الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 256
- بتاريخ: 30 - 05 - 1938
حول اقتراح وزارة المعارف
توحيد الثقافة العامة
ونريد بالثقافة العامة القدر المشترك من المعرفة بين النشء في طوري التعليم الابتدائي والثانوي. وهذا القدر أشبه بالغرار يطبع عليه آحاد الشعب فيتحدون بالهوى ويتفقون في الطبع ويتقاربون في الرأي ويتسايرون إلى غاية واحدة تتجه إليها القوى وتصلح عليها الجماعة. وهذا المثال أو المنوال فقدته مصر والعالم منذ اقتبسنا المناهج الحديثة في التعليم، والنظم الأوربية في الحكم فكان في كل قطر من أقطار الإسلام ثقافتان مختلفتان في الخطر والأثر، إحداهما تقوم على الدين المشروع والسنة الموروثة وما يتصل بها من خصائص الجنس وتقاليد الشرق وأساطير التاريخ، والأخرى تقوم على أساس سطحي من أدب الغرب ومدنيته وعقليته ونظمه. والثقافة الأولى غالبة لصدورها على الفطرة والعقيدة والوراثة والبيئة. أما الثانية فكانت لنبوها عن الطباع تنال العقول والقلوب في أناة ورفق، وتغزو الرسوم والأوضاع في حذر وحيطة، حتى تم للغرب فتح الشرق فنشر فيه حضارته وثقافته بالإيحاء والإغراء والقوة. وهناك أخذ التنازع بين هاتين الثقافتين يفعل في الحياة فعله، فغير الوجهة وعوق السير وشعَّب الرأي وشتت الوحدة؛ فلم يكن للقائمين على سياسة التعليم بد من الطب لهذه العلة تفادياً لما ظهر من سوء أثرها في سياسة الدولة وإنهاض الأمة
وهاهي ذي وزارة المعارف تفكر أخيراً في توحيد القالب الثقافي في المدارس المدنية والمعاهد الدينية على وضع لا تزال تفاصيله مجهولة، لأن الفكرة ما برحت تتردد بين دار الوزارة وإدارة الأزهر. فإذا عرضنا لها اليوم فإنما نعرض للأساس الذي لا يتغير في التفصيل ولا في الجملة:
ليس بسبيلنا أن نبحث في أي الثقافتين أدنى إلى الإصلاح وأولى بالأخذ، فإنا نؤمن بأن لقانون التطور حكماً لا يدفع، وأن للتلاقح الاجتماعي بين الحضارات والثقافات أثراً لا ينكر في تمدن الإنسان وتقدم العالم. ولكننا نعتقد أن تغليب التعليم المدني بمنهاجه الحاضر على التعليم الديني أمر لا يغب غير الضرر؛ فإن التعليم المدني لا يزال عاجزاً يتلمس طريقه المطموس بين الاضطراب والفوضى، لا يقف عند تقليد، ولا يطمئن إلى تجربة،
ولا يستقر على نظام. وقد أسفرت أكلافه وجهوده مدى نصف قرن عن جيل مشياً الخلق مشوش العقل ناقص الكفاية مشكل الوضع، فلا هو قارئ ولا أمي، ولا هو شرقي ولا غربي، ولا هو ديِّن ولا ملحد. وقد وسمه كلُّ عمل بالعجز، ورماه كل مشروع بالفشل، فلم يستطع إلا بث الضجر في الناس، ونشر الفساد في المجتمع، وإشاعة السخط على الحياة.
وأما التعليم الديني فكان على جموده وقصوره أهدى سبيلاً إلى الإصلاح، وأرجى منفعة للأمة، فقد دأب دهره الطويل بثقف الأفئدة، ويقوّم الألسنة، ويزود أتباعه بالأسلحة المواضي لمحاربة الرذيلة والأمية، فيرجعون إلى قومهم في المدن والقرى والضياع يتغلغلون فيها تتغلغل النيل، فيرشدون الغوي، ويعلمون الجاهل، ويؤاسون المصاب، وينشرون ظلالاً من الدين والمعرفة والمدنية على حياة الفلاح فبسعد بالسلام والوئام والبركة، بينما تجد (الأفندية) يتسكعون على أفاريز الطرق، أو يتقمعون على موائد المقاهي، ينتظرون وظيفة يعيشون عليها، أو جريمة يدخلون فيها
على أن التعليم الديني ليس صالحاً كله، والتعليم المدني ليس فاسداً كله؛ وملاك الأمر هو مزج الخير في هذا إلى بالخير في ذاك، فيكون منهما قوام صالح تتماسك عليه الأخلاق وترتقي به المدارك. وليس في التعليم الأزهري خير إلا في عناصره الأساسية الثلاثة: الدين والعربية والشرقية. فاحتفظوا بها واجعلوا ما عداها درج الرياح. اجعلوها بعد تنقيتها وتقويتها أساساً للثقافة العامة، فإن في الدين رياضة الروح، وفي العربي ثقافة الشعور، وفي الشرقية سلامة الشخصية. ولا يضيرنا إذا قام التعليم على هذه الأسس الثلاثة أن يكون ما تتعلمه أوربياً محضاً لا أثر لعلومنا فيه، ولا صلة لكتبنا به
نريد أن تبسط (المعاهد) سلطانها على التعليم في هذه الأمور الثلاثة، ثم تعلن للمدارس إذعانها فيما عدا ذلك. ولا يتحقق هذا السلطان إلا إذا كان لمادتي الدين واللغة حظ موفور من منهج المدرسة وكفاية المدرس وعناية الوزارة
فإذا سار الأمر في تعليمهما على الوجه الذي يسير عليه في المدارس الابتدائية والثانوية، اضطربت القواعد في الجامعة الأزهرية وأصابها من وهن الأساس وتصدع الجوانب ما أصاب كلية الآداب في الجامعة المصرية، فتبنى على الرمل، وتعتمد على الخواء، وتكتفي بهذه العناوين الضخمة والألقاب الفخمة والمظاهر الخداعة، ثم لا نكون قد فعلنا أكثر من
أننا عمدنا إلى نظام مستقر يفيد بعض الفائدة، فحولناه إلى نظام مضطرب يضر كل الضرر
هذه كلمة عجلى في المشروع لا في الموضوع كتبناها توطئة لما ستنشره الرسالة متى وقفت على قرار الرأي فيه
الماضي والحاضر
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
لقيت مرة صديقاً أثيراً عندي فسألني: (يا أخي أين أنت) قلت: (حيث تراني) قال: (إنا لا نجدك في أي مكان) قلت: (ذاك لأنك تبحث عني في حيث يوجد الناس عادة، وأنا لا أحب أن أكون حيث يكثر الناس ويزدحمون كالمواشي في الحظائر)
بعد هذه الفاتحة ذهبنا نتمشى واستطردنا في الطريق من حديث إلى حديث فكان مما أذكر أني قلته له أني حُرٌّ كهذا الهواء لا سلطان لأحد عليَّ غير طبيعتي - أعمل ما أشاء، وأترك ما لا أرضى، ولا أكون في أي حال إلا على هواي. وأنا حريص على هذه الحرية الشخصية وضنين بها وفي سبيلها ومن أجلها أهمل ما يعنى به الناس غيري، وأصرف نفسي عما تتعلق به النفوس مخافة أن يجني ذلك على حريتي ولو استطعت أن أبت صلتي بالعالم وأحيا بمعزل عنه لفعلت
وكان صديقي يسمعني أفشر وأمعر على هذا النحو، فيقول:(صحيح صحيح) ولم أكن أعلم في تلك الساعة أني أفشر أو أمعر ولا كان قصدي إلى شيء من ذلك، وإنما كنت أتكلم بأول ما يجري في الخاطر كما هي عادة الناس حين يتحدثون، فقلما يكلف الناس أنفسهم في المجالس عناء يستحق الذكر في التفكير فيما يقولون
وعدت إلى البيت وخلوت بنفسي وشرعت أراجعها وأحاسبها قبل النوم على عادتي فأنى أعنى في آخر كل ليلة بتدبر ما كان مني في يومي، وأكره أن أنام قبل أن أفرغ من هذا الحساب، وما دامت صفحة اليوم قد انطوت فلماذا أبقيها مفتوحة. فأنا كالتاجر أو البنك الذي يحب أن يسوي حسابه يوماً فيوماً ويصفي ما له وما عليه في آخر كل نهار
وفي ساعات هذا الحساب الليلي الذي لا يحسه أو يدري به أحد، يخيل إلي أني أخرج نفسي وأجلسها وأجلها أمامي وأقدم لها سيجارة أو أناولها فنجان قهوة وأحييها وألاطفها أولا كما يقضي بذلك الذوق والأدب بين المتمدينين، ثم أفرك كفى وأقول لها بابتسامة عريضة:(والآن تعالي نتحاسب قليلاً) فتمتعض أو على الأصح لا يبدو عليها أنها ترتاح إلى هذا الحساب الذي لا أختار له إلا وقت النعاس، ولكنها لا تبدي لي هذا النفور ولكنها تبتسم متكلفة مثلي وتقول:(ألا ترى أن الوقت متأخر قليلاً) فأقول: (أشكر لك هذا الرفق ولكنا ما
زلنا قبل نصف الليل فلا بأس من حديث قصير) فتقول: (ولكنك تعبت في يومك. . . اشتغلت كثيراً وكددت رأسك جداً، فخير لك أن ترتاح وفي الصباح. . . قبل طلوع الشمس تكون قد استعدت نشاطك وانتعشت فنستطيع أن نتحدث كما تشاء. . . هذا فيما أعتقد خير لك) فأقول لها: (إنك يا نفسي طول عمرك رقيقة عطوف ولولا هذا لما رضيت أن أتخذك ولما طالت بيننا الصحبة إلى اليوم ولكن لماذا نرجئ إلى الغد كما يفعل التلميذ البليد) فتقول: (إن المدارس لا تعلم حكمة الحياة وليس صحيحاً أن على الإنسان أن يتقي إرجاء ما يمكن عمله وإنما الحكمة أن يرجئ إلى غد كل ما يمكن أن يرجئه مما يريد أو يجب أن يفعله اليوم، ولا سبيل إلى الراحة في الدنيا بغير ذلك وإلا صرنا كالآلات لا نستطيع أن ننعم بحياة أو أن نحس لها طعماً وأصبحنا كالذي زعموا أن زوجته فتحت له دكاناً وأقامته فيه وحده ولم يكفها هذا فجعلت تكلفه أن يعمل كل ما يخطر لها فأصبح الرجل لا يعرف رأسه من رجليه فهو أبداً رائح غاد يعمل في الدكان أو في البيت أو يجري في الطريق ليقضي حاجة مستعجلة فشكا إلى بعض إخوانه ما تجشمه زوجته من الجهد والكرب وما تحرمه من الراحة فسأله صديقه ولماذا لا تطلقها وتريح نفسك من هذا العناء كله؟ فكان رد المسكين: (وهل تركت لي وقتاً أن أطلقها فيه)
فضحكت فقالت نفسي: (إنك تضحك ولكن هذا حال من يقبل على العمل إقبالك ويعمل بما علموه في المدرسة من عدم إرجاء ما يمكن عمله)
وتظل نفسي تحاورني وتداورني على هذا النحو وبأمثال هذه السفسطة لتهرب من الحساب فيضيق صدري بها وأهم بزجرها بعنف لولا أن هذا لا يليق وأقول الحق إني أساعدها أحياناً على الهرب لأني في تلك الأحيان أشعر بأن الحساب سيكون عسيراً عليَّ أيضاً وإن الموازين ليست خفيفة عندي
وفي تلك الليلة قلت لها بلهجة رقيقة: (هل كان من الضروري جداً لسعادتك أن تجري لساني بهذا الكلام الفارغ)
فسألتني: (أي كلام فارغ) فقلت: (إني حر كالهواء وإنه لا سلطان لأحد عليَّ وإني وإني إلى آخر ما أطلقت به لساني من الهراء)
فقالت متهربة: (إن هذه لهجة في خطاب النفس لا أظنها لائقة)
فقلت بضجر: (لا تحاوريني كما يفعل هذا الضمير المتعب)
فغمزت بعينها إن هس لئلا ينتبه الضمير الراقد فتكون ليلتنا سوداء ثم قالت بصوت مسموع: (لكن أي كلام ليس أكثره على الأقل فارغاً)
قلت: (صحيح ولكن أني حر كالهواء؟ هذا لا يطاق ولا أدري كيف أزدرده صديقي بلا اعتراض)
قالت: إما أن الصديق لم يفهم أو لم يدرك حق الإدراك وأما إنه فهم وأثر المجاملة واتقاء المصادمة أو هو كغيره يفشر ويمعر فهو يحملك جميل الصبر على فشرك لترده إليه حين يفشر هو) فكادت تفحمني ولكني كابرت وقلت: (ولكني لا أحب أن أكون فشاراً)
قالت: (لا عليك فما أراك كنت فشاراً جداً. إن كل ما قلته هو أنه لا سلطان لأحد عليك غير طبيعتك وهذا صحيح وهو يصدق في كل حالة وعلى كل إنسان)
فسكت وماذا عسى أن أقول، وخطر لي أني قد أباهي ما شئت بحريتي المزعومة في التصرف فلن أكون إلا مخادعاً لنفسي في حقائق الحياة وما دام أني مسير بطبيعتي التي تسيطر عليَّ وتوجهني فأنا لا أستطيع أن أكون إلا ما تسمح لي به هذه الطبيعة فأنا أبدا مقيد بها وفي سجن منها لا باب له ولا أمل في فكاك أو خلاص في هذه الدنيا. وقد تثور نفسي وتمور عواطفي وتفور خواطري ولكنها لا تستطيع أن تفعل ذلك إلا بالقدر الذي تسمح به طبيعتي الخاصة وإلا في محيط هذا السجن. ومهما تكبر البحيرة وتعظم فأن لها من شطئانها حواجز ولا بد من زلزال يغير معالم الأرض لتغيير هذه الحواجز أو توسيعها أو إبعادها وعلى أنها تبقى بعد ذلك حواجز إلا إذا غارت البحيرة كلها واختفت من الدنيا
وخيل ألي وأنا أفكر في هذا أن طبيعتنا أو فطرتنا تجعلنا في حياتنا خاضعين لسلطان يد أو أيد تمتد إلينا من وراء القبور وأن الماضي هو الذي يسيطر علينا لا الحاضر وأنه ليس لنا أن نتجه في سيرنا في هذه الدنيا إلا إلى حيث تديرنا هذه الأبدي الخفية التي تمتد من ظلام الماضي
وتذكرت وأنا أدير هذا المعنى في رأسي كيف تزوجت، وأقص الخبر لأن له دلالته وعلاقته بهذا المعنى. كنت صبياً في الرابعة أو الخامسة - لا حين تزوجت من فضلكم - فزارنا خالي وامرأته ومعهما طفلة لهما من الله بها عليهما فتناولها أبي ووضعها على حجره
وقبلها، وأخذ يداعبها ويلمس خدها الطري الصغير بإصبعه الناشف الكبير لتبتسم ثم ردها إلى أمي ونظر إلى أمي وقال:(هذه إن شاء الله لابننا)
ولم أشهد أنا هذه الجلسة فقد كنت في الكتاب ولكنهم دعوني حين صعدت إلى رؤية (عروسي) فلم أزد على النظر إليها ثم انصرفت عنها غير عابئ بها لأنها لا تستطيع أن تلاعبني ولم أكن أعرف في ذلك الوقت أن هذه التي احتقرتها هي التي ستكون زوجتي يوماً ما. ولو أن أحداً بين لي هذا يومئذ وكشف لي عن الغيب فيه لما فهمته. وقد قصت أمي علي ما دار في هذه الجلسة فيما بعد ولم يخطر لي قط أن أشك في صدقها، فقد كانت رحمها الله لا تكذب. ولا تعرف المحاورة والمداورة أو اللف إلى أغراضها. وقد مات أبي بعد سنوات قليلة ولم يعش لينعم بهذا الزواج الذي رتبه وقرره لابنه الذاهل في طفولته. ولكن ابنه - وأعني نفسي - ظل بعد أن سمع هذا الحديث وعرف رغبة أبيه يدور في نفسه أن أباه كان يشتهي أن يزوجه هذه الصغيرة بعد أن يكبرا فاتجهت نفسي مع هذا الخاطر وصرت أنظر إلى بنت خالي نظرتي إلى زوجتي المستقبلة. وكانت امرأة خالي على عادة بعض الأمهات - تبديها لي تارة وتحجبها عني تارة فأثمرت هذه المحاورة ثمرتها وتعلقت نفسي بالفتاة وصبوت إليها فلما صرت ذا عمل أكسب منه رزقي حققت رغبة أبي وهكذا سيطرت عليَّ إرادة أب مات قبل سنوات عديدة، وقولوا ما شئتم في تأويل ذلك، فلن تخرجوا به عن كونه مظهراً لتحكم الموتى في الأحياء
ومنذ بضع سنوات قليلة دعاني صديقي الأستاذ سليم بك حسن العالم الأثري المشهور إلى زيارة ما كشف عنه من الآثار القديمة عند الهرم في المنطقة التي اتخذتها الجامعة لحفائرها، وقد طاف بنا ساعات طويلة وهو يشرح ويفسر، ولكنه لم يستوقفني من كل ما رأيت سوى أثرين أو نوعين من الآثار: فأما الأول فجدران بيوت قديمة لعلها كانت سكنى لكهنة المعابد أو خدمهم، وقد وقفت مذهولاً أمام هذه الجدران فقد سكنت بيوتاً جدرانها مدهونة على هذا النحو وبهذه الألوان عينها. والذين سكنوا البيوت القديمة قبل أن ترتفع هذه العمائر الجديدة يعرفون ولا شك كيف تدهن الجدران من الداخل باللون الأبيض أو الوردي أو الأزرق، وكيف يجري خط عريض بلون آخر كالحزام للجدار وفوقه خط آخر، وتحت هذين على مسافة عشرين سنتيا أو نحو ذلك خط عريض آخر، وكيف يملأ بين
الخطين العريضين بالرسوم أو النقوش أو يترك ما بينهما بياضاً
هذا الذوق في زخرفة الجدران ليس جديداً وإنما ذوق انحدر إلينا وورثناه من آلاف السنين وعشرات القرون. وقد طغت علينا في السنوات العشر الأخيرة موجة من الغرب، فنحن نقلده في هندسة البناء وفي طراز الزخرفة، ولكنا بدأنا نستنكر أن نظل مقلدين ونستهجن أن نفقد بذلك خصائصنا القومية وذوقنا الخاص الذي نتميز به بين الأمم. وعسير أن يتنبأ المرء بما تؤدي إليه هذه النزعة الجديدة إلى التحرر من أسر الغرب والرغبة في أن نرجع إلى ما تمليه علينا طبيعتنا ومزاجنا القومي الخاص، ولكن المهم أن هذا التقليد ليس إلا نتيجة الشعور بقوة الغرب وضعفنا حياله وتوهمنا من أجل ذلك أن كل ما درجنا عليه مظاهر للتأخر، وأن بقاء ذلك معناه بقاؤنا متأخرين فيجب إذن أن نعجل بتغييره بل بمحوه. ولكنا سنستقر على الأيام فتتغلب علينا خصائصنا أو تؤثر على الأقل فيما ننقله ونقلد به الأمم الأخرى. وما الحاجة إلى الذهاب إلى الهرم للعثور على مثل لتحكم الميت في الحي وسيطرة الماضي على الحاضر؛ هذه الأديان كلها في الدنيا جميعها أهي وليدة العصر الحاضر؟ الإسلام والمسيحية واليهودية والبوذية والكونفشيوسية وغيرها، أحدثها يرجع إلى أكثر من خمسة عشر قرناً. ولست أصدق أن في الدنيا ملحداً بالمعنى الصحيح، ورافضاً لكل دين وكل عقيدة. كان لي صديق لا يزال يفاخر بأنه ملحد لا يؤمن بشيء، وكنت ألومه وأقول له ماذا يعني الناس منك إذا كنت تؤثر لنفسك أن تكون ملحداً. الحد ما شئت فأن هذه جنازتك كما يقول الإنجليز، ولكن أرح الناس من الأثقال عليهم بهذه الآراء التي لا يرتاحون إليها. فكان يضحك مني ويصر على حماقة المفاخرة بشدة إلحاده. ومضت سنوات والتقينا على ظهر باخرة ذاهبة إلى جنوة، واضطرب البحر عصر يوم ورمانا لجه بالزبد، وأنا ممن لا تدور رؤوسهم في البحر مهما بلغ من اصطخاب أمواجه، ولكن صاحبي الملحد أصيب بدوار شديد ألزمه سريره، فقلت أزوره لأطمئن عليه ولأرى ماذا أستطيع أن أصنع له، فدخلت عليه فألفيته ممتقع اللون جداً من طول ما جشأت نفسه ونهضت بلا انقطاع تقريباً، وكان مغمض العين ولكن شفتيه كانتا تتحركان أو تختلجان بما لا أسمع من فرط الخفوت، فملت عليه لأسمع ما هو قائل حتى كادت أذني تلمس فمه، فإذا به يذكر الله ويتوسل إليه أن ينقذه ويخفف عنه. وقد ترددت بعد ذلك، أأعيره بما سمعت منه أم أدعه
لنفسه؟ ثم رأيت أن أتركه وشأنه وأن أدع الأيام ترده إلى اتزان الحكم واجتناب التطاول بعقله القاصر المحدود على ما لا يدرك
ولغاتنا. . . أليست شجرة أصلها في الماضي السحيق. . . وكل لغة تتحكم في عقول أبنائها وتصوغها لهم وتصبها في قوالبها، ونحن نفكر على طريقة خاصة يضطرنا إليها احتياجنا إلى التعبير وفق أحكام خاصة للغتنا الموروثة بألفاظها ونحوها وصرفها وتراكيبها وقوالبها ومجازاتها، أي أننا نفكر على نحو ما كان يفكر الأقدمون من أبناء هذه اللغة. ولا سبيل إلى ذلك ولا مهرب منه
ونظام الوقف ماذا هو. . . إنه ليس إلا نظاماً يستطيع به رجل مات أن يحكم إرادته بعد زواله وخروجه من الدنيا في أجيال متعاقبة من الأحياء. ومن كان يشك في أن الموتى يتحكمون في الأحياء فليذكر هذا الموقف. رجل له مال سيتركه ويرحل عن الدنيا وكأنما يعز عليه أن يده سترتفع وأن ماله ستتولاه أيد غير يديه فينشئ وقفاً يقضي فيه بأن يرث الذكور ولا يرث الإناث أو يرث الإناث ولا يرث الذكور، ويخرج طبقة ويدخل طبقة ويهب من يشاء ويحرم من يشاء، ويتحكم بهذه الوسيلة في إرادات ناس لم يرهم في حياته ولم يعرفهم ولم يحببهم ولم يكرههم. . . أليست هذه يداً ممتدة من وراء القبر توجه الأحياء إلى حيث تريد، وتصرفهم عما لا تريد؟ وهنا موضع التحرز من خطأ قد يسبق إلى الأوهام، فلست أحاول أن أنتقد نظام الوقف أو غيره من النظم، وإنما أنا أسوق مثالاً لسيطرة الماضي على الحاضر وخضوع إرادات الأحياء لإرادات من أدرجوا في القبور. ولعلي لو كنت ذا مال لسرني أن أنشئ وقفاً وأن أعطي وأمنع، وأنعم على هذا وأبخل على ذاك، فأن السرور بذاك التحكم طبيعي والأمم التي لا تعرف الوقف تعرف ما يشبه مثل الوصية، وليس الوقف إلا ضرباً من الوصية أو لعل العكس هو الأصح
ولا يتسع المقام لتقصي وجوه الحياة ومبلغ السيطرة الواقعة عليها من الماضي. ثم إن هذا لا ضرورة له فإني أظن الأمر واضحاً وفي وسع من شاء أن يقيس على ما ذكرت
وليس معنى هذا أن حياتنا تتغير وأن الحاضر صورة دقيقة من الماضي وأن عصراً يذهب وآخر يجيء، بلا اختلاف ولا تفاوت ولا تقدم. كلا فأن القول بهذا لا يكون إلا سخافة. ونحن نشهد التطور بأعيننا في زماننا فمن التعنت أن يحاول أحد أن ينكر أنه لا يزال
يحدث في الدنيا. وإنما معنى ما أسلفت من الأمثلة أن الكتلة البشرية لا ترمي بزمانها إلى كل من يدعوها إلى تغيير حالها وذلك بأن تقاومه وتناهضه ما وسعتها المقاومة لأنها تجري على عادة، والحرص على العادة أسهل من الأخذ بالجديد غير المألوف، ولكنها مع ذلك تتزحزح شيئاً فشيئاً عن مألوفها ولكن ببطء شديد، أو أقل ببلادة إذا شئت. فلا يستطيع من يدعوها إلى الجديد أن يحملها على الأخذ به كلا، فأنها لا تستطيع ذلك ولا تقوى عليه، ولهذا نرى الدعاة إلى الجديد يسرفون في الطلب ونرى الجماعة البشرية تسرف في الرفض أو المقاومة وبذلك ينتهي الأمر بالوصول إلى حد وسط معقول
وقد كانت الكتل البشرية فيما مضى تنتظر أن يجيء الدعاة إلى التغيير من أبنائها، ولكنا صرنا في زمن توثقت فيه الصلات بين الأمم قاطبة وصرنا لفرط السهولة في الاتصال وسرعته كأننا أمة واحدة، فإذا قام داع جديد في إنجلترا فأن صوته يسمع في الوقت نفسه في مصر والصين، وقد لا يحدث في مصر والصين مثل الأثر الذي يحدثه في بلاده؛ والأمر في هذا يرجع إلى درجة التهذيب في كل شعب ومبلغ استعداده لتقبل الدعوات الجديدة لا إلى بطء وصول الدعوة، ومن هنا قلت حاجة الأمة إلى داع خاص من أبنائها، لأن كل داع إلى جديد في أي قطر تبلغها دعوته كما تبلغ أهله، ومن هنا أيضاً صار التطور في زماننا أسرع لأن وسائل التبليغ والإلحاح على الشعوب ضارت أسهل وأسرع وأقوى وأفعل، وحسبنا الصحف والمطابع والإذاعة اللاسلكية مما لم يكن له وجود في الماضي
رأيت منذ أيام سيدة عجوزاً من معارفنا تمشي في الطريق مع زوجها الهرم وفتاتها الناهد، وكنت أعرف هذه الأسرة شديدة الحرص على تقاليد الحجاب. ولكن الزمن جرفها بسرعة التطور الحادث فيه فخرجت الأم العجوز سافرة تنافس بنتها الحديثة في الزينة وسار معهما الأب الهرم لا ينكر شيئاً من هذا الذي كان مثله قبل عشر سنوات يدفعه إلى التفكير في القتل. فهذا مثال لسرعة التطور من جرأة السهولة التي تصل بها الموجات الجديدة من الأمم الأخرى
وأعود الآن إلى بداية الكلام فأقول إن هذه الخواطر وأمثالها أرتني أن الحرية التي أزعمني ناعماً في حياتي أكثرها وهم ومغالطة للنفس في حقائق كبيرة، والقصد على العموم أولى
وأسلم، وإن الحياة لأسر، وكثير على الأسير أن ينادي أنه حر طليق وفي يديه الحديد وله حين يتحرك صلصلة ورنين
إبراهيم عبد القادر المازني
لو كنت الرافعي!
للأستاذ محمد احمد الغمراوي
كنت أقرأ بعض كتابات الرافعي رحمه الله في بعض أعداد الرسالة حركني إلى قراءتها أني وقعت على (وحي القلم) في مجلد واحد نسيه الأستاذ عزام عند الدكتور الدرديري في جمعية الشبان المسلمين، فأخذته أجيل الطرف فيه، وكان كتابي وحي القلم قد استعاره أخ لي فلم أقراه مجموعاً وإن قرأت أكثره متفرقاً في (الرسالة)
قرأت من تلك المقالات الحسان مقالة (دعابة إبليس) وقد ضحكت لبعض تصويره للمواقف ما لم أضحكه من زمن طويل، وسرني أن إبليس شغله الأوربيون يوم الأحد فترك الرافعي يكتب هذا المقال بعد أن ظل يحاوره ويداوره ويعاجزه حتى كاد يعجزه، لولا أن الأوربيين لم يتركوا له وقتاً يوم الأحد!
ورجعت إلى المنزل أردد هذا المقال في خاطري وأجد له تطبيقات وتوجيهات عندي. ومن ذا الذي لا يشاغله إبليس ويعاجزه فيما يروم وفيما يحاول؟ ومن ذا الذي لا يسخر منه إبليس إذ يخدعه المرة بعد المرة عن الشيء بعد الشيء بنفس الطريقة وبنفس النتيجة؟ ومن ذا الذي كلما خدعه إبليس مرة لم يزل يرجو ويؤمل أن تكون تلك آخر مرة ثم يقع في نفس الشرك الذي وقع فيه من قبل - وهو يعلم أنه قد وقع من قبل فيه - يستزله الشيطان بالأمل والرجاء حتى يقع؟. . . كلنا ذلك الرجل فليس فينا مثلاً من لم يخدع مرة بعد المرة عن صلاة العشاء وهو متعب لينام، أو لكي يؤديها بعد في جوف الليل فيجتمع له بذلك مع الفريضة التهجد، فينام ولا يقوم - إن نام - إلا بعد الفجر. وليس فينا من لم يخدع عن الفجر، بل عن الصبح بتسويفه القيام خمس دقائق يتذوق فيها في يقظته بقية الراحة التي كان يجدها في نومه أو ليهدأ فيها جسمه، أو ليجف فيها عرقه، فلا يستيقظ بعدها إلا عند طلوع الشمس. كلنا ذلك الرجل على اختلاف تجاربنا مع الشيطان. وللشيطان طريقته في خدع كل إنسان، لكنني لا أشك في أنه وإن اختلفت خدعه وطرائقه التي يستزل بها الناس،، لا يزال يسوي بينهم جميعاً في شيء واحد هو كره على الواحد منهم المرة بعد المرة بنفس الأسلوب وبنفس النتيجة؛ فإذا خطر لأحدهم في موقف وقفه من قبل أن هذا من الشيطان وأن الشيطان خدعه بهذا من قبل ففوت عليه غرضه، مهد له الشيطان سبيل
الانخداع عن طريق الرجاء وأوقع في نفسه أنه إن يكن ما فاته في الماضي فأن ذلك لن يفوته هذه المرة فسيستيقظ أو سيكتب أو سيعمل عمله الذي ينوي، ولكن فقط بعد أن ينام أو يهدأ أو يستريح أو يفرغ مما هو فيه من موقف في قصة أو في لعبة أو في حديث. فينام أو يهدأ أو يستريح أو يفرغ ولكن غالباً مع تفويت ما كان يمني به نفسه أن يعمله بعد النوم أو الهدوء أو الراحة أو الفراغ. وهكذا دواليك. وليس أعجب في العراك بين خصمين من هذا النوع من الخدع والانخداع بين الشيطان والإنسان، فلو وزن كيد الشيطان هذا بأي ميزان غير ميزان الإنسان لشال فيه أقبح الشيل. وما كان للشيطان أن يغلب الإنسان أبداً بهذا النوع من الكيد بادي الضعف لولا أن الإنسان يعين الشيطان على نفسه بتصديقه إياه فيما قد ثبت له بالتجربة أنه يكذبه فيه. وما أظن الحديث الشريف:) لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) إلا منظوراً فيه في باطن الأمر إلى سد هذا الباب من كيد الشيطان وهو أوسع أبواب كيده. ولكن ما أبعد الإنسان من الوجهة العلمية عن صفات الأيمان!
رجعت إلى المنزل ولمقال الرافعي هذا صدًى يتردد في قلبي وذهني. وكنت أجد في نفسي إعجاباً بطريقته في التصوير وحنكته في التعبير وغوصه في التفكير. وكانت طرفة الطرف عندي في ذلك المقال الطريف خاتمته حين اشتد عجب الرافعي من ترك إبليس إياه يوم الأحد، يوم عطلة الأوربيين كأنهم لم يتركوا له وقتاً! وهي مفاجأة لم يكن يتوقعها القارئ، تدل على لطف ما للرافعي من فن. وتصورته وهو يكتب جاهداً ليفرغ من مقاله قبل أن يسترد إبليس بعض وقته الذي استغرقه الأوربيون ذلك اليوم! وإذا كنا كلنا سواء في الانخداع لإبليس فلسنا كلنا سواء والرافعيُّ في عدم الإلقاء إلى إبليس باليدين وفي التيقظ له وانتهاز الفرصة منه إن لاحت كما انتهز هو انشغال إبليس بالأوربيين يوم الأحد فكتب - رحمة الله عليه - للرسالة ذلك المقال الطريف
دخلت النزل وفي النفس ميل إلى القراءة فذهبت إلى أعداد الرسالة أتلمس ما كتب الرافعي فيها. وقبضت منها قبضة فإذا بيدي الأعداد 131 إلى 140 فقرأت مقالة (اجتلاء العيد)، وكنت وأنا أقرأه أعجب لانثيال كريم المعاني على ذلك العقل، وانحياز نبيل العواطف إلى ذلك القلب، أو بالأحرى تجدد عجبي مما جمع الله الرافعي رحمه الله من حظ في عمق الفكرة ونبل العاطفة ودقة العبارة، وعجبت لبعض من لا يقدرون الرافعي كيف لم يقرءوا
له، أو كيف وقد قرءوا ولم يقدروا ما كتب عن الطفولة يوم العيد في مقالة (اجتلاء العيد)
ثم أخذت في قراءة المقال الثاني من مقالات المشكلة، انظر إلى استخراجه معنى الغيب من كلام المصلح المنتظر، ونابغة القرن العشرين، وإذا بصوت أسمعه رفع عيني وأرهف أذني، وأصغيت أتسمع لذلك الصوت ولآخر يجيبه، ولم يستغرق الصوتان إلا هنيهة أرخيت بعدها جفني أتأمل رنين الصوتين في نفسي فوجدتها مهتزة بمعان شعرت أني لا أحسن تصويرها لو حاولت. فقلت: قضية ولا أبا أحسن لها. لو كنت الرافعي!
وكان الصوت ينادي: (ما - ما) وكان الذي يجيبه صوت أمه هبت من منامها تقول: (نعم - حاضر) وقد رشح الصوتان إلى من خلال الجدار
كان الصوت صوت أبني المريض قد تماثل للشفاء بحمد الله ينادي أمه لبعض شأنه، فكان جوابها ذينك اللفظين تفصل بينها لحظة. وكان أحد اللفظين جواباً على النداء الذي سمعت، والثاني على الطلب الذي لم أسمع؛ وكان حس حركة في الغرفة يشير إلى بقية الجواب. وكان للنداء والجواب وقع في نفسي وشجن لا عهد لي به. ولست أدري أهي الرقة التي يجدها الوالد لطفله المريض، أم هي روح الرافعي في ما قرأت وفي ما كنت أقرأ هيأت نفسي فازداد تأثرها بذينك الصوتين حتى جاشت لهما؛ لكن الذي أدريه أني لو كنت الرافعي في ساعتي الحاضرة لأخرجت للناس من خير ما أخرج لهم رحمة الله عليه في (وحي القلم)
محمد احمد الغمراوي
من أسبوع العروبة والإسلام بالعراق
رسول المجد
للأستاذ عبد المنعم خلاف
يا مجد مولانا محمد! لقد فنيت في تصويرك ألفاظنا المسموعة والمقروءة، ولكن كلماتنا النفسية الهائلة بقيت كما هي مكتومة لم يقرأها الناس ولم يسموعها. . .
وهأنذا أسأل قلمي الميت الجامد التافه. . . ومدادي الأسود المظلم، أن يعينا على تصويرك أيها المجد، وتصوير فتنة النفس وسحرها بك. . .
ولكن ترى هل القصب الميت يتكلم. . . والحبر الأسود ينير؟ ترى هل تسمح الأقدار أن نكشف العلاقات الخفية بين نفوسنا وبينك على ضيقنا ورحابتك؟
هيهات. هيهات. . . فإن تلك منطقة حرام على النطق والتصوير بالكلام!
يا مجد محمد! تجسم تجسم بأشكال القرن العشرين وأثوابه. . أخرج من الكتب والتاريخ مرة أخرى. . . عُدْ عجيباً غيباً كما بدأت غريباً عجيباً. . . كن أجساداً تمشي على الأرض في أشخاص أبنائك الذين أضواهم جوعهم إليك. . . كما تمثلت في أجساد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسين وخالد وسعد والمثنى وابن عبد العزيز وعلي الرضا والرشيد وصلاح الدين وغيرهم وغيرهم من الرجال المصابيح الذين لم تر لهم الدنيا شبيهاً إلا تحت جناحك. .
يا مجد محمد! إنك مجد دنيا عاجلة فاتنة يحن أبناؤها إليها ويحبون أن يتحدثوا عنها أحاديث البطولة والجيوش والقواد والعلماء وفتوح الأقلام وفتوح السيوف. . .
كما أنك مجد دين وروح وأخرى وملكوت خفي يتصل بالنبوة والرسالة وما وراء الطبيعة. . . إنك مجد الظاهر والباطن والمعلن والخفي. . .
إنك مجد اليتيم الفقير الراعي الحي الأمي الذي وقف وحده في جوف الصحراء يقول للعالم الأرضي كله: إلى أين أيها العالم؟ إلى أين؟ أنت مصروف عن وجه الله ذي الجلال، وعن الحق الذي قامت به السموات والأرض. .!
إنكم جميعاً أيها الناس تطلبون الله. . ولكنكم جميعاً أخطأتم السبيل إليه. فليس الله حجراً ينصب ويعبد، وليس إلهاً خاصاً ببني إسرائيل يحب الدم والذهب، وليس له صاحبة ولا
ولد، وليس كوكباً يشرق ويغرب وينطفئ يا عبدة الكواكب، وليس يرمز إليه بالنار التي توقد من الطين وشجر الطين أيها المجوس، وليس يطلب عذاب الجسد أيها الهنود، وليس القوة كل شيء في سياسة الحياة أيها الرومان، وخففوا من الفلسفة الشاردة وبلبلة الأفكار أيها اليونان. . .
فتقول له الوثنية العربية والجاهلية العريقة: يا ابن أبي كبشة. . أأنت تتكلم من في السماء؟! أألقي الذكر عليك من بيننا؟! إنك لمجنون. . . إن أنت إلا ساحر. . . إن أنت إلا مسحور. . .
وتقول له الأديان والمذاهب والفلسفات: من أنت أيها الصحراوي الأمي حتى تكون المهيمن على الأديان والمذاهب وصاحب البلاغ الأخير من السماء إلى الأرض؟ ما هي ثقافتك؟ أتعرف فلسفة سقراط وطب بقراط وحكمة أفلاطون وافلوطين. .؟
فيقول لهؤلاء جميعاً: (لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمراً من قبله)
إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ. . .) (إنما أعظكم بواحدة: أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة. . .)
وتقول له السماء: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن). (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الأيمان، ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا)(فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين)(واصبر لحكم ربك فإِنك بأعيننا)
فيمضي بطريقه المملوء بالأشواك والأوعار والمؤامرات والمكايدات حتى يظهر الله كتابه ويبسط سلطانه على مراكز الحضارات. وها أنتم أولاء تسمعون صدى ذكراه في جوف الليل. . بعد ألف وكذا من السنوات. وسيسمع الدنيا حديثه دائماً
سيداتي سادتي:
لماذا ندير حديث الذكرى المحمدية مثنى وثلاث ورباع وأكثر؟ لماذا نملأ الأجواء بضجة التهليل والتمجيد لروح محمد ومجد محمد؟
لماذا ترغم بغداد ودمشق والقاهرة وصنعاء وأنقرة وطهران وكابل وكل عاصمة عربية
وإسلامية على السجود تحت أقدام مكة والمدينة؟
لماذا نثير من تراب مكة والمدينة قبضات في أجواء العالم الإسلامي حتى تكتحل به كل عين ويتوضأ منه كل وجه وتمتلئ به كل رئة؟
لماذا كل هذا؟
كل هذا لأننا نريد ونتوقع أن يرجع مولانا محمد إلى الأرض مرة ثانية في أشخاصكم أنتم أيها المسلمون، لأن الأرض حبلى مجنونة تلد كل يوم فرادى وتؤامى من الجرائم والنكبات والشناعات والقساوات وحرب الآراء والجماعات، ولن ينقذها إلا دكتاتورية رحيمة عادلة معقولة مثل دكتاتورية محمد كما يقول برناردشو الكاتب الأشهر. . . ولأننا نريد أن يؤمن المسلمون بأن المستقبل لهم لا محالة إذا ما بدءوا نهضة نفسية مبنية على تعاليم رسولهم التي تميت النزعات الآثمة الدنيئة التي تدور حول حب الحياة حباً يذهب أخص مميزات طالبي المجد. . .
ولأننا نريد أن نثبت دعائم النهضة العربية والإسلامية في النفس أولاً حتى لا تعبث بها الرياح أو يتسرب إليها السوس
وقد ضربت وضرب كثيرون على أوتار جديد في أحاديث الذكرى النبوية، ذلك لأننا نريد أن يفهم المسلمون إن الإسلام لم يكن مطلوباً ضرورياً لنا كدين نحن مقتنعون بصحته، ومكلفون التعبد به حتى نصفي نفوسنا. . . فهو على أقل تقدير أولى المبادئ التي يجب أن نعتنقها حتى نزيح عن أنفسنا وديارنا كابوس الاستعمار وضغطه الذي لا يرفعه عنا إلا مبادئ الإسلام العملية الصارمة التي أولها امتلاك كل منا نفسه ووضعه قلبه على كفه، واعتبار كل منا نفسه قوة هائلة تستطيع أن تفعل الأعاجيب في الأرض
ومتى امتلك المرء نفسه وملكها لمحمد، فلا والله أن تصل إليه قوة أرضية بسيف حديدي أو ذهبي. . . ومتى وضع كل امرئ قلبه على كفه، فليست هناك قاذفات قنابل أو مدمرات بارود تستطيع أن تدنو من ذلك القلب الصغير الذي صنعه الله من معدن سماوي لا يصل إليه كيد إلا من داخله. . .
وإلا فخبروني لماذا حتم القرآن في بعض آياته وظروفها على المسلم ألا يقر أمام عشرة من المشركين بل بجانبهم ويجالدهم حتى يقتلهم أو يقتل؟
وخبروني: كيف حلا لأهل بدر وهم ثلاثمائة ليس معهم إلا فرسان وسبعون بعيراً أن يقابلوا جيش المشركين، وهو ألف معهم عتادهم وخيلهم ورجلهم. . . ثم تنتصر الفئة القليلة وتأكل أرض بدر سبعين جسداً من يآفيخ الشرك؟
بل خبروني كيف حلا لسبعين عراقياً ومثلهم من الفلسطينيين ومثلهم من الأردنيين والسوريين أن يواجهوا جبابرة البر والبحر في ثورة فلسطين الماضية؟
وكيف استعصى على مالكة العباب والتراب والسحاب والكلاب البوليسية أيضاً أن تتعقب تلك الشراذم المفرقة على شعاب الجبال كالنسور والصقور، والتي تدير رحى ثورة ما عرف التاريخ لها مثيلاً في ضلاعة الرجال وصبرهم وإيمانهم بحقهم؟
وقد أخبرني هنا في العراق أحد كبار الصقور الذين كانوا يجاهدون في الثورة الماضية قبل تدخل ملوك العرب، أنهم كانوا يفعلون الأعاجيب. . . وأن الأقدار الإلهية كانت معهم بالتوفيق والإلهام، وأنهم لم يعفوا تفسير آيات الجهاد التي وردت في القرآن الكريم، والتي تجرد المسلمون من منطق الضعف ووسواس الحذر إلا في هذه الثورة. . . وأنهم اكتشفوا سرًّا خطيراً هو أن المسلمين يستطيعون أن يفعلوا أشياء عظيمة تثبت كيانهم وتعجل استقلالهم وتعيد إليهم مجدهم، ولكنهم يجهلون أنهم يستطيعون، أو لا يجهلون. . ولكن سادتهم وكبراءهم ورجال سياستهم وهم سبب الضعف والشلل وأصل الخوف والبلاء، وأنهم يفرطون ولا يستطيعون أن يلعبوا أدوارهم في الوقت المناسب، وأن سياستهم - إن كانت لهم سياسة - مكشوفة يقصد بها الشهرة وأنهم غافلون عن الأسباب السريعة التي تحيل النفوس الخزفية إلى نفوس حديدية، وانهم يجهلون بتاتاً روح (محمد)، أو يعرفونها ولا يستخدمونها خوفاً من الاتهام بالرجعية والتعصب. . . وأنهم فوق ذلك وأدهى من ذلك متفرقون مختلفون متناطحون كالثيران التي في المجزرة وهي لا تعلم لماذا هي في المجزرة!
أيها السادة:
إننا لسنا هازلين في نهضتنا. لقد طال رقودنا وركودنا وقد عزمنا أن تحيا أولاً جامعتنا العربية المكونة من ثمانين مليوناً هم في مركز الأرض كما تحيا أي جامعة. . . لنؤدي رسالتنا السامية في الحياة. ولن يعوقنا عائق مهما كان ملفقاً بالحديد والنار والذهب لأننا
القوة التي اختارها الله لحمل رسالته الأخيرة وقوة الله لا تغلب (والله أعلم حيث يجعل رسالته) وقد تكهرب الجو وتكهربت نفوس المسلمين والعرب، وامتلأت الأفواء باللعنات والسخط والحقد، ودب دبيب إحساس جديد في جميع الأقطار العربية. واقسم بالقدر وقوانينه وبسنن الله التي لا تتخلف نتيجة فيها نتيجة عن مقدماتها. . . أني أحس أن الزمن يتمخض عن شيء هائل! وأن أجواف المسلمين وقلوبهم تغلي الآن لأنهم يوقدون على قلوبهم بالحديد والنار في فلسطين!
أيها المسلمون! أيها العرب! تربصوا واستعدوا واغسلوا قلوبكم بتراب محمد الذي في كل ذرة من ذراته قطرة دم مقدس من هريق في سبيل مجدكم وعزكم. ولا تهابوا شيئاً ولا تفرضوا الفروض الوهمية أيها السياسيون
يا أسبوع الذكرى. . . ذكرى مطهر الأرض من قذارة الروح وقذارة العقل وقذارة الجسم. . . طهر نفوس المسلمين، واغسلها من الأوهام والضعف والجهالات!
أيقظهم من تحذير البنج المعطر الذي خدرتهم به سحرة أوربا لأجراء عملية جراحية عظيمة في جسومهم إلا وهي إخراج قلوبهم العظيمة الموروثة من ميراث محمد، ووضع قلوب صغيرة حقيرة منخوبة كافرة في موضوعها!
ارفع عن عيونهم المناظير الملونة المكيرة للتوافه التي تريهم الهر أسداً والحبل جبلاً، والجزية حرية، والرصاص ذهباً!
ارفعها عن عيونهم حتى لا يخدعوا بالعناوين التي لا وراء منها وحتى لا يخدعوا بالتراب المزوق عن اللباب المحض والصفو الخالص؟
يا أيتها الأيام السبعة كوني صلوات سبعاً تعيد إلى المسلمين الإيمان بأن منقذهم في السياسة والأخلاق والاقتصاد والحرب والسلم لن يكون غير محمد صاحب الذكرى ورجل الدنيا!
اجعلي صباحاتك السبع إشراقاً وضياء بالأمل والعمل
احفظي كل كلمة من كلمات الخطباء والشعراء والمنشدين من الضياع.
سجليها في أعصاب سامعيها حتى تستحيل إلى أجراس دائمة الرنة والدعوة إلى استحضار صوت النبي في الضمائر آمراً: جاهدوا وادأبوا وكابدوا، صارخاً: طالبوا وغالبوا وصابروا ورابطوا.
كونوا نظيفي المادة قديسي الروح. كونوا علماء وجنوداً وتجاراً. كونوا تجاراً. . . كونوا تجاراً. . . ولا تعبدوا الوظائف الحكومية التي يؤكل فيها الخبز بدموع الذلة وخيانة الواجب
أيها السادة:
يجب ألا يتغير المثل الأعلى الذي وضعه مولانا محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين لأنه المثل الأعلى للإنسانية. ويجب أن يفهم كل مسلم ذلك حتى يعرف قيمته ومركزه في البشرية، كما يجب على أرباب الأديان الأخرى أن يرحبوا بعودة المسلمين لدينهم، فمن الخير لأرباب الأديان أن يعود قلب المسلم كما كان في عهده الأول
وليعلموا يقيناً أن المسلم بغير دينه يكون وحشياً متعصياً مؤذياً أنانياً قذراً. . . أما بدينه فهو إنسان رحيم قائم على نفسه وعلى الناس بالحق والعدل كما أوصاه الله
وليعلم المسلم أن أول ما يبدأ به في الإصلاح: البيت. البيت
عبد النعم خلاف
فلسفة التربية
تطبيقات على التربية في مصر
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 18 -
(. . . وثقافة الإنسان لا تقدر بمقدار ما قرأ من الكتب وما تعلم من العلوم والآداب، ولكن بمقدار ما أفاده العلم، وبمقدار علو المستوى الذي يشرف منه على العالم، وبمقدار ما أوحت إليه الفنون من سمو في الشعور والتذوق للجمال!)
(احمد أمين)
(للرجل المثقف جسم خاضع لإرادته، وعقل صاف متئد القوى سهل العمل مليء بما في الطبيعة من حق عظيم وقوانين كلية، هذا إلى امتلاء بالحياة المنسجمة الخادمة لضميره الحي، وإلى حب للجمال وكره للقبح، وإلى احترام للنفس وللناس، وإلى وفاق تام مع الطبيعة يفيدها فيه ويستفيد منها، ويسير معها كوزيرها أو ترجمانها وهي كأمه الحنون!)
(هكسلي)
8 -
خريج اليوم
أقرأت هذين القولين العظيمين فيما مرَّ عليك من قواعد وأصول؟ وهل أدركت ما يرميان إليه من معنى سام دقيق هو قوام الشخصية الكاملة التي تنشدها التربية الحديثة في الجماعة الديمقراطية؟ إن يكن أفليس من الخير أن أبحث معك عن نتائج ذلك (المجهود الهائل) الذي تبذله الدولة في التربية والتعليم، كيما نستطيع أن نقدر هذه المدارس بطرائقها، وتلك المعاهد بأساليبها؟ أليس من الخير أن تنشد جماعة (الخريجين) لندرسهم ما داموا هم غرض التربية الأول والأخير؟ ألحق أن كل نظام يغفل درس نتائجه وتقويمها وتقديرها قدرها الصحيح يعرض نفسه دائماً لآفة الرجعية والجمود والفشل والاضطراب! فترى ماذا عسانا واجدين إذا شئنا أن ندرس (خرِّيج اليوم) على ضوء هذه الأصول العامة التي قدمنا بها لذلك النقد المر البريء؟ سأحاول جهد المستطاع أن أرسم لك صورة واضحة شاملة
ترى في خطوطها المتكسرة ظلا لما يمكن أن يكون عليه (السواد الأعظم) من مدارسنا. ولك بعد هذا أن تحكم على ذلك المجهود الهائل بما تريد، وأن تلتمس لعلاجه كل ما يمكن أن يفيد!
1 -
الشخصية الكاملة
ولقد علمت فيما مضى أن التربية الصحيحة تنشد تكوين (الشخصية الكاملة) بكل ما في الكمال من معنى، وأن كمال الشخصية إنما ينحصر في (عقل) منطقي سليم التفكير مستقل الحكم رائده الحق وحده، وهي عاطفة مصقولة مهذبة تغذي الخلق القويم وتسكب على الحياة من أسرار الجمال ما يملؤها نعيماً ورغداً وفخاراً وشرفاً، وفي جسم قوي العضلات مفتول الساعد يقوم كهيكل مقدس للروح الخالدة وكأساس وطيد للعقل السليم والعاطفة المستقيمة، أجل! لقد علمت ذلك فيما مضى، فتعال إذاً يا صاح نبحث عنه في تلك الشخصيات القائمة في (الديوان) وغير الديوان علَّنا نسمع أو نرى. . .!!
2 -
العقل
وقد مر بك أيضاً أن (العقل) هو ما جعل الإنسان إنساناً، وأنه يجب أن يقوم في النفس مقام السائق في العربة، حتى لا يجمح بها جوادها! وأنه يجب أن يصيب من الغذاء الصالح كل ما يشبع نهمه المطلق حتى يستطيع صاحبه أن يدعى بحق أنه يحيا حياة إنسانية رفيعة، وأن غايته الفريدة إنما هي (الحق البريء) في شئون الكون وشئون الحياة على السواء! وأن الخطأ الذي قد يتعرض له في أحكامه الخاصة والعامة يمكن أن يُجتنب بقوانين المنطق وطرق التدريس إذا حَسُنَ استعمالها؛ وأن وأن وأن مما قد لا يتسع الوقت لذكره! فأين ذلك كله أو بعضه يا عزيزي في (خريج) ذلك التعليم؟؟ أين هو العقل المسيطر؟ وأين هو العقل العاشق للعلم؟ وأين هو العقل السليم في أحكامه؟ وما لحياتنا تعج بأنواع الفوضى؟ وما لعقولنا تمتلئ بالقشور والسطحيات؟ وما لها تخطيء كل يوم فيما تكيف به الحوادث والحقائق خطأ قوامه الجهل أو الميل أو ما شئت غيرهما؟ لست أتكلم عن سواد الشعب ولكني أتكلم عن المثقفين وحملة الشهادات المتوسطة والعالية! أين فيهم ناشد الحق للحق وحده؟ وأين فيهم محب العلم للعلم فحسب؛ وما بالهم لا يقرءون بعد تخرجهم ولا
يبحثون ولا يؤلفون؟؟ وما لك لا تجد في أيديهم - إذا وجدت - غير الأوراق التافهة من كتب ومجلات؟؟ وما لك لا تجدهم إذا بحثت عنهم في غير أوقات عملهم - إلا مكدسين في القهوات يتكلمون كثيراً في غير ما شيء، ويضحكون كثيراً على لا شيء؟! ما لهم لا ينتظمون في الجمعيات الإصلاحية المختلفة؟ وما لنواديهم تبقى خاوية على عروشها بينما هم يعمرون ما تحتها مقاهٍ وحانات؟! ثم ما لآرائهم الاجتماعية والسياسية تضطرب فهي آناً مع الحق الذي لا تعرفه! وآناً مع الحق الذي لها فيه غنم أو لذويها فيه نصيب! وآناً ثالثاً مع كل قوى التعبير جعجاع القول مموه الخطابة زائف المعنى؟! الأدب الرفيع في مصر هل له حياة عند غير أهله وعارفيه وهم أقل القليل؟ والعلم الدسم في مصر هل يجد له شارباً حتى من أولئك الذين درسوا فيه شيئاً، فلما نالوا (الشهادة) وكسبوا الوظيفة ركلوه بأرجلهم ومضوا يشبعون كل شيء غير العقول؟!
ذلك وكثير غيره واقع وملموس!! فالمتعلمون هنا يتعلمون للعيش فحسب؛ والعلم عند أكثرنا وسيله لا غاية قط، والطريقة التي (نتعاطاها) بها كانت وما زالت في بعض نواحيها رثة بالية لا تحببنا فيه ولا تحببنه فينا، ولذلك ما نلبث أن نهجره وما يلبث أن يهجرنا!. ومن هنا لا تعجب قط إذا أدركت في متعلمينا عقول العصافير، وسمعت منهم زقزقة الطير، وتبينت في أنوفهم هذا الكبرياء وذلك الغرور، ولاحظت في حياتهم هذا الإقفار الأليم من (دنيا العقل) وسلطان العلم!
لست أنكر أن في الجامعة بعض ما قد ينشر بجيل جديد! ولكني ما زلت أخشى أن تطغى الحياة القاسية على الشباب الموموق فتزيل من نفسه ذلك التعلق بالحياة العلمية كما قد أزالته حتى في الكثير من رجال البعثات أنفسهم!! ذلك أن هذا التعلق مصطنع ودخيل وحديث، ولذلك ما يلبث أن يخمد في الكثيرين فإذا هم يسيرون في التيار العام ناسين أو متناسين آمالاً باسمة وأطماعاً هائلة!! ولست أنكر أن فينا من يؤلف وينتج ويخرج من الآثار الأدبية والعلمية كل ثمين قيم؛ ولكن ألا ترى معي أن علمنا ما زال عالة على علم الغرب، وأن تأليفنا يقل فيه (الإبداع) أيما قلة، وأن الكثير من رجالنا إما (معربين) فحسب، وإما (ملخصين) لا غير، وإما (قارئين) مع (الهضم) أو (عدمه)؟ ثم ألا ترى معي أيضاً أن الدولة مقصرة في حق رجال الأدب والعلم أيما تقصير، وأنها إذا كانت لا تعمل على
تكوينهم تكويناً سليماً، فهي ما تزال تتركهم يكافحون الحياة القاسية بسواعدهم، وينفقون زهرة عمرهم ويوجهون نشاط عقولهم وقلوبهم إلى كسب قوتهم وقوت عيالهم فحسب، وإن هي تنبهت وقصدت إلى الأخذ بيدهم، فقلْ أن يأتي ذلك منها خالصاً سليماً، لأنها إما أن تعطيهم الأجر الضئيل، وإما أن تقذف بهم في عمل بغيض لا صلة له بعلمهم أو فنهم قط، وإما أن تسيء تقدير عملهم بالقياس إلى الأعمال الأخرى، إلى حد يزهق نفوسهم ويميت حماسهم.
وها أنت ترى أن (المعلمين) في مصر هم خير رجال العقل وأجدر الناس جميعاً بالمساعدة والتشجيع، وأن النهضة العلمية إنما قامت وتقوم على كواهلهم.
فماذا فعلت الدولة لهم وماذا قدمت غير ذلك العمل المرهق الذي يحرق أعصابهم، وغير ذلك الأجر الضئيل الذي لا يقارن بأجر غيرهم من رجال الدولة العاملين!؟ وإلى لقاء حيث أحدثك عن نواحي أخرى. . .
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بشبرا الثانوية الأميرية
من برجنا العاجي
ما أجمل (المكرسكوب) إذا وضع إلى جانب (الكمنجة)!! في مصر والشرق العربي قلما نجد هذا المنظر. فأن رجل العلم ذا النفس الحساسة بالجمال الفني قليل. أعرف مع ذلك واحداً هو الدكتور حسين فوزي مدير إدارة الأبحاث المائية في الإسكندرية، فهو عندي أثمن ما في الإسكندرية. ما أكاد أضع قدمي في هذه المدينة حتى أسرع إلى (معمله) أشاهد أسماكه الغريبة تلعب في أحواضها البلورية، وأراقب مخلوقاته العلمية تنبض تحت الميكروسكوب. إلى أن يحين وقت الغداء فيخلع رداء المعمل الأبيض ويقودني إلى مسكنه حيث يطعمني خير الطعام ويحمل (الكمنجة) ويعزف لي إحدى (سونات) بيتهوفن التي أحبها. على أن هناك متعة نفسية أخرى طالما انتظرتها منه وطالما أغريته بها: القلم. لكنه كان يماطلني ويهرب مني كالعصفور الذي يهرب من الشبكة؛ وأخيراً وقع وحمل القلم ونشر كتابه (سندباد عصري) يصف الجانب الإنساني من رحلته العلمية في بعثة السر جون مري إلى المحيط الهندي، بأسلوب كالبحر الذي أمامه زاخر بعناصر الحياة وأنواع الصور مع خفة روح ورشاقة تعبير.
وذهبت مع الدكتور فوزي منذ أيام أقدمه إلى وزير المعارف فأبتدره الوزير قائلاً:
- حذار من توفيق الحكيم أن يفسد عليك العلم ويغريك بالأدب!
فابتسمت أنا ابتسامة ماكرة. وأخرج صاحبي من تحت إبطه (كتابه) وقدمه دليلاً ناطقاً على أن الإفساد قد تم وأن الأغراء قد حصل!
أما أنا فسروري كذلك قد تم. فأني سوف أرى في زيارتي القادمة للإسكندرية (المكرسكوب) و (الكمنجة) و (القلم) جنباً إلى جنب: أجمل رمز لاجتماع العلم والفن والأدب في كائن آدمي واحد. وتلك إحدى معجزات الظروف التي لم تتهيأ إلا لمثل (إينشتين) اللاعب بالفكر واللاعب بالكمنجة. أما اللعب (بالقلم) فلم يغره بعد شيطان من الشياطين! فطوبى لحسين فوزي الذي اكتملت فيه الهبات الثلاث!
توفيق الحكيم
محمد إقبال
شاعر الإسلام وفيلسوفه
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 1 -
ينتسب إقبال إلى أسرة قديمة برهمية دخلت في الإسلام منذ ثلاثة قرون. وكانت تقيم في كشمير، ثم اضطرتها الحادثات أن تهاجر إلى البنجاب. وأستقر بيت إقبال في سياليكوت من إقليم البنجاب حيث ولد سنة 1876؛ وبدأ تعليمه في هذا البلد وظهرت فيه مخايل النبوغ، وكان يسبق أقرانه ويظفر بمكافآت الحكومة التي تمنحها للنابغين من التلاميذ. وفي سيالكوت درس الأدب الفارسي والعربي على مير حسن أحد الأدباء النابهين.
ثم أنتقل الشاب النجيب إلى لاهور فدخل كلية الحكومة ولقي بها السير توماس آرنولد فأخذ عنه الفلسفة. وقد سمعت الأستاذ آرنولد يفتخر بأن إقبالاً تلميذ له. وأتم إقبال دراسته متفوقاً ظافراً بالجوائز الكثيرة. ثم نصب مدرساً للفلسفة في الكلية الشرقية بلاهور.
وقد شدا إقبال الشعر وهو تلميذ فانتظر الأدباء منه شاعراً عظيماً. وفي سنة 1905 سافر إلى أوربا فدرس في كمبردج ثم في ميونخ حيث نال درجة دكتور في الفلسفة. وكان في أوربا مثال الجد والمثابرة وموضع ثقة أساتذته. وقد أستخلفه أستاذه آرنولد حينما غاب عن كمبردج شهوراً. ولم ينس في أوربا أن يدافع عن الإسلام ويبين مزاياه فألقى في إنكلترا محاضرات في هذا الموضوع.
ورجع الدكتور إقبال إلى الهند سنة 1908 فأحسن قومه استقباله راجين فيه خيراً لأمته ودينه. وعمل في المحاماة واستعانه المسلمون في الكثير من شؤونهم. وما زال يزداد مكانة في السياسة والأدب حتى بلغ ما بلغ من المجد وذاع صيته في الهند وغيرها.
ولا يتسع المجال لتفصيل الكلام في تاريخه وسياحته في الهند والأفغان وفي الأندلس وأوربا وذهابه إلى مصر والقدس.
بدأ إقبال نظمه في اللغة الأوربية فنشر في الصحف وأنشد في المجامع قطعاً كثيرة جمعها بعد في ديوانه الذي سماه (بانك درا) أي (صوت الجرس).
ففي هذا الديوان أول أشعاره، ولكنه لم يكن أول دواوينه انتشاراً. وهذه كتب إقبال على ترتيب نشرها:
1 -
أسرار خوري
2 -
رموز أبن خوري
3 -
بانك درا
4 -
بيام مشرق
5 -
زيور عجم
6 -
جاويد نامه
7 -
مسافر
8 -
ضرب كليم
9 -
بال جبريل
وقد مات وهو ينظم: أهلك حجاز
ومن هذه المنظومات السبع ثلاث في اللغة الأوردية، هي: بانك درا، وضرب كليم، وبال جبريل، والأخريات في الفارسية.
وله غير ذلك مؤلفان باللغة الإنكليزية، الأول تطور ما وراء الطبيعة في فارس، والثاني: محاضرات حاول فيها أن يبني العقائد الإسلامية على فلسفة جديدة وجعل عنوانها: إصلاح الأفكار الدينية الإسلامية.
فأما منظوماته: بانك درا، وزيور عجم، وضرب كليم، فقد ضمنها قطعاً كثيرة تبين عن مناح كثيرة من فلسفته وعواطفه يتناول فيها العالم والإنسان والأخلاق، ويحاول جهده إيقاظ الشرقيين عامة والمسلمين خاصة، وتبصيرهم بطرائق الحياة وإشعال الحماسة والغيرة والإقدام فيهم.
وأما منظومتاه الصغيرتان: مسافر وبال جبريل فقد سجل في الأولى ما أثارته في نفسه زيارة أفغانستان إذ دعاه ملكها المرحوم نادرشاه هو وبعض مفكري الهند ليستشيرهم في إنشاء جامعة في كابل، وفي الثانية مشاهده في بلاد الأندلس.
وأما جاويد تامه فهي رحلة في الأفلاك، دليله فيها جلال الدين الروسي لقي بها عظماء
المسلمين من ملوك وأدباء وعلماء، ومنهم بعض رجال العصر. كالسيد جمال الدين الأفغاني وسعيد حليم باشا ومهدي السودان وقد سماها باسم أحد أنجاله جاويد، وأراد بها بناء جيل جديد.
وأما بيام مشرق فقد جعله جواباً للشاعر الألماني الكبير جوته عن ديوان الغرب الذي أسف فيه لما أصاب المدنية الغربية وتمنى أن يمدها المشرق بعقائده وعواطفه.
وإذا عبرنا هذين الكتابين عرفنا فلسفة إقبال وآراءه ومذاهبه في الحياة وخياله وفنه في الأدب:
نشر بيام مشرق سنة 1923 وكتب على صفحته عنوانه: (ولله المشرق والمغرب) وكتب تحت أسم الكتاب (في جواب الشاعر الألماني جوته). والديوان أقسام:
الأول: لاله طور: أي شقائق الطور، وفيه 163 رباعية.
والثاني: أفكار، وفيه عناوين مختلفة مثل الوردة الأولى، تسخير الفطرة وهي محاورة بين آدم وإبليس، فصل الربيع، الحياة الخالدة، أفكار النجوم، محاورة العلم والعقل، الحكمة والشعر، قطرة ماء، العبودية.
والثالث: من باقي - أي الخمر الباقية، وهي قطع متشابهة فيها نزعة التصوف ممزوجة بفلسفة الحياة.
والرابع: نقش فرنك، وفي هذا القسم يتكلم عن عظماء الفلاسفة والشعراء في أوربا ويبين رأيه فيهم.
وهذه أمثلة من شعر إقبال في هذا الديوان بعد أن تذهب الترجمة النثرية بكثير من جمالها وروائها.
الحياة
بكى سحاب الربيع في جنح الليل فقال: هذي الحياة بكاء مستمر فتلألأ البرق الخاطف:
قد أخطأت! إنها لمحات من الضحك
ليت شعري من روى للبستان هذا الحديث فهو حوار مستمر بين الندى والورد
اليراعة
سمعت اليراعة تقول: لست كالنملة ينال الناس شرها؛ ولست كالفراشة تصطلي بنار غيرها، أنا أشتعل بنفسي ولا أحمل لأحد مَنّا، إذا صار الليل أحلك من عين الظبي أنرت بنفسي لنفسي الطريق
الحقيقة
قالت العقاب بعيدة النظر للعنقاء: إن الذي تدركه عيني سراب. أجابت العنقاء: أنت ترين ذلك، ولكني أعلم أنه ماء. فنادت السمكة من لجة البحر: هنا وجود لا شك فيه، وهو في هياج واضطراب.
الحكمة والشعر
ضل أبو علي في غبار الناقة، وأمسكت يد الرومي ستر الهودج. هذا غاص حتى ظفر بالجوهر اللألاء، وذلك دار مع الغثاء على وجه الماء. الحق إن لم تكن فيه حرقة فهو حكمة، وهو شعر إذا قبس من القلب ناراً
الوحدة
ذهبت إلى البحر فقلت للموج المصطخب: أنت في سعي دائم فما خطبك؟ في جيبك آلاف اللآلئ فهل في صدرك جوهر من القلب كالذي في صدري. فأضطرب وجزر ولم يحر جواباً.
ذهبت إلى الجبل فسألت: ما هذا الجمود؟ ألا ينال سمعك صيحات وآهات المحزونين؟ إن يكن العقيق الذي في أحجارك قطرات من الدم فحدثني فإني محزون
فأنقبض وصمت ولم يحر جواباً
قطعت طريقاً بعيدة. . . وسألت القمر: يا جَّواب الآفاق! هل قُدر لك في سفرك قرار؟ العالم حديقة ياسمين من شعاع وجهك، فهل نور وجهك من قلب يتجلى؟ فرأى رقباء بين الأنجم فلم يحر جواباً
تخطيت القمر والشمس إلى حضرة الحلاق فقلت: ليس في عالمك ذرة تعرفني. العالم خلو من القلب وأنا قبضة من التراب، ولكنها كلها قلب
إن هذه المروج جميلة ولكنها ليست أهلاً لنغماتي. فتبسم ولم يحر جواباً
نسيم الصباح
إني آنية من صفحات البحار وقمم الجبال ولكن لست أدرى من أين أهب. إني أبلغ الطائر المحزون رسالة الربيع وأنثر في داره فضة الياسمين. وأنقلب في المرْج وألتف على أغصان الشقائق فأبعث اللون والرائحة من مسامّها، وأتعلق رفيقة رفيقة بأوراق الورد والزهر حتى لا أثقل على أغصانها، وإذا رأيت شاعراً هاجته هموم العشق خلطت بنغماته نفساً بعد نفس
العشق
عندي خبر هذه الكلمة الأخاذة للقلوب والتي هي سر وليست بسرْ. أنا أنبئك من سمعها وأين سمعها! استرقها الندى من السماء فأوحاها إلى الورد، وأخذها عن الورد البلبل، ونَثتَها عن البلبل ريح الصبا
نغمة حادي الحجاز
يا ناقتي الخطّارة
…
وظبيتي المعطارة
وعدتي والشارة
والمال والتجارة
…
يا دولتي السيارة!
حثي الخطى قليلاً
…
منزلنا قريب
جميلة الرواء
…
مطربة الرغاء
محسودة الحسناء
…
وغيرة الحوراء
بنية الصحراء!
حثي الخطى قليلاً
…
منزلنا قريب
كم غصت في الشراب
…
في وقدة اليباب
وسرت لم تهابي
…
في الليل كالشهاب
والنوم عنك نابي
حثي الخطى قليلاً
…
منزلنا قريب
قطعة غيم غادي
…
سفينة الرواد
كالحظر في البوادي
…
تمضين في سداد
فلذة قلب الحادي!
حثي الخطى قليلاً
…
منزلنا قريب
هيامك الزمام
…
وسيرك الأنغام
يتعبك المقام
…
لا الجوع والأوام
والسفر المدام
حثي الخطى قليلاً
…
منزلنا قريب
ممسية في اليمن
…
مصبحة في قرن
ترين حزن الوطن
…
كالخز تحت الثفن
إبه غزال الخثن!
حثي الخطى قليلاً
…
منزلنا قريب
بدر السماء نعسا
…
خلف التلال خنسا
والصبح قد تنفسا
…
مزق هذا الغلسا
والريح تزجي نفساً
حثي الخطى قليلاً
…
منزلنا قريب
لحني دواء السقم
…
والروح ملء نغمي
يحدو الركاب كلمي
…
من جارح وبلسم
هلم بنتَ الحرم!
حثي الخطى قليلاً
…
منزلنا قريب
(البقية في العدد القادم)
عبد الوهاب عزام
حول المذهب الرمزي
للأستاذ محمد فهمي
تناول الأستاذ عبد العزيز عزت المذهب الرمزي في مقاله الأخير بالعدد (255) من الرسالة (الغراء) فجاء بآراء تجعل القارئ يقف متسائلاً. . . ماذا يقصد الأستاذ عزت بهذا؟! هل يقصد الرمزية في الفلسفة أم يقصد الرمزية في الأدب والشعر؟ فأن كان يقصد الأولى فأنه لم يحدد غرضه، لأن ما ساقه من آراء العلامة مارتينو في كتابه (المذهب الرمزي والبرناس)(إننا نجد عند فولين وعند ملارميه وعند رامبو وكثير من الرمزيين أن الشيء الواقع وقبوله حاضراً كان أم ماضياً لا قيمة له مطلقاً) وليس في هذا إشارة إلى رمزية في الفلسفة. إذن فالأستاذ يقصد رمزية الأدب والشعر وهو ما يفهم من ثنايا مقاله ومن الأمثلة التي ساقها وأسماء زعماء الرمزية الذين ذكرهم. ومن العجيب أن يخلط الأستاذ في الاستشهاد والرد والتجريح هذا الخلط الذي يبعده عن خاصّية تحديد الموضوع تلك الخاصّية التي يتوخاَّها كل دارسٍ للفلسفة مثل الأستاذ الفاضل.
فالمعروف أن الفلسفة شيء والشعر والأدب شيءُ آخر. وأن المذاهب الفلسفية غير المذاهب الأدبية وان كان التفاعل متصلاً بين هذه وتلك، ولكن عن طريق الاحتكاك والتأثير لا عن طريق الاندماج؛ فلكلٍ ميدانه ومنطقته. فالفلسفة مظهر نشاط التفكير العقلي؛ وأما الآداب والشعر فمظاهر لانفعالات الحسّ وهواجس الروح.
فما شأن آراء أوجست كونت (في كتبه المتعددة عن الفلسفة الوضعية والتفكير الوضعي برمزية الأدب والشعر؟! وما شأن رأي أبي الاجتماع الحديث (دوركيم) في العلم برمزية الأدب والشعر؟! وما كانت الرمزية التي تناولها الأستاذ مذهباً من مذاهب العلوم! بل ما شأن مذاهب فلاسفة السوفسطائيين والثورات الثلاث التي أثارها على التعاقب سقراط وأفلاطون وأرسطو؟ ما شأن كل هذا بالمذهب الرمزي الذي يتحدث عنه الأستاذ في مقاله؟ حقاً لقد هدَّمت هذه الثورات الثلاث الكبيرة من آراء السوفسطائيين حتى صدَّعت مذهبهم، ولكن هل غيرت أو هدّمت فن سوفوكليس واريستوفان ويوريبيد؟ كلاَّ، لأنها كانت ثورات في الفلسفة ولم تكن ثورات في الفنون والآداب! وقد عاصر هؤلاء الأعلام في الأدب الإغريقي كلا المذهبين السوفسطائي والسقراطي فما تهدم فنهم بهذا ولا بذاك!
وأظننا لسنا بحاجة إلى القول أن العلم شيء والأدب شيء آخر. فالعلم لا وطن له، وإن النظرية العلمية يبتكرها عالم في أي بلد من بلاد العالم، وعندما نثبت بالتجربة والبرهان تصير ميراثاً مشتركاً لكل عالم على وجه الأرض من أي مملكة هو ولأي جنسية يتبع وبأيّ دين يدين. وما هكذا الشأن في الأدب. فلكل أمة أدبها ونوازعها ومظاهر بيئتها وتراث تاريخها وديانتها وتقاليدها. فكيف يسوق الأستاذ تلك الآراء والأدلة الطويلة العريضة لرجال الفلسفة والعلم في موضوع هو من أخص خصائص الآداب والشعر!!؟
أما استشهاد الأستاذ برأي العلامة (مارتينو)(. . . فأن المذهب الرمزي عندما أبتدأ ظهوره وأخذت أبواقه ترتب الدعاية والنشر له قامت قائمة الناس في فرنسا وسموه (النزعة الجنونية) لما يتضمنه من القضاء على الروح الاجتماعية والتضامن بين أهل البلد الواحد، ولهذا أجمعت الناس في فرنسا على جموحه وشره الفتاك وقاوموه بكل ما عندهم من قوة، وأمكنهم - كما يذكر العلامة المدير - أن يقضوا عليه في عشرة أعوام أو خمسة عشر عاماً من ولادته، ودفنوه (غير مأسوف عليه).
هكذا يقول العلامة مارتينو الذي يستشهد به الأستاذ عزت. وما أظن العلامة المدير إلا ناقداً مجرحاً قاسياً، أو مفكراً قريب الشبه بطائفة المحافظين عندنا الذين يقيمون الدنيا ويقعدونها (دنياهم وحدهم طبعاً) كلما نشأ اتجاه جديد سواء في الأدب أو الشعر أو الاجتماع. وإلا كيف ساغ للعلامة الكبير أن ينساق مع رأي الناس في تسمية الرمزية (النزعة الجنونية) إذ على هذا القياس يكون من ذكرهم في كتابه (المذهب البرناسي والرمزي) من الأعلام أمثال فرلين وملارميه ورامبو وكثير من الرمزيين إلا مجانين! ولا أظن العلامة الكبير يوافق على هذا ولا الناس في فرنسا ولا القراء ولا الأستاذ عزت!
ثم ماذا يقصد من أن المذهب الرمزي قضي عليه في عشرة أعوام أو خمسة عشر عاماً من ولادته؟ هل معنى هذا أن آثار الرمزيين قضي عليها تماماً (غير مأسوف عليها) وإنها الآن في حيز الكتابات الهيروغليفية قبل اكتشاف شمبليون لحجر رشيد؟ أم أن الرمزية قد قضي عليها كمذهب قائم بذاته له أنصاره ومدرسته! إن كان الأخير فهذا أمر طبيعي وهو مآل كل مذهب قائم الآن. فالآداب والشعر تتغير بتغير المجتمع والبيئة في الأمة في عصورها المتعاقبة. وإنك لتشاهد الآن في إنجلترا أن مذهب الرومانتيكية وكان من أعلامه شكسبير
وملتون، وفي فرنسا هوجو ولامارتين، قد أخلى الطريق لغيره من المذاهب التي خلفته شأن مذهب الرمزية وكل مذهب أتى أو قائم أو سيأتي. . .
ولكن لا ينكر أحد فضل الرومانتيكية في الأدبين الإنجليزي والفرنسي وأنها كانت من العوامل المؤثرة في نشوء المذاهب التي أعقبتها. وهكذا فعلت الرمزية إذ أثرت فيما خلفها من المذاهب.
بل إن مذهب السوفوسطائيين في الفلسفة الذي ذكره الأستاذ في مقاله كان له أكبر الفضل في نشوء الفلسفة السقراطية وتلك الآراء والتعاليم القيمة التي أبتدعها سقراط وحمل لواءها أفلاطون من بعده؛ ثم كانت أساساً لتلميذه الفذ أرسطو. ولا يخفي أن من السوفوسطائيين من كانوا يلمسون الحقيقة في بعض المواقف حيث يخطئها سقراط نفسه. (أنظر محاورة بروتا جوارس) بين سقراط وشيخ السوفسطائيين الذي سميت المحاورة باسمه.
ولعلي في هذه الكلمة قد جلوت بعض نواحي الأشكال والغموض اللذين أثارهما مقال الأستاذ عزت الأخير؛ ولعله في مقالاته الآتية يتفضل بمراعاة التحديد وعدم الخلط بين المذاهب الفلسفية وآراء الفلاسفة وبين المذاهب في الآداب والشعر.
(القاهرة)
محمد فهمي
أسبوع في فلسطين
للأستاذ محمد سعيد العريان
تتمة ما نشر في العدد الماضي
لن أتحدث عن مشاهدات في هذه البلاد رأيتها بعينيّ، فذلك شيء يستطيعه كل ذي عينين؛ وفلسطين اليوم هي فلسطين التي رآها من قبلي عشرات من الكتاب والرحالين وتحدثوا عن مشاهدها وآثارها ومعالمها؛ فهذا المسجد الأقصى، وهذه قبة الصخرة، وذاك مهد المسيح في بيت لحم، وذلك - فيما يزعمون - مصعده ومسْراه على الطور، وهذا حائط البرق، وذاك مصلَّى عمر، وتلك كنيسة القيامة. . . مشاهد كما وصف الواصفون وتحدَّث الرحَّالون وتغَّنى الشعراء؛ فليس بيّ من حاجة إلى الإعادة والتكرار. ولكني سأتحدث عن المشاهدات الأخرى. . . مشاهدات رأيتها بفكري وسمعت صداها في نفسي، وتحدث معناها إلى قلبي. . .
لقد أحسست أول ما هبطت هذه البلاد كأنما نضوت عن جسدي ثوباً كان يحتويني فأنا فيه غير من أنا: حسَّاً ومعنىً وفكرة؛ فما ألقيتُه عن جسدي حتى تواثبت نفسي منطلقةً على سجيتها في عالم غير محدود، لا تعرفه ولا تنكره، ولكنها فيه هي شيء غير ما هي كانت في هذا الثوب الذي يضم أطرافي منذ ثلاثين سنة أو يزيد. . .
أمصري أنا؟ لا؛ إن وطني لأكبر من ذاك. إن لي أهلاً هنا وأهلاً هناك. إن تراث الأجيال ليتحرك في دمي الساعة فيذكرني ما لم أكن أعرف. ما هذا. . .؟ لكأن لي في كل مكان ذكرى قريبة وما رأته عيناي قبل أن تراه عيناي. إن قوة من وراء التاريخ تربطني إلى هذا المكان، وتستوقفني عند ذاك الأثر، وتقف بي عند ذلك المنعطف، وتذكّرني بشيء في هذا الحي. إن هنا قبساً من روح أعرفها ترفّ حولي، ونفحةً من عطر أتشمَّمها تلامس روحي، وإن لي هنا لخفقة قلب، وإن لي هناك لدمعة عين، وإنني لأُلقيَّى خواطر وذكريات لم تكن من خواطري وذكرياتي؛ وإنني لأحس. . . وإنني لأشعر. . . فما أشك أن لي تاريخاً قبل تاريخي في هذا المكان، وأن لي ذكريات أبعدَ من ذكرياتي في هذا الحي، وأن الماضي الذي كان قبل أن أكون، هو إرث في دمي تحدَّر إليّ في أصلاب أسلافي ذكرياتٍ غامضة لا تكاد تبين إلا خفقات في القلب وزفرات في الفؤاد. . .!
أيها البلد الطيب! أيتها الأرض المقدسة! لقد عرفت بك أهلي ووطني وتاريخ قومي. لست من فرعون ولا فرعون مني. كفرت بالوطنية إن لم أؤمن بأني منكِ في أهلي ووطني. . .!
يا بلاد العربية والإسلام، انشري لواءَكِ وابعثي ماضيك حتى تنتظم رايتُك كلَّ مسلم وكل عربي!
يا أهل العربية والإسلام، لستم من الوطنية في شيء حتى تؤمنوا أن وطنكم هو كل البلاد العربية والإسلام!
يا أهلي وإخواني على ضفاف النيل، لقد عققتم اخوتكم عقوقاً غير جميل حين زعمتم أن أرومتكم غير الأرومة التي أنجبت عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعبيدة بن الجراح!
يا أساتذة المدارس المصرية، لقد ظلمتم التاريخ ظلماً غير قليل حين ذهبتم تزعمون لنا منذ كنا أننا من سلالة خفرع ومينا وأمون!
ويا قومي وعشيرتي هناك، معذرة إليكم مما كان، وعهداً عليّ أن أكون، وإلى اللقاء! إلى اللقاء تحت راية الإسلام. . .!
هذا شاب من أدباء فلسطين يحدثني عن مصر، وعن أدباء مصر، وعن السياسة في مصر، وعن النشاط العلمي في مصر، حديث العارف المتتبّع، لا يفوته شيء مما يعرفه المصريون عن أنفسهم؛ بل مما لا يعرفه المصريون أنفسهم. . . فماذا يعرف المصريون عن فلسطين؟
وهذه جرائد مصر، ومجلات مصر ومطبوعات مصر، تملأ السوق في فلسطين؛ فهي في كل دار، وفي يد كل قارئ. فماذا يقرأ المصريون من جرائد فلسطين، وماذا يعرفون عن أدباء فلسطين؟
(مصر زعيمة الشرق العربي!)
هذه عبارة تسمعها بين كل أثنين يتحدثان عن مصر والأقطار العربية؛ فهل عقلها من قالها؟ وهل عَناها من تحدث بها؟. . . أما هناك فَنَعم؛ فما يقولها عربي في غير مصر إلا مؤمناً بها مستيقناً حقيقتها؛ وأما هنا فهل تسمعها إلا في معرض الزهو والعُجْب والخيلاء. . .؟
مصر زعيمة الأقطار العربية، ما في ذلك ريب ولا جدال. ولكنها زعامة الجاه والغنى والصيت البعيد. . . زعامة ليس لها تكاليف، وليس عليها واجبات، وليس من ورائها
مشقة. . . زعامة الدعاوى الفارغة، والتشدّق الكاذب، ولغو الأحاديث. . . وإلا فهل ذكرت مصر ما عليها للأقطار العربية حين سرّها أن يقول القائلون إن مصر زعيمة الأقطار العربية؟
ومعذرة يا بلادي! إنك لأهلٌ للزعامة والجاه والسلطان ولكن. . . ولكنك لا تريدين أن تفرضي على نفسك ما تفرضه الزعامة على أهلها من مشقات وتكاليف، وهيهات هيهات أن تدوم الزعامة لزعيم لا يفرض على نفسه أن يبذل أكثر مما ينتفع. . . وفي الحياة عبر وأمثال. . .
وجلستُ في مجلس طائفة من الأدباء أستمع إلى أحاديثهم ومداولاتهم، فإذا شباب هناك يسبقون الكهول عندنا في البحث والمطالعة والاستقراء، وإذا علم وأدب واطلاع، وإذا طرائق في البحث لا يعرفها إلا الأفلون من أدباء المصريين. . . وسمعت أسماء كتب مصرية جديدة في السوق، لم يعرفها بعدُ في مصر إلا مؤلفها والصفوةُ من أصحابه، ودار جدال حول معارك أدبية في جرائد مصر لم يكن مبلغ علمي بها إلا عنوانها وكاتبها. . . وجرت مصاولات، وتداولت آراء، وتنوعت أساليب الحديث؛ وخرجتُ بالصمت عن لا ونعم، وطارت خواطري إلى مصر، وإلى مجالس الأدباء في مصر، وإلى حظ الأدب والأدباء في مصر؛ وأطرقتُ من حياء. . .
مصر زعيمة الأقطار العربية. نعم، إن فيها لكُتاباً وأدباء وشعراء، وإن فيها لجرائد وكتباً ومجلات، وإن فيها لتعليما ومدارس وجامعتين، وإن فيها لمطابعَ تخرج كل سنة مئات من الكتب في مختلف العلوم والفنون والآداب، ولكن. . . ولكن مصر ليس فيها قراء. . .
مصر!. . . إن لمصر فضلاً على العالم العربي لا ينكره جاحد، ولكنه فضل المطبعة والجريدة والكتاب لا فضل المصريين. . .
مصر. . .! هل يعلم كتابها وشعراؤها ومؤلفوها أن كتبهم ودواوينهم ومؤلفاتهم أشهر وأذْيع في الأقطار العربية منها في بلادهم؟
رجاء إليكم أيها الكتاب والشعراء والمؤلفون: لا تسموها زعيمة الشرق العربي، ولكن سموها (مطبعة) الشرق العربي!
ولا تجلسُ إلى عربيّ في فلسطين إلا سمعت له حديثاً في سياسة بلاده، ورأياً في سياسة
بلاده، وحماسةً في الدفاع عن حق بلاده. وفي مصر (كانت) حركة وطنية، وكان لها حدّةٌ وشدّة، فما طغت في يوم من أيامها على آراء المصريين ولا فرضت سلطانها على مجالسهم بمقدار ما شغلت الحركة الفلسطينية خواطر العرب في فلسطين. وتسأل: لماذا؟ فيجيبك قائلهم: (لقد كانت ثورتكم الوطنية في مصر للاستقلال، والاستقلال عندكم ترف سياسي؛ ولكن ثورتنا الوطنية في فلسطين للحياة. إن السياسة العامة في فلسطين هي سياسة كل فرد في أهله، وفي دينه، وفي ولده، وفي حقله، وفيما يملك؛ إننا إن لم نكافح كفاح الموت في هذه الثورة الوطنية، فلن تجد منا غداً عربياً واحداً في فلسطين. . .!)
وصدق القائل؛ فما في فلسطين اليوم ثورة وطنية كبعض ما نعرف من الثورات السياسية في التاريخ، ولكنه جهاد الأحياء للحياة، كما يجاهدون للطعام والشراب، فأما ظفروا فعاشوا في بلادهم آمنين كما يعيش كل شعب في بلاده؛ وإما. . . وإما كانت فلسطين هي الأندلس الثانية: لا يُذكر فيها أسم الله ولا ينطق فيها بكلمة التوحيد. . .!
وحاولتُ أن أعرف في فلسطين من حال المرأة العربية المسلمة التي سمعت بجهادها وبسالتها فيما تنقل جرائدنا من أخبار الثورة العربية في فلسطين؛ فإذا بيني وبينها حجاب؛ فلا ترى في الطريق واحدة منهن في مثل حال أختها المصرية: تسير في الطريق شبه عارية في ثوب مهلهل إن لم يشفْ يصفْ، ولكن وجوهٌ إلا يكن عليها حجاب فأن فيها حياء. . . إلا وجوهَ الغواني من بنات صهيون ونساء المهاجرين.
ومحطة الإذاعة في فلسطين غيرها في مصر؛ فهي هناك مصلحة حكومية وهنا شركة يربطها بالحكومة عقد تجاري؛ على أن أول ما تلاحظه من الفرق بين المحطتين هو عناية محطة فلسطين بالأدب والأدباء وإغفال شأنهما في مصر؛ فلولا محاضرة أو محاضرات يذيعها كل سنة من محطة القاهرة الأساتذة طه حسين والمازني وهيكل والبشري - ليس غير - لما درى السامع من بعيد أن في مصر أدباً وأدباء. على أن أكثر ما تذيعه القاهرة من موضوعات الأدب بعيد عن مناسباته؛ فما هو إلا إعلان عن كتاب، أو تعريف بإنسان، أو حديث معاد، أو خطبة منبرية ذات مواعظ وأمثال. . . أو فكاهة رخيصة. . . وقلما يتنبه القائمون على تحضير برامج الإذاعة في محطة القاهرة، إلى مناسبة من المناسبات الأدبية العامة ليجعلوا لها موضعها من البرنامج في ميعاده، إلا أن يتقدم إلى ذلك من يتقدم
من الأدباء وفي يده موضوعه كأنه طالب إحسان!
وأحسب ذلك يرجع إلى سببين: أولهما أن الأدب في مصر عامة ليس له سوق نافقة بحيث يغري محطة القاهرة بالحرص على إرضاء مستمعيه. والثاني أنه ليس في القائمين على شئون محطة القاهرة أديب متخصص له في الأدب معرفة وإطلاع يحملانه على أن يعّد نفسه واحداً من الأسرة الأدبية في مصر بحيث يعرف اتجاه الجماعة في الأدب فيسير مع تطوراتها على نهج سواء.
على أن الإذاعة اليوم هي وسيلة من إحدى الوسائل في نشر الثقافة وتوجيه الرأي العام؛ فما ينبغي أن يحملها انصراف جمهور المستمعين عن الأدب على إغفاله؛ فإن لها من السلطان ما تستطيع به أن تحمل مستمعيها على العناية بالأدب والأدباء لو سارت على برنامج مرسوم إلى هدف مقصود. ثم إن مصر ليست هي وحدها التي تستمع إلى محطة القاهرة، ولكن أقطاراً أخرى من أقطار العربية لها علينا من الحقوق الأدبية ما يحملنا على إرضاء مستمعيها وكلهم يرفعون الأدب أسمى مكان.
وإذ ذكرت هذا فما ينبغي أن يفوتني ذِكر الشاعر الأديب الأستاذ إبراهيم طوقان وكيل القسم العربي في محطة القدس؛ فأنه من خيرة شباب فلسطين ثقافة وأدباً وتحصيلاً، وله في الأدب آثار باقية؛ وبمثله في محطة القاهرة يمكن أن نتلافى هذا التقصير في حق الأدب والأدباء.
والمصريون في فلسطين عدد غير قليل يعيشون في أمن وسعة ولهم في القدس نادٍ جميل في حيّ عامر يتبعه مدرسة ليلية وفرقة كشافة. دعاني إلى زيارته سكرتيره الأستاذ عبد الفتاح لاشين المصري المدرس بكلية الروضة في مساء الأربعاء 11 مايو فذهب إليه مع الأصدقاء الأساتذة عبد الرحمن الكيالي، والشيخ يعقوب البخاري، وداود حمدان؛ فوجدت النادي مزيناً أبدع زينة احتفالا بالمولد النبوي، وثمة شيوخ يقرءون قصة المولد، والنادي مزدحم بالمصريين وضيوفهم من الفلسطينيين، يستمعون إلى ترتيل القارئ في خشوع وإيمان؛ واستقبلتنا فرقة الكشافة على الباب استقبالا مصرياً كريماً. ثم ودَّعَنا أعضاء النادي بعد مجلس قصير، بكثير من الحفاوة والإكرام
وكان آخر طوافي في القدس، في القنصلية المصرية. وما أنكر أنه كان علىَّ أن أجعل أوَّل
خُطاي إليها غداة مقدمي، وقد كان ذلك في نفسي، لولا أنني كان لا بد لي من رفيق يرشدني إلى الطريق، وكان احتياجي إلى الرفيق هو الذي جعل زيارتي للقنصلية آخر طوافي؛ فمعذرة إلى الأستاذ الأديب محمد حامد بك قنصل مصر في فلسطين الذي جعل أول لقائه إيانا عتاباً كريماً كان له في نفس موقع جميل، وكانت تحية صريحة لا تكلف فيها ولا رياء
زرت القنصلية في مساء الأربعاء 11 مايو، فوافقنا الأستاذ متري بك وكيل القنصل خارجاً لبعض شأنه؛ فما رآنا حتى بدأنا بالتحية، وتقدمَنا إلى دار القنصلية، فقضينا في كرمة وقتاً ما ثم لم يلبث أن حضر القنصل، فما درى بمقدمنا حتى صعد إلى غرفته محتجاً على أن جعلتُ زيارته آخر طوافي؛ ثم عاوده كرم المصري فأرسل يدعونا إليه. . .
وكانت جلسة ممتعة، شهدتُ فيها ما لم أكن أتوقع، ولقيت ولقي أصحابي من عطف الأستاذ حامد بك وكرمه وأدبه ما أحرص على ذكرياته كأجمل ما شاهدت في فلسطين
والأستاذ حامد بك أديب واسع الاطلاع على رغم منصبه السياسي؛ وإنه لتوفيق عجيب أن يكون قنصلنا في فلسطين العربية له مثل حظ الأستاذ حامد بك من الاطلاع في الأدب وفي الثقافة العربية. ولقد عجبت - شهد الله - أن يبلغ هذا المبلغ في الأدب مصري من رجال السياسة؛ وكان آخر ما يدور في خاطري حين همت بزيارة القنصلية أن يكون لي هناك حديث في الأدب وفي شئون الأدباء كالذي دار في مجلس القنصل الأديب. . .
وأكثر من يذكر الفلسطينيون من رجالات مصر الراحلين، محمد عبده، ورشيد رضا، والرافعي، ولهم في نفوس منزلة من التقديس تضعهم في صف الخالدين من أبطال العربية والإسلام
وأحب كتاب العربية إليهم أسرة الرسالة، فهم يعرفون كتابها فرداً فرداً، ويقرءون لها ما يكتبون بشوق، وقلما تجد شاباً من شباب فلسطين لا يقرأ الرسالة ويحتفظ بمجموعاتها. وهم يعجبون أشد العجب حين يسمعون أن طائفة من شباب مصر لا يقرءون الرسالة! وأحسب لو أن أملهم تحقيق وصارت نسبة قراء الرسالة من المصريين تعدل نسبتهم في فلسطين لكان على الرسالة أن تطبع من كل عدد مائة ألف في الأسبوع. . .
وأكثر من يذكرون من الكتاب المصريين هم الأساتذة أحمد أمين، وعزام، والمازني،
والزيات، وهيكل؛ ولولا سابقة للدكتور هيكل في الدعوة إلى الفرعونية لكان أحب الكتاب المعاصرين إلى أهل فلسطين؛ فما يغيظهم شيء فيما تكتب الصحف المصرية ما تغيظهم هذه الدعوة، وما يرونها إلا وسيلة إلى تمزيق الوحدة العربية التي يدعونها إليها ويرشحون مصر لزعامتها، وإلا سبباً إلى تقطيع الأواصر بين مصر وبلاد الإسلام
وركبت القطار عائداً من محطة اللَّد، بعد زيادة قصيرة للأخ الأديب داود حمدان، ورياضة ممتعة في سيارة الأستاذ النشاشيي بين اللد وبيت المقدس
وتحرك بي القطار عائداً إلى مصر ظهر يوم الخميس 12 مايو، فبلغت محطة القنطرة قبيل الغروب. . . ومعي من الذكريات لهذه البلاد المقدسة أثمن ما يحرص عليه إنسان. . .
أيتها الأرض الطيبة! أيها الأخوان الكرام! يا بني قومي هناك، وداعاً وداعاً إلى لقاء قريب، والسلام عليكم ورحمة الله
شبرا
محمد سعيد العريان
بين الرافعي والعقاد
للأستاذ محمود محمد شاكر
- 4 -
وبعد، فقد فرغنا في الكلمات السالفة من الحديث فيما هو (بين الرافعيّ والعقاد)، ممّا جاء في كلام الأستاذ الفاضل سيد قطب. ثم رأينا الأستاذ يبدأ ضرباً من القول هو إلى رأيه في كلام الرافعي وحده، ليس يدخله ذكر العقاد إلا قليلا. وقد كان بدء حديثنا محدداً بالرافعي والعقاد معاً. فنحن نرى أن عملنا قد انتهى إلى نهايته في هذا الغرض من القول، ولذلك ليس يضيرنا الآن أن نسكت إلى حين يفرغ الأستاذ سيد قطب مِمّا يسر الله القول فيه مما يسميه نقداً
وأول ما يجب علينا أن نقوله للأستاذ الفاضل بعد الذي كتبناه أنه يسيء بنا الظنّ بلا دليل ولغير عِلّة. يتزّعم أن في حديثنا (غمزاً ولمزاً وتعريضاً به) وكذا وكذا، ونحن نكرم أنفسا وقلوبنا وضمائرنا وألسنتنا عن هذه الضرب من القول، ولو أردناه لمضينا على عادتنا من التصريح دون التلويح، ولقلنا له من القول ما هو حق لا كذب فيه. . . حق يدافع عن حقيقته بالبيان والحجة والوضوح، والأدب الذي يعفُّ عن دنيَّات المعاريض وسفاسف الأخلاق
وليعلم الأستاذ قطب أني أحببت لا أغُلو، ولا أتجاوز حد الحب الذي يصل القلب بالقلب، ويمد الروح بالروح، ويجعل النفس في فرح متصل بسببه، أو حزن آت بعلته، فهذا أخلق الحب أن يخلو من سوء العصبية، وفساد الهوى، وقبح الغرض. فلا يجدني أرفعُ الرافعي عن الخطأ، ولا أجله عن الضعف، ولا أنزهه عما هو عمل كل إنسان حيّ ناطق يأمل ويتشهى. مما يسمى بأسمائه حين يعرض ذكره. وفي كل أحد ممن خلق الله على صورة (الإنسان) ضروب من الشمائل والسجايا والأخلاق والآداب، ليس يطلع طِلعها جل جلاله، وربّ رجل صاف كنور الفجر يخبأ من ورائه مظلمة من سواد الليل
ولقد عرفنا الرافعي زمناً - طال أو قصر - فأجبناه ومنحناه من أنفسنا ومنحنا من ذات نفسه، ورضيناه أباً وأخاً وصديقاً وأستاذاً ومؤدباً، فلم نجده إلا عند حسن الظن به في كل أبوّته وإخأبه وصداقته وأستاذيته وتأديبه. ولقد مات الرافعي الكاتب الأديب وهو على
عهدنا به إنساناً نحبه ولا ننزهه، ثم جاء الأستاذ سيد قطب بحسن أدبه يقول في الرجل غير ما عهدناه. . . يؤوّل كلامه ويأخذ منه ويدع ويتفلسف ويحلل ويزعم القدرة على التولج في طويات القلوب وغيب النفوس فيكشف أسرارها ويميط اللثام عما استودعت من خبيئاتها، ثم هو في ذلك لا يتورع ولا يحتاط، ولا يَرعى زمام الموت، ولا يوُجب حق الحيَّ
لقد كتب الأستاذ ما كتب، فقرأ كلامه من قرأ، أفيجد في هؤلاء من يقول له أصبتَ؟ ومن يقول له أحسنَتَ؟ ومن يزعم أن ليس له مندوحة عما اتخذ من اللفظ في ذكر الرافعي وصفته والحديث عنه وعن أدبه وشعره؟ أما يجدر بالأستاذ الفاضل أن يعود إلى بيته هادئ النفس مُخَلًّى من حوافز الحياة الدنيا، فيقرأ ما كتب مرة أو مرتين، ثم يرى هذا الذي ترك الدنيا بالأمس وحيداً، وخلف من ورائه صغاراً وكباراً من أبنائه وحفدته وأصحابه واللائذين به، ثم يراهم يقرءون ما يكتب عن أبيهم وجدهم وصاحبهم بالأمس، ثم يراهم والدمع يأخذهم بين الذكرى المؤلمة والألم البالغ! ولو فعل، لعرف كيف أخطأ ومن أين أساء، ولوجده لزاماً عليه أن يقدُر عاطفة الحي، إن لم يعظَّم حرمت الموت. وهذا أمر لا نطيل القول فيه ولا نكثر من لوم الأستاذ عليه، فإن مرجعه إلى طبيعته وما تضمره نفسه، وإلى تقديره لعواطف الناس
ومهما يكن من شيء، فسندعُ الأستاذ سيد قطب يقول ما يقول، ويذكر من رأيه في الرافعي ما يذكر، ويصف أدب الرجل وذهنه وقلبه ونفسه بما يوحي إليه، لا نعقب على شيء منها حتى يفرغ، وحتى يستوفي مادته، ويضع بين أيدينا كل حججه في فن الرافعي. فيوم ينتهي نبدأ نحن القول في الذي قال. . . لا نرد بذلك عليه قوله، أو نسدد له رأيه، فمالنا بذلك حاجة ولا لنا فيه مأرب، ولكنا نريد إذ ذاك أن نضع رأيه بمنزلة الرأي يقول به فئة من الناس، أو شبهة تحيك في صدر جماعة من الأدباء، فعلينا أن نبين مواضع الخطأ إذا أخطأ، ومكان الصواب إن أصاب، وذلك غاية ما نستطيع
أما ما يوعدنا به الأستاذ الفاضل، وما يسخر به ويتهكم، وما يضمر لنا من (بقايا) كلماته!! فليقل فيه ما شاء كما يشاء، وسنرده على قدره وفي طاقتنا وآدابنا، ولو اجتمع للأستاذ كل سلطان يستطيع به أن يسيء، فأساء إلينا بمثل الذي أساء به إلى الرافعي رحمة الله عليه،
فنحن لا نزال - مع كل ذلك - نحترمه. . . إذ ليس في طاقتنا أن نفعل شيئاً إلا أن نحترمه كل الاحترام
محمود محمد شاكر
بين العقاد والرافعي
للأستاذ سيد قطب
- 5 -
يقول العقاد في قصيدة (خليج ستانلي):
هذى معارض صنعة
…
لله تبهر من وصفه
حي الجمال كما بدا
…
أولا فدونك والجيف!
يقول هذا وهو يقف أمام هذه (المعارض) وقفة الفنان الحي، المتذوق لكل صنوف الجمال فيها، المتنبه لومضاته وخفقاته، لا تكاد تغرب عن نظرة ولا عن حسه لفته من لفتات الجمال في هذا الخضم العاري. ثم يسمع من ناحية أخرى صيحات (الخرف) التي لا تقدر هذه المعارض، وتنحي باللاتمة على بروز هذا الجمال، فيصبح بهم: هذه معارض للجمال يتملاها الأحياء المعنيون بالحياة، فمن شاءها فليحيّ الجمال فيها، ومن أبي أن يعجب بالحياة الخافقة فليس له إلا أن يوكل نفسه بالجيف الهامدة!
ولكن (الرافعي) لا يلقى باله إلى شيء من هذه اللفتات، فيأخذ منخره بين أصابعه ويزم شفتيه، ويشيح برأسه، ويروح يتصنع التأفف والمبالغة فيه، لأن هناك رائحة لا يطيقها في كلمة (الجيف!)
طيب!. ولا بد أن صاحبنا بلغ من إرهاف الحس - ولا سيما حاسة الشم - إلى درجة شديدة، تقرب من الدائرة المرضية فاللذين يبالغون في التأفف كثيراً ما يكون الإرهاق بلغ بهم إلى حد مرض الأعصاب، وهو عذر على أية حال. ولا بد أنه متجنب في أعماله الخاصة كل ما تنبعث منه أية رائحة!
ولكن ماذا عساك قائل، إذا رأيت هذا الرجل الذي يمسك منخره بأصابعه، لأن فناناً تهكم بخصوم الجمال، فجعلهم ممن لا يحسنون إلا ملازمة الجيف، إذا رأيته هو نفسه يصف فم حبيبته مستجملاً - وألق بالك إلى هذا - بأنه (حانة)!
أي والله. . . (حانة) هي فم حبيبته (الرافعي)، حانة ينبعث من روائحها ما ينبعث، ويفوح منها ما يفوح، ويعج بين جدرانها ما يعج. وفيها (من كل شيء) كما يفهم الرافعي وتلميذه الأستاذ شاكر. (من كل شيء) على حقيقتها وبمدلوها كما أوّلاه في تعسف واستغلاق
وما أبعد بك فهذه قولته:
(مسكرة للعاشقين كأن نهر الخمر في الجنة جعل فمها لهذا العاشق حانة)
ولعل أحداً من المتعسفين في التأويل والتخريج، حسب الأهواء والميول، يروح يقول لك: يا لله! إن نهر الخمر الذي في الجنة هو الذي جعل فمها حانة. فهي حانة من خمر الجنة لا من خمر الدنيا!
ولكن أفما كان هناك معدي عن هذا التعبير وهذا التشبيه؟ ألا يمكن أن تكون مسكرة حتى يكون فمها حانة، لا كأساً لطيفة، ولا قارورة مختومة، ولا دناً أو (برميلاً) من الخمر؟ ولا يكون حانة كاملة بما فيها من الدنان والكؤوس والشاربين والندمان، وبما فيها من عبث الشاربين وأنفاسهم وما يلي ذلك من عواقب السكر وصرعة الخمر
الذي لا يطيق أن يرمي فنان خصوم الجمال بأنهم غير أحياء وأنهم موكلون بالجيف، هو الذي يطيق أن يرمي حبيبته نفسه بأن فيها حانة بما فيها؟!
هو ذلك. لأنه لا عقيدة فيما يكتب، فهو ينقد لشفاء الحزازات ويتلمس مواضع التشنيع التي لا سقطة فيها على الحقيقة، وإن كان له هو على غرارها - مع الفارق - سقطات وسقطات!
ويقول العقاد متفكها، وفي فصل يسميه (فكاهة) ويعنون له بهذا العنوان
من رأى زُهرة الجمال فهذي
…
زهرة القبح أسفرت تتحدى
طلعة الشؤم من رآها يخلها
…
خلقت من وجوه سبعين قرداً!
فما يلمح الرافعي هذا القول، حتى يغرق في ضحك مصطنع طويل؛ وهو يقول وما الفرق بين أن تكون طلعة الشؤم هذه خلقت من وجه قرد، أو من سبعين أو سبعمائة؟
والمسألة هنا ليست هكذا، فوجه القردليس كل ما فيه قبيحاً، فشدة الاحتياط في (الفكاهة) جعل العقاد (طلعة الشؤم) مؤلفة من القبح المستخلص من وجوه سبعين قرداً، ليكون قبحاً خالصاً مركّزاً!!!
وهي على كل حال (فكاهة) والإغراق فيها يزيد حسن وقعها، ولا يعطل من قوتها شيئاً، وهو كل المقصود بالفكاهات.
أما الرافعي الذي يعيب ذلك فاسمه يقول جادّا لا متهكما ولا متفكها. (وأصعب ما تكون
الإنسانية على من يعظم بحيوانيته وحسب، فتراه وكأن مائة حمار ركبت منه في حمار واحد، ولكنه حمار عظيم. . .)
أرأيت إلى حمير الرافعي المائة، وعملت ما شأنها هنا؟
إنها لمجرد المبالغة في شدة الحيوانية. والمبالغة في موضع الجد والقصد، لا في موضع الدعابة والنادرة
فلماذا يباح للرافعي في الحمير مالا يباح للعقاد في القرود؟ وهذه سبعون وتلك مائة. وهذه قرود تحمل الدعابة والخفة في اسمها وجسمها، وتلك - أعزك الله - حمير تحمل الغباء والثقلة في (صورتها ونعتها)؟
إنه التعنت، وشفاء الحزازات التي عملت سببها فيما أسلفت من حديث
وبعد فما أعني بما أوردت من كلام الرافعي هذا، فمثله لا يعد نقدا، والذي يعنى بهذه المآخذ لا يكون إلا سخيفا؛ وإنما أردت فقط أن أصور هذا العنت الذي كان الرافعي يلج فيه وهو واقع في شر منه، وأن أبين كيف يصنع الحقد ببعض الناس، وكيف ينكشف (الذوق) المتصنع عن ثقلة وغفلة
وأحسب أنني حتى الآن قد أوضحت رأيي في الرافعي بالأمثلة الكافية كما وعدت في أول مقال. وبقي أن أوضح رأي في العقاد على ذلك النحو
ولكني قبل هذا سألقي نظرة على ما كتب الأستاذ محمود محمد شاكر متقيداً في هذا بوعد أسلفته في الكلمة الفائتة، أكثر من اقتناعي بأن هناك ما يستأهل هذه النظرة
فلننظر ماذا قال؟
كنت في حاجة أن أستعير أسلوب العقاد في الرد على الرافعي وأمثاله، أواجه به الأستاذ شاكر، إذ كان الموقف لم يتغير. ولكنى لحسن الحظ أهدأ من العقاد، وطبيعتي أقل حدة وضراما فلهذا كان أسلوبي هنا غير ما يحتاج إليه الموقف!
والأمر بيني وبين الأستاذ شاكر يمكن تقسيمه وتبويبه للاختصار
فهو (أولا) راح يطعنني في (حسن أدبي، ومروءة نفسي، ونبل قلبي، وشرف مقصدي، فيما كتبت. وراح يتهمني بمجانبة (الدين والتقوى، والحياة والتذمم). وبأنه ليس ما بي (هو النقد ولا الأدب، ولا تقدير أدب العقاد وشعره، فما هو إلا الإنسان وجه يكشفه النور ويشف عما
به، وباطن قد انطوي على ظلمائه فما ينفذ في غيبه إلا علم الله)
وكل ذلك والأستاذ شاكر لا يعرفني، ولا يعرف شيئاً عن أدبي ولا نفسي أو قلبي، ولم تكن التهمة في فهم الأدب أو فهم الحياة، حتى يكون له مبرر في مجال النقاش الأدبي، وإنما هي تهمة خلقية محضة؛ وأنا إنما كان حديثي عن نفس الرافعي في أدبه فماذا كنت أصنع للأستاذ؟
أكنت أرد عليه شتائمه وأكيل له صاعاً بصاع؟ إذن فما أنا بخير الرجلين!
أكنت أنفي عن نفسي هذه التهم؟. . . لأنا إذن ظالم لنفسي فما هي مما يستحق النفي. وأنا أعرف نفسي ودافعها في الحياة - وهذا حسبي - وهناك مئات يعرفوني معرفة الحقيقة والتقدير، وهناك ألوف يعرفون بالقراءة ونقد الكلام ما يجب أن يعرف، فما بي من حاجة بعد هذا كله إلى كلام
ولقد رددت على الأستاذ سعيد العريان ما عرض بي من جهل بأدب الرافعي. ولم أرد على الأستاذ شاكر فيما عرض به من شتائم خلقية، إذ كان الأول بسبب من الموضوع الذي أتحدث فيه، وإذ كان بيني وبينه من الصلات ما يبيح لي أن أتعتب عليه بشدة. فأما الأستاذ شاكر، فلم يكن له عندي هذا ولا ذاك فتركته يقول:
على أنه ماذا يورد من حجة على انزلاقه إلى الطعون الشخصية الوبيلة؟ إنه حديثي عن الرافعي الميت في إبان ذكراه الأولى
ولقد لقيني أديب كبير بعد هذا، فقال يتفكه: إن هؤلاء الجماعة يجلسون في المأتم ويرجمون المار بالحجارة، فإذا رجمهم الناس، صاحوا وولوا، وملئوا الدنيا تسخطاً ونعياً على الأخلاق لأن الناس لا يقدرون حرمة المأتم، وهم الذين استهانوا بهذه الحرمة حينما رجموا المارة!
ولقد كان ذلك فكاهة وحقاً!
فالمسالة أن الأستاذ سعيد العريان كان يكتب عن الرافعي، حتى لقد بلغ رقم مقالاته السادس والعشرين، فما رأيت ما يدعو أن أكتب أو أعلق، فهو صديق وتلميذ يقوم بحق الوفاء، وهو على هذا مشكور مبرور؛ ولكنه بعد ذلك انحرف عن نهج المؤرخ إلى نهج الناقد، فقال عن نقد الرافعي لوحي الأربعين إنه منزه عن العيوب، وقال عن رد العقاد إنه سباب وشتائم، فكان ذلك حكماً لا تاريخاً؛ وقال عن دوافع العقاد للرد وطريقته كلاماً لا يصدق على العقاد،
ويخطئ تفسير دوافعه في الحياة حسبما أرى، وأنا بذلك أدري
وعندئذ فقط تدخلت، لأعيد إلى الأذهان شيئاً من النقد (المنزه عن العيوب) ولأفسر دوافع العقاد وخطته في الحياة، ولأبين الفوارق الأصيلة بين مدرسة العقاد ومدرسة الرافعي في الأدب وفي الحياة
هكذا كان تدخلي، وهو مفهوم، ولم تكن هناك حاجة للتخمين والتأويل
وهو (ثانياً) شاء أن يدافع عن الرافعي، وأن يثبت له ما نفيت عنه من الطبع والعقيدة فقال كلاماً لا احسبني قلت سواه فيما كتبت!
فهو قد قال: إنه كان للرافعي رأي في أدب العقاد غير ما أبداه وإنما الملاحاة وحب الغيظ والكيد، هي التي جعلته يقول ما قال.
وحكم على العقاد كذلك بما حكم به على الرافعي
فأما الشطر الأول فهو اعتراف يؤيد رأيي، في أن الرافعي لم يكن يصدر عن عقيدة فيما يكتب. وذلك حسبي
وأما الشطر الثاني فهو الذي أنكرته من قبل على الأستاذ سعيد، وهو الذي لا زلت أنكره؛ لأنني أعلم من حقيقة رأي العقاد في الرافعي، ما يؤكد نعته له، ورده عليه. وما كان هذا الرأي ليختلف لو لم تقع بينهما جفوة وملاحاة، إن صح أن التعبير عن الرأي كان يمكن أن يتغير، من لفظ قاس مكشوف، إلى لفظ لين ملفوف
وليس العقاد هو الذي يبدي رأياً ويبطن آخر، فهو رجل عقيدة يهمه التعبير عنها، ولولا في ذلك كل عنت وملاحاة
هذا رأيي في صاحبي، لا زلت أنافح عنه، وذلك رأيه في صاحبة وهو به اعرف!
وهو (ثالثاً) أخذ نفسه بإبطال ما أوردت من نقد لنقد الرافعي. فلننظر ماذا قال
إنه راح يتقصى ما قيل فيما يقرب من قول العقاد:
فيك منى ومن الناس ومن
…
كل موجود وموعود تؤام
سائراً في تقصيه على النسق الحالي من كتب النقد العربي لقدامة وأبي هلال العسكري، ومن ينقلان عنهما. . . من تتبع المعنى تتبعاً زمنياً، وحسبان كل شاعر متأخر أخذ هذا المعنى عن شاعر متقدم، وزاد فيه أو نقص، وتصرف أو ولد. . . الخ
وليس هنا مجال انتقاد هذا المذهب في النقد، ولكني أكتفي بإثبات سوء رأيي فيه، وظني به القصور والجمود
إنما يهمني ما قال الأستاذ من أن العقاد ذكر (من كل شيء) دون أن يضع للفظ المطلق شيئاً من الحواجز والحدود التي تمنع إرادة الإطلاق والتعميم، فلم يبق إذن بد من أن يفهم الرافعي، وأن يتابعه هو في الفهم، أن (من كل شيء) تشمل ما ذكر من قاذورات وأوحال
ويبدو لي أن الحواجز والحدود المقصودة لا يمكن أن تكون إلا من نوع الحواجز التي توضع للخيول والكلاب في السباق، أو الحبال والأسلاك الشائكة التي تصدم الجسم وتخز اللمس!
ويبدو لي كذلك أن (الذوق الإنساني) الذي يمنع إرادة مثل تلك المقاذر، هو الأمر الوحيد الذي لا يحسب حسابه عند الرافعي وبعض متابعيه. وإلا فقد كان حسب الأستاذ أن يحيل حديث الرافعي في هذا إلى ثورة حقده، وحبه للمكيدة والإغاظة، فيخرج من تلك الأشواك التي ألقى فيها دون حساب!
ثم ماذا؟
ثم ذكرني بشيء كنت قد نسيت الإلمام به، بعد ما التفت خاطري إلى فساده وسوء دلالته على فهم الرافعي للأدب الحي. وذلك بقية ما كان عقب به على هذا البيت من أن أعرابياً قال وقال. . . فجعل حبيبته (أصفى شيء، وأغلى شيء، واسعد شيء)
هذا في الواقع مفرق الطريق بين الرافعيين والعقاديين؛ أو بين المدرسة القديمة والمدرسة الجديدة على الإطلاق. ولا بأس من توفية الكلام فيه بعض حقه، وربما عدت إليه في كلمة منفصلة أو في ثنايا كلمات أخرى
المبالغة عند المدرسة القديمة هي مناط البلاغة، لا يستثنون من هذا إلا ما اعتبروه مغالاة، تمس العرف أو الدين، أو تناقض الحس والمشاهد. والصدق الجميل هو مناط الاستحسان عند المدرسة الحديثة
فليس يهم الشاعر المجد في هذا العصر أو في قديم الزمان، أن يجتمع في حبيبته كل ما تفرقه الأوصاف في الجميلات، ولكن يهمه أن يصور محاسنها هي، الخاصة بها، وأن يعبر عن شخصيتها ومميزاتها كما هي في نفسه
ومن هنا يختلف في وصفه حبيبه عن حبيبته، لأنه لا يتحدث عن تمثال من الرخام، ولكن عن إنسانة حية تعيش في نفسه بمميزات خاصة. هذه المميزات قد يكون بعض العيوب فيها أعز على نفسه من بعض المحاسن، وأدعى لتعلقه بها، كالوالد لا يحب أبناءه لهدوئهم وآدابهم وحدها، وقد يكون الطفل المتعب أو الشاذ أكثر استمتاعاً بعطفه، وقد يكون حبه لهم على حسب ما بذل مع كل منهم من جهد، وما أنفق من علاج، وتلك من أسرار النفس الإنسانية
الصدق الجميل، الذي يعبر عن الحقائق النفسية، ويصور الحياة المتدافعة المتماوجة هو الذي أملى على العقاد ما كتب عن حبيبته، لأنها كانت هكذا في نفسه؛ فما يهمه أن يختار لها أجود النعوت، واحسن الأوصاف، بقدر ما يهمه تصويرها على حقيقتها في نفسه
فمن شاء أن يلتمس المبالغة الصفات المستحسنة وحدها من كل ما يتخيل فيه الجمال، فسبيله إلى ذلك شاعر آخر غير العقاد، ممن لا يحبون بقلوبهم وأعصابهم، بل بأذهانهم وأسماعهم. وهذا مفرق الطرق، والرمز الذي لا يخطئ في تميز المدرستين
ثم شاء أن يتحدث عن قصة (قزح وقوسه) على مثال ما تحدث عن (من كل شيء) فلم يشأ أن يفهم ما في الدعابة من طرافة وحيوية، لأن (قزحاً) هذا ليس (مشتهراً) بالجمال حتى تصلح المقابلة بينه وبين الجميلات
فهنا رجل يتصدى للنقد، ولكنه يتوكأ على أحكام السلف، فان وجد فيها أن قزحاً مشهور بالجمال فذاك، وإن لم يجده مشهوراً فلا يمكن أن يكون جميلاً، ولا يستطيع هو أن يرى إن كان هكذا أو كان قبيحاً، لأنه لا يستمد النقد مما يحس ويرى، ولكن يستمده مما يقرأ ويحفظ
ومثل هذا لا نطمع أن يماشي العقاد في سموقه وتفرده، ولا أن يتابع كذلك شروحنا للعقاد وطريقته، ولكني سأتحدث لمن يشاء أن يستمع
إن العقاد فنان دقيق الحسَّ في تميز الألوان والأضواء والظلال، وفي نفسه غرام بالنور يجعله يلتفت أبدا لومضاته وخفقاته (وقد وفيت شرح هذا في محاضرة لي عن وحي الأربعين عام 1934 نشرت وقتها بالجهاد، فليرجع إليها من شاء)
ومن هنا كان انتباهه لقوس قزح وألوانه وأطيافه، وكان تشبيه (مطارف الحسان وطرفهن) بهذه الألوان والأطياف، التي زاحمن قزحاً عليها حتى ظفرن بها منه، فألقى لهن بها وأدبر
وانصرف! ومن هنا كانت الطرافة والحيوية التي حسبنا الإشارة إليها تكفي أول مرة للفت النظر والفهم، فأخطأنا التقدير
وقد فهم الأستاذ شاكر أننا نعني بتلاعب الرافعي بالألفاظ، أنه قال مرة إن قزحاً لا يفصل عن قوس ثم عاد ففصلها! وما إلى شيء من هذا قصدت، وما يمكن أن يفهم ما قلته على هذا الوجه. إنما عنيت بالتلاعب أن يترك الناقد هذه الطرفة في الحس والخيال، ويعني بتخريج الألفاظ اللغوية، غافلاً عن النكتة المقصودة من فصل (قزح) عن (قوس) أو متجاهلاً لها، وهو ما صنعه الرافعي
أما ما ذكره الأستاذ شاكر من قول شوقي ورأي العقاد فيه فالأمر فيه مختلف جداً، فشوقي في بيته لا يذكر (قوس) أي ذكر، وإنما يورد (قزحا) وحدها ويقصد بها (قوس) كما يفهم من معنى البيت:
قصراً أرى أم فلكا
…
وشجراً أم قزحا؟
فكان الحق مع العقاد أن يقول: (ولا تذكر قزح إلا مع قوس) ولكنه لم يوجب في قوله هذه ألا تفصل منها كما أوجبه الرافعي خطأ. وفريق بين تحتيم ذكرهما معاً وتحتيم اتصالهما كما لا بد أن يفهم الأستاذ!
على أنه يبقى بعد ذلك كله أن كلام شوقي لم يكن يتضمن (نكته) خاصة كالتي تضمنها كلام العقاد، وتوجيه الكلام يقتضي بعض التصرف في عرف الأحياء!
هذا حديث قد أطلت فيه، ولكنه ليس موجها لأن يكون رداً على الأستاذ شاكر فيما كتب، وإلا فالمسألة أهون من هذا؛ إنما أردت به تصفية الموقف في طرق النقد. وما يجب أن يتوفر لها من فهم ودقة ويقظة. . . وحياة!
(حلوان)
سيد قطب
التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدينة
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .
- 13 -
أحس لنكولن ذلك فهو وإن يكن يعرف الذهاب بنفسه يدرك اليوم قد صار له في السياسة مكانة الزعماء، فلقد انتشر اسمه خارج مقاطعة الينوس وتقبله الناس بقبول حسن، فهم يضمرون لصاحبه المودة والإجلال. رشحه رجال الحزب الجمهوري في مؤتمرهم الأهلي أثناء الانتخاب لمركز نائب رئيس الولايات على غير سعى منه إلى ذلك فنال من الأصوات عشرة ومائة وهو بعيد؛ فلما جاءه نبأ ذلك تبسم ضاحكاً وقال:(حسبت أول الأمر أن هنالك رجلا آخر عظيما في مسَّاشوست يدعى لنكولن)
ولقد تألمت نفسه وانكدرت لذلك الحكم؛ تلمح ذلك فيما عقب به عليه، إذا أخذ يقارن حال العبيد يومئذ بما يرجى لهم غداة إعلان الاستقلال قال:(في هاتيك الأيام كان إعلاننا الاستقلال أمراً يعتبره الناس جميعاً مقدساً كما اعتبره ينتظم الجميع؛ أما اليوم فقد هوجم وسخر منه وأوَّل وفق الأهواء، ومزق شر ممزق، حتى لو أنه أمكن أن يبعث صانعوه اليوم من مراقدهم لما أمكن أن يتعرفوه؛ وذلك بما فعلنا من محاولتنا جعل عبودية الزنجي أمراً عاماً أبدياً. فإن جميع قوى الأرض لتظهر كأنها تتحد سريعاً عليه؛ فإله المال (ممون) في أعقابه ومن ورائه الطمع، ثم من وراء هذا الفلسفة، تتلوها جميع نظريات العصر التي تتكاتف جميعاً في سرعة لتؤيد الصيحة ضده. لقد ألقوا به في سجنه بعد أن فتشوه ولم يدعوا في يده أي آلة ينقب بها الجدار؛ وأغلقوا عليه الواحد بعد الآخر أبواباً ثقيلة من الحديد؛ والآن يذرونه في سجنه وعلى بابه قفل من الحديد ذو مائة مفتاح، لا يمكن فتحه إلا
أن تتفق على ذلك كل هاتيك المفاتيح؛ وإنها لفي أيدي مائة من الرجال مختلفين مبعوثين في مائة مكان مختلفة سحيقة؛ وإنهم ليفكرون فوق ذلك ليتبينوا أي اختراع في كافة نواحي العقل والمادة يمكن أن يضاف إلى ذلك ليكون استحالة هربه أكثر توكيداً مما هو عليه.
وحق لأبراهام أن ينطلق لسانه بمثل هذا الغضب، وأن تجزع نفسه لهذا الحكم فإنه ليراه ينطوي على كثير من المعاني وكلها على غير ما يحب لحزبه الوليد وللقضية الكبرى التي يتوقف على مآلها مصير البلاد. أليس يقضي هذا الحكم بأن المجلس التشريعي للولايات هو الذي يحدد من غير قيد ماذا تكون عليه حال الولايات من حيث مسألة العبيد؟ وإذاً فما قيمة اتفاق سوري، ثم ما نصيب هذا الحزب الجديد من القرب أو البعد من روح القانون وهو الذي يجعل اتفاق سوري القاعدة التي يصدر عنها في أعماله؟
إنها في الحق لمعضلة؛ ولكن هل كان يضيق هذا القلب الكبير بالمعضلات؟ وهل يتخاذل إيمانه لدى الصعاب وهو الذي يفل الصعاب وينهض لجسيمات الأمور؟ كلا، إنه ليحس قوة نفسه تعظم بقدر ما تعظم الشدائد. وهو كغيره من أولي العزم من الرجال لا يتذوق حلاوة النصر إلا في مرارة المقاساة. . .
وظلت الأحداث تأتي بعضها في أثر بعض، فهذه كنساس تتوثب فيها الفتنة ويتحفز الشر، راحت تضع لها دستوراً فأخذت تختار من رجالها من يعقدون مؤتمراً لهذا الغرض، فانظر كيف يحال بين الأحرار وبين أمانيهم بالقوة المادية فيجري الانتخاب فيها على صورة تشعر النفوس البريئة بالألم اللاذع أن ترى الأغراض الوضيعة تنزل فيها بالعقلاء من البشر إلى مرتبة البهائم، ويبيت الناس وكأنما لم يكن الوجدان يوماً ناحية من نواحي نفوسهم. فهم في ضراوتهم وبهتانهم يظهرون في مظهر تخجل منه الآدمية التي تشعر بحقيقتها
ويأبى الرئيس بيوكانون إلا أن يعتمد قرار المؤتمر فيقبل الولاية في الاتحاد على أنها إحدى الولايات التي تأخذ بنظام العبيد كما جاء في دستورها! ولشد ما تألم لنكولن لهذا، ولكنه كان عنده ذلك الأم الذي يلد العمل ويبعث الأمل ويغري المجاهدين بالجهاد؛ ولولا أن كان من المؤمنين الصادقين لتطرق إلى نفسه الوهن ومشى في عزمه اليأس. . .
ووثب لمناهضة دستور كنساس رجل آخر يعد موقفه في ذلك غريباً لأول وهلة، وذلك هو
دوجلاس عضو مجلس الشيوخ ومنافس لنكولن الشديد البأس. رأى أن قرار المحكمة العليا قد قضى على ما راح يدعو إليه من توطيد مبدأ سيادة الولايات في تقرير مصائرها. ذلك المبدأ البراق الذي ظل يخلب به الألباب ويلوح به لأهل الجنوب ليكونوا عدته في الوصول إلى الرياسة. ولقد بات من أمره في حيرة شديدة، فهو يخشى أن يفقد محبة أهل الجنوب إذا عارض دستور كنساس؛ بينما هو يخشى كذلك أن يفقد ثقة أهل الينواس إذا هو نسى مبدأ سيادة الولايات وسلطانها فيؤدي ذلك إلى خذلانه في الانتخاب لمجلس الشيوخ وقد أوشكت مدته فيه أن تنتهي. . .
ولكنه آثر الآن أن يحرص على ثقة أهل مسوري فأعلن عداءه لدستور كنساس، ووقف يحمل عليه في المجلس حملات شديدة بعثت في قلوب الديمقراطيين الغيظ وأثارت في عقولهم، فهذا الرجل الذي يعدونه من أقوى رجالهم لا يستحي أن يخرج عليهم على هذه الصورة ولا يتورع أن يعارضهم في غير هوادة كأنما انقلب بغتة فصار من رجال الحزب الجديد!
ولقد هلل بعض زعماء الحزب الجديد لموقف دوجلاس واستبشروا به، بل لقد أخذوا يمهدون السبيل لانضمام دوجلاس إلى حزبهم ليزدادوا به قوة ومنعة! وراح جريلي أحد رجال الصحافة من قادة هذا الحزب يدعو القراء إلى انتخاب دوجلاس وأخذ يثني على صفاته ويتوخى في مديحه الأطناب والمغالاة. وكان هذا الرجل من اشهر رجال الصحافة في الشمال وكانت له عند الناس مكانته؛ كما كان لصحيفته عدد كبير من المعجبين
ولكن ابراهام قد أنكر على نفسه أن يقبل ذلك من رجال حزبه. وهنا تعود للظهور خصلة من أبرز خصاله ألا وهي الاستقامة إذا صح أن تعبر هذه الكلمة عن المعنى الذي نريد، والذي نراه ينحصر في إطلاق النفس على سجيتها وسيرها على نهج من فطرتها في غير تناقض أو تذبذب أو اضطراب. وما كان ابراهام يتكلف شيئاً لا يتحرك به وجدانه أو تستشعره نفسه، ومن هنا كانت خطواته بطبيعتها مسدودة إلى الغاية مفضية إليها مهما كثر ما يعترضه من الصعاب. ثم من هنا كان خطره إذا تحرك. انظر إلى قوله حين سمع بتلك الدعوة الجديدة: (لقد أتى جريلي نحوي بما لا يعد عدلا. إني جمهوري من صميم الجمهوريين ولقد وقفت دائماً في طليعة الصفوف عند المعركة. والآن أراه يفاوض
دوجلاس خير من يمثل رجل الاتفاقات، ذلك الذي كان مرة آلة أهل الجنوب والذي هو اليوم أحد معارضيهم؛ ذلك هو الرجل الذي يحاول أن يضعه في صفنا الأمامي. . . أنه يحسب أن مكانه الرفيع وشهرته وتجاربه ومقدرته إذا أحببت، تقوم مقام حاجته إلى مركز جمهوري خالص، بل وتزيد على ذلك. . . ولذلك فأن إعادة انتخابه على أن يمثل قضية الحزب العامة أجدى علينا من انتخاب من هو خير منه من رجالنا الجمهوريين الخلص الذي ليست لهم مثل شهرته؛ ماذا تعني (نيويورك تريبيون) بذلك الإطراء والإعجاب والتعظيم الذي تزجيه دائبة لدوجلاس؟ هل تعبر بذلك عن شعور الجمهوريين في وشنجطون؟ هل وصلوا نهائياً إلى أن قضية الحزب الجمهوري على العموم تتقدم خيراً من ذي قبل بتضحيتنا هنا في النيواس؟ إن كان ذلك كذلك فنحب أن نعلمه عاجلا؛ على أني إلى الآن لم أعلم بجمهوري هنا يرغب أن ينضم إلى دوجلاس؛ وإذا استمرت (التريبيون) ترن باسم دوجلاس في مسامع الخمسة أو العشرة الآلاف من قرائها في الينواس فأن ذلك يكون أكثر من أن نأمل معه أن يظل الشمل مجتمعاً؛ إنني لا أشكو ولكني أرغب في أن أصل إلى بينه من الأمر)
ذلك هو لنكولن اليوم؛ انظر كيف يجمع بين منطق المحامي وحصافة السياسي، وانظر كيف يدفع عن نفسه بما نشأ عليه من دماثة ما يحس فيه عدواناً على شخصه ونيلا من كرامته؛ فهو يطيق أن يكون دوجلاس خصما له ولكنه لن يطيق أن يراه مرشح حزبه في الينواس؛ نعم أنه لن يستطيع أن يحمل نفسه على الركوب معه في قارب واحد يراه يأخذ فيه مكان الربان وهو فيما يعتقد لا يرى كفايته تتقاصر عن ذلك المكان
وأرسل لنكولن بعض أصدقائه إلى الأقاليم الشرقية ليروا ما حال الحزب هناك؛ وكان من هؤلاء صديقه هرندن، وقد عاد إليه ينبئه بأن اسمه يقابل بالاحترام لدى الكثيرين من قادة الحزب بيد أنه يحمل إليه مع ذلك أنباء لا تسره؛ فرجال الحزب منقسمون بعضهم على بعض، فأن لجريلي آراءه ولستيورد أطماعه ولغيرهما من أساطين الحزب من أوجه الرأي ما يخشى منه انحلاله. . .
هكذا صارت السياسة شغله الشاغل، وهو لا يستطيع اليوم إلا أن يكون كذلك؛ لا لأنه يتخذ من السياسة وسيلة إلى تحقيق أغراض شخصية كما عسى أن يفعل غيره؛ ولكن لأن عقيدة
تحرك نفسه وتستثير وجدانه، ولأن رسالة من الرسالات الإنسانية الكبيرة ينبض بها قلبه الكبير. وهل عهدنا عليه من قبل ما نحمل معه اشتغاله بالسياسة على غير محمله؟ حاشا أن يكون ذلك من صفات أمثاله وإلا فما أضيع البشرية وما أهون أمرها.
على أنه لم ينفض يده من المحاماة بعد؛ فحرفته التي يكسب منها قوته لا زالت حتى اليوم هي تلك الحرفة التي مال إليها بفطرته والتي ارتفع بها إلى مستوى إنساني يحق معه لأربابها جميعاً في كل جيل أن يذكروا أسمه كعلم من أعلام المدنية، وأن يضيفوه إلى ما يعتبرونه في مهنتهم من دواعي الشرف وبواعث المفاخرة
ومن أفعاله في المحاماة يومئذ حادثة نرويها لدلالتها على ما كانت تنطوي عليه تلك النفس الكبيرة من المعاني الإنسانية، تلك النفس التي لم يتطرق إليها ما يتطرق إلى النفوس في هذا العالم الخبيث من خبائث تشوهما وأوشاب تذرى بها وهي في حال غريبة، تحار معها هل تعدها آدمية أم تعدها بهيمية؟
وقع بصره في إحدى الصحف على جريمة قتل يدعى أحد المتهمين فيها أرمسترنج، فدهش وتساءل هل يكون ذلك ابن متحديه ثم صديقه القديم عندما كان فتى يبيع في الحانوت وهو غريب في نيو سالم. ولما تبين له أنه هو كتب إلى أمه يقول:(عزيزتي مسز أرمستنج: علمت الآن بألمك العميق وبإلقاء القبض على ابنك متهماً بالقتل؛ ويصعب على أن أصدق أنه عسى أن يرتكب ما اتهم به. إن ذلك لا يبدو ممكناً. وإني لارجوا أن يجري معه تحقيق عادل على أي حال؛ وإن عرفاني بالجميل نحوك وما كان لي منك أيام شدتي من عطف طالت أيامه ليحدوني أن أتقدم في سماحة نفس بخدماتي المتواضعة لصالحه؛ فأن هذا سوف يتيح لي الفرصة أن أرد بقدر ضئيل تلك المبرات التي نلتها على يديك ويدي زوجك المأسوف عليه، حيثما لقيت تحت سقفكم مأوى كريماً بغير مال وبغير ثمن)
وتبين لابراهام براءته فعمد في دفاعه إلى طعن حجج المبطلين من الشهود. ومن ذلك أنه سأل أحدهم كيف رآه ينفذ الجريمة فأجاب إنه رأى ذلك على ضوء القمر، فطلب المحامي نتيجة، ومنها تبين للمحكمة أن ليلة القتل كانت ليلة ممتعة؛ ودار الدفاع حول تسفيه آراء الشهود حتى أصدرت المحكمة حكمها بالبراءة
(يتبع)
الخفيف
الأنباط وأطلال بترا الخالدة
للأستاذ خليل جمعه الطوال
- 1 -
الأنباط قوم من العرب الساميين. ويذهب المؤرخ الشهير فلافيوس يوسيفوس، إلى أن نسبهم يتصل بنبايوت بن إسماعيل، ابن هاجر، (زوج سيدنا إبراهيم)، ولكنَّ المؤرخ الكبير مومسن يخالف هذا الرأي، فقد ذكر أن الآراميين قد انشئوا قديماً من رعاياهم مستعمرة في خليج العرب لتربط طرقهم التجارية مع الجنوب. وقد نزح سكان هذه المستعمرة فيما بعد، واستوطنوا بترا الواقعة في شبه جزيرة سينا، بين خليج السويس وأيلة، وأن هؤلاء الأنباط الذين يرجح أنهم أقرب إلى الفرع الآرامي منهم إلى أبناء إسماعيل. ولكن مومسن لا يذكر إلى جانب هذا الزعم، الذي اتفق جمهور المؤرخين على تخطئته، أسباب نزوح هؤلاء القوم، وتاريخ نزوحهم، ولا أشار إلى عدد النازحين منهم، وفي ذلك كله مجالٌ للافتراض والشك. . . على أنه مهما يكن من الغموض والاختلاف في نسب الأنباط إلى نبايوت أو غيره، فان المصادر جميعها متفقة على نسبتهم إلى الفرع السَّامي، بدليل طراز معيشتهم البدوية، وعاداتهم وتقاليدهم العربية، وبدليل أنهم كانوا يتكلمون العربية، ولم يتكلموا الآرامية إلاَّ بعد احتكاكهم بالرومان. وتدل الآثار والنقوش النبطية الكثيرة التي اكتشفت في مدائن صالح على أن خط هجرتهم إلى بترا كان من الجنوب إلى الشمال، أي أنهم نزحوا من أواسط سهوب البادية واستوطنوا جنوب الأمارة الأردنية الحاضرة، وكانوا حيثما نزلوا يقيمون في مضاربهم المصنوعة من الوبر والشعر؛ دون أن يعمدوا إلى الكهوف، أو إلى إقامة الأبنية الحجرية. وإن في خروجهم من قلب البادية لأكبر دليل على ساميتهم، وعلى نسبتهم، إلى أصل عربي. أماَّ المستر هورسفيلد فيخالف هذا الزعم في مبدأ هجرتهم، ويزعم أنها كانت من الشرق لا من الجنوب
كان الأنباط في أول أمرهم يشتغلون بالقرصنة على سواحل البحار وبالسلب والنهب، ولكنهم عندما سكنوا بترا وأجلوا عنها الآدوميين، وجهوا هممهم نحو التجارة، لأنَّ بلادهم كانت معقلاً للقوافل التي كانت تسير بين أواسط آسيا ومصر، ومركزاً لتبادل المتاجر والبضائع التي كانت تمر بها من الجزيرة والهند، وأهمها التمر، والبن والأبسطة، وريش
النعام، والعاج والبخور، والتوابل، والبهارات - بالمنسوجات والمصنوعات الخزفية، والحرير، والأدوات التي كانت ترد من سواحل فلسطين الفينيقية، ومن سوريا، ومصر، فاثروا من ذلك ثراء طائلا، واستولوا على جميع الطرق التجارية، واحتكروا النقل عليها بغير منافس مدة طويلة من الزمن، حتى كانت جواسقهم تفهق بالمال، وآبالهم تنوء بالخير والرزق، فتجردوا عن بداوتهم وبدءوا بالتحضر رويداً رويداً فزادت معنوياتهم وقويت شوكتهم وهيبتهم، حتى لقد خطب البابليون ودَّهم وتحالفوا معهم فتخوف منهم الآشوريون وسيروا إليهم 646ق. م قلة من جيوشهم فغلبت ملكهم ناطمو، وأخضعوه لسلطتهم حيناً من الزمن. ولما اعتلى أشور بانيبال العرش الأشوري، جرد جيشه ثانية وأعاد الكرة على البابليين، فالتقى بهم في عزاليا (640 - 628ق. م) وقد انضم إليهم الأنباط، فدارت بين الفريقين رحى الحرب، وكان النصر أخيراً للآشوريين عليهم، وذلك للمرة التاسعة فأسروا امرأة يوتحا وأخته وأمه، وحملوهن إلى الشام، وقطعوا على الأنباط موارد الماء جميعها، وذلك لانضمامهم إلى أعدائهم البابليين، ولأنهم أجاروا ملكهم (يوتحا)، ولما اشتد بهؤلاء العطش ولم تغنهم عن المال آبالهم العديد التي نحروها، قبضوا على يوتحا وسلموه إلى أعدائه الآشوريين، فأرسله إلى نينوى وشدوه من فكه إلى أحد أبوابها حيناً من الزمن
وفي عام 334 ق. م. اكتسح الاسكندر المقدوني سوريا وفلسطين، وكان الأنباط قد تحصنوا في بلدة غزة، فلما جاءها قاومه النبطيون مقاومة شديدة، ولكنه أخيراً تمكن من فتحها واكتساحها
وفي عام 312 ق. م. وجه ملك سوريا (أنتفونس) إلى الأنباط جيشاً لجباً مؤلفاً من ستمائة فارس وأربعة آلاف من المشاة وكان على رأسه القائد العظيم أثنيوس. فاخترق عمون ومؤاب بدون مقاومة ثم نزل بترا فجاءة واحتلتها بسهولة، ذلك لأن الأنباط كانوا يقاتلون في بعض الجهات الأخرى، ولما عاد جيش النبطيين من جهاده حمل على الجيش اليوناني حملة غماء الجبين، وهزمه هزيمة منكرة، واستأصل شأفته، حتى لم ينج من ذلك الجيش الجرار سوى خمسين فارسا
ثم جهز انتفونس جيشاً آخر مؤلفاً من أربعة آلاف فارس ومثلها من المشاة بقيادة ابنه ديمتريوس، وسيره ليثأر لأبطاله من الأنباط، ولكن النبطيين هجروا المدينة (بترا) بإبلهم
وأرزاقهم ولجئوا إلى الصحراء، ولما دخلها ديمتريوس لو يجد فيها سوى العجزة، الذين افتدوا أنفسهم بالمال، ورجع عنهم إلى دمشق
وفي عام 286 ق. م. ارتقى عرش مصر بطليموس الثاني فأغار على بلاد الأنباط غير مرة ولم يتمكن من اكتساحها فعمد إلى محاربتهم اقتصادياً، إذ استولى على طريق تجارة الهند، فانحطت معنوياتهم، ونالتهم الأزمة، ثم دخل البطالسة حرباً جديدة ضد السلوقيين في سوريا، فاستغل النبطيون هذه الفرصة إذ استرجعوا مكانتهم الاقتصادية وبسطوا نفوذهم حتى بصرى شمالاً وفلسطين غرباً، وأخيراً عهد إليهم المصريون البطالسة بحراسة الحدود المصرية، فصار أمة ذات هيبة وشأن
أما أشهر ملوكهم بعد ناطمو فكان (أرطاس الثاني)، وفي عهد هذا الملك الذي امتد حكمه من (110 - 96) ق. م وفي عهد خلفائه: أوبيدس الأول؛ وروبال الأول؛ وأرطاس الثاني بلغت دولة الأنباط أوج رفعتها وعلائها، إذ كانت متمتعة بالاستقلال الناجز التام، كما كانت اقتصادياتها، في حالة ممتازة، وفي عهد اسكندر جانوس عمت الفوضى والانحلال الحكومة السورية البيزنطية، واشتدت كراهية السوريين للمستعمرين البيزنطيين، حتى إنهم كانوا عوناً لكل خارج عليهم أو طامع في مناوشتهم، ولذلك لم يلق الحارث فيلهلين (95 - 50 ق. م) مقاومة عنيفة. حين زحفه على الشام. بل سرعان ما سلم له السوريون مقادة أمرهم ومقاليد دولتهم، ليتخلصوا من ظل الإرهاق البيزنطي الممقوت. وقد تولى سوريا من بعد الحارث خمسة ملوك نبطيون، وهم: مالك (50 - 38 ق. م) وعبادة (30 - 7 ق. م) والحارث الثاني الملقب بفلوديموس (7ق. م - 40 ب. م.) ومالك (40 - 75 ب. م) ودابل (75 - 106)
وقد كانت مملكة الأنباط ممتدة من جنوبي أرنون إلى مدائن صالح، والجزء الجنوبي من شرقي الأردن الواقع شرقي الخط الحجازي حتى دمشق وبصرى، وجبل الدروز، وفي عام 67 ق. م. اتفق الحارث فيلهلين مع الفرس على أن يساعدوه في استرداد بلاده التي اغتصبها اسكندر جانوس، فجهز جيشاً مؤلفاً من الأنباط والفرس يبلغ (50 ألف محارب)، وسار على رأسه لحصار أرسبيلوس في قصره، ولكنه رجع من حصاره مغلوباً
وفي عام 64 ق. م بينما كان بومي مشغولا بتسكين ثورة اليهود في فلسطين، جهز جيشاً
بقيادة ماركوس سكوروس، وسيرة لمقاتلة الأنباط، فتصادم معهم على شواطئ الأردن، فناوشهم طويلا، ولكنه لم يستطيع قط أن يخترق بلادهم ويتوغل في جنوبي شرق الأردن. وانتهت هذه المناوشات بتدخل انتباتر الكاهن اليهودي، إذ استطاع أن يقنع الملك النبطي (الحارث) بان يدفع لسكوروس القائد الروماني مبلغاً معيناً من المال فدية لبلاده. (راجع تاريخ رما ص 138 - 139 لمومسن). وتخليداً لذكرى هذا الانتصار ضرب سكورس نقداً عليه صورة الحارث يقود جملا، ويقدم إلى الرومانيين غصناً من الزيتون
وفي عام 34 ق. م أهدى أنطوني 671 جزءاً من بلاد الأنباط إلى كيلوبطرا، وهذه بدورها أهدته إلى هيرودس؛ فكبر على الأنباط أن يروا بلادهم سلعة تتهاداها الملوك، فجيش ملكهم المعروف (بمالك) عساكره، وانقض بهم على كيلوبطرا فانتصر عليها في واقعة، قرب السويس، وأغرق أساطيلها التي كانت في البحر الأحمر. ولما بلغ أنطوني خبر اندحار معشوقته، جهز جيشاً عظيماً وسيره بقيادة هيرودس ليثأرلها من الأنباط؛ وكان ذلك عام 32 ق. م فانتصر عليهم في بادئ الأمر، ثم امتد خط القتال حتى كاناثا وهناك أديل للأنباط من الرومانيين في معركة حامية الوطيس، ثم جهز هيرودس جيوشاً جديدة والتقى بالأنباط قرب مدينة عمان (عاصمة شرق الأردن الحاضرة) وفتك بهم فتكاً ذريعاً، فانسحبوا حتى تحصنوا بأم الرصاص (قرب مدينة مأدبا) تدل على ذلك النقوش والكتابات النبطية التي اكتشفت فيها والتي يرجع عهدها إلى عام 39م
ولما اعتلى عرش الأنباط الحارث الثاني المعروف بفلوديموس أخذ يخطب ودَّ الرومان الذين كان قد امتد نفوذهم إلى المملكة النبطية، فزوج ابنته من هيرودس التتراكي، ولكنها لم تلبث أن طلقته هاربه إلى أبيها في بطرا، لأنها اكتشفت علاقاته الغرامية مع هيرودياس زوج أخيه، فاستشاط الحارث غيظاً لشرف ابنته وانقض على هيرودس وهزمه
أما اليونان فقد ظلموا يهتبلون السوانح ويتحينون الفرص المناسبة ليثأروا من الأنباط لهزيمتهم عام 25 ق. م. حتى كان عهد تروجن فجهز عام 106 ب. م. جيشاً لجباً أولوس كرنيليوس، حاكم سوريا، وسيرة إليهم، فقضى هذا الجيش على تلك المملكة العظيمة التي دام عهدها التاريخي زهاء ستة قرون وأقصى آخر ملوكها وهو دابل عن العرش
(يتبع - شرق الأردن)
خليل جمعه الطوال
رسالة الفن
فرنتس شوبرت
للأستاذ محمد كامل حجاج
أتشرف بالتحدث اليوم إلى قراء الرسالة الأفاضل عن عبقرية نادرة ونابغة عالمي في الموسيقى وقد عرقه الشعب المصيري أكثر من غيره كبار الموسيقيين من كثرة عرض فلمه (السانفوني الناقصة) ولا يخفى عليكم أن السينما لا تتوخى الحقيقة دائما بل يتعمد الانحراف مبرراً موقفه ولو بأضعف الأسانيد المشكوك في صحتها إن كان في سردها ما يشوق النظارة أو يترك فيهم أثراً عنيفاً
ولد المترجم له في 31 يناير سنة 1797 على مقربة من فينا وعاجلته المنية في ربيعه الحادي والثلاثين أي سنة 1828 وقد ترك بعد هذه الحياة القصيرة كثيراً من مختلف أنواع التلحين إذ بلغت مؤلفاته في طبعه سنة 97 - 1885 أربعين مجلداً
ولع منذ نعومة أظفاره بالموسيقى فتلقى تعليمه الأول على ميشل هولزر وأخذ يدرس في الوقت نفسه البيانو وعدة آلات وتريه حتى أتقنها، وعهد إليه بدور الكمان الأولى في الأوركستر وهو في الرابعة عشرة من عمره، ثم تلقى دروس الأرموني على أورجانست البلاط الأمبراطوري وتلقى الغناء والتلحين على سالييري مؤلف أوبيرا داناييد
ولقد أحصى ما ألفه في سنة 1815 وكان في ربيعه الثامن عشر فوجد 6 مؤلفات للمسرح وقداسان وو (وهما نوعان من الموسيقى الدينية) و 12 و 8 و 10 تنويعات للبيانو و 2 من السانفوني و 4 سوناتات وأكثر من 130 من الأغاني المعروفة بالليدر فيكون المجموع 176 قطعة. وقد عال عنه بيتهوفن وهو على فراش الموت: (إن في هذا العقل لشرارة ربانية)
كان أبوه صاحب مدرسة وتزوج مرتين رزق فيهما من الأبناء والبنات ثمانية عشر. وإنه لمن الصعب أن يميز الإنسان أدوار حياة قصيرة؛ ولكننا نستطيع أن نعتبر منها تاريخين بلغ فيهما أعلى ذرى مجد وهما سنة 1819 التي ظهرت فيها قطعته المشهورة (شكوى الراعي) وسمعها الجمهور لأول مرة وحازت قبولاً عظيماً وعام 1821 إذ مثلت فيها (ملك الأون) وهي من أوبيراته الشائقة وقد غناها المغني المشهور ميكاييل فوجل، ومن هذا
العهد ذاع صيته وملأ الآفاق. ولقد كان مثل موزار في ذكائه المشتعل في صباه المبكر، ويظهر أن القواعد الابتدائية للفن قد نقشتها الطبيعة في عقله فما كان منه إلا أن يشعر بتطلبات الظروف مثل مبادئ العقل والأخلاق
ولقد قال أستاذه هولزر: (بماذا أستطيع أن أفيده؟ إذ حينما أريد أن أعلمه شيئاً وجدته عالماً به من قبل). ولرخامة صوته وذكائه الموسيقي عين منشداً في كورس كنيسة الإمبراطور وانتظم في سلك طلبه المعهد الموسيقي الملحق بها إلى أن خرج منه سنة 1813، ثم جعله والده مساعداً له في مدرسته ولبث فيها ثلاثة أعوام ولما كثر المعجبون به أرادوا أن يعرفوه للناس فأرسلوا جانباً من الليدر التي كتبها إلى جوته ولكنه لم يرد عليهم، فلم ييأسوا وأرسلوها إلى المغني الشهير ميكاييل فوجل فدهش منها وطفق يحضرها ويغنيها
وفي سنة 1818 استدعاه الكونت استر هازي ليعلم ابنتيه فذهب إلى قصر بالمجر وقضى فيه الصيف في هناءة وسرور معجباً بتلميذتيه. إن أعظم المراجع التاريخية لم تذكر شيئاً عن غرام شوبرت بكارولين ابنة الكونت استر هازي والبعض قال: إن هذه الإشاعة مشكوك في صحتها إذ لم يؤيدها أحد وغاية الأمر إنهم استنتجوا هذه الإشاعة من عناوين بعض القطع كالوداع وغيرها
وفي نوفمبر سنة 1818 رجع إلى فينا ورفض متابعة التدريس وطرده والده، فأواه أصدقاءه وتدبرا له في شراء بيانو. فكان يستيقظ مبكراً ويبتدئ التلحين في الساعة السابعة صباحاً ويستمر إلى الأولى بعد الظهر في الخلاء أو في المدينة أو في نزهة أو في المقاهي، وكان يمضي السهرة كلها مع أصدقائه الحميمين مثل: وو وو وغيرهم. وكانت هذه الفئة من الموسيقيين والشعراء يصرفون الليل في إلقاء الشعر والغناء، ويشربون ويمرحون، وكانت كؤوس الجعة تدور طول ليلهم وفي بعض الأوقات يرقصون، وكانت حفلات الشباب هذه الأدبية يعيدها شوبرت إذ كان لها بمثابة الروح للجسد، وأطلق عليها أسم:(شوبرتياد)
وقال صديقه (كنا جميعاً أخوة أصدقاء) وكان شوبرت يحب أصدقاءه حباً جماً حتى أنه كان يسكن معهم ويشاطرهم ملابسه ونقوده. وكان يحب اجتماعات الفتيات ويرتاح لسمرهن ولكنه كان يتحاشى أن يقع في حبائل الحب أو يعكر صفوه وخياله بآلامه لأنه كان يطمح
إلى الرقى لأعلى ذروة في الموسيقى
وفي أبريل سنة 1821 تعاون أصدقاؤه على طبع كراسة من الليدر في محل وكتب السانفوني التي من مقام وهي أعمق مؤلفاته. وقد حاول أن يقترب من بنبهوفن ولكن هيهات الوصول إليه
أصابه مرض شديد سنة 1823 فخاب رجاؤه وانقطعت آماله فقال في إحدى رسائله: (إني لأتعس وأشقى رجل في العالم، فتصور بائساً لا تعتدل صحته قط، وقد خابت آماله ولم تسبب له مسرات الحب والصداقة إلا المتاعب والآلام، ولا أدري إنساناً يفهم آلام أو سعادة مثيله. ويظن دائماً أن الواحد يتجه دائماً نحو الآخر وغاية الأمر أنهما يسيران جنباً إلى جنب، فيالعذاب من يشعر بهذه الحقيقة المرة المؤلمة
رفضوا له أوبيرتين وهما (المتأمرون) و (فيرابراس) ولكن الرحلة له التي قام بها مع المغني الشهير فوجل في النمسا العليا قد صادفت نجاحاً عظيماً
وبعد عودته كتب ليدر (الطحانة الجميلة) وفيها صورة حية ناطقة للآلام الإنسانية ولكن أوبيرا التي مثلت في 20 ديسمبر سنة 1823 وكان عليها إقبال عظيم لم تمثل إلا مرتين
ساورته الكآبة والحزن لتدهور صحته وفقره، ولسوء حظه ما كان يجد من يشتري تأليفه، ثم ذهب سنة 1824 إلى قصر الكونت استرهازي وقضى به فصلاً ثانياً وكان يبحث في مخيلته عن شيء يتعزى به وكان يتصنع السرور رغماً عن كآبته وآلامه، استمر في العمل ولم يهجر المسرح وقد ربطته عري الصداقة مع المغنية الشهيرة أناملدر هوبتمان وكانت تغني في مسرح (ملك بورسيا). ثم قام برحلة جديدة مع فوجل المغني ورجع ومعه عدة مخطوطات ثم أرسل إلى جوته كبير شعراء الألمان ثلاثاً من الليدر فلم يرد عليه وحاول أن ينال وظيفة الرئيس الثاني لكنيسة الملك فأخفق
(البقية في العدد القادم)
محمد كامل حجاج
عضو مؤتمر الموسيقى العربية
رسالة الشعر
خواطر
دمشق
للأستاذ محمد بهجة الأثري
إلى صديقي العلامة الأستاذ محمد كرد على ذكرى احتفائه
بالإخاء وتكريمه للصداقة. . . . . .
مَنْ عّذِيِرٌ من الهوى ومُجِيرُ؟
…
فَضَحَ الشَّوْقُ ما أجَنَّ الضميرُ
أنا في قبضة اَلْجمَالِ فخوَِّدٌ
…
تَسْتبيني وروضةٌ وغَديرُ
هذه (جِلِّقٌ)، تبارَكَ ربي!
…
بَلَدٌ طيّب ورَبُّ غَفُورٌ
الهوى والهواءُ والجدولُ الرَّق
…
رَاقُ والروضُ والسَّناَ والحورُ
حَيْثما تغتدي فروضٌ أَريِضٌ
…
عَنْبِريُّ الشَّذا وماءٌ نَميرُ
وظِلالٌ ممدودةٌ وْهيٌ تَنْدَى
…
وشعاعٌ يرِفُّ وهْوَ مُنيرُ
من سَنَا الشمسِ فوقَها ومن الزُّه
…
ْر دنانيرُ عسجدٍ وعَبِيرٌ
يُقْتَلُ القَيْظُ في ذراها ولكنْ
…
في ذَراها يحيا الهوى ويَسُورُ
جئتُ آوى من اَلحرُور إليها
…
وإذا في الحشا يشبُ اَلحرُور
أنا منها ومن مَهاَها اللواتي
…
يتكسَّرْنَ رقةً، مسحورُ
كلُّ بيضاء في لواحظَ سُودٍ
…
رفَّ في خدَّها الدمُ المستحيرُ
في قَوَامٍ لَدْنِ المعاطفِ ريّا
…
نَ وخَصْرٍ من الضَّنى يستجيرُ
وصِبا ناضر الشبابِ غذاه
…
تَرَفُ العيشِ والنعيمُ الوثيرُ
وأديمٍ مُنعَّمٍ في حَبيرٍ
…
يوم العينَ ماؤه والحبيرُ
لَمعَا كالسَّرابِ شفَّ فلم تَدْ
…
رِ أماءٌ لألآؤه أم نورُ
تنفُثُ السحرَ في الخلِىِّ فيشجى
…
وتثير الهوى بهِ فيثورُ
ولقد زانها النَّفُورُ، وحُسْنُ ال
…
حُسْنِ في الغادة العَرُوُبِ النفورُ
كرَّمَ اللهُ وجهَ كلِّ نوارٍ
…
صانها الطُّهْرُ والحياءُ الوَقورُ!
ليَ من هيكلِ الجمالِ المعاني
…
ولغيْرِي ألفاظُهُ والقشور!
وطَنُ العُرْبِ جَنَّةٌ و (دِمَشقٌ)
…
رَفْرَف أقدسُ المَطَافِ طَهُورُ
شَرِقَتْ بالرُّؤى مَسارِحُها الخضْ
…
رُ وَرَوَّى نعيمَهُنَّ السرور
رُبَّ نادٍ تَخِذْتُهُ في الروابي
…
أقرأُ الحسنَ ثم وَهْوَ سُطُورُ
فعلى (الغوطَتَيْن) والشمس تبدو
…
وعلى (النَّيْرَبَيْنِ) وهْيَ تغور
فإذا (جِلِّقٌ) رياضاً ودوراً
…
كالمصابيح حَفَّها الديْجُورُ
عالم من زَبَرْجَدٍ طافَ بالدُّ
…
رِّ وأَذْكاه بالرُّواءِ النور
ساحِرُ المجتَلى أطلَّ عليهِ
…
(قاسيون) كأنه مذعورُ
يغْرَقُ الحِسُّ في سنَاهُ ويفنى
…
في تهاويل سحرِهِ التفكيرُ
أنا إِن أَنْسَ لستُ أنسى لياليَّ (م)
…
إِذِ البدر ضاحكٌ والثغورُ
وكأنَّ الأكوانَ في دافق النُّو
…
رِ بَحُورٌ قد أغرقتْها بُحورُ!
يمرَحُ القلبُ في سناها كما يَمْ
…
رَحُ في الماءِ سابحاً عُصْفورُ
قد تَفَرَّدْنَ بالصَّباحَةِ لولا
…
وَجَنَاتٌ نازَعْنَها ونُحُور!
حبّذا (الشامُ): ماؤها وهواها
…
وَمَسارِي أنهارها والقُصورُ
وميادين حُسْنِها وهْيَ شتَّى
…
وَمَغاني اللذاتِ وهْيَ كثيرُ
جادَهَا الغَيْثُ من معاهدَ لا اللُّط
…
فُ عداها ولا النعيمُ الوفيرُ
محسنات الأوقات حتى ضُحاها
…
وشَّحَتْهُ بلطفهِنَّ البُكُور
وبنفسي هَدِيرُ أنهارِها السب
…
عةِ دوَّامةً عليها الطيور
تتلوّى كالأَيْنِ ريعَ وتَهْتَ
…
زُّ ارتعاشاً وترتمي وتمُور
وَهْيَ آناً في السهل تعدو وآناً
…
في الروابي المُسَلْسَلَاتِ تُغيرُ
تَغْمُرُ (الغُوطَتيْنِ) بشراً وَزهْواً
…
مثلما يغمُرُ النفوسَ الحبُورُ
وغَدَتْ فوْقَهَاَ الطيورُ تَغَنَّي
…
ربما يُطرِب الطيورَ الخرِيرُ
عِشقَتْ لَحْنَهَا، وللطيرِ لَحْنٌ
…
يُسْكِرُ السمعَ جَرْسُهُ المخمورُ
حَيث تغدو يلهيك منها سَمَاعٌ
…
ومن الروض مونِقٌ منْضُور
عُرُسٌ قام للطبيعة فيها
…
يستخِفُّ الإنسانَ وَهْوَ وَقُور
تَهْزَجُ الطَّيْرُ والأَناسيُّ فيه
…
ويمور السَّنَا ويذكو العَبِيرُ
قِفْ تمتَّعْ مما تراه قليلاً
…
وقلقلٌ مما تراه كثير:
للأَنوف الشذا أريجاً، وللسَّمْ
…
عِ الأغاني، وللحاظ البُدُور!
(بغداد)
محمد بهجة الأثري
باقة غزل من شعر الصبا
للأستاذ عبد الرحمن شكري
يا أيها الخاذل النائي بجفوته
…
خَلَّفْتَ في العيش سحر المنظر البَهِج
خلعت حسناً على عيش كما خلعت
…
شمس الغروب على الآفاق مِن وَهَجِ
فُرَصُ الحياة قليلة
…
فالى م صدرك يا حبيبي
بينا جمالك يانع
…
فينان كالغصن الرطيب
إذ لا جمال ولا صبا
…
يصبي القلوب إلى الوجيب
والعيش خلد في الشبا
…
ب فإن دنوتَ من المشيب
أحسست إقبال الردى
…
كخُشُوع قلبك في المغيب
فترى الحياة قصيرة
…
كتلألؤِ البرق الخَلُوبِ
وإذا الحياة كنغبة ال
…
عصفور رُوِّعَ بالرقيب
متلفتاً يحسو ويخ
…
شى أن يفاجأ من قريب
بينا تراه على الغدي
…
ر تراه في الأفق الرحيب
خَلَّفْتَ في القلب يا معذبه
…
ما خَلَّفَتْ نَغْمَةٌ من الجرْسِ
ذكراك في نفس منصت يَقِظٍ
…
ذكرى غناء في الأذنِ كالهمس
كأنما القلب نحوكم أبدا
…
ليْنُوفَرٌ دائرٌ مع الشمس
كنت روضي والعيش صيف وَفِيَّ
…
حافل بالنعيم والآلاء
فَلَئنْ عادت الحياة شتاءً
…
أنت فيها كزهرة في الشتاء
فهي محبوبةٌ وأندادها كُثْ
…
رٌ ومحبوبةٌ بِقَفْرٍ عَرَاءِ
وهي أشهى إلى النفوس وأحلى
…
لافتقاد الأنداد والأكفاء
أَعِرِ البدر طلعتكْ
…
عَلِّمِ النجم نظرتكْ
وامنح الصيف من روا
…
ئك والزهر نضرتك
وهب الطير شدو صو
…
تك والفجر غرتك
وإذا ما هفا النسي
…
م فعلمه خطرتك
امنح الكون نشوتك
…
عَلِّمْ السحر قدرتك
أرى الزهر غضاً يانعاً طَلهُ الندى
…
مَلِيّاً بأن يشجو ظِلماَء النواظر
فأحسبه دمعاً لذكرى غرامنا
…
وأنفاس أيام اللقاء الغوابر
أتذكر وعداً باللقاء بذلته
…
بمجتمع الأطيار بين الأزاهر
وليلا طرقناه سميرين في الدجا
…
كما جال سر الوحي بين السرائر
طرقتك يا ليل اللقاء فرقتني
…
بلذات حب كالنجوم الزواهر
يا زائري أعقبت منك محاسناً
…
كالزهر يترك نفحة المرتاد
أخصبت تربة أنفسٍ ظلمانة
…
شامت سناك فكان خير عهاد
وأفضت شؤبوب المحاسن والنهي
…
طيباً على المهجات والأكباد
يا زورة كالعيد إلا أنها
…
جَلَّتْ عن الفرحات والأعياد
يا ليت أن النفس درة غائص
…
أهديك من نفسي أعز عتاد
أنت عنوان لما أن
…
شده في الخطرات
كل كون كان أو لم
…
يك من ماضٍ وآت
فيك لي منه أمان
…
ي النفوس الساميات
أنت في الدهر ابتسام
…
كابتسام الزهرات
ليت لي منك ائتلافاً
…
كائتلاف النغمات
قد قلتُ للحب لا تعتب على سَكَنِي
…
لنبوة منه في أيامك الأخَرِ
كم لي وكم لك من يوم لنا بَهِجٍ
…
بطلعة منه تحكي طلعة القمر
إِنْ يَجْفُ قلبك كالأثمار يانعةٌ
…
ودون ذلك يُبْسٌ من نوى الثمر
فارجم بقلبك قلباً أنت مالكه
…
فإن قلبك مثل الماس في الحجر
البدر يكسو الأشياَء حُلَّتَهُ
…
وَشْىٌ من السحر حاكه القمر
فَاكْسُ بأنوارك الورى حُلَلاً
…
كي لا يبين الشقاءُ والعُسُرُ
يا شمس حسن حياتنا ثمر
…
ينضج في ضوء حسنك الثمر
أشعل بألحاظك الحياة فإ
…
ن الصخر إمَّا رمقته دُرَرُ
عَطَّرْتَ بُرْدَ الحياة قاطبة
…
فكل شيء لمسته زهر
عيناك عيناك منبت الذكَرِ
…
كالزهر في قاع رائق الغُدُرِ
فنعسة الطرف أنه أبدا
…
كذاهل قد أصاخ للفِكَرِ
هل نعسة في لواحظ حُلُمٌ
…
بعالم الحسن طيب الخبرِ
بعالم أنت من بشائره
…
بشرى طيور الربيع بالزهَرِ
عيناك من لمحة الزواهر أم
…
مقبوسة الضوء من سنا القمر
أم من غدير الحياة حَفَّ به
…
من هُدْبِ جفنيك باسق الشجرِ
فيا ليت لي من صخر قلبك آلة
…
فاتلو عليها نَغْمَةً أي نغمة
يئن أنين العود من شجو ضارب
…
فَيُسْعِدُ قلبي في حنين وأنة
يا حسن من لي بسحر أتقيك به
…
فالحسن يسحرنا والسحر يرقينا
يا حسن هل أنت ناسٍ ليلة سلفت
…
طاف الغرام بها يا حسن يسقينا
كأننا نَغْمَةٌ في الليل سارية
…
تهفو ولليل أذْنٌ فيه تبغينا
ورق فيه أديم البدر مؤتلقاً
…
حتى كأن سناه من تصافينا
وبت ألحظكم طوراً وألحظه
…
وفوق وجهك ضوء البدر يشجينا
يا حسن لا تحسبن البدر يشغلنا
…
يا حسن لولاك ما ابيضَّت ليالينا
يا عين من أهوى رعاك الكرى
…
فليلتي منكِ ليال طوالْ
عودي بلحظ صادق ضوءه
…
يجلو دجا العيش وليل الخيال
يا طاقة أبصر منها النعيم
…
في جنة الخلد وريف الظلال
عودي بلحظ أحتسي خمرة
…
فالكوثر العذب شهيُّ المنال
ولا يكن برقك لي خُلَّباً
…
أهكذا حَظَّى آلٌ فآلْ
ضم الملاحة والرشا
…
قة واللذاذة والألم
ناجيت قلبك كي يرق (م)
…
فما أحس ولا رحم
يقسو فؤادك يا صَنَمْ
…
أوليس من حجر أصم
عبد الرحمن شكري
البريد الأدبي
توحيد التعليم في المدارس المدنية والدينية
أخذ صاحب المعالي وزير المعارف يدرس برامج التعليم في المدارس المدنية والدينية، بقسمها الابتدائي والثانوي، قاصداً بذلك إلى وضع برامج يشترك فيها التعليم المدني والتعليم الديني
وقد كتب معالي الوزير إلى صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر يستطلع رأيه في هذا الصدد، تمهيداً لانتخاب لجنة من رجال المعارف والأزهر، يعهد إليها وضع البرامج الملائمة. والغرض من تحقيق هذه الفكرة إيجاد التقارب بين عقول المتعلمين وخلق جيل جديد متفاهم، لا تشعر جماعاته بفوارق بينها، ولا تتعصب فيه كل طائفة لنفسها، وبهذا تتفادى أسباب النفرة بين الجماعات المختلفة
إلى الأستاذ فليكس فارس
جاء في العدد 166 من الرسالة الغراء في مقال الأستاذ الكبير (نهضة المرأة المصرية وكيف توجه للخير العام) ما يلي:
(لا ينهض بالشرق إلا حضارة شرقية تستمد نظمها من المبادئ الأدبية العليا التي أنزلت وحياً على رسله وأنبيائه، وإلهاماً على فلاسفته وشعرائه)
وقد قامت اليوم دعوة تدحض هذه النظرية. وقد نشر في الأهرام قريباً مقال عنوانه (هل يوجد اليوم شرق؟) للأستاذ توفيق الحكيم وقد استشهد الكاتب في هذا المقال بحديث نقله من كتابه الحديث (عصفور من الشرق) يدور بين روسي ومصري
فإلى الأستاذ فليكس فارس الذي قال بأن الشرق لا ينهض إلا بحضارة شرقية أطلب أن ينفحنا برأيه ويدلنا على جواب شاف عما إذا لم يزل الشرق شرقاً والغرب غرباً؟ وهل في الإمكان تلقيح الشرق بحضارة غربية؟ وهل في الإمكان أن يلتقي الشرق مع الغرب؟ وأي الحضارتين أفضل - إن كانت هناك حضارتان شرقية وغربية - الأولى أم الثانية؟
إن قراء الأستاذ المعجبين بصدق آرائه وصواب نظرياته وصحة حججه ليرجون أن يرويهم بحديثه العذب وأدبه الفياض
عبد العزيز عبد الكريم
عصيون جابر لا أزيونجيير
جاء في العدد الفائت من الرسالة الزاهرة في البريد الأدبي ما يأتي (إن الأثريين الأمريكيين الباحثين قرب شاطئ البحر اكتشفوا آثار مرفأ كان زاهراً هناك حوالي ألف سنة إلى ثمانمائة سنة قبل المسيح! أما المدينة المكتشفة آثارها فهي أزيونجيير التي يدعوها العرب تل الخليفة!)
وهذا كلام لا غبار عليه، والاستكشاف حق، والمدينة أثرية تضرب في أعماق الدهر بتاريخ مجيد، ولكن لفظها العبرانيّ الساميّ قد تناولته أقلام المترجمين بالتحريف والتغيير
فقد جاء في الإصحاح التاسع عدد 26 من سفر الملوك الأول من التوراة ما يأتي بالنص العبري: (فآنى عاشا همِّلخ شلموه بعصيون جابر إِشرأتْ ألوتُ علىْ شفة تِمْ سوُف بآرص أدوم) وترجمه ذلك: (وصنع الملك سليمان سفناً في عصيون جابر
التي تقع على شفة (شاطئ) بحر (سوف) بأرض أدوم فالتوراة هنا حددت موقعها، وجاء الاستكشاف مصداقاً لهذا التحديد؛ وبحر سوف الوارد ذكره في الآية هو البحر الأحمر، ومعنى هذا (الهلاك) في اللغة العبرية، ولعله يشير إلى هلاك فرعون وجنوده عندما اتبع سيدنا موسى فسمى لدى العبرانيين بهذا الحدث في التاريخ والله أعلم!
أما عصيون جابر المدينة المستكشفة، فقد ذكرت في مواضع عدة من سفر الملوك اللفظ العبراني الأصيل، وهي من أعظم الموانئ الواقعة على خليج العقبة في ذياك الزمان بأرض الآدوميين إذ كانت في أيام سليمان عليه السلام مركزاً ممتازاً لتجارة الأعواد والأطياب والذهب الوارد من أوفيرا في مملكة سبأ بالجنوب
(دار العلوم)
محمد عبد الله العمودي
تبسيط قواعد النحو وطريقة الكتابة العربية
تشتغل وزارة المعارف بجمع المقترحات والبيانات المختلفة التي تتلقاها الآن عن المشروعين الخاصين بتبسيط قواعد النحو وطريقة الكتابة العربية
وتنوي الوزارة قبل اتخاذ قرار نهائي في هاتين المسألتين الاستئناس بآراء مجمع اللغة والمستشرقين
وينتظر أن يطول الزمن بهذين المشروعين نظراً لخطورتهما وصعوبة الوصول إلى الغاية التي تقصد إليها الوزارة
وقد يكون المشروع الأول أسهل من الثاني. ومهما يكن من أمرهما فان الاتجاه يذهب إلى تبسيط النحو في المدارس المصرية ابتداه من العالم الدراسي القادم حتى ترتفع شكاية الأساتذة من ضعف التلاميذ
جبران والرمزية
قرأت في مجلة الرسالة الغراء 251 مقالا للأستاذ بشر فارس ألمع في هامشه إلى أن الكاتب الرسام جبران خليل جبران قد سار على نهج الشاعر الإنجليزي وليم بليك في رمزيته
وإنه لمن المعروف عن جبران أنه لم يكن رمزياً بالمعنى الدقيق الذي يفهم من هذا اللفظ، بل كان أكثر ميلاً إلى الرمانتيكية منه إلى الرمزية، وكثيراً ما كان يمزح بينهما في كتاباته وعلى الأخض في كتابيه النبي ويسوع ابن الآفاق. أما في رسومه فقد كانت الرمزية غالبة فيها
والملاحظ في الشاعر (بليك) أنه كان غامضاً مسرفاً في الغموض والإبهام لدرجة يتعذر معها الفهم والغوص على المعنى الذي يريده والفكرة التي يقصد إليها، مهما أجهد القارئ عقله. فأنت إذ تقرأ ديوانيه أغاني الطهارة يبهرك ضوء قوي من الجمال، ولكن أنى لك أن تعرف سر هذا الضياء وما الذي بهرك من حسنه؛ وقصاراك أن تستشعر كثيراً من اللذة المعنوية في هذا الغموض وجماله.
وما كان جبران على هذا النهج في الغموض والإسراف فيه. وقليلاً ما نعثر على قطعة كتابية حاكى فيها الشاعر الإنجليزي الغامض. فهل للأستاذ بشر فارس - إذا تفضل - أن يفصح عما إذا كان الغموض والإبهام من مستلزمات الرمزية؟ وهل بدونهما لا تكون؟ وله وافر الشكر على غزير علمه والسلام
السيد كامل الشرقاوي
المفتش بوزارة المالية
العيد الألفي للجامعة الأزهرية
كان مجلس الوزراء قد قرر في عهد المغفور له توفيق نسيم باشا تأليف لجنة لتنظيم المسائل الإدارية والتاريخية الخاصة بالاحتفال بالعيد الألفي للجامعة الازهرية، وهو الاحتفال الذي سيقام في سنة 1360 هجرية. وقد باشرت هذه اللجنة مهمتها بضعة أسابيع ثم أرجأت أعمالها بعد ذلك
وقد علمنا أن إدارة المعاهد الدينية تشتغل في هذه الأيام بوضع مشروع جديد لإقامة مهرجان إسلامي كبير يليق بتاريخ أقدم جامعة إسلامية، على أن يشترك العالم الإسلامي فيه
وسيعرض هذا المشرع بعد الفراغ منه على مجلس الوزراء للموافقة عليه واعتماد المبالغ الخاصة بتنفيذه
والمفهوم أن الرأي مستقر على توجيه الدعوة إلى مختلف الجامعات العلمية الأوربية التي دعت الأزهر إلى الاشتراك في حفلاتها
بين الرافعي والعقاد
في هذه الصفحة من عدد (الرسالة) الغراء رقم 255 قرأت دفاعاً كتبه الأستاذ عبد المتعال الصعيدي عن بيت العقاد:
فيك مني ومن الناس ومن
…
كل موجود وموعود تؤام
ولست أريد أن أتناول البيت من نواحي ضعفه ليرى سيدي أن البيت يتداعى من أي ناحية أقمته، ولكني أريد أن أشير إلى آخر ما جاء في كلمته حيث قال:
(ولا بد أن نشير بعد هذا إلى أن كل شيء في هذا الكون لا يخلو من حسن يسوغ إجراء بيت العقاد على عمومه، وقد ذهب إلى هذا بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين) قال العلامة الزمخشري: إنه ما من شيء خلقة إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة، وأوجبته المصلحة، فجميع المخلوقات حسنة. . .)
وهي التفاتة جميلة حقاً لولا أن قول الزمخشري رحمه الله قد ضمَّ على تفسير لا يضل فيه رأي. ولسنا ننكر أن كل شيء مرتب على ما اقتضته الحكمة، وهذا معناه الدقة في الصنع والأحكام. وإن الإنسان يدرس علوم النبات والحيوان ليرى في بعض ما خلق الله ما يحير الألباب، وهذه هي دقة الصنعة وجمال الخلق. وهذا هو مذهب الفلاسفة الذين يرون كل شيء جميلاً. . .
أما الجمال الذي يجذب القلب ويأسر الفؤاد، فأين تجده - يا سيدي - في الدودة وفي الذبابة وفي. . . وفي. . . مما تشمئز النفس ويعافه الذوق وهي في تمام التكوين وبراعة الخلقة
وإذا كان بيت العقاد هو على مذهب الفلاسفة - كما يقول الأستاذ الصعيدي - أعني على مذهب التشريح، فلعل الحبيبة كانت عالماً صغيراً فيه. . . وفيه. . . مما ذكره الأستاذ الرافعيُّ - يرحمه الله -
ولا زلت أصر على أن الشعر الفلسفي ليس شعراً إلا على مذهب ألفية ابن مالك
كامل محمود حبيب
وسام فرنسي للأستاذ توفيق الحكيم
منحت الحكومة الفرنسية الأستاذ توفيق الحكيم وسام (أوفيسيه داكاديمي). وقد أوفد المسيو دي فيتاس وزير فرنسا المفوض بمصر مسيو ليبريت لتقديم براءة هذا الوسام إلى الأستاذ الحكيم مع كتاب رقيق فيه النجاح الكبير الذي لقيته ترجمة (شهرزاذ) و (عودة الروح) لدى الجمهور الفرنسي، ونوه بتقديره الشخصي للكتاب الذي يعده من خيرة كتاب مصر البارزين، وشفع ذلك بأصدق تهنئاته
ذلك ما يلقاه أدباؤنا في غير مصر. أما في مصر فقد أرادت وزارة المعارف أن تشتري مقداراً من بعض كتب الأستاذ الحكيم جرياً على عادتها في تشجيع الأدب من هذه الطريق، فطلبت منه تسعين نسخة!! بثمن حددته لا يكاد يبلغ نفقة الطبع، فلم يسعه إلا أن يرفض شاكراً لها حسن نيتها على كل حال!
بين أبي العلاء والخيام
كتب صديقنا الدكتور عبد الوهاب عزام مقالاً تحليلياً فيما بين أبي العلاء وعمر الخيام من
النظر المشترك في بعض وجوه الفكر نشرته الهلال في عددها الخاص بالمعري الذي سيصدر في أول يونيه، ولكن وقع فيه من التقديم والتأخير والتحريف ما أخل بسياقه وشوه من معانيه، فرأى الأستاذ أن يعيد نشره في عدد الرسالة القادم
مكافحة الأمية
قدم صاحب المعالي وزير المعارف إلى صاحب المقام الرفيع وزير المالية مذكرة عن مكافحة الأمية، عرض فيها للمشروعات المختلفة التي وضعها في هذا الشأن وزراء المعارف السابقون منذ عام 1917 إذ كان صاحب الدولة المغفور له عدلي يكن باشا وزيراً للمعارف إلى عام 1937
وقد ألمعت المذكرة إلى المشروع الذي وضع في العام الماضي يتطلب تنفيذه خمسة وعشرين عاماً، بينما كان مشروع عدلي باشا يتطلب عشر سنوات فقط
وبعد أن بسط معالي الوزير الأسباب الداعية إلى القضاء على الأمية، أخذ يشرح مشروعية الذي وضعه للقضاء عليها في مدى خمس سنوات، وقد قرر فيه أن يبدأ تعميم التعليم الإلزامي في المحافظات وعواصم المديريات والمراكز، فالقرى الكبرى والصغرى فالكفور والعزب
ثم طلب إلى وزارة المالية، فتح اعتماد قدره 150. 006 ج في الميزانية الجديدة. وهي النفقات اللازمة لإنشاء 400 مكتب.
وعلى أثر اعتماد هذا المال، تأخذ وزارة المعارف في فتح هذه المكاتب، للعمل فيها ابتداء من العام الدراسي المقبل.