المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 258 - بتاريخ: 13 - 06 - 1938 - مجلة الرسالة - جـ ٢٥٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 258

- بتاريخ: 13 - 06 - 1938

ص: -1

‌من ذكريات الريف

ليالي الحصاد. . .

يا حبِّةِ الأَمْح زيدي

وأملي المخازن علِينا

إنت دَهبْ مَلوِ إيدي

لُولاكْ مَرُحْنا وجينا

يا شمعة العز إيدي

واجلي بنوركْ عِنينا

داعيدْ حبايْبي وعيدي

يا رب عودُهْ عَلِينا

بهذه الأغنية الرقيقة كان صوت أمينة الوتري الرخيم يموج لذيذاً في مسمع الليل المقمر الساجي؛ وكان أترابها يرجعن عليها اللحن ومناجلهن في أيديهن تجز سيقان القمح فتسمع لها في خلال النغم خشخشة آلة موسيقية غريبة!

كان ذلك في ليلة بين أواخر مايو وأوائل يونية، والزرع قد استحصد وتهالك بعضه على بعض من الذبول واليبس، فلم يعد يقوى على حمل سنبله. وكان الحاصدون والحاصدات قد خرجوا عشاء إلى الحقول الذهبية، في أيديهم المناجل، وعلى أكتافهم الأردية، وهم يوقعون على طرق الربيع العشيبة أهازيج الجذل والأمل، فباتت القرية هامدة كأنما ضرب على آذانها الموت فلا تسمع سامراً على مصطبة ولا نابحاً على تل. فأخذني منها ما يأخذ السائر الوحد من الغابة اللفة أو المقبرة الفسيحة. فخرجت أنشد الفرجة والأنس في حقل من حقولنا القريبة، وكنت أعلم أن في حصاده جوقة من الأوانس الحسان الوجه والصوت. فلما غمرني ليل الحقول، وملكني سلطان الطبيعة، أحسست في نفسي دنيا جديدة لم أحسها من قبل في نهار الناس ولا في ليل القرية! فقد كان القمر حينئذ في الفخت يرسل أضواءه اللينة الرخية، هادئة كإشعاع الحلم، شاحبة كإسفار الأمل، فيلون الغيطان والغدران والطرق بلون الفضة الكابية؛ ونسيم آذار الندي العبهري ينفح بطراءة الفردوس الإنسان والحيوان والشجر، فينتعش الهامد ويتنفس المكروب وتتندى الحصائد؛ فتسمع الجنادب تصر في هشيم البرسيم، والضفادع تنق على حفافي الترع، والسواقي تنوح على رءوس الزروع، والحاصدات يغنين في مزارع القمح، وطيور المساء تبغم على أعالي الدوح، وكلاب الحراسة تنبح على أطراف البيادر، فيكون من كل أولئك إيقاع موسيقي عجيب يبعث الروعة في النفس، ويلقي الشعر على الخاطر!

ص: 1

على أن هذه الأصوات المتجاوبة على نشوزها لم تكن هي مبعث السحر الذي غلب على مشاعري؛ إنما كان مبعثه ذلك السجو العميق السحيق الذي ضرب على حياة الليل فهيمن على كل حس وسيطر على كل حركة فما نسمع الأصداء في جوف هذا السكون، إلا كما ترى الأنداء في رمال المفازة

كنت أمشي بين هذه الظواهر الليلية وئيد الخطو رزين الخيال مرهف الحساسة، لا أجد في طبعي ما كنت أجد في النهار من مرح الصبى وخفة الحداثة، فكأنما يضع الليل من ثقله على الجسد والفكر والشعور فيتغلب على المرء الهدوء والبطء. ذلك إلى أن الجو الاجتماعي في القرى ليالي الحصاد، يختلف عنه فيها أيام الجني. ففي حصاد القمح يأخذ القرويين حال من التدين الذاكر الشاكر، لأنهم يتقبلون فضل الله في هذه الحبة المقدسة ليحفظوا بها البدن، ويمسكوا عليها الروح؛ فهي عندهم مرادفة للحياة، يسمون خبزها (العيش) و (النعمة)، ويتحرون في كسبها الحل والحرمة، ويذكرونها فيذكرون الرزق والصدقة والزكاة والبركة

أما في جني القطن فيدركهم مس من الطمع والغرور فيحبون الدنيا ويعشقون المال ويرغبون في اللهو ويذكرونه فيذكرون الربا والثراء والرواج والزواج والهم

كنت لدى ساقية الغيط الراقدة في كلةٍ من أغصان الصفصاف المرسلة حين ارتفع صوت أمينة الحنون بالأغنية التي ذكرت بعضها في مطلع هذا الفصل. وكان الحصدة من رجال ونساء يزحفون إلى القمح بمناجلهم صفاً فيتركونه ورائهم أضغاثاً من الحصيد منظومة الأسافل والسنابل، ثم يعودون الحين بعد الحين فيركمونها حزماً غليظة ويدعونها تنتظر النقل على الجمال إلى البيدر

وأجمل ما في ليالي الحصاد منظر الحقول المنبسطة على مدى الطرف وقد ضربت في صفرتها أضواء القمر فابيضت ابيضاض المصريات الحسان؛ ومجالس الشباب والشواب على حصائد القمح الوثيرة يديرون بينهم سقاط لحديث الفكه، ويتبادلون في احتشام كنايات الغزل الحي؛ وغناء الفتيات وزمر الفتية يتواردان على سمعك من قريب ومن بعيد، فيفعلان في نفسك ما لا يفعله الموسيقار الحاذق؛ ثم نوم هؤلاء وهؤلاء في الهزيع الأخير على فرش من الحصيد تكلاهم عين العفاف وتتمثل في أحلامهم صور الفضيلة. فإذا ما

ص: 2

تنفس الصبح على وجوههم المطلولة هبوا إلى القناة يتوضئون ويصلون، ثم يعودون إلى مناجلهم على أنشط ما يكون الفتى، وأرضى ما يكون المؤمن

أبداً لا أنسى أنني قضيت معهم تلك الليلة، ثم نمت هذه النومة، وقمت هذه القومة، وأسفر على ذلك الصباح الضاحك المنضور فأبصرت مسالك القرية تسيل بحاملات الفطور للحصاد، وسائقات الماشية للمرعى، ولاقطات السنبل من بنات الفقر، فكان لي من جمال تلك العشية وضحاها، لذة لا أزال أنعم بذكراها، وأتمناها!

احمد حسن الزيات

ص: 3

‌تأملات في الأدب والحياة

للأستاذ إسماعيل مظهر

شذوذ

تاريخ الصراع الأدبي في مصر، وتاريخ الصراع السياسي، يتلخصان في معارك تقوم بين أشخاص، ولقد أدركت هذه الظاهرة النقد أيضاً. فتاريخ النقد في مصر عبارة عن موازنة بين كاتبين أو شاعرين يحاول الناقد أن يعلي أحدهما على الآخر. أما مذاهب الأدب ومذاهب السياسة ومذاهب النقد. فهذه لا قيمة لها في نظر الأديب ولا في العرف السياسي ولا في تقدير الناقد وعامة ذا شذوذ، بل خروج على طبيعة الأشياء

أفهم أن يقوم الصراع الأدبي بين مذهبين يمثلهما كتاب أو شعراء يعتنقون في الأدب مذهباً محدود المرامي بين الغايات. وأفهم أن يقوم الصراع السياسي بين أحزاب تقتتل على مبادئ عامة تتعلق في أكثر الأمر بالخير المنشود للعدد الأكبر من الناس. وأفهم أن يقوم النقد على فكرة منطقية يقتنع الناقد بصلاحيتها وحقها في البقاء، فيمضي في نقد الكاتب أو الشاعر انتصاراً لتلك الفكرة. وأفهم فوق هذا كله أن يقتتل كاتبان ولكن انتصاراً لمذهبين يعتنق كل كاتب مذهباً منهما، والغلبة للأصلح من المذهبين. أما الذي لا أفهمه ولا أستطيع أن أفهمه يوماً من الأيام، فأن يتطوع ناقد لنصرة كاتب على آخر، أو شاعر على شاعر غيره احتساباً لوجه الله الكريم، من غير أن يكون الناقد في نقده مخلصاً أول شيء لمذهب بين في الأدب يعتنقه الكاتب المنتصر له

وما أبرئ نفسي؛ فأن عدم قدرتي على فهم هذه الأشياء قوة لم أشهدها في نفسي إلا منذ عهد قريب، وما بعثها إلا ذلك الصراع الذي قام على صفحات (الرسالة) بين أنصار صديقي الأستاذ العقاد، وصديقي المرحوم الأستاذ الرافعي، صديقان مات أحدهما وأدعو الله أن يمد في عمر الآخر. سكت أحدهما وطواه الزمن، وصمت الآخر على ما كان بينه وبين الأديب الراحل تجلة للموت وتحية لذكرى أديب جاهد في سبيل الأدب، ودفعاً لحزازات ما أجدر الموت أن يكون ماحياً لآثارها وذكرياتها

لقد صمت صاحب الحق الأول؛ وما كان ليتكلم وقد خلا الميدان من مناظره، وهو يعلم أن الكلام في مثل هذا الظرف جريمة في شرعة الأدب، بل خطيئة من المنكرات

ص: 4

صمت صاحب الحق وتكلم غيره احتساباً، وحاشا أن أقول هنا لوجه الله، لأن الله لا يأمر بأن تنبش الحزازات وتحتفر الضغائن ويكشف عن السيئات دون الحسنات. أم نقول قولة أنطوني على جثة قيصر:(إن الشر الذي يعمله الناس يعيش من بعدهم، أما الخير فيدفن مع عظامهم؟!)

ولست أدري أي وصف توصف به هذه القضية لو تقدم بها خصم ثالث إلى مجلس حسبي ينصب لمحاكمة الأدباء؟

لتغير التاريخ

قرأت، كما قرأ غيري، قول بعض المؤرخين:(لو لم يكن كذا لتغير التاريخ). وهو قول ظاهره خلاب جميل؛ قول سمته الحق، ولكني لم أرى حقاً يراد به باطل أكبر من هذا الحق

قيل مثلاٌ: لو أن أنف (إقليو فطرا) كان أقصر قليلاً مما شاءت الطبيعة لتغير التاريخ. ولماذا؟ لأنها كانت بأنفها (الأقصر قليلا) تستطيع أن تغوي (أوكتافيانوس) كما أغوت (أنطونيوس) من قبله. وإن نظرة أولية في هذا الكلام تدلنا على أن ما فيه من الحق إنما هو بمثانة البرق الخلب، يبهر النظر ويأخذ باللب، ثم لا يترك في نفسك من الأثر إلا أثر اللمحة العابرة تستذكرها، ولكنك قلما تفكر فيها قليلاً. فمن ذا الذي أعلمنا أن أوكتافيانوس، قائد الرومان العظيم، وأول أباطرتهم العظام، كان يستغويه أنف دقيق ولا يستغويه أنف طويل؟ وعلى أية قاعدة نحكم بأن ذلك القائد كان على استعداد لأن يغوى، دق أنف الملكة المصرية أو كبر؟ أما الحق فأن أنف (إقليو فطرا) قد ظلم

وقيل أيضاً: لو لم يظهر نابليون لتغير التاريخ. وجملة ما في هذا القول من الحق في معتقدي أن التاريخ ما كان ليتغير إلا بأن يحذف منه اسم نابليون ليحل محله قائد آخر يفعل من الأشياء ويحدث من الأحداث ما قد أدت إليه أعمال نابليون بالذات، وما يصح عن نابليون يصح عن هينيبال وعن الاسكندر الأكبر وعن غيرهم من العظماء الذين نقول اعتباطاً إنهم غيروا التاريخ

لو صح قول القائلين: (لو لم يكن كذا لتغير التاريخ) لبدت الإنسانية في صورة عجماوات تضرب في فيافٍ وقفار، وتخبط في ظلمات مدلهمة خبط عشواء، تقبض على زمامها شهوات الأفراد وتقودها نزواتهم وانفعالاتهم، وتصرف أمورها أخيلة قلة من الناس في

ص: 5

مقدرتهم أن يخلقوا التاريخ ويبتكروا المستقبل ابتكاراً من غير أن يتقدم ذلك الابتكار أية مقدمات تسوق إليه، على العكس من كل تناسب في نظام التطور الاجتماعي، وعلى الضد من المنطق المدرك من نظام الطبيعة

أما إذا أردنا أن نثبت هذا المذهب فينبغي لنا أن نحلل مثلاً أو مثلين مما ذكرنا. أما مثل (إقليو فطرا) والقائد الروماني، فأن حوادث التاريخ ذاتها تدل على أن الحنق كان قد ملأ قلب أوكتافيانوس تلقاء ملكة مصر وزوجها أنطونيوس حتى ليتعذر معه أن يجد جمال إقليو فطرا أو فتنتها طريقاً إلى قلبه

كان أنطونيوس وأوكتافيانوس صديقين اقتسما القوة والبطش في رومية، وقضى أنطونيوس على قتلة قيصر في سلسلة من المواقع المشهورة، ثم نزا الشيطان بينهما ففرقت بينهما المكائد والدسائس، ثم تصافيا وتزوج أنطونيوس من شقيقة أوكتافيانوس توثيقاً لصداقتهما، ثم سافر إلى الشرق فالتقى بالملكة المصرية وتزوج منها وهجر رومية ومن فيها، ثم استبان الرومان أن ملكة مصر تحاول من طريق عشيقها الروماني أن تذل رومية وأن تصبح ملكة الدنيا، فقام الصراع بين مصر ورومية وانتهى بمصرع العاشقين. فهل هذه مقدمات يمكن أن تؤدي إلى غير ما حكم به منطق الواقع؟ وهل كان من المستطاع أن يغير أنف الملكة المصرية من مجرى هذا التاريخ شيئاً، قصر أم طال؟

وكذلك الحال في نابليون. فإن الثورة الفرنسية وما طل فيها من الدماء وما أحدثت من تخريب وما ذاع فيها من الخيالات وشاع من الأوهام، وتفكك بلاد ألمانيا وضغط إيطاليا وانحلال أسبانيا، وتيقظ الروح الحربي في فرنسا لما أن هاجمها أعداؤها ومرجل الثورة يغلي في بطنها؛ جماع هذا كان من شأنه أن يبعث (نابليوناً) لو لم يكن بونابرت لكان غيره، ولأحدث من الأحداث ما كان من الطبيعي أن يؤدي إلى نفس النتائج التاريخية التي أدت إليها أعمال نابليون هذا بالذات

وإن شئت فقل إن هذا كان شأن الاسكندر الأكبر. فأن الصراع بين بلاد فارس وبلاد الإغريق في آسيا الصغرى وفي إغريقية الأوربية بالذات من طريق البحر كان صراعاً مأثوراً بين الأمتين قبل عصر الاسكندر. وكذلك كانت السياسة التي اتبعها الملك فيلبس والده، فقد كانت سياسة حربية رمى بها إلى توحيد كل العالم الهليني تحت لواء مقدونيا،

ص: 6

فجيش الجيوش ونشأ القواد وأحيا روح البطولة في رجاله، وهم بطبعهم من سلالة جبلية فيهم شيمة القبيلة وطابع العنصرية. ولما مات فيلبس ورث عنه الاسكندر فيما ورث جيشاً منظماً كان قد أعده للزحف على الشرق عشية مقتله. ولو أردنا أن نعدد الوقائع الكبرى في تاريخ الاسكندر لما عدونا الثلاث عداً. هي: موقعة غرانيقوس وموقعة إسوس وموقعة أربل. أما ما بقي بعد ذلك فليست مواقع كبرى، وما عدا ذلك من حياة الاسكندر فحصار لبعض المدن ومخاطرات هي إلى الجنون أقرب منها إلى العقل. فهل جميع هذه المقدمات المادية الثابتة، والتي يزيدها ثباتاً تقلقل الإمبراطورية الفارسية في عصر دارا الثالث واستخدامه لمرتزقة من الأغارقة عملوا في جيشه جنوداً وقواداً، كانت تمحي وتزول لو لم يظهر هذا الاسكندر؟ إني أعتقد أن الاسكندر لو لم يظهر لظهر غيره ففعل فعله، وبقي غدير التاريخ متدفقاً في نفس الاتجاه وإلى الغايات التي رسمتها جميع هذه المقدمات التي ذكرنا

إن الإنسانية ولا شك تقودها يد خفية، ما الاسكندر وهينبال وأوكتافيانوس إلا ألاعيبها، وما هم إلا الكرات التي يضربها الصولجان إلى الأهداف المرسومة، ما هم إلا اللحن الذي يسجله القدر على صفحات التاريخ.

فلسفة وفلسفة

الصورة التي تلابس الفلسفة لا تحبكها الطبائع الخاصة لكل جيل من أجيال البشر ولا طبيعة البقعة التي يحتلها ذلك الجيل من كرة الأرض لا غير، بل إن للنظامات المدنية وأثر المعاهد في حياة الحكومات والأفراد أثراً فيها كبيراً. أما إذا أردنا أن نجلو عن هذه القضية فينبغي لنا أن نمضي في مقارنة نسوقها في الفارق بين أمتين كبيرتين من أمم العصر الحاضر، امتازتا بضربين من الفلسفتين لكل منهما طابع مستمد من خصائصهما الأصيلة، هما إنجلترا وألمانيا

إن نظرة دقيقة لتثبت لنا أن فلاسفة الألمان يشغلون في عالم الآداب الإنسانية مكاناً غير المكان الذي يشغله الإنجليز. وأول شيء يستلفت النظر أن النبع الذي يفيض بالفلسفة في إنجلترا، بصرف النظر عن بعض الشواذ، لم يكن الجامعات الإنجليزية، ولا الرجال الذين اشتغلوا بمهنة التلقين فيها. هذا على العكس مما هو في ألمانيا، فإن كنز الفلسفة ومشعل

ص: 7

الحكمة كان على الدوام في أيدي أساتذة الجامعات

ونظرة أخرى. فأنه لا شك مثلاً في أن إسرافاً كبيراً يحل بالجهود العقلية، وانحرافاً عظيماً يعتور البحوث الفلسفية إذا لم يهيمن على أمثال هذه الأشياء النظام المدرسي والروح الأقاديمي. ولكن في التحرر من هذا النظام وذلك الروح لقيماً أخرى لها من الشأن ما يعوض على الآداب ما تفقد بالتحرر من الروح الأقاديمي الصرف. فأن الباحث الذي يتعلم بنفسه ويشعر بكرامة العصامية العلمية التي يحوزها بجهده الذاتي لهو بذاته من تدعوه (المفكر المستقل) المتحرر من آثار تلك الظاهرة التي تدعى الائتمارية، ومعناها الأقرب الاتفاق بين فئات من المفكرين على الترويج لمذهب بعينه أو فكرة بذاتها أو نزعة ما. فأن المفكر المستقل، وتلك أولى مميزاته، إنما يكب على درس مشكلات الفكر والحياة، لا لأن من الواجب عليه أن يقول شيئاً فيها، كما يحتم النظام على أصحاب الوظائف، بل لأن تأملاته أدت به إلى إدراك معضلات حقيقية، فهو يعمل على حل مغلقها وفك طلسماتها.

وفي الفلسفة الألمانية ظاهرة أخرى. فقد تقيدت تلك الفلسفة خلال عدة قرون متتالية بتقاليد خاصة وانتزعت اصطلاحات بعينها واستعمالات بذاتها، تنزل من الفكر منزلة تسمو على عقول الأوساط من المتعلمين، وتقيد عقول الخاصة بنظام يجعل الخروج على مقرراتها من أصعب الأشياء. وعلى الجملة تمتاز الفلسفة الألمانية بأحكام الفكرة وأسلوب التفكير، مشفوعة بقوة ممتازة في التحليل المنطقي ولكن هذه المميزات لها ما ينتقصها. فقد قيل، وقيل بحق، إن الفلسفة في ألمانيا يكتبها الأساتذة، إما لأساتذة، وإما لفئة يحاول أفرادها أن يصبحوا أساتذة. وكاتب الفلسفة الألماني من أجل أن ينال الحظوة عند الخبراء بالفلسفة أمثاله، يبتعد عن الاتصال بجمهور القراء، فلا يكون لما يكتب أثراً في الحياة العامة ولا في تكييف الذوق العام للأمة

هنالك مظهر آخر. فإن الفلسفة الألمانية لشدة ارتباطها بالنظام القائم في بيئتها، التصقت أيما التصاق باللاهوت، وتلونت في غالب الأمر باللون الذي يوائم ذوق الدولاب الحكومي. لقد اتخذت الفلسفة الألمانية وسيلة لصب النشء في قوالب خاصة ترضاها الحكومة. لهذا اتصفت تلك الفلسفة بشيء من الجمود ولبست ثوباً حكومياً شل اتجاهاتها الطبيعة، على الرغم من أنها كانت الأثر الفعال ترقية الأهلية الحكومية فجعلتها تتجه نحو المثل العليا

ص: 8

أما الفلسفة في إنجلترا، وهي كذلك في فرنسا، فقد كانت اللسان الناطق بالمعارضة لكل المعتقدات الرسمية للدولة، ومنابذة صور الفلسفة القديمة التي اتخذت معاقلها الحصينة في حدود المؤسسات الكنسية. ولفظة فيلسوف في إنجلترا وفرنسا، قد اقترنت دائماً بمعنى حرية الفكر والتحرر من قيود المأثور، بل فهم منها معنى الإلحاد ومعاندة كل ما تقرر في الأذهان من العقائد والآراء. وعلى الرغم من مختلف الصور التي لابست الفلسفة الإنجليزية منذ عصر هوبز إلى بنتام، ومن لوك إلى هيوم، فأن الغرض الذي رمت إليه لم يتغير، ولم يخرج يوماً على حرية الفكر وهي مصدر الابتداع والابتكار

ونحن إذ نرى أن الفلسفة الألمانية قد التزمت مصطلحات بعينها واتخذت لنفسها لهجة بذاتها. إذا بنا نجد أن الفلسفة الإنجليزية قد كتبت باللغة الدارجة في الأدب. وعلى الضد من هذا تجد الأولى، فإنك لا شك واقع في فلسفة (كنت) وفي كتابات الكثيرين ممن عقبوا عليه، على عبارات هي عند أهل لغتهم أنفسهم كتاب مغلق بسبعة أقفال

لقد اعتقد بعض النقاد، ولعلهم اعتقدوا بحق، أن هؤلاء الفلاسفة قد اكتفوا في كتابة الفلسفة بأن يفهم بعضهم بعضاً، غير آبهين بأن يفهمهم غيرهم. لقد هام فلاسفة الألمان بالغموض حتى لقد نعتهم أهل بلادهم أنفسهم بأن فلسفتهم تعميه مقصود

في سبيل العلم

في سبيل العلم ما احتمل غليليو، فقد قال إن الأرض التي تدور حول الشمس، على الضد من العقيدة اللاهوتية التي اعتنقتها الكنيسة الرومانية. لما هم رؤساء الكنيسة باتهام غليليو

كان مؤلفه قد ذاع في أنحاء أوربا، فزاد ذلك غضبهم عليه وتبرمهم به. وكان على رأس الكنيسة (إريان الثامن). ولم يكن بابا لا غير، بل كان أميراً من بيت (بربريني) فأخذته العزة بالإثم وأمر بأن يمنح غليليو وكتابه هبة منه لمحكمة التفتيش

وعبثاً حاول (كاستللي) البنديكتي أن يقنع رجال الكنيسة بأن غليليو يحترم الكنيسة ولا يهزأ بمبادئها، بل سدى ضاعت كل جهوده في سبيل أن يثبت لرجال الدين إذ ذاك (انه ما من شيء يمكن عمله، من شأنه أن يمنع الأرض من الدوران).

ولكنه طرد ونفي مغضوباً عليه مقصياً به عن الكنيسة، وقسر غليليو على أن يقف أمام تلك المحكمة الرهيبة واحداً فرداً بلا مدافع أو نصير. وهنالك عذب مراراً حتى اضطر إلى أن

ص: 9

يعلن جاثياً على ركبتيه الاعتراف الآتي:

(أنا غليليو، وفي السبعين من عمري، سجين جاث على ركبتي، وبحضور فخامتك، وأمامي الكتاب المقدس الذي ألمسه الآن بيدي، أعلن أني لا أشايع، بل ألعن وأحتقر، خطأ القول وهرطقة الاعتقاد بأن الأرض تدور)

إنه ولا شك قد غلب على أمره، لأنه قسر على أن يظهر أمام كل الأجيال القادمة بمظهر الحانث بعلمه المضحي بعقله ويقينه ومن أجل أن يتم انتصار الكنيسة عليه، وأن يودي بكل ما بقي له من شرف النفس، اضطر برغم منه أن يقسم بأن يفضي إلى محكمة التفتيش بأمر كل رجل من رجال العلم، يقول بهرطقة القول بدوران الأرض

ولقد أثار قسم غليليو هذا عجب الكثير من أهل زمانه ومن المؤرخين، حتى أن ذلك كان سبباً في أن ينكر عليه بعض أبناء عصر نعت (الشهيد). غير أن هؤلاء لم يقدروا ظروف الرجل قدرها. فلقد كان شيخاً كبيراً عمّر إلى السبعين من السنين المثقلة بالهموم والأحزان، وحطمته آمال الدنيا ومخاوفها، وهدمته متاعبها وواجباتها. وكم سعى متلهفاً من (فلورنسا) إلى (رومية) مكباً على وجهه ونصب عينيه تهديدات البابا، بأنه إذا تأخر عن القدوم (أخذ في الأغلال). وكان فوق ذلك مريض الجسم منهوك العقل، سلم إلى أعدائه بيد الذين كان من الواجب أن يحموه. ولم يكد يبلغ (رومية) حتى احتوته غرف التعذيب وانصبت عليه الآلام ألواناً. ولقد كان يعرف جيداً ما هي محكمة التفتيش. وكان يلوح له شبح (جيوردانو - برونو) بين اللهيب ماثلاً أمامه، كأنما ذلك كان بالأمس الفارط، وفي نفس تلك المدينة ومن أجل (هرطقة) العلم والفلسفة. وكان يتذكر أنه من قبل ثمانية أعوام أحيط برئيس أساقفة (إسبالاترو) وسلم إلى محكمة التفتيش متهماً بهرطقة العلم، وبقي بين براثنها إلى أن مات في غيابات السجن، وإن جثته أحرقت بعد الموت مع ما كتب بمرأى من (المؤمنين)

ولقد استمر اضطهاد (غليليو) كل أيام حياته، بل بعد مماته. لقد بقى في المنفى بعيداً عن أسرته، بعيداً عن أصدقائه، مقصياً عن صناعته النبيلة؛ وقسر على أن يظل خاضعاً لعهده بألا يتكلم في نظريته. ولما أن توسل إلى أعدائه، وهو بعد يعاني أشد آلام المرض وأعظم تباريح السقام، مقرونة بأقسى الآلام النفسية التي سببتها الكوارث التي نزلت بأسرته، طالباً أن يمنح من الحرية بعض الشيء، كان التهديد بإلقائه في غيابات السجن، الجواب على

ص: 10

ملتمسه الصغير. ولما أن قررت لجنة خاصة عينتها السلطات الكنسية بأنه أصبح أعمى لا يبصر، وأنه ذهب ضحية المرض والحزن، منح بعض الحرية، ولكن بحدود جعلت تلك الحرية استعباداً

ولقد أجبر على أن يواجه هجمات أعدائه على ذاته وعلى نظريته هجمات الازدراء والسخرية والتضليل، من غير أن ينبس ببنت شفة أو يحرك بالرد لساناً. ورأى الذين محضوه الصداقة والحب والاحترام، ينزل بهم العقاب الصارم والظلم الفادح. فنفي (كاستللي). ورأى (ريكاردي) رئيس البلاط المقدس و (شيامبولي) سكرتير البابا يبعدهما (إريان الثامن) عن وظيفتيهما محقرين، ورأى عضو محكمة التفتيش في (فلورنسا) يوبخ أقذع توبيخ لأنه أمر بطبع كتابه. وعاش ليرى الحقائق التي استكشفها تكتسح من الكليات الكنسية ومن كل جامعات أوربا، بل ليرى عضو محكمة التفتيش يأمر بأن يستبدل كل نعت طيب يردد به ذكره في أي كتاب يراد طبعه، بأخبث النعوت وأحط الذكريات

ومات غليليو. فطلب إلى رجال الكنيسة أن يدفن في مقابر أسرته في (سانتا كروتشي) فأبوا. وأراد أصدقاؤه أن يقيموا فوق قبره أثراً تذكارياً فلم يسمح لهم. وقال البابا (إريان الثامن)(لنيكوليني) وهو السفير الذي كلف بأن يعرض بعض المطالب الخاصة بغليليو الميت عليه ما يأتي:

(إنه لأسوأ مثل يعطى للناس أن نسمح بتكريم رجل وقف من قبل أمام محكمة التفتيش الرومانية لأنه روج فكرة مثل فكرته المملوءة بالخطأ والكفران. ولم يقصرها على نفسه بل أقنع بها غيره، فأحدث بذلك أعظم فضيحة عانت أمرها النصرانية)

ونفذت إرادة البابا ورجال محكمة التفتيش، فدفن غليليو من غير تكريم بعيداً عن أسرته، ومن غير تأدية أي واجب ديني ومن غير أن يقام على قبره نصب أو تاريخ يشير إلى العظمة المخبوءة في ذلك الرمس الذي ضم رفاته

ومضى على ذلك أربعون عاماً جرؤ بعدها (بيروزي) أن ينقش على قبره تاريخاً يشير إلى حيث دفنت تلك العظام النبيلة. وبعد مائة سنة استطاع (نيللي) أن ينقل رفاته إلى مسقط رأسه ليضعها في مكان لائق بها، وأقام عليها نصباً. وكانت النار ما تزال مستعرة والعداء مستحكما، فقد طلب إلى رجال محكمة التفتيش أن يحولوا دون هذا التكريم (لرجل اتهم

ص: 11

بمثل ما اتهم به غليليو من السيئات والخطيئات) ولهذا رفضت السلطات الكنسية أن يكتب على قبره الجديد أي تذكار ما لم يعرض نصه على هيئتهم المختصة بمراقبة المطبوعات

فياله من علم ويالها من حياة!!

إسماعيل مظهر

ص: 12

‌فلسفة التربية

تطبيقات على التربية في مصر

للأستاذ محمد حسن ظاظا

- 20 -

(. . . وثقافة الإنسان لا تقدر بمقدار ما قرأ من الكتب وما تعلم من العلوم والآداب، ولكن بمقدار ما أفاده العلم، وبمقدار علو المستوى الذي يشرف منه على العالم، وبمقدار ما أوحت إليه الفنون من سمو في الشعور وتذوق للجمال!)

(أحمد أمين)

(للرجل المثقف جسم خاضع لإرادته، وعقل صاف متئد القوى سهل العمل مليء بما في الطبيعة من حق عظيم وقوانين كلية؛ هذا إلى امتلاء بالحياة المنسجمة الخادمة لضميره الحي، وإلى حب للجمال وكره للقبح، وإلى احترام للنفس وللناس، وإلى وفاق تام مع الطبيعة يفيدها فيه ويستفيد منها، ويسير معها كوزيرها أو ترجمانها وهي كأمه الحنون!)

(هكسلي)

10 -

خريج اليوم

(تابع ما قبله)

عرضت عليك في المقالين السابقين صورتين لخريج اليوم واحدة لعقله وأخرى لخلقه. وسأعرض عليك في هذا المقال صورتين أخريين إحداهما لذوقه والأخرى لجسمه:

1 -

الناحية الذوقية

وأحسبك لا تشك في جدارة هذه الناحية في حياة المثقفين وغير المثقفين على السواء، كما أحسبك ترى معي أن (الحياة الرفيعة) محتاجة إلى (فن) دقيق عظيم قوامه الذوق السليم والعاطفة المصقولة، والشعور الحي، والعقل المتزن جميعاً. فترى هل يعرف خريجونا هذا (الفن) في حياتهم الخاصة والعامة، كما يعرفها الإنجليز والألمان والفرنسيون على

ص: 13

الخصوص؟؟ الحق أن دراستي الاجتماعية في مختلف البيئات الأوربية قد كشفت لي عن فقر مدقع وفوضى أليمة يسيطران معاً على حياة المثقفين عندنا ويملآنها بشتى صنوف العبث والإسفاف والجهل والاضطراب؛ وهاك بعض ما يثبت ما أقول:

الوقت والفراغ والذوق

والوقت كما تعرف سيف قاطع؛ فهل ترى الخريجين يستغلون كل ساعاته ودقائقه فيما يعود عليهم بالخير؟؟ ألا كم من ساعات وأيام وأسابيع تمر عليهم دون أن يخرجوا منها بشيء!! وألا كم من لحظات تسألهم عما يفعلون فيها فيجيبونك بأنهم إنما (يمضون الوقت) فحسب، ومعنى هذا أن الوقت عند خريجينا لا قيمة له ولا خطر، وأنهم لا يحرصون بعد إذ ينالوا درجاتهم العلمية على حسن الاستفادة منه في كثير ولا قليل، فأن هم قصدوا بعد ذلك إلى الترويح عن نفوسهم أثناء فراغهم من عملهم اليومي فقلما يأتي ذلك الترويح على ما ينبغي أن يكون! ذلك أنهم قليلاً ما يغشون الحدائق العامة أو يزورون المعارض الفنية والمتاحف العلمية، أو يطرقون المواقع الهادئة الخالية من الحركة والضجيج، ونادراً ما يمارسون الرسم أو التصوير أو القراءة الأدبية أو الأشغال اليدوية الفنية وشبه الفنية؛ وأغلب ما عساك واحدهم فيه بعد هذا هو المقاهي حيث يتحدثون حديثاً تافهاً أو يهذرون هذراً فجاً. أو المسارح الخليعة حيث يصفقون للرقص المبتذل، ويضحكون على النكات السمجة، ويعجبون بالفن الذي هو والتهريج سواء، أو دور السينما حيث يشهدون ما تزدحم به الحياة الغربية من حب غير مشروع ومن استهتار أليم يغذي خلق الفتيات والفتيان عندنا بأسوأ الدروس! أليس كذلك؟ حدائقنا الجميلة العامة من يملؤها وينعم بها كل يوم وكل أسبوع غير الأجانب؟ وتمثيلنا الفني الراقي ألم يكد ينتحر تحت ضغط المسارح المبتذلة والأفلام الكثيرة ذات المعنى السطحي والعرض الخلاب؟ ومعارضنا الفنية الراقية من يزورها ويطيل الوقوف فيها ويشجع ذويها بالشراء والإعجاب غير أقل القليل من المثقفين؟ ومحاضراتنا العلمية أو الفنية من يتردد عليها ويستفيد منها غير جمهور (الطلبة) على وجه الخصوص؟ والاطلاع الأدبي الفني هل تجد له أثراً عند غير رجال الأدب كالمحامين والأطباء والمهندسين وغيرهم من أولئك المعتزين بثقافتهم ومهنتهم اعتزازاً لا يرون معه أن للأدب أو الفن فضل في الحياة أو نفع؟ ومجالسنا الخاصة ألا يدور فيها الحديث التافه والنكات

ص: 14

المبتذلة، وألا يعلو فيها صوت المتحدثين أحياناً على صوت الغناء المنبعث من آلة الراديو حتى ليتعذر عليك أن تطرب للموسيقى والإنشاد وتغني فيهما تماماً وأنت في وسطها؟ ثم ومنازلنا؟ أفي كل منها مكتبة كما في المنازل الأوربية؟ وأتزين حجراتها تلك الصور البديعة التي لا يكاد يخلو منها منزل غربي؟ وأخيراً أترى طريقة نقاشنا وأسلوب معاملاتنا يتفق وأصول الذوق السليم والحس الرقيق والشعور الحي؟ أترى نرسل اللفظ بقدر وحساب ونعامل الزوجة والولد والخادم والقريب والبعيد بما ينبغي أن تكون عليه المعاملة المثلى، فنعطي لكل حقه، ونرعى لكل عهده، ونحفظ فيما بين هذا وذاك قدرنا في عين الجميع؟

يقول الإنجليز إن (الرجل الدمث) الأخلاق هو ذلك الذي يعطف على الخجول، ويرحم السخيف، ويرعى الجميع فلا يثير ما يجرح الشعور ولا يعلو لصوته في المناقشات، ذلك الذي لا يفخر بما يعمل ويبدو في إعطائه كما لو كان هو الآخذ، ذلك الذي لا يستمع للوشايات ويفسر كل شيء من ناحيته المشرقة!)

فترى أين هو ذلك الرجل فينا؟

ستقول أنك تطلب من التربية كل شيء وترهقها من أمرها عسراً؟. وسأقول وما جدواها إذا هي اكتفت بحشو العقول وتركت الذوق فجاء غير مصقول؟ وهل نعيش في حياتنا بالعقل فحسب؟ ألا إن جانب العواطف والشعور أقوى في الحياة من جانب العقل، فإذا هي تركت هذا الجانب وأهملته فلن يكون تقصيرها إلا فادحاً شنيعاً! إذ ما عسى أن تكون الحياة بغير عاطفة مهذبة وذوق سليم حي؟ وإلى أين نلجأ في صحراء (العقل) إذا لم نلجأ إلى واحة (الشعور)؟ وكيف نوفق في معاملة الناس وفي حفظ قدرنا بينهم إذا لم يكن لنا ذوق سليم وشعور حي؟

2 -

الناحية الجسمية

أما هذه الناحية فأحسب الكلام فيها يسيراً!. الرياضة عندنا غير محبوبة عند الأكثرية الساحقة، والأقلية التي تمارسها في المدارس تسيء أحياناً استعمالها وقلما تستمر فيها إذا شغلتها الحياة وتقدم بها الزمن. ولذلك لا تعجب إذا رأيت أجسام الخريجين عندنا غير رياضية، وإذا وجدت من الخريجين تقصيراً هائلاً في أوليات الرياضة البدنية اليومية وفي كل ما يقي الجسم غائلة الأمراض ويحفظ عليه مناعته الطبيعية! وها أنت ترى أن الطلبة

ص: 15

موبوءين بالعادات السرية، وأن الخريجين مسرفين في النواحي الشهوية عزاباً كانوا أو متزوجين! وها أنت ترى أن طلبة المعاهد الدينية محرومين أو شبه محرومين من التربية الرياضية إلى حد عجيب كأن الدين لا يقر الرياضة ولا يعرفها! وأن المدارس الأهلية كثيرة التقصير في هذه الناحية إلى حد شديد! ثم ها أنت ترى أن قليلاً منا من يدقق في اختيار الغذاء اللازم لجسده، ومن يعنى بتعرف حالته البدنية كل عام حتى يعد العدة لاتقاء الخطر، وأن أقل القليل من ينامون مبكرين ويستيقظون مبكرين ولا يأكلون حتى يجوعوا فإذا أكلوا لم يشبعوا. . .! ثم هاأنت ترى الكهولة والشيخوخة يزحفان على شبابنا بسرعة عجيبة، وأن الكثير من خريجينا يتناول الخمر إلى جانب التدخين في سهولة ويسر. . .!

فهل ترى بعد هذا أن مدارسنا قد نجحت في تكوين (الشخصية الكاملة) المنشودة، ذات العقل المنطقي المستقل، والعاطفة النبيلة المشبوبة، والجسم السليم القوي؟

(يتبع)

محمد حسن ظاظا

ص: 16

‌بين الشرق والغرب

للأستاذ فليكس فارس

تتمة ما نشر في العدد الماضي

يقول المناظر الكريم إنه كان يتمنى لو اتسع المجال لديه ليشرح لكم الثقافة الغربية والذهنية الآرية. فهو لم يزل يأخذ بالنظرية التي جاء الاستقراء العلمي واضحاً جداً لتبجح الآريين بها

وما تلك النظرية إلا توهم اتخذ به نحو جينو وأشياعه إذ قالوا بتفوق السلالة الآرية على سائر سلالات الأرض لتفردهم بشكل خاص في جماجمهم، وبنوع خاص في شعرهم، وبلون فارق في جلودهم، فادعوا أن هذا الشكل دون سواه من بني الإنسان يملك صفاء الذهن وقوة الاختراع والعبقرية بأنواعها. غير أن الاستقراء قد اضطر دهاقنة علماء - الأحياء - إلى الاعتراف بفساد هذه النظرية بعد أم رأوا أن الجماجم التي ينطح بها الآريون السحاب إنما يحمل مثلها تماماً أقزام أفريقيا الوسطى، وأن شعورهم وجلودهم وسائر مميزاتهم الجسدية يتمتع بها كثير من القبائل والشعوب المنتشرة على وجه الأرض. . .

ثم يقول المناظر لنا أننا إذا ما أخذنا بما اكتشفه الغرب من علم يمكننا التحكم بمقدراتنا فأننا نستطيع أن نغير عقليتنا لنقتبس طرائف الغرب التي توصلنا إلى خير النتائج

ولماذا يجب أن تعمل الشعوب العربية على تغيير عقليتها وإنكار فطرتها وحوافزها التي تكونت من أعظم حوادث التاريخ طوال ألوف السنين ما دامت هذه العقلية نفسها قد أنارت الدنيا بعلومها وآدابها واكتسحت الغرب كله بروحانيتها وشرائعها؟

ولقد أورد المناظر استفهاماً إنكارياً بقوله ومتى أصلحت روحانية الشرق النفوس ما دام العالم هو هو لم يتغير بشروره؟

ونحن نقول له إن روحانية الشرق هي التي أسقطت ألوف الآلهة في الغرب عن عروشها، وأن الشعوب الآرية بدون استثناء أي عنصر منها إنما اهتدت إلى الحق والجمال في منشأ حضاراتها بتفكير الشرق ووحيه وإلهامه

فإذا نحن رجعنا بالذكر إلى حضارة أوربا الوثنية التي بنيت على خرافات الأساطير لا

ص: 17

يسعنا بعد ذلك أن ننكر الواقع ونقول بأن الإنسان كان سيهتدي دون أن يهدي

أما ما قاله الدكتور بانزوفيل للمناظر مصرحاً له (بأنهم سيصلحون بالعلم من البشر ما عجزت الأديان عن إصلاحه منذ ألوف السنين) فقول يطرح على بساط البحث مسألة خطيرة لا نرى بداً من إلقاء نور المنطق السامي عليها.

إن العقلية الآرية المعززة بالعلم والثقافة العالية ستقطع دابر الأجرام بوسيلة علمية هي تعقيم المجرمين.

وأنا أحد أبناء هذه الأمة العربية التي يدعى الآريون قصورها في ميدان التفكير، أنا على ما أنا عليه من ضيق الاطلاع وفي قومي من رجال العلم من لا يشق لهم غبار، أستنير بعقليتي السامية وبأيماني في العربي المكين فأقول لعلماء الغرب لقد ضللتم

وأقول بخاصة إلى الدكتور بانزوفيل إنه مغرور بعلمه وإنه لا يداوي من العلة إلا أعراضها

إن الغرب يرى تكاثر عدد المجانين والبلهاء والمجرمين في شعوبه فلا يبحث عن منشأ العلة ليداويها بل يعمد إلى تعقيم ضحايا مدينته وثقافته ظناً منه أن هناك بعضاً من الأسر المصابة بداء وراثي وإنه إذا قضي على تناسلها خنقت العلة في منشأها!

ويل لهم! إنهم إذا استمروا على هذه المعالجة فأنهم سيعقمون ثم يستأنفون التعقيم إلى أن يقضوا على النسل بحجة تحسينه

إن للأجرام وللجنون وللبله جراثيم لم تتولد أصلاً من الأرحام.

ليفتشوا على هذا الجراثيم فأنني أراها بعين الخيال الشرقي والإلهام العربي مكبرة كالثعابين تتململ في المراقص وفي الحانات وفي المواخير التي أراها تكتسح هذه المعامل التي فتحت فيها الآلات أسواق النخاسة الفاتلة، أراها في كل مكان لا تسود عقليته الرحمة الموحاة من السماء، بل أراها حتى على فراش الزواج الذي أصبح تجارة وشركة بين أنانيتين.

ليعقموا ما شاءوا من المجانين والمجرمين، فإن هذه الحضارة التي أقامت العجل الذهبي لها إلهاً ستقذف للدكتور بانزويل وإخوانه بألوف من الزبائن لا ينتهي عددهم حتى ترجع مدنية الغرب إلى عقلية الشرق وثقافته

أما فرويد فنظريته صحيحة في هذه الأمراض النفسية التي تفتك فتكاً ذريعاً في أبناء المدنية

ص: 18

الغربية، وما كانت مثل هذه الأمراض لتعيب أبناء بلادنا في العصور الماضية إلا في القليل النادر لأن الذهنية الشرقية لم تحارب الغريزة الجنسية بل اعتبرتها جزءاً من إيمانها. وما التبتل إلا بدعة طرأت على تعاليم عيسى فاحتضنها الغرب وجعلها على ما هي والشرق منها براء، وهذه شريعة النبي الكريم قد أتت بما لا حاجة لنا معه بمنظار الذهنية الغربية الذي كشف للعالم كما يقول المناظر إن الحياة الجنسية نور الحياة. وإنني لواثق من أن مثل هذه الأمراض النفسية التي تنشأ من كبت الغرائز لا يمكنها أن تصيب مؤمناً عربياً يعمل بشريعته لأن الدين دين الفطرة قد أنزل لتنظيم قوى الحياة لا لقتلها

وأخيراً أراد المناظر الكريم أن يثبت لنا أن الموسيقى الغربية خير من موسيقى الشرق وحجته العلمية في ذلك أن الغناء العربي إنما هو هتاف بصوت واحد في حين أن الغناء الإفرنجي غني بما فيه من طباق بين عدة أصوات

ونحن إذا ما صرفنا النظر عن الغرائز المستقرة في العقل

الباطني والتي يصدر عنها الفني الخاص بكل أمة وبحثنا

الموسيقى من وجهة علمية استقرائية نجد أن الموسيقى العربية

أصدق تعبيراً للطبيعة وأدق تصويراً للمشاعر بعديد نغماتها

في الصوت المنفرد فأن الموسيقى العربية تمثل في نغماتها

السبع الأساسية ألوان الطيف يتفرع منها ما يزيد على السبعين

نغمة تخضع مرنة ناعمة للعاطفة فتظهر خفاياها كصورة

اختطفت عن الأصل جميع أنوارها وأظلالها. أما العروسان

الغربية التي تسجن الصوت في مقام ونصف مقام أعلى

وأدنى، ولا تستوعب ربع الصوت وتمنه بل و116 منه

تتناوله الموسيقى العربية إنما هي أشبه بالفرشاة الخشنة في يد

ص: 19

رسام لا يمكنه أن يصور من المرئيات غير خطوطها الأولية.

إن الموسيقى الغربية رست على الطباق أو المطاوعة فكان لا بد لها من كبت النبرات الدقيقة المتمردة على الطباق ومن الاكتفاء بنغمات معدودات هي محل ثروتها. أما الموسيقى العربية فأنها هتاف عميق من النفس منفردة تجاه الوحدة المتجلية في مسلهمات الشرق ديناً وفناً. فهي وإن نقصها الطباق لعدم ملاءمته لحريتها ودقة نبراتها لا تزال حتى في دور انحطاطها اليوم، أغنى بأوزانها ونغماتها من الموسيقى الغربية الفنية بالصخب والفقيرة بالتنوع المنفرد!

إما أن تكون موسيقى الطبيعة أشبه بالموسيقى الغربية كما يقول المناظر فذلك ما لا نوافقه عليه ولبس في الطبيعة أجواق تتوافق على الهتاف بنشيد يطربك فأنك إذا ما أصغيت إلى بلبل واستسلمت نبراته المتناسقة الصافية وهو منفرد يذهب إنشاده إلى أغوار مشاعرك فتشاركه بما يلهمه النشر من شعر حنينه كلمات وتلاعبه معاني لا يدركها إلا المستغرق المطل على وحدة الوجود. ولكنك إذا وضعت عشرين بلبلاً أو عشرين مداحاً من أنواع الأطيار وأطلقوا جميعهم أصواتهم فعندئذ ندرك أن الطباق ليس من روح الطبيعة بل هو من أوضاع فناني الغرب الذين لم يهتدوا إلى الوحدة المليئة بالتنوع فاخترعوا لهم موسيقى مبنية على المطاوعة ليسدوا مجاعة إنشادهم المركب الفقير

وما أطول ما أقوله عن جهل للموسيقى الغربية فأنني قد ألفتها منذ كنت طفلاً وقد ألقت أناملي طويلاً استنطاق أوتار عودي العربي فأنا أفهم الأنغام التي قسمها الفارابي كما أفهم موسيقى موزار وبيتهوفن بل وموسيقى باغ أيضاً. ويمكنني أن أؤكد لكم أن الفن الغربي على ما بذل فيه من جهود لا يرتكز على أساس من الموسيقى الطبيعية التي تتجلى بكل روعتها في الإنشاد العربي المنفرد. ولو أن رجال الفن عندنا أدركوا هذه الحقيقة وانصرفوا إلى شرقية موسيقانا على أساسها دون أن يستهويهم ما يتوهمونه رائعاً في الموسيقى الغربية لكانوا ينتزعون من الطبيعة أروع موسيقاها ولكن أكثرهم كمن لديه ثروة يطبق خزانته عليها ليذهب مستجدياً من الغريب كسرات تتخمه ولا تسد جوعه

لعلني بعد هذا البيان الموجز تمكنت من إقناع مناظري الكريم

ص: 20

أولاً: إن العرب عندما رقوا العلوم ونشروها وأوجدوا أهمها، إنما عملوا بعقليتهم الشرقية العربية. وإننا لسنا بحاجة لتقليد الغربيين في أسلوب تفكيرهم لنجاريهم في مضمار العلوم.

ومن العرب اليوم في أوربا وأميركا ومصر وسائر الأقطار العربية علماء في كل فن يفتخر العالم بأسره غربه وشرقه بسعة اطلاعهم وعبقريتهم وما بلغ هؤلاء الأعلام مقامهم إلا بعقليتهم العربية

ثانياً: إن العلوم الوضعية مشاع بين البشر جميعهم فليس على الأرض سلالة خصها الله بالعلن دون سواها

ثالثاً: إن لكل شعب، فطرته وهي ميزة خاصة في الذوق واختصاص في فهم الحياة والتمتع بها، وإن كل أمة تستبدل ثقافة غريبة بثقافتها إنما تؤلم فطرتها وتميت شخصيتها

رابعاً: إن الأخذ بالعلم عن أي شعب لا يستلزم مطلقاٌ اقتباس طرق حياته في الأسرة والمجتمع وتقليد ذوقه وسكناته وحركاته فأن العرب عندما احتضنوا العلوم الاستقرائية عن اليونان لم يأخذوا الفطرة اليونانية ولا ذوقها ولا معتقداتها كما أن أوربا عندما تلقت هذه العلوم عن العرب لم تتعرب بل بقي فيها كل شعب محتفظاً بثقافته. هذا فضلاً عن أن في الغرب ثقافات قد يراها من يحدجها من بعيد على شيء من التقارب غير أن من يدرسها عن كثب ليدهشه ما بينها من فروق تتناول صميم الذوق والعقيدة والشعور، فأي هذه الثقافات يشار على الشرق بأن يتبع وهل يظن المناظر الكريم أن تجربة التقليد شيء جديد لم يتضح لنا زيغه بعد. أفلا نرى في كل بلد من هذا الشرق العربي عدداً من المتفرنسين والمتألمنين والمتأكلزين والمتروسين الخ خرجوا عن الثقافة العربية وامتنع عليهم أن يتصفوا بالثقافات التي استهوتهم فأصبحوا لا للغرب يعرفهم ولا للشرق يعترف بانتمائهم إليه.

وهنالك ظاهرة غريبة نشأت من هذا التقليد وهي النعرة التي استحكمت بين هؤلاء المقلدين وهم أبناء البلد الواحد؛ فأنك لن تجد متفرنساً يمكنه الاتفاق مع متألمن أو سواه من المستغربين

كل إنسان يجبن أمام الحوادث في حياته فيلين لها حوافزه وفطرته إنما هو شخصية تائهة فقدت ذاتها، إنما هو الشبح الباكي، والحي المستجبي؛ ولقد تلمع إحداق مثل هذا الإنسان

ص: 21

بالظفر والمجد، ولكن أنوار السعادة تبقى منطفئة في عينيه، ونحن كأمة لا قبل لنا بأن نتحكم في هذا الناموس الثابت لأن فطرتنا مقدورة علينا كامنة فينا؛ كل أمة تحيا على غير ما تسوقها فطرتها إليها فهي أمة باكية بدموع صامتة، هي أمة مستضعفة مستعبدة لا معنى لحياتها ولا سعادة لها فيها

إن شعوب الشرق العربي مسؤولة أمام تاريخها بالمحافظة على ثقافتها وإحيائها والأخذ بما وضع لها وحي أنبيائها وإلهام عباقرتها لتجديد حضارتها، وإن كانت مدنية الغرب الحديثة؛ ترى الارتقاء يقوم على العلم وحده، على الاستقراء دون الاستلهام فأن للشرق العربي المستحفز للوثوب دستوراً يتضمن الحكمة علمته وفي العمل بها العظمة الحقيقية لكل إنسان ولكل شعب وهي:

أعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، واعمل لدنياك كأنك لا تموت أبداً

فليكس فارس

ص: 22

‌للأدب والتاريخ

مصطفى صادق الرافعي

1880 -

1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 29 -

(مضى الأستاذ سيد قطب فيما سماه الموازنة بين الرافعي والعقاد على نهجه وطريقته؛ وقد آثرت الصمت رعاية لما بيني وبينه من صلات الود، وأغضيت في سبيل ذلك عن أشياء تنالني من قريب أو من بعيد. . .

(ولقد كان حرصي منذ بدأت هذا التاريخ أن أكون مؤرخاً وحسب، مجرداً من هوي الصاحب وميل الصديق؛ فما كان من حسنات الرافعي أو عيوبه فقد رويته على ما رأيته، إذ كان حق الأدب على أكثر من حقه. فلما كانت أولى مقالات الأستاذ قطب، هممت أن أقول شيئاً فخشيت. . .

وخشيت أن يكون لي في الدفاع حماسة توقظ هواي وحبي للرافعي فتغلبني عاطفتي على روح التجرد الذي أحرص عليه حتى أفرغ من هذا التاريخ. . . وكفاني الأستاذ شاكر هذه المئونة حين انتدب لتزييف هذا النقد

(ولكن الأستاذ قطب استمر مسرفا في التجني، ومضى يقول. . . ويقول. . . ويتهمني في النهاية بأنني انحرفت عن منهج المؤرخ، وكنت عنده شبيها بمن يجلس في المأتم ويرمي الناس بالحجارة. . . وعفا الله عنه. . .!

(فأن كان هذا هو كل عذر الأستاذ قطب من تمزيق أكفان الموتى بأظفاره فقد بلغ وأبلغ، وسيذكر عذره هذا غداً فيما يؤثر من لطيف الأعذار، ولكنه لن يبلغ من القوة أن يمحو التاريخ الذي كان، وإن ساءه وأحفظه أن ينسب هذا التاريخ إلى صاحبه الذي يحاول أن يدفع عنه أو يدفع به. . .)

(العريان)

عود على بدء

ص: 23

لم تكن الكتابة عند الرافعي فكرة ومعنى وعاطفة فحسب؛ بل كانت إلى ذلك فناً وأسلوباً وصناعة، والأدب العربي منذ كان إلى أن يطوى تاريخه بين دفتين، هو فكر وبيان، ما بد من اجتماع هاتين المزيتين فيه ليكون أدباً يستحق الخلود. ذلك كان رأي الرافعي ومذهبه؛ فمن ذلك لم يكن يعتبر المقالة وقد انتظمت في خاطره معنى وفكرة، مقالةً تستحق أن تكتب وتنشر إلا أن يهيئ لها الثوب الأنيق الذي تظهر به لقرائها؛ وهذه هي المرحلة الأخيرة

وأول ما يعنيه في ذلك هو بدء الموضوع وخاتمته؛ لست أعني العبارة التي يبدأ بها والتي يختم، ولكني أعني طريقة البدء والختام في الموضوع. شأنه في ذلك شأن القاص: تجتمع له أسباب القصة بمقدماتها وحوادثها وما آلت إليه، مرتبة ترتيب الحادثة بما بدأت وبما انتهت؛ حتى إذا أراد أن يحكيها لمن يسمع أو يكتبها لمن يقرأ، قدم وأخر، وأظهر وأخفى، وبدأ القصة بما لم تبدأ، ليعقد (العقدة) ويرصد للحل والنفس مستشرفة إليه متطلعة إلى خاتمته. . . وكذلك كان الرافعي يفعل في مقالاته

. . . فإذا عقد العقدة ورتب موضوعه ترتيب الفصول في الرواية، آن أوان الأداء فأخذ له أهبته، فيطوي وريقاته ساعة، ليرجع إلى كتاب أي كتاب من كتب العربية يقرأ منه صفحات كما تتفق، لإمام من أئمة البيان العربي، فيعيش وقتاً ما قبل أن يكتب في بيئة عربية فصيحة اللسان. وخير ما يقرأ في هذا الباب، كتابات الجاحظ وأبن المقفع، أو كتاب الأغاني لأبي الفرج

وسألته في ذلك فقال: (نحن يا بني نعيش في جو عامي لا يعرف العربية، ما يتحدث به الناس وما ينشئ كتاب الصحف في ذلك سواء، واللسان العربي هنا في هذه الكتب. إنها هي البادية لمن يطلب اللغة في هذا الزمان، بعد ما فسد لسان الحضر والبادية. . .)

على أنه كان لا يفيد من هذه القراءة اليسيرة قبيل الكتابة إلا الجو البياني فقط. أما حروف اللغة، وأما أساليب اللغة فلم تكن تعنيه في شيء؛ فيقرأ عجلان غير متلبث كما يطالع صحيفة يومية، حتى يفرغ من الفصل الذي بدأ؛ ثم يطوي الكتاب ويستعد للإملاء

وإذا كان كثير من الكتاب تزعجهم الحركة والضوضاء وتعوقهم عن الاستمرار في الكتابة، فأن الرافعي كان - على ما في أذنيه - يزعجه أن يمر النسيم على صفحة خده. . . كان مكتبه إلى جانب باب الشرفة، وكان له نضد صغير إلى جانب مكتبه حيث أجلس ليملي

ص: 24

علي؛ فكان يلذني أحياناً والجو حار أن أفتح باب الشرفة لأتروح، فلا تكاد تهب نسمة بجانبه حتى يكف. وعرفت عادته هذه فكنت أغلق الشرفة والنافذة معاً، لأصلي حر الغرفة أربع ساعات أو يزيد حتى يفرغ من إملائه. وكان يؤذيني من ذلك أنني كثير التدخين؛ والحر والمجهود العصبي يزيدان الرغبة فيه، فلا يمضي ساعتان منذ بدأنا حتى يفسد جو الغرفة، فأفتح الشرفة برهة لتجديد الهواء نتبادل فيها الحديث ثم أعود فأغلقها ليملي علي. . . على أنه في غير وقت الكتابة كان يحب أن يقضي في الهواء الطلق أكثر وقته، حتى في برد الشتاء القارس؛ فكان إذا فرغ من إملائه خرج إلى الشرفة البحرية يفتح صدره للهواء يعبه عبا كما يقبل الشارب الحران على الماء في يوم قائظ. . .

ولم أكن أقاطعه حين يملي علي مقاطعة ما، إلا حين أشعر أنه يهم بالانتقال في الموضوع من فصل إلى فصل، فألقي إليه ما أريد أن أقوله مكتوباً في ورقة، لأحاوره في عبارة أو لأستوضحه معنى. . . ثم يعود إلى إملائه وأنا أكتب صامتاً وهو لا يرفع عينيه إلي. . . كأنما يتحدث من وراء ستار إلى سامع غير منظور، أو كأنه في نجوى خاصة ليس فيها سامع ولا مجيب. ولقد كان يخيل إلي أحياناً وأنا صامت في مجلسي والقلم يجري في يدي على الصحيفة وأذني مرهفة للسمع - كأنه في شبه غيبوبة يتحدث إلى نفسه والمجلس خال إلا منه، فما أنا فيه بشيء إلا إدراكاً غير مجسد. وأحياناً أخرى كانت تتسع روحه وتنبسط حتى تشملني، فما اكتب كلاماً يمليه علي، ولكن تمليه نفسي على نفسي وإن صوته ليرن في أذني بما سبق إليه خاطري.

ولم يكن يملي مسترسلا، ولم يكن يملي وانياً متمهلا، ولم يكن في كل أحواله سواء؛ فحينا يطاوعه القول، وحيناً يتأبى عليه فيسكت وهو يدق على المكتب بحديدة في يده ويغمغم بصوت لا يبين؛ فإذا طال عليه الأرتاج تناول كتاباً أي كتاب على مكتبه، فيفتحه فيقرأ كلمة أو سطراً أو جملة؛ ثم يطوي الكتاب ويعود إلى الإملاء. ولقد يراه من يراه في هذا الوقت فيحسبه يملي مما يقرأ وما به ذاك، ولكنها كانت لازمة من لوازمه تعودها حين يرتج عليه وتعود أن يجد فيها مفتاح القول. . .

ولقد أرتج عليه مرة فطال به الصمت، فمد يده إلى كتاب على مكتبه وهو يقول ضاحكاً: يا أخي، لقد تعودتها وما أجد لها علة، وتعودت بها أن أجد ما أريد عن أول كلمة أقرئها ولو

ص: 25

كان الكتاب معجماً لغويا. . .) وكان الكتاب الذي مد إليه يده هو (القاموس المحيط)، قلت:(إن في بعض الأشياء مثل المفاتيح العصبية. . .) قال: (صه، هذه هي الكلمة التي أريدها: المفاتيح العصبية. . .) ثم طوى الكتاب وعاد إلى الإملاء

وكانت له عناية واحتفال بموسيقية القول، حتى ليقف عند بعض الجمل من إنشائه برهة طويلة يحرك بها لسانه حتى يبلغ بها سمعه الباطن، ثم لا يجد لها موقعاً من نفسه فيردها وما بها من عيب، ليبدل بها جملة تكون أكثر رنيناً وموسيقى. وكان له ذوق خاص في اختيار كلماته يحسه القارئ في جملة ما يقرأ من منشآته، ولكني كنت أجد الإحساس به في نفسي عند كل كلمة وهو يملي علي. هذا الذوق الفني الذي اختص به، هو الذي هيأه إلى أن يفهم القرآن ويعرف سر إعجازه في كل آية وكل كلمة من آية وكل حرف من كلمة. وحسب القارئ أن يعود إلى تفسير الرافعي لقوله تعالى:(ولقد راودته التي هو في بيتها عن نفسه. . .) ليرى نموذجاً من هذا الذوق الفني العجيب في فهم اللفظ ودلالة المعنى، يقابله وجه آخر من هذا الذوق في اختيار ألفاظه عند الإنشاء. وكان إلمامه بمتن اللغة، وإحاطته بأساليب العربية، ومعرفته بالفروق اللغوية في مترادف الكلام - معينة له عوناً كبيراً من البلوغ بعبارته هذا المبلغ من البيان الرفيع. احتاج مرة أن يعبر عن معنى في أسلوب من أسلوبه، فأرتج عليه، فأخذ يغمغم برهة وأنا منصت إليه؛ فإذا هو يقرأ لنفسه من ذاكرته باباً من كتاب المخصص لابن سيده ثم دعا بالكتاب فأخرجته إليه؛ فما هو إلا أن فتحه حتى وقع على مراده، فطوى الكتاب وعاد إلى إملائه. . . وهو على صحة عبارته وسلامتها قلما كان يلجأ إلى معجم من المعاجم ليبحث عن كلمة أو معنى كلمة. ومع حرصه على أن يكون قوي العبارة عربي الديباجة قلما كان يستعمل عبارة من عبارات الأولين. وكم أجد على العربية من أساليبه ومعانيه. وكان له في إنشاء (الكناية) إحساس دقيق. وأحسب لو أن واحداً من أهل البيان أراد أن يتتبع ما أجد الرافعي على العربية من أساليب القول، لأخرج قاموساً من التعبير الجميل يعجز عن أن يجد مثله لكاتب من كتاب العربية الأولين؛ إذ كان مذهب الرافعي في الكتابة هو أن يعطي العربية أكبر قسط من المعاني ويضيف ثروة جديدة إلى اللغة، وقد بلغ ما أراد. إنني لم أعرف كاتباً غير الرافعي يجهد جهده في الكتابة أو يحمل من همها ما يحمل؛ وما أعرفه حاول مرة واحدة أن يسخر من

ص: 26

قرائه أو يشعوذ عليهم ليملأ فراغاً من صحيفته يراد أن يمتلئ. على أنه أحياناً كانت تدعوه دواع إلى كتابة لم يتهيأ لموضوعها أو يفرغ لها باله، فيمليها على عجل بلا إعداد ولا توليد، ولكنك مع ذلك تجد عليها طابع الرافعي وشخصيته، فتعرف كاتبها وإن لم يذيلها باسمه. والعجيب أن هذا النوع من المقالات التي كان الرافعي يكتبها بلا إعداد ولا احتفال كان أحب إلى كثير من القراء، وكان الرافعي يرتفع به عن منزلته درجات عند طائفة من القراء. . .

والشاي أو القهوة هما كل المنبهات العصبية التي يطلبها الرافعي عندما يكتب، وفنجانة أو اثنتان هما حسبه في هذا المجلس الطويل. وعلى أنه في أخريات أيامه قد ولع بتدخين الكركرة (الشيشة) فأنه لم يكن يدخن إلا دخينة (سيجارة) أو دخينتين في مجلس الكتابة؛ فكان يشتري العلبة فتظل في درج مكتبه شهراً إذا لم يزره في مكتبه شهراً إذا لم يزره في مكتبه زائر. . .

. . . فإذا فرغ الرافعي من إملاء مقاله، تناوله مني فطواه قبل أن يقرأه، ثم يودعه درج مكتبه إلى الصباح ويخرج إلى الشرفة يشم نسيم المساء. . . ثم يأوي إلى فراشه. . .

وأول عمله في الصباح بعد صلاة الفجر أن يعود إلى المقال الذي أملاه علي في الليل فيقرأه ويصححه. . . ثم يسعى به ساعيه إلى حيث ينشر. . . ويفرغ يوماً لنفسه قبل أن يهيئ فكرة لموضوع جديد. . .

مقالة. . . هي عمل الفكر، وكد الذهن، وجهد الأعصاب وحديث النفس في أسبوع كامل؛ ولكنها مقالة. . . ومع ذلك فقد أنشأ كتاب (رسائل الأحزان) في بضعة وعشرين يوماً، وكتب (حديث القمر) في أربعين، وكتب (السحاب الأحمر) في شهرين. . . وقال قائل من خصومه:(إنه يقاسي في هذه (الكتابة) ما تقاسي الأم من آلام الوضع. . .!) وقال الرافعي يجيبه: (أتحداك أن تأتي بمثلها أو بفصل من مثلها. . . وعلى نفقات القابلة والطبيبة متى ولدت بسلامة الله!)

(شبرا)

محمد سعيد العريان

ص: 27

‌صحيفة أدب وأخلاق

عطفة القاياتي

للأستاذ حسن القاياتي

عطفة القاياتي فيما نتشهى ونتوسل، و (وعطفة الآلايلي) فيما تسمى ولا نحب، تلك عطفتنا العتيدة، قائمة حيث يحتضنها (باب زويلة) عند ملتقاه بالسكرية، فهي على يسرى المقبل من حي الحسين بن علي، الذاهب إلى (باب زويلة)

عن يساري إذا دخلت من البا

ب وإن كنت خارجاً عن يميني

تلك (عطفة الألايلي) في بهرتها دارنا القديمة الصغيرة (دار القاياتي): مسلك ضنك ملتو كمجرى النفس وجحر الأفعى؛ أشد من عرين الليث ظلمة ورهبة، وأضيق مسلكاً من لهاة الليث

يتصدر العطفة ربع قديم عادي البنية، ترحل عنه أهلوه من قدمه وخلوقته فهو خلاء قفر قام حرباً على المجتازين خشية التزلزل والتهادي.

أجل أيها الربع الذي خف آهله

لقد بلغت فيك النوى ما تحاوله

ربع معطل خلاء، عطل من الغيد والصباحة، لا يطل اليوم من شرفاته ولا نوافذه الحسن، ولا تشرف كعهدها ربات الدل.

فنوافذه الخالية الساجية كالعيون الثاكلة المفجعة لا يشرف منها الحب ولا تطلع الفتنة

يناوح هذا الربع المعطل بيت واهن متهالك، طالما تهدم وابتنى، وابتنى فتهدم، أحوالاً وأفانين حتى انتسخ البيت الأصيل وأعيد خلقاً آخر بالترقيع، فهو البيت وليس هو البيت كما قيل في طيلسان ابن حرب:

بقى الرفو وانقضى الطيلسان،

لكثرة عرضه على الرفو والرفاء

يسلم عطفتنا هذا الربع إلى ربع ثان يسايره أعرق منه في البلى والخلوقة يملك حيزها الأكبر؛ شهدت بالأمس قطانه من الطبقة الدنيا المبتئسة يترحلون عنه خشية التداعي ويتناشدون بكاء على العطفة أو بكاء على الربع وعطفه

ما ربع ميَّة معموراً يطيف به

غيلان أبهى رباً من ربعها الخرب

ثم تتسلسل يمنة ويسرة ومنازل العطفة بعد هذين الربعين بيتاً بيتاً فتشاكل هي كما تشاكل

ص: 29

أهلوها وهناً وضعة. وناهيك ساكنو الربوع حتى تشافه بيتنا الصغير فإذا هو معها كما قيل للعبادي: أي حماريك شر؟ قال: هذا ثم هذا. تشابهت هذه البيوت في الرثاثة والزراية حتى لتحسبها من التشابه بيتاً واحداً مردد الصورة، أو تحسب كل بيت منها إيطاء مع جاره وصاحبه، وليس في الحارة كلها بيت للقصيد.

وعلى هذا الذي نصف تمضي فتتصل الطليعة الأولى من حارتنا حتى تفضي إلى منزل قائم تبلغك هذه الكلمة حديثاً عنه: منزل يتصدر كأنما تختتم به العطفة أو تسد، ولكنها تستمر فتطرد بعده؛ بيد أنها تتشعب إلى شعبتين، تأخذ إحداهما ذات اليمين والثانية ذات الشمال كما تبسط ذراعيك للعناق!

تبارك الله ما أشرف وأنبل! ما شهدنا كهذه العطفة عطفة زهراء سامية ولا قطان عطفة جلهم بل كلهم من الطبقة الدنيا المتواضعة الوادعة، (إسكاف) إلى جانب (كناس) و (نجار) لدى (أديب)، وما إلى هؤلاء. أجل، لقد تنجب الحارات ولا كمن أنجبت حارتنا من (عزام) الإسكاف و (موسى) الزبال و (كريمة) النجار و (السيد) الشاعر

وما شر الثلاثة أمَّ عمرو

بصاحبك الذي لا تصبحينا

تلك حلية السكان في عطفتنا. ألست تشهدهم أيها القارئ ملء النفس، فكيف ظنك بزميلك الشاعر الفحل وقد خرج على هذا الملأ في وجاهته وزينته؟ أليس يزدهيك منه أنه أظهر أهل الحي نبلاً وأبينهم وجاهة؟

لم أر شيئاً حسناً

منذ دخلت اليمنا

فيا شقاء بلدة

أجمل من فيها أنا

ليس هذا وحده مما يشق على النفس والبصر فقد انتحى قاصية من العطفة حمام عتيق ومستوقد حمام سالت عليهما (الصحة) عجلات ومركبات تحمل القمامة ذهابا وجيئة، حتى إذا التقت مركب في مسالكها بمركب غصت بهما حلاقم العطفة وسد متنفس الطريق فقل في حبسة بل غصة صادعة كغصة الماء لا يسيغها الماء!

لو بغير الماء حلقي شرِق

كنت كالغصان بالماء اعتصاري

إذا راح سدنة حمامنا أو اغتدوا عليه يحملون قدور (الفول المدمس) المنتفخة السوداء فقل في أشباه الحلاليف تحمل الحلاليف!!

ص: 30

أنا أبن الذي لا ننْزل الدهرَ قدرُه

وإن نزلت يوماً فسوف تعود

ترى الناس أفواجاً إلى ضوء ناره

فمنهم قيام حولها وقعود

على أننا وإن تناولنا قدور (الفول المدمس) بهذه الدعابة فما نتغمد لها فضيلة ولا نغض من قدر، تلك أسوة البائسين بالسراة ومائدة المفلوكين معاً والمالكين، على حالة من المدنية شحيحة مناعة ليس لنا فيها طعام ابن جدعان ولا جفنة آل المحلق

نفى الذل عن آل المحلق جفنة

كجابيةِ السَّيْح العراقي تَفهَقُ

لقد رمتنا هذه الحضارة والمدنية بمأدبات ومطاعم باخلة جل ما تتسمح به قدور وصحاف قدرتها الصناعة تقديراً فهي دقيقة زهراء كالدراهم والدنانير، غالية كأنما تطبخ فيها الدراهم والدنانير:

رأيت قدور الناس سوداً من الصّلَي

وقدر الرقاشيين زهراء كالبدر

إذا ما تنادوا للرحيل سعى بها

أمامهم الحوليُّ من ولد الذر

يعصف بنا مستوقد الحمام عصفته ويهب إعصاره، فحسبك أن تتعرف أن الله إنما أجرى الهواء طلقاً ليشتمه الناس غيرنا نسيما عليلا وحياة ولا نتجرعه نحن إلا حرقة أو غلة، فهو زفرة حرى أو تنهد. طالما أظلتنا غاشية كثيفة هوجاء من دخان هذا المستوقد بل جبل النار يظلم لها يومنا الطلق الأضحيان حتى ليخيل إلينا أن يومنا قد رغب عن لونه الأبيض الوضاح، أو كأنما صيغت لنا خاصة شمس سوداء تقد من أديم الليل!!

أما وقع العجلات من مركبات (الصحة) زائرات المستوقد لا في الفينات والفترات بل في اليوم الأطول والليل الأليل فإنما يكون على أشده إذا تحين الأديب لخواطره الشعرية ساعة من فترة الأحياء وهدأة الحياة!!

يميناً لقد عشت هذا الزمن الحفيل لا أتفهم كلمة المعري في شعر (ابن هانئ الأندلسي) حيث يقول: (ما أشبه شعر ابن هانئ إلا برحى تطحن القرون) حتى إذا رصفت عطفتنا بالحجر وتخطرت عليها مركبات الصحة، أيقنت إنما نحن في مطحن للقرون

هذا بعد أن رصفت العطفة بالحجر، أما قبل ذلك فقد كانت تستهل علينا السماء في الشتوة شآبيب كأنما تخرقت بها السماء حتى تتوحل الأرض فأكثر مشية السكان إذ ذاك مشية المقيد في الوحل

ص: 31

عليَّ وإلا ما بكاءُ الغمائم

وفىَّ وإلا فيم نوحَ الحمائم؟

حمام السكرية وناهيك: حمام صحب الزمن حتى تحدث به التاريخ وظل ماثلا حتى زرناه، أنقسم بنصفين فهو حمامان، قسم للجنس النشيط له باب من السكرية، وقسم للجنس اللطيف الدخلة إليه من عطفتنا؛ بيد أن شطره الجميل قد عطل عندنا من العمل فعطل الحي من الحسن

كانت تبتكر إلى حمام السكرية هذا أسراب من الغيد الفواتن بل زهرات الصباحة من كل رشيقة القد نفاثة العينين بالسحر، فيلتقي لأجلهن عنده فصائل من عبدة الحسن رواد الغزل قوامها شباب من الطبقة الدنيا، فما شاء الحسن، لا، بل ما شاء الفحش من كلمة غزل حارة أو قالة عوراء تنظر إلي نظرة خائنة أو تجميشة باليد، ثم ما شاء الشغب والفتنة من تهاتر وإلحاد في الحسن. فكم صريع هناك في معترك الغزل والجدل بأعين الفتيات الساحرات وأيدي (الفتوات)

فتية تلك للشغب والشر خليقة بهذه الكلمة الفكهة من زميلنا الأستاذ علي شوقي قال:

(وملطعين) على الطريق تراهم

يتحرشون برائح أو غادي

فئة تقول لها إذا حييتها:

يا معشر السفهاء والأوغاد

إن للغزل في مصر كلها مغاني ومواقف غراء مشهورة، منها حمام السكرية. فأن عد العرب من مغاني صبابتهم ومآلف غزلهم بانة الوعساء والرقمتين، عددنا المحملين وبين النهدين، أو تذاكروا (نجدا)(وسفح زرود)، فخرنا (بالمحمدي) و (أبي السعود)،

أفدى ظباء فلاة ما عرفن بها

مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب

ولا برزن من الحمام مائلة

أوراكهن صقيلات العراقيب

حسن الحضارة مجلوب بتطرية

وفي البداوة حسن غير مجلوب

لم يكن للعطفة فيما سلف عهد بالنور فكانت الحوذية والمكارون يربطون حميرهم ومركباتهم في جنبتيها، فإذا أقبل الداخل إلى أهله في الظلمة لم يرعه إلا صدمة من مركبة مسندة أو رمحة من حمار مرتبط

أنا أعمي وصاحب القوم أعمى

فدعونا في ظلمة نتصادم

فإذا هو دامي الجبين، دامي الفؤاد من شجى ولوعة

ص: 32

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى

حتى يراق على جوانبه الدم

زَيّن لنا هذا بل زين لنا حسن الجِدَّ ولا نكذب الله، أن نكتب إلى ولاة الأمر في طلب النور، ونمى إلينا حديث ذلك الكاتب الكبير الذي طلب إليه أن يكتب رسالة إلي وليّ أمر في طلب النور للمساجد فارتج عليه ولم يدر كيف يكتب، فبينما هو نائم جاءه إبليس فقال له أكتب: إن في النور أنساً للسابلة ونفياً للريب والوحشة عن بيوت الله. فبدا لنا أن نساجل هذا الكاتب ونساير أسلوبه هذا في استجداء النور لعطفتنا وبيوتنا لا لبيت الله، وهممنا بأن أكتب هذه الكلمة على طرازه الإبليسي؛ بيد أنني قَنَيْت الحياء فلم أكتب وليتني كتبت:

أيتها الوزارة الأريحية:

نحن أهل (عطفة الألايلي) في ظلمة مطبقة، المشتكي إلى الله منها ثم إليك، فهل أنت متسمحة فمحسنة إلينا بخطرة من النور ولمحة من الضوء فان في النور تنويهاً بمواقف الغزل عندنا والصبابة، وأنساً لمآلف الصبوة، وهداية لمواقع القبلات والنظرات فلا يجمل أن يسلم الجمال ومناغاته إلى الظلمة وحيرة الموقف وإلى مثل كلمة الشاعر:

وبان بارق ذاك الثغر يوضح لي

مواقع اللثم في داج من الظلم

على أن في النور عدا هاتيك الخلال النذير، من رمح الحمير، والنجاة من المركبات.

فلما استجابت الوزارة لهذه الضراعة والتخشع بعد أن كتبنا إليها - ولكن في غير هذه اللغة - استجابت لنا بمصباحين ضئيلين فاتري اللمح باهتي اللون كان العهد بالنور قبلهما أن تتحلل الظلمة تحته، ولكنه نور افتر من (بارق ذاك الثغر) يتحلل تحت الظلمة

أما صرعى الكلاب والهررة الأليفة المفدَّاة وما إليها من الفيران وبنات عرس فما تطوي لها جثة من جنبات العطفة وأقطارها ولا تكتم رائحة وإنما تحشر في بطون الهوام والطير وتصعد معها أرواح الساكنين من صرعى الجراثيم والعلل

ستقبرني الطير كيلا أكون

سواءً وأمواتهم في الرجم

ليست صناديق القمامة التي ترصدها الوزارة في الطرقات والميادين إلا صورة كاذبة مختالة للنظافة كأنما تدفع بها عن العاصمة معرة النقص من القادرين أو تكف أو بها لذعة العيون والَحدَق على فرط القذر والدمامة، كما تعلق تميمة القروية البلهاء الغريرة على محيّا وليدتها الدميمة خيفة العين

ص: 33

ليس لدينا شيء معجب بحمد الله بل كل ما تباشره العين مما يشق على النفس والبصر، سوي مدرسة أولية وسبيل أثري تحت المدرسة يتصدران العطفة. أما المدرسة فتحمل إلينا من ذكر العلم والتربية ما يندى على الكبد الحرَّى برداً وروحا؛ وأما السبيل فان يكن عطل آنفاً حتى ما يبض بقطرة ماء في طاعة المدنية والوقاية فهو يذكرنا بإحسان أسلافنا الأولين وبرَّهم كالمحيا الفاتن شيَّع عهد الصبا والفتنة وغيض منه ماء الحسن ربما أذكرك بتقاسيمه أيام كان يشرق بماء الحسن والفتنة

تبتكر الشمس فيبتكر معها قطعان من الباعة والصناع من صائح بالبامية والقلقاس، إلى مبيض النحاس، فينعقون بسلعهم المتعارفة تناهق الحمر فيمنعون القائلة الشهية يومهم الأطول، حتى إذا تمشت الشمس إلى المغيب، خلفتهم فصائل أخرى من الطراز الساخر تدق الدفوف، وتضرب بالكفوف، ثم تتغنى بكل ما تتغنى به الإذاعة العامة، فهم إذاعة متنقلة ليس يدري المستمع إليهم: أباعة هم يتغنون، أم مغنون يبيعون؟!

طال ليلي وبتْ كالمجنون

واعترتني الهموم بالماطرون

هذا بعض ما نلقي في عطفتنا وفي دارنا، إلى أطفال من نشء الغوغاء والسوقيين، لهم عدة التراب كثرة، في خسة التراب، مباءة أمراض، ومسيل أقذار، وخريجو شغب وقحة، ونبت تشرد وجهل، كأنما عوض أهلوهم بكثرتهم ما افتقدوا من عزة العلم والجلال

يا فراخ المزابل

ونتاج الأراذل

اسمعوا لا سمعتمو

غير زور وباطل

نشء من الغوغاء لهم على ضؤولة الجراثيم فتك الجراثيم، تفتك بالعلات ويفتكون بالعلات والجهالات

أليست هذه الطفولة العابثة اللاهية هي الطفولة العاطلة المتشردة حذرك النعل بالنعل؟ وإذا كان يجمل بالدولة أن تحمل نشء الأمة على العلم والثقافة بسيف الإكراه القانوني فليس بمستنكر عليها أن تحمل هذا النشء على حذق الصناعات والفنون بالإكراه القانوني، ولئن كان العلم سبيل العيش والحياة، فإن الصناعات والعمل عيش وحياة

(البقية في العدد القادم)

حسن القاياتي

ص: 34

‌بين العقاد والرافعي

العقاد

للأستاذ سيد قطب

- 7 -

عاد الأستاذ شاكر إلى خلته التي تركناه لها، وتركناه من أجلها، وما أحسبه ولا الأدب بمفيدين من هذه الخلة شيئا، ما احسبني ولا رأيي بخاسرين بها كذلك. فليقل إذن، ما دام القول هكذا يريحه - وإنا لنبغي له الراحة إن شاء الله - ولسواه!

أما أنا فعلى منهاجي في تقسيم الموضوع سأسير، فان أتى الأستاذ بشيء، غير ما يحلو له أن يفرط علينا به، فسأجعل ختام حديثي عن العقاد نقاشا له فيه، كما صنعت في ختام حديثي عن الرافعي، وهذا آخر ما نستطيع أن نكرم الأستاذ به

وأما الأستاذ (الطنطاوي) فأنا أكرم (دمشق) وجيرتها أن أكسب خصومته إذا أنا شئت الجد في وصف كلمته، ووضعتها حيث ينبغي وضعها من الأدب والرأي، في مدارج الآداب والآراء. ولعني بصمتي عنها أكون قد شئت له أفضل مما شاء لنفسه. وليسأل في ذلك (المتقدمين من نقدة الأدب) الذين يقف عند آرائهم

سيد قطب

من الناس من يقف عند ظواهر الأشياء والآراء، كما يقف الميزان من الموزونات، لا يميز بين أنواعها، ولكن يميز بين كثافاتها. وهؤلاء هم (الشكليون) في إحساسهم وأحكامهم، وهم والميزان الميت الجامد سواء

وفي مثل هؤلاء يقول العقاد، مصدراً عن (طبع قوى يخلق المبادئ الخلقية، ويختار ما يناسبه، ويرفض مالا يرتاح إليه، ولو تواضع الناس عليه) كما قلت في أول كلمة:

إنا نريد إذا ما الظلم حاق بنا

عدلَ الأناسيَّ لا عدلَ الموازين

عدلُ الموازين ظلم حين تنصبها

على المساواة بين الحرّ والدون

ما فرَّقت كفة الميزان أو عدلتْ

بين الحليَّ وأحجار الطواحين

هؤلاء العادلون - على طريقة الموازين - يقولون: إن للعقاد مدرسة، وللرافعي مدرسة؛

ص: 36

ولكل من المدرستين تلاميذ وأنصار، فمن الغلو إذن أن ينكر أنصار إحدى المدرستين طريقة الأخرى، وأن يقسوا في نقدها والزراية عليها

ومن هؤلاء من يقول عنا: (ويكفيه مما مضى في كلامنا وكلامه أن يعلم أنه نزه العقاد ورفعه أرفع درجة، وأننا لم ننزه الرافعي ولم نقل فيه بعض ما يقول هو في الشاعر الكبير صاحبه) يقول هذا وهو يحسب أنه نصب ميزان العدالة الحساس في تورع وتنطس وإحكام

المسألة أيها الناس، ليست هي الاعتقاد في أمر من الأمور، ولكنها قيمة هذا الاعتقاد وحظه من البصيرة، وحقه من الاحترام والبقاء. والمسألة ليست مسألة طريقة خاصة في الأدب أو الرأي - أيا كانت قيمتها - ولكنها حقيقة هذه الطريقة وصلاحيتها للحياة والدوام

فلتكن للرافعيين مدرسة في الأدب، ولتكن عقيدتهم فيها ما تكون، فيبقى بعد ذلك أنني حين أنكرتها عليهم، لم أكتف بإشارات الصم البكم في القبول أو الإنكار، ولكني نقدت ما فيها نقص الحيوية، واستغلاق الطبع، وأتيت على هذا بالأمثلة التي تثبت موت هذه الطريقة، وعجزها عن مسايرة الحياة. وهذا هو مناط الحكم، وهذا هو (عدل الأناسي) الذي يحسب حساباً للكيف والنوع، لا عدل الموازين الذي لا يحفل بغير الكم والوزن

أما قوله أحدهم إنني رفعت صاحبي، ولم يقل هو في صاحبه بعض ما قلت، فلكأننا في معرض مفاخرة على طريقة القدماء، لا يهم فيها الواقع والصدق، إنما يهم فيها الفخر و (النخع)؛ وكأنما الحكاية كلام يقال، ثم لا ينظر ما وراءه من دليل

أنا يا سيدي أقول ما أقول، وأشفعه بالمثال والدليل، فان كان لك قول فلتناقش هذه الأمثلة والأدلة، أو لتأت بغيرها مما يدل على نقيضها. فأما التظاهر بالتورع والتنطس! فقد يدل على غير العدالة النفسية التي لا تحفل الظواهر والشكليات، متى قام لها من حقيقة الموضوع ما يدعمها ويقنع بها

ولعل الذين يعدلون - عدل الموازين - يقنعون بهذا، ويفهمون أن المسألة ليست طريقة وطريقة، ولا رأياً وراياً، وإنما هي قيمة هذا الرأي وتلك الطريقة

ومن الناس من هم عوام في تقديراتهم الاجتماعية، لا تبلغ قداسة الرأي عندهم، ولا دفعة اليقين بأمر من الأمور، أن يتغلبوا بهما على ما تواضع العوام عليه من رسميات وشكليات، والموت عند هؤلاء يكفي لأن تطبق فمك عن كل حق، وأن تضم شفتيك عن كل رأي، ولو

ص: 37

وجدت مناسباته ودواعيه

وفي هؤلاء يقول العقاد متعالياً على القيود الاجتماعية العامية:

أرى في جلال الموت إن كان صادقاً

جلالة حق لا جلالة باطل

فلا تجعلن الموت حجة كاذب

لمدحة مذموم ورفعة سافل

ومع تعديل في كلمتي (مذموم وسافل) تنطبق الحالة على ما نحن فيه اليوم من حديث عن الرافعي ونقده وأدبه. فما دام الرافعي قد مات، فيجب حينئذ أن يقول أنصاره عنه ما يقولون فلا نتعرض لتزييف مدائحهم فيه؛ ثم لا يكتفون بهذا بل يقولون عن خصومه ما يقولون فلا نتعرض كذلك لشيء مما يقولون! أليس الرافعي قد مات؟ فلئن كان الموت هكذا فليبطلن إذن عمل التاريخ، وعمل النقد، ولتتحطم مقاييس الرأي ومعايير الأدب، وليكونن الموت (امتيازاً) من الامتيازات التي يلوذ بها كل مخطئ وكل متخلف!

والحمد لله أن بنا من الشجاعة ما نواجه به عامية العوام في هذه الاعتقادات، ونصدر به الرأي خالصاً من كل تنطس مصطنع، وتكلف ذميم

ومن الناس من لا رأي له فيما يحس ويرى، أو لا عقيدة له في رأي أو اتجاه، أو لا حماسة له في عقيدة، فهو من هذا يحسب الناس سواه كذلك، ولا يستطيع أن يلمح في عمل من أعمالهم دفعة اليقين، وحماسة الاعتقاد، ولا يفهم إلا أنخلفهم آخرين يدفعونهم ويزجونهم. ذلك أنه ناضب العقيدة، فاتر الحماسة، فقير العاطفة، لا يفهم ما لم يكابد، ولا يتخيل ما لم يحس

وليس عندي لهؤلاء ما أقوله، لأنهم منطقون مع نفوسهم، ومع طبيعة مدرستهم.

ولكني أقول لمن يستطيعون أن يفهموا شيئاً عن دوافع النفوس الإنسانية: إنه لم يكن من الحتم أن انتظر تأذى العقاد مما كتب الأستاذ سعيد لأشعر أنا بالتأذي؛ وأن العقاد ليس صاحب القضية وحده فيما يكتب عن أدبه وردوده، ونقد سواه له، وإنما صاحب القضية هو كل ذي رأي فيها، وكل صاحب عقيدة في الرافعي أو العقاد، وتلك فسحة في (النفس) لا نطمع أن تدركها المدرسة الرافعية. فبحسبها الفسحة في تنميق العبارات وتبخر الكلمات، وتثني الأساليب!

ثم نأخذ في الحديث عن العقاد تكملة لحديث البارحة، وتدليلاً على ما أوردنا من نظريات

ص: 38

مجملة، فيما يصب في نفس العقاد من ثقافات عالمية، وما ينضح به أدبه من هذه الثقافات، وما تخلقه طبيعته خلقاً من اتجاهات، تبدو فيها آثار الثقافة البصيرة، مما يحتم على دراسة - بله ناقده - الإلمام بالمعارف الإنسانية العامة، فوق فسحة في الضمير، وتوفز في الشعور. . يقول العقاد

بك خف الجناح يأيها الطي

ر وما كنت بالجناح تخف

لطف روح أعار جنبيك ريشا

فمن الروح من الريش لطف

فتحس هنا لطف الإحساس، ونفوذ البصيرة، ورفرفة الروح الفنية، وهي تتبع القوى الحية الكامنة في روح الطائر، وترى رفرفتها من الداخل، وتحس خفتها ورشاقتها في ماهيتها الأولى، حتى لتعير جانبيه ريشا

وهذه هي ميزة الفنان الحيّ في الشعور بالحياة الباطنة لا بمظاهرها الخارجية وحدها، وفي الالتفات إلى خلجاتها في الضمير، لا في السطوح بمفردها

ولكنك خليق أن تجد بجانب هذه النظرة مصداقها من الروح العلمية، فعلم وظائف الأعضاء يقول: إن الوظيفة تخلق العضو. فوظيفة الطيران هي التي خلقت الريش وقبله الجناح

وقد لا يكون الفنان الصادق في حاجة للعلم بهذه النظرية ليقول هذا القول. ولكن المفسر والناقد في حاجة ماسة إليها، ليدركا جمال الخاطرة كاملا، ويستوثقا من صدق الفطرة واضحاً، ولكي لا يخطر لهما أن ينظر إلى الأشكال الخارجية وحدها فيريا الطائر يطير بالجناح، فهذا إذن سبب الطيران!

ودراسة الأحياء هي (العلم) الذي يلذ لذادة (الفن) فالشاعر العظيم لا بد له من قسط منه، لأنه أصيل في طبعه، إذ كانت (الحياة) أجمل ما يلفت نظره وحسه، ويخالج وجدانه وضميره. وأنت واجد في شعر العقاد لفتات شتى إلى دراسة الأحياء علما وفنا. وديوان (هدية الكروان) أحفل دواوينه بهذه الناحية في دراسة الطيور والتطلع إلى الحياة النابضة في ضمائرها وكيانها، وإلى عوامل التفاؤل والاستبشار في عيشها وتصرفانها، مع مزج ذلك بالنظريات الفلسفية منقولة إلى الصورة الفنية. وفي (وحي الأربعين) لفتات كذلك إلى الغرائز والطباع في الأحياء عامة في فصل (تأملات في الحياة) وقد فصلت رأيي فيها في محاضرتي عنه سنة 1934. وكذلك قد حوى (عابر سبيل) كثيراً من هذا.

ص: 39

يقف أمام (الجيبون) في حديقة الحيوان، فتنثال على نفسه الخواطر، وتلمح فيها نظريات علم النفس الحديث، إلى جانب الفلسفة الصوفية، ومزاجهما الإحساس بالحياة النابضة في ضمير هذا (الجيبون)، والآمال المترائية في خياله، والأشواق الفائزة في أحلامه، وهو يقفز ويرقص: وبجانب هذا كله أثر الدراسة لدوران ونظريته:

أيهذا الجيبون أنعم سلاما

يا أبا العبقري والبهلوان

كيف يرضى لك البنون مقاما

مزريا في حديقة الحيوان!

ألعب الآن وانتظر بعد حقبا

ترق في (سلم الرقى) وتعل

كيف لم تصعد السلالم وثبا

أيها الصاعد الذي لا يمل

يا عميد الفنون صبراً ومهلا

وارض حظ الهتاف والتهليل

مرحباً مرحباً وأهلا وسهلا

والهدايا ما بين لب وفول!

انتظر يا صديقي شيئاً فشيئاً

تطبخ القوت كله بيديكا

غير أني أخال ما كان نيئاً

منه أجدى في الحالتين عليكا

انتظر يا صديق مليون عام

أو ملايين لست والله أدري

إن تدانيت بعدها من مقامي

فقصارى المطاف أن لست تدري!

واصطبر إن عناك نثر ونظم

سوف تتلو نثراً وتنظم شعراً

وغدا يطفر الخيال ويسمو

والذراعان لا تطيقان طفراً

وإذا ما درست أوزان رقص

بعد لأى فالرقص فيك انطباع

هل تنال الكمال من بعد نقص

إن أقلتك فكرة لا ذراع

انتظر سوف تفهم الشيء باسم

بعد رسم وغابر بعد حال

فإذا ما طلبت باطن فهم

يا صديقي طلبت أي محال

ولا تقف الإشارة إلى نظرية النشوء والارتقاء في هذه القطعة - بجانب الإحساس الفني فيها - عند ظاهرها الذي يعلمه كل من سمع بها؛ فالمقاطع من الرابع إلى الثامن تدل على فهم تام لها وهي تشير إلى أن الطبيعة لا تسرف في المواهب، فهي حين تمنح موهبة تسلب ما كان يقوم مقامها. فهذا الجيبون حينما يطفر خياله في المستقبل فالذراعان لا تطيقان طفراً، وحينما تقله الفكرة ستخذله الذراع. ثم هناك بيان لمدارج الرقى بين الإنسان

ص: 40

والحيوان، فهذا يفهم الشيء برسمه، وذلك يفهمه باسمه، وهذا يتذكر الحاضر وحده، بينما ذلك يتذكر الغابر ويستعيده، ثم فيها الإقرار بالعجز الإنساني أمام الغيب المجهول، والسخرية بالمعرفة الإنسانية القاصرة، فقصارى الجيبون حين يصل إلى مرتبة الإنسان أن يعرف الأشياء بالأسماء ويتذكر ما فات وأن تقله الفكرة لا الذراع ويطفر خياله ويسمو

فإذا ما طلبت باطن فهم

يا صديقي طلبت أي محال!

أو:

إن تدانيت بعدها من مقامي

فقصارى المطاف أن لست تدري!

وهناك الإيمان بالغريزة والإعجاب بطابعها الخالص:

وإذا ما درست أوزان رقص

بعد لأي، فالرقص فيك انطباع!

والنيء أجدى من المطبوخ في حالتي هذا الجيوب الصديق. وهناك بعد هذا كله ذلك التعاطف بين الحي والحي، والشعور بالآصرة التي تربطهما، واستعراض الآمال والأشواق في أبي العبقري والبهلوان!

وللقصيدة بقية تنحو هذه المناحي

وهذه قطعة واحدة من شعر العقاد، تزدحم بكل هذه الدراسات واللفتات، وذلك بعض ما عنيناه برحابة نفسه، وتوفر شعوره، وصدق فطرته؛ وذلك مالا يعني المدرسة الرافعية، لأنها مشغولة عن مثله بمآرب أخرى في تطريز الأساليب وتوشية التعبير واستعارة الحكم والأقوال المأثورة

ولعل في هذا رداً على (المتقدمين من نقد الأدب) الذين يرون المعاني ملقاة على قارعة الطريق. . .! وقد تكون كذلك ولكن ليس كل من يمر بالطريق مفتوح العينين ليراها ويدرك ما فيها من جمال وتعبير عن حقيقة ثمينة؛ حتى لا يكون أمامه بعد هذا إلا أن ينصرف لتجويد الأسلوب. وهاهو ذا (الجيبون) في حديقة الحيوان يمر عليه الرائح والغادي، ويراه الرافعيون كلما زاروا الحدائق. ولكن العقاد وحده هو الذي يقف أمامه ملتفتاً هذه اللفتات، لأن في نفسه ذخيرة ينفق منها، وحياة يفيضها على ما يراه؛ وتلك ميزته عمن عداه

(حلوان)

ص: 41

سيد قطب

ص: 42

‌كلمة أخرى على الهامش

أهذا نقد؟ أهذا كلام؟

للأستاذ علي الطنطاوي

أنا رجل له عمله الذي يملأ يومه، ونهجه الذي يدير حياته، وليس من عمله ولا في منهجه الدخول في هذه المناظرة التي يقوم سوقها بين الأستاذ الكاتب الفحل محمود شاكر، وبين الأستاذ سيد قطب. وأنا رجل عرف شاكراً وعرف الرافعي العظيم رحمه الله، وغدا لطول ما قرأ لهما ووثق بهما يقبل كل ما جاءا به. ولكني لم أعرف الأستاذ قطب قبل اليوم ولم أعلم له وجوداً، فهو عندي كاتب جديد أرى اسمه للوهلة الأولى فلا أضعه في منزلة من نفسي، ولا أجدني من قرائه، ولا أعلم لآرائه من القيمة والخطر ما يدفعني إلى مناقشتها. فلا شأن لي في هذه المناظرة، وليس عليّ خوض غمارها، ولكن ما قرأته للسيد قطب في هذا العدد الأخير (255) حفزني إلى سوق هذه الكلمة أسأل فيها: أهذا نقد؟ أهذا كلام؟

لقد تعلمت (وعلمت تلاميذي) أن النقد يستند إلى دعامتين: دعامة من اللغة وعلومها - نحوها وصرفها وبيانها - يعرف بها خطأ الكلام من صوابه، ودعامة من الذوق يعرف بها جماله من قبحه. أي إن النقد (علم) حين يدور على الخطأ والصواب، و (فنّ) حين يبحث عن الجمال. أما (فنَّ النقد) فلا يمكن الجدال فيه لأن أداته الذوق، والذوق شيء شخصي ومداره على الجمال، والجمال لا يتبع قاعدة، ولا يعرف له مقياس. فإذا قال سيد قطب: إن هذا البيت من أبيات الرافعي قبيح، كان معنى قوله أن هذا البيت لا يوافق المثل الأعلى الذي أتصوره أنا في الشعر. وإذن يحق لغيره أن يقول له: بل هو جميل عندي. (أما علم النقد) الذي يستند إلى علوم اللغة فالجدال فيه ممكن بل واجب، والحق فيه معروف ظاهر، لأن لهذه العلوم قواعد وأسساً، فما قام عليها فهو صواب، وما حاد عنها فهو خطأ. . .

فلننظر بعد هذا في نقد الأستاذ قطب بيت الرافعي رضي الله عنه:

إن الظلام الذي يجلوك يا قمر

له صباح متى تدركه أخفاكا

حين يقول: (والحب الذي هو ظلام لا يحتاج للتعليق، فما يوجد حب في الدنيا تظلم به الأرواح، ولكن الرافعي هكذا يقول). . .

فهل في الدنيا قارئ يفهم أساليب العرب يذهب إلى أن المراد من هذا البيت تقرير أن

ص: 43

الحب ظلام؟ وهل يدل هذا على فهم صاحبه ووقوفه على علم البيان العربي وسنن العرب في كلامها؟ إن صغار الطلبة يعرفون من دروس البلاغة أن هذا (تمثيل) يراد منه تشبيه صورة كاملة بصورة كاملة ووضع إحداهما مكان الأخرى على الأسلوب المجازي المعروف؛ ولا يمكن أن ينفك جزء من أجزاء هذه الصورة عن جزء. ومعنى هذا البيت: أن الحب الذي يجعلك مثل القمر، ملء ناظري وملء الدنيا، لا بد أن تكون له نهاية، شأن كل حب في الدنيا، كالليل يبدو فيه القمر مجلواً وضاء، ولكن الصباح الذي لا بد منه يخفى هذا القمر ويمحوه

وفي الكتاب المدرسي المقرر في مصر لطلاب السنة الرابعة الثانوية ما يكفي العلم به لتجنب الوقوع في هذا الخطأ الذي وقع فيه الأستاذ سيد قطب. ومن أمثلته أن تقول لمن يقصر في عمله ويرقب (العلاوة): إنك لا تجني من الشوك العنب. فهل يصح لرجل أن يسخر مثلما سخر، وأن يقول هذا خطأ لأن العلاوة ليست عنباً؟ ولا دخل للعنب في هذه المسألة. . . أو تقول لتلميذ قصر في الاجتهاد: الصيف ضيعت اللبن. فهل يجوز لناقد من طراز سيد قطب أن يقول له: هذا خطأ لأن الدراسة تكون في الشتاء لا في الصيف، وأنه ليس في مقرر الصف لبن؟

أهذا نقد؟ أهذا كلام؟

ومثله انتقاد سيد قطب تشبيه الرافعي رضي الله عنه الليل والنهار بشقي المقص (المجتمعين تحت مسمار الشمس)، ورده عليه بأن (الرافعي على باله أن الليل والنهار من الظواهر الأزلية العميقة. وأن بناءها هكذا عمل سرمدي دائم من بدء الخليقة إلى نهايتها) وإنهما ليسا شقي مقص

برافو سيد قطب! لقد كشفت أميركا؟

وما قولك بتشبيه شوقي الشفتين بشقي مقص من عقيق. ألم يخطر على باله إن الشفتين ليستا شقي مقص وإنما هما شفتان؟ والمجاز كله؟ ألم يخطر على بال أصحابه أن له حقيقة قد صرفوه عنها ببراعتهم وحدة أذهانهم؟ أنهدم المجاز كله يا سيد قطب؟

أهذا نقد؟ أهدأ كلام؟

إن الذي يجب الآن على الأستاذ شاكر وجوباً لا هوادة فيه، هو ألا يخط في هذه المناظرة

ص: 44

حرفاً بعد اليوم. كلا. ما هذه مناظرة، ولا هذا مناظر! ولا أدب الرافعي بيت من الورق لينهار من نفخة؛ إن أدبه قصر من الصخر، سيبقى بقاء الدهر!

(دمشق)

علي الطنطاوي

ص: 45

‌ليلى المريضة في العراق

للدكتور زكي مبارك

بقية المقال العشرين

- ظمياء

- عيوني

- أترينني أحسنت الدفاع عن نفسي؟

- بعض الإحسان

- وأنا مكتف بذلك، فما هي التهمة الثالثة؟

- ليلى تتهمك بالخداع

- وكيف؟

- لا تدري كيف وأنت أعظم مخادع؟

- آمنت بالله وكفرت بالحب، أفصحي يا بلهاء

- اسمي ظمياء

- أفصحي يا ظمياء

- رأتك ليلى تقول في كتاب (الموازنة بين الشعراء) أن الدمع في عين العاشق كالسم في ناب الثعبان، ثم شرحت رأيك فقلت أن العاشق يخدر محبوبته بالدمع كما يخدر الثعبان فريسته بالسم. وتقول ليلى إن هذا هو السبب في ألا تخلو قصيدة من قصائدك أو رسالة من رسائلك أو كلمة من كلماتك من ذكر الدموع. ولك كتابه اسمه (مدامع العشاق) وأنت في كل يوم تقول:(أكتب والدمع في عيني) أو تقول: (ودعت أحبابي بقلب خافق، ودمع دافق) أو تقول (غسلوني بدموعي يوم أموت) أو تقول: (أن ملوحة الدمع أشهى مذاقاً من الشهد) ولك من أمثال هذه التعابير عشرات أو مئات أو ألوف، فأنت بشهادتك على نفسك مخادع عظيم

- ظمياء، هذا دمعي، فكيف ترين؟

- هو السم في ناب الثعبان، وسنخلع أنيابك فلا تقول انك ثقبت لؤلؤة في بغداد

- أنت جاهلة يا ظمياء، وليلى أجهل، فما تعرف ولا تعرفين أن عرض بغداد هو عرضي، وأن عرائس بغداد هن أخواتي وبناتي. لا تعرف ليلى ولا تعرفين أن كل مكان في بغداد

ص: 46

هو عندي محراب، وحيثما توجهت فثم وجه التاريخ، وأهل العراق هم في أنفسنا حماة الأدب في العصر القديم وأنصار الأدب في العصر الحديث

والمصريّ في العراق يرى وجه مصر في كل مكان: يراه في المدارس والمعاهد والمكاتب والملاهي والملاعب والأغاني والأناشيد، وجرائد مصر ومجلات مصر تقرأ في بلادكم وكأنها عراقية لا مصرية، فثقي يا ظمياء بوفائي وثقي بأدبي فسأحفظ ما طوقتم به عنقي من جميل

وقد نظرت فرأيت صحبة العراق كانت خيراً لكل من تشرف بها من أهل مصر؛ وما عاش مصري سنة واحدة في العراق إلا أصبح وفي دمه ذخيرة من النار والحديد؛ وما رآكم مصري واستطاع أن يذكركم بسوء في سر أو علانية

فماذا تريد ليلى أن تصنع معي يا ظمياء؟

ماذا تريد ليلى؟ ماذا تريد؟

إذا كان دمعي شاهداً على خداعي، فأين أجد الشاهد على وفائي؟

إن النساك يتقربون إلى أربابهم بالمدامع، فكيف لا يتقرب العشاق إلي أحبابهم بالمدامع؟

أواه من مصيري في هوى ليلاي!

سأرجع إلى وطني وأهلي مصدوع القلب مفطور الفؤاد وستعيش ليلى بعافية، وستنسى طبيبها الوفيّ الأمين

وكذلك كان حالي في كل أرض. كنت أغرس العافية في الأرواح والقلوب، وما عرفني إنسان إلا تحوَّل من غيّ إلى رشد، أو من هدى إلى ضلال. كنت أذيع الشرك في قلوب الموحدين، وأذيع التوحيد في صدور المشركين، كنت مَلَكا، وكنت شيطاناً، ثم أصبحت وأنا مجرد من سماحة الملائكة وسفاهة الشياطين

أدبتني ليلى، وبلائي في ذلك التأديب. أحبك يا ليلى وأهواك

- وتحبني أيضاً يا دكتور؟

- وأحبك أيضاً يا ظمياء، وأحب كل مخلوق في العراق حتى القيظ والزوابع والأعاصير. أحب البلد الطيب الذي أرهف قلمي، وصقل وجداني، واستطعت بفضل الله وبفضله أن أقنع أهلي في مصر بأن لي قلباً يعرف معاني الشوق والوفاء

ص: 47

- دكتور

- ظمياء

- لقد أحسنت الدفاع عن نفسك في هذه التهم الثلاث، ولكن هناك تهمة رابعة لن تستطيع لها دفعاً، لأنها في خلقتك والخلقة لا تغيير لها ولا تبديل

- فهمت، فهمت. إن الجرائد المصرية تصورني دميم الوجه ولا ينبغي يا ظمياء تصديق كل ما تنشر الجرائد

- لا، لا، إن ليلى تراك أجمل مخلوق، ولكنها تقول إنك أخضر العينين، وهنا وجه الخطر، فالعيون الخُضر تهتاج الثعابين، وما رأى ثعبان إنساناً أخضر العينين إلا أغتاظ وأهتاج واستعد للقتال

- ومن أجل هذا تثور عليّ هذه الرقطاء؟؟ اسمعي أيتها الطفلة. اسمعي. اسمعي. إني ورثت خضرة العينين عن أمي، سقي قبرها الغيث، وأمي ورثت خضرة العينين عن جدتي، وكانت تركية الأصل، فعمن ورثت ليلى سواد عينيها؟ اسمعي يا ظمياء، لقد أطلقت التودد إلى أهل العراق، وسأصارحهم اليوم بحقيقة لم يتنبه إليها أحد سواي. ليس في العراق كله طرف كحيل إلا وهو مسروق من عيون الظباء، وجيرتكم للصحراء هي التي مكنتكم من هذا الانتهاب الفظيع، ولكن هذه السرقة لن تطول، فسيأتي يوم قريب أو بعيد يشتد فيه ساعد (عصبة الأمم) المقيمة في جنيف ثم تحول بينكم وبين انتهاب السواد من عيون الظباء

اخرجي يا ظمياء، ولا ترجعي إليّ بعد اليوم، فهذ آخر العهد

خرجت ظمياء محزونة وهي تعتقد أن ليلى جانية وأن العراق كله قد وقع سرقة دولية حين انتهب السواد من عيون الظباء

وبقيت أنا في كروبي وأشجاني، فأنا في سريرة نفسي أعتقد أن الظباء هي التي سرقت سواد العيون من أهل العراق، وقد عاش العراق كريما في جميع عهود التاريخ، فمن حنين غوانيه عرف الحمام كيف يسجع، ومن صيال أبطاله عرف الدهر كيف يصول

ولكن كيف أصحح خطأي فأسترد ليلى واسترجع ظمياء؟

كيف؟ كيف؟

ص: 48

إن ليلى لن ترجع بسهولة لأنها عراقية، والعراق مفطور على العناد

أحبك يا ليلى، أحبك يا روحي، واشتهي أن أخاصرك مرة ثانية ضوء القمر وفي سكون الليل. أحب أن أسامرك مرة ثانية تحت النجوم في مطلع حزيران قبل أن أرجع إلى مصر وطن الجفاء والعقوق

أحبك يا ليلى وأحب ذلك الطبع المتقلب الذي لا يستقر على حال أحب أن أنشدك مرة ثانية قول الشاعر احمد رامي:

يا من أخذت فؤادي

أخذ العدو الحبيب

قلبي لديك فقل لي

ما حاله في القلوب

أحب أن أصرخ مرة ثانية، أحب أن أصرخ صرخة الوجد في رحاب الكاظمية.

أحب أن أفتق بصراخي قلبك الأغلف وأذنك الصماء

أحب وأحب، ولكن أين السبيل إلى قلبك الظلوم!

طال شقائي بهجر ليلى، فماذا أصنع؟

إن بغداد تحقد عليّ ويسرها أن يطول في حب ليلى عذابي فأين شفعائي إلى ليلاي؟ أين لا أين؟

الحمد لله والحب! هذا خاطر لطيف قد ينفع بعض النفع، إن ليلى لها في الموصل بنات خالات، وبنات الخالات يقدرن على ما يعجز عنه أبناء الأعمام والأخوال، فلأمض إلى الموصل لأشكو إلى ظبياته جروحي وآلامي

إلى الموصل، إلى الموصل

إلى الموصل الجميل أمتطي قطار الصباح بين اليأس والرجاء

- 21 -

طال بلائي بغضب ليلاي، وتهدم ما كنا رفعنا من صروح الأماني، وأمسى الحزن يصهر قلبي كلما تمثلت أطياف تلك الصروح

وطال حنيني إلى كلمة كانت تقولها ليلى في لحظات الصفاء، وهي كلمة (تعال) فكنت أهوى إلى صدرها كما يهوى الطفل إلى صدر أمه الرءوم، وما كان أدبي يسمح بأن أقترح شيئاً على ليلاي وإنما كنت أنتظر عطفها في صمت كما ينتظر العشب جود السحاب

ص: 49

وكنت خدعتها فزعمت أن تقاليد الأدب في فرنسا تقضي بأن يقبل الرجل يد المرأة، وقد انخدعت فكنت أقبل يديها في كل لقاء؛ ولكني مع ذلك حفظت وقاري فلم أكن أقبل يديها في السهرة الطويلة أكثر من سبعين مرة

وقد حملني الطيش في إحدى الليالي على أن أقترح تقبيل خديها فرفضت

وعند ذلك أنشدت:

يا غزالاً لي إليه

شافع من مقلتيه

والذي أجللت خدي

هـ فقبلت يديه

أنا ضيف وجزاء الضي

ف إحسان إليه

فقالت بعد تمنع: أقبلك أنا

فقلت: وما الفرق يا روحي؟

فقالت: القبلة منك حب، والقبلة مني عطف

فقلت: أقبلك قبلة عطف.

فقالت: ابحث عمن يصدق دعواك يا فاجر!

ورضيت بالقليل فقبلتني ليلى قبلة كادت تشوي جبيني.

تلك قبلة العطف فكيف تكون قبلة الحب؟

اشهد أن الله قدر ولطف!

ذلك نعيم ضاع، وما أدري كيف ضاع، فما كانت هفوتي خليقة بأن تصيرني إلى ما صرت إليه من الحرمان، ولكني متى طاب زماني حتى تطيب ليلاي؟

آه من كيد الزمان! وآه من غدر الملاح!

شاع في بغداد أني ذاهب إلى الموصل لأستشفع بالحور العين من قريبات ليلى، فللشقية هناك بنات خالات. وسمع بذلك أخ صادق فقال: خير لك أن تسافر إلى النجف، فهو أقرب من الموصل، وملاح النجف أرق وأظرف، وهن يعطفن على بلواك، وهذا اليوم أصلح الأيام

وسألت عن السبب فعرفت أن أهل النجف يحتفلون بميلاد الرسول في السابع عشر من ربيع الأول، وفي المولد النبوي تزدحم ساحات الحرم الحيدري بالعرائس فأختار من

ص: 50

الشفيعات ما أشاء. . .

وما هي إلا لحظات حتى عبرت الجسر إلى الكرخ، الكرخ الذي كان فيه قمرا بن زريق، والذي سامرت في رحابه قمراً غادراً لا يحفظ العهد، ستفيض مدامعه بالدم يوم يتلفت فلا يراني. وهل كنت إلا طيفاً زار في السَّحَر بساتين الكرخ وبغداد؟

ومن الكرخ ركبت سيارة إلى كربلاء

وفي الطريق مررت على الإسكندرية وكنت مررت عليها في طريقي إلى الحِلة منذ أشهر، ورجَّحت أنها البلدة التي ينسب إليها أبو الفتح الإسكندري في مقامات بديع الزمان؛ ولكني في هذه المرة حاولت أن أعرف مكانها من الماء لأن عيسى بن هشام جعلها من الثغور الأموية، فاهتديت إلى أصلها بعض الاهتداء، وقد أصل إلى جوهر الحقيقة بعد حين

لم أقض في كربلاء غير لحظات، وهي مدينة تحيط بها الخضرة من جميع النواحي، وفيها قتل الحسين كما هو معروف، وللحسين فيها ضريح لم أزره ولكني شهدت قبته العالية، وهي مكسوة بالذهب الوهاج، وفي كربلاء ضريح آخر للعباس أخي الحسين، وهذان الضريحان يفيضان النور على كربلاء، وقتل الحسين كان نعمة على هذه المدينة؛ فقد أصبحت بفضل مرقده من مواسم القلوب

ومن كربلاء أخذت سيارة إلى النجف فأسلمتني إلى صحراء رأيت فيها الضب أول مرة، فتذكرت ما صنع الشعوبية حين وصموا العرب بأكل الضباب واليرابيع، والشعوبية كانوا جماعة من الأدباء لا يعرفون العواقب، وقد زعزعوا ما كان بين العرب والفرس من متين الصلات وسيلقون جزاءهم يوم يقوم الحساب

وأخذت تلك الصحراء تصنع بخيالي ما صنعت البادية بين دمشق وبغداد فكان فيها ألوان من خداع السراب. وبعد ساعة رأيت في الأفق ذهباً يتوهج، فحدقت فيه النظر لحظات ولحظات فرأيته يزداد إشراقاً إلى إشراق. فصح عندي أنه ذهب القبة العالية، قبة ضريح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعطر مثواه

ثم عبرت إلى النجف وادي السلام وهو مقابر طوال عراض عرفت ملايين الناس من سائر الأجناس

وأهل النجف يعتقدون أن من يدفن في وادي السلام لا يسأل في البرزخ، وهو اعتقاد

ص: 51

لطيف، فمن عزاء الإنسانية أن تعتقد أن لها معتصماً من الحساب ولو إلى حين

(للحديث شجون)

زكي مبارك

ص: 52

‌التاريخ في سير أبطاله

ابراهام لنكولن

هدية الأحراج إلى عالم المدنية

للأستاذ محمود الخفيف

يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من

سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . . . . .

- 15 -

واتخذ دوجلاس للأمر عدته، لم يدع وسيلة أو يغفل عن حيلة، أما ابراهام فلم تكن به حاجة إلى ما يحتال به من أساليب التأثير المتكلفة الخادعة، فما هو إلا أن ينصت له الجمع حتى يبتعث اليقين ما قر في نفسه فيحرك به لسانه فإذا هو كالنهر الحادر يفهق بما لا يفتأ يواتيه به المنبع، ويجيش بهذا الفيض ويهدر، ويتدفق لا يصده عن وجهه شيء. . .

وكان لدوجلاس من بعد الصيت ما جعل اسمه ملء الأسماع في طول البلاد وعرضها؛ وكان في رأي الأمريكيين أقدر رجال حزبه وأكثرهم فطنة وأطولهم في السياسة باعاً وأقواهم بمصاعبها اضطلاعاً، بل لقد كان عند الكثيرين من ذوي الرأي أعظم رجال أمريكا كفاية وأعلاهم كعباً وأعزهم مكانة، وكان يلقب (بالمارد الصغير) أن كان له على صغر جرمه وقصر قامته قوة المارد وسلطان المارد ودهاء المارد، وكانت له حيوية غريبة تنقطع دونها حيوية الرجال، وتتقاصر عنها هممهم. والحق لقد كان دوجلاس يومئذ أنبه الناس شأناً وأعزهم نفراً وهو من عهد قريب لم يكن يسمع به أحد خارج الينواس

لذلك كان للناس عجباً أن يطاوله ابراهام وأن يدعوه إلى نزال. وأخذ من لم يكن يعرفه منهم هذا الفعل من جانبه على أنه ضرب من الغرور أو نوع من الغفلة، ولو أنهم عرفوا دخيلة صاحبهم الذي افتتنوا به وتبينوا ما هجس في نفسه من الخواطر إزاء هذا التحدي الجريء لأيقنوا أن جبروت ماردهم وأساليبه ما كانت لتغني عنه شيئاً من هذا العملاق الذي درج من الغاية ليقف أمامه كأنه السنديانة!

ص: 53

وكانت أَتارَا أولى المدن السبع التي اختيرت ميادين لذلك الصراع؛ وقد جاءها الناس ليشهدوا ما لم تقع عليه من قبل أبصارهم أو تتعلق به أوهامهم، وقد أَتَّفِق أن يكون الكلام أول الأمر لدوجلاس فيخطب الجمع ساعة، ثم يعطي من بعده ابراهام ساعة ونصف ساعة؛ ويختتم دوجلاس هذا الدور بعده بحديث يستغرق نصف ساعة

وكان دوجلاس في انتقاله بين المدن في ألينواس يتخذ مركبة فخمة يجرها ستة من كرائم الخيل، وحوله ثلة من الفرسان يتزيد بهم من الهيبة والأبهة؛ وكان إذا دخل مدينة من المدن يقف في مركبته وقد تكلف أكثر ما يطيق من الصرامة فما يكاد يلمحه الناس ويقبلون عليه مصفقين مهللين حتى تنقلب صرامته وسامة فيحيي الجموع بيديه وإيماءاته وابتساماته، ويلتفت لهذا ويهش لذلك كأنه ملك يتدلى من عليائه ليطلع على شعبه، وإذا هو حل بقوم أو سار إليه قوم عرف كيف يوحي إليهم تبجيله والإعجاب به، فهو بين الصلف وخفض الجناح، وبين الاحتشام والتبذل يحيى وجوههم وكبراءهم ويغمرهم بنعمة منه وفضل

أما لنكولن فكان ينتقل بين الناس كأحدهم؛ وكثيراً ما يكون دون بعضهم، فإذا أخذ مكانه في قطار أو في مركبة عامة مزدحمة كان بين ركابها كما كان بين الناس في نيو سالم حين كان يدير الحانوت أو حين كان يوزع البريد يتبسط لهم في القول ويسترسل معهم في شتى الأحاديث، ويقص عليهم من قصصه، وإن له في هذا كله لمتاعاً ولذة لن يحسها إلا من كان له مثل قلبه

والتقى الرجلان في أتاوا؛ واحتشد الناس في الموعد المضروب فضاق بهم مكان الاجتماع؛ وحانت ساعة الكلام، فوثب المارد الصغير إلى موضع مرتفع أطل منه على الناس فتمزقت بالتصفيق أكف أنصاره وتشققت بالهتاف حناجرهم، وهو يرسل نظراته في جنبات المكان ويوزع إيماءاته هناك، وهنا، حتى سكنت ريحهم فبدأ الكلام. . .

وكان يومئذ في الخامسة والأربعين، بادي الفتوة مرموق الشباب يتهلل وجهه لولا كدرة طفيفة هي مما فعلته به ابنة العنقود وسكنى المدن ولكنها كدرة كانت تنقشع حين تلتهب بالحماسة وجنتاه؛ وكان في موقفه بارز الصدر قوي الكتفين تتجه نظرات الإكبار إلى رأسه الضخم فما تلبث أن تلتقي بعينيه الزرقاوين السريعتين فترتد حاسرة كأنما غشيت من ضوء وهاج، وكانت تفتن الأنظار أناقة ملبسه ونظام هندامه، كما كانت تسحرها لفتاته وحركاته

ص: 54

كأنما كانت تقع الأبصار منه على ممثل قدير عرف سبيله إلى قلوب محبيه فهو يحرص ألا ينحرف قيد شعرة عما يشيع في نفوسهم السحر من مظهره. . .

وتكلم دوجلاس فكان في كلامه ثبت الجنان زلق اللسان وكانت له في هذا الاجتماع خطة بالغ في إحكامها وتسديد خطاها، ومؤداها أن يرمي لنكولن والمتشيعين له بأنهم من المتطرفين الذين يريدون حل مسألة العبيد بالقوة، ثم يحمل على بقية رجال الحزب الجمهوري فيرميهم بالتذبذب. . . وراح يخطو في سبيل ذلك خطوات؛ فيتحمس ويعلو بصوته ويكثر من الإشارات، ولكنه كان يسمو بعباراته أحياناً فلا ترقى إليها إفهام الكثيرين؛ على أنه كان له من جاهه ونفوذه وهيبته في قلوب الجماهير عوض عن ذلك، فحسبهم أنهم يستمعون إلى ذلك الذي بات يتحدث باسمه كل إنسان، حسبهم أنهم يستمعون إلى دوجلاس السياسي الأشهر ورجل الثورة العزيز الجانب! وإن في كثير من النفوس البشرية لما يميل بها من غرائزها إلى الخضوع للسلطان والانقياد لكل ما يشير به ولو كان مما هو جدير أن يقابل بالعصيان

وجاء دور ابراهام فطلع على الناس بقامته الطويلة فهتف باسمه أنصاره وتحمسوا له، واتجهت إليه الأنظار وإنه ليبدو كأنما أخذته من الموقف ربكة فليس له تطلع دوجلاس وتحفزه! ونظر الناس إلى شعره الأشعث وإلى ملابسه المتهدلة وخاصة إلى سرواله الذي يقصر عن ساقيه فيكشف عن جزء منهما، وقارنوا دون أن يشعروا بين تلك الملابس وبين حلة دوجلاس الأنيقة فبدت أكثر حقارة مما هي عليه! وكانت تستقر الألحاظ برهة على محياه وقد ازدادت مسحة الهم فيه وضوحا، وبدا عليه ما يشبه المسكنة والانكسار. . ولكن الناس على الرغم من ذلك يرتاحون إلى مظهر ذلك المحيا ويشعرون نحوه بالحب!

ويبدأ الخطيب في صوت أجش تتخلله حشرجة ثقيلة؛ ثم ما هي إلا برهة حتى تنطلق تعسه على سجيتها، فإذا ذلك المحيا يتهلل ويشرق وتشكل أساريره بما يهجس في خاطره، وإذا تلك العينان الواسعتان المتسائلتان تنفثان بسحرهما إلى أعماق القلوب، وإذا الرجل يبدو في هيئة يتقاصر عن وصفها لفظ الجمال. وتتفتح مسالك صوته فينطلق رائقاً له رنين يتشكل حسبما يعبر عنه من المعاني، وكان يعلو صوته إذا تحمس فيدوي في أرجاء المكان

وينساب السيل لا يصده عن وجهه شيء ولا تمشي في صفائه كدرة على تدفقه وجيشانه!

ص: 55

والناس مفتونون وإن هم لم يفطنوا على وجه التحديد إلى سر فتنتهم، فهم مأخوذون بما يسمعون عن أن يفكروا أو يحللوا؛ وإنهم لفي سكرة أشبه بما يجدون أنفسهم فيه عند إصغائهم إلى لحن من تلك الألحان التي تسحر الأنفس وتملك الألباب

تدافعت إلى ذهنه الألفاظ وتزاحمت عليه المعاني وقد أسفرت عن وجوهها ومشت إلى غايتها في غير تحرج أو التواء؛ ولقد برزت في ذلك اليوم مواهبه على أتمها فكان له ما شاء من سهولة اللفظ من بلاغته ودقة المنطق مع سلامته؛ هذا إلى يقين ينفث في قوله الحرارة؛ وتمكن يذيع فيه الروعة؛ وأمثلة يسوقها من الحياة العادية فتستقر في قلوب سامعيه ومعظمهم من عامة الناس ومن وراء ذلك العبقرية التي تستعصي على التحليل وتسمو على التأويل. . .

ونزل لنكولن وله في قلوب السامعين من أنصاره وخصومه مكانة غير ما كان له قبل من مكانته، فلقد استطاع أن يقنعهم، كما استطاع أن يشعرهم بما هو أقوى من الاقتناع وأبعد أثراً ألا وهو الإعجاب؛ وإنهم ليتهامسون بعضهم إلى بعض قائلين: ليت لسادتنا وكبرائنا قلوباً مثل قلب ذلك الرجل. . . مثل قلب أيب الأمين. . .

وتكلم دوجلاس بعد ذلك مسافة نصف ساعة أعلن بعدها أن الاجتماع الثاني سوف يكون في فريبورت

ولقد ارتكب دوجلاس من الخطأ في هذا الاجتماع الأول ما عد عليه أنه أفحش أخطائه في ذلك الجدال؛ وذلك أنه أبرز مكتوباً موقعاً عليه باسم لنكولن يفهم منه أن إبراهام من زعماء المتطرفين؛ ولكن سرعان ما أقام إبراهام في دوره الدليل على أنه زائف وأنه مما جاء فيه براء. وكانت لطمة قوية استخذى لها دوجلاس في سامي منزلته، وفقد بعدها ثقة الكثيرين. . .

وحل موعد الاجتماع الثاني فتسابق الناس إليه أفواجاً وقد اشتهر أمر ذلك الصراع إذ لم تبق صحيفة إلا وقد أسهبت في الحديث عنه؛ وفي هذا الاجتماع طعن لنكولن خصمه تلك الطعنة التي سلفت الإشارة إليها؛ فلقد أعد له سؤالا يلقيه عليه: أإذا أرادت ولاية أن تلغي نظام العبيد فيها فهل هي مستطيعة أن تفعل ذلك دون أي حرج؟ ولقد أنكر عليه أنصاره هذا السؤال إذ لم يفهموا الغرض الذي يرمي إليه منه، وهو يعلم أن دوجلاس سيجيبه: بلى

ص: 56

تستطيع الولاية ذلك. فقال لهم ولكنه بذلك يفقد عطف أنصار مبدأ التمسك بالعبيد من أهل الجنوب فلا يمنحونه أصواتهم إذا هو تطلع للرياسة؛ ولن يضير لنكولن أن يظفر دوجلاس اليوم بمقعد في مجلس الشيوخ

ووجه لنكولن السؤال إلى دوجلاس فأجاب بقوله (نعم تستطيع الولاية أن تفعل ذلك في غير حرج)؛ وفرح لنكولن بتلك الإجابة التي يعلم أنها ستنفر أهل الجنوب منه. ولقد أيدت الأيام رأيه وبرهنت على بعد نظره. ومما قاله لنكولن في ذلك (إن دوجلاس ليتبعه عدد كبير من العميان، وإني أريد أن أجعل بعض هؤلاء يبصرون)

وفي الاجتماعين الثالث والرابع لم يأت كلاهما بشيء جديد؛ وإنما اجتهد لنكولن أن يدفع عن نفسه ما رماه به خصمه من الاتهامات؛ وخرج لنكولن من هذين الاجتماعين وقد أضاف إلى أنصاره أنصاراً جديدين. . .

وفي الخامس من هاتيك الاجتماعات اتخذ لنكولن خطة الهجوم، بعد أن أخذ ينشر خصمه ويطويه في الاجتماعين الماضيين حتى دوَّخه، وكان هجومه تلك المرة شديداً، ضاق به دوجلاس وانخلع عنه مكره؛ عاب عليه إبراهام أنه لا يحفل بالاعتبار الخلقي من مسألة العبيد، مع أن هذا الاعتبار بعد الخروج على اتفاق مسوري، هو السبيل الوحيد الذي يعوَّلُ عليه في منع انتشار العبيد؛ وعلى ذلك يكون دوجلاس داعية إلى أن تصبح مسألة العبيد مسألة قومية عامة لا تحرج منها ولا تأثم فيها. . .

وأحس دوجلاس مهارة الرمية وقوة الإصابة فراح يرد على رمية برمية، وعاد فاتهم لنكولن والحزب الجمهوري أنهم من دعاة الثورة وأنهم يدفعون البلاد إلى الدمار. . .

ولكن لنكولن جعل الاجتماع السادس لتحديد مذهب الحزب الجمهوري فقال في جلاء: إن الجمهوريين هم أولئك الذين يعتبرون نظام العبيد خطأ من النواحي الخلقية والاجتماعية والسياسية؛ ولكنهم يتمسكون بدستور الاتحاد ويسيرون في تحقيق أغراضهم على نهجه؛ أما الذين لا يرون عيباً في نظام العبيد فهم الديمقراطيون؛ وهم ليسوا من الجمهوريين في شيء. . . لذلك ليس من الجمهوريين من لا يعبئون بالدستور في موقفهم من نظام العبيد مهما بلغ من مقتهم لذلك النظام. . .

وحار دوجلاس ماذا يفعل أمام تلك القوة وأمام ذلك الوضوح الذي لا يدع مجالا لمستريب

ص: 57

فأخذ يداجي ويعبث وقد تثعلب بعد ما سبق أن استأسد

وضيق لنكولن عليه الخناق فطلب إليه أن يجيب على هذا السؤال البسيط في غير مداجاة (أيعتبر نظام العبيد صواباً أم خطأ)؟ وازدادت حيرة المارد الصغير وأحس أنه على جبروته يتلوى في قبضة ذلك العملاق وكأنه أمامه جذع من تلك الجذوع التي ما كانت تقوى على فأسه مهما بلغ من متانتها يوم كان يضرب بفأسه في الغابة قبل أن يعرف كيف يضرب بقلمه أو بلسانه

وعجب الناس لهذا الرجل الذي لا يرى نظيره في الرجال، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون: ماذا دهى المارد الصغير؟ وكيف تسنى لابن سبرنجفيلد المتواضع الذي لم يعرف سلطاناً ولا جاهاً أن يأخذ الطريق هكذا على ابن وشنجطون الجبار المدل بماله ومنعته ونفوذه؟

ولكن هاجساً يهجس في ضمائرهم أن للحق سلطاناً دونه كل سلطان، وعزة يستخذى أمامها كل اعتزاز، ومنعة ترتد عنها كل مطاولة؛ وأن الباطل مهما تنمر واستعدى على الحق من أساليب بهتانه وألاعيب مكره، لا يكون منه إلا كما يكون الليل من وجه الصباح. . .

وأدرك الناس أن خير خادم للناس من يدرج من بينهم فيحس إحساسهم، ولا يزال مهما بلغ من سمو منزلته واتساع ثقافته، قادراً أن يشاركهم عواطفهم وألا يضيق بأحلامهم وإن صغرت حتى يتلمس فيها السبيل إلى هديهم وشفاء أنفسهم؛ وأي هذين الرجلين ينطبق ذلك عليه؟ أهو دوجلاس الذي أثرى بغتة بحيلة لم تتطلب منه إلا أن يشتري قطعاً من الأرض بأبخس الأثمان ثم يعمل بنفوذه على أن تتخذ سكة الحديد فيها مجراها فيبيعها بما تمتلئ به خزانته؟ والذي باعد بينه وبين الناس وتكلف مظهراً أرستقراطياً تطرب له نفسه ولا ترتاح إلا له؟ أم هو لنكولن الذي ما برح يأكل من كده والذي ظل في الناس على رجاحة عقله وعلو همته أحد الناس، والذي لا يطيب له العيش إلا إذا استشعرت نفسه آمال الناس وآلامهم، ولا يحلو له السمر إلا حيث يجلس في قوم ارتفعت بينهم وبينه الكلفة وازدادت الألفة مهما يكن من الفوارق العلمية أو الفوارق المدنية؟. . .

تحدث ابراهام مرة يصف دوجلاس فقال: لقد سوته الطبيعة بحيث أن ضربه السوط إذا نزلت على ظهره هو تؤلمه وتؤذيه، بينما هي لا تؤلم ولا تؤذي إذا نزلت على ظهر أي

ص: 58

شخص سواه)؛ وما كان ابراهام مسرفاً في قوله؛ وما نحن بمسرفين إذا قلنا إن إبراهام قد سوته الطبيعة بحيث يحس ضربة السوط على ظهره هو إذا نزلت على ظهر أحد سواه من الناس. . .

(يتبع)

الخفيف

ص: 59

‌الأنباط وأطلال بترا الخالدة

للأستاذ خليل جمعه الطوال

- 3 -

معبد ايزيس

وينتهي السبق أمام معبد عظيم هو في الحقيقة أجمل وأخلد ما في الشرق الأدنى من الآثار النبطية الرومانية الرائعة. وقد حفر - معبد إيزيس - قبيل الفتح الروماني (بقرن ونصف القرن تقريباً) أي بين عام 50 ق. م. و 50 ب. م. وقد كانت بترا إبان ذلك في أوج عظمتها. يبلغ علو هذا المعبد (26) متراً ويتركب من طبقتين (انظر الصورة شكل 2) أما الطبقة السفلى فتتألف من ستة أعمدة رملية ضخمة متوجة بالتيجان الإغريقية الشكل، ومن فوقها جميعاً قوس روماني مثلث غاية في الرونق، والزخرفة، ويقوم المعبد في وسط هذه الأعمدة الهائلة وهو بهو واسع كان يجتمع فيه المتعبدون لإقامة شعائرهم الدينية وإحراق البخور في المجامر الحجرية المحفورة على جدرانه الأربعة، وإلى جانبه غرفتان كبيرتان، وهما للتعبد في الأيام العادية

أما الطبقة العليا فتتألف من ثلاثة هياكل رائعة، تقوم بين أعمدة رملية بديعة، متوجة بالأقواس الرمانية المثلثة، ويدعي الهيكل الأوسط بمزار إيزيس، ولا يزال تمثال إيزيس قائماً في وسطه برونقه وبهائه، وتتوج هذا الهيكل قبة مخروطية الشكل يبلغ علوها ثلاثة أمتار، ويسميها البدو قبة فرعون، أو خزنة فرعون، وهم يعتقدون أن فرعون قد وضع تحتها كنزاً ثميناً، ولذلك فقد شوهوا جمالها بما أطلقوه عليها من الرصاص طمعاً في الحصول على هذا الكنز الموهوم، بهدمها وتحطيمها. ويشتمل القسم العلوي أيضاً على تمثالين آخرين يحيطان بتمثال إيزيس من اليمين والشمال. ومما يدعو إلى الدهشة حقاً محافظة هذا المعبد بتماثيله وأعمدته على رونقه وبهائه طيلة هذه الأحقاب بالرغم من تعرضه لعوامل الطبيعة الهدامة، ولعبث البدو السذج

الملهى الكبير

ويقع في الجهة الغربية من معبد إيزيس - أو الخزنة - وعلى مسافة قصيرة منه، وهو

ص: 60

مدرج كبير يحتوي على (34) صفاً مستديراً، ويتسع لنحو ثلاثة آلاف متفرج. وقد حفر في الصخر الرملي الملون حفراً متقناً في المدة التي تقع بين 40ق. م. و 40ب. م. وهو من الآثار الرمانية العديدة. ويقال إن هذا المدرج كان كسوق عكاظ لا يؤمونه إلا في المواسم الخاصة به

أم الصناديق

تقع في الجهة المقابلة (للملهى الكبير) وهي قبور هائلة الحجم محفورة في جبل رملي كبير على شكل مساكن تتألف من ثلاث طبقات (أنظر شكل 3) عالية تتمثل فيها جميع تطورات الفن البيزنطي العربي، وذلك باختلاف أعمدتها، ونسق ترتيبها، وطريقة حفرها، إذ فيها البسيط الهين، والعظيم الرائع، ويتصل بعضها ببعض بمدارج صغيرة متعددة، وإلى الجهة الشمالية من أمَّ الصناديق مدرج صغير آخر كان يجتمع فيه الناس عند حدوث وفاة أو جنازة. وفي أم الصناديق نقوش ورسوم كثيرة يمثل أحدها فتاة مستلقية على سريرها

قبر التماثيل

وهو بناية هائلة، يبلغ علوها تسعة عشر متراً، تحيط بها أربع أعمدة كبيرة، وفي واجهتها بين الأعمدة ثلاثة تماثيل كبيرة ويقال إن هذا الهيكل الفخم، (وأم التركمانية) التي تقع في طريق الدير هما من القبور الخاصة بالعائلات الملكية والأرستقراطية. ويؤيد هذا النقوش النبطية الكثيرة المحفورة على عتبة التركمانية حفراً بارزاً. (شكل 4). ومن القبور العظيمة:(قبور السريان، وأم الصياغ، والسرايا، والمدحلة) وسنأتي على وصفها جميعها في مقال آخر

قصر فرعون (قصر البنت)

ويقع في وسط الساحة الرومانية العامة (الندوة) ويمتاز عن غيره من الآثار بأنه مبني من الحجارة الكبيرة وليس محفوراً في الصخور كغيره، يبلغ علوه 20 متراً. وقد تداعت أكثر جدارنه؛ ويوجد في وسطه أريكة حجرية، ومقاعد صغيرة كثيرة، وله مدخل كبير واسع تحيط به بعض شجيرات من العرعر. ويقابل هذا القصر مسلتان طويلتان: الأولى على بعد 30 متراً منه، وتعرف بمسلة فرعون، وهي تتألف من تسعة أعمدة، طول العمود الواحد

ص: 61

نحو ثلاثة أمتار تقريباً. والثانية على بعد كيلو متر واحد من الأولى، وهي أطول منها وأضخم، وتدعى (مسلة النصارى). والراجح أن هذه التسمية قد أطلقت عليها خلال عام 460ب. م. في زمن أحد مطارنة اليونان، كما تدل على ذلك الكتابات والنقوش التي عليها (شكل5)

السيق البارد

وهو محطة صغيرة للقوافل النبطية التي تروح وتغدو من الشمال، تقع بين جبل البيداء وثغره، وقد عثر الدكتور نيلسون في هذا السيق على مخطوطات مجرية ذات قيمة فنية في تاريخ الديانة النبطية، إلا أنها - مع الأسف - قد نقلت إلى أوربا فيما نقل من آثار شرق الأردن الثمينة

المذبح الكبير

وهو من أماكن العبادة الرئيسية يقوم على جبل يبلغ علوه 150 متراً، ويصعد إليه بمدرج طويل يزيد على 250 درجة. وهو عبارة عن حضيض محفور في قمة الجبل المنبسطة، عمقه قدم واحد، وطوله ثمانية أمتار، وعرضه ستة أمتار، وتقوم في وسطه حجرة ناشزة كانت هيكلاً للإله (ديشورة)، ويقع المذبح في الجهة الجنوبية من هذا الحضيض، وهو مستدير الشكل، وفي وسطه جرن صغير يتجمع فيه دم الذبيحة ويسيل في قناة صغيرة ضيقة حتى الهيكل. وقد كان الناس يجتمعون على قمة هذا المذبح مرة في كل عام، يقدمون قرابينهم وضحاياهم للآله ديشورة ويتلون أمامه صلواتهم وأدعيتهم الكثيرة، وذلك في طقوس وترتيبات عبادية خاصة

معبد الدير

ويقع في أقصى الآثار من الجهة الشمالية، وهو أعظم أطلال بترا روعة وبهاءً، ودقة وجمالا، وضخامة وعلواً حفر خلال القرن الواقع بين 50ق. م. و 50ب. م. ويبلغ علوه (40) مترا، وعرضه (50) متراً. وهو يتألف من ثلاثة أقسام هي: البهو، والهياكل، والقبة، (انظر شكل 7)، أما البهو فيقع في القسم السفلي منه، طوله (10) أمتار، وعرضه (12) متراً، وارتفاعه (14) متراً، وتزين وجهته الأمامية ثمانية أعمدة إغريقية التيجان، ضخمة

ص: 62

الشكل، يربط بعضها ببعض أقواس جميلة، تقوم بينها طائفة من التماثيل المشوهة، وفوق البهو (الكنيسة) الهياكل الثلاثة وهي تشبه هياكل معبد إيزيس إلاَّ أنها أكبر منها حجماً أما القبة فتتوج الهيكل الأوسط منها، وهي تتألف من قسمين يبلغ علوها معاً تسعة أمتار، ومحراب يناهز هذا العلوَّ أيضاً. وتتسع مساحة القسم الأسفل من القبة لنحو (50) رجلا أو أكثر. وهي ما تزال مشمخرة في الفضاء، ساخرة من عبث الأقدار وكر الحوادث الكبار.

أساطير طريفة

يسكن بترا فريق - عشيرة - من البدو، وقد سلمت إليهم يد الدهر والأقدار أطلال حضارة عريقة، لا عهد لهم بمرئياتها، ولا طاقة لهم على تقليدها؛ فاختلفوا في تعليل تلك القوة الخفية التي شيدت ذلك البنيان العظيم الذي يعجزون عن تقليده، واختلفوا أيضاً في تعليل مصدر تلك القوة الهائلة، فذهبوا لذلك يحيكون حولها مختلف القصص والأساطير، بالشكل الذي يمليه عليهم خيالهم وتصورهم، وبالكيفية التي توائم أذواقهم ومشاربهم فقالوا في موضوع المسلتين:

(لقد كان لفرعون زوجتان، وقد خرجتا ذات يوم بطفليهما إلى الجبل المقابل للملهى، وحدث أن استهانتا بنعمة الله الكبرى على الإنسان، إذ أنهما مسحتا غائط ولديهما بكسرة من الخبز، فعاقبهما الله بأن حولهما إلى مسلتين حجريتين.

أسطورة قصر فرعون

حدثني أحدهم، وقال: (كان لفرعون بنت بلغت سن الزواج، وقد حظر عليها والدها الخروج من القصر؛ وفي ذات يوم أجمعت أمرها على أن تتزوج من الشخص الذي يستطيع أن يجر إلى قصرها ماء أحد الينابيع. فقام لهذه الغاية شخصان، وتمكن كل منهما من جر ماء أحد الينابيع إلى قصرها في وقت واحد ويوم واحد، فسألت الأول: كيف تمكنت من جر الماء إلى قصري في مثل هذه المدة القصيرة؟ فأجاب: بقوتي وبقوة بطانتي وعشيرتي؛ ثم سألت الثاني. فأجاب: بعون الله الذي عضدني وعضد رجالي وجمالي؛ فسرت من جوابه، ودهشت لثقته بعون الله، وتزوجته. وفيما هي تفكر لتجمع عزيمتها على الزواج من أحدهما سقط جناح فراشة في قناة الرجل الأول، فتعطل الماء فيها عن الجريان،

ص: 63

ولم يستطع أحد أن يرجع الماء إلى مجراه، فتيقنت الأميرة أن الله قد قدر هذه الأعجوبة لتكون برهاناً لها على حسن اختيارها للرجل الثاني)

تلكم هي آثارنا، وذلكم هو تاريخنا، تشهد بعظمته هذه الأطلال الخالدة التي شدناها، وليس عاراً على من أهدى إلى المدنية هذه الثروة الكبرى، وأسدى إلى الإنسانية مثل هذه الخدمات الجلى ليس عاراً عليه أن يستريح ريثما يستجم يسترجع نشاطه، فيعيدها كرة عربية، وصرخة عالية تعيد إلى هذه الأطلال نطقها وماضيها

(شرق الأردن)

خليل جمعه الطوال

ص: 64

‌رسالة الشعر

من مشاهد المسرح

قلب راقصة

للأستاذ إبراهيم العريض

في مَسرحٍ للغَرب حي

ثُ الشمسُ تشرِقُ في الليالي

ورِواقُه كالموجِ يزْ

خرُ بالنساءِ وبالرجال

يتضاحكونَ. . . فلا ترى

إلا الكواكب في اشتعال

والبنتُ يجذبُها فتا

ها فهْي تخْطر في اختيال

طوراً هُنا، طَوراً هُنا

كَ، لكل رُكن فيه خال

والكلُ منهم مُشرِقُ ال

وَجنَات محْبُوبُ المثال

وقَفَ الفتى الشرْقِيُّ لَ

كنْ قلبُه في غَيْرِ حال

تحتَ الشُعاع يرى الجُسو

مَ كأَنْها بعض الظلال

ويكادُ يفصح طرفُه

عمَّا يكِنُّ من السؤال

(يا عَينُ حسبك ها هُنا

ما تَنْشُدين من الكمال

تلك الحقيقةُ بينَهم

تنْسابُ في حُلل الجمال

هل ترقُبين بأن يُزا

حَ الستْرُ إلا عن خَيالي)

ومضى يُحدْثُ نفسهُ

لا يستقرُّ بهِ مكانُ

ويرى بناظرهِ مفا

تنَ ظلَّ ينكرُها الجنان

(ما هذه إلا السما

ءُ وتلكَ أنجُمُها - الحِسان

في كل ركْنِ كوكَبٌ

وبكل زاوية قِران)

حتى إذا أزِفَ الدخُو

لُ وطال للجرَسِ الأذان

وتَهلّلَ البَهْوُ العظي

مُ بسرٍّ ما همس البِيانُ

فكأَنّ للأَنغام أشْ

باحاً لها في الرقْصِ شان

هي والصدى أبداً كنا

رٍ يستقلُّ لها دُخان

ص: 65

دخلوا جميعاً صامتي

نَ. . . كأَنَ صمتَهُم بيان

فمشى يُوازنُ خَطْوَهُ

ويميسُ من طرَفَيهِ بان

حتى تخيل أنَّهُ

ملَكٌ وتلك هِيَ الجِنان

وثوى على كُرسِيّهِ

بُهْراً وليس له لسان

وانجابَ ذاك السترُ عن

غَيْداَء ترفُلُ في صِباها

تمشى وئيداً والحرِي

رُ يشِفُّ عن أدنى خُطاها

ملمُومةً كالوردةِ ال

بيضاء في ورَقٍ حواها

حتى إذا وَقفتْ إزاَء ال

خَلقِ يبْهرُهم سناها

نشرَتْ مُلَاءتَها الرقيْ

قَةَ من حواشِيْها يداها

ومضت تُلَوِّحُ باليَدَيْ

نِ كأنها ترعى انتباها

وتدُورُ دَوْرتها فين

عكِسُ الضِّياءُ على حُلاها

كم بالغَتْ في الميْلِ حت

ى كادَ أن يُطْوى قَفاها

ثمّ استوتْ فَوْقَ الأصا

بعِ كالحشائش في رُباها

يهتزُّ منها كلُّ عُضْ

وٍ نِعمةً حتى حشاها

وتهمُّ طوراً أن يُوَا

زِيَ موْضِعُ الإبهَامِ فاها

فترى تَفتُّحَ جِسْمِها

كالأقْحُوانِة في نداها

كانت تمثِّلُ فِتْنَةً

وتثيرُ في الجمهورِ أُخرى

وكأنَّ بينَ ضُلوعِهم

قلباً أبى أن يستقِرّا

يشتَدُّ في الخفقَانِ عن

دَ دُنوِّها حتى تمُرّا

لا، بل يُتابعُ مَوْطِئَ ال

خطُوَاتِ بالأنغامِ تترى

فإذا نأت أضحى بأعْ

يُنِهم يجاهِدُ مُستمرا

حتى يُشاهِدَ من شبا

بِيكِ النواظِرِ ما تتحرى

وكأنها أَلِفَتْ بهذا ال

حالِ منهم فهْيَ سَكرى

تُغرى الشبِيبةَ بالفُتو

نِ ولا تُبالي حينَ تُغرى

وتظلُّ تلعَبُ بالمُلَا

َءةِ حَوْلها طيًّا ونشرا

ص: 66

حتى إذا عطفَتْ قُبَا

لةَ ذلك الشرْقِيِّ صدرا

ألْقَى عليها نظْرَةً

كالطِّفْلِ بل كانت أبَرّا

فتحِسُّ مُهْجَتُها لأوَّ

لِ وَهْلَةٍ بالحبِّ. . . سِرا

بقِيَتْ لقًى مثلَ الفرا

شَةِ في تهافُتِها السريعِ

والناسُ تحسَبُ أنها

بُهِرَتْ من الرَّقْصِ البديع

لما رَأَوْها لا تُح

رِّكُ ساكناً غيرَ الضُّلوع

وعلى سِمَاطِ الصدْرِ فا

كِهتانِ مِلء يدِ الخليع

حتى إذا أبدَتْ فُتو

راً كالذي إثْر الهجوع

وتمايلت طرباً وهمَّتْ

في غِناها بالشروع

ساد السكونُ على الجمو

ع كأَنهم صُوَرُ الخشوع

غنَّتْ غِناَء الأمِّ أوّ

لَ ما تُهوِّدُ للرضيع

فتبُثُّ ما في قلبها

من صورةِ الأمَل الرفيع

أرأيْتَ نورَ الشمس صُب

حاً كيف يؤذِنُ بالطلوع

ومضت تُرجِّعُ باللُحُو

نِ كأَنها طيْرُ الربيع

ظلَّتْ لها الآذانُ تَشْ

رقُ كالنواظر بالدموع

ما أوشكَتْ أن تنْتهي

من نبْرَةٍ يحلُو صداها

إذ رنَّ بالتصفيق ذا

ك البَهْوُ تصفيقاً تناهى

فتلفَّتتْ مُحمرَّةَ ال

خدَّيْنِ من خجلٍ عراها

مضمومة الكفَّيْنِ فوق ال

صدرِ - خائرةً قُواها

مُفترَّةَ الشفَتيْنِ عن

برَدٍ جلا للثْم فاها

فكأَنما معنى الأنُو

ثَةِ قد تجسَّم في رُواها

والكل يهتِفُ أن تُعا

وِدَ فنَّها ويقول: واها

وتساقطتْ باقاتُ زهْ

رٍ حوْلها خَضِلٌ جَناها

فتناولتْ زهَراً ولمَّ

اقرَّبتْهُ إلى لماها

ألْقَتْ بِهِ صَوْبَ الجمو

عِ لمنْ تعلَّقهُ هواها

ص: 67

وإذا بزهرتها يفو

زُ بها. . . أتدري منْ فتاها؟

هُوَ ذلك الشرقِيُّ في

أحضانه عبقَتْ شَذاها

ثمَّ استقَلَّ بها السِّتا

رُ. . . كأنه قبْرٌ حواها

وتألَّقَتْ في البَهْوِ أنْ

وارُ المشاعِلِ في قناها

وتحدَّث الجمهورُ عن

ها ساعةً حتَّى سَلاها

وانفَضَّ ذاك الجمعُ. . . لا

عادت تراهُ ولا يراها

البحرين في 21 مارس سنة 1938

إبراهيم العريض

ص: 68

‌البريد الأدبي

المصريون واللغة النوبية

في الرسالة رقم 254 أخبرنا القراء أن عالماً مصرياً - لا يزال شاباً - هو الأستاذ مراد كمال الدكتور في الفلسفة واللغات السامية من جامعات ألمانية نشر (تاريخ اليهود) لابن كريون باللغة الحبشية

واليوم نشر الدكتور مراد كامل رسالة نفيسة على صغر حجمها في (مجلة الجمعية الألمانية للاستشراق) الصادرة في مدينة ليبتسش من مدن ألمانية (المجلد 91، الجزء الثالث) وموضوع الرسالة (تأثير اللغة العربية في اللغة النوبية) وهي باللغة الألمانية

ويستهل الدكتور كامل بحثه بقوله: (إن عدد الألفاظ العربية التي في اللغة النوبية موضع دهش عظيم، ولا يوازن هذا العدد إلا بعدد الألفاظ العربية التي في اللغة التركية، ذلك أن القسم العربي في اللسان النوبي كبير أيُّ كبر، حتى أن النوبي لا يستطيع أن يؤلف بعض جمل من دون أن يستعمل عدة ألفاظ عربية)

ويرد المؤلف هذا التأثير إلى الصلات التي بين بلاد النوبة ومصر: إما من طريق التجارة الجارية بين هذه البلاد ومدينتي أسوان وقنا، وإما من طريق النوب الراحلين إلى القاهرة خاصة ليعملوا فيها (سفرجية) و (بوابين)، وإما من طريق النوب الذين يطلبون العلم في الأزهر وما أشبهه من المعاهد الدينية حتى إذا رجع القوم إلى بلادهم جلبوا إليها معهم جانباً من اللغة العربية

وبعد هذا التقرير الصحيح يأخذ المؤلف في ثبت الألفاظ العربية التي تطرد في اللغة النوبية مع تبيين التحريف واللحن المتطرقين إليها، ومع إثارة الجدال حول ما يذهب إليه غيره من المستشرقين في الباب نفسه

(ب)

مشروع إنشاء المجمع الأدبي

اجتمعت في وزارة المعارف لجنة تنظيم الحركة الأدبية برياسة معالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا، وبحثت أولاً في مهمة المجمع وفي الوضع القانوني له، ثم درست مسألة

ص: 69

استقلاله بنفسه أو تبعيته لهيئة أخرى، وقد أتجه الرأي في هذه الناحية إلى الأخذ بالوضع الأول

وبعد أن وضع مشروع القانون بتأليف المجمع قرئ على حضرات الأعضاء فأقروا صيغته الأساسية ثم فوضوا إلى معالي الرئيس بحث هذا الموضوع قبل إقرار الوضع النهائي بتأليف المجمع

وقد تضمن هذا المشروع إدراج 5000 جنيه ميزانية سنوية للجنة، منها 1500 جنيه مكافآت للأعضاء بحسبان 150 جنيهاً لكل عضو، و1500 جنيه لخمس جوائز سنوية تمنح إحداها لأحسن قصة تختارها اللجنة، والثانية لأحسن كتاب في الأدب، والثالثة لأحسن كتاب في الشعر، والرابعة لأحسن كتاب في الأدب التمثيلي، والخامسة لخير كتاب أدبي يظهر كل عام في العالم العربي و1200 جنيه لإصدار مجلة و800 جنيه مصروفات أخرى

تاريخ الأدب العربي في مصر الإسلامية

اجتمعت بوزارة المعارف لجنة تاريخ الأدب العربي في مصر الإسلامية التي ذكرنا خبر تأليفها في عدد مضى، برياسة صاحب المعالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف

وقد بدأ معالي الوزير هذا الاجتماع فتحدث عن ضرورة الإلمام بتاريخ الأدب العربي في مصر، وأبان أن هذا واجب وطني كما أنه واجب علمي، وأنه يعتبر بمثابة الحجر الأساسي في بناء القومية المصرية. وبعد بحث الموضوع من مختلف نواحيه تقرر ما يأتي:

أولاً - تأليف لجنة من كبار الباحثين تتولى إعداد فهرس واف بالمراجع التي يركن إليها الباحثون، على أن تبادر بالقيام بعملها لتحقيق الغاية المقصودة من تأليفها.

ثانياً - تنظيم دراسة للأدب العربي في مصر بكلية الآداب بالجامعة المصرية تبدأ بمعالجة العصور الأولى من تاريخ هذا الأدب ثم نتدرج إلى ما يعقبها حتى يمكن في النهاية من كل هذه الدراسات تأليف مجموعة من الكتب تكون موسوعة تامة في تاريخ الأدب العربي المصري

ثالثاً - إثارة همم الشبان المصريين وتوجيه عنايتهم إلى بحث هذا الأدب بوضع جوائز

ص: 70

سنوية قيمتها 500 جنيه توزع على ثلاثة حسب تقدير لجنة التحكيم

وسيصدر في خلال هذا الأسبوع القرار الخاص بدعوة المتسابقين إلى الاشتراك في المسابقة، وقد أتصل بنا أن الوزارة ستشترط في هذه الدعوة أن تكون الإجابة على هذه المسابقة في شكل رسالة جامعية يتوفر فيها التجديد والابتكار

وبهذه المناسبة نذكر أن هذه المسابقة ستكون سنوية في هذا الموضوع إلى أن يتم بعد سنوات وجود مجموعة كبيرة ثمينة من المؤلفات المصرية في هذا البحث الأدبي القومي

شارل موراس في الأكاديمية الفرنسوية

من أنباء باريس أن المسيو شارل موراس انتخب عضواً في الأكاديمية الفرنسوية في الدور الأول بأكثرية 20 صوتاً ضد 12 صوتاً للمسيو فرنان جريج وقد أمتنع أربعة أعضاء عن الاقتراع

والأستاذ موراس في السبعين من عمره وهو من كبار رجال الفكر والأدب في فرنسا بل في العالم، وهو يدير سياسة جريدة (الأكسيون فرانسيز) لسان حال الحزب الملكي مع زميله ليون دوديه منذ ثلاثين سنة وله فيها تلك المقالات السياسية اللاذعة

ولشارل موراس مؤلفات عدة منها: (طريق الجنة) - (ثلاثة أفكار سياسية)(شاتوبريان) - (ميشيلين) - (المستقبل والذكاء) - (تحقيق عن الملكية) - (الموسيقى الداخلية) - (كييل وطنجة) - (رحلة أثينا) - (من ديموس إلى قيصر) وغيرها

وقد أنشأ شارل موراس جماعة أصدقاء (الأكسيون فرانسيز) أي (العمل الفرنسوي) سنة 1899، وهي جماعة أنصار إعادة الملكية إلى فرنسا. وهو صاحب حركة فكرية جديدة تقوم على أن الفكر الإنساني لا يستطيع أن يدرك الأشياء المطلقة. وقد رأت الكنيسة الكاثوليكية من انتشار هذه الحركة ما حملها على توقيع عقوبة الحرمان على صاحبها. وقد اقتبس كثيرون من رجال الدول مبادئ موراس السياسية ولا سيما السنيور سالازار دكتاتور البرتغال الذي يجاهد بذلك فخوراً

الدكتور عبد الوهاب عزام في محطة الإذاعة الفلسطينية

دعت محطة الإذاعة الفلسطينية صديقنا الدكتور عبد الوهاب عزام إلى إلقاء محاضرة عن

ص: 71

شاعر الإسلام المغفور له محمد إقبال الهندي في مساء اليوم الخامس عشر من شهر يونيه، وقد لبى الأستاذ الدعوة وينتظر أن يغادر القاهرة إلى القدس في مساء الغد

مؤتمر الجامعات

اشتركت الجامعة المصرية في مؤتمر الجامعات الذي سيعقد هذا العام ما بين 6 و 10 يوليو سنة 1938 في سويسرا والغرض من هذا المؤتمر تقريب وجهات النظر بين الجامعات المختلفة في العالم وتوثيق روابط الاتحاد والألفة بين الجامعيين في الأقطار المختلفة، والبحث في الحالات الاجتماعية والصحية والفكرية

ولقد انتدبت الجامعة المصرية لتمثيلها في هذا المؤتمر حضرات الدكتور إبراهيم رفعت ومصطفى السعدني وإبراهيم عبده والدكتور علي طراف والدكتور محجوب ثابت. وسيعالج المندوبون المصريون الروح الجامعية في مصر منذ إنشاء الأزهر إلى اليوم من نواحيها المختلفة

جبران والرمزية

قرأت رد الدكتور بشر فارس على ما وجهت إليه من أسئلة عن الغموض في الرمزية، وإنني أشكره على شرحه الموجز لهذه النقطة. إلا أنني أعود فأقرر أن جبران لم يسر على نهج الشاعر الإنجليزي وليم بليك في غموض أشعاره واستغلاق معانيها على القارئ مهما أجهد عقله في فهمها؛ وهذه كتب جبران كلها - وتبلغ قرابة العشرين - يستطيع كل مثقف أن يفهم ما ترمي إليه وما تهدف له وإن كانت ذات رمزية! أو روماتيكية، أو كليهما معاً

وإذا كان الدكتور ينسب طريقة جبران في الرمزية إلى الشاعر الإنجليزي بليك فما أولاه أيضاً أن ينسب كتاب (النبي) الرمزي والرومانتيكي معاً إلى كتاب الفيلسوف الألماني نيتشة (هكذا قال زرادشت!). أما استشهاده بما قال النحات رودان وبما كتبته عنه فنانة أمريكية في مقدمته لكتاب لها (يضم عشرين صورة) فهو مما يؤيد رأينا: في أن رسوم جبران فقط كانت تغلب فيها الرمزية على ما عداها

وأما قوله أن الرمزية تشق الآن طريقاً في الأدب العربي. . . (المستحدث). . . فهذا صحيح ولا يتفق مع قوله أن الرمزية في مصر لم تفهم بعد حق الفهم في طرائقها

ص: 72

وتعبيراتها ووسائلها فكان نتيجة لذلك ما يشكو منه الدكتور من كتابات مضطربة ترمي إلى غير هدف وتسير في غير طريق؛ ولكن الواجب على زعيمي الرمزية في مصر: الدكتور بشر والأستاذ الحكيم أن يضعا عنها كتباً مطولة تكشف عن مناهجها وما يحيط بها وما يندمج فيها من مؤثرات وما تؤثر هي به في الأدب وما تزيده تقدماً وشمولاً وإحاطة. . . لا توطئات مركزة دسمة إن هي أفادت فئة من الأدباء المطلعين على الثقافات الأجنبية إطلاعاً واسعاً فهي لا تكفي مطلقاً ذوي الثقافات المتوسطة من الأدباء، بله عامة القراء

والرمزية - بعد - في الأدب العربي المستحدث في أول الطريق، فالحديث ذو شجون ولازم على من يشقون ويوسعون الطريق لها فيه أن يطيلوا الكلام والإبانة عنها للسالكين!

وما أحرى الدكتور بشر في هذا المقام - إذا تفضل - أن يوالي مجلة الرسالة الغراء بمقالاته الثمينة عن الرمزية يوضح طرائقها ويترجم لزعمائها وقادتها ومدارسها منذ نشأتها إلى الآن توطئة لتأليف رسالة عنها بقلمه الفذ

وإنا لنشكر الدكتور بشر كل الشكر على علمه الغزير، وله منا سلام واحترام وحب

السيد كامل الشرقاوي

صاحب السمو الإمبراطوري ولي عهد إيران والعلم

كتب إلينا أحد الفضلاء من طهران يقول:

في الرابع عشر من الشهر الماضي زار سمو ولي العهد في إيران كلية العلوم العقلية والنقلية من كليات جامعة طهران زيارة رسمية يصحب سموه كبار رجال الحكومة

وكان معالي رئيس الوزراء (محمود جم) وفخامة وزير المعارف (حكمت) وسعادة رئيس الكلية (السيد نصر الله تقوى) والعلماء الأساتذة واقفين في باب الكلية في انتظار سموه

وفي الساعة التاسعة مساء وصل موكب سموه إلى باب الكلية فاستراح قليلاً في غرفة خاصة ثم شرف بعد ذلك الخطابة وفيه كبار أساتذة الكلية وعدة من كبار أساتذة سائر الكليات الخمس الأخرى وعدة من ممثلي الصحف فشرف سموه الحاضرين بالتحية

وقام بين يديه الأستاذ (فروز انفر) معاون الكلية فعرض خلاصة ما قامت به الكلية من الأعمال العلمية فلما فرغ شرف سموه الأساتذة بخطاب حكيم قال فيه: (إن العناية من جلالة

ص: 73

الشاه كبيرة بهذه الكلية والأمل وطيد أن تعيد إيران مقامها الرفيع في العلم وأن تهيئ بهذا المعهد العلمي للعالم أساتذة كأسلافهم من أعلام الفرس المشهورين لتكون أفكارهم وآرائهم خير هاد للأمم

ومن المزايا التي ميزت طلبة هذه الكلية عن طلبة العلوم في العصور السالفة شدة الاهتمام بتربيتهم الجسمية بالرياضة البدنية في جنب تربيتهم النفسية والعقلية

وأن الفرق بين هذا اليوم والأيام السالفة هو أن فضل كل شخص وشرفه من هؤلاء قائمان بمزاياه الروحية من الخلق الحميد والعلم والأدب لا بالكساء الخاص والذهب

وليعلم الطلبة قبل كل شيء أن واجبهم الأول هو محاربة الأوهام والخرافات التي طالما أوهنت قوى هذه الأمة الروحية

من الحسن الجميل أن برنامج هذه الكلية شامل لجميع العلوم من الحكمة والأدب والتشريع والعلوم الرياضية

ويسرني أن أرى السادة الأساتذة باذلين جهودهم في تنوير أفكار الطلبة وصقل عقولهم وتربية نفوسهم ليهيئوا للمستقبل رجالاً يصبحون مصابيح للشعب الفارسي المجيد. ويجب على الأساتذة أن يجدوا غاية الجد حسب طاقاتهم في تعريف هذا المعهد العلمي للشرق كافة، وأن يظهروا للعالم حقائق المعارف الإسلامية السامية التي طالما استترت وراء ستار الأوهام، ونطلب منهم أن يفصلوا لب الروحانية الحقة الإسلامية عن القشور الفاسدة بوسائل العقل والمنطق، وأن يهيئوا كل ذريعة للرقي العقلي والاجتماعي، ويكونوا قدوة صالحة للأمة وسعيهم مشكور إن شاء الله تعالى من جلالة الملك بقدر سعيهم

إنا نفخر كل الفخر بأن ديننا الشريف وهو الإسلام لا مثيل له بين الأديان السماوية، وحقائقه المضيئة وأصوله السامية توافق الرقي الاجتماعي، وهو دين التوحيد ودين العقل، فيجب على السادة الأساتذة أن يكونوا مبلغي هذا الدين الحنيف، وأن يكونوا أعلاماً يهتدي بهم، وأن يبثوا روحاً صالحة جديدة في الطلبة)

ثم زار بع ذلك سموه خزانة كتب الكلية وبها كثير من النسخ النادرة النفيسة والمخطوطات الأثرية بخط (ياقوت) و (أتيرك) وآلات فلكية واسطرلاب أثري نفيس ونسخة خطية من (ديوان) نظامي الشاعر الشهير، وهي نسخة أرسلتها الحكومة الفارسية إلى معرض لننكراد

ص: 74

وكانت موضع إعجاب الزائرين، وهي تحتوي على صور بديعة من صنع أشهر المصورين في الصين والهند

من برجنا العاجي

اشتد الحر في البرج العاجي فلم يطب لراهبه المقام فيه. فأزمع السفر لتمضية الصيف في جبال الألب. وهو يودع قراءه إلى لقاء قريب.

فرية أدبية

جاءنا من روما هذا الكتاب من الأستاذ صاحب الإمضاء ننشره بنصه:

حضرة الفاضل الدكتور أمين حسونه

سيدي الدكتور! أحييكم أطيب التحية. وبعد فاليوم أطلعني مدير الإذاعة العربية بروما على خطاب منكم أدهشني بغرابته، فقد زعمتم في هذا الكتاب أن أحاديثي التي ألقيتها عن الأدباء الإيطاليين قد اختلست كلها من سلسلة مقالات لكم كنتم واليتم نشرها في (الرسالة) الغراء. على أن الحق يا سيدي أن مطالعة مقالاتكم التي لا أرتاب في أنها كانت ممتعة قيمة ومنتجة خصبة، حظ قد فاتني. ولست أدري هل يؤلمكم أن أقول في صراحة وصدق أني ما قرأت لكم حتى اليوم كلمة واحدة في هذا المنحى من مناحي الأدب أو في غيره. ولكني على أية حال لا أقصد إلى إيلامكم، وإنما أقصد إلى دفع تهمة جاءتني (من الهواء)

بيد أني لا أعلم في الحق مما أبري نفسي؛ فقد جاء كتابكم الكريم خلواً من الإشارة الواحدة إلى الموضع الواحد من مواضع الشبه أو الشبهة. وكان خيراً لو دللتم على هذه المواضع ولو في إجمال وإيجاز، فأني أريد تقويض اتهامكم فلا أجد (أركانه) كما يقول أصحاب الفقه

إن الطعن على الناس جزافاً وبلا تعمق للحقائق زلل أخلق بالرجل الأريب ألا يتورط فيه. وإذن فلعلكم أن تراجعوا النفس فيما زعمتموه، أو لعلكم تشيرون كما قدمت إلى مغمز في أحاديثي كلها أو بعضها في غير إبهام ولا غموض. ولكي أبسط لكم الأمر أقول إني تناولت في أحاديثي السالفة دانتي وبيراندلو ودانتزيو وبوكاشيو وبترارك وميكافلي وأريوسطو، وتناولت في حديث واحد أعلام (الحركة الإبداعية) فأي هذه الأحاديث يا سيدي تتهمونه أكثر من غيره؟ وأيها تحبون أن أبعث إليكم بنصه لتظهروا الناس على ما فيه من إنتهاب

ص: 75

لحقوقكم في التأليف بل لتحاكموني فيه إلى القضاء أيضاً إن كنتم صادقين في اتهامكم وإن كنتم لا تبغون حقاً سوى الإنصاف؟

إني لأعجل عليكم في الجواب حتى لا يطول بكم السخط عليّ والإشفاق على حقكم حيث لا موجب لسخط ولا إشفاق. وإني لأرجو مخلصاً أن تتقبلوا مني أوفى التبجيل

(روما)

محمد أمين

(الرسالة)

لا تعرف أحداً بهذا الاسم كتب في هذا الموضوع في الرسالة إلا (محمد أمين حسونه) وهو بالطبع غير (دكتور). فإذا صح أنه هو الذي كتب ما كتب إلى مدير الإذاعة العربية بروما كان ذلك عجيبة من عجائب الأخلاق. فأنه لم يكتب في الرسالة إلا شيئا عن بيراندللو. وهذا الذي كتبه عن هذا الشاعر لا يصح عقلا أن يكون مصدراً لمحاضرات تناولت سبعة من نوابغ الأدب الإيطالي ذكرهم الكاتب في كتابه!!

لجنة المجلة في مجمع اللغة العربية الملكي

كان مما قرره مجمع اللغة العربية الملكي أن يخصص في مجلته قسم بنشر البحوث والمقالات التي تلائم أغراضه مما تجري به أقلام الباحثين والكتاب حرصاً على التعاون العلمي الذي يجب أن يكون بين أعضاء المجمع وغيرهم من أهل العلم والأدب، والحريصين على خدمة اللغة العربية وإعلاء كلمتها

ولجنة المجلة تتشرف بدعوة الذين يقدرون ذلك التعاون العلمي قدره إلى إرسال مقالاتهم باسم رئيس لجنة المجلة بدار المجمع بشارع قصر العيني رقم 110 بالقاهرة

ولما كان الغرض الأسمى خدمة اللغة العربية والمحافظة على سلامتها، وجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون، مسايرة لها في تقدمها، ملائمة لحاجات الحياة في العصر الحاضر، بجانبه لما طرأ عليها من الفساد في الألفاظ والتراكيب كان المأمول من حضرات الكاتبين أن يراعوا في بحوثهم اللغوية هذه الأغراض السامية مع إيثار الطرافة والإيجاز المفيد

هذا وإن للنشر في المجلة مكافآت مالية معينة بحسب الصفحات للمقالات التي تقر لجنة

ص: 76

المجلة صلاحيتها للنشر

ومن شاء زيادة البيان فليتفضل بمكاتبة رئيس اللجنة بالعنوان السالف الذكر

ص: 77

‌الكتب

على هامش السياسة

تأليف الدكتور حافظ عفيفي باشا

للأستاذ محمد سعيد العريان

على هامش السياسة، هكذا يسميه سعادة مؤلفه الكبير، تواضعاً وعزوفاً عن التعاظم بالألقاب والأسامي، تسمية متواضعة إن دلت على شيء في موضعها فإنما تدل على خلق المؤلف وطبعه، لكنها لا تدل على الموضوع الهام الذي يتناوله الكتاب. ولقد كان أقرب دلالة على موضوعه أن يسميه (في صميم السياسة) فليست السياسة هي هذا التطاحن الحزبي الذي نشهده في اجتماعات الأحزاب السياسية، والتراشق بالتهم والسباب الذي نقرؤه في مختلف الصحف الحزبية؛ وليست السياسة هي هذه المظاهرات التي تعج بها الشوارع وتضج بالهتاف لفلان وفلان من رجال الحكم والسياسة. إنما السياسة حكمة وتدبير ونظر بعيد، وتفكير فيما يعود على الأمة أفراداً وجماعات بالخير. . .

إن لكل أمة هدفاً تسعى إليه، ولكن هذه الأهداف جميعها تلتقي في كل أمة عند معنى واحد، هو التقدم بالأمة والسمو بها إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه، والرقي بالشعب إلى المستوى اللائق به في العلم والثقافة، وفي الصحة العامة، وفي شئون الاقتصاد. . .

ولقد مضى على المصريين فترة غير قليلة وهم يجاهدون إلى غاية من غايات الشعوب الحرة، هي الظفر بالاستقلال. وقد طالت هذه الفترة والمصريون في جهادهم، وتنوعت أساليب الكفاح والمقاومة، حتى نسي المصريون ما وراء هذه الغاية، إذ كان جهادهم للاستقلال وحده، وطالت بهم الشقة حتى أوشك كثير منهم أن يوقنوا - سلباً أو إيجاباً - إن الاستقلال في ذاته غاية، فلما أذن الله أن تصل الأمة إلى هذه الغاية بعد طول جهاد، أحس الشعب بشيء من القلق السياسي، وتوزعت خواطرَ الناس شئونٌ وشجون؛ أما طائفة فقالت - وهي الأكثرية من الشعب -: وماذا أفدنا من الاستقلال؟ وماذا حصلنا بعد هذا الجهاد الذي أريقت فيه الدماء، وبذلت فيه الضحايا، وتحملنا فيه ما تحملنا من العنف والمشقة؟. . . وأوشكت هذه الطائفة أن تكفر بعد إيمان، وتعتقد أن ما بذلت في ساحة الجهاد منذ سنين

ص: 78

وسنين لم يكن إلا عبثاً وجهداً بغير ثمرة. . .

وأما طائفة - وهم المؤمنون بحق هذه الأمة في الحياة - فقد بعدت مرامي همتهم، وانبسطت رقعة الأمل أمامهم، فقالوا لأنفسهم: ها نحن أولاء قد اجتزنا الدرب الشائك، ووقفنا على أول الطريق الذي يصل إلى المجد ويبلغ بنا مراقي السعادة. . . وأعدت أهبتها للجهاد إلى هدف جديد. . . فلم يكن ينقصها إلا الرائد الجريء الذي تترسم خطاه في هذا الطريق. وكان هذا الرائد هو مؤلف كتاب (على هامش السياسة)

على هامش السياسة كتاب تناول به مؤلفه أهم مسائلنا القومية في الوقت الحاضر، بأسلوب العالم الهادئ المتزن الفكر، فوصفها وصفاً صادقاً ليس فيه مبالغة ولا إغراق، ثم بين أسبابها وعللها ووسائل علاجها على ما هداه البحث. وتتلخص هذه المسائل في أربعة أبواب: الصحة العامة، والتعليم، ومسائلنا المالية، وسياستنا الاقتصادية

وقد تناول هذه الأبواب الأربعة فقسم كل واحد منها إلى فصول، تقسيما منطقياً واضح الأداء، بحيث لا يكاد يفرغ قارئه من قراءته حتى يكون قد ألّم بموضوعه إلماماً لا يدعه في حاجة إلى سؤال؛ كأنما يتحدث عن كل طائفة وفي كل مسألة واحدٌ من أهلها، فلا تفوته صغيرة أو كبيرة من مشاكلها وأمانيها

وإذا نحن قررنا أن هذه الأبواب الأربعة مما لا تتأتى دراستها مجتمعة على هذا الأسلوب لشخص واحد إلا إذا قُدِّر له أن يكون متخصصاً - عرفنا مقدار الجهد الذي بذله المؤلف حتى انتهى بمؤلفه إلى هذه الغاية من الكمال. وحمدنا له ما بذله من جهد وتضحية. وما ليّ طاقة في هذا الحيز الضيق من الكلام أن أتحدث عن كل واحدة من هذه المسائل بذاتها؛ إذ كان ذلك مما تضيق به صفحات الرسالة؛ وإذ كانت كل مسألة من هذه المسائل في حاجة إلى عناية في العرض والتعليق لا تجزي فيها سطور

وإننا لنغمط هذا الكتاب حقه بأن نسميه كتاباً؛ فما هو إلا مصر الحديثة كلها في مشاكلها وأمانيها؛ وما ينبغي أن نقرأه على أنه كتاب فيه ما في الكتب من رأي صاحبه مما قد يلذ أو يفيد؛ ولكنه مجموع المسائل التي تشغل أفكار الطبقة المثقفة من المصريين عامة. ولسنا نغلو في تقدير هذا الكتاب إذا قلنا أنه ينبغي على القائمين بشئون الحكم في مصر جميعاً أن يقرءوه ليعرفوا كثيراً مما فاتهم إلى اليوم أن يعرفوه من واجبات الحاكم المصلح. على أنه

ص: 79

في جملته - على وفائه بما وُضع له - ليس إلا تنبيهاً إلى الكتَّاب ورجال الفكر جميعاً أن يتناولوا مسائلة بحثاً وتمحيصاً ودراسة؛ فذلك هو الوقت الذي ينبغي أن ترسم مصر فيه لنفسه دستوراً قوميّاً تسير على نهجه إلى الغاية المأمولة في السعادة والمجد، وهذا الكتاب هو فاتحة البحث المنتج في هذا الموضوع. . .

ذلك عرض موجز لموضوع هذا الكتاب القيم، لا يُعرِّف به كل التعريف ولكنه يدل عليه بعض الدلالة. وإنه لعجيب في بلادنا أيُّ عجيب أن يكون من رجال الحكم والسياسة في مصر من يرصد وقته لمثل هذا البحث والدرس والاستقصاء في شئون لا تعود عليه في خاصة نفسه بالفائدة العاجلة؛ وإن أعجب منه أن يكون من هؤلاء الزعماء السياسيين عالم أو مؤلف أو أديب له فكر وبيان ومعرفة؛ وأعجب من هذين أن يكون بحثه ودرسه واستقصاؤه في شئون الطبقات الدنيا من الشعب بحيث يقف درسه على ما يهم سواد الناس ويكشف عن آلامهم وأماني أنفسهم. . .

ولكن هذه العجائب الثلاثة قد اجتمعت لسعادة الدكتور حافظ عفيفي باشا في مؤلفه القيم (على هامش السياسة)

ليس هذا فقط هو شأن هذا الكتاب، ولكن فيه شئوناً أخرى تستحق الملاحظة والتعقيب؛ فقد تعودنا وتعود الناس جميعاً ألا يروا ما تقع عليه أعينهم مرات متكررة في كل زمان ومكان؛ إذ كان الألف والعادة في المشاهدة مما يحملان على الغفلة والتعامي؛ فلن تجد كثيراً من الناس يعنون بالبحث والتدقيق في شأن ألفوه إلْف العادة ورأوه بأعينهم عشرات المرات حتى صاروا يمرون به فلا يحسون وجوده، ولكن الشيء الذي يسترعي الملاحظة ويبعث على التحري والتدقيق وتكرار النظر، هو الشيء الغريب الذي تشاهده العين أول مشاهدة. . . فنحن مثلا نعرف فلاحينا وأحوالهم ومعايشهم، وما منا إلا من عرف قليلا أو كثيرا عن القرية المصرية وشئون أهلها، ولكن قليلا منا من فكر في شئون هؤلاء الفلاحين أو نظر إليهم نظر الإنسان إلى أهله: يتعرف آلامهم ويفكر في سعادتهم. . . ومثل هذا الشأن شئون كثيرة في حياتنا، تسترعي اهتمام الأجانب والغرباء الذين يحلّون بيننا ضيوفاً كل عام ولا تثير أقل انتباه فينا، إذ كان هذا مما ألفنا أن نراه أو نسمع به، حتى أورثنا هذا الإلف بلادة في الملاحظة، فنمر به عمياناً أو كالعميان. . .

ص: 80

لذلك كان من عجائب هذا الكتاب أن نرى واحداً منا يحشد كل هذه المسائل في كتابه ويتناولها بالبحث والتدقيق والملاحظة على هذا النحو البديع الذي تناولها به الدكتور حافظ عفيفي باشا في كتابه. . .

والحقيقة أن قارئ هذا الكتاب ليجد فيه أشياء كثيرة تدعوه إلى العجب والإعجاب، وأشياء أخرى جديرة بأن تحمله على الفكر وإنعام النظر إلى مدى بعيد. . .

ومن يدري؟ فقد يكون مما يتحدث به التاريخ غداً حين يذكر هذه الفترة في الحياة المصرية، أن كتاباً ألفه الدكتور حافظ عفيفي باشا، كان هو الإرهاص الأول لنهضة الإصلاح في مصر المستقلة؛ ورب كتاب ألفه مؤلفه لغير التاريخ فكان هو نفسه فصلا من فصول التاريخ. . .

محمد سعيد العريان

ص: 81