتبته. إن ذلك عام ما خصصت به أحداً، وإنما كان الأستاذ قطب السبب في ذلك ليس غير، فله شكري وأخوتي ومحبتي هو وإخوانه الأدباء
(دمشق)
عبد الفتاح غندورة
ليلى المريضة في العراق
للدكتور زكي مبارك
- 19 -
طال انتظاري ولم ترجع ظمياء
وانقضى مساء وصباح، ومساء وصباح، ولم ترجع ظمياء
ومضت ثواني ودقائق وساعات وأيام وليال ولم ترجع ظمياء
وتقلبت دجلة من حال إلى أحوال ولم ترجع ظمياء
وطافت بالأشجار والأزهار والرياحين أطياف البؤس والنعيم ولم ترجع ظمياء
وطوفت بجميع المعاني، وتذوقت صنوف اللواعج، وتشوفت إلى جميع المطالع، ولم ترجع ظمياء
وتلقيت مئات الرسائل فلم تكن من بينها رسالة عطف أو اعتذار من ليلى أو ظمياء
أيكون هذا آخر العهد بليلى وظمياء؟
إني إذاً لمن الهالكين. كتب الله لوطني وأهلي جميل العزاء!
ولكن ما السبب في هذه القطيعة الباغية، وما أذكر أني أسأت أو جنيت؟
أيكون السبب تلك الكلمة الفكاهية التي داعبت بها ليلى بعد رجوعي من البصرة؟
ربما كان ذلك، فالمزاح كان ولا يزال من أشنع البليات، وما استطاع إنسان أن يجرح قلبي إلا عن طريق المزاح. والأحباب ينسون واجب الأدب فيتطاول بعضهم على البعض باسم المزاح؛ وذنبي في هذه القضية غير مغفور، لأني انقطعت لدراسة الفلسفة عدداً من السنين، وكان الظن أن أفهم أن المزاح على لطفه لا يخلو من اشواك، وقلب ليلى رقيق تؤذيه خطرات النسيم، فكيف لا يؤذيه المزاح؟
لو رجعت إلى ليلى لأحسنت الاستغفار من ذنبي، ولكن متى أرجع؟
لقد داعبتني ليلى ألف مرة فتقبلت دعاباتها بأحسن القبول، وكنت لجهلي أحسب أن ليلى سيرحب قلبها بمثل ما رحب به قلبي
فكيف أخلفت ظنوني يا منية النفس ويا روح الفؤاد؟
ما هذا؟ أنا داعبت ليلى قبل ذلك فلم تغضب، فكيف تكون الدعابة الأخيرة بداية البؤس
ونهاية النعيم؟
إن من واجبي نحو هواي أن أدرس هذه القضية حق الدرس
وقد بدأت أفهم أن كلام الجرائد والمجلات أفسد ما بيني وبين ليلى كل الإفساد فقد مضت الشهور الطوال والجرائد تهتف باسمي في الصباح والمساء وظن الأدباء العراقيون أن الفرصة سنحت لتصفية ما بيني وبينهم من حساب، وكنت أقرأ ما أقرأ وأنا أبتسم. كنت أقول: هذه يقظة أدبية واجتماعية أردّ بها ديوني إلى العراق. كنت أقول: هذه أقلام صدئت وقد حان لها حين الصقال، فليكن أدبي هو ذلك الصقال
كنت أقول وأقول، ولكن التفكير في جوهره غير سليم
ما الذي كان يمنع من دفع مفتريات بعض الجرائد والمجلات؟
ما الذي كان يمنع؟ كنت مشغولاً بواجبات ثقال تكاد تقصم ظهري. ولكن هل تفهم ليلى أني مشغول وأن لي منهجاً يفرض ألا أخرج من بغداد إلا وفي حقائبي خمسة مجلدات؟
ينبغي أن أعترف بأن مركزي بين الأطباء لم يتزعزع بسبب الأدب وحده، وإن كانت حرفة الأدب قادرة على زعزعة العروش، وإنما وقعت النكبة وتقوضت عيادتي بشارع المدابغ وعيادتي بشارع فؤاد لعدم اكتراثي بما يكتب في الجرائد، وعدم اهتمامي بما يتقول الناس
وأصل البلية أني كنت أحسن الظن بعقول بني آدم - وهذا أعظم خطأ ارتكبته في حياتي - فقد كنت أظن أن الناس يميزون بين الحق والباطل فيما يقرءون؛ وكنت أتوهم أن أكاذيب المفترين لا تضرني، فكنت أقرأ ما يكتب عني بلا اكتراث، وأقول: هذه مفتريات ليس لها أساس، وما قام على غير أساس فمصيره التهدم والزوال
وظل الحال على ذلك بعض سنين وأنا أصم أذني عن الأقاويل والأراجيف إلى أن دخل عيادتي مساء يوم مريض له شأن في المجتمع، ويكفي أنه أستاذ في أحد المعاهد العالية، فلما فحصته وشخصت له المرض اطمأن واستراح، فدعوته لتناول فنجان قهوة بالمكتبة فتفضل بالقبول، وفي الناس أن يتفضلون بالقبول وأنت المتفضل عليهم بالمعروف
وفي أثناء الحديث فهمت أن زوجته عليلة وأنه كان يود أن أمضي لعيادتها لولا خوفه من كلام الناس. وبعد مراجعتها فهمت أن مركزه العلمي ولم يعصمه من تصديق كل ما يكتب
في الجرائد فعرفت بعد فوات الوقت أن الاعتماد على عقول بني آدم ضرب من الخيال
إن من الجريمة أن نسكت عما يكتب عنا في أمة لا تنقد ما تقرأ، ولا تمحص ما تسمع. ومن الجريمة أن نسعى إلى الشهرة فإن الشهرة أصل كل بلاء والرجل المشهور يصدق الناس فيه كل بهتان، ولا سيما في الأمم التي تضعف فيهات الثقة بالأخلاق، ومصر التي نحبها راضين أو كارهين مبتلاة بهذه البلية، فأهلها لا يصدقون أن العبقريين والنوابغ أصحاب أخلاق، وما أزعم أني نابغ أو عبقري حتى أصبح أهلا لتلك الظنون، ولكني بالحق أو بالباطل صرت من أشهر الرجال وللشهرة عقابيل
كنت أستطيع مع كثرة الشواغل أن أدفع مفتريات بعض الجرائد والمجلات، ولكن صرفني عن ذلك إيماني بأن ليلى صديقة غالية، وأنها خليقة بالا تفتح أذنيها لما يصوبه الحاقدين ومن دسائس وأضاليل. ثم كتب الله أن أتلقى عن ليلى درساً لم أظفر بمثله وقد قضيت عشرين عاماً في الحياة الجامعية وتلقيت عن ليلى درساً عظيما جداً، وأنا أقدمه إلى قراء هذه المذكرات بالمجان وإن كنت دفعت ثمنها من دمعي ومن دمي، أنا العاشق الذي يعاني ظلام الحب وظلام الليل
استمع هذا الدرس يا قارئ هذه المذكرات استمع فما أرجو منك جزاء ولا شكوراً وإن كنت أتشهى أن تسكب على قبري دمعة يوم أموت؛ وسأموت، فلكل أجل كتاب
تعلمت عن ليلى أن الصديق في حاجة إلى حراسة، وأستطيع أن أقول أن حراسة الغنم أسهل من حراسة الأصدقاء، ولا يغفل عن حراسة صديقه إلا غافل أو جهول، وقد خلق الله لكل صديق أذنين طويلتين، وهاتان الأذنان لهما سمع دقيق، والصديق يحسبك من بعض ما يملك، فهو يسمع فيك كل قيل، كما يسمع في داره أوهام المهندسين، وكما يجتلب لأملاكه صغار المساحين، وهو يفرح لما يساق إليك من زور وبهتان، لأنه من بني آدم، وابن آدم حيوان ضعيف لم يعش بفضل القوة كما عاشت الأسود، ولم يعش بفضل الجمال كما عاشت الغزلان، وإنما عاش هذا الحيوان الضعيف بفضل المكر والدهاء
استمع هذا الدرس يا قارئ هذه المذكرات من الفيلسوف المودع، فما في دنياكم ما يشوقني يا بني آدم حتى أستطيب فيها العيش
استمع يا غافل يا جهول
ليس في أصدقائك ما يسره أن تكون أعظم منه علماً أو جاهاً ليس فيهم والله ما يسره أن يكون إخلاصك في هواه أعظم وأروع
فالصديق - وا أسفاه - يتشهى أن يثبت لديه أنه أعظم منك في كل شيء ليتصدق عليك بالعطف والحنان
الصديق يرضيه أن يقول (أعطيت) ويؤذيه أن يقول (أخذت)
والأصدقاء يملكون في إيذائك ما لا يملك الأعداء
العدو متهم - بفتح الهاء - وتجريحه إياك يتلقاه الناس ساخرين.
أما الصديق فمؤتمن - بفتح الميم - وتجريحه إياك يتلقاه الناس بالقبول
وللأصدقاء أساليب في تجريح من يصادقون، ويا ويل من ابتلته المقادير بلئام الأصدقاء! يترفق الصديق فيقول: أنتم تعلمون أني شديد العطف على فلان لما بيننا من متين الصلات، وهو والله رجل مفضال لولا كيت وكيت!
ويتلطف الصديق فيقول: لا تثوروا على فلان فهو عبقري وللعبقريين بدوات!
وتزداد البلية بالأصدقاء حين تصبح ولك نصيب من المجد. فالصداقة توهمهم فكرة المساواة في الحظوظ والدرجات، فإن تقدمت وتخلفوا لم يكن لهم معنى ذلك عندهم أنك أخذت ما تستحق، وإنما كان معناه أنك خدعت زمانك فانخدع، وأن لك وسائل يعفون عنها لأنهم على تخلفهم شرفاء!
والصديق لا يصدق أنك تصل إلى منازل المجد بالجهاد وسهر الليل وإقذاء العينين تحت ضوء المصباح، وإنما يتخيل أنك اغتصبت المجد بالتهويل والتضليل، ولا يرى لك رأياً طريفاً أو فكرة عبقرية إلا حدثته النفس بأن يغض منها بالتصغير والتزييف.
وأخطر أعدائنا هم الأصدقاء الأعزاء الذين جاريناهم في ميادين المجد. فهؤلاء لا يتصورون أبداً أن ميادين الجهاد فيها سابق ومتخلف. ولعلهم كانوا يظنون أن من حقهم علينا أن نتخلف ليتقدموا. ولو أننا فعلنا طائعين لما ظفرنا منهم بكلمة تفصح عن حفظ الجميل، ويكون فيها معنى العزاء، وإنما نلقى منهم الصلف والاستطالة والكبرياء والعدوان
والأصدقاء يصنعون بمصايرنا ما تصنع جراثيم المرض المدفون، فهم يقتلوننا عن طريق الاغتيال وما نجد في إدانتهم شاهداً واحداً حتى نقدمهم إلى ساحة الجزاء
وفي الدنيا السخيفة تقاليد تحمي الصديق المخادع من انتصاف الصديق الصدوق. والتفكير في محاسبة الصديق هو في ذاته بلية، لأنه يفتح الباب لأهل اللغو والفضول، ويعرضك لمآثم الشبهات ومنكرات الأراجيف
والعدو اللئيم هو في الأصل صديق حميم. . . ولكن كيف؟ كان صديقاً يجب أن تكون في خدمته كيف شاء، وحين يشاء؛ فلما التويت عليه بفضل ما لك من وجود خاص تنكّر وتغير ومضى يضع في طريقك الأشواك بلا رحمة ولا إشفاق
الصديق الحق هو الذي يعتقد أنك أفضل منه وإن كان في الواقع أفضل منك
هذا هو الصديق. ولكن أين من يعرف هذا المعنى النبيل؟
أين الصديق الذي يعرف قيمة التضحية بأهواء النفس؟
أين الصديق الذي لا يريد أن يتخذ من شهرتك لوحة إعلانات؟
أين الصديق الذي يفهم أن من حقك أن تناضل لتسود؟
أين الصديق الذي يدرك أن المودة كالصلاة يفسدها الرياء؟
أين الصديق الذي يرى عيوبه ويعمى عن عيوبك؟
بل أين الصديق الذي لا تخاف أن يتزيد عليك؟
وا أسفاه لقد انقضت أحلامي وأوهامي. كنت أرى الجمال في وجوه الناس، فأصبحت لا أراهم إلا وأنا متفزع متخوف كالذي يمس الحية في غسق الليل. كنت كالطفل يأنس بجميع الوجوه، ويتسمع لجميع الأصوات، ويتشوف إلى كل ما في الوجود، ثم أمسيت وأشهى مناي ألا يطرق بابي طارق، وأن لا تقع عيني على مخلوق
كذلك ابتدأت وكذلك انتهيت، وعند الله والحب جزائي
آه، ثم آه!!
ما هذه الخطوط التي أسود بها وجه القرطاس؟
هذه الخطوط هي نصيبي من حب ليلى ومن عبث ظمياء
وتلك نهاية من يحسب أن نهار الحب لا يعقبه ليل
تلك نهاية العاشق الغافل الذي قضى الأعوام الطوال في عبادة الجمال
ولكن ما هذا اللؤم الذي ينحدر إليه قلمي؟
أمن أجل أيام في معاناة الصدود أكفر بالصداقة وبالحب؟
أحبك يا ليلى، احبك يا ليلاي
أحبك يا مسكينة لأني من المساكين
أحبك يا شقية لأني من الأشقياء
أحبك يا ليلى وسأنحت لك صنما من ضلوعي
أحبك يا ليلى وسأنزف دمي قطرة قطرة ثم أتخذ من حديده خاتماً أقدمه إليك يوم يحين الفراق، وما أصعب الفراق!
أحبك يا ليلى وسأرقم أسمك الجميل على خد القمر وجبين الشمس
أحبك يا ليلى وسأترحم عليك في صلواتي كما أترحم على أبي وأمي
أحبك يا ليلى وسأتعذب في سبيلك محنتي وعذابي
أحبك يا لئيمة يا غادرة يا ظلوم، وأصفح من أجلك عن أهل اللؤم والغدر والظلم والجحود
أحبك يا ليلى، أحبك، وما أتصدق عليك بالحب، فأنا أهفو إليك بلا وعي ولا إحساس. وقد حاولت مليون مرة أن أتوب من هواك فما صحت لي توبة، ولا نفعتني عظة، ولا عصمني عقل،
ولا هداني وجدان
أحبك يا روحي ويا ضناي. أحبك أصدق الحب، وأبغضك أعنف البغض، ولو رأيتك في هذه اللحظة لرويت روحي بدمك الغالي، ولكن متى أراك؟ تلك أوهام وأضاليل!
لقد نجوت من يدي يا شقية، فعليك غضبة الله ولعنة الحب!
أتريد ليلى أن أنتحر؟
هيهات ثم هيهات! فأنا طبيب ومن الحمق أن أداوي الناس وأنسى نفسي
قرأت (شريعة الحب) فقرة فقرة، وهي مسطورة على قبر الحلاج، وقد فهمت من أسرار الحروف أن الحب له دواء. ودواء الحب أن تخلق لنفسك شواغل جديدة تصرف قلبك في إطالة
التفكير فيمن تحب
وكذلك فعلت فأقبلت على شهود موسم الحفلات في بغداد وهو موسم لا يعرف قيمته إلا من
يراه شهدت بعض الحفلات التمثيلية التي أقيمت في المدارس الثانوية، فعرفت أن التمثيل سيكون له مستقبل في بغداد. ورأيت أهل العراق يخشون ما يخشاه أهل مصر من اختلاط الجنسين، ولكن أهل مصر احترسوا بعض الاحتراس، فهم يؤلفون للمدارس روايات تمثلية تخلو من المرأة؛ وليت أهل العراق يصنعون مثل هذا الصنيع إلى أن يفصل الزمن في قضية اختلاط الجنسين، فقد رأيتهم يمثلون في المدارس روايات فيها المرأة، والمرأة في هذه الحال شاب يلبس ملابس النساء. وأنا أرجو زملائي من نظار المدارس في العراق أن يفكروا في هذه القضية، فظهور الشبان في ملابس النساء لا يقل قبحاً عن ظهور النساء في ملابس الرجال. وما أقول إن الرجل أشرف من المرأة من حيث الجنس فلكل جنس خصائص، وإنما أريد أن أقرر أن شرف الرجل في الرجولة وشرف المرأة في الأنوثة، فالمرأة تجرم حين تلبس ثوب رجل، والرجل يجرم حين يلبس ثوب المرأة. والإشارة في هذا الموضوع الدقيق تكفي للبيان
وشهدت حفلة توزيع الجوائز بكلية الحقوق. وكانت حفلة رائعة خطب فيها الدكتور محمود عزمي خطبة جيدة، ولكنه لم يراع براعة المقطع، فقد ختم الخطبة بإعلان الوفاة، وفاة أحد المتخرجين. وصح للأستاذ محمود درويش أن يقول (ما هو خوش مقطع هذا) وعند تلاوة القسم أقسم المتخرجون دفعة واحدة بلا خشوع، وكان الرأي أن يقسموا واحداً واحداً. وقد تذكرت القسم الذي أقسمته على يد الأستاذ الدكتور طه حسين يوم ظفرت بالدكتوراة الأخيرة في كلية الآداب، فقد ترددت وتهيبت، لأني كنت أخشى أن يربطني القسم وحدي، فلتذكر ذلك أحجار كلية الآداب بالجامعة المصرية، إن كان للأحجار وجدان وألقى الطالب حازم المفتي خطبة فصيحة نوه فيها بالأواصر العلمية بين مصر والعراق. وهنا أذكر أن العراق شرف مصر حين ائتمنها على كلية الحقوق، وهو شرف عظيم جداً، ومن واجب الأساتذة المصريين أن يتذكروا في كل لحظة قيمة هذه الثقة الغالية، من واجبهم أن يفهموا أن من الشرف أن يموتوا في سبيل تلاميذهم في العراق ومن حسن الحظ أن ذلك الطالب نص على أن مصر تفقهت على يد الشافعي وقد رحل إليها بعد أن تفقه بالعراق
ولو كان لي مجال بين الخطباء في ذلك اليوم لأضفت إلى هذا أن علماء مصر ظلوا مئات السنين وهم يهتفون (قال البصريون وقال الكوفيون) وحصير الأزهر يشهد، وهو في هذا
الباب من أصدق الشاهدين
أعتقد أن العراق أدى حق الأخوة حين وثق بمصر، ولم يبق إلا أن يؤدي المصريون واجبهم في حمل الأمانة وحفظ العهد
وخطب معالي وزير المعارف خطبة وجيزة جداً أعلن فيها ارتياحه إلى تبادل العطف بين الأساتذة والطلاب، وهو معنى شريف
وبعد توزيع الجوائز وتناول الشاي غنى الأستاذ محمود توفيق مع فرقة الإذاعة أغنية طريفة. ثم غنت المطربة زكية جورج أغنية فيها أسم (ليلى) فاشرأبت أعناق الحاضرين للبحث عن مكاني، وصاح سعادة الأستاذ تحسين إبراهيم: أين الدكتور زكي مبارك؟ فتقدمت على استحياء والدمع في عيني، وشكرت المطربة، ورجوتها أن تغني:(على بلد المحبوب وديني)
فلما وصلت إلى عبارة (وعيني تبقى في عينيك) نظرت إلي وحدقت بعطف وحنان، وفهم الحاضرون الإشارة فضجت أكفهم بالتصفيق، ورأيت موقفي صار في غاية من الحرج فأنسحبت وحرمت نفسي بقية الأطايب التي وعد بها منهج الاحتفال
وبعد أسبوع حضرت حفلة توزيع الجوائز بكلية الطب فرأيت الطلاب في صف والطالبات في صف، وراعني أن يكون الطالبات جميعاً من البيض، فيا رباه كيف جعلت ليلاي بالعراق سمراء!. . . أحبك يا ليلى وأحب شعاع السمرة وهو يتموج في سرائر وجهك الجميل!
وأقسم المتخرجون اليمين واحداً واحداً. وليتهم أقسموا دفعة واحدة، كالذي وقع في كلية الحقوق، فقد قضيت نحو ألفي ثانية وأنا أسمع (وأقسم أن لا أفشي سراً لمريض) وأدرك الأستاذ مهدي كبة حيرتي وذهولي فقال: تلك عاقبة من يفشي أسرار مرضاه من الملاح
فضحتني يا ليلى، شفاك الله وعفا عني!
ولما خرجت من الحفلة مضيت إلى محطة الإذاعة، مضيت أستجدي القول المأثور:
يقولون ليلى في العراق مريضة
…
فيا ليتني كنت الطبيب المداويا
ولكن سكرتير الإذاعة في هذه المرة رجل له وجه الجاحظ ولو شئت لقلت إنه الصفواني. وقد اعتذر عن إذاعة ذلك الصوت لأنه لا يريد أن يحول أهل العراق كلهم إلى مجانين.
كأنه يعقل!
وخرجت مع الأستاذ إبراهيم حلمي راجياً أن يكون في سمره الطريف ما يخفف حزني، فما خف حزني ولا تزحزح، ورجعت إلى البيت وأنا مكروب
وقمت قبيل الفجر مرتاعاً لطرق الباب، فتدثرت وخرجت فإذا الجار العزيز يسأل عن حالي وفي ذراعه زوجته المصرية النبيلة التي رعت غربتي أكرم رعاية. فقلت: خير! ما عندك يا سيد داود؟ فأجاب: لقد استيقظت السيدة وهي مرعوبة، لأنها سمعتك تصرخ آه! آه! يا ليل! يا ليل! وقد حسبناك مريضاً فحضرنا للاطمئنان عليك
فقلت: أنا بخير كما ترون وصوبت بصري إلى الزوج وقلت: الرفق لا يستغرب من عراقي مثلك. ونظرت إلى الزوجة وقلت: الأزهار المصرية رقيقة الأوراق
أنا كنت أقول: آه آه؟ هذا صحيح، ولكني ما كنت أقول:(يا ليل يا ليل)؛ وإنما كنت أقول (يا ليلى يا ليلى)
فضحتني يا ليلى عند جيراني وقد شفاك الله فمتى يمن عليّ بالشفاء؟
وفي ظهر ذلك اليوم العنيف مضيت لشهود حفلة الطيران، وهي حفلة سنوية يستبق إليها أهل بغداد من رجال ونساء، أقيمت الحفلة في المطار المدني ودامت ثلاث ساعات شهدت فيها الأعاجيب وعرفت أن فتيان العراق يعرفون معنى السيطرة على الهواء، وكان في المنهج صورة طريفة من التقاط الرسائل فألقيت بنفسي في ساحة المطار وقدمت رسالة إلى الله عز شأنه أدعوه أن يزيح الكرب عن أهل فلسطين، فإن شكاياتهم من الظلم كدرت جميع الناس، وآذت المنصفين من أحرار اليهود. وأشهد صادقاً أني رأيت ناساً من بني إسرائيل يتوجعون لمصير العرب في فلسطين، وفلسطين الشهيدة لا تدافع اليهود من العرب، وإنما تدافع اليهود من الأجانب الذين يدخلون عليها بلا تسليم ولا استئذان فيغرسون الحقد على سائر اليهود في الأقطار العربية. وشهدت الطيران القاصف، طيران الهجوم، فتمنيت لو ساد السلام وتحول الطيران في جميع بقاع الأرض إلى وسائل اقتصادية
وشهدت تشكيلات الأسراب فرأيت كيف تقام الخطوط الهندسية في أجواز الفضاء وفي الناس من يعجز عن إقامة الحدود الهندسية فوق القرطاس!
ورأيت الطيران الأهوج فتمنيت لو سموه طيران القلوب. فليس لأحوال القلوب ميزان!
كانت حفلة الطيران ممتعة من كل جانب وقد خبلت عقلي فلم أتنبه إلى أن مكاني كان قريباً جداً من مكان جلالة الملك. ولو كنت تنبهت لتشرفت بمصافحته وهنأته بما وصلت إليه القوة الجوية في العراق
وبعد أيام شهدت حفلة الكشافة وهي تجل عن الوصف، وهي الشاهد على أن شبان العراق نقلوا إلى بلادهم أقوى مظاهر التمدن الحديث
وبفضل هذه الحفلة عرفت كيف أنشئ في دار المعلمين العالية فرعاً للألعاب الرياضية
كان في الحفلة كشافون وكشافات وكان من تقاليد الكشافين أن يحيوا المقصورة الملكية فيرد عليهم جلالة الملك بتحية أرق وألطف، أما الكشافات فكن يمررن على المقصورة الملكية بلا تسليم
آه ثم آه من دلال الملاح!
داويت قلبي بهذه الشواغل التي أتاحها موسم الحفلات في بغداد وحسبت أني نجوت من عقابيل الصبابة الباغية
ولكن هيهات
ثم لطف الله فحضرت ظمياء.
- إيش لونك يا دكتور؟
- بخير وعافية يا ظمياء، لولا الذي تعلمين، وإيش لون ليلى؟
- في عافية الفرس الجموح
- ومتى أراها يا ظمياء؟
- لن تراها إلا إذا استغفرت من ذنوبك؟
- وهل للأطفال ذنوب يا ظمياء؟
- إسمع يا دكتور، إن الدسائس حولك كثيرة جداً، وليلى توجه إليك تهمات تهد الجبال
- أنا متهم يا ظمياء؟ متهم في بغداد؟ وعند ليلاي؟ آمنت بالله، وكفرت بالحب!
- تشجع واحتمل الصدمات، فقد عشت دهرك من الشجعان ومن الصابرين.
- وكيف تتهمني ليلى يا ظمياء؟
- هي تتهمك، ولك أن تدافع عن نفسك إن استطعت!
- أفصحي يا ظمياء، فقد طار صوابي
- اسمع يا دكتور، إن ليلى توجه إليك التهم الآتية، وكلها مزعج مخيف
أما التهمة الأولى فهي:
(للحديث شجون)
زكي مبارك
التاريخ في سير أبطاله
إبراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .
- 12 -
وحدث أن كان مولد الحزب الجديد في نفس العام الذي كانت تختار البلاد فيه رئيسا جديداً للولايات، فكان النشاط السياسي بذلك مضاعفاً؛ وأحس الناس جميعاً أن مسألة العبيد قد أصبحت القطب الذي يدور عليه هذا النشاط السياسي فألقوا بالهم إليها على نحو لم تسلف بمثله فترة في تاريخ البلاد
وعرف الحزب الجديد كما أسلفنا باسم الحزب الجمهوري؛ ولقد أخذ الداعون إلى إنشائه ينشرون الدعوة له في كل ولاية؛ وكان أول اجتماع أهلي لهذا الحزب عام 1856 في مدينة فيلادليفيا؛ أما عن مذهب الحزب فقد أجتمع أيضاً مرة أول الأمر على فكرة نجملها في العمل على مقاومة انتشار العبيد كما جاء في اتفاقية مسوري؛ وكان هؤلاء الأنصار في الولايات أخلاطاً من الأحزاب الأخرى تراهم وإن اتفقوا على المذهب أو كادوا، لا يزالون مختلفين في الوسيلة.
ولم تك الينوس تلك الولاية التي ينتمي لنكولن إليها بدعاً من الولايات. ولقد دعا أنصار الحزب الجديد فيها إلى اجتماع تمهيدي يتدارسون فيه الأمر ويحددون الغاية ويسددون الوسيلة؛ وأنعقد هذا الاجتماع في مدينة ديكاتور وشهده لنكولن فيمن شهده من رجال السياسة المبرزين؛ وأدلى إليهم بما يرى، وفطن المجتمعون إلى سياسته التي لن يتحول عنها والتي تتلخص في أمرين: مقاومة انتشار العبيد والمحافظة على كيان الاتحاد. . .
ولكن لنكولن لا يزال من الوجهة الرسمية من رجال حزب الهوجز، فهو لم يعلن انفصاله
عنهم بعد؛ فلما كان يومئذ في طواف قضائي وقد دعا أنصار الحزب الجديد في الينوس إلى مؤتمر عام يعقد في مدينة بلومنجتن؛ ووضع صديقه هرندن أسمه في الداعين إلى المؤتمر دون أن يرجع إليه؛ فجاءه البرق بموافقته وبذلك أصبح إبراهام عضواً في الحزب الجديد
واحتشد رجال هذا الحزب في بلومنجتن لينظروا ماذا يرون؛ وتطلعت أنظار المؤتمرين إلى لنكولن وفي روع كل منهم أنه رجل الساعة وأنه إبن بجدتها؛ وبدأ فقال لمن حوله: (دعونا نجعل حجر الزاوية في بناء حزبنا الجديد إعلان الاستقلال) وهو يريد بإعلان الاستقلال ذلك الحادث التاريخي الذي ظهرت به الولايات المتحدة كأمة مستقلة في هذا العالم؛ وكأنه يشير إلى ما يتضمن الاستقلال من معاني الوحدة والإخاء والحرية والمساواة، تلك المبادئ التي جعلها رجال الثورة شعار ثورتهم. . . وأصدر المؤتمرون قرارهم فقالوا:(أجمعنا أمرنا على أننا نعتقد وفق آراء وتجارب جميع رجال السياسة المبرزين من كافة الأحزاب في السنوات الستين الأولى للحكومة، أن المؤتمر في ظل الدستور يملك السلطة التامة ليوقف انتشار العبيد في الولايات؛ وأنه كما سيحرص على كافة الحقوق الدستورية لأهل الجنوب، نعتقد أيضاً أن العدالة والإنسانية ومبادئ الحرية كما نص عليها في إعلان استقلالنا وفي دستورنا القومي وما نتوخاه لحكومتنا من نقاء ودوام؛ كل أولئك يستدعي أن يكون تنفيذ السلطة بحيث يمنع انتشار العبيد في الولايات التي تعد حرة لحد الآن)
وإننا لنرى سياسة لنكولن واضحة تمام الوضوح في هذا القرار الذي أعلنه المؤتمرون؛ وفي ذلك الدليل على أنه كان غداة المؤتمر الرجل الذي ينبض بمبادئه كل قلب ويتحرك باسمه كل لسان! ونحن إذا نظرنا إلى مبادئ الحزب الوليد في جميع الولايات نجدها لا تختلف كثيراً عما جاء في قرار رجال اليونس، وبعبارة أخرى نجدها لا تختلف كثيراً عما يرى لنكولن، وفي ذلك دليل آخر على عبقرية الرجل وعلى أصالته. . .
ونظر إبراهام إلى المؤتمر فإذا رجاله على اتحادهم في الغاية، يختلفون في الوسيلة التي تتحقق لهم بها تلك الغاية وأذاهم باعتبار ما سلف، فئات متباينة آراؤها؛ وإنه ليخشى الخلف في الوسلية إلى ضياع الغاية، بل إلى طمس صُوى الطريق وركوب الظلام وفي ذلك سوء المنقلب؛ وإنه ليتحرق شوقاً أن يرى هؤلاء القوم وقد اجتمعت على الوسيلة كلمتهم كما اجتمعت على الغاية؛ إنهم إذاً لفائزون، وإن لهم بذلك لبأساً يهون كل أمر عسير،
ثم إنهم لخطب فادح لا يطيقه المتمسكون بالعبيد من أهل الجنوب
وكأنما أحس المجتمعون بما أحس، وإلا فماذا دعاهم أن يهتفوا به؟ لقد تجاوبت باسمه جنبات المجتمع، فراح الرجال يتصايحون لنكولن. . . لنكولن. . . نريد أن نسمع لنكولن! وما كان له أن يتخلف وهو الخطيب الذي تهيب به مثل هاتيك المواقف وتواتيه عبقريته كلما أحست نفسه جلال الحادثات! لذلك ما لبث أن وثب من مكانه ووقف فيهم وقفة الخطيب وهو لا يدري ماذا يقول. وسكتت الأصوات بعد جلبة، وأستقر الرجال بعد أن كان بعضهم من فرط السرور والحماسة يموج في بعض. . .
وقف الخطيب أول الأمر صامتاً كأنما أغلقت من دونه مسالك القول؛ والناس ينظرون إلى قوامه السمهري وقد مال برأسه إلى الخلف وبرز بصدره إلى الأمام، والتمعت عيناه وتشكلت أساريره فبدت في مظهر يقصر عن وضعه معنى الجمال. وصفه أحد الحاضرين فقال:(كان في تلك اللحظة أوجه من رأت عيناي أبداً)
وتكلم فإذا المستمعون كأنهم رجل واحد، لا فرق بينه ولا اختلاف، وقد سرت إليهم من الخطيب موجة قوية من السحر! وسرى إليه منهم تيار شديد من الحماسة؛ وهو يرسل فيهم القول يجمع بين العاطفة تهز المشاعر، والحجة تبهر العقول، والأمثلة تبهج النفوس؛ وكانت تشتد العاطفة حيناً فتفيض عيون، ويلتمع الدليل آونة فتصفق الأكف وتنطلق بالهتاف الحناجر، ويروق المثال وتملح النكتة بين هذا وذاك فتجلجل الأفواه بالضحكات. . والخطيب يلعب بالأفئدة ويستهوي المشاعر ويستمر لا يفتر حماسه، ولا يكل منطقه، ولا يضعف صوته، والسامعون مأخوذون عن أنفسهم بما يقول حتى لقد ألقى مندوبو الصحف أقلامهم وأقبلوا بعقولهم وقلوبهم عليه يحرصون ألا تفوتهم كلمة من هذا السحر الحلال. . .
ذلك ابن الغاب قاطع الأخشاب! ذلك هدية الأحراج إلى عالم المدنية؛ كأنما قد هيأته الأقدار لرسالته فبعثته من موطنه قوياً قوة الطبيعة واضحاً كالشمس لا يحجبها غيم، ولكن أودعت في نفسه سراً عميقاً تحس لديه بما تحس به إذا وقفت في مدخل الغابة
أوضح في خطابه سياسته فلم يترك مجالاً للبس أو شك؛ وكان إلى التحذير والإنذار أقرب منه إلى التفاؤل والتمني؛ حذر الناس أن يشتطوا فيؤدي شططهم إلى انسحاب أهل الجنوب من الاتحاد فإنه ليحس في الجو ما يسبق العاصفة، وأنذرهم أن يتهاونوا أو يتخاذلوا فتذهب
ريحهم وتضيع أصواتهم بدداً؛ وهو في كل ما يزجي من القول صريح كأعظم ما تكون الصراحة، واضح كأتم ما يكون الوضوح
تعرض لمسألة كنساس فقال في قوة اليقين وفي جلال الحق؛ ستكون كنساس حرة؛ وأردف فذكر السامعين أن الخروج على اتفاقية مسورى والسماح بانتشار العبيد وراء الحد الفاصل مؤد حتما إلى جعل مسألة العبيد مسألة قومية عامة، ولذلك فإنه للفوز أبداً أو الهزيمة أبداً، فإنه ليشعر بتزايد قوى المتمسكين بمبدأ انتشار العبيد بينما يتراخى الداعون إلى مقاومة تياره. وكان في خطابه يبدو منه ما يبدو من رجل مقبل على موقف حاسم في تاريخ حياته، ففي نبراته رنة الإخلاص، وفي مقاطعه وابتداءاته لهجة اليقين وبينات الحرص الشديد أن يتدبر كلامه المنصتون، وعلى وجهه علامات الاهتمام حيناً وإمارات القلق حيناً ومخايل الحذر والخوف واللهفة أحياناً، وكذلك العظيم إذا تكلم كان كلامه من وجدانه ومن لبه، وكانت حركاته حركات جوانحه وخفقات قلبه
ولقد تنبأ ذلك الرجل العظيم فذكر للناس أن مسألة العبيد سوف لا تحل حتى تنتهي إلى أزمة تجتاز بفضل إرادة الأمة، فإن تلك الإرادة متى أوقظت اجتاحت الصعاب؛ وكأنه كان يرى ما سيحدث عما قريب في صورة حرب أهلية ضروس
وانجلت المعركة الانتخابية عن فوز بيوكانون مرشح الحزب الديمقراطي، ولقد ظهر فيها على منافسيه أحدهما مرشح الحزب الجديد، والآخر مرشح حزب آخر كان يعرف بالمحايد، ويضم عدداً كبيراً من الهوجز، ولكن نجاح الحزب الديمقراطي كان ينطوي على معنى الضعف، فإن ثلث أصواته انضمت إلى الحزب الجديد كما أن هذا الحزب قد نال على حداثته عدداً من الأصوات يلي في مقداره عدد أصوات الحزب الفائز، حتى لقد أعتبر الكثيرون من المفكرين أن الفوز الحقيقي إنما هو للجمهوريين
ولقد أنضم إلى هذا الحزب الوليد كثير من أهل الثقافة وأولي الأبصار، فكان من رجاله في مجلس الشيوخ نفر من الأماثل الذين أشربت قلوبهم حب بلادهم والذين فطرت نفوسهم على العدالة وجبلت على الرحمة والإنسانية، والذين كانوا يمقتون نظام العبيد من أعماق وجدانهم إذ يرونه نظاماً لا يوائم ما ينشدونه لوطنهم من نهوض وقوة. . .
وبدرت يومئذ بوادر الطلعة الكبرى فلقد تلاحقت الأحداث وجرت الشائعات بالسوء
وانبعثت الأحن والحزازات وتنابذ الناس وتباغوا وأصبح بأسهم بينهم شديداً؛ فما هي إلا رجفة ثم ينفجر البركان ويزلزل البيان. . .
وكانت أولى تلك الأحداث ما كان في مجلس الشيوخ فلقد كان في المجلس رجل يدعى سمنر عرف بقوة الجنان وذلاقة اللسان وتوقذ القريحة، وهو ممن يكرهون أشد الكراهية نظام العبيد، حمل في جرأة وقوة على قرار نبرسكا، وأهاب بالناس أن يتمسكوا باتفاق مسوري. ولقد كانت لهجته لاذعة وحجه قاطعة وعباراته مقذعة؛ فلما كان ذات يوم بعدها جالساً إلى مكتبه في المجلس يكتب في سكون هجم عليه عضو من أهل الجنوب فضربه على أم رأسه بعصا غليضة فسقط على الأرض مغشياً عليه، فكانت الضربة في الواقع أولى ضربات الحرب الأهلية، فأهل الجنوب بدل أن يستنكروا هذه الفعلة هللوا لها واعتبروا صاحبها بطلاً جديراً بالتوقير. وقدم له جماعة من الطلبة عصا ذات رأس من الذهب! أما أهل الشمال فلك أن تتصور مقدار ما بلغته النعلة من نفوسهم وما تركته من الغيض في صدورهم فذلك ما لا ينهض لتصويره كلام
وحدث بعد ذلك حادث آخر رج البلاد من أركانها، وذلك أن أحد العبيد، رحل مع سيده إلى ولاية من الولايات الشمالية الغربية، وكانت أسرة ذلك العبد معه، وكان عبداً ذكياً له حظ من التعليم أدرك أنه وراء الحد الفاصل بين ولايات العبيد والولايات الحرة، فرفع أمره إلى القضاء يطلب أن يتمتع هو وأسرته بالحرية ما دامو في ولاية حرة؛ وانتقلت القضية من محكمة إلى محكمة حتى استقرت في المحكمة العليا في وشنجطون؛ وأصدر القاضي الأعلى حكمه، فقضى بأنه ما كان لأي عبد زنجي أن يرفع قضية أمام محكمة من محاكم البلاد كما يفعل الرجل الأبيض، وأنه ليس للمؤتمر ولا لأي مجلس من مجالس الولايات أي سلطة تخوله ان يمنع أي شخص أن يعود بعبيده من الولايات الحرة إلى ولايات العبيد. . .
ولقد هز هذا الحكم البلاد هزاً عنيفاً؛ وأستقبله أهل الجنوب طربين يطفرون من الفرح، أما أهل الشمال فكان في نفوسهم غمة وفي حلوقهم شجى؛ ذلك أنهم رأوه يجعل اتفاق مسوري اتفاقاً غير دستوري، كما رآه يقضي على قرار نبراسكا الذي يجعل لمجلس الولاية الحق في تقرير ما يريده في مسألة العبيد؛ وبه أصبح العبد كقطعة من الأدوات ليس له حتى في نفسه أي حق أو شبه حق وكان خطر هذا الحكم أنه صادر في تلك المسألة التي تشغل
الأذهان من المحكمة العليا للبلاد، وأن صدوره جاء في تلك الآونة التي كان الخلاف فيها على أشده بين الناس؛ وسرعان ما انتشر بين الطبقات صغيرها وكبيرها، وانشغل به الساسة عن كل أمر سواه فلا حديث لهم أينما تلاقوا إلا ما يحمل من المعاني! أدرك الجميع أن قد أزفت الآزفة وأقترب اليوم الذي يحتكم فيه الفريقان إلى السيف؛ وأيقن لنكولن أن الحوادث تؤيد ما ارتأى ولعله كان يحس ما بينه وبين نفسه أن قد اقتربت الساعة التي يتناول فيها معولا لا ليقطع به الأخشاب كما كان يفعل من قبل بل ليهوي به على ذلك النظام البغيض فيضربه الضربة الحاسمة. . .
(يتبع)
الخفيف
-
أسبوع في فلسطين
للأستاذ محمد سعيد العريان
لما بلغتني دعوة مصلحة الإذاعة الفلسطينية بالقدس، لأذيع حديثاً عن المرحوم الرافعي لمناسبة تمام سنة على وفاته. . . تهللت نفسي وسُريَّ عني وقلت: هذا قطر من أقطار العربية لم يزل على وفائه لكاتب العربية والإسلام. . .
ثم عادت إليّ الذكرى، فتغشاني خزي وألم حين ذكرت أن مصر العربية المسلمة لم تستطع - بعد عام - أن تقوم للرافعي ببعض حقه حتى في الدعوة إلى حفلة تأبين تذيع فضله وتذكر به. . . إلا محاولات فاشلة لا تغني ولا تقوم ببعض الوفاء!
وازدحمت في رأسي صور وخواطر، وتتابعت على عيني ذكريات وذكريات، وتدافعت إلى صدري آلام وأشجان؛ وقالت لي نفسي: بعض هذا يا صاحبي؛ وماذا كنت تنتظر أن تصنع مصر للرافعي؛ وإن بينه وبين كل أديب في مصر ثأراً لا يخفف الموت من عنفوانه وشدته!
وكأنما كانت مقالة صديقي الأستاذ سيد قطب في ذلك الوقت لتذكرني بالحقيقة التي يعيش فيها بعض أدبائنا حين يحاولون أن يجعلوا من بعض العدوات الأدبية ثأراً يتوارثه الأبناء عن الآباء، فيجعلون من دروسهم الأدبية إلى تلاميذهم ما كان بينهم وبين الموتى من العداوة والبغضاء!
. . . وهممت أن أعتذر إلى الداعي من حياء وكبرياء، خشية أن يسألني سائل هناك: ماذا فعلت مصر للرافعي ولها كانت حياته وفيها مثواه؟ فتمنعني العزة القومية أن أتهم قومي بالعقوق ونكران الجميل
ولكني جمعت عزيمتي وأقنعت نفسي بأن العلم لا وطن له، وأن البلاد العربية كلها وطن واحد لمن يستشعر في نفسه عزة المسلم ومجد العربي. وأجبت الدعوة. . .
وكنت ثالث ثلاثة من المصريين دعتهم مصلحة الإذاعة بالقدس منذ كانت لإذاعة أحاديث أدبية؛ أما السابقان فهما الدكتور هيكل باشا والأستاذ المازني.
فلسطين هي تلك البلاد المقدسة التي تربطنا بها أواصر وثيقة منذ أقدم عصور التأريخ، من أيام الفراعين، إلى صدر الإسلام، إلى عهد صلاح الدين، إلى تاريخ المماليك، إلى زمن
محمد علي وإبراهيم الفاتح. . . إلى اليوم الذي مزقت فيه الحرب العظمى دول الإسلام، وتوزعتها أطماع السياسة الأوربية!
بيننا وبينها وحدة الدين، وآصرة اللغة، وعاطفة الجوار، وواشجة الدم والنسب من لدن عمرو بن العاص إلى عهد الفاروق. لا يفصلها عن مصر فاصل من جبل أو بحر أو حد مصنوع، إلا أن تكون القناة الملعونة في التاريخ - قناة السويس - التي كان إنشاؤها غنماً للعالم وغرماً على مصر؛ ومنها كان الرمز الأول للقطيعة بين مصر وبلاد الإسلام، حين شاعت على ألسنة المصريين تلك الخدعة المأثورة:(مصر قطعة من أوربا!) فكانت دسيسة سياسية بارعة، فرقت بين الأخوين لأب وأم حيناً من الزمان!
ركبت القطار من محطة القاهرة في منتصف الساعة السادسة من مساء السبت 7 مايو وفي وهمي أنني مسافر إلى بلد بعيد؛ فما أشرق صباح اليوم التالي حتى كنت في مدينة القدس المطهرة عاصمة فلسطين، قبل أن تبلغ الساعة التاسعة. ست عشرة ساعة بين القاهرة والقدس، في قطار يدب على رمال الصحراء دبيب السلحفاة بطيئاً وانياً ويقف في الطريق أكثر من أربع ساعات
إن المسافر من القاهرة إلى بعض الأقاليم الجنوبية من مصر نفسها لا يبلغها في ست عشرة ساعة في القطار السريع؛ وإنك مع ذلك لتسأل نفسك: كم مصريَّا رحل إلى هذه البلاد الشقيقة ليتعرف إلى أهله من أهلها؟ فلا يأتيك الجواب بما يؤكد لك معنى من معاني الإخاء والقربى بين مصر وفلسطين!
لماذا لماذا؟ لأن السياسة التي تسيطر على مصر وفلسطين لا يرضيها أن تكون بين مصر وفلسطين رابطة من الود والإخاء. وقد بلغت هذه السياسة في مصر ما لم تبلغه هناك، فنسي المصريون إخوانهم في فلسطين ولم ينسى الفلسطينيون إخوانهم على ضفاف النيل، وفي كل سنة يفد إلى مصر مئات من شباب فلسطين، وأدباء فلسطين وتجار فلسطين ليمتعوا أنفسهم برؤية إخوانهم وأهليهم في وادي النيل، ثم يعودون إلى بلادهم ينتظرون رد الجميل فلا يجدون الجميل! ست عشرة ساعة، لو أطرد الطريق وقلت محطات الانتظار ما بلغت ثماني ساعات، هي كل ما بين مصر وفلسطين.
ما أقرب وما أبعد!
وصل بي القطار المصري إلى محطة القنطرة على القناة، في منتصف التاسعة مساء؛ وركبت من ثمة قطار فلسطين، فلم يتحرك للسير قبل منتصف الثانية عشرة. ثم مضى بنا بين كثبان الرمل في صحراء سينا إلى غايته. فلم يكن لنا مع الظلام الدامس ووحدة مناظر الصحراء، إلا أن نأوي إلى مضاجعنا - غير الوثيرة - فما استيقظت إلا في الخامسة صباحاً وقد اجتزنا الحدود المصرية ووقف القطار في (غَزَّة) أولى مدائن فلسطين. ونبهتني أصوات الباعة على رصيف المحطة؛ ففتحت النافذة لأستقبل أول شعاعة من أشعة الشمس البازغة من وراء الجبال، تداعب أجفان النائمين خلف نوافذ القطار؛ وهب النسيم ندياً معطراً بأزهار النارنج كأنه يحمل أريجاً من أنفاس أهل الجنة. وسرحت الطرف فيما أمامي؛ فإذا صفحة مشرقة تتحدث عن جمال الطبيعة وقدرة الخلاق، لم يرَ المصريون لها شبيهاً فيما رأوا من جمال الطبيعة المصرية بين الإسكندرية وأسوان.
بيوت مبعثرة على رؤوس التلال وفي سفوح الجبل، وسهول رملية فيحاء قد نبتت فيها شجيرات القمح والشعير، وحدائق خضر ناضرة قد ملأتها أشجار البرتقال والنارنج والمشمش، ونخلة قائمة هنا، وخيمة مضروبة هناك، وكروم زاحفة على الأرض، وأعشاب نامية على الصخر، وأخاديد حددتها الأمطار في خدود الجبال؛ والقطار يسير في طريق ملتوية بين منحنيات الجبال، صاعداً منحدراً، ومشرقا مغرباً؛ كأنما اتخذوا له هذا الطريق ليجلوا على المسافر كل ما يمكن أن تجتليه العين من رواء الطبيعة في فلسطين؛ فما مللت النظر إلى هذه المشاهد الفاتنة واقفا في نافذة القطار ثلاث ساعات، حتى وصلت إلى محطة اللِّدّ في الساعة الثامنة صباحاً؛ ومحطة اللِّدّ هي المحطة المركزية في فلسطين، ومنها تتفرع سكة الحديد فروعها إلى مختلف أنحاء البلاد، أو يستمر القطار سائراً في طريقه إلى دمشق. . .
وانتظرت في محطة اللد زهاء ساعة، قبل أن يتحول بي القطار في طريقه إلى القدس المطهرة؛ وفي الطريق بين اللد والقدس، صحبني شاب من أدباء فلسطين أُنسيتُ اسمه؛ فأخذ معي في حديث طويل عن السياسة وآخر أنباء الثورة ومصير فلسطين؛ وكان يتحدث إلي في حماسة وقوة وانفعال كأنه خطيب على رأس كتيبة يحمسها الجهاد؛ فوالله ما أدري أكانت شدة أسره في الحديث أم روعة المناظر من حولي أحب إلي. . .
واقتربنا من بيت المقدس فسكت محدثي قليلاً ثم سأل: هل لي أن أتشرف بمعرفة سيدي؟ قلت: مصري قال: نعم لقد عرفت ذلك من حديثك، ولكن. . . يخيل إلي أني أعرف أكثر من ذلك عن سيدي. . . ولولا أن الجرائد تقول إن الأستاذ سعيد العريان لا يقدم إلى القدس إلا غداً، لقلت إنك هو. . . إنني أعرفه بصورته من مجلة الرسالة. . .!
وكانت أول تحية كريمة يلقاني بها أديب من شباب فلسطين، وكانت مفاجئة؛ فأحسست شيئاً من الخجل والارتباك، لم أجد معهما إلا أن أمد يدي إلى صحفة بيده مستأذناً، فدفعها إلي؛ وفيها قرأت أنني قادم إلى القدس في صباح الغد. . . وهو الموعد الذي كنت حددته من قبل لمحطة الإذاعة، ثم فكرت بالسفر قبل ميعادي بيوم. . .
إنني لم أكن أقدر - وأنا من أنا في نفسي - أنني سأجد من يعرفني في فلسطين أو يهتم لمقدمي؛ ولو أنني قد بلغت بنفسي من الغلو أقصى ما تبلغ إليه أمنية شاب مثلي، لكان ما رأيت من حسن استقبال المقدسيين وحفاوتهم فوق ما تبلغ منية المتمني ولا أزهو بنفسي فأزعم أنني أهل لبعض ما لقيت، ولكنه كرم الفلسطينيين العرب يأبى إلا أن يستعلن في كل مناسبة ولكل مجال
وفي دار شيخ أدباء العروبة الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي كان مقامي طول المدة التي قضيتها في فلسطين. لقد دخلت فلسطين وأنا خفيف الظهر فما فارقتها حتى كان عليّ من الدين لهذا الرجل الكريم ما ينوء به كاهلي؛ فشكراً له ثم شكراً ثم شكراً. . . ومعذرة إليه إن عجزت عن الوفاء!
وصحبتني طائفة كريمة من الأدباء في غدوي ورواحي، لتهيئ لي أسباب التمتع في الرحلة بين المشاهد المقدسة والبيوت الأثرية، فزرت المسجد الأقصى، وقبة الصخرة ومصلى عمر، وكنيسة القيامة، ومصعد المسيح، وبيت لحم، والمتحف الإسلامي، وكلية الروضة، والنادي المصري؛ وتمتعت برحلات عدة كان رفيقي في أكثرها الأستاذ الأديب إبراهيم طوقان وكيل القسم العربي في محطة الإذاعة. ولن أنسى ما حييت فضله وفضل الأصدقاء الكرام: الدكتور إسحاق الحسيني، والشيخ يعقوب البخاري افندي، والأستاذين داود حمدان، وعبد الحميد يس، وغيرهم من أدباء فلسطين وأهل الرأي والجميل
وإذا كان لي أن اذكر شيئاً بخصوصيته في هذه الرحلة؛ فان اليوم الذي خطبت فيه في كلية
روضة المعارف الإسلامية بالقدس سيظل أبقى أثراً وأخلد ذكراً بين أيامي
وكلية روضة المعارف الإسلامية في القدس، هي مدرسة حرة يشرف على شئونها المجلس الإسلامي الأعلى، ولها منهج خاص يعد شباب العرب ليكونوا في مستقبل أيامهم رجال العربية والإسلام، ومدير هذه المدرسة هو الأستاذ عبد اللطيف الحسيني ورئيسها الأستاذ الجليل الشيخ محمد الصالح افندي، وتضم بضع مئات من فتيان العرب جمعتهم إلى منهل في الثقافة العربية الإسلامية أكثر ملائمة لحال البلاد في هذه الأيام. وفيها طائفة من المدرسين الأكفاء عرفت منهم الأستاذ عبد الفتاح لاشين المصري، والأستاذ عبد الرحمن الكيالي الفلسطيني، وهما من خريجي مدرسة دار العلوم في مصر
زرت الكلية صباح الاثنين 9 مايو مع الأستاذ طوقان؛ وما بد لمن يزور فلسطين من أهل العربية من زيارة هذه الكلية. . . وقضيت ساعة. . . ثم انصرفت على موعد للغداء وإلقاء محاضرة في بهو المحاضرات بالكلية عن: (المثل الأعلى للشاب المسلم) بعد ظهر الأربعاء
لا تحدثني عن شباب مصر وطلبة العلم في مصر إذا ذكر شباب فلسطين وطلبة العلم في كلية الروض. هنا شباب يحسنون الزينة ويفتنون في وسائل الأناقة والتجمل، وهناك رجال قبل سن الرجال يعرفون لأي غاية يتعلمون، ويفكرون لغدهم قبل أن يفكروا في مطالب الصبى وأماني الشباب. . .
وعرفت أول من عرفت في فلسطين، شبابها العربي المسلم في كلية الروضة. . .
(لها بقية)
محمد سعيد العريان
رسالة مسلمي الصين
إلى مسلمي العالم
عن حقائق الحرب الصينية اليابانية القائمة
إخواننا الأعزاء المسلمين في العالم
أصدقائنا الأجلاء المحبين للسلام
السلام عليكم وعلينا وعلى جميع المظلومين والمنكوبين في العالم!
إن بلاد الصين الجمهورية تحب السلم كما أحبته وهي ملكية.
فهي تسير على نصيحة الحكماء الصينيين بعدم القتال وتقليل الجيش، وكانت تحسن معاملة البلاد المجاورة لها شاعرة بالشرف المشترك حريصة على حياة الجميع، وهذه كلها حقائق تاريخية لدى الأمم الإسلامية
إن اليابان أخت الصين الصغيرة مشتركة معها في الجنس واللغة مجاورة لها كالشفة والسن، وهي متقدمة اليوم باستنارتها من الآداب والتعاليم الصينية
هذا وأن اليابان تذكر دائماً ولا تنسى تلك الفكرة الاستعمارية القديمة فكرة الآباء والأسلاف، فبدأت تثير الحرب بينها وبين الصين منذ 300 سنة، ولكن لم تصل إلى حلمها هذا لقلة قوتها في ذلك الوقت. وقد تضاعف جهدها في هذه الأيام القريبة للسعي في إثارة الصينيين فاتكأت على قواها الحربية سائرة على طريقة غير مشروعة أخذت أراضى صينية كثيرة منذ 60 سنة وقهرت أهاليها استبدت بسكانها. على أن حكومة الصين الملكية في ذلك الوقت تساهلت وتجاوزت على ذلك الاعتداء، فاضطرب الشعب كله وهاج هائجه وأتحد وثار سنة 1911 على تلك الحكومة الملكية الاستبدادية المفرطة
ولما قامت على أنقاض الملكية حكومة صينية جمهورية سارت تلك الحكومة الجديدة في طريق البناء والعمران. وبعد القضاء على مبدأ الملكية واندحار المحافظين عليه. جاءت الحرب العظمى فانتهزت اليابان فرصة سوء الحال في الصين وكثرة مشاغل الدول فعرضت على الصين معاهدة تحوي على 21 مادة كلها ترمي إلى إخضاع البلاد اقتصادياً وأدبياً، وأجبرت الحكومة الصينية على قبولها وتوقيعها. فثار لذلك الطلبة الصينيون ونشروا دعاية وطنية وبدءوا حركة المقاومة واجتهدوا في المخالفة والكفاح فلم تنجح اليابان
كما كانت ترجو وتتمنى
وفي سنة 1923 حدث في اليابان زلزال شديد فعاونتها الصين والصينيون بكل قواهم وعطفوا عليها وجمعوا الأموال لمساعدتها ولكنها جزت الحسنة بالسيئة فأرسلت سنة 1926 جيشًا كبيراً إلى الصين ليمنع تقدم الجيش الصيني الذي أرادت الحكومة الصينية أن تخمد به الملكيين
وأتفق أن كتب رئيس وزراء اليابان الأسبق عريضته السرية التي عرضها على إمبراطور اليابان في شأن استعمار الصين فآسيا كلها، وقال فيها:
(إن في خطة إمبراطوريتنا الثالثة أن نستعمر منشوريا ومنغوليا والصين كلها. ولكن قبل أن نستعمر الصين الداخلية يجب أن نستعمر منشوريا ومنغوليا كما أننا نستعمر آسيا بعد أن نملك الصين كلها ليعلم العالم بذلك أن آسيا الشرقية آسيانا فلا يعتدي عليها أحد)
وبهذا ترى اليابان تصرح بإرادتها في استعمار آسيا كلها
ولما كان الفيضان سنة 1931 عم اغلب البلاد الصينية وشمل اكثر من 100 مليون نسمة عطف عليها العالم أجمع وساعدها مادياً وأدبياً إلا اليابان التي لم تحرك ساكناً في تلك المساعدة ناسية حق الجوار متناسية الجميل، لم تفعل هذا فحسب بل قد اغتنمت تلك الفرصة وتلك الحالة المحزنة في الصين واحتلت مكدون عاصمة منشوريا ورفضت قرار عصبة الأمم بل وانسحبت منها كأنها تثور على العالم أجمع
وبعد ذلك حاصرت اليابان سواحل الصين وضربت شنغهاي واحتلت ولايات الصين الشمالية الأربع وكونت حكومة غير مشروعة. وهي مع ذلك تساعد على نشر المخدرات في المناطق التي احتلتها وتساعد المهربين بجنودها المسلحة وترسل الجيوش إلى الصين بدون استئذان وتطير في الجو الصيني بطائراتها فاحتجت حكومتنا على هذا التصرف السيئ غير المشروع وفاوضتها، ولكن الاحتجاج والمفاوضة لم يجديا نفعاً ولا فائدة
لم تزل اليابان تسير على خطتها الاستعمارية فبعثت رسلا إلى شمال الصين يحرضون حكام الولايات الشمالية على الانفصال عن الصين فلم ينجحوا. فغيرت خطتها البطيئة الخفية بالسريعة المكشوفة فأرسلت جيوشها فاحتلت مدينة وانبين بجوار بكين (7 يوليو سنة 1937) وقت استعراض الجيوش اليابانية قرب لوكاوشاو، ولم ينجح الصينيون في منعهم،
فكان ذلك بدء الحرب المدمرة الطاحنة الغاشمة المخربة الحالية
والآن لا يمكن أن يصبر أحد من الصينيين على اعتداء اليابان على بلادهم، وليس ذلك من جهة الوطنية فقط بل ومن جهة الإنسانية والحق أيضاً. فالحكومة الصينية لا يمكنها السكوت على ضياع بلادها واقتطاعها جزءاً جزءاً مع حبها للسلم، لأن الصبر على ذلك يهين الحق ويعذب الإنسانية ويسم الصينيين بسمة الجبن فلابد إذن من المقاومة، وقد قال القائد العام المارشال تشانج كاي شيك: لا نترك السلم ما كان لنا أمل فيه ولا نقوم بالتضحية ما دام وقتها لم يحن. والآن قد أنقطع أمل السلم وحان وقت التضحية فبدأت تتجمع قوات الحكومة الجرارة في الدفاع عن البلاد حتى تنال الفوز الأخير ولو غرقت البلاد الواسعة العريقة في الحضارة كلها والأهالي جميعاً في الدماء
لهذا قد اتحدت الصين حكومة وشعباً في الدفاع عن البلاد ومقاومة اليابان
والمسلمون في الصين كذلك متحدون مع غيرهم في الدفاع عن الوطن لأنهم يعرفون أن حب الوطن من الإيمان وأن الجهاد في سبيل الحق والإنسانية هو الجهاد في سبيل الدين الصحيح
وقد اشترك بعضهم في الحرب تحت إمرة القواد المسلمين المشهورين، وقام غيرهم على إنقاذ المنكوبين وشؤون التمريض وغير ذلك وسعى آخرون في نشر الدعاية للصين واتحاد المسلمين في العالم ليقفوا إلى جانب المسلمين في الصين بوجه المعتدين المخالفين للإنسانية والحق والدين الصحيح
والآن لا يمكننا أن نصبر على اعتداء دولة أجنبية على وطننا ولا على إضرار المعتدي الأثيم لإخواننا المسلمين في بلادنا، فلذلك وضعنا هذا الخطاب لنبين لإخواننا المسلمين في العالم ومن احب السلام والحق ما لاقاه المسلمون وغيرهم في الصين من المحنة العظمى والحرب المشؤومة رجاء أن يحكموا بالعدل وأن يقوموا بعمل إيجابي يعاقب به المعتدي أدبياً ومادياً فيعاديه السلام العالمي ويحقق به غرض الإسلام الأسمى لأن الله يأمرنا بالتعاون على الخير والمصلحة إذ قال:(وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) وقال سبحانه وتعالى أيضاً: (إنه لا يحب المعتدين)
نور محمد دابوسين
ناظر مدرسة المعلمين الإسلامية بشنغهاي
ورئيس الجمعية الإسلامية الصينية
محمد إبراهيم شاه كوجين
رئيس البعثات الصينية بالأزهر الشريف بمصر
هذه هي مقدمة الكتاب الذي وضعه الحاج الإمام الأستاذ نور محمد دابوسين والحاج الأستاذ محمد إبراهيم شاه كوجين والذي ترجمه الأستاذ أبو بكر الصيني من اللغة الصينية إلى اللغة العربية وهذا الكتاب مشتمل على مقالات خطيرة مفصلة متعلقة بالحرب الصينية اليابانية القائمة الآن وأسبابها ونتائجها المتوقعة من الوجهة العسكرية والاقتصادية والسياسية.
وفيه فصل يبين فظائع اليابانيين في الصين منذ بدأت الحرب إلى الآن من تدمير المدارس والجامعات والمساجد والمباني الخيرية والمصالح الأدبية وقتل الطلبة والشبان والمدنيين غير المحاربين والفجور بالنساء والفتيات ونهب الأموال والحلي واستعمال الغازات السامة في الحرب وغير ذلك
وفيه فصل عن استماتة الصينيين في دفع الأعداء عن وطنهم العزيز واستشهاد المسلمين منهم في محاربة اليابانيين وهم تحت إمرة قواد مسلمين وغير مسلمين في الجنوب والشمال وعددهم يفوق المليون. وجهاد القائد المسلم المشهور في الصين الجنرال عمر باي تسون هسى ودفاعه عن الوطن بكل قواه. فإذا انتصرت الصين انتصر المسلمون فيها
وفيه فصول أخرى
هذا وقد كتب الأستاذان في آخر الكتاب رجاء المسلمين في الصين إلى المسلمين في العالم أن لا يشتروا بضائع اليابان ولا يبيعوا إليهم المعادن ولا المواد الغذائية حتى يرجع اليابانيون عن خطتهم الاستعمارية وأن يساعدوهم أدبياً ومادياً بواسطة (جمعية الهلال الأحمر) بكل ما يستطيعون
وبما أننا مسلمون فعلينا واجباتنا الدينية ومنها المعاونة على البر والتقوى لا على الإثم
والعدوان - بذلك ننشر هذه الصيحة العالية بين المسلمين كي تجد صداها الحسن عندهم وردهم الجميل عليها
(* * *)
رسالة الشعر
مصطفى صادق الرافعي
للأستاذ فليكس فارس
تواريتَ في الملأ الأرفعِ
…
فأنتَ هُناكَ وأنتَ معي
هتكتَ عن الروحِ سترَ الترا
…
بِ وسترُ ترابي لم يُقشعِ
أماطَ القضا أحدَ البرقُعي
…
نِ وما زلتُ أُدرج في برقعي
ورسمُكَ قد غارَ في ناظري
…
وصوتُكَ قد غارَ في مسمَعي
فأَصبحتَ أَقربَ مني إلى
…
قَرارِة نفسيَ في أضْلُعي
كأنكَ من قبلُ كنتَ الخيا
…
لَ فصرتَ اليقينَ بما لا أَعي
أراكَ، فيا ويحَ مَنْ لا يرى
…
حبيباً تولّى ولم يرجعِ
يسائل عنه طِباقَ الثرى
…
وليسَ سوى الوهمِ في المضجعِ
أراكَ طليقاً كما كنتَ في
…
حياتكَ في عيشِكَ الموجعِ
وما يأسرُ الدهرُ غير الأُلي
…
يضلّون في العالمِ الأَخدَعِ
فَمن عاش عبداً بدنيائه
…
سيُبعثُ عبداً على الَمطلعِ
ومَنْ لم يكن ههُنا أروعاً
…
فليسَ هنالك بالأروعِ
عرفتك يا مصطفى مثلما
…
أراكَ وقد جُزتَ للمصرعِ
عرفتك روحاً يدور بها
…
من الدهرِ جيشُ الشقا المُفزعِ
وأنتَ تحدّى صروفَ الزما
…
نِ وتهزأُ في حصنكِ الأمنعِ
وكيف تصيبك في مقتلٍ
…
إذا لم يَكُنْ فيكَ من مطمعِ
غنمتَ من الأرضِ أرواحها
…
وعفتَ التهاويلَ للمدّعى
إذا الروحُ نالت معاني الوجو
…
دِ تخلّت عن الحرفِ والمقطعِ
وعايَنَتِ الحقَ نورَ الهدى
…
بكلِ مُصَلٍّ على مركعِ
فقدناك يا مصطفى جامعاً
…
شتيتَ بني العُربِ في الأربُعِ
فقدناك تهدي شعوباً مضت
…
إلى القفر للمنبتِ المُمرعِ
بدا الآلُ يشعلُ سعَّارها
…
فقُدتَ العطاشَ إلى المنبعِ
ورحتَ ترمِّم من صرحِهمْ
…
بما انهارَ من متنهِ الأنصعِ
وغيرُك قد ضلُّ عن ردمِه
…
فَرقَّع بالحجرِ الأسفعِ
وطفِلُ العروبةِ في بعثهِ
…
يسيرُ ضلولاً على المهَيعِ
هديت الرضيع إلى أمه
…
وغيرك أهداه للمرضع
فقدناكَ يا مصطفى صورةً
…
لجيلٍ بأصلابنا مُودَعِ
لجيلٍ سيعرفُ أَنساَبهُ
…
فينكرُ كلَّ دخيلٍ دَعي
إذا نازعته الدُنى روحَه
…
يهبُّ بهوجائهِ الزعزعِ
يثورُ وفي قلبهِ ربُّه
…
فيمشي على السيف والمدفعِ
سلامٌ على غائبٍ حاضرٍ
…
تكُفكف ذكراَه من أَدمعي
إذا ما سلا الناسُ موتاهمُ
…
بنسيانِ فقدهمِ المفُجعِ
سلوتُك بالذكرِ يا مصطفى
…
وأنتَ بروحي فأنت معي
فليكس فارس
لم يطب للنبوغ فيك مقام.
. .
لحن حزين هزته ذكرى الأديب العربي الخالد مصطفى صادق الرافعي
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
لم يَطِبْ للنُّبوغ فيكِ مُقاَمُ
…
لا عَلَيْك - الْغَدَاةَ - مِنِّي سَلامُ
المنارَاتُ تَنْطفي بَيْنَ كَفَّيْكِ!
…
ويَزْهو بشاطِئَيْكِ الظلاَّمُ
والصَّدَى مِن مَناقِر البُوم يَحْيا
…
ويَموتُ النَّشيدُ والإِلهامُ
قد حَبَوْتِ النَّعيبَ ظِلَّكَ لكِنْ
…
أَيْنَ قَرَّتْ بِشَطِّكِ الأنغْاَمُ؟
في هَجير الأيَّامِ تمضي أغاني
…
كِ حَيارَى، يَؤُجُّ فيها الضِّرامُ
عَبَرَتْ مَسْبَح الجَداوُل، والنَّهْرِ،
…
وغابَتْ كأنَّها أوْهامُ
تَسْكبُ السِّحْرَ مِن شِفاهٍ عَليْها
…
مَصْرَعُ السِّحْر: لَهفَةً! وأُوامُ!
تَسكبُ العطْر والخمائِلُ صُفْرً
…
ماتَ في الأيْكِ نَوْرُها البَسَّامُ!
تَسُكب البُرَْء مِنْ جِراح عليْها
…
تُرْعِشُ العُمْرَ شَكْوَةٌ وسَقامُ!
أنتِ يا (مِصْرُ): واصفحي إِنْ تعتَّبْتُ
…
وأشْجاكِ مِنْ نْشيدي الملامُ. .
. . قَدْ رَعَيْتِ الجميلَ في كُلِّ شيءِ
…
غيْرَ ما أحْسنَتْ بهِ الأقلامُ!
مِنْ رَوابيكِ خفَّ للخُلْدِ رُوحٌ
…
قَد نَعاهُ لعَصْرِكِ الإِسْلامُ
لبِسَتْ بعدَهُ العُروبَةُ ثَوْباً
…
صِبْغُ أسْتارهِ أَسًي وقَتامُ
لم تُفِقْ مِنْ شجُونِها فيهِ (بَغْدَا
…
د) ولا صابَرتْ أَساها (الشام)
وعَلَى (بلدة المِعزِّ) دُموعٌ
…
خَلَّدَتْ ذِكْرَهُ بها الأهرامُ
صاحِبُ المعْجزاتِ أعْيَتْ حِجا الدُّنْ
…
يا، وعَيَّتْ عَن كشْفِها الأفهَامُ
يَخْبأُ الحِكمةَ الخفيَّة في الوَحْي
…
كما تَخْبأُ الشذَى الأنسامُ
ويَزُفَّ البيانَ كالسَّلسلِ المسْكوب
…
تَهفو في شطهِ الأحلامُ
فإذا رَقَّ خِلتَهُ قُبَلُ الفَجْر
…
على نارها يَلُّذ المنامُ
أوْ حديثَ النسيمِ للزَّهْرة السَّكرى،
…
مِن الطَّلِّ كأسُها والمدامُ
أو حَفيفَ السَّنابِلِ الخُضرِ. . رَفَّت في رُباها قنابِرٌ ويمامُ
أو دُعاَء النُسَّاكِ. . أبْلَتْ صَداهْم
…
في حِمَى الّلهِ سَكْرةٌ وهِيامُ
وإذا ثارَ خِلتْهُ شُهُبَ الَّليلِ
…
أطارَتْ لهيبَها الأجْرامُ
أو شُواظاً مُسَطَّراً. . . قذَفَتهُ
…
مِن لَظَى العَقْل هَيجْةٌ وعُرامُ
أتْعَبَ الجاهدينَ خلفَ مَراميهِ
…
بقصد مَنالهُ لا يُرامُ
أصَيدُ الفكْرِ واليراعةِ والوحيِ. .
…
على كِبْرهِ يُفَلُ الحُسامُ
حَيَّرَ النقدَ أن تَروغَ المعاني
…
عَنْ مُريديهِ، أوْ تَنِدَّ السِّهامُ
فانْزوَى الحاسدُون. . إلاِّ فُضولاً
…
لا يُداريهِ عائبٌ شَتَّام
قد سقاُهُم مِن سِنِّه مَصْرَعَ الرو
…
ح وإنْ لم تُلاِقِه الأَجْسام
فلتَقُمْ بعدَ مَوْتِهِ ثورَةُ الشَّا
…
ني فقَدْ فارَقَ الوَغى الصَّمْصام
ولهُ الشَّأنُ. . عِزَّةٌ وَخُلودٌ
…
ولَهم شأْنُهُمْ صدىً وكَلامُ
إِيِه يا ساقِيِ (المساكين) كأْساً
…
لمْ تُسَلْسِلْ رحيقَها الأيَّامُ
قَد جَعَلْتَ الآلام وَحْيَك حتَّى
…
فجَّرتْ نَبْعَها لكَ الآلامُ
ما الذيّ كانَ في سَحابَتِكَ الحمْراءِ
…
إلاَّ الشُّجُونُ والأسْقام
كُنْتَ في عُزْلةٍ مع الوَحْي تَشكو
…
ولِشكواكَ كادَ يْبكي الغَمام
تمسَحْ الدمْع من عُيونِ اليتامَى
…
وبِبلْواكَ ينْشِجُ الأَيْتام!
صُنْتَ عهْدَ البيانِ لم تُرْخِص القَوْ
…
لَ، ولا شابَ سِحْرَكَ الإعْجام
وَتفَرَّدْتَ بالصِّياغَةِ. . حتى
…
قِيلَ في عالَم البيانِ: إِمامُ!
ووَهَبْتَ (الفُرْقانَ) قلْبَكَ. . حتى
…
فاضَ منْ قُدْسهِ لك الإِلهام
فبعَثْتَ الإِعجازَ كالشَّمس منه
…
يتَهدَّى عَلَى سَناَهُ الأنَامُ
فقْمِ اليوْمَ! وانْظُرْ الشَّرْقَ ضاعتْ
…
مِنْ يَديْهِ مَواثِقٌ وذِمامُ
مزَّقَتْ قلْبَهُ الذِّئابُ من الفَتْكِ. .
…
وَنامَ الرُّعاةُ والأَغْنامُ!
في (فِلَسْطينَ) لو عَلِمْتَ جِراحُ
…
ما لها في يد الطُّغاةِ التئامُ
وطنُ الوَحْي، والنَّبُوّاتِ والإلْهام. .
…
أوْدَى! فعاثَ فيه الطَّغَامُ
جذْوَةُ في جَوانح الشرْق تَغْلي
…
فَيروعُ السَّماء مِنْها اضْطرامُ
يُذْبَحُ القوْمُ في المجازِرِ - فرْط الظَّ
…
لم فيها - كأنَّهم أَنْعامُ
ويُهانُ (المسيحُ) في مَوْطِن القُدْ
…
سِ، وَيشْقَى بأرْضِهِ الإِسْلام
وحُماة البيانِ خُرْسٌ. . كأَنَّ الذَّ
…
وْدَ عنْ كَعْبةِ الجدوِد حَرام!
إيه يا (مُصْطَفى) وفي القَلْبِ أشجا
…
نٌ! وفي الصَّدْرِ حُرْقَةٌ وضِرام
ليْت لي سَمْعَك الذي كرَّمَ الل
…
هُ صَداهُ! فماتَ فيه الكلام
كنتَ والوَحْيَ عاشِقَيْنِ فماذا
…
بَعْدَ نجْوَى السماءِ يَبْغي الغرام؟
كُنْتَ والوَحْي في سُكونِ نَبِيٍ
…
عادَةُ في صَلاته إِلهام
تتلقّاهُ خاشعَ الهمْسَ عفَّا
…
مِثلَما رَفَّ بالغَدير حَمامُ
لا ضَجِيجٌ! ولا اصْطِخَابٌ! وَلكِنْ
…
هَدْأَةُ الرُّوح قدْ جَلاها المنامُ
هكذا نَعْشكَ الطَّهورُ تَهادَى
…
كالأَماني، لا ضَجَّةٌ! لا زِحام!
فاذْهَبْ اليوْمَ للخْلُودِ كما كُنْ
…
تَ. . تُغادِيكَ هَدْأةٌ وسلام
لمْ يمت مَنْ طَواهُ في قلبِه الشَّرْ
…
قُ! وَغَنَى بِذكْرِهِ الإِسْلام!
محمود حسن إسماعيل
راقصة
للأستاذ محمود غنيم
هنا الغرامُ والولَهْ
…
يا منظراً ما أجملَهْ
أتلك أنثى خَطَرَتْ
…
أم فتنة منتقلهْ
مقبلةٌ مدبرةٌ
…
مائلةٌ معتدلهْ
كأن تحتَ اخمصَي
…
ها جمرةً مشتعلهْ
باسمةٌ يحسبها
…
كل فتى تبسم لهْ
تدورُ حول نفسها
…
كما تدورُ العجلهْ
وتنثني كأنها
…
عن نفسها منذهلهْ
أبدلها خالقها
…
بكلِّ عظم عضلهْ
يا حسنها إذا عَرَكَتْ
…
أُنمُلَةً بأنملهْ
أنامل من فضةٍ
…
ليِّنةٍ منفتلهْ
جميعُ ما في جسمها
…
يُغريك أن تقبِّلهْ
كم مقلةٍ شاخصةٍ
…
هَّمتْ به لتأكلهْ
والسحْر طلُّ السحر في الأ
…
نوثِة المكتملهْ
من تَرْمِهِ بلحظها
…
أدنت إليه اجلَهْ
كم ارتقت مسرحها
…
فصيَّرَته مقْصَلهْ
دقَّتْ على مسرحها
…
بساقها منفصلهْ
كأن في المسرح حَرْ
…
باً هي فيها البطلهْ
زلزلةٌ قد أحدثت
…
في كل قلبٍ زلزلهْ
تستر نصف جسمها
…
غلالةٌ مشكّلهْ
يَشفُّ عن أعضائها
…
من تحتها مفصَّلهْ
جسم كموج عيْلمٍ
…
تسبح فيه الأخليهْ
تحسَبُ فيه كلَّ عض
…
ووحدةً منفصلهْ
فليس بين خَصْرِها
…
وبين صدرها صِلهْ
في مرقص لا يعرف ال
…
همَّ فؤادٌ نَزَلَهْ
كأنه في بقعةٍ
…
عن الدنى منعزلهْ
بين الدنى وبينه
…
ستائرٌ منسدلهْ
الهمّ فيه واقفٌ
…
خجلانَ يُخفي خجلَهْ
دعني أضلَّ ساعةٌ؛
…
عبءُ التقى ما أثقلَهْ
ما كنتُ من أهل المُسُو
…
ح والذُّقون المسبَلَهْ
كم وَرَعٍ مصطَنَعٍ
…
وعفةٍ مُفْتَعَلَهْ
(كوم حماده)
محمود غنيم
البريد الأدبي
في تاريخ آداب اللغة العربية
الأستاذ كارل بروكلمن حجة المستشرقين العليا في الآداب العربية، وأسمه معروف مستطير في الدوائر العلمية سواء في الغرب أو في الشرق العربي. وقد ظفر بتلك النباهة من طريق تآليف غاية في التدقيق العلمي والإطلاع الوافر. وعلى رأس هذه التآليف كتابه الفريد أيام برنا (سنة 1898)(تأريخ الآداب العربية) باللغة الألمانية وقد استفاد من هذا الكتاب الخصب عدد غير قليل ممن ألفوا في الموضوع عينه. وإذا نقضي على بروز الكتاب زمن رأى صاحبه أن ينشر له تكملة يورد فيها ما فاته ويستدرك ما فرط منه ويثبت ما جاء به العلم منذ سنة 1898. وقد ظهر من التكملة الجزء الأول وبعض الجزء الثاني. وستقع التكملة فيما يزيد على ألفي صفحة من القطع الكبير. ومما نذكره اليوم على سبيل الإشارة - مرجئين الكتابة إلى حين صدور التكملة كاملة - أن الأستاذ كارل بروكلمن أثبت فيما أثبت من المصادر والمراجع طائفة من المؤلفات أصحابها علماء وأدباء من لبنان والشام والعراق ومصر خاصة، منهم: حفني ناصف وجورجي زيدان وأحمد الإسكندري ومصطفى صادق الرافعي وأحمد زكي (باشا) وأحمد حسن الزيات وطه حسين وسلامة موسى وزكي مبارك ومحمد فريد وجدي وبشر فارس ثم شفيق جبري وفؤاد أفرام البستاني والأب الكرملي ومعروف الرصافي.
جوائز وزارة المعارف لتشجيع التأليف بين المدرسين
أصدر صاحب المعالي الدكتور حسين هيكل باشا وزير المعارف القرار التالي:
بما أننا نرى ضرورة العمل على تشجيع الإنتاج بين المدرسين بمدارس الوزارة وبالمدارس الحرة من طريق حفزهم إلى البحث والتأليف في موضوعات اختصاصهم والموضوعات المتصلة بها بما يؤدي إلى تقوية شخصيتهم العلمية وزيادة حيوية دروسهم وتكوين ذخيرة من الرسائل العلمية والأدبية، تدعو إلى نشاط التفكير العام، إذ ينتفع بها الطلاب والجمهور المثقف على السواء، وتكون بعيدة عن التقيد بالمناهج وإن اتصلت بموضوعاتها
وبما أن المدرسين والأساتذة هم في جميع البلاد المتحضرة مصدر التجنيد العلمي والفكري
والعملي في توجيه الحياة الاجتماعية إلى أحدث المبادئ وأدق الآراء العلمية والأدبية والفنية
بما أننا نرى من خيرنا ما يمهد لهذه الغاية، ويدفع إلى السير في طريقها رصد جوائز سنوية تمنح للمدرسين الذين يضعون رسائل في موضوعات علمية أو أدبية على أن يكون لنيل هذه الجوائز أثر في تقدير كفاية المدرس وما يستتبعه هذا التقدير من التشجيع قرر
المادة 1 - تعقد وزارة المعارف كل عام مباريات للتأليف بين المدرسين تخصص لها جوائز ثمان قيمة كل منها مائة جنيه، تمنح للمتبارين الذين ترى لجان التحكيم أن رسائلهم جديرة بالمنح ويكون تخصيص هذه الجوائز على الوجه الآتي:
جائزة للموضوعات الأدبية، وجائزة للموضوعات الإجتماعية، وجائزة للموضوعات الفلسفية، وجائزة للموضوعات الجغرافية، وجائزة للموضوعات التاريخية، وجائزة للموضوعات الطبيعية، وجائزة للموضوعات الرياضية، وجائزة للموضوعات المتصلة بالتربية وعلم النفس
المادة 2 - يشترط في الرسائل التي يتقدم بها واضعوها لنيل الجائزة أن تكون باللغة العربية وأن تكون موضوعاتها بعيدة عن التقيد بالمناهج وإن اتصلت بموضوعاتها، بعيدة عن طبيعة الكتب المدرسية، وأن تبدو فيها روح الابتكار في طريقة معالجة الموضوع على الأقل، وأن يكون لها اتصال بحياة البلاد العلمية والأدبية أو تأريخها القومي، وأن تصطبغ بالصبغة القومية في الأمثلة والتطبيق، وأن يراعى في التأليف التبسط واستيفاء البحث من جميع أطرافه والأمانة العلمية في إيراد الآراء والنظريات، وأن يتبع واضع الرسالة أسلوب البحث العلمي الحديث، وطرائق النقد الحديثة في إيراد نظرياته ومناقشتها. كما يشترط أن تكون الرسائل قد وضعت خصيصاً لهذه المباريات ولم يكن قد سبق طبعها ونشرها وألا تقل عن مائتي صفحة من القطع المتوسط
المادة 3 - تحدد لهذه المباريات في كل عام مدة غايتها ستة شهور تبتدئ في أول يونيو وتنتهي في آخر نوفمبر، يتقدم فيها المتبارون برسائلهم للوزارة غير مطبوعة.
المادة 4 - تشكل في كل عام عقب انقضاء الأجل المحدد للمباراة لجان للتحكيم، تقوم ببحث الرسائل التي تقدم في المباراة ويكون أعضائها من الأخصائيين في موضوعاتها.
المادة 5 - يجوز للجان التحكيم ألا تمنح جائزة ما عن كل أو بعض الرسائل إذا لم تتوافر فيها الشروط المطلوبة، أو إذا لم تصل الرسالة المستوى الجدير بالجائزة
كما يجوز لهذه اللجان أن تقسم الجائزة الواحدة على اكثر من رسالة إذا تساوت قيمتها العلمية أو تقاربت
المادة 6 - تتولى وزارة المعارف نفقة طبع الرسائل التي تنال الجوائز ونشرها وتحفظ للمؤلف قسطا من أرباحها
المادة 7 - على وكيل الوزارة تنفيذ هذا القرار.
مشروع المسابقة في تاريخ الأدب العربي المصري
نشرنا في العدد الماضي خبراً عن مشروع المسابقة الذي وضعه معالي الدكتور هيكل باشا وزير المعارف في موضوع (تاريخ الأدب العربي بمصر من الفتح الإسلامي إلى الآن) وقد رأى معالي الوزير أن يستطلع آراء المشتغلين بالدراسات الأدبية في المشروع قبل إقراره. وقد تلقى ردود الأساتذة وكلها متفقه على تشجيع الفكرة واعتبارها عاملاً قوياً من عوامل التمكين للمعاني القومية والنهضة الأدبية. ويمكن تلخيص مختلف الآراء فيما يلي:
يؤيد فكرة المسابقة تفتيش اللغة العربية، وأساتذة دار العلوم، والأستاذ أمين الخولي من كلية الآداب
ويؤيد بحث الموضوع ويخالف فكرة المسابقة ويطلب اختيار لجنة من الباحثين المعروفين الدكتور طه حسين بك والأستاذ أحمد أمين. وتخالف دار العلوم فكرتهما وترى أن فيها تثبيطاً لهمم الشباب وتحقيقاً لما يصح أن يسمى احتكاراً علمياً
ويطلب تفتيش اللغة العربية مد المدة إلى سنة، ويتفق معه في ذلك الأستاذ أمين الخولي؛ ويطلب الدكتور طه حسين بك والأستاذ أحمد أمين جعل المدة سنة وأربعة أشهر. وترى كلية الآداب زيادة المبلغ المقرر للجوائز. ويرى تفتيش اللغة العربية وضع برنامج للمتسابقين، في حين يرى الأستاذ الخولي ترك الحرية المطلقة لهم
وستؤلف لجنة لبحث هذه الآراء برياسة وكيل الوزارة ثم تقدم تقريرها إلى معالي الوزير ويصدر القرار على أساسه.
شاعرة مصرية تفوز بجائزة الشعر الفرنسي
وزع في الأسبوع الماضي (بيت الشعر) وهو الهيئة التي تضم شعراء فرنسا جوائزه السنوية برياسة المسيو فالمي بابيس السكرتير العام السابق للكوميدي فرانسيز
وقد منح الشعراء الفرنسيين الجوائز الثلاث المخصصة لأبناء فرنسا أما الجائزة الرابعة؛ وهي جائزة أدجاربو المخصصة للشعراء الأجانب الذين ينضمون الشعر باللغة الفرنسية وقدرها خمسة آلاف فرنك - فقد منحتها السيدة نيلي فوشيه زنانيري على كتابها الأخير (الظهر تحت السماء المحرقة)
وقد الفى المسيو فالمي بابيس كلمة قال فيها: (إن هذه الجائزة - وهي موجودة منذ عشر سنوات - تفوز بها اليوم لأول مرة شاعرة مصرية. وكان الذين نالوها قبل الآن من الشعراء البلجيكيين والسويسريين واللبنانيين والكنديين
وإننا لنغتبط اليوم بأن تنال هذه الجائزة شاعرة مصرية، هي السيدة نيلي فوشيه زنانيري، من أجل كتابها الممتع الطريف
وكانت قد تقدمت لهذه المسابقة عدة مرات وها هي الآن تجني ثمرة ثباتها ومواهبها الشعرية الصافية الفياضة بالشعور
وإننا سعداء اليوم بأن تكون جائزتنا من نصيب مصر، حيث للثقافة الفرنسية مكانة كبيرة، وحيث يقابل الكتاب والمحاضرون الفرنسيون بكثير من الحفاوة) ثم هنأ المسيو فالمي بابيس الصحافة المصرية على نموها وازدهارها في السنوات الأخيرة وأشار إلى أن المسيو روبير فوشيه صهر السيدة الفائزة ومدير مكتب (الأهرام) في باريس أنتخب من بين 250 من الصحافيين الأجانب سكرتيراً عاماً لجمعيتهم. وهكذا فإن الصحافة المصرية والشعر المصري يحتلان مكانة عالية في باريس
وأشار السكرتير العام بعد ذلك إلى أن السيدة زنانيري منحت الجائزة بإجماع الآراء، بين 46 متسابقاً أرسلوا 150 مؤلفاً
وقد أرسل (بيت الشعر) كتاباً رسمياً إلى محمود فخري باشا وزير مصر المفوض في باريس يبلغه فيه أن الجائزة منحت لشاعرة مصرية.
بين الرافعي والعقاد
قرأت ما يدور الآن من الجدل بين أنصار الرافعي وأنصار العقاد، وقد أردت أن أدلي بهذه الكلمة الصغيرة في البيت الذي يطعن فيه أنصار الرافعي من قصيدة العقاد في الغزل الفلسفي:
فِيكِ مِني ومن الناسِ ومِن
…
كلَّ موجودٍ وموعودٍ توأم
فقد ذهب الرافعي رحمه الله في نقده إلى أن من كل موجود البق والقمل والنمل والخنفساء والوباء والطاعون والهيضة وزيت الخروع والملح الإنجليزي، إلى واوات من مثلها لا تعد، أفيكون هذا كله في حبيب إلا على مذهب العقاد في ذوقه ولغته وفلسفته؟
ورأيي في هذا أن العقاد يمشي في بيته مع بعض الفلاسفة الذين يرون كل شيء في الطبيعة جميلاً، ويذهبون فيها مذهب الهيام الذي يبدي كل شيء فيها حسناً، وهذا شأن كل محب مع حبيبه إذ يبلغ به الهيام فيه إلى حد لا يرى فيه نقصاً أو عيباً، بل إلى حد ان يرمي نقصه كمالاً وجمالاً:
وعَينُ الرضا عن كلِّ عيب كليلة
…
ولكنَّ عين السخط تُبدي المساوِيَا
فبيت العقد من هذه الناحية منسجم مع موضوع قصيدته في الغزل الفلسفي، ولم يكن فيه محتاجاً إلى تقييد جرير في قوله:
ما استوصف الناسَ من شيءٍ يَرُوقُهمُ
…
إلا أرى أمَّ عمرو فوق ما وصفوا
لأن جريراً لم يكن يتغزل على ذلك النحو الفلسفي، وإنما كان يذهب في غزله المذهب الظاهر في الشعر العربي
ولابد أن نشير بعد هذا إلى أن كل شيء في هذا الكون لا يخلو من حسن يسوغ إجراء بيت العقاد على عمومه، وقد ذهب إلى هذا بعض العلماء في تفسير قوله تعالى:(الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين) قال العلامة الزمخشري: إنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة، وأوجبته المصلحة، فجميع المخلوقات حسنة، وإن تفاوتت إلى حسن وأحسن
عبد المتعال الصعيدي
حول الفيلسوف (مسكويه) وعصره
سيدي الأستاذ الفاضل محرر الرسالة الغراء
بعد التحية: أشكر لكم وللأخ الفاضل الكريم الأستاذ محمد عبد الغني حسن ما قدمتماه من استدراك جميل حرصتم فيه من جانبكم على أن تسموا الفيلسوف (بإبن مسكويه) بدلاً من (مسكويه)، وحرص حضرة الأخ الكريم على أن يجعل حياته في العصر (الرابع) لا (الثالث)، وعلى أن هذا العصر لم يكن عصر تكوين للمعاجم اللغوية بالمعنى المضبوط
فأما استدراككم بشأن الاسم فما رأيكم في أن كثيراً من المؤرخين والمترجمين القدماء والمحدثين قد ذكر الرجل مجرداً عن (الابن) فدعاه آناً (مسكويه)، وآناً (أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب بن مسكويه)؟ وما دأبكم أن من بين من دعوه كذلك القفطي وياقوت وإبن أبي أصيبعة والوزير أبو شجاع والمستشرق مرجليوت؟ وما رأيكم في أن (التوحيدي)(معاصره) كان يدعو دائماً (بمسكويه) كما جاء في كتاب المخطوط (الإمتاع والمؤانسة) وكتابه المطبوع (المقايسات)؟ وما رأيكم في أن مخطوط (جاويدان حزو) وهو أقدم مخطوط يحمل الفيلسوف ينم على أن الرجل كان يسمى بهذا الإسم؟
وأما استدراك الأستاذ الصديق بشأن العصر فلست أذكر في الواقع المؤرخ الذي أخذت هذا الأمر عنه. وأحسب أنه قد تقيد في قوله بالقوة والضعف أكثر مما تقيد بالزمن نفسه. وها هو كتاب المفصل في تاريخ الأدب العربي يعتبر أن شعر إبن سينا وهو معاصر لمسكويه يقع في العصر العباسي الثاني لا الثالث ولا الرابع
وأما استدراكه بشأن تكوين المعاجم اللغوية فالواقع أني لم أعن بدرس هذه الناحية لأنها على هامش بحثي. ولكني على أية حال اعتمدت فيما ذكرت على مؤلف ثقة هو المرحوم جورجي زيدان القائل في كتابه: آداب اللغة العربية ج2 ص 223 أن هذا العصر يمتاز بنضج العلم وتكوين المعاجم اللغوية؛ فإذا كان الأستاذ الفاضل يرى أن علماء اللغة في هذا العصر لم يبلغوا من الكثرة والإحاطة ما بلغه علماء العصور التالية فأظن أن كلام زيدان لا يبقى مع ذلك صحيحاً.
محمد حسن ظاظا
اكتشاف آثار مدينة من قبل المسيح
كتب إلى جريدة الدبلي تلغراف مراسلها من نيويورك يقول إن الأثريين الأمريكيين الباحثين قرب شاطئ البحر الأحمر اكتشفوا آثار مرفأ كان زاهراً هناك حوال ألف سنة إلى ثمانمائة سنة قبل المسيح
أما المدينة المكتشفة آثارها فهي ازيونجيير التي يدعوها العرب تل الخليفة. وهي واقعة عند الطرف الشمالي لخليج العقبة. ويرجع الفضل لاكتشافها إلى الدكتور جلوك مدير المعهد الأمريكي للأبحاث الشرقية في القدس.
-
-
الكتب
عصفور من الشرق
تأليف الأستاذ توفيق الحكيم
بقلم الأستاذ محمود الخفيف
هذه نفحة أخرى لصاحب أهل الكهف وشهرزاد، نفحة فيها روح توفيق الحكيم وفن توفيق الحكيم، حتى لو أن الكتاب الذي يزجيها إليك كان غفلاً من أسم مؤلفه ما استطعت أن ترده إلا إليه. . .
ولقد انتظرت هذا الكتاب منذ أن أعلن عنه، فلما تفضل مؤلفه الفاضل بإرساله إلي أقبلت عليه فتلوته، ولشد ما رغبت لو أنه طال عما هو عليه ليطول بذلك استمتاعي بتلك اللذة الساحرة التي لن يظفر بها المرء إلا في أمثال تلك القصة من الآثار الفنية العالية؛ وها أنا ذا أقدم الكتاب لقراء الرسالة لا أبتغي إلا أن أدلهم على متعة قوية أحب لهم - من فرط ما أعجبت بها - أن يشاركوني فيها
ولو كان المجال هنا مجال نقد يبسط موضوع الكتاب ويعرض لدقائق الفن فيه، لخشية أن يحملني إعجابي به على الغلو، ولكني الآن بنجوة من هذا، فقصاراى هنا الوصف المحدود؛ ذلك أن الكتاب كغيره من الآثار القيمة جدير أن يفرد له صفحات أوسع من هذا المجال الذي تتركه لي الرسالة اليوم. . .
قوة هذا الكتاب وخطره منحصران فيما يتضمنه من فكرة تستطيع أن تجملها في مسألة هي روحية: الشرق ومادية الغرب؛ أما القصة في ذاتها فبسيطة سهلة لا التواء فيها ولا جلبة ولا حركات مثيرة ولا مفاجآت قوية ولا غير هذه من ضروب الاستهواء التي نصادفها في بعض القصص؛ ولقد جاءت تلك البساطة نوعاً من الجمال في الكتاب فكان كآثار راسين سحره في عمق الفكرة ودقة الفن لا في مثيرات الحكاية
هذا محسن فتى شرقي يقيم في باريس ويعرفه الناس بأنه (عصفور من الشرق) تقع عيناه على حسناء من حسان باريس فتستأثر بلبه ويأخذ حسنها بمجامع قلبه؛ فإذا به يعيش بخياله الشرقي وروحانيته الشرقية عيشة أهل الجنة على هذه الأرض؛ وتتهيأ له سبل الاتصال
بالفتاة ومجالستها ومصاحبتها حتى يصطدم بالواقع ويرى أنها لا تحبه وأنها تخدعه فيكون موقفه - كما صوره المؤلف - موقف آدم عند خروجه من الجنة. . .
تلك هي الحادثة، وهي كما ترى بسيطة غاية البساطة، ولكنها على بساطتها مليئة بألوان السحر والفن فوصف شعور محسن في حبه يبهج النفس ويملأها نشوة، وبراعة الحوار والمناجاة هي السحر بعينه، بله دقة الفن وحسن سبكه
على أن خطر الكتاب وقيمته - كما قدمت - في فكرته؛ ولقد استطاع قصاصنا الكبير أن يدلي بآراءه على ألسنة أشخاص صورهم أحسن تصوير وأبرعه، فهذا هو محسن وهذا هو أندريه الغربي الذي لا يعرف خيالاً ولا شعراً؛ والذي يعتبر نقيضاً لمحسن يهزأ به وبأحلامه يسوقهما المؤلف لترى فيهما روح الشرقي وروح الغربي، ثم هذا إيفانو فيتش الروسي العامل الذي يجري المؤلف على لسانه الجزء الأكبر من فلسفته، ثم هذه هي سوزان الباريسية الحسناء التي أحبها محسن إلى غير هؤلاء من الأشخاص الذين صورهم المؤلف أصدق تصوير وأجمله؛ ولو أني أردت أن أدلك على مواضع الجمال والقوة فيما جرى على ألسنتهم من آراء لدللتك على الكتاب كله، ولست - شهد الله - أغلو في ذلك ولا أسرف؛ ولم يقتصر المؤلف الفاضل في تصوير حياة الغرب على الآراء التي أجراها على ألسنة هؤلاء الأشخاص، بل لقد صور لنا عدة مناظر من الحياة ذاتها كالأسرة التي كان يعيش فيها قبل انتقاله إلى المنزل وكالمسرح وحفلات الموسيقى وغيرها فأحاط كتابه بجو بديع؛ ولم يكن - شأنه في ذلك شأن الفنان المتمكن من فنه - يعرض من الصور والمناظر إلا ما يستلزمه إبراز الفكرة الفلسفية التي تدور عليها القصة؛ أنظر إلى الولد الصغير يوحي إليه بمحاربة البوش والشيخ المسن يبدي تذمره واستيائه إذ يعرض لحال العمال وربة الأسرة تخشى أن يرحل محسن إلى جهة أخرى ولا مرتزق لهم إلا ما يدفع من أجر تر صوراً قوية أخاذة لحياة الغرب يقدمها المؤلف بين يدي فكرته في مهارة تحملك على الإعجاب. . .
ولقد كان في التعبير عن فكرته بهذه الطريقة موفقاً جهد التوفيق، فليس أوقع من الإيحاء والإشارة في تصوير المعنى الفلسفي المراد؛ تجد ذلك في الشعر وهو الصور القائمة على اللفظ وتجده في التصوير بالألوان، وتجده في الموسيقى؛ ولعمري ما يستطيع عالم من
علماء النفس مهما اتسعت آفاق علمه أن (يصور) لك الأناني أو المخاتل أو الغيران أو الجشع أو اللئيم أو غير هؤلاء كما يستطيع أن يفعل رجل الفن، فرسم الصور الحية عمل ذلك الفنان ومنها تأخذ من المعاني ما شئت وشتان بين الصورة الحية والمعاني المجردة؛ وهل قامت عظمة شكسبير ودكنز وجوته وهوجو وراسين وأضرابهم إلا على ذلك الفن الذي يخلق من المعاني الحياة؟ وإنك لتستطيع أن ترد نجاح توفيق الحكيم ونباهة شأنه إلى هذه الموهبة الفنية أكثر مما ترده إلى أي شيء آخر
وأحب أن أشير هنا أن شخصية محسن هي كما يدرك القارئ دون عناء شخصية المؤلف نفسه تتجلى هنا كما تجلت في قصة (عودة الروح) كما أحب أن أشير على الرغم من ضيق المجال أن هذا الكتاب يقدم لنا دليلاً جديداً على أن فن توفيق الحكيم في القصة فن غير مقصور على ناحية معينة، ولقد قدم لنا في أهل الكهف وشهرزاد لونين من ألوان القصة المسرحية، ثم أرانا في عودة الروح لوناً من ألوان القصص غير المسرحية، وفي يوميات نائب في الأرياف أتى بنوع جديد يعد من القصص الإصلاحية، ثم هو في هذه القصة الأخيرة يأبى إلا أن يبتدع فهو كما ترى لا يتخصص في نوع واحد، ولكنه مع ذلك يسمو في كل نوع سمواً يشعرك في كل قصة كأنه أوقف على لونها فنه ومواهبه، ولقد يحسب بعض النقاد هذا مستحيلاً أو يعدونه نقصاً ويستشهدون على ذلك بأن كثيراً من كبار القصاصين يقتصر الواحد منهم على لون لا يحسن غيره، ولكن توفيق الحكيم يقيم الدليل القاطع على غلوهم في هذا الزعم، وماذا عسى أن يحول بينه وبين الإجادة في كل نوع والمسألة كلها مسألة قصص وهذا فن ركب في فطرته وإن له من قوة روحه وعمق فلسفته وسعة ثقافته لمعين لا ينضب؟ إننا لا يسعنا كما أسلفت في معرض آخر إلا أن نعتز بفن توفيق الحكيم كمظهر من مظاهر نهضتنا الثقافية وما أحوجنا إلى أمثاله في جميع نواحي حياتنا الأدبية والعلمية. أجل ما أحوجنا إلى أمثاله النابغين الذين يردون بالعمل الناضج الفذ على الذين يرموننا بالقصور ويمكرون علينا استعدادنا للتفوق. فليتقبل مني الأستاذ النابه هذه العجالة تجلة معجب وتحية صديق
الخفيف