الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 257
- بتاريخ: 06 - 06 - 1938
سحر الصحراء
للأستاذ عباس محمود العقاد
السحر هو أن يختار الإنسان الشيء وهو مرغم على اختياره، فهو مزيج من حكم الإرادة ومن حكم القضاء
ليس بسحر أن نختار الشيء ونحن قادرون على تركه
وليس بسحر أن نرغم عليه ولا رغبة لنا فيه
إنما السحر أن ترغب في الشيء حتى نحاول أن نكف عن الرغبة فيه فنعلم يومئذ أننا غير أحرار، وأننا مسحورون أو مأخوذون
وإنما السحر أن نحسب أننا مكرهون على ذلك الشيء وأننا نضجر منه ونتململ ونفرح بالخلاص، حتى إذا أوشكنا أن نخلص منه علمنا أننا نكره الخلاص كما نكره البقاء
وحيثما وجد السحر وجدت الحيرة في أمره. فإذا فتن الرجل بالمرأة وحار الناس سائلين: والله ما ندري ما يفتنه منها فذلك هو السحر
وإذا أقدم الرجل على الخطأ وهو يعلم أنه خطأ ويعلم أنه مدفوع إليه غير مختار في الرجوع عنه، حائر فيما يدفعه إليه كما يحار من حوله في سر اندفاعه، فذلك هو السحر
وقوة السحر أنه هو قوة الإنسان وقوة القضاء مجتمعتين، متحدتين، سائرتين في طريق واحد. فإذا تنازعتا فذلك هو ابتداء الخلاص منه أو ابتداء بطلانه وانحساره، ولو كان لا ينحسر إلا بهلاك المسحور
كذلك سحر الصحراء
تسأل لماذا يسكنها أبناؤها؟ وتسأل لماذا يألفونها وهي جرداء خاوية تلهبهم قيظاً في الصيف وتجمدهم قرة في الشتاء، وتظمئهم وتجيعهم إذا امتنع الغيث وهو كثير الامتناع مجهول المواعيد مكذوب الوعود؟
والصحراء - بعد - ساحرة لأنك تسأل هذا السؤال، فلو أنك استغنيت عن سؤاله وعلمت سبب هيام البدوي بقفاره وجباله لما كان ثمة سحر ولا ساحر، ولا باطن للأمر غير ما فيه من ظاهر، بل هو شيء يجري في مجراه، ولا يلتبس عليك أصله ومغزاه
لماذا يشرب الماء ويأكل التمر ويستجيد الهواء حيث يجود، وينعم بالصيف والشتاء حيث
تتهيأ فيهما النعمة، ويفعل ما ينبغي أن يفعل، ويسأل وهو لا ينبغي أن يسأل
لماذا؟ أتسأل لماذا؟ إن هذا لهو العجب الذي يحوجنا إلى استفسار، وليس هو هيام البدوي بالصحراء حين تكون على ما نهواه نحن ويهواه كل إنسان
عرفت الصحراء منذ الطفولة؛ واحسبني ورثت عرفانها في دماء الآباء والجدود؛ وقاربت حدودها وشارفت أعاجيبها وهي مما يظهر على حافتها في بعض الأحايين
فعند ضاحية أسوان خيام يسكنها بعض البجاة، وكان على الجانب الشرقي منها بناء مسوَّر في وسطه فضاء فسيح، وفي وسط الفضاء خيمة يأوي إليها صاحبها ولا يأوي إلى ما بني من حجارة وحجرات، ونحن نحسب أن الإنسان لا يأوي إلى الخيمة إلا لقلة البناء. فها هو ذا رجل يؤثر الخيمة والبناء في وسعه وعلى مقربة منه: هنا بدأت في العجب في أمر الصحراء ونقائض أبناء الصحراء. ثم قرأت أن للصحراء سحراً فحسبت أنني وقعت على السبب وأبطلت العجب، ولم أدر يومئذ أن كلمة (السحر) إنما هي تلخيص الأعاجيب التي لا نفقه أسبابها، وليست هي بتفسيرها ولا بالدليل على إدراكها وتعليلها، ومضيت من ثم في سؤال الصحراء عن مفتاح سرها، وفي علاج الباب الذي أنكره ابن من أبناء الصحراء حيث قال:
ما إن سمعت ولا أراني سامعاً
…
أبداً بصحراء عليها باب!
وكل صحراء عليها باب، وعلى بابها مفتاح، وهذا هو المفتاح الذي بحثت عنه فاهتديت بعض الهداية، ونفذت إلى بعض الإغلاق
كل صحراء عاش فيها الرعاة فإنما كان اجدابها على التدريج بعد أزمان طوال تبدلت فيها طبيعة الأرض والجو، فندرة الأمطار بعد كثرة، ويبست المروج بعد نضرة، وقلت الأرزاق بعد وفرة، ثم أجدبت بعد ذلك إلا من قليل زرع هنا وقليل ماء هناك، وأهلها مع هذا قادرون على تعويض ما فقدوه بالإغارة على جيرانهم من سكان الحواضر وأصحاب الأنهار والمزارع، حيث تأصلت عادة المعيشة، وتمكنت طبيعة الترحل، واستقامت البنية على هذه العادات والطبائع فجاءت ضرورة الانتقال بعد استقامة الطبيعة على هذه الأحوال، وفعل سحر الوراثة فعله غير مفطون إليه ولا مقدور على منعه، فكان منه ذلك القيد الذي يربط صاحبه في مكانه برضاه وهواه، ويلوح للناظرين كأنما يربطه هنالك على
غير رضاه ولا هواه
وتنازع أبناء الصحراء حين قلت خيراتها فغلب الأقوياء منهم ضعفاءهم على جانب الخصب والري والرخاء، وتراجع الآخرون إلى جانب القفر كارهين حتى ألفوه طائعين، فذلك مع الوراثة هو السحر الذي يمتزج فيه الإكراه بالاختيار
على أن الوراثة - أو الألفة - عقدة واحدة من عقد السحر الكثيرة في كل صحراء، ولا سيما الصحراء التي هي أوفى إلى الجدب والخلاء، فمن عقدها ما يشبه التنويم المغناطيسي، ومن عقدها ما يشبه الخمر، ومن عقدها ما يشبه الشعوذة ولعب الحواة؛ وهذه عقد قلما يجمعها سحر واحد في نسق، فإذا اجتمعت فأخلق بفعلها أن يطغي على صواب العقول
ينام الإنسان النوم المعروف بالمغناطيسي إذا أتأر نظره إلى الشيء الواحد لا يتحول الشيء عن مكانه ولا هو يتحول عنه بنظره. وتنقضي هنيهات على ذلك فيخدر الحس وتشتمل عليه حالة من حالات الغيبوبة، وتنقاد الواعية لذلك الذي نومها هذا التنويم انقياد المعبود للعابد أو المفتون للفاتن، ملكها وملأها فلا مشيئة لها معه ولا فراغ لها من وحيه وسلطانه
فماذا تصنع الصحراء بالذي يدمن النظر إليها إلا أن تنومه هذا التنويم وتشمله بمثل تلك الفتنة وتقوده بمثل ذلك القياد!
أنه لينظر إلى مائة شيء فيها فإذا هو ينظر إلى شيء واحد لتشابه المناظر وتقارب الألوان والهيئات؛ وأنه لينتقل ميلاً بعد ميل وساعة بعد ساعة وكأنه قائم في موضعه لا يتزحزح منه قيد خطوة، لأن العبرة بما يقع في الواعية لا بما تقع عليه الأقدام، وأن النائم لينام بعد هنيهات قليلة فكيف يكون الحال بمن تنقضي عليه في تلك النظرة أعوام، ومن تنقضي على آبائه وأجداده في تعاقب تلك الفتنة أجيال؟؟
تلك هي العقدة المغناطيسية في سحر الصحراء
أما عقدتها التي تشبه الخمر فما هي الخمر إن لم تكن نشوة الطلاقة وعزة الإفلات من القيود، وتوهم القدرة على كل مطلب في غير حذر من رادع ولا مبالاة بملام؟
تلك الطلاقة هي سكرة الآفاق الواسعة أو سكرة الصحراء التي لا تقوم فيها الحواجز، ولا تصطدم فيها الحدود، ولا يشعر فيها المرء بين الأرض المديدة والسماء الرفيعة بطغيان
مخلوق أو خضوع متهور
ثم شعوذة الحواة وحسبك منها السراب!!
مضينا في السيارة من الضحى إلى الغروب ثماني ساعات بين مرسى مطروح وسيوة فلم يغب قط عن أبصارنا منظر هذا السراب بعلو ويهبط، ويبدو ويختفي، ويتراءى حتى لا شك في صدقه، ويتوارى حتى لا شك في كذبه وزوره
السراب السراب!! ما أشبه الحقيقة فيه بالكذاب، وما أولاه منا بالعجب العجاب!
لقد عدنا وعلى الأفق غاشية من سحاب رقيق فلم نر سراباً في طول الطريق
فقلنا لبعض أصحابنا في السفر: أرأيت كيف يكون النور سبيل الضلال في بعض الأحايين؟ ترجم هذا لأعداء الحديث من الشعر وقل لهم: إن الذي يتحدث عن (ضلال النور) لا يتحدث بالأحاجي والألغاز، ولا يقول إلا ما تبصره العين فكيف بالضمير وكيف بالخيال؟ وقل لهم إنهم لا يفهمون الصحراء وهم يعيشون منها بين ذكريات النوق والوهاد، وأساطير الأفراس والجياد. وقل لهم بالإيجاز أنهم لا يفهمون!
سراب الصحراء، هذه المشعوذة البارعة
وخمر الصحراء، هذه المشعشعة الصارعة
وغيبوبة الصحراء، هذه المنومة الفارعة
وعراقة الصحراء هذه القديمة في الآناء، القديمة في الآماد والأجواء، القديمة في العروق والدماء
ذلك هو سحر الصحراء!
عباس محمود العقاد
بين الشرق والغرب
للأستاذ فليكس فارس
(إذا لم تكن لنا قدرة على خلق حضارة شرقية فلنفعل على
الأقل ما فعلت تركيا وننخرط بكل بساطة في سلك الأمم
الأوربية)
(توفيق الحكيم)
هذه كلمة جمعت خلاصة المقال الذي نشره في الأهرام تحت عنوان (هل يوجد اليوم شرق؟) كاتب مفكر له ثقافته الواسعة وعلمه العميق. وقد أعجبت بالمقال وما يعرض من الاعتبارات على المفكرين وشكرت لكاتبه صراحته ودعوته إلى الصراحة في موقف يتحتم فيه على الشرق العربي أن يختط له سبيلاً سوياً في ثقافته وحضارته
إن الأستاذ توفيق الحكيم لا يجهل أننا إذا عجزنا عن خلق الحضارة الشرقية وعن أحيائها بتعبير أصح فإن انخراطنا في سلك الأمم الأوربية لا يوصلنا إلى الهدف الذي تتجه إليه الأمة التركية ولما تصل إليه. فإن بين الفطرة التركية والفطرة العربية من الفروق ما لا يصح معه أن يتخذ العرب الترك قدوة. لذلك، لا احسبني مخطئاً إذا ذهبت إلى أن الأستاذ الحكيم لم يخير العرب بين حضارتين، إلا ليثبت لهم أن في أعماق قلوبهم شرقاً لا حياة لهم إلا بالاتجاه إليه واستجلائه وراء ظلمات الأحقاب
كنت أخذت القلم لأجول جولة بين نظريات الروسي والمصري اللذين دفعهما الأستاذ الحكيم إلى حوار خطير بين الشرق والغرب، ولكنني تذكرت أنني كنت ناظرت صديقي الدكتور إسماعيل أدهم منذ أشهر في حفلة حافلة في جمعية الشبان المسيحيين في الإسكندرية وكانت الوجهة الإيجابية من الموضوع (من الخير لمصر أن تأخذ بالحضارة الغربية) فرأيت أن آخذ من ردي على المناظر ما له صلة وثيقة بالمسألة التي أثارها مؤخراً الأستاذ الحكيم
بدأت في الرد بالتفريق بين الثقافة والعلم، فقلت إن العلم مشاع لكل الأمم ولكل الأفراد فهم يتفقون فيه على ما بينهم من اختلاف بعيد في نظريات الحياة في حين أن الثقافة مستقرة في الشعور فهي (دماغ في قلب) ولا قانون لها لأنها راسخة في الفطرة، والفطرة في الفرد
كما هي في الأمم ميزة خاصة في الذوق واستعداد خاص لفهم الحياة والتمتع بها. فإذا كان العقل رائداً لبلوغ الحاجة، فليست الفطرة إلا القوة الممتعة للإنسان بتلك الحاجة بعد الظفر بها؛ وكما أن لكل فرد ثقافته التي تتجلى فطرته فيها، هكذا لكل أمة ثقافتها المستقرة في فطرتها. فلا ريب إذاً في أن سعادة الفرد والمجموع وشقاء كل منهما يتوقفان على ملاءمة الحياة أو عدم ملاءمتها لما فطرا عليه. وسواء أكان المرء مخيراً أم مسيراً في إرادته وأعماله فإنه على الحالين غير مخير في ذوقه في الحياة وفي لذته وألمه منها. فكل فرد خالفت طريقة حياته ما استقر من الحوافز في فطرته يفقد الشعور التام بتلك الحياة ويتعرض للسقوط في المعترك. وهكذا الأمم إذا خدعت نفسها وسارت في حياتها على ما يؤلم فطرتها فأنها تفقد قوت الارتقاء بذاتها فتميت شخصيتها دون أن تتدفق إلى الانبعاث في شخصية تستعيرها من سواها
وبعد أن وضعت هذا الحد بين الثقافة والعلم توجهت إلى تحليل عناصر الحضارة في الشعوب فقلت إن الخلاف الذي ينشأ بين باحثي مسألة الشرق والغرب إنما ينشأ من عدم التفريق بين المدنية الآلية الأدبية. فعندما يقوم أنصار الاتجاه إلى مدنية الغرب بدعوة عامة إلى (التفرنج) يثور عليهم أنصار الحضارة العربية مسفهين رأيهم داعين إلى مقاومة هذه الحضارة على وجه التعميم أيضاً. وهكذا يقع الفريقان في خطأ، لأن كل منهما يؤاخذ الآخر بتطرف يرتكبه هو. ولو أنهما ميزا بين الحضارة الآلية المبنية على العلم وبين الحضارة الأدبية المبنية على الفطرة التي كونتها السلالة والإقليم وتسلسل حوادث التاريخ لتوصلا إلى حل الخلاف!
بعد أن مهدت للرد على مناظري بهذه المقدمة وفصلت فيها فصلاً تاماً بين الحضارة الآلية والحضارة الذهنية، تناولت نظرياته متتالية واتجهت إلى تفنيدها. وهذه خلاصة من الرد أعرضها لبحث من يقدرون خطورة هذه المسألة بعد هذه المقدمة التي حددت فيها الثقافة ووضعت بينهما وبين العلم الوضعي ما أراه من فروق لا أخال مناظري معترضاً عليها أتناول بحثه في موضوع المناظرة سائراً على السبيل الذي أدى به إلى الاعتقاد بأفضلية الثقافة الغربية على الثقافة الشرقية العربية
وأول عبارة أراه يذهب منها إلى الاختلاف معي هي قوله:
(إن للشرق روحه الذي يستوحيه أبناؤه نزولاً على فطرتهم، وللغرب منطقه الذي يستنير به أفراده نزولاً على وحي مشاعرهم)
فمناظري إذاً يبدأ بحصر المنطق في الغرب منكراً على مصر وسائر الأقطار العربية أساس العلم، والعلم كما سبق أن أوضحت في تحديده تجاه الثقافة، إنما هو مشاع بين كل؛ الأمم وما اخترع الغرب المنطق ولا هو أوجد التفكير العلمي لنعترف له بثقافة قوامها التفكير ينفرد بها بين ما على الأرض من شعوب
ثم يجيء مناظري بعد ذلك إلى تحديد الثقافة المصرية فيقول: إن الحياة العلمية التي يحياها المصري الآن تجري على غرار ما كان يحياه أسلافه الفراعنة
وأنا لا أرى في حياة المصريين اليوم أثراً من الحضارة الفرعونية، لا في الحياة العلمية ولا في الحياة الأدبية، كما لا أرى شيئاً من حضارة الفينيقيين في حضارة أهل سوريا ولبنان، وما تبقى من هذه الحضارات المستغرقة في القدم إلا أهرام ومعابد وأعمدة وقصور وقبور
ولكنني لا أجد بداً من الاعتراف ببقاء رواسم للفطرة القديمة في سرائر أبناء هذا العصر على ضفتي البحر الأبيض يتجلى فيها كثير من الصفات النفسية والجسمية التي اتصف بها أجدادهم الأقدمون
غير أن الثقافة التي يدور البحث عليها في هذه المناظرة إنما هي العوامل التي تتوحد في أي مجتمع، وتتماثل في سريرة كل فرد من ذلك المجتمع؛ وهذه العوامل هي التي تقوم عليها الحضارات المختلفة بين الشعوب. ولا أرى داعياً للسير إلى أبعد من هذا التحديد بعد أن رأيت مناظري الكريم يأخذ بمثله ويقف في بحثه عند الثقافة الشرقية العربية دون تناول ثقافة الشرق الأقصى، فهو إنما يقصد الثقافة السامية العربية عندما يقول بوجوب تلقيح (الذهنية) المصرية بثقافة غربية تبعث فيها النشاط وتدفع بالأمة إلى الحياة
أما السبب الذي يراه المناظر موجباً لهذا الانحراف إلى ثقافة الغرب فقائم على اعتقاده بأن الثقافة العربية ذاتية تدفع بالإنسان إلى الذهاب مع الخيال، فردية تذهب بالفرد إلى الانعزال عن المجتمع، في أنه حين يرى ثقافة الغرب أو (ذهنيته) تستجلي حقائق الحياة بالتفكير الفلسفي والبحث العلمي
وهنا نقطة الخلاف في بحثنا
إن مناظري يقول بكل جلاء إن المدنية الغربية مستمدة من الثقافة الآرية العلمية، في حين أن الشرق العربي يتوه ذاهباً وراء خياله
إذا صحت هذه المقدمة فللمناظر ملء الحق بدعوة مصر إلى الانسلاخ عن شرقيتها وعروبتها للأخذ بالعبقرية الآرية التي يراها مبعث العلم الصحيح ومنشأ التفكير النير المصيب، ولكن الأمر ليس كذلك، وإليكم البرهان أسنده أولاً إلى حقيقة نطق بها مناظري وأغفل الاسترشاد بها؛ فهو يقول إن عصرنا عصر العلم، ولقد بدأ ذلك العصر بثورة نفر من رجال القرن السادس عشر على العقلية القديمة التي تبحث عن علل الأشياء الأولى فسيروا سنن الطبيعة وأقاموا عليها المدنية الغربية مستمدة من الذهنية الآرية
إذاً إن أصحابنا الآريين كانوا يغطون في نومهم، ولم تزل تراود أحلامهم الآلهة التي خلقتها عقلية التعاون فيهم فبلغ عدد هؤلاء الآلهة الثمانية آلاف في الأساطير التي يراها المناظر غنية بالرموز والفن، وما هي في نظر الشرقي العربي إلا دلالة فقر مدقع في التفكير وجموح في خيال لم يدرك شيئاً من الوحدة التي تقوم حقائق الأشياء عليها
وفي هذه الأثناء كانت الحضارة العربية تحتضن العلوم القديمة وهي ممثلة بأرسطو في الاستقراء، وبأفلاطون في القياسات العقلية. وما كانت هذه العلوم في ذلك العصر إلا في طور التدرج الأولى فاستولى عليها التفكير العربي لا ليدفعها إلى الارتقاء فحسب بل ليستنبط ويعدل ويوجد. ومما يجدر ذكره هو أن العرب حين اقتبسوا من تراث اليونان ما يعززون به تفكيرهم العلمي لم تستهوهم الثقافة اليونانية ولا حضارتهم الأدبية إذ أحسوا بما بين الحضارة التي كانت تتمخض في شعورهم وتقديرهم للحياة وبين حضارة اليونان الاجتماعية من مهاو سحيقة فأعرضوا عن شعرهم وموسيقاهم ونظم اجتماعهم؛ لذلك لا تجد في شعر العرب شيئاً من إبهام بيندار وأوريبيد وهوميروس، وهذا الأخير بقي مجهولاً حتى ترجمه البستاني في أوائل هذا القرن
فقد برز العرب من تقدمهم في علوم الآلات وتوازن السوائل ونظريات الضوء والإبصار والهندسة وعلم الهيئة فوضعوا علم الكيمياء واكتشفوا أجهزة للتقطير وأوجدوا الإسطرلاب ووضعوا جداول الأوزان النوعية والأزياج الفلكية؛ وهم واضعوا علم الجبر والأرقام. وما
كاد ينقضي القرن الثامن الميلادي حتى كان هرون الرشيد يسير شوطاً بعيداً في مضمار الرقي ليسلم إلى المأمون سنة 813 المدينة التي أصبحت عاصمة العلم الكبرى في ذلك الزمان.
ويذكر التاريخ أن هرون الرشيد كان أرسل إلى شارلمان ساعة تدل على الزمان بحركة من الشريط المربوط فأفزعت حركتها هذا الملك حتى أمر بكسرها.
أنعيد إلى الذكر ما أحيا من العلوم الفلسفية والعملية العباسيون في آسيا والفاطميون في مصر والأمويون في أسبانيا؟
أبعد هذا يصح لقائل أن يقول أن رسالة الشرق روح وشعور فقط وأن رسالة الغرب عقل ومنطق؟
إن مناظري قد ضيق عدسة منظاره وحدق على مجال من الزمان لا يزيد على قرن ونصف قرن متطلعاً إلى الرقي العلمي في طوره الأخير، فخيل له أن الغرب قد أوجدوا وأبدع وأكمل بعقليته الآرية، ثم التفت إلى الشرق العربي وهو خارج محطماً من عبودية نيف وأربعة قرون، فحسب أن السامية العربية هي ما لمحه من عدسة منظاره.
ولقد شاء المناظر الكريم أن يقدم برهاناً على أن الحياة تقوم في العالم كله على أساس غربي ومنطق غربي فقال: أن هناك تجربة نجحت إذ كانت الدولة العثمانية تمتد حتى الدانوب وتعيش على غرار شرقي فكانت منبعثاً للفساد في العالم، فلما استقطعت عنها المجر ورومانيا والبلغار واليوغسلاف فأخذوا بمدنية الغرب تقدموا. . .
ونحن نجيب على هذا موافقين المناظر على قوله فأن الدولة العثمانية التي (عاشت على غرار شرقي) إنما كانت آرية في روحها وما تسنى لها طوال حكمها الذي سحب أذياله قروناً أن تدغم فيها العنصر العربي السامي أو تندغم فيه فارتفعت عليه ولم تتمكن من الارتفاع به بالرغم من اعتناقها دينه المبين. . .
وليت الدولة العثمانية بعد أن بنت سلطانها على السطوة عرفت أن تحتفظ به بالعمل على ترقية الشعوب المستظلة بعلمها. ليتها لم تكتف بالمظاهر معرضة عن الصفات العليا التي أنار الخلفاء الأقدمون بها وجه الأرض وأقاموا عليها أروع حضارة عرفها التاريخ؛ إذن لما كانت الشعوب التي ذكرها المناظر لتتنفس الصعداء بزوال كابوس الدولة العثمانية عنها،
وما كان اليونان والبلغار وسواهم مرهقين متقهقرين لاتخاذهم الثقافة العربية فأنهم ما عرفوها وما عملوا بها بل كان موقفهم شبيهاً بموقف بلاد العرب تجاه دولة بينها وبين العدد الأوفر من رعاياها مهاو وأغوار. تلك حقائق لم تخف على الداهية أتاتورك فأنه عرف ما هي فطرة الشعب التركي وما هي الحالة الاجتماعية التي تتفق وما كمن في حوافزه. ويعلم المفكرون ما رمى إليه هذا المصلح لدولته من إضعاف كل عنصر لا يجاري روحها حتى أنه ناصب العداء الحروف والألفاظ العربية التي كانت اللغة التركية في عراك مستمر معها
أما ما يقوله المناظر عن أن اليابان نهضت بالمدنية الغربية بعد أن أعرضت عن منطق الحياة الشرقية، ففيه حقيقة كبرى تقوم برهاناً على خطأ نظريته. فأن اليابان لم تزل متمسكة بثقافتها كل التمسك وفي ذلك سر ارتقائها، فهي لم تأخذ من الغرب إلا الآلة والآلة فقط، وما الآلة إلا نتاج العلم العملي الوضعي الذي رافق الإنسانية منذ اكتشفت أول مكتشف شرارة النار في كهفه واتخذ في الصوان في العصر الحجري أوائل الآلات للحرث والقطع، وقد مر العلم على أدمغة جميع الشعوب على ممر الأجيال فليس للهندسة والكيمياء وعلوم الأحياء وسواها أي طابع قومي. ولو كان يصح أن تسند هذه العلوم إلى قوم دون سواهم لكان لنا أن نطالب بأن يطبع على كل آلة وجهاز اسم علم من أعلام العرب، إذ لولاهم لما كانت الحلقة الكبرى التي وصلت بين سلسلتي الماضي والحاضر، ولكانت أوربا لم تزل أوروبا القبائل الغارقة في بحر الظلمات
البقية في العدد القادم
فليكس فارس
فلسفة التربية
تطبيقات على التربية في مصر
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 19 -
(. . . وثقافة الإنسان لا تقدر بمقدار ما قرأ من الكتب وما
تعلم من العلوم والآداب، ولكن بمقدار ما أفاده العلم، وبمقدار
علو المستوى الذي يشرف منه على العالم، وبمقدار ما أوحت
إليه الفنون من سمو في الشعور وتذوق للجمال!
(أحمد أمين)
(للرجل المثقف جسم خاضع لإرادته، وعقل صاف متئد القوى سهل العمل مليء بما في الطبيعة من حق عظيم وقوانين كلية، هذا إلى امتلاء بالحياة المنسجمة الخادمة لضميره الحي، وإلى حب للجمال وكره للقبح، وإلى احترام للنفس وللناس، وإلى وفاق تام مع الطبيعة يفيدها فيه ويستفيد منها، ويسير معها كوزيرها أو ترجمانها وهي كأمه الحنون!)
(هكسلي)
9 -
خريج اليوم
عرضت عليك في المقال السابق صورة لعقلية خريج اليوم وما فيها من ضيق ونقص وجمود والتواء. وأحب اليوم أن أعرض عليك صورة أخرى لعاطفته بنواحيها الدينية والذوقية والخلقية لتتبين أنها مشوبة كذلك بألوان كثيرة من الشذوذ والانحراف
1 -
العاطفة
وأحسب أنك تعلم جدارة العاطفة في حياة الإنسان، وأنها تلي (العقل) مباشرة في الخطورة والأهمية، وأن الحياة بدونها صحراء لا ماء فيها ولا شجر؛ ولذلك نراهم يحرصون في
الغرب على صقلها وتهذيبها وتهيئتها لأن تكون خير سند للعقل السليم والخلق القويم والذوق الجميل، وخير معين يروي ظمأ الحياة ويسمو بها فوق الأدران والشهوات، ويجعل نصيبها من الإنسانية الرفيعة موفور القدر عظيم الدرجات!. فهيا إذاً نتحسس أثر (العاطفة) في خريجينا لنرى إلى أي حد قد نجحت مدارسنا في تكوين هذه الناحية الخطيرة من نواحي التربية والتعليم
(أ) الدين
والدين كما تعلم من أقوى مظاهر العاطفة، ومن أبعدها أثراً في خلق الجماعة والفرد، ومن أعظمها قدراً في تقدم الأمم وتأخرها. ولذلك قد عنيت الحكومات بنشره وتلقينه ودراسته واهتمت بجعله جزءاً أساسيا في برامج التعليم الديني والمدني كيما يخرج النشء متمسكاً بدينه عارفاً لربه عاملاً بفضائل الكتب الدينية وأوامرها. ولكنك حين تبحث عن هذه الناحية في مدارسنا وخريجينا ترى عجباً. فالدين في المدارس المدنية ضئيل القدر سطحي النظرة، لا شأن له في نجاح التلميذ أو رسوبه، والفروض الدينية من صوم وصلاة وإحسان مهملة إلى حد بعيد مع خطورة أثرها في حياة المتخرج الحاضرة والمستقبلة،؛ ولذلك لا تعجب إذا رأيت الكثيرين من أولئك المثقفين لا يعرفون صوماً ولا صلاة ولا زكاة ولا إحساناً! ولا يدركون من دينهم إلا ألفاظاً وقشوراً، ولا يحملون له من العاطفة إلا ما لا ينفع في كثير ولا قليل. ولا تعجب كذلك إذا وجدت بين المصلين من يصلي دون أن تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر، ودون أن تصده عن الكذب والرياء والتملق والادعاء مما تزدحم به حياة الدواوين وغير الدواوين على السواء!. ثم لا تجزع بعد هذا إذا تلمست الصبر والثقة بالله والاتكال والاحتمال في خريجينا دون أن تجد منها إلا أشباحاً متضائلة وصوراً متزايلة. وإذا تساءلت عن الزواج فسمعت من يقول لك ما ضرورته وما جدواه والأزمة شديدة والنساء كثيرات!! نعم لا تجزع يا عزيزي ولا تعجب فتلك جميعاً صدى لهذه التربية المدنية التي تغفل الدين وتهتم بالحشرات. . .!
أما الدين في المعاهد الدينية فأحسن حالاً وأقوم سبيلاً. ولكنك إذا شئت أن تتلمس فيه نقصاً فستجد وا أسفاه شيئاً كثيراً؛ ذلك أن خريج هذه المعاهد ما يزال مشوباً بضيق الأفق في تفكيره وتعصبه ونظرته للحياة الحديثة إلى حد هو الجمود أو ما يشبه الجمود! وما بالك
بصديق لي منهم دعوته إلى رؤية قطعة من الأدب الحديث على مسرح الأوبرا أو مشهد من مشاهد التاريخ على الستار الفضي فكان جوابه أن في القرآن ما يغنيه عن رؤية كل ما في دور التمثيل والسينما؟؟ وما بالك بأئمة المساجد في القرى يتلون على الناس خطباً منبرية لا يهبطون فيها إلى مستوى عقلهم إلا فيما شذ وندر؟؟ وما بالك بتلك الروح روح التعصب الديني - ينفثها رجال الدين في الصدور فتقيم بين أبناء الوطن الواحد حاجزاً من الكراهية وعدم الثقة والمقت والازدراء؟ وأخيراً ما بالك بذلك الصدر الضيق لا يتسع للنقد ولا للاجتهاد، وبتلك البدع الدينية الكثيرة التي ليست من الدين في شيء، وبهذه وتلك مما تعرفه أنت وتعلم أنه يغضب الله والرسول؟؟
تلك يا عزيزي نتيجة التعليم الديني في معاهدنا قد عرضتها عليك في شيء من الجرأة والحياء فهلا ترى أنها نتيجة أليمة تحتاج إلى التعديل السريع ما دام الأمر لا يقتصر هنا على علاقة المرء بربه، بل يمتد ويمتد إلى صلة الأفراد ببعضهم وإلى رقي الدولة وانحطاطها؟؟
(ب) الأخلاق المدنية
والأخلاق مظهر قوي للعاطفة؛ فإذا هي فقدت منبعها الديني فماذا يتبقى لها غير الضمير الشخصي والاجتماعي؟؟ لنبحث إذاً في أخلاق الخريجين الموظفين منهم وغير الموظفين فسنجد كذلك عجباً. كم منهم من (يشعر بواجبه) شعوراً حقيقياً وينطلق إلى أداء هذا الواجب بإخلاص تام وهمة عالية؟؟ وكم منهم قد وضع لنفسه (مثلا أعلى) فهو يسعى لتحقيقه، ويصدر عنه في جميع أفعاله، ويتحمل الآلام في سبيل الذود عنه، ويعمل على نشره بين أهله وذويه متخذاً لنفسه في حياته رسالة شريفة يحيا من أجلها ويموت؟! الحق أناّ مصابون في هذه الناحية بأخبث الأمراض وأشنعها وأكثرها دماراً ووبالاً. وحسبك أن تنظر في قوائم الإهمال والتقصير، والتزوير والتدليس، والتلاعب والاختلاس، والأقارب والأصهار، حتى يقف شعر رأسك فزعاً ورعباً من تلك الفوضى الخلقية التي تسيطر على رجالنا وتسير بسفينتهم إلى بحر الظلمات!! ألا يختلس المختلسون آلاف الجنيهات من مال الدولة الحرام؟ ألا ينحط الخلاف السياسي إلى جرائم الإفك والزور والكذب والاحتيال؟ ألا تباع الضمائر والأقلام في سوق المال بيع الأغنام؟؟ ألا ترتفع الشكوى لأولي الشأن دون أن يسمع سامع
ويستجيب مستجيب؟ ألا يتخذ الأجانب من بعض رجالنا سواعد لهم في الحكومة والشعب على السواء؟؟ ألا يصبح الرجل الحق أحياناً كاليتيم في مأدبة اللئام؟؟ ألا يميل ميزان العدل مراراً فإذا العدل ظلم والظلم عدل؟ أليس في المعلمين والأطباء والمحامين وغيرهم من يؤدي عمله أداء ناقصاً مشوهاً لا يعدل مطلقاً ما يتناول عليه من أجر؟ أليس في الموظفين من يكتم صوته ويطأطأ رأسه ويلوذ بالصمت الحقير إذا شعر أنه مهدد بمجرد النقل إلى بلد قريب فضلاً عن الخصم الحرمان؟؟ ثم ألا تذهب صيحات المصلين عندنا كصرخة في واد؟ ألا يعف شيوخ رجالنا عن كل جديد يأتي من ناحية الشبان؟ ألا تنمحي شخصيتنا المصرية في رجال الثقافة المدنية محواً أليماً؟ ألا نقلد الغرب في كل تافه حقير؟ ألا نترك صناعتنا المصرية تنتحر من أجل المظهر اللائق والبهرج المرذول؟؟ ألا يصمت الثائر منا ويمحو شخصيته ويندمج في التيار العام وكله يأس وعجز وأسى وقنوط؟؟
ذلك طرف من خلق كثير من الخريجين فهل تراه يرضيك؟ وإذا كان كل خريج زعيماً للشعب في دائرته فهل ترى للشعب زعماء صالحين؟؟ وحسبك اليوم ذلك وإلى اللقاء حيث أحدثك عن ناحية الذوق أيضاً
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
محمد إقبال
شاعر الإسلام وفيلسوفه
للدكتور عبد الوهاب عزام
بقية ما نشر في العدد الماضي
ومن كلامه في (نقش فرنك) وهو القسم الرابع من (ييام مشرق):
جمعية الأقوام
يريد المرزوءون أن يسنوا سنة جديدة ليمحوا آية الحرب من هذا المحفل العتيق
فما عرف قبل اليوم أن جماعة من سراق الأكفان ألفوا جماعة لتقسيم القبور
نيتشه
خفق قلبه لضعف عناصر الإنسان، وخلق فكره الحكيم صورة أحكم وأمتن، فأثار بين الفرنج هياجاً بعد هياج: مجنون ولج مصانع الزجاج
إذا بغيت نغمة ففر منه، فليس في نايه إلا قصف الرعد. قد دفع مبضعه في قلب الغرب واحمرت يده من دم الصليب. هذا الذي بنى معبداً للصنم على قواعد الحرم، قد آمن قلبه وكفر دماغه
جلال الدين الرومي وهيجل
كنت ليلة أحاول أن أحل عقد الحكيم الألماني. ذلك الذي خلع فكره على الأبدي كسوة الآني، والذي أخجل العالم إذ ضاق عن سعة خياله. فلما نزلت في بحره صارت سفينة العقل طوفاناً، ثم سحرني النوم فأغمضت عيني عن الفاني والباقي، وازداد شوقي وقدة فتجلى لي وجه الشبح الإلهي: الشمس التي أضاءت آفاق الشام والروم، والذي وضع شعلته مصباح هدى في هذه الدنيا المظلمة، الذي تنمو المعاني من كلماته كما تنمو شقائق النعمان
قال لي كيف تنام. استيقظ، إنك تجري سفينة في سراب. إنك تجتاز طريق الفسق بالعقل. إنك تبحث عن الشمس بمصباح
وأما أسرار خودي ورموز بن خودي: أي أسرار الذاتية ورموز اللاذاتية (أو أسرار الأنانية
ورموز الإيثار)، فهما المنظومتان اللتان شرح فيهما آراءه شرحاً مرتباً وجعل للبحث خطة واضحة
بين في الكتاب الأول قوة الذاتية وضرورتها في الحياة، ودعا إليها: هذه الحياة جهاد مستمر، والرجل الحي حقاً هو الذي يوقظ كل قواه، ويستخرج كل ما في فطرته، ويتأهب بمواهبه وأدواته للجهاد. السكون موت، والتقليد فناء، والحركة حياة، والاستقلال وجود. . . الخ
وبين في رموز بن خودي كيف تلتئم هذه الفردية القوية الكاملة في الجماعة، وكيف تقوى الجماعة وتضعف، وكيف تصلح وتفسد، وكيف تهتدي وتضل:
يشرح في أسرار الذاتية بعد المقدمة موضوعات منها:
أصل نظام العالم من الذاتية، وتسلسل حياة أعيان الوجود موقوف على استحكام الذاتية
حياة الذاتية من تخليق المقاصد وتوليدها
الذاتية تستحكم من العشق والمحبة
(تضعف بالسؤال
(إذا استحكمت تسخر قوى المعالم الظاهرة والخفية
ففي الذاتية من اختراع الأقوام المغلوبة ليضعفوا من طريق خفي أخلاق الأقوام الغالبة
أفلاطون الذي أثر في التصوف والآداب الإسلامية ذهب مذهب الخروفية، والاحتراز من أفكاره واجب
ثم بين أن تربية الذاتية لها ثلاث مراحل: الأولى الطاعة، والثانية ضبط النفس، والثالثة النيابة
الإلهية
في المقطوعات الثانية يتكلم في مثل هذه الموضوعات:
الأمة تظهر من اختلاط الأفراد، وكمال تربيتها من النبوة.
أركان الأمة الإسلامية - الركن الأول التوحيد - اليأس والحزن والخوف أمهات الشرور، والتوحيد يزيل هذه الأمراض الخبيثة. الركن الثاني الرسالة - المقصود من الرسالة المحمدية تأسيس الحرية والمساواة والأخوة بين بني آدم - الأمة المحمدية مؤسسة علم
التوحيد والرسالة فليس لها حدود مكانية. الأمة المحمدية ليس لها نهاية زمانية أيضاً - حياة الأمة تحتاج إلى مركز محسوس، وهو للمسلمين البيت الحرام
خلاصة معنى الكتاب وتفسير سورة الإخلاص
وهذه أمثلة من أسرار خودي:
نهر الكنج وهملايا
قال نهر الكنج يوماً لجبل همالايا وهو يجري في سطحه! أيها المتوج بالبرد من فجر الخليقة والمنتطق بالأنهار الجارية، جعلك الله نجى السماء، ولكن حرمك التبختر في العراء، ما غناء الرقاد والرسوخ والرفعة، وقد سلبت الحياة والحركة؟ الحياة سعي دائم كالموج: وجوده حركته الدائمة. فلما سمع الجبل تعبير النهر أرسل أنفاسه بحراً من نار وقال: يا من اتخذت صفحة مرآتي وأكننت مئات من مثاله في صدري. هذا التبختر زينة الفناء! من ذهب عن نفسه فقد حرم البقاء. قد غفلت عن مقامك وفخرت بزوالك يا وليد الفلك الرفيع؛ إن خيراً منك الساحل الوضيع. قدمت نفسك قرباناً للمحيط، ونثرت روحك لقاطع الطريق. كن في بستانك ورداً ولا تذهب وراء القاطف لتنشر عبيرك. إن الحياة أن تنمو في مكانك، وأن تنشر العبير في بستانك
خلت القرون وأنا في طينتي ثابت القدم، وتحسبني إلى الغاية لم أتقدم؛ كلا قد عظمت حتى بلغت السماء، واستراحت على سفحي الجوزاء. ضل وجودك في البحر الخضم. وصارت ذروتي مسجد الأنجم. عيني بأسرار الفلك بصيرة، وأذني بطيرانه خبيرة. احترقت بنار السعي الدائم فجمعت في صدري الجواهر (في صدري حجارة، وفي الحجارة النار، وليس للماء إلى هذه النار سبيل) إن كنت قطرة فلا ترق نفسك بيدك، بل جاهد اللجة وحارب اليم لحياتك. كن جوهرا لألاء، يزيد جيد الحسناء ضياء، أو اسم بنفسك وأسرع المطار، وكن سحابا يرمي البروق ويمطر البحار، ليستجدي البحر إحسانك ويشكو ضيقه عن إنعامك ويرى نفسه أقل من موجة لديك، ويرتمي على قدميك
قصة الطائر الذي أنهكه العطش
بلغ العطش من طائر جهده فاضطرب نفسه موجة من الدخان في صدره، فأبصر في بستان
شذرة من الماس الوضاء، فخيل إليه العطش أنها ماء، وخدعت الطائر المجهود هذه الشذرة المتلألئة كالشمس فتوهم الحجر الصلب ماء سائلاً، وغره من هذا الجوهر بريقه فضرب بمنقاره فلم تنقع غلته. قالت الماسة: أيها الطائر المسحور! لشد ما ضربت بمنقار الغرور! لست قطرة من الماء، ولا مشربة للظماء ليست حياتي من أصل غيري. إن محاولة التقاطي جنون وغرور، وغفلة عن الحياة الذاتية الظهور. إن مائي يكسر من الطير منقاره، ويصدع من الإنسان جوهر روحه. خاب أمل الطائر فأعرض عن هذه الشذرة الوضاءة، وانقلب الأمل في صدره حسرات، واستحالت أنيناً من النغمات. ثم بصر بقطرة من الطل على فنن من الورد تتلألأ كدمعة في عين البلبل ضياؤها أفناناً في وهج الشمس وهي من خوف الشمس في رعده كوكب ولدته السماء فلبث لمحة في نشوة الظهور والضياء، وخدعته ألوان الأكمام والأزهار فلم يأخذ من الحياة نصيباً كدمعة العاشق العليل، زانت الهدب لتسيل.
ويسرع الطائر إلى فنن الورد فيلتقط قطرة الندي
أيها المبتغي نجاة من الأعداء!! خبرني أجوهر أنت أم قطرة من ماء. ألم تر إلى الطائر حين أذاب العطش مهجته كيف وقي بحياة غير حياته؟ لم تكن القطرة في صلابة الجوهر، ولكن كانت الماسة صلبة المكسر
فلا تغفل عن حفظ الذاتية لمحة، وكن قطعة ماس لا قطرة
كن ناضج الفطرة راسخاً كالجبال وتحمل بحاراً من السحاب الهطال. وجد نفسك تقوي نفسك واستحل فضة بجمود زئبقك. أظهر نغمة الذاتية من أوتارها، وتجل للناس بأسرارها
في الكلام على الوقت
اسمع نكتة تضيء كالدر، لتعرف فرقا ما بين العبد والحر: العبد ضال في الليل والنهار، والزمان في قلب الحر ضال. العبد ينسج من الأيام كفنه ويخيط الليل والنهار على نفسه، والحر يخلع نفسه من الطين ثم ينسج على الزمان محرابه المتين. العبد طائر في شبكة الصباح والمساء، حرمت روحه لذة السبح في الهواء وصدر الحر الهمام، قفص لطائر الأيام. فطرة العبد تحصيل الحاصل، وخواطره تكرار قاتل. مقامه من الجمود واحد، وصوته بالليل والنهار راكد. والحر كل حين خلاق، يسكب نعمه مجددة في الآفاق. فطرته
لا تحتمل التكرار، وليست طريقة خلقة البر كار. العبد سلاسل من أيامه، والقضاء والقدر ورد لسانه، وهمة الحر مثيرة على القضاء قصور يده الحادثات كما تشاء. الماضي والآتي ماثلان لديه، والآجل عاجل بين يديه. . .
نضر الله عهداً كان سيف الزمان، حليف أيدينا على الحدثان، فبذرنا الدين في أرض القلوب، ورفعنا الحجاب عن وجه الحق المحجوب. . .
وحلت عقدة الدنيا أناملنا، ونظر وجه الأرض سجودنا وشربنا الصهباء من دن الحق، ثم سرنا بنشوته بين الخلق، يا من أترعت كأسه الخمر المعتقة، وأذابت كأسه الصهباء المحرمة، وملأه الكبر والغرور، فعيرنا بالفقر والمتربة. لقد كانت كأسنا كذلك زينة المحافل، يوم كنا وصدرنا بالقلب آهل، وثار من غبار أقدامنا عصر حديد، ينجلي بكل أمل بعيد ورويت مزرعة الحق بدمائنا، وسعد عباد الحق ببلائنا، ودوى العالم بتكبيرنا، وعمرت كعبات من ترابنا. وأنزل الحق كلمة (أقرأ) فينا، ثم قسم رزقه بأيدينا. فإن يكن ذهب منا الخاتم والتاج، فلا تحقر ذلك الفقير المحتاج. إن نكن يزعمك مفسدين، وبالأفكار العتيقة مغرمين، فنحن لا نزال الأحرار أنصار التوحيد، قوامين على العالمين والله شهيد
فرغنا من غم اليوم والغد، وحالفنا الله الأحد، فنحن في قلب الحق سر مكنون، ونحن ورثة محمد وموسى وهارون. لا يزال نورنا في الشمس والقمر مصوناً، ولا يزال سحابنا بالبرق مشحوناً
إن ذات المسلم مرآة الحق. وإن وجود المسلم من آيات الحق
هذه أمثلة قليلة من شعر إقبال، ولإقبال من الآراء والفكر والخيالات ما يستعصي على الحصر. ولكن يستطيع دارس شعره أن يقول إن أدبه يتناول العالم كله، وأن فلسفته تقوم على قواعد أبينها القوة - قوة الفرد وقوة الجماعة وقوة الأخلاق - والاستقلال الذي لا يعرف التقاليد، والحرية التي لا تضيقها قيود، والجمال في الأنفس والآفاق
ومقصده الأعلى تهذيب الإنسان وخاصة المسلم، يشرح له من حقائق الحياة، ويبين له من مثل الفضيلة، ويكشف له ن أسرار الإسلام ومجد المسلمين الأولين حتى يملأه قوة وحماساً وأملاً وإقداماً، ثم يوجه في معترك الحياة إلى الغاية التي عندها شرف الدنيا والآخرة. وليس يتسع المقام لتفصيل الكلام في فلسفة هذا الرجل العظيم وأدبه. وعسى أن أوفق إلى
الإفاضة في ذلك من بعد: (إن الذي يعرف إقبالاً يعرف مصيبة العالم الإسلامي والأدب البشري بموته)
عبد الوهاب عزام
في اللغة
مجبر ومجبور
لأستاذ جليل
اطلعت عند أحد معارفي من الطراء اللبنانيين في هذه (البحرة) على كراسة ظهرت منذ أسابيع لفاضل كان قد جاء إلى مصر قبل الحرب الكبرى - أعادها الله جذعة - وكتب في مجلات القاهرة وجرائدها برهة، وهو الأستاذ (إدوارد مرقص) من أعضاء المجمع العلمي العربي ومن المشهورين في بر الشام. والكراسة هي في اللغة ونقد كلمات، وقد تصفحت صفحات منها، فوجدته يقول في إحداها:(يقولون إنه مجبور على كذا، والصحيح مجبر عليه أي مكره عليه، والفعل أجبر)
وإن قول القائلين: (إنه مجبور على كذا (لصحيح، والتغليط غالط، فجبر مثل أجبر، وكان أبن قتيبة قال في كتابه (أدب الكتاب): (وتجيء أفعلت مخالفة لفعلت نحو أجبرت فلاناً على الأمر وجبرت العظم) فقال البطليوسي في (الاقتضاب في شرح أدب الكتاب): (قد حكى أبو إسحاق الزجاج وغيره جبرت الرجل على الأمر وأجبرته إذا أكرهته عليه، ومنه قيل للفرقة التي تقول بالإجبار: جبرية، وجبرية لا تكون إلا من جبر)
وفي (القاموس): (وجبره على الأمر كأجبره)
وفي (اللسان)، قال الأزهري:(كان الشافعي يقول: (جبر السلطان) وهو حجازي فصيح. فهما لغتان جيدتان جبرته وأجبرته)
وفي (الفائق): (فقيل: يا رسول الله، أليس الطريق يجمع التاجر وابن السبيل والمستبصر والمجبور، المجبور المجبر على الخروج يقال: جبره على الأمر وأجبره) فسوى الزمخشري بين اللفظتين ولم يقل أجبر هي أعلى وأكثر
وفي (الملل والنحل) للشهرستاني، - وهذا من مقالة الجهمية - وفيه مجبور: (إن الإنسان ليس يقدر على كل شيء، ولا يوصف بالاستطاعة، وإنما هو مجبور في أفعاله لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار، وإنما يخلق الله الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات وتنسب إليه الأفعال مجازاً كما تنسب إلى الجمادات كما يقال: أثمرت في الشجرة، وجرى الماء، وتحرك الحجر، وطلعت الشمس وغربت، وتغيمت السماء وأمطرت، وأزهرت
الأرض وأنبتت إلى غير ذلك)
فالمرء مجبر، مجبور كل المجبور كما تقول (الجهمية) الجبرية الخالصة. و (الأشعرية والماتريدية) جبرية متوسطة
جبران: جبر في الأرض، وجبر في السماء. فقل لي - يا أخا العرب -: هل يتحرر الإنسان بعد آلاف السنين أو بعد آلا ف من القرون فيعود يقدر أو يريد كما تقول (القدرية)
(الإسكندرية)
(* * *)
بين الرافعي والعقاد
للأستاذ محمود محمد شاكر
- 5 -
(تحرقك النار أن تراها، بله أن تصلاها)
منذ تسعمائة سنة قال الخفاجي حين ذكر البلاغة:
(لم أر أقل من العارفين بهذه الصناعة، والمطبوعين على (فهمها) و (نقدها) مع كثرة من (يدعي) ذلك، ويتحلى به، وينتسب إلى أهله، ويماري أصحابه في المجالس، ويجاري أربابه في المحافل. وقد كنت (أظن) أن هذا شيء في مقصور على (زماننا) اليوم، ومعروف في (بلادنا) هذه، حتى وجدت هذا (الداء) قد أعيا أبا القاسم الحسن بن بشر الآمدي، وأبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ قبله وأشكالهما حتى ذكراه في كتبهما، فعلمت أن (العادة به جارية) و (الرزية فيه قديمة). ولما ذكرته رجوت الانتفاع من هذا الكتاب، أملت وقوع الفائدة به، إذ كان (النقص) فيما أبنته شاملاً، (والجهل) به عاماً، والعارفون به قرحة الأدهم بالإضافة إلى غيرهم، والنسبة إلى سواهم)
ومع ذلك. . . فالأستاذ سيد قطب أحد (الأخصائيين!!) في اللغة التي نعبر بها
عاد الفاضل الأستاذ سيد قطب بحديثه عن الرافعي، ثم عقب عليه بالحديث عني وعما كتبت في الكلمات السالفة. وكنت عزمت أن أدعه حتى يشفي ذات صدره من الرافعي ومني؛ وكنت أجمعت الرأي على أمر، ثم هأنذا أتحلل من عزيمتي. . . ومرة أخرى أقول كما قلت في الكلمة الأولى: إني سأتولج فيما لا أحب. . . لا كرامة للأستاذ أو استجابة لدعائه بل لميط الأذى حسب. . . بل لميط الأذى حسب
ولقد علم من لم يكن يعلم أني كتبت ما سلف هادئاً لا أهاجم، إلا أن أترفق وأستأني وأتصبر على كلام ينفد معه صبر الحليم. . . وأنا وإن كنت لا أبالي بشيء مما يصف الأستاذ الكامل به كلامي فأنا لا زلت أحفظ للقراء عهدهم قبل الكتاب، فلا أدع القارئ عرضة لرجل يفهم القول الرفيع بالفهم الوضيع، ولا لرجل يسيء القول في الناس ويأبى عليهم أن يقولوا له أسأت فأجمل، ولا لرجل يرى الظل ممدوداً له - زمن القيظ - فيتجنبه إلى وقدة
الشمس. . .
فهكذا أبى الأستاذ أن يأوي إلى مأوى يقيه، وتجرد يختال علينا، ويقتال إلى نفسه جريرة شر. وما ظني وظنك برجل يصف الرافعي بألفاظ ملفقة، وهي على ذلك بينة الدلالة على قبح الغرض، سافرة عن شنعة الإساءة، قليلة التذمم في حق الأحياء بله الأموات ممن لم تجف عن قبورهم بعد دموع أزواجهم وأطفالهم وذراريهم ومن يمتون إليهم بالحب والمودة والإخاء؟
وما ظني وظنك بإنسان قد حمل القلم ليستملي، فيتنزل عليه القول من بغضاء مربدة باغية لا تتقي سوء المقال ولا مأثور الكلام؟
وما ظني وظنك بفهم يتعالى على سلاليم من القوارص والقواذع، لا تجد لها في الذي تعرف سبباً قديماً أو علة محدثة تسوغ الأذى أو تحمل عليه؟
ما ظني وظنك بهذا الرجل الذي نترفق به ونستر (نفسه ودافعها في الحياة) بالإشارة اللطيفة، فيأبى إلا أن يترجم القول إلى غير معناه. . . إذ يسمي ما كتبت له (شتائم). . . شتائم. .! أنف في السماء. . . أأنا يدور في نفسي أن أكتب للأستاذ الفاضل ما يسمى (شتائم)؟ لأنا يا سيدي الأستاذ قطب أحسن ظناً بك من هذا. وقد قلت ما قلت من أن الناس كانوا يتعايشون بالدين والتقوى ثم رفع ذلك - كما قال الشعبي - فتعايشوا بالتذمم والحياء، ثم رفع ذلك، ثم تعايشوا بالرغبة والرهبة، ثم رفع ذلك، وجاء زمان يتعايش الناس فيه (بثلب الموتى). . . وهو زماننا هذا. ولو قد كنت (أخصائياً!) في اللغة التي يعبر بها لما زعمت أني (رحت أتهمك بمجانية الدين والتقوى، والحياء والتذمم) فأنا لم أقصد ذلك، فهو أمر قد فرغ من الحكم فيه صاحبنا الشعبي. وما كان قصدي إلا أن الذي كتبت أنت عن الرافعي الذي مات وسكت، والعقاد الذي بقي يتكلم، بل عنهما معاً في قران واحد، هو ثلب للموتى وزلفى للأحياء. وحق لي أن أقول ذلك فقد جمعت بين الرجلين، فوضعت الميت موضعاً لا يتنزل إليه حي في الضعة، ورفعت الحي مكاناً لا يسمو إليه أحد في الرفعة، وضربت الكلام من هنا ومن هنا حتى استبان الغرض. . .
أيريد (الأخصائي!) الفاضل أن نبين له موضع الإشارة في كلامنا هذا. . .؟ إذن فليسمع
حين قرأت الكلمة الأولى من حديثه في الرسالة، لم أشك ساعة أنه يختدع القارئ عن نفسه
يبتغي أن يفهمه أنه يريد النقد، والنقد حسب، ولا شيء غير النقد! والح في ذلك إلحاح الظنين في الإكثار مما ينفي الظنة عنه غافلاً عن أن تكلف نفي التهمة بالإلحاح يثير الشك ويقظ الريبة في نفس من أراد الله له الخير. . . ثم يشرع الأستاذ (الأخصائي في للغة التي نعبر بها) يأتي بالشواهد من كلام الرافعي في نقد (وحي الأربعين للعقاد) ليثبت صدق ما ذهب إليه من الآراء في الرافعي
كان يشك في (إنسانية) الرافعي، ويزعم أنه خواء من النفس
ثم قرأ ما كتب الأستاذ سعيد العريان فعدل حكمه قليلاً!! ولم يعد يستشعر البغض والكراهية للرجل وأدبه، ولكن بقي الأساس سليماً. . . فما هو؟
كان ينكر على الرافعي (الإنسانية) فأصبح ينكر عليه (الطبع)
وكان لا يجد عنده (الأدب الفني) فأصبح لا يجد عنده (الأدب النفسي)
وكان الرافعي ذكياً قوي الذهن، ولكنه مغلق من ناحية العقل والأريحية
والرافعي أديب الذهن الوضاء، والذكاء اللماع!
والرافعي مغلق القلب متفتح العقل وحدة للفتات والومضات. هذا في المقالة الأولى، ثم نزل في الرافعي في الكلمة الثانية، ثم لم يكد يرمي الثالثة حتى زعم أنه حين عاد بعد ذلك فقرأ رسائل الأحزان أحس أنه (خدع!) في - قياس - ذكاء الرافعي! ومعرفة طبيعته ودرجته! ولكنه يحس الغضاضة في هذا التراجع فيعزيه (الصدق)! الذي يعبر عنه حين ينصت لإحساسه ويصور حقيقة رأيه. . . وتأويل ذلك عنده في مقاله الثالث أنه أخطأ في عدم! تحديد (الذهن). . . فمن الذهن ما هو سليم أو مريض، وما هو مشرق أو خاب، وما هو منفتح أو مغلق، (أو كما قال). . .
لقد قال في الكلمة الأولى ما رأيت، ثم قال في الثالثة ما رأيت من تراجعه، ولقد كان هذا التراجع في الثالثة مطوياً تحت الكلمات في الأولى وفهمناه وأدركناه، وكان أخر الرأيين هو الغرض الذي يسعى إليه. وإلا فما ظن أحداً يستطيع أن يعقل (ناقداً) قد فرض على نفسه النقد - أي التتبع والاستيعاب وصدق النظر - يصف رجلاً (بالذهن الوضاء)(والذكاء اللماع) والقوة في الذهن، والتفتح في العقل، ثم لا تمضي عشرة أيام. . . فيقرأ أحد كتب هذا الرجل، فيعود يقول في صفته إن ذهنه مريض غير سليم، (خاب غير مشرق)، (مغلق
غير متفتح)
أيريد الأستاذ (الأخصائي في اللغة التي نعبر بها) بياناً هو أوضح من هذا على سوء غرضه. .؟ الناقد رجل عدل منصف لا يزال يتتبع شوارد اللفظ، وأوابد المعاني يستنبئها أخبار أصحابها ويستنبط من قلوبها أسرار كتابها، ويكشف عنها خبيثة قائليها. .، ثم يحكم مميزاً مقدراً لا يجوز فيتجاوز الغاية، ولا يحيف فيقع دون المدى. وقد حكم هذا (الأخصائي!!) في كلمته الأولى حكمه الأول حين (استطاع أن يكون ناقداً، لا يكتفي بالتذوق والاستحسان أو الاستهجان، ولكن يعلل ما يحس ويحلله)!! كما قال في بدء كلامه
أوليس يقتضي - هذا على الأقل - أن يكون قرأ كل ما طبع من كتب الرافعي دون ما تفرق من كلامه في الجرائد والمجلات على كثرتها. .؟ بلى
أوليس يقتضي هذا - على الأقل أيضا - أن يكون حين حكمه قد استرد شتات ما بقي في نفسه من آثار كلام الرافعي فيها؟ قالوا بلى
أوليس يقتضي حق النقد والحكم - على الأقل أيضاً - ألا يصف الرافعي بالذكاء اللماع، والذهن الوضاء. . . وهذا الكلام المفخم - ألا يكون ذلك من آثار ما قرأ له من شيء. .؟ قالوا بلى
إذن فكيف - في عشرة أيام يا سيدي - يستطيع كتاب واحد للرافعي هو (رسائل الأحزان) أن يقلب - هذا (الأخصائي في اللغة التي نعبر بها)، وهذا الذي (استطاع!! أن يكون ناقداً) - رأساً على عقب، فلا يكتفي بسلب النعوت المفخمة (كالوضاء واللماع والمتفتح) فيترك الذهن هكذا مجرداً، بل يضع مكانها أضدادها فيجعله ذهنا (مريضاً خابياً غير لماع ولا وضاء، مغلقاً غير متفتح)
هآه. . . إني لأشك كل الشك في براءة الأستاذ مما غاظه من كلمتي الأولى مما سماه (شتائم). ولقد شهدت مرة أخرى (أن ما بالأستاذ قطب النقد، ولا به الأدب، ولا به تقدير أدب العقاد وشعره، فما هو إلا الإنسان وجه يكشفه النور ويشف عما به، وباطن قد انطوى على ظلمائه فما ينفذ إلى غيبه إلا علم الله). ولا زلت أقول له: (إنه لو عاد إلى داره مخلى من حوافز الحياة الدنيا) فقرأ ما كتب قراءة الناقد لوجد الاختلاط في لفظه بيناً، والغرض من ورائها متكشفاً. ولو شئنا أن نقول لقلنا فلم نكذب: إن كلامه لمشترك بين ضربين من
العقل أحدهما ظاهر نعرفه ولا ننكره لأنه مما عهدناه زماناً، والآخر ظاهر أيضاً. . . نعرفه وننكره، لأنه مما استحدثه بعد الرافعي رحمة الله عليه
وأما الأديب الكبير! الذي لقي الأستاذ (الأخصائي في اللغة التي نعبر بها) فضرب لنا الأمثال (بالجماعة الذين يجلسون في المأتم ويرجمون الناس بالحجارة، فإذا رجمهم الناس صاحوا وولوا، وملئوا الدنيا تسخطاً ونعياً على الأخلاق، لأن الناس لا يقدرون حرمة المأتم، وهم الذين استهانوا بهذه الحرمة حينما رجموا المارة). فأن شاء أن يختفي في ألفاظ الأستاذ (الأخصائي!) فهو عتيق جبنه. وإن شاء أن يظهر من ورائه فسيرى كيف عرفناه من لفظه ومن أمثاله
وأيما كان. . . فالمثل فاسد من وجوهه كلها. . . فأن الأستاذ سعيد حين كتب لم يرجم أحداً، وإنما كتب تاريخاً؛ وحين قال إن رد العقاد على الرافعي سباب وشتائم، فهو لم يكن إلا كذلك، ولا يمكن أن يقال فيه إلا ذلك. . . إذ ليس فيه شيء مما يسوغ أن يعد رداً أو نقداً. . . حتى ولا على طريقة الأستاذ (الأخصائي!) في حل المنظوم ووصفه بالدعاية والطرافة والحيوية. . . وما إلى ذلك من اللفظ الذي لا يتخذه ناقد إلا بعد الإبانة عن محجته وسبيله. أو كما قال الأستاذ (الأخصائي!) في كلمته الأولى (في الناقد الذي لا يكتفي بالتذوق والاستحسان والاستهجان، ولكن يعلل! ما يحس ويحلله)
ومع ذلك فهل يرى أحد أن (حل المنظوم) في ألفاظ ملفقة مذيلة، ثم نعته بالطرافة والحيوية. . . الخ، هو التعليل والتحليل الذي يتخذه النقاد أسلوباً لهم؟
ومع ذلك أيضاً. . . فلو فرضنا أن (سعيداً) رجم المارة، والمارة ههنا هم الأستاذ العقاد وحده، فلم تطفل الأستاذ (الأخصائي) فقاذف الأستاذ العريان؟ ولم لم يدع ذلك للمرجوم نفسه. . .؟
ثم وراء ذلك كله. . تطفل (الأستاذ الأخصائي) للقذف والرجم، فلم لم يخص سعيداً وحده دون أصدقاء الرافعي وأصحابه هم الذين كتبوا السعيد ما كتب!!
وبعد فهذه كلمة كتبناها لنقرر حقيقة واحدة هي أن الأستاذ (الأخصائي في اللغة التي نعبر بها)، كان أول حديثه عني - حين انتهى من حديث الرافعي - يضطرب ويؤخذ ويتناوح كأنه قصبة مرضوضة معلقة على عود هش قد يبس. . . أريد أن أقول بلفظ آخر إنه كان
يضطرب لأن حججه التي يتعلق بها حجج فاسدة، وإن أصل كلامه عن الرافعي خائر يتصدع، وإن فكره في الذي كتب لم يستقر على أي شيء صحيح لا يختلف عليه
وسيرى فيما يستقبل من كلامنا أنه قد عجز كل العجز عن الإتيان بشيء يمكن أن يسمى نقداً. ولا يميل بنا إلى الرافعي. ويكفيه مما مضى في كلامنا وكلامه أن يعلم أنه نزه العقاد ورفعه أرفع درجه، وأننا لم ننزه الرافعي ولم نقل فيه بعض ما يقول هو في الشاعر الكبير صاحبه
محمود محمد شاكر
بين العقاد والرافعي
للأستاذ سيد قطب
- 6 -
جاء في حديث الأستاذ سعيد العريان عما بين العقاد والرافعي:
(أصدر العقاد ديوان (وحي الأربعين) في سنة 1933، والسياسة المصرية يومئذ تسير في طريق معوج، وحكومة صدقي باشا تمكن لنفسها بالحديد والنار، و (الوفد) ومن ورائه الأمة كلها يجاهد حكم الفرد ويكافح للخلاص، والعقاد يومئذ هو كاتب الوفد الأول، يكتب المقالة السياسية فترن رنيناً، ويلقفها آلاف القراء بلهفة وشوق، في كل مدينة وكل قرية، فلا عجب أن يكون العقاد بذلك عند عامة القراء، هو أبلغ من كتب وأشعر من نظم، حتى ليؤول أمره من بعد إلى أن ينحله الدكتور طه حسين بك الوفدي المتحمس، لقب (أمير الشعراء) تملقاً للشعب ونزولاً على هواه)
ثم قال كلاماً آخر يمت إلى هذا الكلام، ويضرب على نغمته ويرجع انتصار العقاد على الرافعي في المعركة عند غالبية القراء إلى هذه العوامل السياسية. وكان هذا وأمثاله من الأسباب الأولى التي حفزتني للكتابة في الموضوع الذي أكتب فيه، لأنها ندت عن التاريخ إلى الحكم والتعليق والترجيح
يخطئ الذين يعتقدون أن العقاد يستمد قوته من ظروف طارئة أو قوى خارجة عن ذاته، كالسياسة، والحزبية، والصحافة. . . الخ
والبراهين على ذلك شتى
فلقد قيل أن العقاد كان قوياً بأن كان (كاتب الوفد الأول) ولكن العقاد خرج على الوفد أول الخارجين في إبان قوته وسطوته، وبعد تجربة في الخروج عليه ذهب بها إلى عالم النسيان ثمانية من أعضائه يتابعهم ثلاثون من الهيئة الوفدية
وقد لقي من الكيد، ووسائل النضال، الظاهرة والخفية، البريئة والشائنة، ما لو وجه إلى هيئة كاملة لضعضعها. فماذا كانت عاقبة هذا الخروج؟
لقد بقي العقاد هو (الكاتب الجبار)، وتضعضع خصومه ووراءهم قوة العدد، وقوة الحكم، وقوة المال، وقوة الماضي الوطني، وكل قوة مأمولة في الوجود!!
ثم قيل: إن العقاد يستمد قوته من الصحافة؛ ولكنه طوى قلمه عامين كاملين وكان ذلك بعض ما دبره له خصومه الأقوياء. فماذا كانت العاقبة؟
لقد بقي العقاد مع ذلك جهير الصوت، مسموع الرأي، وأخرج للناس في هذا الفترة ثلاثة مؤلفات: أحدها (سعد زغلول) وهو يكفي وحده لخلود كاتب عظيم، وبقي خصومه يحسبون حسابه، ويتوقون قلمه، وبقي كل فرد في القراء يرتقب عودته إلى الميدان. . . وقد عاد!
ثم لماذا يكون العقاد قوياً بالسياسة وحدها، وخصومه - ومنهم الرافعي - كانوا يلجئون إلى الدين، وهو أقوى أثراً من السياسة، وأتباعه أكثر من أتباعها، فلم لم تكن لهم الغلبة وسلاحهم أقوى وأبرز؟
الحق، أن كل هذه تعلات وأوهام، وخطأ في تقدير أسباب الغلبة، ووسائل البروز، وإغفال للقوى الذاتية الكامنة التي هي مدار كل نصر وظهور في عالم الوجود
ألف حزب سياسي، وألف صحافة، وألف مناسبة طارئة، لم تكن كفيلة بإبراز العقاد، لو لم يكن العقاد نفسه قوة من قوة الطبيعة، وطاقة من طاقة الحياة؛ ولو لم تكن في أطواء نفسه ومواهبه، بذور العظمة، وخميرة التفوق، ودوافع النهوض
إنما انتصر العقاد لأنه يكتب في السياسة بالهام من الوطنية، ثم يجنح بالوطنية إلى النزعة الإنسانية، وينفق في هذا كله من ذخيرة روحية لا تفنى
والحقيقة أن العقاد - مع هذا - مغبون أشد الغبن، في مدى شهرته، وفي نوع شهرته. مغبون لأنه في بيئة بينه وبينها عشرات الأميال من الفوارق والخطوات، وقل فيها من يتابعه في سموقه، أو يترسم خطاه على بعد المسافة. ومغبون لأنه ليس معروفاً بخير ما فيه، لأن خير إنتاجه، يتطلب قراء من نوع مفقود أو شبه مفقود
ولو فهم ذلك بعض من نفسوا عليه وحقدوا، لأراحوا بالهم بعض الشيء، أو لعلهم كانوا يزيدون عداء وحقداً. . .
ويخطئ الذين يحاولن أن يدرسوا العقاد - ولا أقول ينتقدونه - وكل محصولهم من الثقافة، كتب لغوية درسوها، وكتب أدبية فهموها من آداب اللغة العربية. فليس العقاد أديب لغة وأديب أسلوب، حتى تكفي اللغة ويكفي الأدب الخالص في فهمه، ولكن نتاج العقاد مجتمع ثقافات ودراسات قديمة وحديثة، عربية وغير عربية، مصهورة في بوتقة طبيعة ممتازة،
ونفس رحبة، وذهن مشرق ومواهب تنتفع بالثقافة، وتعلو على حدود الثقافات!
ولقد رقيت إلى محاولة استيعاب العقاد - وأفلحت إلى مدى - على درج من دراسات شخصية جمة، ليست دراسة الأدب العربي ولا اللغة العربية إلا أولى خطواتها. دراسات تشمل كل ما نقل إلى اللغة العربية - على وجه التقريب - من الآداب الإفرنجية: قصة ورواية وشعراً، ومن المباحث النفسية الحديثة: نظريات العقل الباطن والتحليل النفسي والمسلكية. . الخ ومن المباحث الاجتماعية والمذاهب القديمة والحديثة ومن مباحث علم الأحياء - بقدر ما استطعت - وما نشر عن دارون ونظريته ومن مباحث الضوء في الطبيعة، والتجارب الكيماوية. ومما استطعت أن أفهمه عن أنيشتين والنسبية، وعن بناء الكون وتحليل الذرة، وعلاقته بالإشعاع. . . الخ
ولا أفصل أو أتوسع في هذا، فحسبي أن أقول: إنني انتفعت بكل معرب أو مؤلف، عن النظريات العلمية والفلسفية الحديثة في شتى أنواع الثقافة، مدفوعاً في ذلك بميل طبيعي، كان يسيرني - دون إرادة - حينما أتناول صحيفة كالمقتطف مثلاً أن أبدأ بقراءة البحوث النفسية، ومباحث علم الحياة، وما قد تتضمنه عن علم وظائف الأعضاء، وعن تحطيم الذرة. . . وما أشبه ذلك قبل أن أتناول ما بها من بحث أدبي أو قصيدة!
وبكل هذه الثقافات بعد الثقافة الأدبية، وبعد استعداد نفسي انتفعت في فهم العقاد واستيعابه إلى حد ما. وسأزداد له فهماً كلما اتسع مدى ثقافتي، وفتحت جوانب نفسي، وقويت نوازع الحياة فيها
فالذين يحسبون الأدب مادة لغة أو أسلوب، ويعتمدون على نفوس ضيقة وأذهان محدودة، وثقافة من لون واحد، لا يصح لهم أن يطمعوا في دراسة العقاد، ولا يجوز منهم أن ينقدوا العقاد، لأن أدواتهم لا تزال ناقصة، أو معدومة فيما يتصدون له. بينما الرافعي أستاذهم لغة وأسلوب متى فهما لم يبق شيء وراءهما غير مفهوم، فهو سهل جداً لا يكلف مجهوداً ولا عناء.
واللغة والأسلوب وحدهما لم يكونا كافيين لدراسة أي شاعر عربي عظيم، في وقت لم تكن الثقافة الإنسانية قد بلغت مبلغها الآن، والذين يراعون اللغة والأدب المحض وحدهما لا يستطيعون دراسة المتنبي ولا المعري، بل لا يستطيعون دراسة ابن الرومي وأبي نؤاس،
لأن جداول من الفلسفة ومن الفلك والطب والتنجيم وسواها، قد صبت في ثقافاتهم؛ فكان لا بد من قسط يعادلها عند نقادهم مع الاستعداد النفسي الأصيل إذا شاءوا النقد على حقيقته
وأقرب مثل على فساد النقد الذي يتصدى له اللغويون والأسلوبيون، ما أورده الأستاذ محمود محمد شاكر عن قزح وقوسه، وناقشته فيه في العدد الماضي. فهو يأخذ على العقاد نقده لبيت شوقي:
قصراً أرى أم فلكا
…
وشجراً أم قزحا
وذلك لأن العقاد قد قال بعد هذا:
ألقى لهن بقوسه
…
قزح وأدبر وانصرف
فلبسن من أسلابه
…
شتى المطارف والطرف
وفساد هذا المأخذ أن الأستاذ لا يفرق بين صورة لغوية وصورة ذهنية خيالية. فلفظة (قزح) في بيت شوقي، لا تزيد على أنها (لفظة) لغوية ليس وراءها صورة ذهنية متخيلة مقصودة. فالمرجع فيها إلى القاموس، والقول قول القاموس؛ أما هي عند العقاد، فتعني (حالة) خاصة مطلوبة، فيها قزح ملك الألوان، ممسكا قوسه، وهؤلاء الحسان ينازعنه عليها، فيغلبنه، فيسلم بالغلبة، ويلقي قوسه وسلاحه وينصرف فلبسن منها شتى المطارف والطرف. فالمرجع هنا للذهن والذوق لا القاموس
وقد عانى الرافعي ما عاناه شاكر، وما تعانيه المدرسة الرافعية كلها في تفسير العقاد، لأن عدتها للنقد من استعداد طبيعي وثقافة مكسوبة، شيء قليل
ولا حيلة في فهم كثير من أدب العقاد بغير الاستعداد الطبيعي، مع لون من ألوان الثقافة الإنسانية الحديثة. والأمثال على ذلك قد توضح ما سبق من إجمال. فها هي ذي قطعة من (وحي الأربعين) بعنوان:(سعادة في قمقم)
هنا قمقم سابح في الدم
…
أسائلُ عنه ولم أعلم
جهلت حباياه حتى أتى
…
عريف الطلاسم بالمعجم
ففيه كما قيل مسجونة
…
سعادة بعض بني آدم
تجن جنونا بنور الضحى
…
وتذبل في حبسها المظلم
وقد زعموا أن إطلاقها
…
رهين بهمة ذاك الفم:
بسر على شفتي فاتن
…
يباح إلى شفتي مغرم
فهل أنت مطلقها منعما
…
فديتك أم لست بالمنعم؟
وما أنا بالمشتهي قبلة
…
ولا بالحريص على مغنم
ولكنما أنا أبكي أسى
…
لتلك الشهيدة في القمقم!
فهل فهم الرافعيون شيئاً من هذه القطعة مع وضوح كل لفظة فيها وكل عبارة؟ وكيف يستطيع فهمها من لم يدرس شيئاً عن نظرية فرويد في (العقل الباطن) ويكون مع هذا على استعداد لأن يحس، بأن النوازع والرغبات المكبوتة في النفس والأشجان والبلابل والاضطرابات التي تعتريها في إبان ضرام الحب، تظل تعتلج النفس، وتقلقها وتهزها هزاً كمواد البركان المكتوم، حتى ينفس عنها، ويتاح لها التعبير، فإذا هي سعادة وهدوء وراحة
هذا ما يقوله العقاد في ثوب من الفن، وجمال من التعبير! عواطفه الثائرة، وبلابله المضطرمة، هي نفسها سعادة حبيسة إذا أتيح لها الكشف والتعبير، وكيف يكون التعبير؟ يكون بقبلة على (شفتي فاتن) تبيح السر إلى شفتي مغرم، وعندئذ تنطلق تلك الشهيدة في القمقم التي يبكي لها أسى.
فهنا النظرية العلمية، والحقيقة المدركة، والفن العالي، والدعابة القوية، والغزل الشفاف، تلتقي كلها في قطعة قصيرة، يطلب بها قبلة!
وإليك مثالا آخر في (عابر سبيل) تحت عنوان (ابنا النور - الزهر يخاطب الجوهر)
يا جوهر الحسن لا تضعفي
…
لديك بالموضع المهان
فالزهر والجوهر المصفى
…
صوان في النور توأمان
أشعة النور في يدينا
…
وديعة أو وديعتان
لكننا بيننا اختلفنا
…
يا جوهر الحسن في الصيان
تصونها أنت من بعيد
…
بالسيف والرمح والسنان
ولم تزل في يديّ كنزاً
…
يصان بالعطف والحنان
ومعدن النور فيَّ حي
…
وفيك معنى الحياة فان
فيا زماناً بلا حياة
…
إني حياة بلا زمان
كل له من أبيه حظ
…
ونحن بالحظ راضيان
فمن أين يدرك قارئ ما في مثل هذه القطعة من جمال، قبل أن يعرف المادة الخاصة لفهمها من دراسة (الضوء) وتوزيعه وأثره في الأحياء وغير الأحياء، ونصيب الزهرة منه ونصيب اللؤلؤة، ثم يضيف إلى هذا عاطفته هو، وإحساسه بمظاهر الحياة وعطفه على الزهرة الحية التي تحفظ كنز النور بالعطف والحنان. . . الخ
وقد اخترت هاتين القطعتين، تتطلبان دراسة علمية للنفس أو للضوء، ووراءهما كثير مما يتطلب دراسات أخرى أعمق وأوسع وأرقى في مدارج المعرفة الإنسانية، فيحسن أن أنبه إلى أن هذه الدراسات ليست هي كل ما في نتاج العقاد، ولا هي خير ما فيه، فأن وراءها ذخيرة نفسية وطاقة روحية، وإشراقاً ذهنياً، وهذه المواهب هي التي تحيل تلك الثقافات فناً سائغاً، ولكنه فن صعب المرتقى؛ تبدأ درجاته بالثقافة وتنتهي بفسحة النفس، ورحابة الحس، وتوفز الشعور. وليس كل من درس تلك النظريات بقادر على فهم العقاد ما لم يكن ذا نفس وقلب وحياة!
وموعدي مع القراء كلمات أخرى، لعلني بها أوضح الفروق الأساسية بين المدرستين، فينكشف سبب الخلاف الأصيل بينهما، ومقدار أصالة كل منهما، وحقه في الحياة والاحترام.
(حلوان)
سيد قطب
كلمة على الهامش
للأستاذ علي الطنطاوي
أنا لا أحب أن أنزل إلى ميدان المناظرة بين الأستاذين الفحلين شاكر والعريان، والأستاذ قطب؛ لأنه لا يقوم لأحدهما بله أن يعينهما عليه معين، على أن الحق لعمري يعينهما. ومع الحق بيان يجلو الحق، ولغة فخمة كأن فيها روحاً من روح الرافعي رحمه الله، ولهذا البيان قراء يبلغون مائة الألف انعقدت قلوبهم على محبة الرافعي وإجلاله، وآمن منهم من آمن بأن الرافعي رجل لم يكتب بالعربية من هو أبلغ منه بلاغة. . . فما حاجة ضعيف مثلي أن ينزل إلى الميدان؟
وفيما الخلاف؟ في (إنسانية) الرافعي!. . .
الأستاذ قطب يشك في (إنسانية الرافعي). . . أي أنه يشك في أنه إنسان، فماذا يكون إذن؟
ثم ماذا؟ ثم أنه (على رأي سيد قطب) تنقصه العقيدة! والعقيدة مشتقة من العقد، قال في اللسان: عقد قلبه على شيء لزمه. . . واعتقد كذا بقلبه أي رآه، فلابد إذن لتمام كلمة الأستاذ قطب من أن يبين الشيء الذي ينقص الرافعي رضي الله عنه اعتقاده، وألا فكلامه لا معنى له في العربية. . فهل ينقص الرافعي العقيدة في الدين، أو في الوطنية، أو ينقصه اعتقاد مذهبه في الأدب. أو ماذا؟
أو هي ألفاظ تساق ولا يدري لمساقها غاية إلا التهويل بها على القراء؟
هذه مسألة لا يصح أن يكون عليها خلاف، أو تدور عليها رحى مناظرة. . .
أما جوهر الخلاف بين أدب الرافعي وشعر العقاد، فهو الخلاف بين الأسلوب الذي يعتمد على البيان والصحة والصناعة والجمال، وبين الأسلوب الذي يستند إلى المعنى المبتكر، والصورة الجديدة، لم يظهرهما لفظ قوي، ولا أداء مستقيم. فالعقاد في شعره مبتكر مجدد، ولكني أشبه ألفاظه وهي تحمل معانيه، بصبيان ضعاف مهازيل، يحملون الصخور العظيمة فتسحقهم ويموتون تحت أثقالها. . . كما أني أجد من الأساليب ما أشبه ألفاظه ومعانيه بعمالقة ضخام، ولكنهم يحملون حفنة من الحصى
فالخلاف إذن على اللفظ والمعنى، هذه المشكلة التي تكلم فيها الجاحظ، ولم ينته القول فيها بعد. على أن في إطلاق اللفظ والمعنى تجوزاً، لأنه يستحيل أن يكون في الوجود لفظ بلا
معنى، من يذكر كلمة السماء ولا يتصور هذه القبة الزرقاء، أو يسمع اسم الكتاب ولا يذكر هذه الصحائف المجموعة؟ كما يستحيل أن يكون بلا معنى بلا لفظ، لأن هذا المعنى يبقى خاطراً هاجساً في نفس صاحبه لم يدخل نطاق الأدب. ولكن الكلام في قطعتين أدبيتين، إحداهما تزدان بالتعبير الجميل، والأسلوب البارع ولكنها تصف شيئاً تافهاً، أو تدور على معنى سخيف، والثانية يتصور صاحبها ناحية من نواحي النفس البشرية، أو ظاهرة من ظواهر الكون، فتجيد التصور ولكنه يعجز عن التصوير، فأي هاتين أسمى مقاماً وأدنى إلى الأدب الخالص؟
هذه هي المسألة!
أما المتقدمون من نقدة الأدب العربي فأكثرهم على أن المعاني على قوارع الطرق، وإنما يتفاضل الناس بالألفاظ. وليس معنى هذا احتقار المعنى وتهوين شأنه، فإن للمعنى المقام الأول عند نقادنا، ونستطيع أن نقرأ الفصل القيم الذي عقده الإمام الجرجاني في الدلائل، ولكن معناه أن الشعور بالجمال عام، ولكن الناس يتفاضلون بالتعبير عنه؛ إذا نظر جماعة من الناس إلى مغرب الشمس في البحر، أو بزوغ البدر من وراء الجبل، أدركوا جميعاً جمال ما يرون (وإن كان كل يدرك على نسبة استعداده وهوى نفسه)، وإن وقف جماعة في موقف الوداع أحسوا جميعاً بالألم يغمر نفوسهم، ولكن هذا الإدراك وهذا الإحساس لا يسميان أدباً، وإنما الأدب هو الصيغة اللفظية التي يعبر عن هذا الإحساس؛ وعلى مقدار التوفيق في هذه الصياغة تكون قيمة القطعة الأدبية
هذا هو الحق، ولكن هذه الفئة من المجددين، أرادت حين عجزت عن الأداء المستقيم والصياغة البارعة والديباجة الصافية أن تقلل من قيمتها وتحقرها، وتسمي كل أديب يعرف للغته حقها وكل أديب آتاه الله ملكة قوية، تسميه سطحياً فارغاً. ولقد بلغ من فساد أذواق بعض هؤلاء المجددين أن قرأت مرة لواحد منهم فصلاً يقدم به لكتاب، فوقع له فيه مجاز حلو أحسست لما قرأته بمثل ما أحس به حين تطلع على من الطريق فتاة جميلة، وعجبت له من أين جاء به، ولكن عجبي قد بطل حين رأيته يتعذر منه، ويريد أن يواريه كما يواري المرء سوأته، لأنه - زعم - يكون (بهلواناً) إذا جاء بمجاز حلو، فليتصور القارئ أي شيء يكون الأدب إذا اطرح المجاز واقتصر على الحقيقة؟
هذا سر الخلاف في رأيي. والرافعي رضى الله عنه، قد بلغ هذه الصناعة، وفي توليد المعاني، وفي نخل الألفاظ وتصفية الديباجة ما لم يبلغه كاتب عربي، فلا عجب إذا أبغضه خصوم البيان العربي
والعجب من الأستاذ سيد قطب! يأبى أن يناقش الأستاذ العريان لأنه لم يأته على أغراضه بدليل. . . ثم ينقد أبياتاً للرافعي يقطر ماء السلاسة من أعطافها، وتنطق كل كلمة فيها بألم صاحبها في حبه، وعذابه في غرامه لا، حين سمع أن للحب ليناً ووصالاً، ولكنه لم ير إلا قساوته وجفاءه، فهو يسأل المحبين كيف يكون هذا اللين، وينظر حوله فإذا قد (قضى كل ذي دين فوفى غريمه) فيأسى ويألم لنفسه أن بقيت ديونه وحدها لم توف. ثم يمد يده ينظر هل من مسعد أو من معين، ولكنه لا يريد مساعدة ولا عوناً، هو هانئ بالحب لأن الحب أهنئه حزينه، قال:
من للمحب؟ ومن يعينه؟
…
والحب أهنئه حزينه
أنا ما عرفت سوى قسا
…
وته فقولوا كيف لينه
أن يقض دين ذوي الهوى
…
فأنا الذي بقيت ديونه
فلا يجد نقداً لهذه الأبيات الثلاثة (وثالثها مأخوذ من بيت كثير المشهور، لم يتنبه لذلك سيد قطب) إلا أنها تقليد لشعراء الدول المتتابعة والمماليك في مصر. . .
هذا هو النقد الفني عند الأستاذ سيد قطب!
ويقول الرافعي رضى الله عنه:
قلبي هو الذهب الكريم
…
فلا يفارقه رنينه
قلبي هو الألماس يع
…
رف من أشعته ثمينه
فلا يفهم سيد قطب من هذا التشبيه البليغ إلا (أنه يذكر قلبه في سوق المجوهرات من الذهب والألماس معتقداً أن تلك المعادن أثمن من القلوب لأنها تقوم بالمال الكثير من السوق) - مع أن الأستاذ قطب يدعي في رأس مقاله بأنه أفهم لأدب الرافعي من الأستاذ العريان، فهو إذن يتعمد أن يتظاهر بأنه لم يفهم هذين البيتين لغرض في نفسه. . . ولا حيلة لنا معه في ذلك!
والأنكى من ذلك كله. . . أن ينقص هذا البيت الذي يعدل والله قصيدة، بل ديواناً من
دواوين الغزل:
قلبي يحب وإنما
…
أخلاقه فيه ودينه
أن انتقاد هذا البيت وتشبيهه وما بعده بالخطب المنبرية الجافة تحقير للحب، وتنزيل له إلى حيث يخالف الدين والأخلاق حتماً، ودعوى ضمنية بأن المحب لا يستطيع أن يحتفظ بخلق ولا دين!
على أن للرافعي رحمه الله عيوباً ومزايا. وليس إلا الله خالياً من العيوب، والرافعي ملك للنقد، ولكن للنقد شرائط. . . أولها أن يلقي الناقد عنه هواه، ويطرح بغضاءه. فأن البغضاء تدفع إلى الظلم، والهوى يعمى ويصم!
دمشق
علي الطنطاوي
ليلى المريضة في العراق
للدكتور زكي مبارك
- 20 -
تأهبت ظمياء للكلام فاستوقفها لحظتين لأنظر الأشرطة السينمائية التي يعرضها الشقاء أمام خيالي. فهالني أن اشهد ألوف المناظر وفيها المفرح والمحزن والأخضر والأسود، وضجت في أذني تلك الكلمة الباغية التي قالها أحد الزملاء المصريين وقد ترامت الأخبار بما بيني وبين ليلى من خلاف، قال ذلك الزميل وهو يلتهم حساء البقلة الحمقاء:
(كان رأيي من أول يوم أن الحكومة المصرية أخطأت في اختيار زكي مبارك لمداواة ليلى المريضة في العراق وهي تعلم أنه عجز عن مداواة ليلى المريضة في الزمالك)
أنا عجزت عن مداواة ليلى المريضة في الزمالك؟
أنا ما عجزت، وإنما رأيتها لئيمة لا تحفظ الجميل فضننْتُ عليها بالطب والدواء، وأخذت أدرس ما صرت إليه في هوى ليلى. فحب هذه المرأة هو أخطر ما عرفت في حياتي من ظلام وضلال
أحبك يا ليلى أحبك؟
وإنما كان كذلك لأنه ابتدأ بالعطف، عطف الصحيح على العليل، والعطف يؤصَّل جذور الحب ويهيَّئ القلب للهيام العَصُوف
كانت ليلى تصح على يدي من يوم إلى يوم، وكان حالي معها حال اَلْجنان الذي يتعهد إحدى الشجرات بالسقي والرعاية فتنمو عواطفه بنموها من حيث لا يعرف، ثم تصبح الشجرة وهي معبودته من دون البستان
أحبك يا ليلى أحبك
ورأت ليلى شغفي فلم تفطن إليه، ولعلها كانت تراه لوناً من ترفق الأطباء فمضت تناضلني الصحيح للصحيح، ولم تدر ما نقل المشرط إلى دمي، وآه ثم آه مما ينقل المشرط، فالناس لا يفهمون كيف يعيش العليل وجسمه موبوء بالجراثيم على حين تكون جرثومة واحدة ينقلها المشرط إلى جسم الطبيب وهو صحيح كافية لتقتل الطبيب
الناس لا يفهمون هذه الظاهرة وهي عندهم من الغرائب
ولكن تعليلها سهل. وهي أول درس تلقيته بكلية الطب في باريس
السبب يرجع إلى شعور الطبيب بخطر الجراثيم، فهو حين يشعر بانتقال العدوى إليه. ينفعل جسمه كله دفعة واحدة فيصرعه المرض
وهذا يشبه تمام الشبه ما يقع في عالم الاخلاق، فالرجل صاحب الوجدان السليم تؤذيه الهفوة الصغيرة فيقضي سائر عمره في استغفار وقد يقتله تأنيب الضمير، ولا كذلك المريض بالجسم والوجدان، فالأول يعاني العلل المهلكات ثم يموت قبل أو أن الموت، والثاني يُجرم نحو نفسه ونحو الإنسانية ثم يعيش وهو مستور الحال، لأنه يجهل خطر ما يصنع
ومن أجل هذه المعاني عشت شقياً في حياتي، فأنا تلميذ قديم من تلاميذ الغزالي، وكل شيء يجوز عندي إلا إيذاء الناس، وقد يتفق في أحيان كثيرة أن أهجم على خصومي بعنف، ولكنه عنف مصطنع، لأني لا أحشو المسدس بغير البارود، فيثور من حولهم الدخان، ثم يسلمون لأن القذيفة لم يكن فيها رصاص
ويصنع خصومي غير ما أصنع، لأني غبيَّ وهم أذكياء!
هم يحشون المسدسات بالرصاص ثم يقذفون، وكم يبقى الرميَّ على نبال؟! أولئك أعدائي، والعداوة الأثيمة تستبيح كل قبيح
ولكن ما ذنبي عند ليلى حتى تفضحني بين قومي وتضيع مستقبلي في مداواة الملاح؟
ما ذنبي عند ليلى التي هجرت في سبيلها وطني وأهلي؟
ما ذنبي عند ليلى؟ ما ذنبي عند عيونها السود وخدها الأسيل؟
ما ذنبي عند ثناياها العِذاب وصوتها الرخيم؟
أحبك يا ليلى وأستعذب في هواك كل عذاب
- ظمياء، ظمياء
- عيوني، عيوني
- هاتي التهم الثقال التي تفضلتْ بها ليلاي. انقليها بترفق ما أحب أن أموت في بغداد، فمقابرها مهجورة منسيَّة، كأنها مقابر المحبين، وليس فيها مسجد استروح بأن يصلَّي علىَّ فيه يوم أموت، فمساجدها تعرف الجمال في القباب وتجهل الجمال في المحاريب
- أعرني أذنيك يا دكتور
- أعرتك قلبي، يا ظمياء
- أنت متهم عند ليلى بالشيوعية
- بالشيوعية؟ وكيف سكتت عني إذاً حكومة العراق، وبصرها أحدَّ من بصر ليلى ولها عيون تنقل إليها كل شيء؟
- حكومة العراق تحارب الشيوعية الاقتصادية، وأنت متهم بالشيوعية الوجدانية، وليلى تعاقب على ذلك
- وأين شواهد هذا الاتهام الفظيع؟
- ما ظلمتك ليلى، وإنما ظلمت نفسك، فأنت الذي تقول
أَصْباك ما خلفَ الستار وإنما
…
خَلْفَ الستائر لؤلؤ مكنونُ
والناس في غفلاتهم لم يعلموا
…
أني بكل حسانهم مفتون
- ما قلت الشعر يا ظمياء
- هو في ديوانك المطبوع
- هذا شعر دسه السفهاء
- وكيف سمحت بنشره في ديوانك؟
- ما أذكر كيف سمحت، فقد كنت عضواً في جمعية أبوللون، وأرادت الجمعية أن تصح انتسابي إلى الشعراء فلفقت باسمي طائفة من الأشعار وأخرجتها في ديوان
- ولكن ليلى تقول إن في نثرك ما يؤيد هذا المعنى
- وكيف؟
- في بعض ما نشرت في جريدة البلاغ مقال تقول فيه إن الأطلال تملأ روحك بالمعاني لأنها تعيد إلى خيالك تاريخها القديم يوم كانت ملاعب تمرح فيها الظباء
- هذا أيضاً مدسوس
- وكيف؟
- كان لي بجريدة البلاغ زميل يعطف على أدبي، هو الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني، وكان يؤذيه أن تخلو مقالاتي من المعاني الوجدانية، فكان يضع اسمي على ما يبدع من
صور الوجدان
- أنت تسيء الدفاع عن نفسك يا دكتور
- دليني كيف أدافع عن نفسي، يا ظمياء؟
- أما تعرف كيف تدافع عن نفسك؟ أنا ألقنك الدفاع عن نفسك. قل إنك تعشق جميع الصور وتهيم بجميع المعاني
- هاتي يدك أقبلها يا ظمياء
- أعجبك كلامي؟
- ما هذا كلاماً، إن هو إلا سحر مبين، فأنا حقاً أعشق جميع الصور وأهيم بجميع المعاني؛ وظواهر الوجود هي عندي صور شعرية تموج بألوان السحر والفتون. الدنيا يا ظمياء لوحة فنية صاغها بديع الأرض والسموات، فما فيها من حسن فهو صنع فنان، وما فيها من قبح صُنْع فنّان، فأنا أدرس المحاسن والمساوي بذوق واحد. وقد أتفلسف يا ظمياء فأزعم أن خَلْق الوجه الدميم أصعب من خلق الوجه الوسيم. وعلى أهل الدمامة أن يشكروا خالقهم فقد سوّاهم بعناية، ثم تلطف فأباحهم التقلب في بقاع الأرض، وجعل لهم في دولة القبح سلطاناً. فان لم يشكر هؤلاء القباح خالقهم فسأشكره بالنيابة عنهم، وسأتصدق عليهم بالعطف والحنان
- دكتور، أنا أحبك!
- وأنا أبغضك يا ظمياء!
- أقول لليلى إنك أحسنت الدفاع عن اتهامك بالشيوعية في الحب؟
- ما تهمني ليلى، وإنما يهمني أن أحاسب خالق ليلى
- احترس يا دكتور، فهذا كفران
- سأحاسب ربي قبل أن يحاسبني، فما قضيت شبابي في دراسة الأدب والفلسفة إلا لأعرف كيف أناقشه الحساب، وسوف تنظرين
- كفرت، يا دكتور، كفرت
- الكفر الحق هو أجمل صورة للإيمان الحق
- وكيف؟
- ما تعرفين كيف وأنت وصيفة ليلى وخدينة الدكتور مبارك؟
- لست خدينتك
العفو! العفو! يا ظمياء
- تشتمني يا دكتور؟
- إنما أداعبك يا ظمياء، فاغفري ذنبي
- يغفر الله لك
- ويفغر الحب؟
- أسأل ليلاك
- غضبة الله ولعنة الحب على ليلاي!
- ظمياء!
- عيوني!
- تلك التهمة الأولى، فأين التهمة الثانية؟
- ليلى تتهمك بما اتهمتْ به الضابط عبد الحسيب
- وكيف اتهمت ذلك المسكين الذي سارت أخبار شقائه مسير الأمثال؟
- اتهمته بخيانة العروبة
- وهي تتهمني بخيانة العروبة وقد أَذْوَيت شبابي في خدمة لغة القرآن؟؟
- إن ليلى قرأت خطبتك في نادي المثَّنى عن العروبة المصرية وقد نشرتها جريدة البلاد
- وما الذي عابته ليلى على تلك الخطبة؟
- العيب في ذلك أنكم في مصر لا تفرقون بين العروبة وبين الإسلام
- هذا صحيح يا ظمياء
- وهذه جريمة عربية يا دكتور
- اسمعي يا ظمياء، ثم بلغي ليلى ما أقول. العروبة يا طفلتي يا طفلتي الغالية في حاجة إلى إسناد قوية من الصداقة والعطف، وإسناد العروبة لن تكون في الممالك الأوربية، وإنما ننشدها في الممالك الاسلامية؛ والسياسي الحكيم هو الذي يتعب في خلق الأصدقاء، والإمبراطورية البريطانية لن تفنها جيوش البر والبحر والهواء عن التفكير في خلق
الأصدقاء. والإسلام قوة يتودد إليها هتلر وموسوليني، وتشقى روما ولندن وباريس وبرلين في التعرف إلى مدارج هواه، وليس في بلاد الله قوة سياسية إلا وهي تحسب ألف حساب لغضب المصحف فما ذنبي عند ليلى أعلنتُ إسلامي؟ ما ذنبي عند ليلى وأنا أخلق لقومي وقومها جيوشاً من العواطف والقلوب؟
- ولكن الإسلام غير العروبة
- تلك يا ظمياء دسيسة استعمارية، هي دسيسة حيكتْ شباكها لتقويض الإمبراطورية العثمانية. وقد تقوضت لأن الأتراك عجزت حيلتهم عن قرض خيوط تلك السياسة، فهم اليوم أمة من الأمم، وكانوا بفضل الإسلام سادة المشرقين
- احترس يا دكتور فهذه سياسة، والسياسة محرمة على الموظف
أعترف أني موظف في حكومة العراق، ولكن لا خوف. فأنا أتهيب الشر في كل أرض، إلا في العراق؛ وأعتقد أن حكومة العراق لا تصادر حرية الرأي إلا إذا صدرت عن المنافقين، وقد حماني الله من النفاق. وقد عجب ناس من أن تسكت عني حكومة العراق على كثرة ما قلبت من وجوه الآراء في الصحف والمجلات. فليفهم الدساسون أن حكومة العراق فوق ما يظنون، والله من وراء الدساسين محيط، وسوف يعلمون
- إن العراق يثق بك ويعطف عليك يا دكتور
- وفي حماية تلك الثقة وذلك العطف أقول: إن أوربا اللئيمة خلقت فكرة لتقسيم أهل الشرق إلى عرب ومسلمين، وقد أحسست هذا المعنى حين بدأت أتعلم اللغة الفارسية في باريس سنة 1927 فقد رأيت معجما فارسيا فرنسيا نشر منذ أكثر من أربعين سنة وفي مقدمته تحريض صريح على قطع الصلات بين العرب والفُرس؛ وأعتقد أن مقدمة ذلك المعجم هي السبب في ثورة الأتراك والإيرانيين على الحروف العربية
- أخطأ الأتراك وسيخطئ الإيرانيون
- وماذا صنعنا لدفع هذا الخطأ يا ظمياء؟ لقد تجشمت مشيخة الأزهر ما تجشمت وأنفقت ما أنفقتْ، لترسل بعثة من العلماء إلى الهند، فهل فكرت هذه المشيخة في إرسال بعثة إلى تركيا أو إيران؟ هل فكرت مشيخة الأزهر في إرسال رجل أو رجلين لتذكير الفرس بماضيهم في خدمة اللغة العربية؟ هل فكرت في إرسال وفد إلى الغازي مصطفى كمال
يذكره بأن الحقد على العرب الذين خذلوا تركيا في الحرب لا يصح أن ينسيه فضل العرب الأبرار الذين نقلوا إلى تركيا بذور الإيمان بالله والرسول؟
هل قام رجل مؤمن يقول للأتراك: هبوا سيئات الحاضر لحسنات الماضي؟
هل قام رجل مؤمن يقول لأهل إيران: إن العرب إخوانكم في الله فلا تجرحوا إحساسهم بهجر الحروف العربية؟
لقد قمت بهذا الواجب وحدي فأقنعت وزيرين في العراق، وفكرتُ في الهجرة إلى إيران لأصلح ذات البين بين العرب والفرس. ولكن كيف وأنا رجل يرهقه جدول الدروس وتنهب عافيته دفاتر التلاميذ؟
لقد زار بغداد منذ أشهر صحفي إيراني ودعائي الأستاذ إبراهيم حلمي للتسليم عليه، فلم أستطيع مخاطبة بغير الفرنسية، مع أنه نشأ في وطن كان بعض أهله لا يعرفون غير العربية، ولذلك الصحفي جريدة تصدر بلغتين هما الفارسية والفرنسية، ولو كنا حفظنا العهد لكانت اللغة الثانية عربية لا فرنسية
- يظهر أنك مؤمن يا دكتور
- أنا ملحد يا ظمياء، فما يسرني أبداً أن أحشر نفسي في زمرة المسلمين الغافلين الذين يفكرون في إصلاح الوثنية الهندية ويغفلون عن هداية الثائرين على الإسلام في بلاد كانت من الدرر اللوامع في تاريخ الإسلام
- أنت مؤمن يا دكتور
- أنا كافر يا ظمياء
- أعوذ بالله!
- وأنا أعوذ بالشيطان!
- تعوذ بالشيطان؟ يظهر أنك ملحد حقاً وصدقاً
- اسمي يا ظمياء، الشيطان مخلوق شريف لأنه لا ينافق، فهو يعلن في كل وقت أنه من الضالين المضلين، ولو كشف كل إنسان عن سريرته كما كشف الشيطان عن سريرته لأصبحنا جميعاً من الملائكة لا من الشياطين
- أنت إذاً تعبد الشيطان؟
- أنا أعبد الله وأحب الشيطان
- قف عند هذا الحد يا دكتور
- سمعت وأطعت
(للحديث شجون)
زكي مبارك
التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن هدية الأحراج إلى عالم المدينة
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .
- 14 -
وثمة حادثة أخرى لها دلالتها على عظمة الرجل ونبله وسمو نفسه؛ ذلك أنه تقدم عن طيب خاطر ليدافع عن حفيد كارترايت ذلك الرجل الذي طعنه في دينه قبل ذلك بعشرين عاماً وهو ينافسه في الوصول إلى مقعد في مجلس الولاية؛ وكانت هذه التهمة أيضاً تهمة القتل؛ ولشد ما تأثر كارترايت وهو اليوم شيخ كبير حينما شاهد حرارة دفاع خصمه لنكولن عن حفيده الذي ما لبث أن برئت ساحته. . .
وأي شيء لعمري أجمل من هذا؟ ألا إنه الخلق العظيم يبهج جماله النفوس ويملك طيبة الأفئدة، إن للناس فيه لقدوة أي قدوة، وإن لهم في صاحبه لأسوة لن يتسنى لهم مثلها إلا في الأفذاذ القلقين الذين ظهروا في هذا الوجود برهاناً على أنه ثمة من صلة بين هذه الأرض وبين السماء!
وندير الحديث بعد إلى السياسة فنذكر أن المؤتمر الذي انعقد من الجمهوريين في سبرنجفيلد عام 1858 لترشيح عضو عن الولاية لمجلس الشيوخ قد اجتمعت كلمة رجاله على ترشيح لنكولن، ولقد فعلوا ذلك في غبطة وفي حماسة شديدتين
وهكذا اتفقت كلمة الجمهوريين على لنكولن يقدمونه لينافس دوجلاس رجل الديمقراطيين في الانتخاب لمجلس الشيوخ؛ فيلتقي بذلك الخصمان ويكون بينهما هذه المرة جلاد دونه كل ما سلف من جلاد؛ وينتهي الصراع بينهما فإذا دوجلاس يرى نفسه وقد ابتعد عن الهدف بقدر ما اقترب منه ابن الأحراج، ثم إذا هو يفطن إلى طعنه سوف تحول بينه وبين غايته المرجوَّة فلا يظفر بها أبداً. . .
وعرف لنكولن مبلغ ما ينطوي عليه الموقف من خطر، وأدرك أنه ملاق منه رهفاً شديداً
وعنتاً. ولكنه يحس في قرارة نفسه أن له في ذلك ما يشفي نفسه، فهو يحمى على الصراع وهو لا تظهر مواهبه على أحسن ما تظهر إلا حين يبتعثها ضجيج الموقف وتستثيرها حرارة الدفاع
وكذلك أشفق دوجلاس وأوجس في نفسه خيفة، ولقد فطن وهو الخبير بأقدار الرجال، البصير بأمور السياسة، إلى دقة الموقف. وأدرك أن ابراهام اليوم غيره بالأمس، فهو منه إذ ذاك حيال قوة لا تنفع معها حيلة ولا يجد في مكر أو دهاء، قوة منشأها عقيدة صقلتها الأيام ووثقتها التجارب وأمدتها الفطرة بمثل ما تمد به التربة الصالحة الشجرة الطيبة من الغذاء الصالح؛ فليس ثمة ما يحول بينها وبين امتداد الجذور وسموق الفرع. وكأنما كانت ماري يوم فضلت لنكولن على منافسه ورضيت به زوجاً، تطلع على الغيب فترى هذا الصراع بين الرجلين ثم تصدر حكمها على هدي وبصيرة وعلى تجربة لا تدع مجالاً لوهم!
وهل كان انتخاب إبراهام لمجلس الشيوخ هو غاية ما يتمناه؟ كلا فما أهون هذا الأمر إذا قيس إلى ما كانت تجيش به نفسه من آمال لم يكن يراها وقفاً على نفسه بل كان يراها لصالح غيره؛ وهو لن يشعر لها بقيمة أو خطر إلا أن يتسع مداها حتى يشمل أمريكا كلها؛ بل إنه ليرى رضاء نفسه في أن يشقى ليسعد بنو جنسه. . .
لذلك لم يكن عجباً أن يسير كما تملي عليه مبادئه وكما يوحي إليه قلبه، لا كما يتطلبه الانتخاب من محاولات ومداورات وألاعيب وأكاذيب ومرونة وليونة وغير ذلك مما يتذرع به الكثيرون من أصحاب السياسة حين يجعلون غرضهم النجاح في المعركة فحسب. وما كان إبراهام يرى في الوصول إلى مقعد في الشيوخ إلا إحدى الوسائل لتحقيق غرضه الأسمى وذلك كما محصته الأيام هو حل معضلة العبيد مع المحافظة على كيان الاتحاد
وفيما كان رجال حزبه يقدمونه، كان هو يعد خطاباً حاسماً يعبر به عما في نفسه، ولقد ظل يثبت ما يجري في باله على قصاصات من الورق يدسها في قبعته، حتى استوى له موضوعه فجمعه بعضه إلى بعض ولم يفض به إلى بعض خلصائه إلا قبل إلقائه ببضع ساعات؛ ولقد أخذهم الدهش لما جاء فيه أنه لم ير رأيه منهم سوى صديقه هردون؛ ولكن لنكولن كان إذا صمم على أمر لن يلويه عنه شيء فقال لهم (أي أصدقائي: إن هذا الشيء
قد أجل مدة طويلة أرى فيها الكفاية؛ ولقد حان الوقت الذي ينبغي فيه أن أنطلق بهاتيكم العواطف، فإذا قدر لي أن يكون مصري السقوط بسبب هذا الخطاب فلأسقطن مربوطاً إلى الصدق؛ دعوني ألقى حتفي في الدفاع عما أرى أنه العدل والحق. . .)
ولما انعقد ذلك المؤتمر الجمهوري الذي كان ينتخب عضو الشيوخ قام فيهم لنكولن يلقي خطابه فقال: (حضرة الرئيس، حضرات السادة رجال المؤتمر: إذا استطعنا بادئ ذي بدء أن نعلم أين نحن وإلى أي وجهة، أمكننا أن نعرف ماذا نصنع وكيف نصنعه. إننا الآن بعد خمسة أعوام منذ تلك السياسة التي اتبعت مع وجود ذلك الوعد الوثيق الذي قصد به أن يوضع حد لذلك القلق الذي تبعثه مسألة العبيد، ولكن هذا القلق طالما أخذت تلك السياسة تفعل فعلها لم يقتصر أمره على أنه لم يوقف فحسب، بل لقد ظل يتزايد أبداً؛ وفي رأيي أنه لن ينتهي حتى يفضي بنا إلى أزمة نجتازها. إن البيت الذي ينقسم بعضه على بعض لن يقوم؛ إني أعتقد أن هذه الحكومة لا يمكنها أن تدوم ونصفها عبيد والنصف الآخر أحرار، وأنا لا أبغي أن تنقسم عري الاتحاد كما لا أبغي أن ينهار البيت، ولكني أبغي ألا يستمر في انقسامه؛ ولسوف يكون كله إلى هذا الجانب أو إلى ذاك؛ فأما أن يحول خصوم العبودية دون أي انتشار لها في المستقبل ويضعوها حيث يرتاح الرأي إلى أنها وضعت في الموضع الذي يفضي بها إلى الفناء النهائي، وإما أن يدفعها أنصارها إلى الأمام بحيث تصير قانونية في كل الولايات القديم منها والجديد والشمالي والجنوبي)
ذلك هو الخطاب الذي أفضى به لنكولن إلى رجال المؤتمر في صراحة وجلاء؛ ولقد أشفق أنصاره من لهجته الحاسمة ثم من تلك العبارة التي اقتبسها من الإنجيل وخافوا أن يحملها خصومه على غير محملها فيظنون وهو يريد بالبيت المنقسم على نفسه الولايات الأمريكية أنه يشير إلى قطع العقدة لا حلها وأن سبيله إلى ذلك الحرب. . .
وكان دوجلاس قد نزل بشيكاغو يدعو إلى انتخابه للشيوخ، فوجد في خطاب خصمه ومنافسه، لنكولن، فرصة يغتنمها فاتهمه أنه من دعاة التحرير بالقوة وأخذ يحذر الناس من انتخابه واغتاظ لنكولن لتلك التهمة النكراء، ولكنه لم يستكثرها على دوجلاس، وإنه لواثق أن الأيام ستقذف بحقه على باطل خصمه فيدفعه فإذا هو زاهق
وما كان إبراهام ممن يقرون الثورة مهما بلغ من مقته لنظام العبيد، ولسوف يبقى دستوره
هو حل تلك المسألة بما يتفق مع الصالح العام على أن يكون ذلك في كنف الاتحاد وتحت رايته التي لا يرضى إلا أن تظل خافقة عالية تجمع على محبتها وإكبارها أبناء الوطن كله
وعول دوجلاس أن يخوض المعركة على أساس خصومته لبيوكالون في مسألة دستور كنساس، لا على أساس مخاصمته لنكولن أو مخالفته فيما جاء في خطابه الجديد من أراء كأنه يستعظم أن يكون ذلك الرجل الذي ما زال شأنه منحصراً في ولايته نداً له؛ وإن كان دوجلاس ليحس بينه وبين نفسه مبلغ ما تتطوى عليه نفس الرجل من عظمة ومبلغ ما يحمله قلبه من إيمان
ولقد شاع خطابه في الناس وتناقلته الصحف في طول البلاد وعرضها، فكان ذلك أبلغ رد على ترفع دوجلاس وذهابه بنفسه؛ وأحس إبراهام مبلغ ما أحدثه الخطاب من أثر في البلاد، لتبين ذلك في قوله: (إذا كان لي أن أمر بالقلم على صفحات تاريخي، وأمحو حياتي كلها عن الأنظار؛ وقد ترك لي أن أختار شيئاً استثنيه من هذا المحو فإني أختار هذا الخطاب فأدعه للعالم لم تذهب معالمه
وليس في قوله هذا شيء من المغالاة، فان خطابه كان أكبر حافز لأول الرأي أن يقفوا من مسألة العبيد موقف الذي يريد أن يصل إلى غاية، فلا تهاون ولا تلكؤ بعد اليوم، وإلا تفاقم الخطب واستعصي الحل، ودخلت البلاد في طور من الفوضى الجامحة فيأتي على الأخضر واليابس؛ كما أن هذا الخطاب كان أهم حادث في تاريخ حياته فبعده صار للسياسة كل همه، وبه قدر له أن يصير في السياسة من رجال أمريكا كلها لا من رجال الينواس فحسب. . .
ولقد خطب لنكولن بعدها في شيكاغو يرد على ما اتهمه به دوجلاس؛ فأعلن أن الوثيقة الكبرى التي يجب أن يتقيد بها الأمريكيون ويسيروا على نهجها هي وثيقة إعلان الاستقلال وأنه يجب أن ينظر إلى مسألة العبيد نظرة إنسانية، وأن يراعي اتفاق مسوري فيما يشجر بين الفريقين من خلاف
وتكلم دوجلاس بعد ذلك في بلومنجتن ثم في سبر نجفيلد، ورد لنكولن عليه في المرتين، حتى بدا له فخطا خطوة لم يسبقه إلى مثلها رجل من قبله في التاريخ السياسي للبلاد، وذلك أنه أرسل إلى دوجلاس رسولاً يعلن إليه أنه يتحداه أن يلتقي رأياه في مبارزة خطابية
يستمع فيها الناس إليهما ويحكموا بينهما حسبما يرون من كلامهما. . .
ولقد ضاق دوجلاس بهذا التحدي وهو الذي يعرف أصالة صاحبة وشدة إيمانه ذلك الإيمان الذي رسخ حتى ما يحتال عليه بحيلة أو تزعزعه مطاولة أو يفل منه جاه أو إغراء، والذي جعل كل وسيلة من وسائل المغالبة بحيث تكون منه كالموج من الصخر لا يلطمه إلا لينحسر عنه ولم يبق فيه من قوة الموج بشيء وأبي على دوجلاس كبرياءه وغلواؤه أن يتخاذل فيتخلف عن هذا النزال فقبله على كره منه قال:(سوف تصبح يداي مليئة؛ إنه رجل حزبه ذو البأس؛ ملؤه الذكاء والحقائق والتواريخ. . . وهو أمين بقدر ما هو أريب حذر، وإذا قدر لي أن أظهر عليه فسوف يكون انتصاري بشق النفس) وقال في موضع آخر (أني لا أحس - بيني وبينك - إني أرغب في الذهاب إلى هذا الجدال؛ إن البلاد كلها تعرفني ولقد سبق أن قدرتني وعرفت قدري؛ وأن لنكولن بالنسبة لي ليعد غير معروف، فإذا أتيح له أن ينتصر عليّ في هذا الجدل - وإني لأود أن أذكر أنه أقدر رجل في الحزب الجمهوري - فانه يكسب كل شيء بينما أخسر أنا كل شيء؛ أما إذا قدر لي الفوز فإني لن أغتم إلا قليلا؛ إني لا أحب أن أذهب في تلك المجادلة معه. . .)
ولكنه على الرغم منة ذلك لم يستطيع إلا أن يجيبه إلى ما طلب؛ وحددت سبع مدن يلتقي فيها الرجلان فيتناظران والناس من حولهما يشهدون ما يكون بينهما. وفرح لنكولن وقد أتيحت له أعظم فرصة ليعبر عما في نفسه؛ وأي فرصة هي؟ ألم يك دوجلاس في الناس أكثرهم استفزازاً له وادعاهم أن يبرز له ما استكن من مواهبه؟ ثم أليست هذه المجادلة كفيلة أن تجمع إلى أنصاره ومحبيه أنصار دوجلاس ومحبيه فيكون الكلام في حشد قلما يتسنى أن يلتقي على هذه الصورة؟ فإذا قدر له أن يكسب هذه القلوب أو أن يصل إلى إقناع هذه العقول فأي فوز هو وأي فخر؟
(يتبع)
الخفيف
الأنباط وأطلال بترا الخالدة
للأستاذ خليل جمعه الطوال
- 2 -
ديانة الأنباط
لقد كان للأنباط ديانة مستقلة، لها آلهتها العديدون، وطقوسها الخاصة. وتدل النقوش والكتابات النبطية المكتشفة على الهياكل والآثار العديدة في بترا على أن الأنباط كانوا يعبدون الحية وبعض الأجرام السماوية. ففي طريق النبي هارون (الواقع بجوار بترا) لا يزال أثر الحية قائماً حتى اليوم بشكلها المخيف ورأسها المتفرع، وفي كثير من المعابد والمقابر، كأم الصناديق والصياغ وقبر الحديقة - وهي من آثار بترا الرائعة - رسوم عدة للثعابين والنجوم وما إليها. وقد وجد على بعض المعابد النبطية، في حوران، تماثيل وأسماء لآلهة كثيرة، كأموس، وأثى، وبعلمين، وفقرة وثيندارتيس اليوناني، وآلييت. أما أشهر هذه الآلهة فهو الإله (ديشوره) إله الشمس، وواهب السرور والخصب؛ وهو عبارة عن حجر أسود طوله أربعة أقدام ومقعده قدمان، ولا يزال موجوداً حتى الآن في مزار النبي هارون؛ والبدو هناك يحيطونه بكثير من التقديس والإكرام، ويعتقدون فيه القوة على شفاء بعض الأسقام. ويقدر المستر جون وايتنج ثمن البخور الذي كان يحرق في بترا في المراسيم الدينية بعشرة آلاف جنيه فلسطيني، وهي قيمة وإن كان في تصديقها مجال كبير للافتراض والشك، إلا أنها تدل على مقدار تغلغل الروح الدينية بين الأنباط. وذكر المستر ج. أدم سمث في مؤلفه الجغرافية التاريخية للأرض المقدسة ص628: أنه قد بلغ من قيمة هذا الإله (ديشوره) أن أقيم له نصبان أحدهما في روما والآخر في بوتيولي
سيادة بترا التجارية
تقع بترا بحكم موقعها الجغرافي في نقطة تجارية عظيمة، وقد كانت حتى منتصف القرن الأول للميلاد نقطة التوريد والتصدير لمختلف البضائع الشرقية، ومركزاً لتبادل المتاجر المختلفة التي كانت تمر بها سائرة بين الجزء الجنوبي لجزيرة العرب، والهند، ومصر، وتدمر، وفلسطين. ولما قدم إليها الأنباط وسكنوها سعوا إلى تحسينها وترقيتها، فبنوا فيها
القلاع والأبراج والمعابد والأسواق، والمدارج الرائعة، التي لا تزال قائمة حتى اليوم دليلاً على غابر مجدها، وسالف عزها؛ وقد ساعدهم على ذلك ميلهم الفطري لنقل المتاجر على قوافلهم، وقلة المنافسين لهم، وتفرع طرق تجارية عظيمة بين عاصمتهم وبين سائر الأقطار الأخرى، فقد ذكر (موزل) في كتابه الصحراء العربية ص 515: أنه كان يوجد طريق معبد بين تدمر وبطرا، وأخرى بين بطرا وغزة إلا أن اشتطاط الأنباط في الأجور الغالية التي كانوا يتقاضونها على النقل، وكثرة المصارفات التي كانوا يرهقون بها المتاجر التي ينقلونها، قد حدث بالناس إلى التفتيش عن طريق آخر لحمل البضائع الهندية، فقامت بذلك تدمر وازدهرت حيناً من الزمن حتى عام 273م. على حين تقهقرت حالة بترا التجارية الاقتصادية تقهقراً عظيماً. وفي عام 45م اهتدى هبالوس إلى طريقة الاستفادة من فعل الرياح الموسمية في تسيير السفن، فقل بذلك شأن الطرق البرية عامة، وطريق بترا خاصة، وقد كان ذلك نهاية لعصر بترا الذهبي
أسماء بترا التاريخية
يغلب على الظن أن أول من دعا بترا بهذا الاسم هم الرومان، وذلك لأنها منحوتة في الصخر الأصم، ومعناه باللغة العربية (المدينة الحجرية). وذكرتها التوراة في سفر الملوك الإصحاح الرابع عشر، والعدد السابع باسم (سالع) وفي اللغة العبرية باسم (سلاع) كما ذكرت أيضاً أن أمصيَّا ملك يهوذا قد هجم على الآدوميين في وادي الملح وذبح منهم عشرة آلاف رجل وأنه زحف على سالع (بترا) واحتلها ودعاها (يوقتئيل). وذكر المؤرخ جورجي زيدان في كتابه (تاريخ العرب قبل الإسلام) نقلاً عن المقدسي والمقريزي: أن من أسمائها المشهورة عند العرب (الرقيم). وقد جاء ذكرها أيضاً في القرآن الشريف في سورة الكهف. وذكر المستر باري في كتابه (التاريخ الروماني المدرسي) ص497: أن الإمبراطور هادريان قد زار بترا عام 129م، وأنها دعيت بهذا السم تخليداً لذكراه، كما ذكر أيضاً أنه أمر بسك نقود جديدة باسم بترا الجديد، وقد نقش عليها (هادريان متروبولس)
موقعها وأطلالها:
تقع بترا في الشمال الغربي من معان، وعلى بعد 260كم من عمان عاصمة الأمارة
الأردنية، وهي طريق صالحة لسير السيارات في حين الجفاف وانقطاع الأمطار الغريزة حتى قرية وادي موسى التي تبعد عن بترا مسافة كيلو مترين ونصف كيلو متر؛ وهي قرية صغيرة يعتني أهلها بتربية الدواجن ولا سيما الخيل والبغال والحمير، التي يستفيدون منها في موسم السياح، وفيها نبع ماء غزير يستقي منه أهلها ويستفيدون منه في زراعة بعض الخضر والحبوب. ويعتقد البدو الضاربون هناك أن النبي موسى قد مر بهذه القرية أبان خروجه من مصر يقود أثنى عشر سبطاً من أسباط بني إسرائيل؛ وإذ كان العطش قد اشتد بهم فقد أمر بنحر ما معهم من الإبل والنوق، وبفري اكراشها وشرب ما في داخلها من الماء، ولكن ذلك لم ينفع غلتهم، فكثر تذمرهم عليه، وعلا لغطهم، فركع وصلى لله، ثم انتصب وضرب بعصاه صخراً أصم كان إلى جانبه فتفجر منه ماء عذب زلال، ودعي ذلك المكان بعين موسى. والبدو عامة يقدسون هذه العين، ويعتقدون أن روح النبي موسى تقطن بجوارها وتحوم حولها دائماً وأبداً، ولذلك أقاموا عليها قبوا صغيراً يلجئون إليه كلما انتابتهم آفة، أو حز بهم مكروه، لاعتقادهم أن روح النبي القاطنة حوله تشفيهم من أسقامهم، وتسهل عليهم مشكلاتهم ومعضلاتهم. وكثيراً ما يحرقون داخل هذا القبو مقادير عظيمة من البخور، وعرق الند الزكي الأرج، ويضيئونه بمصابيح فخارية، وبزيت الزيتون الطيب النقي، وذلك إجلالاً لروح النبي كليم الله. وقد حدثني بعضهم أنه في كل عام ينحر في هذا المكان ذبيحة أو أكثر، ضحية عن موتاه، وتقرباً إلى النبي في يوم تقوم فيه القيامة وينتصب الميزان. وتبعد هذه العين عن القرية مسافة ميل ونصف تقريباً. وتحيط بوادي موسى الحقول النضرة، والحدائق الجميلة، من جميع جهاتها. ومما يزيد في جمالها الأخاذ انبساط أطلال بترا أمامها، تلك الأطلال الجميلة التي كأنما فرغ من زخرفتها الدهان بالأمس. وأي منظر أبدع وأجمل، واكثر رونقاً وبهاءً من أن يستقبل الإنسان منظر هذه الطلول المبثوتة المنضدة أمام وادي موسى في اتساق غريب وبديع تحار فيه العقول! هناك تقع الغزالة بأشعتها الذهبية أول ما تقع على أجمل وأبدع هيكل طبيعي، ظل قائماً ومحافظاً على استوائه طيلة هذه الأحقاب التي لم تستطيع قط أن تنال منه شيئاً. قمم مشمخرة في الفضاء تنعكس عليها أشعة الشمس صباح مساء، فترتد في شكل قوس قزح بل وأبدع منه، ومن فوقها قبة السماء الصافية الزرقة، وقد انبسطت تحتها حلة سندسية جميلة من الأعشاب
الخضراء تنساب خلالها شعبة من الماء الضحل، فتظهر فوقها كالحسام الصقيل فوق بساط بديع الوشى والحياكة تجثم فوقه أسراب الطيور البديعة الألوان، المختلفة الحجوم، الساحرة التغريد. إن منظر بترا من وادي موسى لمن المرئيات الجميلة التي تتوثب لها أحاسيس الحيوان الأعجم الهامد الشعور، فكيف بفعلها في الإنسان ذي الخيال المتوثب، والإحساس المتيقظ، والشعور المرهف؟ وإن زورة هذه الأطلال الخالدة لأسنى ذخيرة يقدمها الشاعر إلى خياله، والأديب إلى أدبه، والرسام إلى فنه، والعالم إلى سجله ومذكراته
يخرج السائح من وادي موسى ممتطيا فرساً يقودها دليل بدوي ماهر في حفظ الأسماء والمسميات، ذكي يفهم من الإشارة الموجزة؛ فيشاهد بعد مسير نصف ساعة قبور (بيلون العظيمة) وهي في طليعة الآثار، وتتركب من حجر عديدة تزينها الأعمدة الجميلة المحفورة في الصخر الرملي الجميل، والمسلات (المصرية الهندسة) الضخمة المدهشة، تقوم بينها طائفة من التماثيل الفنية التي ما تزال على روعتها وجمالها كأنما هي من عمل اليوم؛ لم نشهد من الزمان احداثاً، ولا من الأيام عبثاً ودولاً. ومما هو جدير بالذكر والمشاهدة عند زيارة هذه القبور مشاهدة صورة الحية الجميلة الرائعة التي تبلغ ثلاثة عشر متراً طولاً، والتي يتفرع من عنقها سبعة رؤوس فاغرة الأشداق حتى لكأنما قد رتبت لازدراد فريسة سائغة. وصورة أخرى تمثل جواداً، وقد شدّ عليه سرجه وقرط لجامه، وامتطى صهوته فارس لم تبق الأيام من هيكله الرمليِ سوى بعض أطراف رأسه المهشم وأصابع قدمه المبتورة
السيق
ويبعد عن قبور بيلون مسافة 150 متراً تقريباً، وهو نفق يخترق جبلين رمليين عظيمين، كثير المنعطفات والتعاريج، يبلغ أقصى اتساعه أحد عشر متراً، وقد يضيق في بعض الأماكن حتى لا يكاد يتجاوز الأربعة أمتار، وبالرغم من وعورة هذا النفق فإن خيول وادي موسى لاعتيادها عليه تسير فيه بكل سهولة. يبلع طوله ميلاً وبعض الميل؛ والراجح أنه كان مرصوفاً بالبلاط الرملي الجميل الذي لا يزال مطموراً تحت كثبان الرمال ورواسب المياه المتدفقة، التي كانت تخترقه مارة من وادي موسى، حتى تصب في وادي العربة. وحوالي عام 50 ق. م. عندما بنى الرومانيون معبد إيزيس في نهاية السيق (أنظر شكل1)
حولوا عنه مجرى الماء إلى أقنية فخارية رميلة تمتد على جانبي السيق، على طول كل من الجبلين العظيمين القائم بينهما، وتوصل هاتان القناتان جبل خيتة بجبل الرملة، وتوجد على امتداد كل منهما آثار جدران ضخمة متداعية، كانت تقوم مقام السدود عند اشتداد تدفق الماء، وعند حدوث الفيضان. ويبلغ علو كل من هذين الجبلين اللذين يخترقها السيق نحو مائة متر تقريباً، وينبت في وسطهما في بعض الجهات شجيرات صغيرة من الدقلي والتين البري العاقر، ومما لاشك فيه أنهما كانا مزينين بطائفة من التماثيل البديعة التي تدل عليها مواضعها المحفورة، والتي عبثت بها الأيام فيما عبثت من آثار بترا الرائعة. وقد كان مدخل السيق سابقاً مزيناً بالأقواس الرميلة الجميلة التي تشبه شكل قوس قزح، وبالمحاريب الشاهقة الجميلة التي لا تزال آثارها الرائعة تنطق بسالف عظمتها وغابر مجدها بدليل ما اكتشف عليها من النقوش النبطية الكثيرة. . .
(يتبع)
خليل جمعه الطوال
رسالة الفن
فرنتس شوبرت
للأستاذ محمد كامل حجاج
بقية ما نشر في العدد الماضي
وقد أثر فيه موت بيتهوفن تأثيراً عميقاً، وما فتئ يظهر عليه البشر والحنان، هذا الوقت ظهرت قطعة المرنجلة والأوقات الموسيقية ولكنه كانت تزيد حالته سوءاً وبؤساً من يوم لآخر، فكان يشرب لينسى همومه؛ ثم كتب الأربعة عشر لحناً التي يقال أنهم وجدوها في أوراق بيتهوفن، وقد جمعت باسم (غناء البجع) أي الغناء الأخير، إذ يقولون أن هذا الطير يغني قبل موته. وفي 26 مارس سنة 1828 أقام حفلة موسيقية من مؤلفاته لأول مرة، فكان الإقبال عظيماً جداً والدخل وافراً. ولكن صحته كانت تتدهور من وقت لآخر حتى لزم الفراش في 11 نوفمبر ثم فاضت روحه المتألمة في التاسع عشر منه سنة 1828 وأصدقاؤه يحفون به، ودفن بجانب بيتهوفن. وفي سنة 1888 نقل الاثنان إلى المقبرة المركزية بفينا بجانب موزار وجلوك
وكانت هيئة شوبرت كألماني شريف ثقيل الحركة قليلاً، وكان ساذجاً مثل هيدن يلهو بأتفه الأشياء. له ولع شديد باجتماعات الأصدقاء التي تدار فيها كؤوس الجعة بكميات وافرة. يضع على عينيه نظارة. شعره جعد، كبير الوجه، غليظ الشفتين، ربعه، كبير البطن. وكان متأجج الشاعرية نابغاً مبدعاً نقي القلب ملك الأغاني كما عبرت عنه مدام ويظهر أن الحب لم يعبث بفؤاده إلا قليلاً جداً. ومن صفاته المميزة أنه كان ذا طبيعة سليمة كريمة مرهفة الحس لا تكتم في باطنها شيئاً. وقد قالت أخته كاتي: (كان طيب القلب جداً يأنف من الحسد، وكان لا يكتم سروره وطربه عند سماع الموسيقى الراقية، ويمسك بيديه رأسه ليتفرغ للإصغاء. وكان إعجابه بموزار وبتهوفن لا حد له. وقد جرى ذكر بيتهوفن على لسانه وهو يلفظ النفس الأخير، وهذا ما أولوه من أنه أراد أن يدفن بجانبه
كان شوبرت شاعر النفس، وقد قال عنه ليزث:(أنه أكبر شعراء الموسيقى على الإطلاق) وكان أشهى مجتمع له هذا النادي الأخوي الصغير المؤثث بأفقر الأثاث؛ وكان يرتجل فيه
ألحانه الخالدة. وكانوا يسمون هذه الجلسات الرائعة (شوبرتياد) وكان النبوغ فيها ينير الشباب والصداقة. وقد قال ماير هوفر (إنني لا أنسى أبداً الساعات الهنيئة التي قضيناها في هذا المسكن الحقير ولم يكن عندنا غير بيانو رديء ومكتبة فقيرة وأثاث حقير ونور ضئيل؛ وفضلاً عن ذلك فإني قضيت هناك أسعد أوقات حياتي): وجاء في خطاب لصديقه الحميم شوبر أرسله إليه في 2 نوفمبر سنة 1821: (وددت لو كنت معنا لتنظر كيف تولد هذه الألحان الشجية وهي تموج بالفكر. وغرفتنا في كانت محبوبة جداً، وبها سريران وصفه ومدفأ حار وبيانو؛ وكنا نأتي بالجعة ليلا وندخن ونتسامر فيما مر في النهار ونطالع؛ وحينما تحضر صوفي ونيفل نشرع في الغناء
كانت هذه الاجتماعات الفقيرة البريئة التي تجمع أصدقاء شوبرت وهم يمرحون ويتسامرون ويغنون مؤلفاته التي كان يرتجلها تعد من اسعد أوقاته وأعظم عزاء لبؤسه وشقائه وسط قومه الذين لا يفهمون موسيقاه الساحرة ولا يقدرونها
إننا نستطيع أن ميز في مؤلفات شوبرت عدة مجموعات غنية قيمة غير متساوية في القوة
أولاً: موسيقى البيانو - ثانياً: التربو والكواتوور والكنتيت، ثالثاً: السانفوني - رابعاً: المؤلفات المسرحية.
خامساً: أغاني لليدر. سادساً: الموسيقى الدينية.
إن موسيقاه للبيانو لجديرة بأن توضع في صف واحد مع شومان وشوبان وستيفن هيلير وهي تشمل السوناتات والفانتيزي وأي المرتجلة. وقد كتب عشر سوناتات أشهرها الست الأخيرة. ولا نزعم أنه جدد في الشكل شيئاً ولكنه بث فيها صفاته العادية من الحنان واسترساله في التأملات والخيالات الرقيقة العاطفية؛ وأهم ما كتب في السونات الخامسة. وهي من مقام لامينور. وأما القطع المسماة فهي تستحق ما نالته من الشهرة والذيوع، وفيها من المهارة الفنية السهلة مالا يوجد عند من سبقوه من كتاب قطع البيانو. ولكن بعض مواضيع منها يؤخذ عليها أنها عادية، وهذا يرجع إلى سرعة الكتابة والتلحين؛ ولكن بعض هذه الهنات لا تحجب فتنتها الساحرة. إن نظرنا إليها وجدناها كالماء الصافي العميق نشاهد في قراره كل الخصال الشريفة المحبوبة التي تختلج في روح شوبرت وهذا النوع يتفاوت في الأهمية والقيمة
أما موسيقاه الخاصة بالآلات الوترية فانه أظهر في بعضها نبوغاً مدهشاً، ولو طال أجله لارتفع إلى ذروة الفن كبيتهوفن. وقد ابتدأ بكتب الكواتوور وهو في الرابعة عشرة وله منها عشرون؛ وكتب كثيراً من الثريو والكنتيت يعد بعضها من خير ما جادت به القرائح الجبارة، ولاسيما ما كتبه منها سنة 1824 وسنة 1826 وهما الكواتوور والذي من مقام سي مينور
ولقد ترك لنا شوبرت ثمانية سانفونيات الأولى كتبها وهو في السادسة عشرة وأهمها اثنتان التي من مقام أي دو سنة 1828 أو السنة التي مات فيها وقد هجرت في أول الأمر لصعوبة توقيعها ثم عثر عليها شومان في أوراق فردينان شوبرت وكان من المعجبين به. وقد أغدق عليها شومان من أنواع التقريظ ما شاءت له حماسته وقال أنها تكاد توضع في صف سانفوني بيتهوفن
الموسيقى المسرحية
كتب شوبرت ثمانية عشر مؤلفا للمسرح منها اثنان مفقودان، وواحد لم يتم، وأربعة منها أوبريت، واثنان موسيقى للمسرح وفيها كورس وفاتحات وانتراكت وميلودرام ورقص ويبقى بعد ذلك خمس أوبرات بالمعنى الصحيح، أهمها سنة 1822 وفيرا براس سنة 1823 وكل مهما ذات ثلاثة فصول. يتساءل الناس لمَ لمْ ينجح شيء من مؤلفات شوبرت المسرحية؟ لأنه لم يوهب الذوق المسرحي، وقد دهش منه ليزت إذ قال: (إن الذوق الأدبي الذي برهن عليه منذ صغره في اختياره لمتون الليدر قد فارقه وخانه في متون الأوبرات إذ كان يظهر له الغث والسخيف قيما حسنا، وكان يكتب له متون أوبيراته أصدقاؤه الذين لم يضربوا بسهم وافر في البيان ولهذه الاعتبارات لم تعش موسيقاه المسرحية
لقد نبغ شوبرت في موسيقى الغناء حتى صاغها بمعنى عميق من التعبير الصوتي؛ وقد كتب نحو خمسين نشيداً (كور) لأصوات الرجال وعشرين لأصوات مختلفة، ولكنه قبل كل شيء صاحب الصولجان في الليدر التي سبكها في نحو مائة شكل من التعبير إذ تناول جميع أنواع الشعر فلحنها على جميع أنواع الأوزان إذ عالج كل ما وقع في يده من الشعر الوجداني والقصص والدرام؛ ورغماً من مرونة عبقريته وسهولتها كان يسود على موسيقاه تعبيره الشخصي إذ كان الرجل الحساس في القرن الثامن عشر
إن ليدر شوبرت تمثل كل صفات الإبداع والابتكار التي أوجدتها الطبيعة فلا تجد فيها شيئاً مصطنعاً لأنها ليست نتيجة الثقافة، ولم تتفتح في حدائق المدنية بل تفجرت كالسيل في محراب عميق بطبيعة لم تنتهك حرمتها؛ وترى موج الألحان يسيل منها كمنبع لا ينضب ماؤه. تتسرب موسيقاه إلى أعماق النفس فتهيمن عليها ويشعر الإنسان حينما ينصت إليها بتأثير لا يستطيع أن يثبت أمامه كما نفتتن بصباح جميل عليل النسيم من أيام الربيع وقد كسا الطبيعة بأبهى حلله وعطر الأرجاء بعبقه الشذي. وقد تناول في تلحينه ليدر جوت وشيليروهين وولتر سكوت وأوسيان وغيرهم من الشعراء
الموسيقى الدينية
يذكر الناس أن شوبرت عرفنا بحالته النفسية في خطابه الذي كتبه في يوليه سنة 1825 عندما لحن نشيد العذراء إذ قال: (لا يمكنني أن أتناول موضوعاً دينياً ما لم أشعر بالتقوى حينما تتملكني. ولم يكفه أنه أقتعد أرفع مكانة في الليدر والسانفوني وموسيقى الغرف بل أراد أن يثبت للجمهور مكانة لا تقل عنها رفعة في الموسيقى الدينية
وخلاصة القول أن شوبرت يعد من أكبر الشخصيات التي يشار إليها بالبنان في عالم الموسيقى. وقد اختطفته المنية وهو في نضرة شبابه أي في الواحدة والثلاثين؛ ولو عاش لجلس مع كبار النوابغ في صف واحد. وكأنه أحس بقصر عمره فطفق يسرع في إنتاجه بشكل أدهش الناس كما فصلنا ذلك في موضعه. وكان يتعزى في بؤسه وسوء حظه وسقمه بأصدقاء حميمين يحيون معه هذه الحفلات الفنية البريئة حتى ينسوه آلامه. وهناك كان يرتجل الليدر الشجية. تلقى دروسه الأولى بشكل ناقص لا يثمر ولكنه كان معلم نفسه. وكان أستاذه هولزر يبتدئ له بالقاعدة فيسبقه بتعريفها بإلهامه وذكائه فكان يقول له: (إنني لا أستطيع أن أفيدك شيئاً!) وقد وهب شاعرية موسيقية لم يوهبها غيره تفيض على تلحينه فتكسبه أرق العواطف وابلغ التعبيرات وأدق الأوصاف، هذا بخلاف رنة الحزن الحلوة التي تسود تلحينه وتصل إلى سويداء القلوب
كان طيب مرهف الحس محباً للخير لا يحسد غيره من كبار الموسيقيين بل كان يعجب بهم ويغبطهم؛ وكان محبوباً لدى الشعب قبل الأخوان. كانت موسيقاه في تقدم مطرد نحو الرقي والكمال بدليل أن مؤلفاته في سنيه الأخيرة كانت من أرقى ما كتب؛ ولو طال عمره قليلاً
لأتى بالمعجزات والمدهشات
محمد كامل حجاج
رسالة الشعر
حين أطرقت ملهمتي
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
(لفها صمت عميق في مساء يوم من أيام اللقاء فبدت في هالة
من الجمال الحزين. . . أشبه ما تكون بأغنية سماوية على
شفة ملاك نائم!!)
أطرقَت كالخيال في خاطري السَّا
…
جِى، وكالنَّبْع في الظلال الحزينَه
تتملى في صمتها، ذات جَفْن
…
شاعرٍ في الدُّجى يُقاسي شُجونه
أطرقت! يا لكُرْبة النَّاي! من يُذْ
…
كي هواهُ؟ ومن يُناغي لحونهْ
مَنْ يواسيه إِنْ طَغَتْ ثورة القل
…
بِ فهاجت لها الهمومُ الدَّفينَةْ
من لهُ؟ آهِ! مَنْ لأنغاِمهِ السُّو
…
دِ إذا شَّبتِ الليَّالي أَنينَهْ؟
كم شدا في ظلالها نعِيمَ اللَّحْ
…
ن، وألقى على يديْها رنينهْ!
ناغماً بالهوى كَقُمْريِة الفَجْ
…
ر، طَرُوَباً كالنَّحْلة المفْتُونةْ
مالهُ عادها فصدَّت أَمانيِه
…
وظَلَّتْ في الصمْتِ وَلْهى حزينه؟
أطرقتْ في الظلام كالأبد الوسْ
…
نانِ ما فَرَّت الدياجي سِنينَهْ
صَمْتهُ الغَيْب غلتفه يدُ الل
…
هِ، وأخفت عن العقول كمينَهْ
مِثْلَ رَيْحانة الماء جفاها
…
نَسَمٌ منه، فاستطابَتْ سكونه
يعبقُ المرجُ في الدجى من شَذاها
…
وَهْيَ وَسْنَى بين الروابي سجينه!
إِيهِ مَنْ تُلْهم الأغاريد، تَنْدي
…
مِن صفاء. . ياُ بؤس مَن تلهمينه!
ظِمئَ النَّايُ للتغَّنيَّ. . فهاتي ال
…
كأس، وارْوِي لياَعَهُ وحنينهَ
أَنْتِ في الصمت آيةٌ فجَّر الل
…
هـ عليها من الجلال مَعينه
فاْصمتي! أوْ فعاوِدي الصبَّ بالسَّحْ
…
رِ! وناغِي هُيامَهُ وَفتونهْ
بَيْتُ شِعرٍ على جبينك غافٍ
…
أَيقظ الصمت سرَّهُ وفنونهْ
وفؤادي الذي تكشَّفَ نجْوا
…
هُ، وذَرَّى على الخيال دفينه. .
وعلى الأعْيُن السَّواجي صلاةٌ
…
أنا منها في خشعةٍ وسكينهَ
ما لنُسَّاكها وجودٌ! ولكن
…
عابدُ الحسن - وَحْده - تعرفينه
وعلى الصدَّرْ هزَّةٌ جاوَبتْها
…
ضجةٌ في مشاعري مجنونه
خِلْتُ منها وزَفرةُ الصمت تغلي
…
نارَ زق من الأسى تنفخينه
وعلى الثَّغْرِ جدولٌ من أغان
…
آه لوْ في جوانحي تَسْكبينهْ!
نشرَتْ مهُجتي القِلاع على شَطَّ
…
يهِ - شوقاً - فَرَحْمتا للسفينةْ!
لم تجدْ مَرفأً لديهِ سوَى الصَّمْ
…
تِ، وشَطٍّ مغُيَّبٍ ترقُبينهْ!
وظلالٍ وراَء كونٍ بعيدٍ
…
فجَّر الصَّمْت في رباها عُيونهْ!
طيْرُها نام في رُفاتِ الأغاني
…
بعدما أسْكرَ التغَّنَّي غُصونهْ!
فَلأَئٍ من الضَّفافِ سيمضي
…
سابحٌ في هواكِ لا ترحَمِينهْ!
قد هَجَرْتِ الخيالَ والشَّعْرَ والصَّم
…
ت. . . وخلَّفْتِ ناره وجُنونهْ
واَّمحي كونُكِ المجسَّمُ. . . إلا
…
قَبسٌ من صَبابةٍ تُشْعِلِينهْ
رُحْتِ تُذكينهُ من النظر السَّا
…
هي وفي مَعْبَدَ الهوى تُضْر مينهْ!
رَحْمَةً بالحبيب يا هاَلة الوحْ
…
ي! وزُفَّي ضيِاكِ يُسْني عُيونهْ
وابسمي! أو تكلَّمي! لا. . وإن شِئ
…
تِ فَلحْظاً على دَمي تَنْشُرِينهْ
يُنْشَرُ السَّحْرُ والهوى والأماني
…
فوْق دُنْيا بخاطِري مَحْزونهْ
أو فَصَمْتاَ. . . ورَفْرِفي حَوْل رُوحي
…
واسْكُبي الوْحيَ في ظِلال السكينةْ
أنْتِ نَّسيتنِي هدوئي في (الكُو
…
خِ) وأفْنَيْتِ لَيَ ضَجيج المدينةْ
وجعلتِ الأكْوَانَ لْحَناً
…
ليتَ - يا لوْعةَ المُنَى - تعزِفينهْ
وترِى ماتَ في يدَيَّ حنيناً
…
وغليلُ الهْيُاَمِ أبَلَى مُتونهْ
فاْبعثيهِ من البلَى يتغنَّى
…
مثلما كنتِ دائماً تَسْمَعِينهْ
لَفْظَةُ منكِ فِتنهٌ وحياةٌ
…
تتهادَى بهاَ الأغاني السجِينهْ
أنْتِ يا سُلْوَتي على نكَدِ الدني
…
اوصَفْوِي على اللَّيالي الْحزِينهْ
شابَ عمري وَلَاتَ. . والرُّوح أضَحتْ
…
مِنْ أساها يتيمةً مسكينهْ
والرُّزايا أقَمْنَ عُرْساً لحظَّي
…
لا تمنَّيْتُ مرَّةً تشهدينه!
أَتَعايا بشقْوتي! والمزامِي
…
ر بكفَّي شَقِيَّةٌ مَوْهونه
يتَسلَّى بنا الوُجودُ. . . ولكنْ
…
سُلْوَةُ الذَّئبِ بالشَّياهِ السمينه. .
وَنغُنَّيهِ مُلْهَمين حيارَى
…
بْينَ رِجْسٍ، وغفلةٍ، وضغينه
فاعذُرينيِ إذا ألحت بِيَ النَّجْ
…
وَى لصوتٍ مقدَّسٍ تكتُمينه
فأنا ظامِئٌ. . . وصَوتُكِ للرُّو
…
ح عَبيرٌ تذيعُهُ (ياسَمِينه)
محمود حسن إسماعيل
مداعبة صديق
للأستاذ محمود غنيم
تعزيه موجهة إلى صديقنا الشاعر (. . .) عن سبعه جنيهات
احتال عليه دجال فسلبه إياها أحوج ما يكون إليها
هوَّن عليك وجفَّفْ دمعك الغالي
…
لا يجمعُ اللهُ بين الشَّعر والمالِ
إناَّ لفي زمن فَقْدُ النقود به
…
يُدمي العيون كَفقيد الصحب والآلِ
أَدَّ التعازي في مال وفي ولد
…
لا فرق ما بين أموالٍ وأنجالِ
مِنْ أين أصبحت ذا مال فَتُسْلَبَهُ
…
يا أشبه الناس بي في رقَّةِ الحالِ؟
فيالها سبعةً من حبيبك انطلقت
…
وأنت أحوجُ مخلوقٍ لمثقالِ
فريسةٌ من فم السنور قد نُزِعَتْ
…
شَتَّانَ ما بين سِنَّوْرٍ ورئبالِ
عوَّذْ نقودك واعقِد حولها عُقَداً
…
وثيقةً تتحدى كلَّ حلاَّلِ
قالوا خلت يدُهُ من كل ما ملكت
…
فقلت بل رأسُه من عقله خالِ
لم يَبْقَ عندك ما تخشى عليه فَنمْ
…
كما أنامُ قريراً ناعمَ البالِ
نفسي فداؤُك ليت اللصَّ صادفني
…
قد يغلبُ اللَّصَّ بالإفلاس أمثالي
يا ليت شعرِيَ ماذا أنت صانعُهُ؟
…
أتزمعُ الصومَ حتى شهرِك التالي؟
عش من قريضك في ريٍَّ وفي شبع
…
إن كان ينتفعُ الظمآنُ بالآلِ
أقسمت ما سلبت تلك النقودَ يدٌ
…
بل وَدَّعَتْ هرباً من جيبك البالي
الذئب لا يشتهي لحمَ ابنِ جلدته
…
فكيف غرَّرَ دَجَّالٌ بدجالِ؟
(كوم حمادة)
محمود غنيم
البريد الأدبي
مجمع أدبي مصري
منذ دخل صاحب المعالي الدكتور هيكل باشا عضواً في هذه الوزارة وهو يفكر مجداً في إنهاض الأدب وتوجيه الثقافة إلى الوجهة المنتجة. وقد طالع بهذا العزم فريقاً من أصدقائه الأدباء فيحثوا معه الأمر ورسموا له مشروعاً. فلما ولي الأمر في وزارة المعارف عقد النية على دراسة هذا المشروع فأصدر القرار التالي بعد الديباجة
بما أنه قد لوحظ أن الحركة الأدبية في مصر وأن كانت قد نشطت وأصبح لها أثر ظاهر في تثقيف الجمهور وتوجيهه، إلا أنها لا تزال يعوزها التنظيم الذي يكفل لها اطراد التقدم وحسن التوجيه. وبما أنه قد نبتت فكرة الدعوة إلى إنشاء مجمع أدبي مصري يقصد به على الأخص إلى تنظيم الحياة الأدبية في مصر وإيجاد صلة منظمة تربط الأدب والأدباء بالجهود التي تبذلها وزارة المعارف في تنشيط هذه الناحية وتعاون على تنمية الثروة الأدبية في البلاد - على غرار ما هو متبع في البلاد ذات النهضات الأدبية الكبيرة. وبما أننا نرى تكوين لجنة تقوم بدراسة هذا المشروع والتقدم باقتراحاتها في نوع الوسائل الكفيلة بتحقيق الأغراض المتقدمة
لذلك قرر:
مادة وحيدة - تؤلف لجنة برياستنا وعضوية: - حضرة صاحب المعالي الشيخ مصطفى عبد الرزاق بك والدكتور طه حسين بك والأساتذة أحمد أمين وخليل مطران وعباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني وتوفيق الحكيم: لبحث وسائل تنظيم الحركة الأدبية في مصر
الأدب العربي في مصر منذ الفتح الإسلامي
أصدر وزير المعارف القرار التالي. وهذا نصه بعد بالديباجة. بما أن للأدب العربي في مصر طابعاً خاصاً اختلف في العصور الأولى للفتح الإسلامي عنه فيما تلا ذلك من العصور ويتناول هذا الأدب إنتاج الكتاب والشعراء الذين وفدوا من البلاد العربية والإسلامية إلى مصر وأقاموا بها كما يتناول إنتاج الكتاب والشعراء المصريين
وبما أننا نرى ضرورة العناية بدراسة هذا الأدب في مختلف عصوره، وعلى الأخص
تاريخه وصلته بالحياة العامة المصرية - اجتماعية وسياسية واقتصادية - وإظهار الصورة التاريخية التي يرسمها هذا الأدب المصري في عصوره المختلفة
ولما كانت دراسة هذا الموضوع تتطلب الاستعانة برأي طائفة من المشتغلين بالأدب العربي في مصر لتعرف الوسائل التي تؤدي إلى حفز الهمم لإبراز هذه الناحية قرر:
مادة وحيدة - تشكل لهذا الغرض لجنة برياستنا وعضوية: حضرة صاحب المعالي الشيخ مصطفى عبد الرزاق بك ووكيل وزارة المعارف العمومية. والدكتور طه حسين بك. والأستاذ أحمد أمين. والأستاذ علي الجارم بك. وأستاذ الأدب العربي بدرا العلوم
وسائل مكافحة الأمية بين طبقات الشعب
أصدر وزير المعارف قراراً بإنشاء لجنة لبحث وسائل مكافحة الأمية، بين طبقات الشعب، سواء منهم من كان في سن الإلزام أو من تجاوزه. وهذا هو القرار:
بعد الإطلاع على التقرير المقدم من اللجنة التي عهد إليها بحث مشروع مكافحة الأمية
وبما أن جهد وزارة المعارف في مكافحة الأمية بنشر المكاتب العامة يقتصر أثره على الأطفال الذين في سن الإلزام، ومن نتيجة الاقتصار عليهم أن تبقي أغلبية الشعب الساحقة غارقة في غمار الأمية
وبما أننا نرى ضرورة اتخاذ الوسائل الكفيلة بالقضاء على الأمية لتهيأ لسواد الشعب المصري وسائل الاستنارة واكتساب قسط من الثقافة يرفع من مستواه ويصله بالحياة الصالحة الجديرة بالشعوب الناهضة
وبما أننا نرى تشكيل لجنة تعني بدراسة هذا الموضوع من جميع نواحيه وتتقدم باقتراحاتها لتحقيق الغرض المتقدم
لذلك قرر:
مادة وحيدة - تشكل لهذا الغرض لجنة برياستنا وعضوية: وكيل وزارة المعارف، الوكيل المساعد لوزارة المعارف، مراقب التعليم الأولى، محمد فهيم بك، إبراهيم تكلا بك، الأستاذ محمد مظهر
مشروع أعداد المعلمين لمدارس التعليم غير الأولية
بين المشروعات التي اشتغلت بها وزارة المعارف، مشروع إعداد المعلمين للمعاهد غير الأولية. وقد اتخذت الوزارة القرار التالي في صدد هذا:
بعد الاطلاع على الاقتراحات المقدمة من اللجنتين اللتين شكلتا لبحث موضوع إصلاح دار العلوم ومعهد التربية للبنين
وبعد الاطلاع على التقرير المقدم من وكيل الوزارة المتضمن رأيه في وسائل إعداد المعلمين للمعاهد غير الأولية
وبما أننا نرى وجوب العناية القصوى بحسن إعداد المعلم وذلك بوضع الأساس الصحيح الذي يقوم عليه كل إصلاح في وسائل التربية والتدريس
وبما أننا نرى - لتحقيق هذه الغاية - تشكيل لجنة تقوم بدراسة هذه المشروعات والاقتراحات وتتقدم برأيها في خير الوسائل لحسن إعداد المعلم وإصلاح المعاهد التي تقوم بهذا الإعداد
لذلك قرر:
مادة وحيدة: تشكل لهذا الغرض لجنة برياستنا وعضوية وكيل وزارة المعارف. الوكيل المساعد لوزارة المعارف. مراقبي التعليم الابتدائي والثانوي وتعليم البنات والتعليم الحر بالوزارة. عميد كلية الآداب. عميد كلية العلوم. ناظر دار العلوم ناظر معهد التربية للبنين
حول الرمزية
يسألني الأديب الفاضل السيد كامل الشرقاوي (الرسالة 256)(هل الغموض والإبهام من مستلزمات الرمزية وهل بدونهما لا تكون؟)
فالرمزية - حسبما بينت في الرسالة رقم 251 - على ألوان. فإن كانت الرمزية ناهضة على ما وراء الحس أو الطبيعة غلب الغموض بل قل الاستغلاق عليها (عند مالارميه وفاليرى وكلوديل مثلاً)، وإن كانت ناهضة على التأثر والإيقاع والتخيل المنسرح قلَّ النموض فيها (عند فرلين ودي رينييه مثلاً). وأما الرمزية الناهضة على الدفائن والخواطر والواردات من حيث القابلية والإيهام والتلويح والتمثيل من حيث الأداء فإنما ينبسط على نواحيها ظل لطيف. ولتجدن بيان هذا في (التوطثة) التي صنعتها لمسرحيتي (مفرق
الطريق)
وأما قصة جيران و (وليم بليك) فإني لا أزال عند رأيي (ارجع إلى الرسالة 251). ومما يعزز هذا الرأي قول (رودان) النحات في جيران، وتصيبه في المقدمة التي عملتها فنانة أمريكية (لا يحضرني أسمها الآن) لمؤلف لجبران يضم عشرين صورة وعنوانه:(وهو مطبوع في الولايات المتحدة)
وبعد، فهذه الرمزية تشق طريقها في الأدب العربي، إذ تطَّرد الكتابة فيها (ولا سيما في الرسالة). إلا أن بعض ما كتب لا يمحصه نقد ولا يمدّه اطلاع، وليس بالقارئ اللبيب حاجة إلى التنبيه
بشر فارس
بين الرافعي والعقاد
جاء في مقال الأستاذ سيد قطب المنشور في عدد (الرسالة) الغراء رقم 256 ما يأتي:
(. . . إنه راح يتقصى ما قيل فيما يقرب من قول العقاد: فيك مني ومن. . . سائراً في تقصيه على النسق الخالي من كتب النقد العربي لقدامة وأبي هلال العسكري ومن ينقلان عنهما (كذا). . . من تتبع المعنى تتبعاً زمنياً وحسبان كل شاعر متأخراً أخذ هذا المعنى عن شاعر متقدم وزاد فيه أو نقص، وتصرف أو ولد. . . الخ)
وأنا لا أريد أن أخوض غمار المعركة وقد أرادني الأستاذ الزيات على الصمت حيناً، غير أنه يؤسفني أن أجد فينا من يحاول أن يحط من قدر القدماء ومن أجدادنا وأن ينظر إلى تراثهم الغالي نظرة احتقار وهو ما يزال في أول الطريق. . . ثم إني أريد أن أنصف الأدب والتاريخ؛ فالذي يقرأ هذه الفقرة من كلام الأستاذ قطب يخيل إليه أن قدامة بن جعفر كان يعرض للبيت من الشعر (فيتتبع المعنى تتبعاً زمنيًّا) وأنا قرأت كتابي نقد الشعر ونقد النثر لقدامة فما وقعت عيني على شيء من هذا، بل هو نقد وتحليل يستطيع الأستاذ قطب أن يرى رأي الذين يفهمون الأدب لو قرأ في المقدمة التي كتبها الدكتور طه حسين لكتاب نقد النثر الفقرة الأولى ص 17 والفقرة الأولى من ص18 من طبعة دار الكتب المصرية، ثم لو قرأ في التحقيق الذي كتبه الأستاذ عبد الحميد العبادي الفقرة الأولى ص 35 والفقرة
الثانية ص 36 من نفس الطبعة. . . وإني أرجو الأستاذ قطب أن يمعن في قراءة كتابيّ النقد لقدامه لعله يرى خطأ هذا الرأي، فهو في كتابيه لم يكتب حرفاً في الطرقة التي أشار هو إليها والتي لزمها القاضي الجرجاني في كتابه الوساطة بين المتنبي وخصومه، وهي طريقة لا تخلو من فائدة جليلة. . .
أما أبو هلال العسكري فلقد قرأت له كتاب الصناعتين، وكتاب ديوان المعاني، وكتاب محاسن النثر والنظم فما عثرت على شيء مما قال الأستاذ قطب
ولست الآن بسبيل أن أعرض لكل كتاب فأكشف عن الغرض الذي رمى إليه المؤلف وعن طريقة الكتابة وأبواب الكتاب، ولكني أريد أن أطلب إلى الأستاذ قطب أن ينبئني عن تفسير قوله (ومن ينقلان عنهما) ثم عن مواضع النقل البارزة في الكتب السابقة
فهل لي أن أسمع منه كلمة هادئة في هذا الموضوع دون أن يتحدث عن القديم والجديد، فهذا باب آخر. . .
كامل محمود حبيب
تجميل وزارة المعارف وتشجيع رجال الفن
رأت وزارة المعارف أن في مصر طائفة كبيرة من رجال الفن الذين يبتدعون مختلف اللوحات الفنية الرائعة والتماثيل المنحوتة الجميلة، ثم لا يجدون الإقبال عليها مما يجعلهم في حالة يستحقون من أجلها المعاونة حتى يمكنهم النهوض بفنهم
وقد اعتزمت الوزارة إزاء هذا تجميل مكاتب كبار الموظفين بوضع اللوحات الفنية لرجال الفن المصريين كما اعتزمت تجميل حديقتها بوضع التماثيل فيها
وتأمل الوزارة أن تحذو الوزارات والمصالح الأخرى، والأسر الكريمة الراقية حذوها في اقتناء تلك الآثار الفنية الرائعة التي يضيق عنها متحف الفن، رغبة في تربية ملكة الذوق السليم في النشء من ناحية، وفي تشجيع رجال الفن من المصريين على المضي في ابتداعهم وإنتاجهم من ناحية أخرى
منحة المجلس البريطاني لخمسة من طلبة الآداب
تلقت الجامعة المصرية، كتاباً من المجلس البريطاني، ذكر فيه أنه يمنح خمسمائة جنيه
لخمسة من طلاب قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب، تقسم بينهم بالمساواة فتتاح لهم بفضل هذه المعاونة المادية زيارة إنجلترا لتوثيق عرى الصداقة وتمكين الأواصر العلمية بين مصر وإنجلترا
وقد أعد لهم المجلس مقراً صيفياً في أكسفورد لهذه الغاية، وقد عرض هذا الكتاب على مجلس الكلية، فتقبله شاكراً، وسيعرض على مجلس الجامعة في اجتماعه يوم الثلاثاء القادم، ثم تختار كلية الآداب الطلاب الذين يسافرون في هذه البعثة الثقافية
بين الرافعي والعقاد
قرأت ما كتبه الأستاذ كامل محمود حبيب فيما رأيته من صيحة قول العقاد:
فيك مني ومن الناس ومن
…
كل موجود وموعود تؤام
لأن كل شيء في الكون لا يخلو من حسن يسوغ إجراء بيت العقاد على عمومه، فلم يسعه إلا أن يعترف بعموم هذا الحسن ولكنه فسره بمعنى الدقة في الصنع وجمال الخلق
وهو يرى أن هناك جمالين: أحدهما جمال بهذا المعنى الذي ذكره من دقة الصنع وجمال الخلق. وثانيهما جمال لم يستطع تفسيره، بل قال إنه الجمال الذي يجذب القلب، ويأسر الفؤاد، ولا يمكن أن يجده الإنسان في الدودة وفي الدبابة وغيرها مما تشمئز منه النفس، ويعافه الذوق
وإني لأقول للأستاذ الفاضل إنه لا جمال في الدنيا إلا بمعنى دقة الصنع، وجمال الخلق، وهو عام في كل ما خلق الله تعالى، وإن كان لكل نوع من ذلك جماله الذي قد يكون قبحاً في غيره
ولا شيء بعد هذا في أن يقول العقاد إن معشوقته فيها من كل شيء من هذا الكون الجميل، وهذا كما يقول إن زيداً فيه جزء من كل حيوان فيصح لك هذا القول، لأن الحيوانية العامة جزء من زيد، وهي جزء من كل حيوان
بل يجب أن نقبل هذا من العقاد كما نقبل منهم تشبيه الوجه الحسن بالبدر، مع أنك إذا ذهبت تستقصي في البدر ما تستقصيه في بيت العقاد يضيع منك هذا التشبيه الجميل، ويكون لك في البدر من الجبال والكهوف وما إلى ذلك ما في بيت العقاد من الدود والذباب ونحوها
على أن الأمر لا يقف في بيت العقاد عند الصورة الحسية من معشوقته، بل يتناول مع هذا صورتها النفسية، فهي حلوه ومرة، وهي نعمة وبلاء، وهي سعادة وشقاء، وهي في مرارتها أشد من الصاب، وإن شئت قلت من الملح الإنجليزي الذي تهكم به الرافعي رحمه الله، وهي في هذا حلوة وجميلة أيضاً، ومثلها في هذا مثل ذلك الممدوح الذي قال فيه بعض الشعراء:
هو عسل إذا ياسرته
…
وإن عاسرته فهو صاب
ولست بعد هذا في حاجة إلى إعادة الكلام في بيت الأستاذ العقاد، وليس عندي من التعصب له أو للرافعي ما يدعوني إلى إطالة هذا الجدال
عبد المتعال الصعيدي
وفاة عالم بريطاني
فقدَ قسم العاديات المصرية والآشورية في المتحف البريطاني، عالما الآثار المصرية من العلماء الحديثين الذين كان يرجى لهم مستقبل عظيم، بوفاة المستر الان وين شورتر قضى نحبه بذات الرئة وهو في الثانية والثلاثين من عمره
وقد التحق المستر شورتر بالمتحف البريطاني في سنة 1929 فوجه أكثر عنايته منذ ذلك الوقت، إلى دراسة النصوص الدينية المصرية وقد وضع بضعة مؤلفات عن الحياة الدينية عند قدماء المصريين أنجز أخيراً الجزء الأول من (كتالوج) أوراق البردي المصري وفي عامي 1928 و 1929 اشترك في بعثة جمعية الاستكشافات بمصر
الكتب
كيفما اتفق
كتاب بالإنجليزية للدكتور أحمد زكي أبو شادي
للأديب نصري عطا الله سوس
الدكتور أبو شادي شخصية فريدة كل ما فيها معجب محبب، وهو مثال باهر للكاتب الذي يحيا حياة عامرة بمختلف أنواع النشاط الناهض. وحسب الطبيب الشاعر أنه إحدى الشخصيات القلائل التي تعددت نواحي أذهانها دون أن تطغى ناحية على أخرى. وهو مثل حي بليغ لاستحالة العداوة بين الفلسفة والدين والعلم والشعر. وإن الخلاف بين نوعين من أنواع المعرفة لا يجد له مكاناً إلا في الذهن الكليل الذي لا يمكنه أن يفهم إلا جزءا من كل، والذي توفرت له بعض المؤهلات ولم يتوفر له البعض الآخر؛ ولكن العقل الكبير يدرك بالبديهة قبل أن يثبت بالبرهان (إذا فرض إمكان الإثبات عن طريق العلم) أن العالم وحدة لا تتجزأ وأنه من المستحيل أن يناقض بعض أجزائها البعض الآخر
ويعجبني في الدكتور أبي شادي أنه كائن حي قائم بذاته يتفجر إيمانه بالحياة وربها وما بعدها من أعماق ذاته ولا يتقبل تعاليم السلف مغمض العينين. والاستقلال الذاتي صفة نادرة؛ ولكن الحياة بدونها تصبح باهتة رثة عديمة الطعم عديمة القيمة. وقد اتجه الدكتور إلى التأليف بالإنجليزية وبين يدي الطبعة الثانية لكتابه (كيفما اتفق) وقد تناول بالبحث في كتابه هذا أهم المشاكل العالمية مثل تحسين النسل، العوامل التي يجب أن تتوفر في الشخص المتمدين، العبقرية، الديمقراطية والحكم المطلق، الدين، المساواة بين الجنسين، الاقتصاد، التعاون، والأخلاق، ويجب على كل شخص يحس بوجوده أن يدرس هذه الموضوعات ويكوَّن له رأياً خاصاً فيها؛ وغرض الكاتب هو خير الفرد وسعادة المجموع. غير أني أختلف معه في بعض ما يقترحه من وسائل وغايات
تطغى شخصية العالِم في هذا الكتاب على ما عداها. وأي عالم؟ ذلك الذي لا يؤمن إلا بالعقل وحده والمنطق والمقاييس المضبوطة - وعهدي بأبي شادي شاعراً كبيراً ولكن شخصية الشاعر اختفت تماماً من هذا الكتاب، وفي هذا خسارة لا كسب. وقد تطرف
الكاتب في بعض آرائه تطرفاً عنيفاً وهاجم بعض النواحي التي لا يسهل مناقشتها في مصر وإن كانت هذه النواحي أكثر الأشياء افتقاراً إلى البحث والتمحيص. ولا شك في أن كل مثقف يؤمن بما قاله المؤلف عن (الأساطير) وأن اعتناق الجماهير إياها مصدر الكثير من الضرر، ولكنه لن يجد من يؤمن بالعلم وحده. العلم الذي يتخذ المقاييس والرياضيات أساساً له - ومن العسف أن نهاجم عقائد الشخص العادي ونحاول تشكيكه فيها مهما كان فيها من خلط وزيف قبل أن نمده بما يشغل مكان هذه العقائد - والعلم لن يقوم مقام العقيدة، وكل حضارة لا تستند إلى إيمان قوي لا يمكنها أن تثبت لا لإرهاصات الزمن - ولا شك في أن العلم ركن قوي من أركان الحضارة ولكنه لا يمد الإنسان بالإيمان الذي يريح القلب ويطمئن الضمير، ولكن الإيمان ينبع من أعماق النفس ولا حيلة للمنطق معه! وستمر دهور ودهور قبل أن يترجم الإنسان العادي النور وتغريد الطيور وجمال الزهور إلى معان إلهيه. ومن هنا صعوبة مهاجمة (الأساطير) في الوقت الحاضر - وعندي أن كل إصلاح لا يبتدئ بالفرد مصيره الفشل المحتوم - فيجب على المصلحين أن ينموا شعور الفرد بإنسانيته وأن يستخدموا العلم في تحريره من ربقة المادة، وأن يفتحوا أمامه سبيل تهذيب الضمير بواسطة الآداب والفنون حتى يتفجر إيمانه بالقوة الخالقة من أعماق ذاته المحرَّرة. وعندئذ يمكنه أن يُنزل الأساطير مكانتها الحقيقية؛ ومتى وصل إلى هذا المستوى وشعر بكرامته الإنسانية فسيشعر بواجبه شعوره بحقه وسيفهم معنى الحياة الإنسانية الحقة، ويخصص نفسه لخدمة مثلها العليا، ولن يؤمن بالدكتاتورية أو يسمح بها. أما الإيمان بالعلم وحده فمظهر من مظاهر الصلف والاغترار الذهني
وأعتقد أن العالم الذي حوى صدره علم الأوائل والأواخر، والذي يقول (إن الحياة على هذه الأرض محض صدفة) أو يبلغ به التبجح إلى أن يقول:(إن الله عالم رياضي) إنسان بائس مسكين، والشخص العادي الضعيف الذي يرى أن مظاهر القدرة الالهيه مبثوثة في كل شيء اسعد منه بمراحل. والظاهر أن المؤلف تأثر بكتابات الذهنيين ونظريات برتراند رسل عن وحدة الروح والجسم وهلاكهما معاً. وحسبي أن أذكر مثلا من هذه النظريات يرينا خلل وضلال القياس الذهني:
يقول رسل إن حالة (الإشراق والصفاء) والمعاني اللطيفة التي تترقرق في قلب الإنسان
أثناءها تشبه حالة السكر وما يخالج النفس أثناءها من نزوات، لأن السكر حالة شاذة تقع بواسطة مؤثر خارجي هو الخمر؛ وكذا حالة الإشراق أيضاً لأنها تقع بواسطة مؤثر خارجي هو الصوم! وهذا هو ما يؤدي إليه الإيمان بالعلم وحده
ولا شك أن هذا الكتاب خطوة حسنة في سبيل توطيد العلاقات الثقافية بين مصر وبريطانيا؛ غير أن القارئ الغربي لن يجد في هذا الكتاب جديداً ولا يمكنه أن يتبين أن المؤلف رجل شرقي، لأن (الشخصية) بمعناها الأدبي معدومة الأثر في الكتاب. وقد عالج المؤلف موضوعات معروفة مطروقة في الغرب ولا فضل له فيها إلا الجمع والترتيب والاختيار؛ ثم عرض لبعض المظاهر الاجتماعية في مصر. ولعله ينحو في كتاباته المستقبلة نحواً جديداً بحيث تبدو فيها خصائص الروح الشرقية الحرة، وهذا ميدان واسع تعود الكتابة فيه بالفائدة على الشرق والغرب، لأن مظاهر العلم والفن والأدب في أوربا الحديثة متأثرة بما ترزح تحته هذه القارة من أنواع المحن والبلاء، ولا يمكن للشخص الغربي المنشَّأ في حلقة هذه الظروف أن ينظر إليها نظرة أصيلة فاحصة ولكن الرجل الشرقي الذي لم يتأثر بهذه الظروف يمكنه أن ينظر إلى هذه الأحوال نظرة أقرب إلى الحق والصدق، ويجب على الكاتب الشرقي أن يهْدي إلى الغرب مما عندنا لا مما يستعيره منه
بقي أن نقول إن الشرق مفتقر إلى مثل هذا الكتاب أكثر من افتقار الغرب إليه، ويقول المؤلف في مقدمته أنه يعني بكتابه القارئ العادي (الغربي طبعاً) ثم يعود فيقول إنه لا يعني بكتبه عموماً إلا الخاصة، وإنه لا يتهم بسواد القراء في الشرق؛ ولما كانت خاصتهم تعرف الإنكليزية فلا ضير عليه في الكتابة بها؛ ولكن المؤلف يدعو إلى التعاون العالمي، وهذا لن يكون إلا إذا ارتفع القارئ الشرقي العادي إلى مستوى القارئ الغربي العادي ولعلنا نرى الكتاب مترجماً إلى العربية بعد تعديل يلائم الشرق
نصري عطا الله سوس
بونا انطون
الآنسة وداد سكاكيني
لما قرأت رواية (بونا انطون) للأستاذ كرم ملحم كرم لمست بخاطري
رواية نوتردام دو باري لشاعر الفرنسيس فيكتور هوجو، وخفق أمام
عيني مسرح الراهب كلود فرولو وقد ملأها الهواء فانتفخت حتى بدت
وراء ظهره كالقربة؛ تمثلته بالخيال يصعد عجلان سلالم الكنيسة، لا
حقاً بالرقصة الحسناء (ازميرالدا) ملحاً عليها بأن تحبه فيجثوا أمامها
ضارعاً لهيفاً، كما يجثو أمام المذبح في المعبد، ويناشدها الغرام الأثيم
ثم يقول لها: تخيري أحد أمرين: إما شهوتي العاتية وإما الموت
الزؤام، فاختارت الثاني فطوح بها هذا السفاح في مهاوي الردى وقد
اتهمها بالقتل، وما قتلت إلا يده الجانية وغيرته الطاغية فهو الذي طعن
حبيبها الأمير فوبوس من خلفه إذ كان إلى جنبها يناجيها في ليلة هادئة
مقمرة
ذكرت هذا كله حين قرأت رواية (بونا انطون) لنابغة القصة العربية في لبنان كرم ملحم كرم وقلت: بأبي الحق وأمي إن جاء من أهله! لقد كتب الأستاذ كرم روايته عن كاهن خبيث فصور لنا حياته الخفية التي لا يراها الناس، وعبر عن نزواته الصارخة واحتياله الوضيع بأسلوب رشيق أخاذ. لقد كان هذا الأب يغدو كل صباح إلى سيدة مهذبة فاضلة فيباركها ولا يكاد يقترب المساء حتى يهب في ديره إلى ارتداء قلنسوته ومسوحه فيمسح بيده طيباً، وينطلق إلى بيت السيدة التي سبته وسامتها وخلبته براعتها، فأصبح لها عاشقاً وامقاً، فيبارك عليها مرة وأخرى ويرمقها خلسة بعد خلسة بلحاظ لاهبة ذاهلة
كان هذا الكاهن يتابع زوراته واعظاً باسم الدين، ذئباً في صورة إنسان، حتى كشفت المرأة الذكية عن نيته وطويته، فإذا هو يحمل لها في قلبه حباً أقوى من حب روميو، ويكظم في
نفسه شهوة لها أشد من شهوة كازانوفا؛ ولكن ماذا تفعل به وهي من المحصنات ولها زوج كريم؟ فصدته عن السوء، وكفته عما أخذ بأطرافه من مراودة عن نفسها، فلم يستعصم، وما يئس. وحين لم تستطع على جماحه كبحاً، أمرت الخادم أن لا تفتح الباب للكاهن. فلما أحس مقتها ونفوها، فار الدم في عروقه من الغيض وثارت في صدره وساوس الحقد والثأر، فآلى على نفسه أن يهدر سعادة المرأة الشريفة ويذيقها العذاب الأليم، فنصب لزوجها شراك الشر وشباك الضلال، بتسخير امرأة خليعة ما جنة تغريه بالمعصية وتغويه بالفجور، وقد ترضاها الكاهن بشفاعة وغفرانه فأذعنت له وصرفت الزوج عن امرأته وبيته، ثم عاود الكاهن زوراته لعل المحبوبة الأنوف تخفف من غلوائها وتفئ إلى حبه، فتبرمت به وهدمت بعفافها زهادته الكاذبة وتبتله الموهوم
هذا طرف من سياق الرواية الطريفة (بونا انطون) وهي رواية حافلة بالتحليل العميق والوصف الدقيق، وقد فاضت بالحياة الصاخبة ونضحت بالصراحة العارية. كل سطر فيها كالعرق النابض، وكل قارئ لها كالطبيب الحاذق يستطيع أن يعرف حالة عرق فيصف دواء الأخلاق المريضة
لما نشر الأستاذ كرم ملحم كرم روايته في بيروت قامت عليه قيامة رجل من رجال الكنيسة فأقام الدعوى على الأديب القصصي، وادعى فيها أنه هو المقصود بالأب انطون، واخذ يؤلب الحكام عليه ويسخر بعض الموتورين لذمة وتسفيه روايته واستهجان ما فيها، فذكرني مرة ثانية بما كان من أمر القصصيين الغربيين وكيف أقام عليهم الدعاوى أناس ظنوا أنهم هم المقصودون في القصص، ثم خرج كتابها أبرياء، ونفضوا عن أكتافهم غبار الأعداء، فطاح به الريح وأذراه في هبوبه وذاب رغاؤهم وزبدهم، وبقي القصاص وضاح الجبين مرهف القلم رفيع الهدف، لأنه هو الذي ينفع الناس، وهكذا خرج الأستاذ كرم ظافراً مغبراً في وجوه حساده وأعدائه، وبقيت روايته حية خالدة
إن القصة العربية آخذة في السمو والإشراق، ولا يمضي عليها ردح من الزمن حتى تسابق القصة الغربية وتماثلها قيمة ومقاماً؛ فالأقلام تمارسها بقوة ورغبة، والقراء يتقبلونها بشوق ولذة. ولا بدع إذا نهضت القصة والرواية في لبنان فان الأستاذ كرماً مهد السبيل لهذا الفن العريق فيه عهداً جديداً. وها إن المطبعة العربية في لبنان تزجي إلينا القصة أثر القصة،
والرواية تلو الرواية، وقلم الأستاذ كرم لا ينقطع عن قرطاسه فما تقع عيناه على أحداث الحياة في لبنان وما جاوره من بلاد العرب حتى يستوحي جوها ويستنطق بيئتها، فيسبر غورها، ويبادر إلى تصويرها بما فيها من قلق واضطراب ونقص وإخفاق. وإن له من ثقافته الأدبية وتضلعه من اللغة العربية وفطرته في القصة معيناً لا ينضب. ومصداق القول قصصه العديدة الرائعة ورواياته، وآخرها (بونا انطون) التي كتبها على ضوء الفن والواقع والجرأة وخلع عليها أسلوبه الحر الصقيل، فنزهها عن مزالق اللهجة الصحافية والكلام الدخيل.
وداد سكاكيني