المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 259 - بتاريخ: 20 - 06 - 1938 - مجلة الرسالة - جـ ٢٥٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 259

- بتاريخ: 20 - 06 - 1938

ص: -1

‌بين العرب والفرس

بمناسبة المصاهرة الملكية

من دلائل التوفيق وبشائر النُّجح في توثيق ما أوهن الدهر من أواصر الأخوة بين دول الشرق الإسلامي، أصهار العرش الإيراني العريق إلى العرش المصري المؤثّل. فإن الغفوة الثقيلة الطويلة التي غفاها الشرق في ظلال الضراعة والجهالة والخمول، قطعت الأسباب بين حاضره وماضيه، ومزقت الأوصال بين قاصيه ودانيه، فأصبح فلولاً لجيش باد، وطلولاً لمجد تقوض. فلما أذن الله لليل الشرق أن يُصبح، أيقظ العرب والترك والفرس، وهم الأمم الثلاث اللاتي سطعت بهن شمسه، وازدهر بمجدهن أمسه، وانتشر بفضلهن نوره، فانتعش ما ذوى من رجائه، وتجدد ما خوي من بنائه، وهبت العبقريات الساميَّة والآرية والطورانية تتفتح مرة أخرى في ربيع الإسلام الدائم. وحضارة الإسلام، وإن شئت فقل حضارة الدنيا، كانت نتاجاً لازدواج الوحي العربي بالخيال الفارسي، نشأ منه هذا الأدب الإنساني الذي حلل نوازع النفس، وهذا الفن العالمي الذي صور مدارك الحسَّ، وهذا التصوف الفلسفي الذي ترجم غوامض الروح، وذلك النظام الاجتماعي الذي جعل الحياة فناً وتمدين الناس طريقة

نعم كان لابد للفرس من العرب ليبصروا نور الحق، ويدركوا سمو النفس، ويعرفوا كلمة الله؛ وكان لا بد للعرب من الفرس ليعرفوا الدنيا، ويذوقوا النعيم، ويتعلموا الملك. فلما جمع الله الشعبين العظيمين بالإسلام، وربط بينهما بالضرورة، نزت في رأسيهما عصبية الدم النبيل وعزة النفس الحرة، فأدلَّ العرب بالدين والفتح والعروبة، وتبجح الفرس بالسلطان التليد والتاريخ المجيد والحضارة الرفيعة، فكان بين الأمتين ازورار طبيعي إذا اشتد كان عداوة، وإذا خف كان مصانعة.

والشخصية العربية الغلابة التي استطاعت أن تذيب في جنسها كل جنس، وتبيد بلغتها كل لغة، لم تستطيع أن تعرّب الفرس ولا أن تقهر الفارسية. فبقي استقلال إيران في القومية والطبيعة واللغة، وزال أو كاد في السياسة والعقلية والأدب. ثم تَنَزَّكت الخلافة فتترك هوى العرب؛ وأرَّث العثمانيون النار الخابية بين الشعبين بالخلاف المذهبي، فانفرجت الحال وتنكر الأمر، حتى قامت القيامة الصغرى في الحرب العالمية الكبرى، ووقف الشرق

ص: 1

العزيز حيال الغرب المقتدر، يحاوله في وجوده، ويصاوله على استقلاله، فتخفف الترك من تكاليف الماضي المشترك، وفروا بأنفسهم آوين إلى الأجواء الغربية، تاركين للعرب والفرس إنهاض الشرق الإسلامي اليوم، كما أنهضوه من دونهم بالأمس، فلم يكن للشقيقتين العريقتين بد من التكاتف على حمل هذه الأمانة العظيمة

إن الروابط الدينية والثقافية والتاريخية والاجتماعية التي تربط الفرس بالعرب لا يقوى على فصمها الدهر، لأنها جزء من وجودهما العقلي والروحي لا سلطان لنعرة الجنس عليه، ولا حيلة لأهواء السياسة فيه. وسيكون هُّم القيادة في الشعبين إحكام هذه الروابط بالتآلف والتحالف والمودة لأن، وَحْدة الغرب تقتضي ضم الشتات بإزائها، ونهضة الشرق تتطلب التكاتف على حمل أعبائها

إن مصاهرة إيران لمصر حادث جليل المغزى سيكون له في سياسة الشرق الأدنى عظيم الأثر. وبحَسْبك أن تعلم أن طهران كادت تنهج سبيل أنقرة في مجافاة الإسلام ومجانبة العرب، فاتصالها بالقاهرة المحافظة على عقيدتها وشرقيتها وتقاليدها يفصلها عن القافلة الشاردة، ويمُسكها على سَنَنِها الموروث، فتتطور ولا تتغير، وتتقدم ولا تحيد. فإذا نظرتَ إلى ما وراء ذلك رأيت هذه العلاقة الملكية الكريمة سفير وئام وسلام بين دولتين تجاورتا خمسة عشر قرناً ولا تزالان تطويان الصدور على حزازات الماضي. وستكون فاتحة الخير أن ينعقد في حاضرة النيل مجلس إسلامي عام ينتظم أقطاب الدين والعلم في أقطار الإسلام ليديروا الرأي فيه على ما أصاب المسلمين من صَدَعات الشيَع وضلالات البدع واختلافات المذاهب. ومن اليقين الجازم أن الدين - وهو دستور الأمة الإسلامية - إذا خلص من شوائب الجهل والغرض ضمن لأهله وحدة الرأي ووحدة الهوى ووحدة الغاية

ذلك إلهام الله في سياسة الفاروق المعظم. فهو يدبر الأمر ويمضيه على توجيه من فطرته ودليل من قلبه. وكأنما اصطفاه الله اصطفاءً لهذه الساعة المشهودة من حياة الشرق، فزوده بالقول الثابت والرأي الثاقب والسداد المرتَجَل والتوفيق الملهَم. فهو يولي وجهه شطر النور الأزلي الأبدي الذي ينبثق في مثل هذه الفترات المرَيجة فيبدد ظلام الحيرة، ويجمع شتات الوحدة، ويسدد الخطى الضالة في الطريق الأمينة

إن دلائل الحال تعلن أن عهد الفاروق الموموق سيكون عهد الوحدة العربية، والجامعة

ص: 2

الإسلامية، والعصبة الشرقية؛ فهل آن لنصف الكرة الأول أن يهب من سباته. ويبرهن بيقظته على استمرار حياته؟

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌تأملات في الأدب والحياة

للأستاذ إسماعيل مظهر

الشعر والمادة

إن بين كثير من الأمور النفسية والعاطفية، وبين كثير من الماديات تقابلاً، حتى يخيل إليك أن الأشياء النفسية والعاطفية كأنها ماديات تحولت أشياء معنوية، أو كأن الماديات أشياء معنوية استحالت جمادات

من ذلك أن بين الشعر والمادة تطابقاً من حيث أن لكل منهما (ماهية) لم يتوصل العلماء إلى معرفتها في المادة، ولم يتوصل الأدباء والنقاد إلى معرفتها في الشعر. فإذا قيل مثلاً إن الأشياء الظاهرة في المادة إنما هي أعراض ينبغي أن يحملها جوهر فيه تكمن الماهية، فكذلك يستطاع أن يقال في الشعر إن كل الصفات التي يقول الأدباء والنقاد إن من الواجب أن تتوفر في الشعر حتى يحكم عليه بأنه جيد، إنما هي أعراض يحملها جوهر فيه تكمن ماهية الشعر

فإذا كان اللون والحجم والوزن والطول والعرض والثقل وما إلى ذلك جميعها أعراض ينبغي لكي تظهر لحواسنا أن تكون محمولة في جوهر ذي ماهية خاصة؛ وإذا كان الوزن والقافية واللفظ والصناعة والمعنى والخيال وما إلى ذلك جميعها أعراض يحملها جوهر، ما تلك إلا تعبيرات عنه ودلالات عليه، إذن فأين المادة وأين الشعر؟

أليس في مثل هذا التقابل بين الماديات والعاطفيات النفسية، مواضع للتأمل ومواطن للاستبصار؟

شاعرية الألفاظ

ما أقوى العلاقة القائمة بين الشعر وبين الحالات النفسية! وعندي أن التأثر النفسي بالشعر أقوى الأسباب التي تدعونا إلى نقد الشعر. ذلك بأن المعايير النقدية التي يخضع الشعر لسلطانها، على اختلافها وتباينها، تتضاءل جميعاً إذا قيست بالمعيار النفسي. على أن للمعيار النفسي في نقد الشعر عوامل كثيرة، منها الموسيقى المستمدة من القافية والروى، ومنها قوة الخيال، ومنها الاتجاه الذي يتوجه فيه الشعر إلى غير ذلك، وجميعها عوامل

ص: 4

تؤثر في المعيار النفسي في نقد الشعر. غير أن أقوى هذه العوامل تأثيراً معيار النقد النفسي للشعر، إنما ينحصر في شاعرية الألفاظ

فقد نسمع من كثير من النقاد أن هذا الشاعر بارد الأنفاس، وأن ذاك ماهر في اختيار الألفاظ، من غير أن نحدد المعنى المقصود من أمثال تلك العبارتين تحديداً يرضاه المنطق وتقره طبيعة العقل، إذ هي ترمي دائماً إلى تحديد معنى لكل لفظ مفرد، وإلى تحديد معنى لكل عبارة تكونت من ألفاظ. فإذا أردنا أن نجدد ما يقصد من عبارات تجري بها في العادة أقلام النقاد والكتاب، وجب أن نرجع بها إلى أصولها النفسية، حتى نستطيع أن نفسرها تفسيراً منطقياً يقبله العقل وتقره ما فينا من طبيعة الميل إلى تحديد كل المعاني التي نتخذ الألفاظ والعبارات وسيلة إلى التعبير عنها

والواقع إننا نقول إن شاعراً بارد الأنفاس، وإن آخر غير ماهر في اختيار الألفاظ، إنما نعبر بهذا عن حقائق نفسية، تنزل من أنفسنا منزلة ابعد الأشياء الدساساً في أغوار الفطرة. فقد نعلم أن من الحقائق النفسية ما دعاه النفسيون:(تداعي الأفكار). فان اللفظ الجميل المعني يدعو إلى الفكر دائماً كل المعاني الجميلة التي تلابسه أو تقاربه، ولفظاً قبيحاً أو محزناً يدعو إلى الفكر كل المعاني التي تدانيه أو تمت إليه بسبب من الأسباب. مثل ذلك إذا قلت:(الشاطئ المخضوضر) دعت هذه العبارة إلى ذهنك كل المعاني الجميلة التي تلابسها. فالنهر المنساب والماء الصافي والظل الوارف وصوادح الطير والرضا النفسي والأخذة الروحية، كل هذه المعاني تواتيك غير مختار لمجرد أن العبارة الأولى قد حملها وعيك فدعا معها جميع المعاني التي ترتبط بها وجميع الملايسات المرحة الجميلة التي تلازم الشاطئ المخضوضر. وإذا قلت القبر الصامت - أو - (الصحراء المجدبة) دعت هذه العبارة إلى وعيك جميع المعاني المحزنة التي تلابس القبر والصحراء المحزونة الصَّماء.

هذه الحقيقة النفسية لها في نقد الشعر أعظم الأثر. فان لفظاً جميل المعنى حسن الملابسات يدعو إلى الذهن شتى المعاني الأخاذة الجذابة، إن ورد في سياق الشعر أحدث في النفس شعوراً بالرضى والجمال وزاد إلى موسيقى الشعر القائمة على جمال الوزن والقافية، موسيقى نفسية تزيد الشعر تأثيراً في النفس، وتفتق الخيال، فيشرف الوعي من خلال ذلك

ص: 5

اللفظ على آفاق من الجمال اللامتناهي تزيد من قيمة الشعر بقدر ما يكون لألفاظه من أثرِ في استدعاء ألوان الجمال أو التأمل أو العِطة أو الحكمة إلى غير ذلك. وعكس هذا تماماً ما يحدثه لفظ رديء الملابسات فاسد المعنى. وهذا ولا شك ما يقصد النقاد إذ يقولون بأن الألفاظ شاعرية. على أن شاعرية الألفاظ إنما يحددها دائماً استعمال اللفظ في حيث ينبغي أن يستعمل فيكون مطابقاً دائماً لمقتضى الحال.

الشرق والثورة

حدثني صديق ممن تجمعني به ذكريات عزيزة ذكريات الثورة المصرية، عندما كانت أنفاساً حارة كاللهب المضطرم، وكانت أرواحنا مشبوبة كاللظى المتأجج. لهيب الشباب ولظى الفتوة. لم يكن عهد الكهولة قد أصاب شيئاً من تأملنا أو حفزنا بعد إلى اللجوء إلى قواعد المرجحات العقلية التي هي عندنا اليوم أشبه شيء بقانون المرجحات الرياضية، فما أن نرضيها وأما أن نعتقد أننا على غير صواب، وإننا إلى الشطط أقرب. حدثني ذلك الصديق عن الشباب وعن أيام الجهاد المستمر والسعي المتجدد في سبيل إذكاء روح الثورة في نفس الجماهير، وذكرني بما كان لنا من مواقف نعجب الآن كيف خرجنا منها وفينا نفس يردد أو عرق ينبض. كيف لم يحصدنا الرصاص. وكيف لم تسل نفسنا على شفرات السيوف؟ كيف هزأنا بالموت غير مقدرين أن الموت كان أقرب إلينا من حبل الوريد أشهراً طوالاً بل أعواماً، وكيف خلصنا من جميع هذا بأرواحنا سليمة وجسومنا لم يصبها كلمٌ واحد!

قلت له في خلال الحديث ما أشهى تلك الأيام! فان للمخاطرة بالروح لجمالاً لا يدركه الإنسان إلا بعد أن يفوز بالسلامة. ذلك جمال أشبهه بجمال الفقر الذي لا يدركه الإنسان إلا بعد أن يلوذ بالغنى. ولعل الأمر على عكس ما يخيل إلينا؛ ولعل الواقع أن المخاطرة والنقد ليس فيهما من جمال، وأن ما نستشعر من جمال فهما بعد الفرار من آصارهما قد يكون جمال الذكريات الماضيات إذ تحيي في النفس جزءاً من ماضيها، وتطبعها بطابع كاد يبلى على الأيام. قلت لصديقي من لنا يمثل تلك الأيام؟

قال الصديق: نعم نحن في احتياج إلى ثورة. إلى ثورة طاحنة تمضي بكل ما يقف في طريقها، وتأتي على كل ما يقاومها؛ ثورة شيطانية لا عقل فيها؛ ثورة مبرأة من الرشاد

ص: 6

والحب والنهي. ثورة طائشة مجتاحة تأكل الحرث والنسل؛ ولكنها ثورة لا تنال من الجسوم ولا من الحطام؛ ثورة لا شأن لها بنظام قائم ولا بحكومة ولا بجيش ولا بأسطول؛ ثورة منزهة عن السيف والمدفع، وعن المدية والخنجر؛ ثورة لا يقوم بها جمهور من الناس ولا جماعات منهم؛ بل ثورة فردية يشنها كل فرد منا على نفسه؛ ثورة نفسية يتسلح فيها كل فرد منا بالإرادة ويروح يهدم من أخلاقه ومن ميوله ومن نزعاته التي كونها فينا تاريخنا القديم؛ ثورة تقتل فيها الإرادة حبنا للسلامة وتواكلنا على الأقدار وصمتنا عن الحق والحق مهضوم مأكول، كأنما قد أصبحنا جميعاً شياطين خرساً، والساكت عن الحق شيطان أخرس؛ ثورة تحطم مُثُلُنا الأخلاقية القديمة، لتتبدل بها مُثلاً عليا من تلك المثل التي قادت أوائلنا بجيوشهم ومدنيتهم وعلومهم من شاطئ بحر الظلمات إلى جوف الصين

وكان صديق يتكلم متهدَّج الصوت منفعل النفس ثائر الوجدان. فلما فرغ من حديثه، شملنا صمت عميق ظل يسود مجلسنا حتى افترقنا لم يجر لساننا بكلمة واحدة

الطغرائي الشاعر

هو من أفذاذ الشعراء، ومن أهل البيان الذين يشار إليهم بالبنان. أنكره أهل زمانه على القاعدة السائدة في هذه الدنيا. وليس في ذلك عجب؛ ذلك بأن نكران الأفذاذ في زمانهم سنة أهل الشرق منذ أقدم عصورهم. وهذا الطغرائي على جلالة قدره يقول:

مالي وللحاسدين؟ لا برحت

تذُوب أكبادهم وتنفطر

يغتابني عند غيبتي نفرٌ

جباههم إن حضرت تنعفرُ

ألسنة في إساءتي ذُلقٌ

يقتادها من مهابتي حصر

أنام عنهم ملء الجفون إذا

أثارهم في المضاجع إلَابر

يكفيهم ما بهم إذا نظروا

إلىَّ ملَء العيون لا نظروا

تغيظهم رتبتي ويكمدهم

جاهي فصقوى عليهم كدَر

فنعمة الله وهي سابغة

عندي من الحاسدين تنتصر

يعجبني أنهم إذا كثروا

قَلُّوا غناءً وإن هم كثروا

وليس من عجب في أن يحقد جماعة على الطغرائي في زمانه، وليس من عجب في أن يقول فيهم الطغرائي هذه الأبيات وأكثر منها مما يتضمن ديوانه. ولكن العجب في أن يُهمل

ص: 7

الطغرائي في زماننا فلا يتناوله كاتب ينقد ولا يذكره أديب يبحث، كأن هذا الشاعر العظيم من مطويات الأدب، تلك التي تطوي فلا تنشر، وتنسى فلا تذكر. ذلك في حين أن المتأمل في شعر هذا الرجل الفذ يدرك فيه سراً قلما تقع عليه في غيره من الشعراء: لا في شعراء عصره ولا في الشعراء الذين تقدموه، ولا في الشعراء الذين تلوه. وعندي أن هذا السر لا يشاركه فيه إلا شاعر واحد هو أبو العلاء المعري. أما ذلك السر فهو الجمع بين قوة الشاعرية ودقة الإحساس وصادق الوجدان وبين هدوء الطبع. أما إن ذلك سر من أسرار العظمة في الطغرائي، بل لا نبالغ إذا قلنا إنه سر عظمته، فذلك بأن الشعر عاطفة وخيال وحركة نفسية جياشة دافقة سيالة، فإذا حكم هذه الصفات هدوء نفس طبيعي، صفا الشعر ورق وأتساب انسياب الجدول المترقرق الهادئ، ولكنه في ترقرقه وهدوئه حادُّ كالسيف قاطع كالفأس الباترة المحدودة

وأبو العلاء المعري إن شارك الطغرائي هذا السر، فلا شك في أنه في نفسية الطغرائي أرس وأذهب في الوجدان. فان أبا العلاء شاعر حكيم بطبعه متشائم بفطرته. حمل على المرأة وطغي على الإنسانية، حتى لقد أراد أن يهدم كل قائم من غير أن يعرف كيف يقيم غيره، وأن يدرك كل أساس عملي في الحياة من غير أن يرسم للحياة طريقاً جديداً. ذلك على العكس من الطغرائي فانه عاش مع المرأة واندفع في غمرات الحياة وشرب من أفاويقها حلوة ومرة، فكان من صميم أهل الدنيا. فإذا لازم أبا العلاء شيء من هدوء الطبع ظهر أثره في شعره فذلك طبيعي بمقتضى النشأة والاتجاه الفكري. أما أن يلازم الطغرائي ذلك الهدوء وتحكمه تلك الطمأنينة، وهو بعد مغمور في الحياة محب لها هائم بمباهجها لَمَّاحٌ لما فيها من مغريات ومفاتن، فذلك سر من العظمة لا تألفه في الشعراء

ولقد يظهر أثر هذا السر في مرئياته، وهي أبعد الأشياء عن أن يلزم فيها شاعر هدوء نفسه وطبعه فلا يغلب عليه خيال جماح إلى غايات من الشعر يسبح من خلالها الشاعر في عالم الخيال البعيد المعلق بآفاق الوهم القصية. وله في الرثاء مقطوعة رثى بها عزيزة عليه، تلمح من خلالها مقدار ما لاقى في فراقها من لوعة عميقة الأثر بالغة الخطر، ولكنك تلمح فيها أيضاً ذلك الهدوء النفسي الذي يبلغ من قرارة نفسك مبلغاً لا تبلغه ثورة الشعر:

ولم أنسها والموت يقبض كفها

ويبسطها والعين ترنو وتطرق

ص: 8

وفد دمعت أجفانها فوق خدها

جني نرجس فيه الندى يترقرق

وحلَّ من المقدور ما كنت أتَّقى

وُحمَّ من المحذور ما كنت أفرق

وقيل فراق لا تلاقي بعده

ولا زاد إلا حسرة وتحرق

فلو أن نفساً قبل محتوم يومها

قضت حسرات كانت الروح تزهق

هلال ثوي من قبل أن تم نوره

وغصن ذوى فينانه وهو مورق

فواعجبا أَنَّي أحم اجتماعنا

ويا حسرتي من أين حلَّ التفرق

أحنُّ إليها إن ترَاَخي مزارها

وأبكي عليها إن تداني وأشهق

وأبلس حتى ما أبين كأنما

تدور بي الأرض الفضاء وأصعق

وألصقها طوراً بصدري فأشتفي

وأمسحها حيناً بكفي فتعبق

وما زرتها إلا توهمت أنها

بثوبي من وجدي بها تتعلق

وأحسبها والحجب بيني وبينها

تعي من وراء الترب قولي فتنطق

وأشعر قلبي اليأس عنها تصبرا

فيرجع مرتاباً به لا يصدق

هذا شعر صادق الدلالة على الحقائق التي أحاطت بالشاعر وعلى الاحساسات التي اختلجت بها نفسه. قد تكون فيه لمحات من شعر الرثاء في شعر غيره من الشعراء؛ ولكن فيه إلى جانب هذا سر جديد عليك. ذلك ما تدرك من هدوء هذه النفس الثائرة كأنما ترى أرضاً انبسطت ونما فوقها العشب وغشتها الأزاهير، وأنت تسمع من تحتها دوي البراكين وهمهمة الزلازل تغلي في باطنها

ولقد حاولت أن أطلق على هذه الظاهرة العجيبة في شعر الطغرائي اسماً أميزها به، فلم أجد اسماً أطلقه عليها أجدر بها من أن ندعوها (الواقعية الشعرية) فإنها والحق يقال أقرب الأشياء فهماً مما ندعوه (الواقعية في الفلسفة) على أن المقارنة بين واقعية الشعر وواقعية الفلسفة يحتاج إلى فراغ ليس هذا مكانه، أما إذا أردت أن تقف على طرف مما ذكرت فاقرأ له المقطوعة الآتية:

أقول لنِضْوي وهو من شجني خلو

حنانيك قد أدميت كلمي يا نضو

تعالي أقاسمك الهموم لتعلمي

بأنك مما تشتكي كبدي خلو

تريدين مرعى الريف والبدو أبتغي

وما يستوي الريف العراقي والبدو

ص: 9

هناك نسيم الريح مثلك لاغبٌ

ومثلي ماء المزن مورده صَفْو

ومحجوبة لو هبت الريح أرفلت

إليها الغياري بالعوالي ولم يلْووا

صبوت إليها وهي ممنوعة الحمى

فحتىَّ مَ أصبو نحو من لالهُ نحو

هوى ليس يسلي القرب عنه ولا النَّوَى

وشجو قديم ليس يشبهه شجو

فأسر ولا فك، ووجد ولا أُسىً

وسقم ولا برء، وسكر ولا صحو

عناء معنى وهو عندي راحة

وسم زعاف طعمه في فمي حلو

ولولا الهوى ما شاقني لمح بارق

ولا هدني شجو ولا هزني شدو

إن في هذا الشعر لثورة يخيم عليها هدوء نفسي قلما تأنسه في شاعر غيره. وعندي أن هذه الصفة لم تتجلَّ في شعر الطغرائي بقدر ما تجلت في لاميته المعروفة، وإن لنا لعودة إليها تحلل فيها هذا الشاعر الكبير على ضوء هذه الحقيقة الملموسة في شعره. ولقد يحفزنا إلى درس الطغرائي أنه شاعر فسيح الجوانب مديد الغايات وفي شعره تعلق بأسباب الأدب العالي، وما أحوجنا إلى هذه الأسباب

إسماعيل مظهر

ص: 10

‌حواء

ديوان شعر طريف في الغزل العرفاني من نظم الأستاذ

الحوماني تحت الطبع، تحمل الرسالة منه إلى قرائها عدة

نماذج قبل صدوره

رَبَّ حواء!

ربَّ حواَء! حين صوّرتَ حوّا

َءكَ هل كان قبلها تصويرُ؟؟

والشعورَ اللاتي نشرتَ عليها

هل طوى الليلَ قبلهن شعور؟؟

والعيون اللاتي شققتَ لها هل

كان من قبلها عيونٌ حورُ؟؟

أَوَهل بعدها يشع على الأح

داقِ من عالَم الملائك نورُ؟؟

وتُرينا كثغرها وكعيني

ها السموات أعينٌ وثغورُ؟؟

كُبرت أن تكون قبلاً وبعداً

والذي خصها بذاك كبيرُ؟

هي بيت القصيد من شعرَك المن

ظوم والكونُ شعرك المنثور

ص: 11

‌أنبئيني

أَنبئيني عما يجول بعيني

كِ وما لا يجول من أسرار

// لا بعيني الملأى من النور أشرف

تُ على كنهها ولا أفكاري

كلما ضجَّتِ الحقيقة في إذ

نيَّ أخلدتُ للخيال الساري

وتسنمتُ ذِرْوة الأُفق الأع

لى إلى كل كوكب سيَّار

فأَرتني عينايَ أَنك في آ

فاقها بعض هذه الأقمار

وعلى الأرض بعض هذى التماثي

لِ من الناس أو من الأحجار

وأَرتني عيناكِ أنيَ والكو

نَ غريقانِ منكِ في تيّار

الحوماني

ص: 12

‌قصة الكلمة المترجمة

(القتل أنفى للقتل)

لأستاذ جليل

تلاقت عبقرية الأستاذ (الرافعي) - رحمه اله - في الأدب وعبقرية الأستاذ (العريان) في الوفاء؛ وأوحت الأولى إلى الثانية (وحيها) فكانت (حياة الرافعي)، أو هذه (المقالات الرافعية) في (الرسالة الغراء) وقد رآها الناس في هذا العام نجوماً، وسيجتلونه بعد حين بدراً بل شمساً ذات أضواء في كتاب. ولم تجتزئ هذه (المقالات) بخيرها العميم وفضلها العظيم - وإنهما لمحسبان - بل جلب الخير خيراً، وساق الفضل فضلاً؛ فقال الأستاذ محمود محمد شاكر (مقالة)، وجادل الأستاذ سيد قطب (جداله)، ولو لم يكن الرافعيُّ قطب أقطاب ما حدَّث عنه قطب. . . وما هذه الأحاديث التي أنصها اليوم في الرسالة

وُنصَّ الحديثَ إلى أهله

فإن الوثيقة في نصَّهِ

إلا من إحسان تلك المقالات التي أفضل بها إلى العربية فتى الفتيان وسيد الشبان الأستاذ محمد سعيد العريان

أشار الأستاذ محمد سعيد في (المقالة السابعة والعشرين) من مقالاته الرشيقة الأنيقة الرافعية إلى حكاية الكلمة الفارسية (القتل أنفى للقتل) وإني لأظن أن كثيرين من الأدباء والباحثين يودون أن يعرفوا تلك القصة بكمالها، فهأنذا أحكيها، وسأروي طائفة من الأقوال في الكلمة الفارسية، وقد تقتضي الحال زيادة في هذا القصص للإفادة والتبيين و (الحديث ذو شجون) فأمليها

كتب صاحب (العثرات في اللغة والأدب) في الرابعة والرابعين من (عثراته) في جريدة (كوكب الشرق الغراء) في (7 رجب 1352) كلمة عنوانها (موازنة) قال فيها: (قالت العرب قديماً في معنى القصاص وأنه جُنَّة من العدوان: (القتل أنفى للقتل)، ثم أقبل القرآن الكريم على آثار العرب فقال:(ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) وقالت: (موازنة العثرات): (هي - أي عبارة القتل - كلمة عربية جاهلية) ثم سطرت شيئاً، محصوله أن الكلمة الفارسية قد فاتت الآية القرآنية

والمقايسة بين الشيئين قد اختلف أيَّما اختلاف قدْرَاهما وتفاوتن كل التفاوت حالتاهما -

ص: 13

تذكرنا بهذه الأملوحة في (عيون الأخبار) لابن قتيبة: (نافر رجل من جَرم رجلاً من الأنصار إلى رجل من قريش، فقال القرشي للجرمي: أبالجاهلية تفاخره أم بالإسلام؟

قال: بالإسلام

قال: كيف تفاخر وهم آووا رسول الله ونصروه حتى أظهر الله الإسلام؟!

قال الجرمي: فكيف تكون قلة الحياء. . .؟)

أفظعت (موازنة العثرات) وارتقت المرتقبون البيان الحق والقول الفصل في ذاك الهزل، فظهرت في جريدة (كوكب الشرق 12 رجب 1352) كلمة عنوانها (قالته الفارسية، وتنكره العربية، القتل أنفى للقتل) أعلن فيها أن هذه المقولة ليست جاهلية ولا عربية ولا مولدة، وأنها مترجمة. ومما قالته الكلمة:(أُجل العربية المحكمة المبينة أن تقول هذا القول: (القتل أنفى للقتل) إنها لا تعرفه، إنها تنكره، ولو قالته - وهو يبدو حكمة ومثلاً - لروته رواتها، فلا الميداني صاحب (مجمع الأمثال) عرفه، وقد جمع في كتابه أكثر من ستة آلاف مثل، ولا ابن عبد ربه سمع به، ولو نمى في (الجزيرة) لانتظمته (جوهرة أمثاله) ولا أبو بكر البلاقلاني اشتمل عليه كتابه (إعجاز القرآن) ولا عبد القاهر أشار إليه في (دلائل الإعجاز) ولا (كشاف جار الله) وجدناه فيه. ودع كلام الذائدين عن (الكتاب) في إيراده معزوّاً إلى العرب وما سطروا. إنه قول ما قالته العربية ولا مولدوها، وإنما هو كلام فارسي نقله الناقل - وربما أخطأت الترجمة - ورائحتها فيه تكاد تفوح. ولو قالته العربية ما قالت:(القتل أنفى للقتل) وهي تريد أن القتل يزيل القتل، أو يستأصله أو يفنيه، ونفى القتل لا يبيده، ونفى المجرم القاتل لا يريح الناس منه. . . ومادة (ن. ف. ى) كاشفة ما يلتبس)

وقالت الكلمة: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب - قول عربي، قول قرآني لا يستقل بوصفه - إذا احتيج إلى وصفه - إلا بلاغة النبي، بل هو يصف نفسه، ويعلن فضله، وينادي إعجازه على إعجازه و (القتل أنفى للقتل) قول فارسي، نقله مترجم عربي، وفيه ضعف. معناه كريم، ولفظه لئيم، قاله (أردشير) الملك. قال الإمام الثعالبي في (الإيجاز والإعجاز): من أراد أن يعرف جوامع الكلم ويتنبه لفضل الاختصار، ويحيط ببلاغة الإيماء، ويفطن لكفاية الإيجاز - فليتدبر القرآن، وليتأمل علوه على سائر الكلام، فمن ذلك قوله (عز اسمه): ولكم في القصاص حياة. ويحكى عن أردشير الملك ما ترجمه بعض

ص: 14

البلغاء أنه قال: (القتل أنفى للقتل) ففي كلام الله تعالى كل ما في كلام أردشير وزيادة معان حسنة، منها إبانة العدل بذكر القصاص، والإفصاح عن الغرض المطلوب فيه من الحياة، والحثَّ بالرغبة والرهبة على تنفيذ حكم الله والجمع بين القصاص والحياة، والبعد من التكرير الذي يشق على النفس فان في قوله القتل أنفى للقتل تكريراً، غيرهُ أبلغ منه)

وأشارت (الكلمة) في (الكوكب) إلى إيجاز الآية الكريمة وإعجازها، وروت قولاً لصاحب (دلائل الإعجاز) في (الموازنة بين بعض الآي وبين ما يقوله الناس في معناها) ونقلت كلام (الكشاف) في تلك الآية المعجزة

ثم ظهر مقال بليغ فائق للأستاذ الرافعي (رحمة الله) في جريدة البلاغ (15) رجب سنة 1352 عنوانه (كلمة مؤمنة في رد كلمة كافرة) قال فيه: (لقد تنبأ القاضي الباقلاني قبل مئات السنين بمقالة الكوكب هذى فأسلفها الرد بقوله: فان اشتبه على متأدب أو متشاعر أو ناشئ أو مرمد فصاحة القرآن وموقع بلاغته وعجيب براعته - فما عليك منه، إنما يخبر عن نفسه ويدل على عجزه، ويبين عن جهله، ويصرح بسخافة فهمه وركاكة عقله)

وقال الأستاذ الرافعي رحمه الله: أنا أقرر أن هذه الكلمة مولدة وضعت بعد نزول القرآن الكريم وأخذت من الآية، والتوليد فيها بيَّن، وأثر الصنعة ظاهر عليها، فعلى الكاتب أن يدفع هذا بما يثبت أنها مما صح نقله عن الجاهلية)

ثم أوضح رحمه الله وهن الكلمة الفارسية أيما إيضاح، ثم أبان ببيانه العالي فضائل الآية الكريمة ومما قاله:

(ومن إعجاز هذه اللفظة أنها باختيارها دون كلمة القتل تشير إلى أنه سيأتي في عصور الإنسانية العالمة المتحضرة عصر لا يرى فيه قتل القاتل بجنايته إلا شراً من قتل المقتول، لأن المقتول يهلك بأسباب كثيرة مختلفة على حين أن أخذ القاتل بقتله ليس فيه إلا نية قتله، فعبَّرت الآية باللغة التي تلائم هذا العصر القانوني الفلسفي، وجاءت بالكلمة التي لن تجد في هذه اللغة ما يجزئ عنها في الاتساع لكل ما يراد بها من فلسفة العقوبة)

(إن لفظ (حياة) هو في حقيقته الفلسفية أعم من التعبير (بنفي القتل) لأن نفي القتل إنما هو حياة واحدة، أي ترك الروح في الجسم، فلا يحتمل شيئاً من المعاني السامية وليس فيه غير هذا المعنى الطبيعي الساذج، وتعبير الكلمة العربية عن الحياة (بنفي القتل) تعبير غليظ

ص: 15

عامي)

(جعلُ نتيجة القتل حياة من أعجب ما في الشعر، يسمو إلى الغاية من الخيال، ولكن أعجب ما فيه أنه ليس خيالا بل يتحول إلى تعبير علمي يسمو إلى الغاية من الدقة، كأنه يقول بلسان العلم: في نوع من سلب الحياة نوع من إيجاب الحياة)

(فإذا تأملت ما تقدم وأنعمت فيه تحققت أن الآية الكريمة لا يتم إعجازها إلا بما تمت به من قوله (يا أولي الألباب) فهذا نداء عجيب يسجد له من يفهمه إذ هو موجه للعرب في ظاهره على قدر ما بلغوا من معاني اللب، ولكنه في حقيقته موجه لإقامة البرهان على طائفة من فلاسفة القانون والاجتماع هم هؤلاء الذين يرون إجرام المجرم شذوذاً في التركيب العصبي، أو وراثة محتومة، أو حالة نفسية قاهرة إلى ما يجري هذا المجرى، فمن ثم يرون أن لا عقاب على جريمة لأن المجرم عندهم مريض له حكم المرضى، وهذه فلسفة تحتملها الأدمغة والكتب، وهي تحول القلب إلى مصلحة الفرد، وتصرفه عن مصلحة المجتمع، فنبههم الله إلى ألبابهم دون عقولهم كأن يقرر لهم أن حقيقة العلم ليست بالعقل والرأي، بل هي من قبل ذلك باللب والبصيرة، وفلسفة اللب هذه هي آخر ما انتهت إليه فلسفة الدنيا)

(وانتهت الآية بقوله تعالى: (لعلكم تتقون) وهي كلمة من لغة كل زمن، ومعناها في زمننا نحن يا أولي الألباب، أنه برهان الحياة في حكمة القصاص نسوقه لكم، لعلكم تتقون على الحياة الاجتماعية عاقبة خلافه، فاجعلوا وجهتكم إلى وقاية المجتمع لا إلى وقاية الفرد)

هذا بعض ما قاله فقيد العربية الأستاذ الرافعي رحمه الله وكافأه) ولما اطلع الأستاذ النشاشيبي على هذا المقال البليغ في (البلاغ) بعث إلى هذه الجريدة بكلمة عنوانها: (إنها مترجمة) نشرتها في 19 من رجب 1352 بعد مقدمة منها، ومما جاء في تلك الكلمة:(قال الأديب الكبير الأستاذ مصطفى صادق الرافعي في رده في (البلاغ) على كاتب في (الكوكب): (إن القتل أنفي للقتل مولدة وأنها مأخوذة من آية) ومعاذ الله أن تكون مولدة، وأن تكون قد أخذت من آية، ولو كان ذلك لوجدنا عليها مسحة - وإن قلّت - من الجمال القرآني وهاهي ذي، كما يراها رائيها، لا تكلف أحداً في البشاعة وصفها فهي ليست بعربية ولا بمولدة، ولم تبصر في يومٍ ضياء القرآن، بل هي مترجمة، وربما أخطأ الناقل في

ص: 16

الترجمة)

(للقصة بقية)

* * *

ص: 17

‌فلسفة التربية

تطبيقات على التربية في مصر

للأستاذ محمد حسن ظاظا

- 21 -

(يجب أن تكون المدرسة صورة مصغرة للمجتمع المنشود)

(* * *)

(الديمقراطية هي النظام الذي يمكن الجميع من تحقيق أقصى

مجهوداتهم)

(باستور)

(يجب أن تكون أعمال الفرد في الجماعة الديمقراطية شائقة

جذابة)

(وولف)

11 -

سبيل الإصلاح

واليوم ماذا أقول؟ لقد عرضت عليك فيما مضى صورة واضحة لشخصية خريج معاهدنا بما فيها من عقل وعاطفة وجسم، وبينت لك أن هذه الشخصية لا تتفق وروح التربية الحديثة في أقل القليل، ولا تصلح لأن تحقق آمال الوطن في صون الاستقلال وتزعم الشرق وإحياء المجد القديم! فلم يبق اليوم إلا أن أسير معك إلى طريق الإصلاح علنا نصيب هنالك شيئا:

1 -

مجلس أعلى للتربية والتعليم

وكثيراً ما تناولت الصحف أمر هذا المجلس بالحديث، ولكن قليلاً ما عنيت الحكومة به وأخرجته إلى حيز الوجود! وأنت لا تكاد تجد دولة راقية بغير هذا المجلس الخطير، ولا

ص: 18

تستطيع أن تتصور اتزاناً واستقراراً في ناحية البرامج المدرسية إلا إذا كان مصدر هذه البرامج لجنة فنية راقية ثابتة تمثل جميع الهيئات المتصلة بنواحي التعليم كالمدرسين والنظار، وعمداء الكليات ورؤساء النقابات، ورجال الأعمال وزعماء الأحزاب والأديان؛ فإذا ما أوجدنا مثل هذا المجلس أمكننا أن نوفق بين تجارب المدرسين والنظار ورؤساء الأعمال، وبين الخطط الدراسية والمناهج التعليمية وحاجات البلاد، وبذلك تكون لدينا غاية معلومة لها فلسفتها الخاصة، وخطة مرسومة توصل إلى هذه الغاية، واستقرار دائم يساعد على إحكام التجارب ويغذي مختلف النواحي بما يحقق نجاحها المنشود! أما الاقتصار على عدة لجان تمحو اليوم ما قررته بالأمس، وتسير بالسياسة العامة للتربية على غير هدى من التجارب الكافية أو الغايات الاجتماعية والاقتصادية والفنية المختلفة، فذلك كما ترى فصل بين المدارس والمجتمع، وإغفال لأسس وطيدة لا سبيل إلى النجاح والاستقرار بدونها

فترى هل يعمل معالي الوزير الحالي على تكوين هذا المجلس بعد أن توانى في تكوينه الوزراء السابقون؟ أملنا في معاليه كبير!

2 -

قضية المعلمين

وأحسب أن أول ما يجب أن ينظر فيه هذا المجلس هو قضية المعلمين. وذلك أنك قد علمت فيما مضى أنهم اليد العاملة في تكوين النشء الموموقين، وأن عدم التدقيق في اختيارهم، وعدم إنصافهم في أجورهم وترقياتهم وأعمالهم، كل ذلك قد جعلهم متذمرين من مهنتهم، ناقمين على القدر الذي ابتلاهم بها، مؤدين لها أداء ناقصاً مشوهاً لا يكاد يتفق في الكثير من الأحيان مع تلك الأصول النظرية العامة التي درسوها في مدارس المعلمين ومعاهد التربية! لذلك يجب أن تعمل الدولة على مساواتهم بطوائف القضاة والأطباء والمهندسين؛ ويجب أن تقلل جهد المستطاع من عملهم الشاق العسير؛ ويجب أن تحذف من حياتهم تلك الأعمال الكتابية الآلية التي تمطرهم بها إدارة المدرسة مراراً أثناء العام الواحد!، ويجب أن تشركهم إشراكا فعلياً في وضع المناهج واختيار الكتب، ويجب أخيراً أن تصغي لاقتراحاتهم كما تصغي لرجال الطب أو القانون!

أما المعلمون فيجب أن يتحدوا وينظموا أنفسهم تنظيماً يعلي من شأنهم الأدبي والمادي ويرفع من قدر مهنتهم في عين الحكومة والشعب، كما يجب أن يحرصوا دائماً على التحلي

ص: 19

بتلك (الشخصية الفنية) التي تنشدها الحياة الحديثة منهم كمثقفين بوجه عام وكمربين على وجه الخصوص!

3 -

مكافحة الأمية وتعميم التعليم الإلزامي

ويلي ذلك في الخطورة أو يعادله مكافحة الأمية وتعميم التعليم الإلزامي ومادمنا ننشد نهضة حقيقية قوامها الحياة الديمقراطية الصحيحة. ذلك أنه لا سبيل مطلقاً إلى الرقي المنشود إلا إذا تبدد ظلام الجهل وغدا الشعب مستنير العقل قوي الخلق مفتحة أمام ذكائه أبواب النشاط دون ما فارق بين غنى وفقير!، وإذا كانت الحكومة قد بدأت تفكر جدياً في مكافحة الأمية فإن التعلم الإلزامي ما يزال في حاجة قصوى إلى الدعاية والمرونة والتعديل والإصلاح على النحو الذي بسطناه من قبل عندما كنا نوجز آراء الدكتور جاكسون في الموضوع

4 -

التعليم الحر

ولما كان التعليم الحر يقوم بنفس الوظيفة التي تقوم بها مدارس الحكومة فان العناية به، والتدقيق في الإشراف على رجاله، والإمساك عن صرف الإعانات للذين يستطيعون أن يستغنوا عنها تماماً بمصروفات التلاميذ، أو للذين لا يستحقون منها شيئاً لأنهم محتالون أو شبه محتالين! ثم الحرص على تسليحه بالمدرس الفني الكفء عن طريق إعداد أكبر عدد من المدرسين في معهد التربية بأقصى ما يمكن من سرعة، كل ذلك يجب أن تحققه الحكومة في القريب العاجل حتى لا يكون هناك وجود لمدارس تسيطر عليها الفوضى ويشيع فيها الحشو التافه والإعداد السقيم!

5 -

توحيد الثقافة:

ولما كان تباعد العقليات في أبناء الأمة الواحدة يقسم الشعب إلى قسمين ويعرقل بذلك عملية الإصلاح والتجديد، فالواجب هو المبادرة بتوحيد الثقافة على قدر المستطاع كيما يكون التفكير متحدا والقلب مشتركا والتقدم متجانسا لا تخَلف فيه! على أنه يجب أن نحرص في ذلك التوحيد على طابعنا المصري دون أن نتعسف في الجري وراء كل جديد أو في التمسك بكل قديم!!

6 -

خطة الدراسة:

ص: 20

أما خطة الدراسة ذاتها فيجب أن تتغير وتتطور حسبما تتطلب النتائج الباهرة التي تمخضت عنها طرق التربية الحديثة كطريقة (المشروعات) أو طريقة (دالتن)؛ وقوام الطريقة الأولى هو جعل الدراسة علمية تجريبية ترتبط فيها المواد ارتباطا معقولا، ويقوم الطلبة بدراستها كما لو كانوا يتعاونون معا في دراسة مشروع ما تحت إرشاد مرب حكيم؛ وقوام الطريقة الثانية هو الاعتراف (بفردية) الناشئ وتعويده على الدراسة الشخصية، وفتح المجال أمام ملكاته وقواه كيما يصير في طريقه الخاص مستنيرا بإرشاد صديق قدير هو الأستاذ العزيز!! هذا إلى أنه ينبغي كذلك أن نحرص على دراسة ميول الطلبة وعلى توجيههم توجيهاً سليماً بفحص ذكائهم، وكشف استعداداتهم، وإسداء مختلف النصح لهم ولذويهم كيما يدرسوا وينبغوا ويوفقوا في حياتهم الخاصة والعامة توفيقا سعيداً؛ أما حشد الطلبة في الفصول دون التفريق بين ذكيهم وغبيهم، وضبهم جميعاً في قالب واحد تنمحي فيه شخصياتهم، وتيسير العلم لهم وحشوه في أدمغتهم على نحو يشل فكرهم ويميت حماسهم وشعورهم، ثم جعل نظام المدرسة بعد هذا آليا لا وجود فيه للواجب والمسئولية والديمقراطية، فذلك كما تري أسوأ ما يمكن أن يتصور في هذه الأيام التي تقدمت فيها بحوث التربية وعلم النفس تقدما عظيما، والتي يدوي صوت رجال التربية والاجتماع بضرورة جعل المدرسة صورة مصغرة للمجتمع البشري في تطوره وتجدده وعلاقات أفراده بعضهم ببعض وبالدولة!

7 -

مراعاة حاجات البلاد:

وينبغي بعد هذا أن نعمل مراعاة على مراعاة حاجة البلاد من الخريجين في مختلف نواحي النشاط المختلفة حتى لا نقع فيما نحن فيه الآن من أزمة المتعلمين العاطلين. وذلك بتحديد عدد المقبولين في المدارس الفنية المختلفة حسبما تتطلب الحاجة المستنيرة بحقائق الإحصاء الماضي والحاضر، وحسبما تدل دراسة ميول المتقدمين الحقيقية واستعداداتهم. أما ترك الأمر فوضى وقبول الطلبة في كليات الطب والعلوم والزراعة والتجارة تبعاً لارتفاع (مجموعهم) أو انخفاضه فذلك كما ترى السبب في قلة التبريز عندنا وكثرة العاطلين.

ص: 21

8 -

الامتحانات

ويتبقى أيضاً أن نغير نظام الامتحان عندنا تغيراً شديداً لأنه بصورته الحالية لا يدل على كفاية الطالب العقلية فضلاً عن الخلقية والذوقية، ولا يفعل أكثر من تحويل نظام الدراسة إلى عملية (حشو) هائلة لا نظام فيها ولا هضم! وحسبك أن ترجع لأقوال العلماء الكثيرين في ذلك الموضوع لترضى بما أقول، وحسبك أن تقرأ اقتراحاتهم بشأن هذا التغيير لتعتقد أنه ينبغي لنا أن نهدمه هدماً!

9 -

تشجيع الخريجين

ثم لا نستطيع أن نختم القول دون الإشارة إلى وجوب تشجيع الخريجين على الحياة العلمية والعملية بتقديم الأعمال التي تساعدهم على تلك الحياة كما قد بسطت ذلك بإسهاب من قبل

10 -

التربية الخلقية والدينية

كما لا نستطيع أن نختمه دون التنبيه على وجوب جعل التربية الخلقية والدينية أساسية ولا سيما في مرحلتي التعلم الابتدائي والثانوي. وسبيل ذلك هو إدخال الدين في الدراسة إلى جانب الأخلاق وجعل التقدير الخلقي جوهرياً في النجاح أو الرسوب لا مجرد شكليات وقشور!

11 -

التاريخ والجغرافيا

وأخيراً ينبغي أن نعني في الثقافة العامة بجعل تاريخ مصر وجغرافيته محوراً لتاريخ العالم وجغرافيته. كما ينبغي أن نعني بإبراز أجمل عصورنا إبرازاً تاماً، وبتكوين العاطفة الوطنية المتأججة في قلوب النشء كيما نجد (رجالاً) يعيشون من أجل الوطن وفي سبيله يموتون!!

وبعد فتلك نظرة عاجلة في فلسفة التربية النظرية والعملية قد طبقتها على تربيتنا تطبيقاً سريعاً حال وقتي الضيق دون توفية حقه من البحث والتفصيل، فلعي قد وُفقت ولو إلى حد التنبيه فحسب! ولعلك قد استطعت أن تلحظ مجمل نزعتي العامة من هذا المقال ومن المقالات الكثيرة التي سبقته، ثم لعلك قد سئمت هذه الدائرة وتريد مني دائرة أخرى، فإلى اللقاء إذا حيث أحدثك عن شيء آخر، ولك و (للرسالة الغراء) وافر الشكر وعاطر التحية

ص: 22

محمد حسن ظاظا

ص: 23

‌بين الغرب والشرق

للدكتور إسماعيل أحمد أدهم

- 1 -

(إن العقلية الغربية هي العقلية التي تتسق وحاجات هذه الحياة الدنيا. ونحن نتبع وحي هذه العقلية بحكم أننا وجدنا في هذه الحياة الدنيا. أما العقلية الشرقية فتلائم الحياة الباقية، فإذا انتقلنا إلى الأخر فهنالك نتبع وحي هذه العقلية)

هابل آدم

قرأت ما كتبه صديقي الأديب النابغة فليكس فارس في عدد الرسالة السالف في موضوع الشرق والغرب؛ وكان حرَّيا بي ألا أرد على ما يكتبه صديقي ومناظري من ردَّ لآرائي التي سبق أن أدليت بها في مناظرتي معه منذ عام أو أكثر من على منبر جمعية الشبان المسيحية بالإسكندرية والتي نشرتها في وقتها (المجلة الجديدة)، لأني أعتقد أني في حينها أعقبت عليها بما رأيت فيه الكفاية لإثبات وجهة نظري في الموضوع. ولكن مناظري وقد أخذ من ردَّه على مل رآه اليوم ذا صلة وثيقة بذلك الحديث الذي أجراه الأستاذ الكبير توفيق الحكيم على لسان الروسي والمصري حول الشرق والغرب في روايته (عصفور من الشرق) التي صدرت خلال الشهر الماضي. ولقد أثار الأستاذ فليكس فارس في مقاله مسائل أعتقد أني بينت زعمها ومجانبتها لحقائق الأمور في تعقيبي عليه، لهذا عمدت بدوري إلى تعقيبي على رد مناظري الأستاذ فارس لآخذ منه ما يدفع آراءه التي يؤيد بها اليوم إيمانه بتفوق ثقافة الشرق

لكل شعب في العالم تراثه التقليدي الذي خرج به من ماضيه، والذي يحف به في حاضره، والذي يكمن فيه مقدمات مستقبله - تلك التي نطلق عليها اصطلاح (روح الأمة) - وهو الذي يربط ماضي جماعة من الجماعات بحاضرها ويمضي بها إلى مستقبلها. ومصر لم تخرج عن كونها مجتمعاً استوحى روح الشرق عصوراً متطاولة وخرج ككل أمة بثقافة تقليدية كونها على مدى تاريخه الطويل. وإن وقف مجتمع مصر اليوم من سير الزمن يطل على حاضر افتقدت فيه عناصر الحيوية في ثقافته التقليدية، تلك الثقافة التي كوَّنتها مصر بما ورثته عن أسلافها الفراعنة في أصول الفن الفرعوني القديم ومظاهر الحياة المعاشية

ص: 24

التي ترتكز عليها حياتها الاجتماعية. ويكفينا للتثبت من هذه الحقيقة أن نلقي نظرة على الملايين العديدة التي تنزل ريف مصر والتي تنتشر على ضفتي النيل من الشلال حتى البحر الأبيض المتوسط، في حياتها المعاشية التي يرتكز عليها المجتمع المصري، وأن نرجع ببصرنا إلى الماضي بعدئذ مستمدين من النقوش التي قرأت على الآثار والهياكل والتي انبثت على جنبات الوادي في مصر، ومن الكتابات التي خطت على أوراق البردي والتي صورت حياة المصريين في العهد الفرعوني، لنخرج بصورة تمثل وحدة الحياة المعاشية في مصر من عهد الفراعنة إلى يومنا هذا. وذلك راجع إلى أن الحياة المعاشية صورة من احتياجات البيئة التي يعيش فيها الإنسان؛ والبيئة واحتياجاتها لا تزال على وتيرتها الأولى في ريف مصر حيث ينزل معظم أبناء مصر. خذ إلى جانب ذلك منطق التفكير وأسلوب الصياغة، وأعني بذلك اللغة من حيث هي صوغ المعاني، والدين، مما اكتسبته مصر من العرب فكان ركناً من أركان الثقافة التقليدية لمصر. ولقد اختلطت هاتان الثقافتان، الفرعونية من جانب والعربية من جانب، فكان من ذلك مزيج. ذلك ما نعبر عنه بالثقافة التقليدية لمصر منذ أيام الفتح العربي

أما ما أثاره مناظري الأديب فليكس فارس من اعتراض على قولي إن الحياة المعاشية التي يحياها المصري الآن تجري على غرار ما كان يحياه أسلافه الفراعنة بقوله وأنا لا أرى في حياة المصريين اليوم أثراً من الحضارة الفرعونية لا في الحياة العملية ويعني بذلك المعاشية ولا في الحياة الأدبية، فإنني لا أجد صعوبة في دفع اعتراضه فأقول وأنا أرى في حياة المصريين اليوم أثراً من الحضارة الفرعونية في حياة الشعب المعاشية!!

وأظن أن إثارة الاعتراضات ودفع الاعتراضات لا يقوم على مجرد القول بأني أرى أو لا أرى، إنما تقوم على البحث والتحليل والنقد المستقصي. فإذا قلت إني لا أرى بي حاجة لدفع اعتراض مناظري، فذلك واضح لأنه لن يأت بأكثر من قوله إني لا أرى!

ومع ذلك أحب أن ألفت نظر مناظري إلى أصول الري عند الفلاح المصري ونظام معيشته ومسكنه الريفي وجلبابه الأزرق وعاداته وتواكله وانصرافه عن كل شيء لقطعة الأرض التي يزرعها، الشيء الذي لم يتغير في مصر منذ سبعة آلاف سنة مما يتضح للباحث من ابسط مقارنة بين فلاح اليوم في مصر الحديثة وفلاح الأمس البعيد في مصر الفرعونية،

ص: 25

الشيء الذي يثبت أن الثقافة التقليدية تقوم على أساس من الفرعونية من ناحيتها المعاشية؛ وإذ قلت الفرعونية فإنما أعني أن وحدة الحياة المعاشية تتماشى في ثقافة المصريين التقليدية حتى العهد الفرعوني.

إذا صحّ هذا، فكأن الثقافة التقليدية لمصر من ناحيتها المعاشية فرعونية، أما من ناحيتها العقلية فهي فرعونية تكيفت تبعاً لها الثقافة العربية تكيفاً يتلاءم وما تحتاج إليه الثقافة الفرعونية في عهد الحكم الروماني من ملابسات لتجاري فن الحياة في ذلك العصر. ومن هنا قامت أو قل استمدت اللغة العربية في مصر قدرتها على صوغ المعاني بما يتكافأ ومحيط مصر، فكانت اللغة العامية في مصر، وهي في الحقيقة الفرعونية الآخذة بأسباب التعرّب، ثم كان الدين الإسلامي ومنطق التفكير مما يتكافأ الطبيعة المصرية الفرعونية، وهذا ما يثبته دخول الكثير من عادات وتقاليد المصريين في تضاعيف العقيدة الدينية. يقول الدكتور سليم حسن بك عالم الآثار المعروف:

(إن كل ما كان يحرزه المصري القديم من عادات وفن ودين إلى عصر الفتح الإسلامي قد سلمه برمته إلى مصر الإسلامية، اللهم إلاّ اللغة والدين - على أن الأولى بقيت على قيد الحياة وأثرت في اللغة العربية في مصر إلى أن اندثرت في القرن السابع عشر وأقصد بذلك اللغة القبطية. أما الدين المصري القديم فقد ظهر عله الدين المسيحي ثم الإسلامي لفظا وشكلاً. والواقع أن معظم الطقوس الدينية في مصر الحديثة ترجع في أصلها إلى مصر القديمة وهي تعد في الدين الإسلامي بدعاً) وأنت ترى أن الأخصائيين في مصر الفرعونية يحكمون لنا في قضيتنا أن ثقافة مصر العقلية التقليدية فرعونية الأصل تكيفت تبعاً للثقافة التقليدية العربية تكيفاً يتلاءم وما تحتاج إليه الثقافة الفرعونية من ملابسات لتجاري فن الحياة في عصر الفتح الإسلامي

وهذه الثقافة التقليدية التي تتماثل صورها في سريرة كل مصري هي قرارة الذهنية المصرية. ولا يمكن أن تتقطع أوصال هذه العقلية من حيث هي تنزل عند حكم فطرة الشعب ما لم يهتز لذلك المجتمع المصري هزَّا عنيفاً ويدلف إلى حياة جديدة تتقطع معها أحكام البيئة والمحيط التي احتضنت ثقافة مصر التقليدية نتيجة لتكافئها معها. وما دامت لم تفز مصر بثقافة جديدة تهز المجتمع المصري في صميمه، فليس هنالك سبيل لتقطع ثقافة

ص: 26

مصر التقليدية.

إذن فلنصرف الكلام عن ذلك ولنبحث في هل هنالك من سبيل لتلقيح الثقافة التقليدية لمصر بعناصر أجنبية تبعث فيها النشاط وتدفعها لآفاق جديدة تتفق وحالات هذا العصر. وإذن يكون موضوع الخلاف الأساسي بيني وبين مناظري: هل من الخير لمصر أن تلقح ثقافتها التقليدية بعناصر من الثقافة الغربية لتساير مجرى الحياة، أم تمضي في أخذها عن الثقافة الشرقية؟

هذا هو موضوع الخلاف بين الشرق والغرب بالنسبة لمصر، وإذا قلت مصر، فإنما أعني مصر وحدها، لأن لمصر ثقافتها التقليدية التي تباين ثقافة السوريين التقليدية أو ثقافة اللبنانيين التقليدية، وما ينجح لمصر قد لا ينجح لغيرها

أما وقد وصلنا من البحث إلى هذا الحدّ، فلننظر قليلا في بحث معنى الثقافة، لأني أتبين خلافاً خطيراً بيني وبين مناظري في مفهوم الثقافة والعلم

وإني لأشعر قبل أن أدلف إلى أغوار البحث بخطورة ما سأدلي به، ذلك لأني أجد التفرقة بين العلم الوضعي والثقافة اعتبارياً. وإن كانت صيغة العلم موضوعية وصيغة الثقافة تتسم بطباع الذاتية. ذلك لأنه لا يمكن في عالمنا الحاضر التفرقة بين الثقافة والعلم، لأن الأولى نتيجة للثاني، وليس ذلك نتيجة لاغترار ذهني، وإنما نتيجة للنظر في مجتمعنا الراهن حيث يَسُود العلم الوضعي كل شيء، وينزل المنطق العلمي البحت أساساً لكل شيء. فان الحضارة الراهنة. . . الآلية بصورها المادية نتيجة لاستخدام المنطق العلمي في استغلال الطبيعة لصالح الإنسان، وكانت نتيجة استخدام المنطق العلمي أن نشأت حضارة تغلبها النزعة المادية تنزل منها ثقافتنا العصرية منزلة التاج، ولا يمكن لمجتمع أن يأخذ من العلم الوضعي نتائجه فيستخدمها دون أن يأخذ منطقه الذي يؤدي إلى هذه النتائج إلا ويكون عالة على الإنسانية. وارفع مثال ذلك اليابان التي ضربت بها مثلاً على أن أمة من الأمم لا تأخذ بالثقافة الغربية إلا وتنهض، فان اليابان ما نهضت إلا بأخذ الآلة والآلة فقط، ولذلك كان نهوضها آلياً لأنها لم تأخذ منطق التفكير الأوربي نتيجة لاحتفاظها بشرقيتها ومنطق تفكيرها التقليدي. وهذه حقيقة كبرى كما يقول مناظري، ولكن تقوم برهاناً على صحة كلامي، فاليابان اليوم عائشة عالة على أوربا وعلم أوربا، لأنها لم تأخذ علم أوربا ومنطق

ص: 27

تفكير أوربا، فكان نجاحها وقفاً على الآلة التي استعبدت أهلها فعاشوا ثمانين مليوناً من البشر في مرتبة أحط من السوائم والحيوانات إذ لم يرتفعوا إلى مرتبة الشعور بالحياة الإنسانية وكرامتها والنضال من أجلها كما هو الحال في أوربا حيث يعمل العامل للتحرير من استعباد الآلة

أظن أني خرجت عن الموضوع

إن ثقافة اليوم من حيث أنها تتبع العلم لا يمكن تخليصها من آثار العلم، والثقافة الأدبية يغزوها اليوم العلم بمنهجه الصارم ومنطقه، فمن الخطأ أن نفرق بين الثقافة من حيث أنها نتيجة معاشية وأسلوب في الحياة وبين العلم ومنطقه وهي أداة اليوم للعيش والحياة

إن الفرق بين الشرق والغرب ينحصر في هذا وحده: الغرب يقيم الحياة على أساس إنساني ويترك للعلم أن ينظم الصلات الإنسانية بين البشر؛ والشرق يقيم الحياة على أساس غيبي ويترك للغيبيات تنظيم الصلات بين البشر. الغرب يقيم حياته على أساس من التفكير في إيجاد التكافؤ بين حاجاته ومحيطه مستخدماً في ذلك العلم؛ والشرق يقيم حياته على أساس من التواكل. ولهذا لما أخذت اليابان الآلة لم تعمل على إيجاد التكافؤ بين الحياة الجديدة التي دلف إليها اليابانيون وبين حاجات هذه الحياة الجديدة، لأن التواكل هنالك يقوم مقام العمل والتفكير، فكانت نتيجة ذلك أن استعبدت الآلة أهل اليابان

لا أرغب في التوسع أكثر من هذا في هذا الموضوع الآن

في ضوء ما قدمت يفهم معنى عبارتي: (للشرق روحه الذي يستوحيه أبناؤه نزولاً على فطرتهم، وللغرب منطقه الذي يستنير به أفراده نزولاً على وحي مشاعرهم)، تلك العبارة التي جعلت مناظري يستغرب مقالي لأن فيه حصراً للمنطق في الغرب. وفي الواقع ما هو حصر للمنطق فيهم، ولكن شاء الشرقيون أن يحصروه فيهم متبعة لدعوات خطيرة مثل التي يقوم بها اليوم الأستاذ فليكس فارس!

المنطق مشاع بين الأمم، ولكن يجب أن تمرن الأمم عليه قبل أن تصبح متغلغلة في تفكيرها، إذ ليس المنطق أسلوباً في التفكير يتبع وأقيسة يجري عليها، إنما هي قبل هذا كله ميل عقلي واتجاه ذهني يمكن أن يكتسب

أما قول مناظري (وما اخترع الغرب المنطق ولا هو أوجد التفكير العلمي) فذلك مجانب

ص: 28

للحقائق المعروفة في التاريخ من أن الإغريق هم أول من عرفوا المنطق وأوجدوا التفكير العلمي وعنهم أخذ العالم المنطق. ولا أظن أن هذا موضع نقاش، وإنما يظهر أن الروح الشعرية تغلب مناظري فتجعله يتناسى كل حقائق العالم!

أقف عند هذا الحد في هذا المقال في دفع اعتراضات مناظري الأستاذ فليكس فارس، ولنا في المقال الثاني عودة لموضوع الثقافة والعلم وثقافة العرب وثقافة الغرب

وأنتهز هذه الفرصة لأدعو أنصار الثقافة الغربية للكتابة في موضوع الأخذ بثقافة الغرب لهذا الشرق النائم، وفي مقدمة هؤلاء أدعو صديقي الدكتور حسين فوزي صاحب (سندباد عصري) أن يبدي آراءه بصراحة في الموضوع، ولعل في هذا النقاش يكون الحد الفاصل بين القول بالشرق والغرب!

إسماعيل أحمد أدهم

ص: 29

‌صحيفة أدب وأخلاق

عطفة القاياتي

للأستاذ حسن القاياتي

بقية ما نشر في العدد الماضي

إنا ليملكنا الزهو باطلا بالكمالي البحت من ابتناء الضخم وإصلاح الطرقات ولا نعمل على الحاجى الحتم من ابتناء النشء وإصلاح العقول، ولولا النبل في بناة الأهرام لما فخرنا بالأهرام

يبني الرجالَ وغيره يبني القرى

شتان بين قرى وبين رجال

ما أبين الرياء الخلقي والاجتماعي فينا! هذه حالنا من القذر الجسماني والمنزلي والشعبي لا ما تسمع أيها القارئ، بل ما تشهد وما تلمس لا ما تحدث. وقد حدثني ناظر أولي أن طبيب مدرسته رأى إحدى النافذات في المدرسة بدون أسلاكها الدقيقة فغضب لصحة التلاميذ غضبة كادت تعطل الدراسة لولا توسل صاحب المدرسة إليه واستخذاؤه

إنا لأمة لا قوام لأمرنا ولا اعتدال، فينا ينبت نشؤُنا على المذابل وشواطئ المستنقعات، ولا يقنعنا الصلف أن يدرس هذا النشء إلا في الروضات والجنات!

ونحن أناس لا توسط بيننا

لنا الصدد دون العالمين أو القبر

أما وقد أجرت كلمتنا حديث الحمامات القديمة فطالما عرفتنا وعرفناها كما عرف العصريون حماماتهم وعرفتهم. دخلنا نحن حماماتنا قديماً وآنفاً ودخل العصريون حماماتهم، وتجردنا لها داخلين وتجردوا داخلين إليها وخارجين، ودخلناها جنساً واحداً ودخلوها ومعهم الجنس اللطيف، فان تصعَّد في حمامنا نَفَس أو ندِىَ جبين فإنما يتصعد النفس أو يندي الجبين في الحمامات العصرية من بعض ما تجد أصحابنا من حرقة على الحسن المتجرد السليب أو غضاضة على الحسن

ما أفتن الحمامات في مصر، أندية ترفيه، ومجالي نعمة وغضارة! بل مبتعث حكمة آونة وعظة، يقبل عليها شيع متباينة من الناس حتى إذا نكَّرهم في صورهم التجرد من الثياب وهي مظهر الجلال الزائف، نكرهم في نفسياتهم وطبقاتهم فلا يستبين للناظر المتوسم فيهم

ص: 30

أيهم السيد السريّ، وأيهم السوقي الزرى، ومن العالم الخطير والعامي الفَدْمٍ؟ فربما شهد رجلاً عليه مسحة من طراوة العيش وبضاضة المتجرَّد، وشهد آخر تعلوه طبقة من التقشف والشحوب وفقد التطرية والنضرة، فأقبل يحسب ذاك سيداً ضخماً من رجالات الشعب ويعتبر هذا رجلا من عرض الجماهير أي رجل هذا، حتى إذا أفضت بهم خاتمة المطاف إلى ملابسهم ورجع كل مستحم إلى ثيابه وحليته فشد ما يهول هذا المتوسم بل يملأ فمه ابتسامة من أمر صاحبيه أن أمثلهما في حكم نظره وتوسمه حوذي أو سائس بغل أو قرد، وأن ثانيهما الزَّرى عنده سيد نبيل من تقتدي بهم الأمم وتحاضر الملوك

ترى الرجل النحيف فتزدريه

وفي أثوابه أسد هصور

ويعجبك الطرير فتبتليه

فيخلف ظنك الرجل الطرير

أكبر اليقين لا الظن أن الله ينظر إلى خلقه كنظرتك إليهم في حمامهم مجردين من كل عظمتهم المصنوعة الساحرة، أنبلهم عنده أنبلهم نفساً لا ثوباً

أجل. إن الحمامات هذه خليقة بأن تُجدَّ لنا هذه الحكمة والعظمة:

إذا أنت وزنت الرجال وقدرتهم فانظر إليهم مجردين من كل مظاهرهم الخداعة كما تنظرهم في حمامهم، ثم ليكن قضاؤك على الألباب لا الثياب

ناهيك من الحمام بيت فخم أنيق يقطر بنضرة ورفاهية كما يقطر بماء وحرارة، ويتنفس بدفء وفتور ساحر معجب كأنه فتور الجفون كله حسن وطلاوة وتنهدات كتنهدات الصبابة بيد أنها برد وغبطة، ذلك إلى ما في سجيته من إرسال النفوس على السجية والتحلل ساعة من قيود الكلفة والتعمل الاجتماعي وخلع شيء من التوقر القائل في خلع الأثواب إلى ما فيه من سويّة في المكانة وأسوة بين الطبقات

بيد أن حمامنا القديم ربما تكشف عن هنات شائنة لو تجرد منها لكان نعيماً دنيوياً. وأناشدك الله أيها القارئ ماذا أنت قائل إلاَّ الشر في ذلك البخور الكريمة البغيض الذي يحرقونه أو يطلقونه كما يقولون ليطير الأرواح الخبيثة وقد شهد الله أنه من بغضه وكراهيته خليق بأن يطير الأرواح الطيبة قبل الخبيثة

ليس يَقَرُّ بعيني عصري متأنق صقلته الحاضرة أن يشهد في جنبات الحمام هذه الصراصر والحشرات سباحة حواليه تقذي بها عينه، ولا يطيب قلب هذا المتحضر أن يتولى نظافته

ص: 31

وصقله شيخ متوقر أشمط اللحية فيمتهن جلال هذه السن أو يذكر به جده الأعلى فيغضي على استحياء

ضحوا بأشمط عنوان السجود به

يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً

حدثني أزهري عصري النزعة حلو الفكاهة حار النادرة قال: دخلت الحمام فاستدعيت الخادم (صاحب الكيس) فأقبل عليّ شيخ أشيب دالف يحبو إلى التسعين ذكرت به جدي الأعلى، فلما دنا مني ليأخذ في مهنته جعلت أقطع النظر بينه وبين صورة في نفسي لأستاذي العالم في الأزهر أستاذ البلاغة، فإن عليه مسحة منه أبْيَنُها هذه اللحية المسترخية؛ ثم تقبلت خدمته على تكرُّه ومضض، وقد رمت رأسي بالإطراف وكسر الجفون ذكرى جدي الأعلى وتشابه شيخي الأكبر. قال محدثي الرقيق: لم أكد أتعرف حاجة للحمامات بخدمة هؤلاء الشيوخ الفانين خاصة وهذه اللحى المسترسلة حتى ابتدرت نظرة إلى ساحة الحمام فإذا الصراصر تمرح فيها فقلت: لقد علمت الآن: هذه المكانس لهذه الحشرات

ولحية يحملها مائق

مثل الشراعين إذا أشرعا

لو غاص في البحر بها غوصة

صاد بها حيتانه أجمعا

حُبَّبَ إلى راقصة فنانة بعيدة مسرى الصيت من معبودات الجماهير كما يقولون أن تزور حمامنا هذا فكان لها ما تشهَّت من تلك الزورة، فلما قضت منه كل حاجة خرجت إلى الطريق، وكان قد تسمع إلى خبر زورتها هذه فصائل من ولدان الحارة ونشئها الصغار يحبوا أكبرهم إلى العاشرة، فلم تكد الفنانة تبدو خارجة من الحمام حتى تلقوها بالتحية فاصطفوا فريقين، قطعة هنا وقطعة هناك، وقد احتملوا بأيديهم الشموع موقدة تزهر نهاراً يحتفلون للزائرة المفداة، وأقبلت هي بسامة الثغر مزهوة تخطر كخطراتها على المسرح بين صفي نور وإجلال

ولقد تقضي زمن بعيد من لدن هذه الذكرى وما يتقضى العجب منها، أتساءل: هل استخف الصبية لتحية هذه الفنانة نباهتها، إذن فليس العجب أن تسحرهم النباهة وقد سحرت آباءهم من قبل، إن النباهة لسحَّارة، وإن كانوا إنما احتفلوا لحسن في الراقصة وفن، فما أبدع أن ترف حتى القلوب الطفلة على الحسن والفن

ومشبه بالغصن قلبي

لا يزال عليه طائر

ص: 32

إن الحمامات قطعة من التاريخ القديم، إن تعهدها العصر بالتطرية والصقل كانت قطعة من النعيم:

وحمام دخلناه لأمر

حكى صَقَراً وفيه المجرمونا

فيصطرخون فيه أخرجونا

فان عدنا فإنا ظالمونا

هذا عهد للعطفة، ولقد تصرَّم قبله عهد كانت تشهد فيه حياة شيخ معهم من كُشَّاف الغيب طلائع المستقبل، شرَّق اسمه وغرَّب؛ وجاء الثناء على حذقة بالغيب من كل لغة ومنطق، يفضي إليه الناس كافة من شرقي وغربي، سيان في قصده حملة العمائم وحملة القبعات، أهل فينا عنده وباريس، كأهل أدفينا وسنتريس

كنا نشهد الباريسية المتحضرة الجامعية إلى جانب القروية المصرية داخلتين إلى الشيخ تستقرئانه رسالة المغيَّب فنقول: آمنا بالله! ما أشبه الناس بالناس! وما أقرب العلم من الجهل إذا تبرأ من العقل!

كان (السيد رمضان) صاحب ذلك البيت المتصدر نضر الله مثواه طليعة وعيناً على الغيوب والخفيات قلما تشهد في فصيلة الشيوخ والمعممين شيخاً مثله حلاوة شمائل ورقة هندام، ذلك إلى أنه كان قراره مزايا وملتقى خلال حسنه قلما تتهيأ لسيد غيره إلا بتوفيق من الله

كان السيد رمضان يحمل نفسا طروبا مرحة وأذنا موسيقية، صَناَع اللسان صَناَع اليد بالبيان العربي الساحر والتغني ونقر الأعواد والموسيقيات، كما هو صناع اللب بتكشيف المحجبات والخفايا، إذا جس أوتاره لمس بها القلوب، كما يلمس بأسراره الغيوب

فلما عبثن بأوتارهن

قبيل التبلج أيقظنني

دعون هناك بأعوادهن

فأصلحنهن وأفسدنني

شدَّ ما حفلت دار هذا المتجسس على الغيب في (ليالي حضراته) حتى فاضت بجمهرة ضخمة من العلية والسوقيين معا، وأمتها لأجلهم صفوة شائقة من نابغة المطربين في الشق كله. ناهيك منها (يوسف) و (عبده) و (عثمان) و (صالح العربي) وأين عهد صالح؟؟؟ فمن دون هؤلاء من المطربين إذ ليس فوقهم احد، ثم اختلف إليها معهم أسراب فاتنة من نبات الكناس وأسرى الحجال من كل مخبأة لعوب ميالة القد سحارة الطرف

ص: 33

وهي زهراء مثل لؤلؤة الغو

صِ ميزت من لؤلؤ مكنون

حشدت هذه الغانيات هناك حتى غصت بها نوافذ بيت الشيخ وشرفاته، وأقبل الذاكرون ومعهم المنشدون فذكروا كل شيء إلا الله ولم ينسوا النوافذ والشرفات

وكن متى أبصرنني أو سمعن بي

سعين فرقعن الكُوى بالمحاجر

هنالك كل ما خيل إليك من غمزات الجفون وعمل الفتون.

بينا القوم على ذلك تكلمت الأوتار وتصعدت آهات المطربين الفتانة وتصعدت معها (أنفاس محترقة) من الحشيشة المباحة لذلك العهد فلم ينصرف القوم إلا بقلوب محترقة:

قالت حكمة عتيدة:

(لو أمكن الغيب من نفسه لاستبدل باسمه) أجل: لو أن الغيوب مما يستشف أو يقرأ لما استحقت أن تسمي غيوبا وإنما هي إذن شهود

لقد صبَّ الله على هذا الشيخ المتأنق في مشافهة المغَيّب قرويا حقيرا من صفوف النعال فطرَّى الطابع فطرى الروح واللُّب، فأخذ يقبل به في الخدعة ويدبر، فلم يعتصم ولا شافهه غيبه بدخيلة أمره مع هذا المتحُّيل عليه حتى استنزله هانئا قرير العين عن ثلاثمائة دينار مصري كاملة زعم أنه مشترٍ له بها عقارا في الريف إذا هو رجع إلى أهله، فذهب بها طليقا مُرفَّهاً إلى اليوم ولم يشتر لعلاّمة الغيب إلا العار والسوءة: فهل ترشد الأمة المخدوعة؟

إن العلم والعقل ينصرهما الدين لم ينيرا سبيلاً إلى الغيب فما أجدر الحاكمين بأن ينزلوا بالشعوذة فتكة صارعة تغسل معرة الاجتماع وتثلج صدر العلم والعقل

هذه التي نصف، عطفتنا (عطفة الألايلى) فيما تُسمي و (عطفة القاياتي) فيما نريد، ضنكة مظلمة نأوي إليها مشتهاة فاتنة للألّف كما يأوي النحل إلى بيته وخلاياه، ورُبّ مملول لا يستطاع فراقه

ولي وطن آليت ألاّ أبيعه

وألاّ أرى غيري له الدهر مالكاً

وحبب أوطان الرجل إليهم

مآرب قضاها الشباب هنالكا

إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهمو

عهود الهوى فيها فحنوا لذلكا

شيئان من هذه الحارة مكروهان عندنا جدُّ بغيضين، ولا كتمان للحق، أول الشيئين الحارة

ص: 34

نفسها، والثاني اسمها. أما الحارة فلسنا نملك تبديلاً لخلق الله فيها، وأما الاسم فهو لأسرة تركية عريقة كانت تقطن فيها ترحلت عنها قديماً فما يمتضغ اسمها أحد اليوم ولا يختلج به صدرٌ ولا فمٌ حتى لتحسب كلمة (الألايلي) هذه اللغز الذي لا يحل

من أجل ذلك مشى الحي إلى ولاة الأمر بمقترح شهي لديهم أن يأذنوا في تسمية (عطفة الألايلي)، (عطفة القاياتي) أنساً بجيرانهم المعاصرين لهم واستئناساً بأن ذكر بيت القاياتي قد صاحب التاريخ في مصر فترة وامتضغ اسمه من قبل أيام كان جدهم الأعلى (شمس الدين القاياتي) قاضي القضاة بمصر ينزل في هذه الأحياء في سنة خمسة وثمانين وسبعمائة هجرية

مشي الحي بهذا المقترح المرجوّ إلى من يملك الأمر فلم يؤذون له أن يسمع ولا حظي عنده، والحاكم الله

إن كان ولاة الأمر قد اصطفوا (عطفة الألايلي) لأنهم يُغْلون بقدرها ويحتجزونها لتوسم (بعطفة الحرّية) أو (عطفة الاستقلال) ليوسم بها عهد الاستقلال والحرية فهنيئاً لنا بالحرية والاستقلال ويا برد هذا على الكبد، وإن لم يكن بهم إلا الضن علينا وحده فليعلموا أن سنة من يكتبون إلينا ويتحدثون عنا قد مضت بأن يكتبوا إلينا (عطفة القاياتي) ويقولوها، وألسنة الخلق أقلام الحق، فلن يكون إلا ما نريد، ولن يكون الاسم الذي يحمله صدر العطفة وهو (عطفة الألايلي) إلاّ كذبا رسمياً كالدم على قميص يوسف، ولن تكون عطفتنا إلا (عطفة القاياتي)

حسن القاياتي

ص: 35

‌بين الرافعي والعقاد

العقاد

للأستاذ سيد قطب

- 8 -

لم يعجب الأستاذ (إسماعيل مظهر) ما نكتبه تحت هذا العنوان. ونحن ناسف أن لم ننل إعجابه أو رضاءه؛ ولكن يعزينا عن هذا الفقدان أنه يعجبنا نحن ويرضينا - مع الأسف كذلك!

يقول الأستاذ:

(أما الذي لا أفهمه ولا أستطيع أن أفهمه يوماً من الأيام، فأن يتطوع ناقد لنصرة كاتب على آخر، أو شاعر على شاعر غيره، احتساباً لوجه الله الكريم، من غير أن يكون الناقد في نقده مخلصاً أول الشيء لمذهب بين في الأدب، يعتنقه الكاتب المنتصر له)

هكذا يقول الأستاذ، أما نحن فنقول:

(إن الذي لا نفهمه، ولا نستطيع أن نفهمه يوماً من الأيام فأن يكون رجل كالأستاذ إسماعيل مظهر، أو أقل منه درجات، يقرأ ما كتبناه، ثم لا يتبين منه أننا ننقد مذهباً معيناً في الأدب ونعتنق مذهباً بيَّناً منه كذلك، وأن الكاتب الذي ننتصر له، يمثل مذهباً بيَّناً يدعوا إليه منذ خمس وعشرين سنة، وما يزال يشرحه ويقرره، ويعود إليه في نثره وشعره كله، وأننا من أخلص تلاميذ مدرسة هذا الكاتب لطريقته، واشد الناس فهماً لها، واقتناعاً بها، ونسجاً على منوالها)

ويتحدث الأستاذ عن الشذوذ في نصرة كاتب على كاتب، فإن شاء أن يعرف الشذوذ حقاً، فنحن محدثوه عنه:

إنه يا سيدي في تقديم هذه السوأة الأدبية الخلقية الإنسانية المسماة (على السفود)، في تقديمها ذاته، وفي طريقة تقديمها، وفي نشرها، دون تأذ ولا تأثم، ولا خشية على آداب الحديث في الأمة، ولا آداب الطريق (ودعك من آداب النقد) ودون رحمة بأسماع الناس وأبصارهم وآنافهم!

ص: 36

وإذا شاء الأستاذ أن يعرف نوع هذا الشذوذ، فليعلم أن هذه السوأة التي كشف عنها من قدَّمها للناس، لم يستطيع أشد تلاميذ الرافعي إخلاصاً له أن يبلعها، ولقد حاول أن ينحيها - في خفة - عن أعين النظارة، وهو يزن حسنات الرافعي، ويزعم وزن سيئاته، حتى لا تهبط هذه السوأة بالكفة إلى الحضيض لو هي لامست الميزان. وكان هذا عدالة منه من هذه (العدالات) الفريدة التي يتشح بعض الناس بوشاحها

فالأستاذ سعيد العريان يقول: (من قرأ (على السفود) فعابه على الرافعي وأنزله غير ما كان ينزله من نفسه. . . الخ)

وإذا قال الأستاذ سعيد مثل هذا، وهو يدغم الكلام، ويدحرجه ليبعد بهذه السوأة عن الأنظار، فالذين لم يصابوا بعد بداء العدالة التاريخية يستطيعون أن يعرفوا مقدار شنعتها

ولولا أنني أكرم أسماع القراء وآدابهم وإنسانيتهم من التدهور أو التأذي والتأفف، لنقلت لهم شيئاً من (على السفود) الذي لا يعتبر تقديمه ونشره وترويجه شذوذا، ولا مناصرة لأديب على أديب، ولا تدخلاً في الشخصيات، وإنما يعتبر نصرة لمذهب بيّن على مذهب بيّن في الآداب والآراء!

أما قصة الموت والموتى، فقد أسلفت الحديث عنها في الكلمة الفائتة، وبهذه المناسبة أقول للزميل الودود الأستاذ سعيد: إن زميله سيد قطب ليس هو الذي يمزق الأكفان بالأظفار، والذي يمزق بظفره، مخلوق آخر، أكرم آدابي وآداب الناس أن أقول: إن الأستاذ أو أحد زملائه من فصيلته! خشية أن نتدهور خطوة أو خطوتين بعدها فيصبح من النقاش (الأدبي) المعترف به، أن يقول الواحد للآخر:(يا ابن الـ. . .) ويكون هذا من أساليب النقاد!

بقي الرجل (الذي له عمل يملأ يومه ونهج يدبر حياته). وقد أكرمته وأكرمت (دمشق عن مناقشة قوله فأبى، وما زلت على رأيي الأول.

ولكني أرى من حق سوريا الشقيقة عليّ، وأنا ممن يحفلون بالدعوة إلى الرابطة الشرقية، أن أنفي عن (دمشق) وأهلها، ما قد يتبادر إلى نفوس المصريين من تقدير لها ولأهلها على أساس كلمات الأستاذ.

فليس كل من في (دمشق) يجهل الأدب والأدباء في مصر، ولا يطلع على كل الصحف الراقية هنا، حتى يكون ممن لم يروا (سيد قطب) إلا للوهلة الأولى. ولعل للأستاذ عذرا من

ص: 37

(عمله الذي يمل يومه ونهجه الذي يدير حياته)

وليس كل من في (دمشق) يقرأ لكاتب معين (فيقبل كل ما جاد به) هكذا بدون تروً ولا تفكير ولا رأى خاص. ولا يقرأ لكاتب معين، فإذا ما قرأه (لم يعلم لآرائه من القيمة والخطر ما يدفعه إلى مناقشتها) مع أنها بين يديه، وتحت سمعة وبصره

وأنا أعرف من معارفي وأصدقائي السوريين، من لهم فكرة ورأي ومن لهم شخصية مستقلة، فليطمئن المصريون على عقيدتهم في جيرتهم!

وليس أدل من صواب رأي بادئ ذي بدء في ترك مناقشة هذا الأستاذ من ظنه أنه متى جاء لي ببيت لشوقي على مثال تشبيه الرافعي الذي انتقدته، فقد انتهى القول، وبطل الجدال!

لا. يا أخانا. يقول ألف رافعي، وألف شوقي، وبقي بعد ذلك مجال للنقد والتعليق والكلام. . .!

وقد فهمت من كلامه أن (عمله) الذي يملأ يومه، ونهجه الذي يدير حياته، والذي يمنعه - وهو معذور - من متابعة خطوات الأدب والأدباء في مصر، وربما في دمشق، هو التدريس بالمدارس

فأنا - في إخلاص - أقول لحضرته إنه يؤدي مهمة جليلة يجدر به الاقتصار عليها، فليس من الضروري أن يكون كل إنسان أدبياً وناقداً، والمدرس عاطلاً ولا فارغاً ولا صاحب مهمة نافلة يتركها لسواها

فأما إذا لم يسمع هذه النصيحة، وأصر على الاشتغال بالأدب فله ذاك ما دام القانون لا ينص على شروط معينة فيمن يشتغلون بالآداب. . .!

وبعد فقد هممت أن أعاهد القراء على ألا أشغلهم بالالتفات إلى هذا الناس، بعد ما أصبحت يائساً أشد من فهمهم لما أقول، أو استعدادهم لمتابعة المدرسة العقادية في خطواتها. لولا أنني أعتقد أن للرسالة قراء آخرين غير الرافعيين، فلهؤلاء القراء أكتب؛ ولولا أنني أضطر تأدباً أن أرد على يوجه إليَّ الخطاب مهما كان شأن ما يقول

ولكن هذه في الحق خطة متعبة، وتأدب يكلف جهداً ومشقة؛ وأغلب الظن أنني سأعدل عنه، وسأسرع في استعراض البرنامج الذي وضعته للبحث منذ المقال الأول، وقصدي منه

ص: 38

إبراز صورتين متقابلتين للمدرسة العقادية والمدرسة الرافعية، في فهم الأدب وفهم الحياة

ولولا أنني اعتدت أن أضع الخطة وأنفذها، دون اعتداد بما يجد في الطريق، لآثرت الوقوف عند هذا الحد، فقد فهم من لديه استعداد للفهم، وبقي ناس لا حيلة في تبديل طبائعهم وخلق نفوسهم وأذواقهم من جديد

والآن إلى تتمة الحديث:

يعني العقاد - إمام المدرسة الحديثة - بالحياة النابضة في ضمائر الأشياء قبل الحياة الظاهرة على سطوحها، ويعني بالحياتين معاً قبل العناية بأشكالها وصورها، ويلتفت للخوالج النفسية قبل أن يلتفت إلى الصور الذهبية، ويعني بهاتين قبل العناية ببهارج الأسلوب وزخارف الطلاوة

ولا يعني هذا أن الأسلوب الفخم والتعبير الجيد بعيدان عن شعر العقاد. ولهذا مبحث خاص، سأفرد له كلمة، ربما كانت الأخيرة

يؤم المسجد يوم الجمعة للصلاة حشد حاشد، كلهم مصل، وكلهم خارج من المسجد بعد الصلاة، ويمر هذا المنظر على الشعراء والأدباء في مصر وغير مصر، ويتكرر الأسبوع تلو الأسبوع. ولكن العقاد وحده هو الذي يلتفت التفات الفنان المثقف ثقافة نفسية واجتماعية، إلى ما يجول في خواطر هؤلاء المصلين، وما تهتف به نوازعهم فتكتمه عقولهم الواعية، وما يسرب في ضمائر أو يغشاها. ذلك أنه يروي فيتخيل، ويلاحظ فينفذ، ويحس فيحلل؛ ثم هو بعد هذا وذاك يمثل ويجسم خفايا النفوس الإنسانية، ويعرض نماذجها المختلفة في معرضه الفني الحافل بصورة النفوس

بعد صلاة الجمعة

على الوجوه سيمة القلوب

فانظر إلى المسجد من قريب

وقف لديه وقفة اللبيب

في ظهر يوم الجمعة المحبوب

إنك في حشد هنا عجيب

هذا الذي يمشي. ألا تراه

كأنما قد حملت يداه

سفتجة صاحبها الإله؟

ذاك هو الدين. وقد وفاه

فليس للدائن بالمطلوب!

ص: 39

وذلك المبتسم الرصين

كأنه بسره ضنين

أصغَى إليه سامع أمين

فهو إذا صلى كمن يكون

في خلوة النجوى مع الحبيب!

وانظر إلى صاحبنا المختال

في حلة ضافية الأذيال

أكان في حضرة ذي الجلال

أم كان في عرض أو احتفال

يزهى على المحروم والسليب!

وكم مصل خافت الدعاء

كأنما نصّ إلى السماء

رسالةً في عالم الخفاء

فلا يني يبدو لعين الرائي

كالمترجي أوبة المكتوب!

ورب شيخ من ذوي الخلاق

فرحان بالجمع وبالتلاقي

كأنه التلميذ في انطلاق

بين تلاميذ له رفاق

عادوا إليه عودة الغريب

هذه هي الصورة الباطنة لتلك السحن الظاهرة، وليس فيها مالا نعرفه الآن، في مشاهد الصلاة، بعد أن أشار إليها العقاد. وهذه ميزة الشاعر ذي (النفس) الذي يلمح ما في النفوس، فيطلعنا على ما كان بين أيدينا غائباً عنا من صور الحياة وأنماطها، لأنه يجلوه في مرآة نفسه الخاصة

ثم يمضي بعد هذا الاستعراض، يطرق الفلسفة العامة، في دعابة وفسحة في النفس، تتلقى هؤلاء الأحياء المختلفي المطامع والأهواء تلقي الوالد العطوف لأبنائه، وهم يختلفون منازع واتجاهات، وهو يبسم ابتسامة التهكم الرفيق

تجمعوا في بيته تعالى

وافترقوا في جمعهم أحوالا

وهل نسوا في أرضه النزالا

فيحتويهم بيته أمثالا

على اختلاف السمت والنصيب!

لعلهم صلوا له ارتجالا

فاختلفوا ما بينهم سؤالا

فلو أجاب السائلين حالا

صب على رءوسهم وبالا

وألحق المخطئ بالمصيب

ص: 40

هذه قطعة واحدة من (عابر سبيل) يبعثها مشهد مألوف للجميع. وهو (على قارعة الطريق) ولكن المارة لا بد لهم من عين وذهن ونفس لتراه ثم تدركه، ثم تتغلغل فيه. وأنت خليق أن تجد عند العقاد كثيراً من هذا النوع ولا سيما في (عابر سبيل)

وللعقاد عناية بتصحيح مقاييس الأحكام على الطبائع والنفوس منشؤه أنه صاحب (نفس) خاصة، و (طبع) أصيل، فهو لا يتلقى المبادئ والأحكام من الخارج، ولكن يفيض بها من الداخل، ويسمع فيها منطق الحياة الخالدة، ووحي الإنسانية الدائمة، لا منطق الفرد العابر، ولا الجيل القاصر. ومن هذا النحو قوله عن (عدل الموازين) و (جلال الموت) وقد استعرضتهما آنفاً ومنه:

من ساء بالناس ظناً دون ما ألم

أحق عندي بسوء الظن والتهم

أسيء ظنونك لكي مكرها أبدا

كمن يظن ببعض الآل والحرم

هذه قوله رجل (إنساني) تزخر نفسه بالعطف وتفيض بالثقة، فينكر فلسفة سوء الظن ارتجالاً وتطوعاً، فسوء الظن عنده بالإنسانية أمر مكروه لا يقدم عليه الإنسان وله منفذ إلى رجاء فيها، كمن يظن ببعض الآل والحرم، بعد ألا يجد بداً يجد بداً من الظنون، وبعد أن ينفد معين الثقة والتعاطف والتنزيه الفطري للآل والحرم. . . ويقول:

إذا ما تبينت العبوسة في امرئ

فلا تلحَهُ واسأل سؤال حكيم

أجل سلة قبل اللوم فيم انقباُضه

وفيم رمى الدنيا بطرفِ كظيم

لعل طلابَ الخير سرُّ انقباضه

وعلة حزن في الفؤاد مقيم

فما تحمد العينان كل بشاشة

ولا كل وجه عابس بذميم

قطوب كريم خاب في الناس سعيه

أحب من البشري بفوز لئيم

وهذه قوله رجل، معنَّيٍ بالغايات النفسية، لا بالمظاهر البادية على الوجوه ورجل يعدل (عدل الأناسي لا عدل الموازين) في الحكم على قيمة العبوسة والبشاشة في الجبين. ورجل عطوف يتقصى أسرار النفوس ويقدر أحوالها، ويوسع صدره لبدواتها ولا يتسرع في سوء الظن بها، وبذلك ينفذ وصيته السالفة.

ويقول:

لا تقل: فاجر وبرٌّ. ولكن

قل: هو الصديق والمراء صنوف

ص: 41

رُبَّ حق فيه نفيس ومرذو

ل، وميْن يرجى وميْن يخيف

إنما الفاضل الذي فضله في الخي

ر والشر فاضل وشريف

وهذه أبيات لا تكتفي بتصحيح مبدأ في الأخلاق، بل هي تخلق مبدأ. ويطول بنا الحديث لو ذهبنا نشرح هذا المذهب ونناقشه، ونوازنه بمذاهب الأخلاق، وتعريف الحسن والقبيح، وبيان أسباب هذا الحكم، الخ، فنكتفي بشرحها في اختصار:

ليست عناوين الأخلاق المتواضع عليها هي الحكم الفصل في تقدير قيمة هذه الأخلاق، فالصدق مثلا لا يعني أن كل ما ينطوي تحته، فاضل وشريف، والكذب لا يعني أن كل ما ينطوي تحته مرذول وخسيس، ومثلهما بقية عناوين الفضائل المتعارفة. إنما مناط الحكم على الصدق وعلى الكذب، أمر آخر غير عنوانهما. ففي الصدق ما هو شريف ومرذول، وفي الكذب كذلك ما يكون هذا أو ذاك؛ وفي سواهما مثلهما

وكم من كذبه عظيمة ألقاها مصلح، أوفاه بها بطل، أو زخرفها فنان، هي اشرف وأعظم، من (صِدقة) حقيرة، ألقاها جاسوس، أوفاه بها مجرم، أو طرحها مطموس لا يبغي بها قصداً

وكم من (بوهيمية) عاش في ظلها فنان تمده بالخصوبة والإلهام، هي أشرف من استقامة عاش في ظلها جلف يقنع بها عن ضعف، أو انطماس بصيرة، أو فتور حيوية

وعلى أية حال فتلك نظرية تمر هكذا في ثلاثة أبيات، بين الركود العقلي والنفس في مصر، ولو وجدت حياة زاخرة لكانت موضوع جدل ومناقشة، ومثار انقلاب في مبادئ الأخلاق. ولكننا في مصر حيث الركود والاستهتار

والذي يهمنا منها الآن، هو دلالتها على طبيعة العقاد، التي لا تحفل الظواهر والأشكال، إنما يهمها تقدير العامل النفسي الباطن في الأعمال والأقوال

ومثل هذه الخطوات هي الخطوات التي يسميها بعض ذوي النفوس الضيقة، والأحاسيس الضامرة، فلسفة لا شعراً. ويعنون أنها صور عقلية عمل فيها الفكر وحده وقد اتضح من شرحنا لها، أنها تقوم على العامل (النفسي) أول ما تقوم، وأن الطبع الحي البصير هو الذي يوحي بها

وكل ما ينقض هذه الخطرات لتكون من العاطفة في الصميم، أن صاحبها لا يضع لها لافتة (يافطة) مكتوب عليها:(هنا شعر عاطفي)!

ص: 42

أما أصحاب النفوس، فيحسون ويقدمون: أي نفس تلك التي تلتفت مثل هذه اللفتات، واي عاطفة عميقة في ثنايا هذه الأبيات

(حلوان)

سيد قطب

ص: 43

‌بين الرافعي والعقاد

في منطق التحليل

للأستاذ عبد الجليل محمد المحجوب

يريد الأستاذ (سيد قطب) أن يثير معركة تكون فاتحة لإظهار أدبه (النفسي)، وترويجاً له بين الشباب الحديثين. ولا يمنعه الحذر أن يعلن هاته الظاهر خشية الاستخفاف وضياع الأمل. وهو - كما يبدو من تحليل مقاله - رجل خضوع لنفسه، سهل الانقياد لعصبية القديمة؛ تؤثر فيه العلاقات الشخصية أكثر من علاقات الحقيقة بالعقل، والإيمان بالقلب؛ وبشريته العظامية تقوده للتقرب مما يدفعه إليه شعوره، وعاطفته المتمردة. ويقول إن له أدباً وشعراً، وملكه نقد وقادة تجعله يثور على كل من يتطاول إليه، أو يحاول أن يمس عبقريته بخطأ شائن، كما ثار العقاد على الرافعي ومخلوف إجابة لعلوّ النفس، وحفظاً لها من النزول إلى عقلية السوقة. ويعيب على الناقدين - دون نفسه - جهلهم بطبيعة الكاتب، وقساوتهم في الحكم قبل اتصالهم به واكتناه بواعثه!

ثم يذكر أنه كان (يكره نفسه على مطالعة الرافعي) لأنه عندما قرأ (حديث القمر) أحس بالبغضاء له! ويكذَّب الأستاذ سعيداً في تسمية ما كتبه العقاد في رده شتماً وسباً للرافعي. وفي تسمية ما كتبه عن (مخلوف) سباباً وشتائم) ويقول بعدئذ - في غير تحفظ - (إذا كتب (يعني العقاد) عن (مخلوف) يتهكم به، ويشنع بسوء فهمه للأدب، فمبعث ذلك عظم الفرق بين طاقة العقاد وطاقة مخلوف، والحنق على أن يكون مثل هذا ناقداً لمثل ذاك. . .

(والحق أن هذا مما تضيق به الصدور الخ. . .)

وحديث مثل هذا يفسر، بكل صدق، بأن حضرة الأستاذ سيد ليس له مبدأ في الجدال وأنه يتلاعب بالحقيقة، فطوراً ينفيها ويكفر بها، وطوراً يتوب ويتعذر!

وفي فقرة أخرى يأخذ على الأستاذ سعيد (تعرضه) بلقب (أمير الشعراء) الذي ينحله الدكتور طه حسين للعقاد (تملقاً) للشعب ونزولاً على هواه، ويرى أن هذا (اللقب) دون منزلة العقاد لأن (المسافة بينه وبين شعراء العربية في هذا العصر أوسع من المسافة بين السوقة والأمراء)

وهذا - لو كان للأستاذ شيء من المنطق - يحط من منزله العقاد إلى حدّ هائل، إذ كيف

ص: 44

وهو هو في علوه ورفعته لم ترض بإمارته سوقة؟!!

كما أنه يحمل على الأستاذ سعيد أيضاً فيما كتبه عن العقاد لأنه (يجهل طبيعة العقاد ودوافعه في الحياة وعوامل الكتابة في نفسه) ويلتمس له العذر في ذلك لأنه (لم يختلط بالعقاد أولاً. ولأن نفسه لم تتفتح لأدب العقاد فيفهمه ثانياً) ويسمح هو لنفسه أن يكتب عن الرافعي ما يشاء وهو كما يعترف لا يعلم عن حياته شيئاً ولا يشعر في قراءته له غير الكراهية والنفور!. .

وأعجب من هذا أنه كان (ينكر) أن تكون للرافعي (إنسانية) و (نفس) ولكنه لما رأى الأستاذ سعيد يتحدث عن (حبه) و (عاطفته)، وحين استطاع أن يكون ناقداً أصبح ينكر عليه (الطبع) بدل (الإنسانية) ويريد منه (الأدب النفسي) بدل (الأدب الفني). وفي هذا تناقض وسقم في الإدراك. تناقض لأن في (الأدب النفسي): الأدب الفني، وفي أدب الذهن:(أدب الطبع). وليس من يشك في أن الفن صورة لشعور النفس، والطبع صورة لذهن الإنسان.

ولعل حضرة الأستاذ سيد يذكر تجربة العالم الذي أعلن هذه الحقيقة بكيفية مضحكة: فاستدعي خمسة وعشرين رساماً، ورجا من كل واحد أن يصور له حماراً. وبعد الانتهاء لم يجد صورتين متماثلتين تماماً: فكل واحد صوره كما أوحاه إليه شعوره النفساني، فهذا رسمه أبله. وذاك رسمه صبوراً. والآخر رسمه وديعاً. الخ. وكانت البراعة الفنية مترجمة عن خطرات النفس، واحساساتها. ثم استدعى خمسة وعشرين كاتباً ورجا منهم أن يكتبوا عن الحمار أيضاً فكانت النتيجة كالأولى. وساعتئذ قرر أن الفن صورة لإحساس النفس، وهما متلازمان تلازم العرض للجوهر. فما دام للإنسان (فن) فلا بد أن تكون له (نفس)

وأما (الطيع) فهو خاصة من خصائص الذهن، لأن الطبيعة أول ما تنشأ عن العقل، وفي أرضه تنبت وتمد عروقها، وللعالم النفساني مائة وخمس وعشرون تجربة تؤيد هذا الاكتشاف، منها: أنه وضع شيئاً من الحلوى في مكان مرتفع، وجاء بطفل صغير، وأغراه ليتناولها، فجعل الطفل تارة يمد يديه، وطوراً يقفز وأخرى ينظر إليها في صمت وسكون. ثم اهتدى إلى كرسي كان إلى جانبه، وتمكن منها. فصار كل يوم يضع قطعة أخرى من الحلوى، والطفل يتناولها بالوسيلة المتقدمة بدون أدنى تفكير. ثم كان ذاك مرة كل أسبوع،

ص: 45

ثم كل أسبوعين، ثم كل شهر. حتى كبر الطفل وأصبح يستطيع أن يتناول قطعة الحلوى بدون مساعد. ولكنه ظل على طبيعته المعتادة يستعين بالكرسي.

وبعد حين أقصى عنه الكرسي. . فضحك الطفل ومد يده وتناولها. واستمرَّ على وضع قطع أخرى، في أمكنة مختلفة، واستمرَّ الطفل على تناولها بيده. ثم أبعدها عنه حتى صار لا يستطيع أن يمسها بيده. وحينئذ فكر الطفل وأوحي إليه ذهنه أن يستعين بها. . . وهكذا بقي خمسين شهراً يكرر التجربة نفسها. وفي المرة الأخيرة أحضر جمعاً من علماء النفس والتربية وعلق قطعة من الحلوى في سلك مرتفع بحيث لا يقدر الطفل أن يتناولها. . . وعندما أمره بأخذها، شرع يستعمل جميع الوسائل التي اعتادها قبلاً دون تفكير في إفادتها. وبعد لأي وقف قليلاً صامتاً، ثم طفق يبكي ويلتفت إلى الحاضرين. . . وعندئذ قام وشرح أمره، وصرح في النهاية بأن جميع الطبائع والعادات كالمشي، والبكاء، والضحك وما شاكلها منبعثة عن العقل. وعلى هذا فطبيعة الأديب مستمدة من الفكر ومسيرة بأوامره. كما يتعين أن يكون (أدب الطبع) جزءاً من (أدب الذهن)

وإني لأنصح لحضرة الأستاذ سيد قطب أن يرجع لمؤلف وإلى غيره من كتب البسيكلوجيا التطبيقية فإنه لواجد فيها ما يبطل زعمه، ويعود به إلى حظيرة الحق والسكون

وبعد، فهذه نظرة قصيرة أحببت أن أشعر بها حضرة الأستاذ بأنه - نظراً لكتابته وما حشاه فيها من (الأفكار) المضطربة ما يزال بعيداً عن النقد والحكم البريء، عساه أن يجنح إلى السلم، ويعدل آراءه على ضوء المنطق، ويقين الملاحظة

وإن لي رأياً في أدب العقاد، وأدب الرافعي، كونته من مطالعتي لهما. سأعلنه متى قضت الظروف

(تونس)

عبد الجليل محمد المحجوب

ص: 46

‌ليلى المريضة في العراق

للدكتور زكي مبارك

(بقية المقال الحادي والعشرين)

وفي وادي السلام يقول الأستاذ علي الشرقي:

ثلاثون جيلاً قد ثوتْ في قرارةٍ

تزاحم في عُرب وفُرس وأكراد

ففي الخمسة الأشبار دُكَّتْ مدائنٌ

وقد طُوِيتْ في حُفرة ألف بغداد

عبرت على الوادي وسَفَّتْ عجاجةٌ

فكم من بلاد في الغبار وكم ناد!

وأبقيت لم أنفض عن الرأس تربهُ

لأرفع تكريماً على الرأس أجدادي

وكذلك كان الدخول إلى النجف من باب السلام، أي الموت!

وبحثت عن فندق فكان فندق السلام فتشاءمت، ثم أسلمت نفسي إليه، لعلمي بأني صائرٌ لا محالة إلى السلام، أي إلى الموت!

ثم رأيت فندق السلام بالنجف شبيهاً بأخيه فندق السلام في حيّ سيدنا الحسين بالقاهرة. رأيت الناس ينامون زرافات في حجرة واحدة، فأخذت أمتعتي وانصرفت، وذهبت إلى فندق ثان فرأيته أعجب من الأول، فمضيت إلى ثالث فرأيته أغرب من أخويه، وانتهى بي المطاف إلى غرفة حقيرة في فندق حقير هو أعظم الفنادق بالنجف

ولعل الفنادق كانت كذلك لقربها من وادي السلام، فهي تروض المرء على قبول الدفن مع من يعرف ومن لا يعرف، وتقرَّب إلى ذهنه صورة المساواة في دنيا الأموات

كان غبار السفر الذي دام أكثر من أربع ساعات آذاني، وكنت أحب أن أصلح من شأني في الفندق لأستعد لمقابلة البهاليل من آل ليلى، فلم أجد في الفندق ما يسعف، ولكن لا بأس فسيعلم النجفيون بعد ساعات أني نزلت في فندف فيغضبون ويقولون (هذه فضيحة) وينقلون أمتعتي إلى منزل أحد الأصدقاء

وعندئذ أتذكر أن النزول في الفندق كان عند أهل العراق علامة من علائم المسكنة، يشهد بذلك قول الشاعر القديم

يا أيها السائل عن منزلي

نزلت في الخان على نفسي

آكل من خبزي ومن كِسرتي

حتى لقد أوجعني ضرسي

ص: 47

ويشهد بذلك قول شاعر حديث هو الرصافي:

سكنت الخان في بلدي كأني

أخو سفر تَقَاذُفهُ الدروبُ

وأصرخ في وجه النجفيين قائلاً: إن المدينة التي تخلو من فندق نظيف لا تسمى مدينة، والذين عاشوا في أوربا كما عشتُ لا يستطيعون النزول في منازل الأصدقاء، والفندق النظيف هو المأوى الطيب للضيف، والحكومة المصرية لا تنزل ضيوفها في غير الفنادق، لأنها تعرف قيمة الفنادق، وكذلك تصنع حكومة العراق حين تستقبل ضيوفها في بغداد

فيا أهل النجف، تذكروا أن مدينتكم في حاجة إلى فندق نظيف، وتذكروا أن مثل ذلك الفندق ينقل مدينتكم من حال إلى أحوال

خرجت من الفندق أتلفت ذات اليمين وذات الشمال لأرى شبيهات ليلى، شفا الله ليلى وشفاني، ومنحني وإياها العزاء يوم الفراق، إن كان لنا سبيلٌ إلى التلاقي قبل الفراق

وساقتني قدماي، بل هداني قلبي إلى الحرم الحيدري

وقفت بصحن الحرم كالأرقم، والحمد لله على نعمة العافية، وليته يتفضل بحفظ هذه العافية ولو عشر سنين لأداوي جميع المرضى من الملاح

وقلت في نفسي: أنا تلميذ الشريف الرضي الذي يقول:

لو أنها بفناء البيت سانحةٌ

لصِدتُها وابتدعت الصيد في الحرم

فإذا كان الشريف استباح الصيد في الحرم النبوي فأنا أستبيحه في الحرم الحيدري

ودرت حول الضريح مرتين، ثم وقع البصر على فتاة ساجية الطَّرف مشرقة الجبين فخفق القلب

ثم وقفت

أصاول عينيها بعيني والهوى

يشيع الحميا في فؤادي وأعضائي

وظنت الفتاة أنها أقدر مني على الفتون، فحاولت قتلي، ثم لطف الهوى فصرعتها، فجمعت ما تبدد من قواها، وفرت فرار الغزال المطعون

وعَدَوتُ لاقتناصها فلم أفلح. وكيف يعدو النشوان وهو كالمقيد في الشوك!

من أي سحر صيغت تلك العيون؟

وإلى أية غاية تسير تلك العيون؟

ص: 48

ولأية حكمة خلقت المقادير تلك العيون؟

لقد أفلح الدساس الظريف الذي نقلني إلى النجف، وهو على ظرفه لئيم خبيث

وبالنجف الحاريّ إن زرت أهله

مهاً مهملات ما عليهن سائس

خرجن بحب اللهو في غير ريبة

عفائف باغي اللهو منهن آيس

ثم طفت بالحرم مرة ثانية فوجدت ناساً يقرءون أدعيات وصلوات وحولهم نساء يبكين ورجال يبكون، فوقفت أسمع وأبكي، وهل في الدنيا بلاء مثل بلائي؟ أنا العاشق المهجور الذي غدرت به ليلاه. ولو كانت ليلى واحدة لصبرت، ولكنهن ليليات!

فيا بديع الملاحات ويا فاطر السموات، كيف ترى حالي!

ويا خالق النخيل والأعناب، كيف سكبت الصهباء في روحي؟ ويا مجري الدمع في الشؤون، كيف علمتني وعلمت الحمائم النُّواح

وما الذي أعددت لتكريمي يوم ألقاك وقد سبَّحت بحمدك فوق أفنان الجمال!

وما عندك لسلامتي من الناس، وقد خاصمت فيك جميع الناس!

وطفت بصحن الحرم مرة ثالثة فوجدت ضريح الحبوبي الذي يقول:

اسقني كأساً وخذ كأساً إليك

فلذيذ العيش أن نشتركا

وإذا جُدت بها من شفتيك

فاسقنيها وخذ الأولى لكا

أو فحسبي خمرةٌ من ناظريك

أذهبت نسكي وأضحت منسكا

وانهب الوقت ودَعْ ما سلفا

واغتنم صفوك قبل الرَّنق

إن صفا العيش فما كان صفا

أو تلاقينا فقد لا نلتقي

وعند ذلك الضريح طال بكائي، فهذا شاعر قضى حياته في التغني بالجمال، ثم رآه النجفيون صوفياً فدفنوه بجوار أمير المؤمنين، وأنا أفنيت شبابي في التغني بالجمال ولم أجد غير العقوق!

فمتى يعرف قومي أني صوفيٌّ يؤمن بوحدة الوجود؟

ومتى يعرف قومي أني أصدق تلاميذ ابن الفارض في هذا الزمان؟

اللهم لطفك ورحمتك، فقد طال بلائي بالناس!

يئستُ من الصيد في الحرم الحيدري بعد فرار تلك الغزالة، وبدأتُ أعتب على سيدنا علي

ص: 49

بن أبي طالب، فمثلي لا يُكرَم في رحابه بالماش والُجلاَّش، وإنما يكرم مثلي بالهيام في أودية الفتون، وما كنت في حياتي من الفاسقين، وإنما كنت مؤمناً يتقرب إلى ربه بعبادة الجمال

وفي حومة هذا العَتْب تذكرت أن لي في النجف صديقاً من تلاميذ الأستاذ محمد هاشم عطية هو السيد محمد تقي آل الشيخ راضي، فقلت أذهب إليه عساه يجد السبيل إلى الظبية التي نفرت مني، ولكني ما كدت أصل إلى منزله بعد طول البحث حتى وجدته في ارتياع، فقد علم أن الشرطة في النجف تبحث عني، لأني في ظنهم وردت النجف لمطاردة الظباء، وقد رأى بفطرته السليمة أن ينفي الشبهة فدعا علماء النجف للتسليم على العالم العلامة الدكتور زكي مبارك!

وما هي إلا لحظة حتى كانت الدار تموج بالغرّ البهاليل من أقطاب النجف

وجلست بين القوم جلسة العالم الحق، وما يصعب عليّ أن أمثل هذا الدور الفظيع، فانتقدت صاحب مجلة الحضارة لأنه يدعو إلى تعديل المذاهب القديمة في التعليم، وقلت أن مذاهب التعليم في النجف كمذاهب التعليم في الأزهر لا ينبغي أن تزول

وعجب القوم من أن يصدر هذا القول عن رجل متخرج في السوربون

ولكني في الواقع لم أكن مرائياً، فقد صح عندي أن الأساليب الأزهرية والنجفية أساليب تنفع أجزل النفع في رياضة العقل، يضاف إلى ذلك أن الأزهر هو الذي حفظ اللغة العربية في عهد المماليك، وأن النجف هو الذي حفظ اللغة العربية في عهد الأتراك، ورعاية العهد توجب الإبقاء على تلك الأساليب التي استطاعت أن ترسل النور الوهاج في دياجير الظلمات

وبعد طول الحوار فهمت أن في النجف ثورة فكرية تشبه الثورة التي وقعت في الأزهر منذ أكثر من ربع قرن، وعرفت أن طلبة العلم في النجف يريدون أن يغيروا حالهم ليسايروا مناهج التعليم في العصر الحديث

وقد تأكد ذلك المعنى حين قال الأستاذ الصوري: ما رأيك يا دكتور في أن أخلع عمامتي؟ فقلت: أنا أبغض المعممين الذين يخلعون عماماتهم! فقال: هل تعرف ما قلتُ في العمامة؟ لقد قلت: إنها منعت رزقي وفِسقي

ص: 50

فابتسمت وقلت: وكيف تعيش يا مسكين بلا رزق، وبلا فسق؟!

وتقدم الأستاذ البلاغي صاحب مجلة الاعتدال فقص أحاديث يشيب لها الوليد، ومنها عرفت أن طلبة العلم في النجف يعيشون في بؤس. وقد طفر الدمع من عيني حين سمعت أن عالما نجفياً أشرت إليه في كتاب (عبقرية الشريف الرضي) جلس في صحن الحرم الحيدري يبيع كتبه ليسدَّ ما عليه من ديون، لم يجنيها لهوٌ ولاُ مجون، وإنما جناها الخبز والماء

وكان هذا العالم المحقق لقيني في الكاظمية منذ أشهر، لقيني لقاء المساكين؛ ولما لقيني في النجف تبسم وقال: كنت في الكاظمية غريباً، وأنا اليوم في بلدي، وأنا حاضر لخدمتك

وكنتُ أحب أن أقبل دعوته الكريمة، ولكني وا أسفاه كنت عرفت ترجمة حالة منذ لحظات ففررت من كرمه بترفق وتلطف

لا تحزن أيها الزميل؛ فسيكون لي ولك مكانٌ بين الصابرين

لا تحزن، فالدنيا أحقر من أن يبكي على نعيمها أحرار الرجال

لقد سمعت أنك بعت دارك بثمن بخس لتسدد ديونك. فهل علمت أن لك عقبى الدار يوم يجزى الله الصابرين؟

ثم مضيت فطوَّفت بالنجف وحولي جيش من أهل العلم والأدب والبيان، وفي أحد المنعطفات وقع البصر على طفلة من قريبات ليلى، فمددت يدي امسح خدها الأسيل فصرخت، وتضاحك الرفاق، ولكني سأرجع بإذن الله إلى النجف لأعرف أهل تلك الطفلة وأخطبها لأحد أبنائي، وبيت أهلها يقع في دربونة متصلة بدربونتين إحداهما توصَّل إلى الرابطة الأدبية، والثانية توصَّل إلى الحرم الحيدري، ولذلك البيت روشن عليه بَرَّادة، وبداخله بئرٌ وسرداب، وفوق الروشن حمامتان تسجعان، وفوق عتبات ذلك البيت تتحدر مدامع العشاق

يا شبيهة ليلى في حسنها ودلالها ولؤمها وغدرها! ترفقي بقلبي فقد تركته في الدَّربونة لتدوسه في كل صباح أقدامك الرقاق

يا شبيهة (كريمة) الغالية التي تداعت أباها في الأحلام تذكَّري أن طيفاً زارك في النجف ولن يعود. يا أخت (زينب)، تذكري أن الرجل الذي مدَّ يمينه ليمسح خدك الأسيل لم يكن فاجراً، وإنما هو مجاهد ترك وطنه وأهله في سبيل العقيدة والوجدان

ص: 51

إليك دمعي يا حلوة يا جميلة، وهو دمعٌ تمردَّ على الخطوب، ثم أذلَّته عيون الملاح. أحبك أيتها الطفلة الوسيمة وأشتهي أن أسمع صراخك مرة ثانية، فما كان وحق الحب ألا صراخ الدلال

واستيقظت في اليوم التالي مبكراً لأرى الكوفة، ولأقف بأطلالها كما وقف أستاذي ماسينيون، وكان أكبر همي أن أرى مسجد الكوفة الذي طُعن فيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، والذي فار في زاويته التنور لعهد نوح عليه السلام، والذي صلى فيه ألف نبيَّ وألف وصيَّ، والذي فيه عصا موسى، والذي هلك فيه يغوث ويعوق، والذي يحشر منه يوم القيامة سبعون ألفاً ليس عليهم حساب، وفي وسطه روضة من رياض الجنة كذلك تقول الأساطير

وما كانت في عيني وقلبي أساطير، وإن كنتُ تلميذ منصور فهمي وطه حسين

لقد شهدت بعيني كيفُ طُعنَ علي بن أبي طالب ورأيت دمه رأى العيان

ورأيت المكان الذي خطب فيه الحجاج خطبته المشهورة، الحجاج الهائل الذي أصلح العراق، وافسد العراق

ورأيت قبر مسلم بن عقيل رسول الحسين، ورأيت كيف يبكي الناس على قبره وكأنما قتل بالأمس، فتذكرت أن العراق يحوي ثروة عظيمة جدَّاً من الحماسة الوجدانية، وتذكرت أن العراق تغلب عليه سرعة الانفعال، فهو يقتل المصلح بلا ترفق، ثم يجعل البكاء عليه شريعة من الشرائع

تذكرت أن العراق كالقوة الكهربائية التي تحيى وتميت، وهو ينتظر رجلا في طغيان الفرات وسماحة النيل

إن العراق من قُوى العروبة والإسلام، ولكن أين من يعرف؟

لقد هداني العراق وأضلني، وكان على الدهر مصدر هداية وضلال

ثم مضيت أتلمس آثار الحيرة البيضاء، مضيت أتلمس آثار الخورنق، فلم أعرف ولم يعرف رفاقي أين الخورنق

وكان هيامي بأطلال الحيرة موسماً من مواسم الشعر والخيال،

وفي ذلك الهيام عرفت شيئاً من مدينة العرب في الجاهلية

ص: 52

ولو كان لي شيء من الأمر في حكومة العراق لأجريت نهر السدير من جديد لأنقش في وجه الزمن ذكريات النعمان

مضينا إلى أطلال الخورنق مع سائق جهول فقادنا إلى مكان موحش، فقال الرفاق: ليس هذا مكان الخورنق. فقال السائق: أنتم تبحثون عن أحجار، وههنا أحجار!

صدقت أيها الجهول، فنحن نبحث عن أحجار، ولكننا نبحث عن أحجار نواطق!

عندئذ تذكرت فراعين مصر، فقد كانوا يدركون أن الزمن لئيم غدار، وأن التاريخ كلام في كلام، فبنوا أهرامهم وقصورهم بأساليب يعجز عن فهمها الزمان

وقد تقوضت آثار الملوك في المشرقين والمغربين وعجز الدهر الغادر عن هدم آثار الفراعين

ما أشقاك في دنياك وأخراك أيها النعمان! أنت قتلت سِنِمَّار ليبقى سر الخورنق، فهل بقي الخورنق؟

ليتك استعنت الجندي المجهول في وادي النيل، ليتك بنيت هرماً يعجز اللئام عن نقل أحجاره ليبنوا بيوتهم الخاوية

أيها النعمان، سلام عليك من شاعر مصري يبكي لمصيرك في التاريخ!

أيها النعمان، أيها الملك العربي العظيم، أين الخورنق وأين السدير. . .؟

اعترف أيها الملك بعظمة الشعر والشعراء، فنحن الذين حفظنا مكانك في التاريخ، ولولا الشعراء لطمس الزمن مكانك في التاريخ

وفدت على أطلال قصرك وأنا جائع ظمآن فما تزودت غير الأسى والأنين

وفدت على أطلال أنكرتها العين، وعرفها القلب

وفدت على أطلال لم يعرفها جيرانك من أهل النجف، وعرفها شاعر مصري مظلوم ينكره أهله، كما أنكرك أهلك

فيا زميلي في البؤس والشقاء، سلام عليك

ثم مضينا نمتع النظر بطغيان الفرات، وأين طغيان الفرات من طغيان قلبي!

هذه الكوفة الاسلامية، وتلك الحيرة الجاهلية، وأولئك الغافلون من العرب والمسلمين. فيا رب الأرباب أنقذ عبدك المسكين من ظلم الجحود والعقوق

ص: 53

ورجعت إلى النجف أسأل عن أخوات ليلى، ولكن كيف؟ إن النجف كله يطارد العاشق المسكين الذي ضيع مستقبله في سبيل هواه

ويصمم النجفيون على إقامة حفلة تكريم للدكتور زكي مبارك فأرفض، لأن تلك الحفلة كانت توجب أن أتخلف عن دروسي في دار المعلمين العالية، وتخلفي عن دروسي أمر مستحيل. وكذلك أقهر علماء النجف وأمتطي السيارة إلى بغداد

رجعت في زي المساكين لأني لم أجد الشفيع إلى ليلاي

رجعت ذليلاً مقهوراً، فماذا أصنع؟

آه من حبي وغرامي وبلواي!

لقد هجرتني ليلي وصدفت عني ظمياء

فلأذهب إلى الموصل لأستشفع بقريبات ليلى هناك

إلى الموصل الذي رقدت في ثراه عظام أبي تمام أمتطي قطار المساء. . .

(للحديث شجون)

زكي مبارك

ص: 54

‌التاريخ في سير أبطاله

ابراهام لنكولن

هدية الأحراج إلى عالم المدنية

للأستاذ محمود الخفيف

يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من

سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . . . . .

- 16 -

وما كان إبراهام كما أسلفنا يطمع من وراء هذا النزال أن ينال لنفسه شيئاً؛ وهل عُرفتْ في خلقه غميزة منذ كان يقطع الأخشاب ليشتري بالمئات منه سروالاً؟ أو ليست كراهته لنظام العبيد ترجع إلى صدر شبابه؟ أو لم يتنز بالألم قلبه يوم سافر إلى نيو أورليانز في تجارة لأحد الناس ورأى هنالك أسواق الرقيق ووقعت عيناه فيما وقعتا على تلك الفتاة التي عرضت نصف عارية على الأنظار كأنها مهرة كريمة؟

منذ ذلك اليوم وهو يسير إلى غاية، شعر بذلك أو لم يشعر به؛ فلقد استقر في نفسه مالا تقعد معه عن العمل أو تنصرف عن الغاية، فكانت ثمة عزيمة تهون أمامها جسيمات الأمور، وكانت ثمة رسالة يحلو في سبيلها الجهاد ويطيب الاستشهاد؛ ومرد ذلك كله إلى قلب إنساني كبير ونفس مطمئنة صابرة، وبصيرة، كأنما تشرف من حاضرها على المستقبل فلا تقف من دونها حجب الغيب. . .

إنه اليوم كما أراد حزبه ينافس دوجلاس على مقعد في مجلس الشيوخ فهل كان ذلك قصارى همه؟ كلا. وما كان بعض همه أن يرقى إلى كرسي الرياسة ذاته؛ وإنما كان همه أن تتحقق مبادئه ولو بدل في سبيلها نفسه؛ ولن يكون مقعد الشيوخ أو كرسي الرياسة عنده أمراً ذا بال إلا أن يكون وسيلة إلى السير بمبادئه إلى حيث يعتنقها الناس؛ وإلا فما الجاه والثراء والحكم عنده إلا من صغيرات الأمور؛ وهو إنما ينفر من كل أولئك بطبعه الذي يعزف عن الزهو، ويتخوف دواعي البطر. . .

ص: 55

وإن أمثال ابن الأحراج هذا في تاريخ البشرية لقليلون، ولكنهم هم الذين رسموا لها طريقها، وولوها قبلتها التي ارتضوها لها وأشاروا بأيديهم إليها، وما كان أتعس البشرية لو أنها افتقدت هؤلاء الذين يتمثل بهم ضميرهم أناساً يمشون على الأرض

قال إبراهام ذات يوم من أيام ذلك النزال (لست أدعي أنها السادة أني غير أناني، ولن أتظاهر بأني لا أحب أن أذهب إلى مجلس الشيوخ، كلا لن آتي هذا الادعاء المنافق، ولكني أقول لكم إنه في هذا الجدال الصارم، ليس يعنيكم ولا يعني عامة الناس من هذه الأمة ما إذا كان القاضي دوجلاس أو ما إذا كنت أنا بحيث تستمعون عنا بعد هذه الليلة أو لا تستمعون. وبما كان هذا أمراً تافهاً بالنسبة لكلينا، ولكنه إذا اعتبر من حيث علاقته بتلك المسألة العظيمة التي ربما كان يتوقف عليها مصير هذا الشعب فانه يكون في حكم العدم)

هذا هو ابراهام رجل المبدأ لا يعنيه أن يظفر أو أن ينهزم، وإنما تعنيه تلك المسألة العظيمة؛ ولن يهدأ له بال حتى تحل أو تسير في سبيلها إلى الحل

وأنى لدوجلاس أن يقف في وجه تلك القوة العاتية؟ أنى له أن ينال من ذلك الذي يتكلم فيخيل إلى سامعيه كان الأخلاق نفسها تقول كلمتها. حاول دوجلاس أن يعبر مرة عن عدم المبالاة من جانبه في مسألة العبيد فانبرى له ابراهام قائلاً: (إنني أبغض مثل هذا المظهر، مظهر عدم المبالاة. . . إن من شأنه أن يضعف حاسة العدالة في دولتنا، وإنه ليعطي أعداء النظام الدستوري السلمي شبه حق أن ينظروا إلينا كأننا منافقون، كما أنه في نفس الوقت يمد أنصار الحرية الحقيقيين بسبب وجيه لتشككهم في إخلاصنا). . . وقال في معرض آخر:

(إنكم باعتيادكم أن تطئوا حقوق غيركم إنما تفقدون بذلك حقيقة استقلالكم أنتم، وتصبحون طعمة لكل طاغية يخرج من بينكم. دعوني أخبركم أن مثل هذا إنما يعده لكم منطق التاريخ، إذا جاءت أدوار الانتخاب الآتية بحيث تجعل الحكم في قضية دردسكت التالية وغيره من الأحكام أمراً يقبله الناس. إنكم تستطيعون أن تخدعوا كافة الناس ردحاً من الوقت وبعض الناس طول الوقت، ولكنكم لن تستطيعوا أن تخدعوا جميع الناس طيلة الأبد)

بمثل هذا المنطق السائغ، وبمثل هذه العبارات السهلة الأخاذة كان ابراهام يأخذ الطريق

ص: 56

على دوجلاس في غير مشقة؛ وكان الناس كأنهم يلمسون الصدق في هذه العبارات وأمثالها؛ وهم واثقون من نزاهة غرضه وشرف مقصده. . .

ويريد ابراهام أن يصور موقف كل من الولايات القديمة والولايات الجديدة من نظام العبيد، فيصل إلى غايته في وضوح ويسر بعبارته الآتية التي أعجب بها السامعون، قال:(إذا أنا أبصرت ثعبانا قاتلا يزحف في طريق فأن أي رجل يقول بأن لي أن اعمد إلى أقرب عصا فأقتله؛ ولكني إذا وجدت هذا الثعبان في السرير بين أطفالي فان المسألة تتخذ وضعاً آخر فأني ربما آذيت أطفالي أكثر مما أوذي الثعبان وربما عضني ذلك الثعبان. وتختلف المسألة أكثر من ذلك إذا أنا وجدت ذلك الثعبان في سرير أطفال جاري وكنت على اتفاق وثيق مع ذلك الجار ألا أتدخل في شؤون أطفاله مهما يكن من الأمر. . . ولكن إذا كان هناك سرير قد صنع حديثاً وأُزْمِعَ حمل الأطفال إليه واقترح أن يحمل إليه عدد من الثعابين توضع مع الأطفال، فليس في الناس من يرى أن هناك اختلافا في أي الطرق أسلك)

ولقد عرفنا فيما سلف من خلال ابراهام قدرته على التهكم، ورأينا كيف يرشق خصومه في ساحة القضاء بتهكماته حتى يزلزل أقدامهم، كل ذلك في عذوبة روح وترفع عن الإساءة وحذر شديد أن يخرج إحساس أحد؛ وها هو ذا اليوم في مناظرته دوجلاس يعمد إلى ذلك السلاح في مهارة يضيق عنها ذكاء خصمه وتتخلف دونها بديهيته، ويذهل عندها مكره. استمع إليه كيف يسفه وسائله ويزيف آراءه، وقد رأى منه أنه غيَّر رأيه وأنكر رأياً سالفاً له (أقول إنك خلعت قبعتك، وإنك تثبت أني كاذب بوضعها على رأسك من جديد؛ وهذا هو كل مالك من قوة في هذا الجدال) ثم انظر إليه كيف يحمل الناس على الضحك بأن يستخرج من إحدى عبارات دوجلاس ما يشبه القانون الرياضي، قال دوجلاس:(إذا كان النضال بين رجل من البيض وبين زنجي فأني أقف إلى جانب الأبيض، أما إذا كان بين زنجي وتمساح فإني مع الزنجي) فأجاب ابراهام بقوله (يستنتج من ذلك أن الرجل الأبيض من الزنجي كالزنجي من التمساح، وعلى ذلك فبقدر ما يكون من الحق في معاملة الزنجي للتمساح يكون منه في معاملة الرجل الأبيض للزنجي)

ولم يدع إبراهام قولاً مما ساقه دوجلاس مساق المبادئ إلا حمل عليه وكشف عما فيه من بهرج، ومن ذلك ما أعلنه دوجلاس في مسألة نبراسكا وأبى إلا أن يسميه مبدأ سيادة

ص: 57

الشعب؛ قال إبراهام: (مبدأ سيادة الشعب معناه حق الشعب أن يتولى حكم نفسه، فهل اخترع ذلك القاضي دوجلاس؟ كلا؛ فلقد اتخذت فكرة سيادة الشعب طريقها قبل أن يولد صاحب مشروع نبراسكا بعصور، بل قبل أن يطأ كولمبس بقدميه أرض هذه القارة. . . فإذا لم يكن القاضي دوجلاس هو مخترع ذلك المبدأ فدعنا نتتبع الأمر لنتبين ماذا اخترع. أهو حق المهاجرين إلى كنساس ونبراسكا في أن يحكموا أنفسهم وعدداً من الزنوج معهم إذا أرادوا ذلك؟ يظهر في وضوح أن ذلك لم يكن من اختراعه، لأن الجنرال كاس قد أعلن ذلك قبل أن يفكر دوجلاس في مثله بست سنوات. . . وإذاً فماذا اخترع المارد الصغير؟ لم يخطر على بال الجنرال كاس أن يسمى اكتشافه بذلك الاسم القديم ألا وهو سيادة الشعب. أجل لقد استحى أن يقول إن حق الناس أن يحكموا الزنوج هو حق الناس أن يحكموا أنفسهم. وهنا أضع تحت أنظاركم اكتشاف القاضي دوجلاس بكل ما فيه؛ لقد اكتشف أن تربية العبيد والإكثار منهم في نبراسكا هو سيادة الشعب)

رأى دوجلاس يعمد إلى المداجاة، ويجهد أن يلبس الحق بالباطل فشبهه بنوع خاص من السمك من خصائصه أن يفرز مادة سوداء كالمداد يضل بها الصيادين، فهو لا يفتأ يرسل من العبارات الجوفاء ما يرمي به إلى التعمية وطمس الحقائق. . . والناس يضحكون مما يقول ابراهام معجبين به مستزيدين منه. . .

ولقد رأى أبراهام في ذلك الصراع فرصة قلما تتاح له مثلها فعول ألا يدع في مسالة العبيد شيئاً غامضاً، وأخذ يقلبها على وجوهها في سهولة تستهوي الألباب، تلمس ذلك في مثل قوله عن المتمسكين بمبدأ العبيد، قال: (إن مبدأ الاستعباد عندهم يظهر لي كما يأتي: ليست العبودية صواباً من جميع الوجوه، وليست كذلك خطأ من جميع الوجوه، وإن من الخير لبعض الناس أن يكونوا عبيداً، وأنهم في هذه الحال يكونون خاضعين لإرادة الله. . . حّقاً ما كان لنا أن نعارض مشيئة الله، ولكن لا تزال هناك صعوبة في تطبيقها على بعض الحالات الخاصة، فمثلاً لنفرض أن هناك شخصاً اسمه الدكتور روس الموقر يملك عبداً اسمه سامبو فأنا نتساءل هل مشيئة الله أن يظل سامبو عبداً أم هي أن يطلق صراحه؟ وإنا لن نظفر من الله بإجابة مسرعة عن هذا السؤال، ولن نجد في كتابه الإنجيل جواباً لذلك، أو لا نجد في الغالب إلا ما هو من شأنه أن يثير الجدل حول معناه. . . ولا يفكر أحد أن

ص: 58

يسأل ما رأي سامبو في ذلك. وعلى ذلك يترك الأمر في النهاية للدكتور روس ليفصل فيه؛ وبينما هو يفكر في الأمر تراه يجلس في الظل وعلى يده قفازه يقتات بالخبز الذي يكسبه سامبو تحت الشمس المحرقة، فإذا هو قرر أن مشيئة الله هي أن يظل سامبو عبداً فانه بذلك يحتفظ بموضعه المريح؛ أما إذا قرر أن مشيئة الله هي أن يصير سامبو حراً فان عليه أن يخرج من الظل وينزع قفازه ويكدح من أجل خبزه؛ فهل يفصل الدكتور روس في الأمر بما تقضي به النزاهة التامة التي لابد منها في كل فصل حق؟)

وانتهى ذلك الصراع الذي اشتهر أمره، فكان نصيب الجمهوريين من المؤيدين مائة وخمسة وعشرين ألفاً؛ ونصيب الديمقراطيين دون ذلك بأربعة آلاف؛ ولكن مجلس الولاية التشريعي هو الذي كان يختار عضو مجلس الشيوخ، وكان بهذا المجلس أربعة وخمسون عضواً من الديمقراطيين وستة وأربعون من الجمهوريين؛ ولذلك فاز دوجلاس فصار عضو مجلس الشيوخ! ولقد عد انتصاره في نظر بعض المؤرخين بعد هذا الصراع أعظم انتصار شخصي في تاريخ أمريكا السياسي. . .

وهكذا يفشل ابراهام مرة أخرى في الحصول على مقعد في مجلس الشيوخ، ويخطئ دوجلاس دونه بذلك المقعد؛ ولكن ابراهام على عادته لا يعبأ بهذا الفشل، بل إنه ليستشعر الراحة بينه وبين نفسه أن استطاع أن يسمع تلك الآلاف صوته؛ وإنه ليحس أن مبادئه قد أخذت سبيلها إلى قلوب الكثيرين منهم على صورة طالما مني نفسه بها، وأي شيء هو أحب إليه من ذلك؟

لقد أصبح اسمه على كل لسان، وصار يعتبر من رجال أمريكا المعدودين، وأضاف الناس في الشمال إلى ألقابه لقباً جديداً فقالوا لنكولن (قاتل المارد)، وطنطنت باسمه الصحف؛ ومن ذلك ما قالته نيويورك ايفننج بوست، (لم يصل رجل في هذا الجيل إلى الشهرة في قومه بمثل تلك السرعة التي وصل بها لنكولن في هذا الانتخاب)؛ وكتب إليه رجل غريب عنه يقول:(إن مثلك اليوم كمثل بيرون الذي أفاق ذات يوم من نومه ليجد نفسه ذائع الصيت؛ إن الناس يستنبئون عنك بعضهم بعضاً، لقد قفزت دفعة واحدة من محام له الصدارة في الينواس إلى الشهرة القومية)

أما هو فقد وصف شعوره يؤمئذ بقوله: (مثلي مثل الصبي الذي اصطدم إصبع قدمه بشيء

ص: 59

آلمه، فكان الألم أشد من أن يصحبه ضحك وكان الصبي أكبر من أن يبكي). . .

ولاقى إبراهام عنتاً من بعض خصومه في تبرسبرج، فلقد أرادوا إيذاءه فتصايحوا ضده، وأسمعوه من البذاء ما أعرض عنه إعراض المؤمنين الصابرين. . . ولكنه في أتاوا استقبل استقبال الفاتحين فحمله شباب المدينة على أعناقهم والألوف تهتف به؛ وهو ضائق بهذا يقبله على رغمه ولو أنه استطاع أن يفلت منه لفعل ذلك مسرعاً ولكنه لا حيلة له فيه؛ وما كان أشبهه ساعتئذ بالخليفة الثاني عمر حين صاح بقومه أن كاد يقتله الزهو!

أجل؛ لقد تبرم لنكولن بهذا الزهو، فما كان من شيمته أن يزهى، ولا كان من خلقه أن يترفع أو أن يطغى؛ بل كان لا يتزايد حظه من الصيت إلا تواضع، ولا يعظم نصيبه من النفوذ إلا خفض جناحه وألان جانبه للناس جميعاً، أولياؤه وخصومه في الرأي في ذلك سواء. . .

وعاد إبراهام إلى سبرنجفيلد بعد أن قضى في ذلك النزال أكثر من شهرين؛ عاد إلى زوجه وأولاده فلقيته ماري راضية عنه على الرغم من إخفاقه في الحصول على مقعد في مجلس الشيوخ. أو ليست ترى الصحف كلها تذكر زوجها وترى أكثر صحف الشمال تطنب في مدحه وتعده بطلاً من أبطال قومه؟ أو ليست هذه هي النغمة التي يحلو لها سماعها؟ وأي شيء أحلى في قلبها وقعاً من أن ترى نفسها زوج رجل عظيم يعترف الناس بعظمته. . .

وأقبل على المحاماة من جديد فلقد أنفق في هذا الصراع من المال ما أرهقه من أمره عسراً؛ هذا إلى أنه بانقطاعه طيلة تلك الأيام عن مهنته لم يكسب من المال شيئاً؛ وهكذا يعود ابن الغابة إلى كدحه ليقيم أوده وأود أسرته بينما يذهب دوجلاس الثري يرفل في النعمة إلى وشنجطون ويجرر ذيل الخيلاء السابغ الضافي

(يتبع)

الخفيف

ص: 60

‌حديث الرمزية

للدكتور بشر فارس

حديث يأبى أن ينقطع سلكه، إلا أنه منزَّه عن الفضول واللغو لطرافته ثم لتنوع مستطرداته. ووراء الأمر ظاهرتان: الأولى انجذاب نخبة من الأدباء والقراء إلى الجديد كأنهم يفطنون أن أعواد بعض أساليب الإنشاء القائمة الآن قد شظفت أي شظفٍ حتى إنها أمست تعجز عن حمل الثمر؛ أو كأنهم يلمحون في المذهب الرمزي بما قرءوا عنه - قلّ أو كثر - أداة فيها ما فيها من المتانة والاستقامة، وإن بدت ضرباً من ضروب الإفلات من قيود المنطق (الجليل) صاحب السلطان الأعلى في التأليف والتفكير. وأما الظاهرة الثانية فاستعداد القراء لتفهُّم مذهب لا يكاد يتصل بما ألفوه من الأدب العربي الحديث، فكلنا نشأ على قراءة التهزُّل الموضوعي عند المويلحي، والتصنع اللفظي عند البكري، والابتداعية حسب ترجمة الأستاذ الزيات) المفرطة حتى الإزعاج عند المنفلوطي. ثم قامت بعد ذلك طرائق، فكانت الطريقة التحليلية الواقعية في مصر، والطريقة التخُّيلية في المهجر

والظاهرتان دلالة على ارتجاج الذهنية الاتباعية، وشهادة لارتقاء شأن الاستحداث المطَّرِد في الأدب. فأبْشِرْ بهما!

يقول الأديب الفاضل السيد كامل الشرقاوي في الرسالة (رقم 258 - البريد الأدبي)(والرمزية - بعد - في الأدب العربي (المستحدث) في أول الطريق، فالحديث ذو شجون ولازم على من يشقّون ويوسَّعون الطريق لها فيه أن يطيلوا الكلام والإبانة عنها للسالكين. وما أحرى الدكتور بشر في هذا المقام. . . أن يوالي مجلة الرسالة الغراء بمقالاته. . . عن الرمزية يوضح طرائقها ويترجم لزعمائها وقادتها ومدارسها منذ نشأتها إلى الآن توطئة لتأليف رسالة عنها بقلمه. . .)

إني أشكر للأديب الفاضل رقة كلامه وحسن ظنه بي. غير أني أرى غير رأيه. فالذي عندي أن المنشئ المنصرف إلى الاستحداث في التأليف يخرج ما يخرج ثم يقبل النقاد ينظرون فيه، ويُطلعون القراء على خصائصه، ويدنون لهم طريقته إن هي بعدت عما خبروه، ويسوقون لهم قصتها، ثم يبرزون لهم انحراف المنشئ من هنا وهناك عن تلك الطريقة إن هو قدر على أن يدسَّ فيما يكتب ما يشف عن شخصيته. هذا وإن ظفر إنشاؤه

ص: 61

بالقبول وجدرت العناية بطريقته، قام العلماء بتاريخ الأدب والمنقطعون للبحث في فنونه وأساليبه يؤلفون المقالات والرسائل، فيدفعون إلى القراء ما غاب عنهم، ويبذلون لهم ما أَشكل عليهم

والذي جرى للرمزية أني ألَّفت مسرحية على طريقتها مع شيء من الاستقلال بما نفسي إليه ترفّ وقلمي له ينساق. ثم جاء النقاد فأحست فئة منهم بغرابة الطريقة عن أذهان قراء العربية؛ فاستهل الأستاذ صديق شيبوب النقد بالكتابة في الرمزية (جريدة البصير)، وأردف الأستاذ الفنان زكي طليمات النقد ببحث لطيف فيها قائم برأسه (مجلة الرسالة)، ونشر الأستاذ أبو شهلا التوطئة التي عملتها للمسرحية ذهاباً منه أنها وافية (مجلة الجمهور البيروتية)، ونوّه بشأن هذه التوطئة الأستاذ الأب الكرملي والأستاذ الصيرفي (في المقتطف) والدكتور زكي حسن (في الأهرام) والأستاذ كامل محمود حبيب (في المقطم) والأستاذ ادجارجلاد في ? ثم نبه الأستاذ نجيب شاهين إلى اتصال الرمزية بالتصرف وخروجها عن الوضوح التام (في المقطم)

ثم فزّ أحد من المتخرجين في كلية الأدب للجامعة المصرية ومن طلبة العلم في (جامعات فرنسا)، وإذا هو يؤلف مقالة عجيبة قد بين مبلغ اضطرابها الأستاذ محمد فهمي في مجلة الرسالة (رقم 256)

والرأي إذن أن للمنشي عملاً وللناقد عملاً وللعالم ثالثاً؛ غير أن المنشئ ربما حق عليه أن يؤلف المقالة أو الرسالة في الكتاب الذي يخرجه دفاعاً عنه أو توضيحاً له، وذلك ما أقدمت عليه في مجلة الرسالة يوم آنست من جانب النقاد ميلا إلى إدراج الرمزية المستحدثة التي في (مفرق الطريق) في الرمزية الأولى إدراجاً لا استدرك فيه، فشرحت يؤمئذ خاصية الرمزية التي في مسرحيتي وميزتها في تفاصيلها من الرمزية الأولى

يريد الأديب الفاضل السيد كامل الشرقاوي أن يؤلف المنشئ (كتباً مطولة عن الرمزية تكشف عن مناهجها وما يحيط بها لا توطئات مركزة دسمة إن هي أفادت فئة من الأدباء المطلعين على الثقافة الأجنبية اطلاعاً واسعاً فهي لا تكفي مطلقاً ذوي الثقافات المتوسطة من الأدباء، بل عامة القراء)

إن الأديب الفاضل يومئ ههنا إلى (التوطئة) التي صنعتها بياناً للمسرحية، وقوله فيها حق!

ص: 62

فأني أردت أن تكون التوطئة كما يصفها الأديب الفاضل، وإني لفرح بالنجاح إذ كنت أعلل النفس بأن أؤلف توطئه طريفة تدخل في جانب الأدب (المركز الدسم) لا توطئة مقصورة على عرض المذهب الرمزي (من الخارج) كما تقول الفلاسفة، بأن أسود تاريخها وألم تفاريقها في أسلوب موضوعي بصيح:(إن هذه التوطئة ملفوظة من الكتب فما هي بثمرة تأمل وروية واجتهاد)

إنما المأمول في المنشئ أن يدفع للقارئ غذاء روحانيا لا مواد كتب وكلما (دسم) الغذاء و (تركز) جعل المنشئ القارئ يشاطره فنه. وتلك غاية الإنشاء العالي الناهض على الروّية والتأثر الدفين

فأبعد - إذن - بأدب الاطلاع وأدب التسلية! ّ

(الإسكندرية)

بشر فارس

ص: 63

‌رسالة الشعر

الشعاع المقيد!!

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

(إلى هالة الوطنية التي تتفجر أنوارها من تمثال رسول الجهاد

الأول مصطفى كامل. . . وهو يرسف في قيوده بين ظلام

النسيان والجحود)

خُذْ أماناً منَ الشعاع المُقَيَّدْ

فهْوَ في القَيْدِ جَمْرةٌ تَتوقَّدْ

مِلْءُ ذَرَّاتهِ أناشيدُ مَجْدٍ

بصداها مُحَرِّرُ النيل أنشَدْ

ذَرَّةٌ ترْعِبُ الحديدَ عَلَى الصَّمْ

تِ! وَأُخْرَى في الهوْل تُرْغى وَتُزْبِدُ

غلَّلَتْهُ باْلأَمْسِ كَفٌّ ضَلولٌ

تَنْصُرُ البَغْيَ بالْحُسام المجرَّدْ

شَدَّ طُغيانَها عتيٌّ منَ الغَرْ

بِ، على النِّيلِ كم طغى وَتمرَّدْ!

ملَّكتْهُ - والملك لله! - دُنْيا

ظِلها عاجلُ الْفناءِ مُبدَّد

فَمضى في مسابحِ الشَّرْق كاْلاقْ

دار يُشْقى كما يَشاء ويُسْعِدْ!

كم عَدا فاتِكاً! وأحكَمَ أَغْلَا

لاً الرِّقابُ في الشَّرْق تَشْهَدْ!

في (فِلَسْطين) ظُلْمُه أَقلق الدُّنْ

ياَ وما هَزَّهُ الصُّراخُ المرَدَّدْ

وعَلَى (مصرَ) كم أَذَلَّ! وأَرْدَى!

وتمَطَّى على النُّجوم وَهَدَّدْ!

عَبقريٌّ في الختْلِ يُدْمي وَيرْتَ

د على الجرْح باكياً يتوجَّدْ

كم سَقَى النَّيلَ مِن ضراوَتِه الهوْ

نَ وعيشاً من المذَلَّةِ أنكَدْ!

وتمادَى. . . فكُنْتَ يا (مُصْطفى) الهوْ

لَ على هوْلهِ تَثورُ وَترعِدْ

في غباَء السّنين، والنيل مُغفٍ

وبَنُوه من سكرَة الضَّيم هُجَّدْ

قُمت كالْعاصف المجلْجِل تَجتا

حُ فلا تنْثَنْي ولا تتردَّدْ

تُلْبِسُ القيْدَ مِن جناَنكَ قَيْداً

حَزُّهُ في الحديدِ نَقشٌ مُخَلَّدْ

هَتفاتٌ بِحُبِّ (مصر) وَموتٌ

في هَواهاَ! ونَشوَةٌ! وَتَعَبُّدْ

وَصلاةٌ بمجدِها. . كُنتَ فيها الْ

عابِدَ الصَّبَّ، والشواطئُ معبَدْ

ص: 64

وَذيادٌ عن حُرمةِ الوطن الشَّا

كي بعزم (كَنيلهِ) ليس ينفَدْ

وَدِفاعٌ عن الحِمى كُنتَ فيهِ

ما لِغير الحمى تَرومُ وتقصِدْ

فارسٌ في قَتَامَةِ النَّيل تمضى

بشِهاب منَ السَّماءِ مُؤَيَّدْ

مِشْعَلٌ في يدَيْكَ شَرَّدَ بالأضْ

واءِ جُنحاً على الشَّواطئِ أربَدْ

كُنتَ تَسرى به فُتنهضُ فاني

نَ علَيهم شيْخُوخَةُ اليأْس تُقِعدْ

بضِياءٍ منَ الهدَى أنعشَ الشَّرْ

قَ وطَرفُ الزَّمانِ في (مصر) أرمَدْ

وَبَيانٍ كأنه لهبُ (البُرْ

كانِ) تَختارُ جَمرَه وتُنَضِّدْ

كلَّ لَفظٍ منَ الصراحةِ سهمٌ

في حَشا الغاصبين ماضٍ مُسَدَّدْ

هاَتِ لي مِن صَداهُ نَبراً لَعلِّى

أنْفثُ النَّارَ من صَداىَ المغرِّدْ

هاتِه فالجحود وَارَاه في سجْ

ن على شاطئِ الليالي مُشَرَّدْ

في زوايا النِّسْيان قَبرٌ. . . وَذِكرٌ. . .

ورَخاٌ في الصَّمْت لهفاَن مُكْمَدْ

كاد يَنضو الأستارَ عنه وينعى

أَنا رَمزُ الفَخار يا (نِيلُ) فاشهَدْ!

أنا عَلَّمتُكَ الْوُثوبَ على القَيْ

د! وعَلمْتني الأسى والتنَهُّدْ!

ما الذي في الضِّفاف نَسَّاكَ رُوحاً

ذَاقَ من أجْلكَ الرَّدَى واسْتشهدْ؟

أشيُوخ على الكَراسيِّ هاَجُوا

وَهْيَ منْ بَغْيهم تميدُ وَتُرْعَدْ!؟

أَمْ شباَبٌ على تُرابِكَ يمشى

حَول ساقَيِهِ كالأسِير المصَّفَّد؟

خانعٌ في حِماك. . . ينتظرُ البَعْ

ث ليمضى إلى الإمام وَينهَدْ

عَلَّموهُ. . الأرزاقُ في (مصر) رَهْنٌ

بِرَجاءٍ! وذِلةٍ! وتَودُّد!

كيف يُلقى بعَزمه تحت نَعلَي

هـ وفي الذلِّ يستنيمُ ويَرقُد!!

ما الذي في الضفاف نسَّاك يا (نيل)

هَوى ذَلِك الشعاع المقَيَّد؟

فَمنحت التِّمثال شِبراً، عَليه

تائهُ الدود في الْبِلَى يتمرَّد!

وَحرَمتَ الجهاد فجراً من النُّو

ر، يُهَدِّي إلى عُلاكَ وَيُرشِد؟!

محمد حسن إسماعيل

ص: 65

‌صوفية الفن

للأستاذ زكي المحاسني

ما لعينيك تسموان إلي الج

وكطير لم يلق في الجو حدّا

وتبيت الدجى كأنك شبْح

خافق في ظلامه ليس يَهدا

شُدِهَ الناس من لَغَاك فظن

وك سليباً في جاحم تتردى

ورآك الحبيب تدلف سه

وان فبكَّى وراح يلطم خدا

أنظرُ الغيبَ في مداه فلا تم

لك عيني عن وجهه الحلوِ ردا

أسمعُ اللحن خلفه فأراني

هالكاً من صدايَ أبصرت وِردا

وإذا لفّني الظلام ترنَّحْ

تُ على عِطْفِه وقد نمت سُهدا

إن يقولوا إني جننت يصيبوا

فأنا قد فقدت بالعقل رشدا

والجميل الذي تحسر لوكا

ن حبيباً لصار لي اليوم ندا

أنا روحٌ خرجتُ منِّي إلى الأف

قِ البعيد البعيدِ قد عفت قِدا

طفت فوق الربى على الزهر أحنو

وتَخِذْت الغمائم البيض مهدا

وهفا بي إلى الجمال خيال

فتراءى فماً وعيناً ونهدا

والصباح الندىُّ عطر أنفا

سي وكانت لي العشيات أندى

أيها الفن ما تقربت من عل

ياك إلا وازددت بالقرب بعدا

أنا أهواك في السماء وفي الأر

ض وأسعى إليك ما اسطعت جهدا

زكي المحاسني

ص: 66

‌البريد الأدبي

مجلس إسلامي أعلى بمصر

يهتم العالم الإسلامي في سورية والعراق وإيران والهند بالكتب التي أرسلها صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر إلى رجال الدين في الأقطار الإسلامية يواضعهم الرأي فيها على إنشاء مجلس إسلامي أعلى بمصر لينظر في إزالة ما أحدثته العصبيات والأهواء والبدع من الفروق بين أبناء الملة الواحدة ليعود المسلمون إخواناً في الهوى والرأي والعقيدة. وقد علمنا أن أهم أغراض المشروع هي:

(1)

تقوية روابط الإخاء بين المسلمين في جميع أنحاء العالم

(2)

إيجاد التعاون بين الهيئات التعليمية في البلدان الإسلامية على نشر الثقافة على وجه العموم والثقافة الإسلامية على وجه الخصوص

(3)

تبسيط الكتب الدينية ليتسنى لعامة المسلمين فهم دينهم على الوجه الصحيح

(4)

تقريب وجهات النظر بين الطوائف الإسلامية حتى يشعروا بالأخوة الإسلامية التي تساعد على التناصر والتضافر والوحدة

والمفهوم أن سيتألف هذا المجلس من علماء المسلمين في جميع الأقطار الإسلامية على اختلاف مذاهبهم ثم ينعقد بالقاهرة في وقت معين من السنة فتعرض عليه المسائل والمشاكل والمقترحات فيضع فيها الرأي الموفق

بين مصر والمغرب

قدم القاهرة منذ أسابيع الأستاذ محمد المكي الناصري مدير معهد الأبحاث المغربية في تطوان حاملاً من سمو مولاي الحسن خليفة المنطقة المغربية المشمولة بالحماية الإسبانية إلى رجال الحكومة المصرية وإلى قادة الفكر بمصر - هذا الكتاب الذي يحدد الغرض من مقدمه، ونصه:

من سمو خليفة جلالة سلطان المملكة المغربية أعزه الله وأيد أمره (الحسن بن المهدي بن إسماعيل بن محمد):

يعلم من هذا الكتاب الرفيع قدراً ومقاماً أننا أرسلنا حامله خديمنا الأرضي مدير معهدنا الخليفي بالعاصمة التطوانية الأستاذ الدراكة الألمعي الفقيه السيد محمد المكي الناصري

ص: 67

مبعوثاً خاصَّاً من سمونا المعظم إلى مصر القاهرة رغبة منا في أن يقوم هنالك بتأسيس مثوى خاص لبعثاتنا العلمية التي عزمنا على إرسالها إلى القطر المصري الشقيق، وأن يضع الحجر الأساسي لمكتب ثقافي صرف ملحق بمعهدنا الخليفي نفسه لترتكز فيه العلاقات الثقافية التي تربط بين الغرب الجديد ومصر الحرة الناهضة، الحاملة للواء الزعامة في العالم العربي؛ وبالإجمال أرسلناه ليتخذ كل الوسائط المناسبة التي تجعل نخبة مواطنينا المغاربة على اتصال تام بالنهضة العلمية الكبرى التي أمد الله بها وادي النيل المحبوب، وليفسح المجال لمعهدنا الخليفي حتى يبلغ في ميدان المعرفة أقصى ما يمكنه من كمال. فالرجاء من رجال الحكومة المصرية الموقرة، ومن قادة الفكر المصري العباقرة، أن يساعدوا مبعوثنا الخاص حامل هذا الكتاب السامي على مهمته الثقافية المجردة، وأن يتفضلوا فيقابلوه بما هو أهله من العطف والتأييد والتقدير. أبقاهم الله تعالى لخير العروبة ومجد الاسلام، وحفظهم الله زخراً للكنانة حتى يحرسوها على الدوام، والسلام

تطوان في 28 محرم عام 1357

وقد قدم الأستاذ المكي هذا الخطاب الملكي إلى صاحب المعالي الدكتور هيكل باشا وزير المعارف فصرح له بما يأتي:

(إن مصاير الأمم التي تتكلم اللغة العربية متحدة تمام الاتحاد من الوجهة الروحية، ولذا فأنا نغتبط كل الاغتباط بربط العلاقات الثقافية مع جميع البلاد الشقيقة، وليس هذا الاتجاه اتجاه حزب من الأحزاب، بل هو اتجاه جميع الحكومات المتعاقبة في مصر فهو اتجاه ثابت دائم. ونحن مستعدون كل الاستعداد لمساعدة المغرب الأقصى في جميع ما يطلب من الناحية الثقافية سواء بإرسال المدرسين المصريين إلى مراكش أو بقبول البعثات المغربية في مصر. وإني لأغتبط بالموافقة على مطالبكم التي قدمتموها للوزارة، وكونوا مطمئنين إلى أن مصر ستقوم بأكثر مما تنتظرون منها)

وقد تم الاتفاق بينه وبين وزارة المعارف على إيفاد بعثة مغربية إلى مصر لا يقل عدد طلابها عن العشرين للدخول في المدارس والمعاهد المصرية، وإيفاد بعثة من الأساتذة المصريين تنتدبهم الوزارة للتدريس في المدارس المغربية. وسينفذ هذان المشروعان اعتباراً من بدء السنة الدراسية الجديدة

ص: 68

معهد للثقافة الإسلامية في اليابان

تقدمت الثقافة الإسلامية في حكومة اليابان خطوة أخرى فتألف فيها معهد رسمي للثقافة الإسلامية. والغرض منه تعريف البلاد الإسلامية والشرقية أحوال تلك البلاد وعاداتها وطبائع سكانها وتنمية الروابط الثقافية والأدبية بين اليابان والبلاد الإسلامية كافة

وقد تلقينا العدد الأول من مجلة يصدرها هذا المعهد باللغة العربية جاء في مقدمته عن أغراض المعهد والمجلة ودعوتهما للبلاد الإسلامية ما يأتي:

(إن الأمم الإسلامية التي اكتسبت فضائلها النفسية من محاسن الدين الإسلامي الحنيف لابد لها أن تطرب لهذا الصوت الذي يناديها من أقاصي الشرق طالباً منها المعونة والتأييد لتحقيق غرض مشترك سام يجلب الخير والبركات لا على اليابان والشعوب الإسلامية فحسب، بل على العالم الإنساني بأسره

إن أملنا بشعور هذا العالم السامي الحي وطيد بأنه سيتقدم نحونا بنفس الشوق الذي نتقدم نحن إليه للعمل جنباً لجنب في إنشاء عالم جديد يسوده السلام ويغمره الخير في آسيا يعيش الجميع في ظلاله بصفاء ووئام ويتمتع الكل بالراحة والنعيم المنشود والرخاء إن هذه المجلة ستعني عناية خاصة في أن تجعل نفسها همزة الوصل بين اليابان والإسلام وشعوبه ليعرف كل منهم الروابط الثقافية والودية ليتم التفاهم على أساس صحيح. وفي ذلك الخير للجميع والله ولي التوفيق)

التعاون العلمي بين مصر والأقطار الشرقية

تألفت في دمشق هيئة أطلق عليها اسم (المكتب العربي القومي)، ومن أغراضه توطيد صلات العلم والثقافة بين البلاد العربية المختلفة

وقد طلب هذا المكتب إلى وزارة المعارف إمداده بما يصدر عن الجهات الرسمية العلمية والثقافية من مؤلفات وكتب وقوانين إلى غير ذلك لضمها إلى مكتبه

وقد كتبت وزارة المعارف إلى وزارة المالية تطلب إليها رأيها في هذا الطلب، ذاكرة في هذا الصدد أن ما يطلبه المكتب المشار إليه لا يكلف الحكومة شيئاً يذكر

رحلة علمية لدرس طرق القوافل

ص: 69

من أنباء لندن أنه وصل إلى ميناء سوثمبتون المستر سمبتش والمستر مور من الأمريكيان ثم سافرا إلى الإسكندرية بالطائرة (كابيلا). وسيقومان برحلة تستغرق ثلاثة أشهر من النيل إلى دجلة والفرات يتفقدان في خلالها طرق القوافل القديمة ويقارنان بينها وبين طرق النقل الحديثة التي تستعمل اليوم

سفر بعثة علمية ألمانية من كوبنهاجن إلى جرينلند

من أخبار برلين أن بعثة علمية ألمانية سافرت أخيراً على الباخرة (جرترودراسك) من كوبنهاجن إلى جرينلند للقيام بمباحث جغرافية وجيولوجية ونباتية وحيوانية وقد وردت منها البرقية الآتية: (لا يوجد الآن جليد على سواحل جرينلند الشمالية. وقد نزلنا إلى البر بكل راحة والطوالع حسنة للقيام بأعمال مثمرة والجميع في خير حال)

الاستكشافات القطبية

تلقت وزارة الخارجية دعوة موجهة للحكومة المصرية، للاشتراك في مؤتمر دولي خاص بالاستكشافات القطبية سيعقد في مدينة برجن عاصمة النرويج في 15 مايو إلى 22 سبتمبر سنة 1940

وقد أحالت وزارة الخارجية تلك الدعوة إلى الوزارات المختصة للوقوف على رأيها في هذا الشأن، وستعرض أيضاً على لجنة المؤتمرات والمعارض في اجتماعها القادم

العالم العربي كما تصوره جريدة إنجليزية

نشرت جريدة إيكونومست مقالا رئيساً بحثت فيه أحوال العالم العربي وأشارت إلى الاقتراح القائل بوجوب عزل فلسطين عن جوارها بسياج من الأسلاك. لكنها أوضحت أن فلسطين غير قابلة للعزل على الإطلاق، لأنها محاطة من كل جانب بالعالم العربي، وما من حاجز مادي يستطيع أن يمنع مليون عربي مقيمين فيها من الشعور والتفكير والعمل بالاتفاق مع أربعين إلى خمسين مليون عربي يعيشون في مناطق واسعة من الأرض الداخلية

ثم قالت إن اللغة العربية هي اللغة الوحيدة في ذلك الفضاء الواسع، بل هي أم اللغات الشائعة بين الأهالي الحاليين في آسيا الجنوبية الغربية وأفريقيا الشمالية ما خلا بضع

ص: 70

جزائر غريبة اللسان باق بعضها من الأزمنة السابقة لعهد العرب

فما هي الآمال القائمة اليوم في بعض الصدور؟ هل النزلاء الأوربيون الذين حلوا أخيراً في مملكة العرب القديمة سيزيدون عدداً حتى يملئوا الأرض التي كانت إلى الآن عربية؟ وهل يدفعون سكانها العرب أنفسهم على تخلية المدن والقرى والرجوع القهقري إلى الصحراء الجرداء القاحلة؟

لا شك أن في الدنيا بعض الصهيونيين يحملون في أن يجعلوا اللسان العبراني لسان الشرق من حيفا إلى تل أبيب على الطرف الغربي من الصحراء السورية، كما يوجد أيضاً بعض الفرنسيين الذين يحلمون مثل هذا الحلم ويرجون نقل لغتهم الفرنسوية من وهران والجزائر إلى الطرف الشمالي من الصحراء الأفريقية وتحويل من هنالك من البرابرة الذين لم يصيروا عرباً حتى الآن إلى فرنسيين

فهل هذه الأحلام الأوربية بالتوسع العظيم على نفقة العرب تخيلات وهمية أم سياسة عملية؟

إن الرد على هذا السؤال يتوقف على كيفية تأثر العرب بهذا الاندفاع الأوربي. أن اشتراك اللغة وحدها لا يترتب عليه اشتراك في الشعور الاجتماعي ولا اشتراك في الغايات ولا في الأماني. وقد كان العرب حتى الآن متباعدين. ويستدل على عدم تضامنهم باختلاف الألوان الكثيرة على خريطتهم الجغرافية

فان في العالم العربي اليوم أربع دول: السعودية واليمن والعراق ومصر، مستقلة استقلالاً تاماً، وثلاثا على مقربة من الاستقلال وهي سوريا ولبنان وشرق الأردن، واثنتين ممنوعتين من الاستقلال مكرهتين على قبول نظام الحماية الفرنسوية وهما: تونس والمغرب الأقصى، وثلاثا محكومات فعلا بصفة مستعمرات مع أنهن في الواقع ذوات أحكام مختلفة. ففلسطين تحت الانتداب البريطاني، والسودان تحت السلطتين الإنجليزية والمصرية، ولوبيا تحت السلطة الإيطالية. وأخيراً الجزائر فان فيها ثلاث مقاطعات معدودة فرنسية كأراضي فرنسا الأصلية.

(وهكذا نرى العالم العربي في حالته الحاضرة لا يختلف عن أيام الصليبيين. بل إن الخريطة الحاضرة تشبه خريطة تلك الأيام إلى درجة مدهشة

ص: 71

ففي تلك الأيام كانت فلسطين وتونس كما هما اليوم النقطتين العربيتين اللتين رسخت فيهما قدم الغزاة الأوربيين، وكانتا كما هما اليوم نقطتي الخطر المميت. ومنهما انبعث قبلاً كما ينبعث اليوم النداء العام إلى تعاون العرب الذي كان محسوباً مستحيلاً وقتئذ كما هو محسوب الآن.

أن النورمان أخرجوا من تونس بقوة منقذين أقبلوا لنجدتها عليهم من المغرب الأقصى. وصلاح الدين الأيوبي استطاع وقف الحملة الصليبية الثالثة بقوات متحدة تحت سيطرته من سوريا والعراق ومصر.

فهل ترى التاريخ يعيد نفسه؟ - إن الأدلة التي تشير إلى ذلك عديدة.

نداءات الباعة في القاهرة

في العدد الأخير من مجلة مدرسة اللغات الشرقية بجامعة لندن بحث قيم طريف عن نداءات الباعة في شوارع القاهرة تحت عنوان ' وهو ما يسمعه الجالس على المقاهي أو الجائل خلال شوارع القاهرة ودروبها وأزقتها من مختلف النداءات التي يحاول الباعة أن يجتذبوا الجمهور بها إلى بضائعهم، والتي يبذلون غاية جهدهم في تنميقها حتى تكون مشوّقة، وهذا البحث جديد في بابه لم يلتفت إليه أو يُعْنَ به أحد قبل كاتبه مستر فهذا المقال الطريف بما حوى من مختلف النداءات التي تقرب من مائتي نداء تصور جانباً من الحياة النفسية في القاهرة للباعة المتجوَّلين، ويطلَّ القارئ منها على أساليب العيش في مصر، إذ أنها تمثل صميم الحياة الاجتماعية، ويذكرنا هذا البحث بكتيب صغير الحجم ألفه أحد الأمريكيين منذ أمد غير بعيد وقدمه رسالة لجامعة كاليفورنيا بأمريكا تناول فيه الأمثال الدارجة عند أهل الشام وترجمها إلى الإنجليزية وعلق عليها، فمنحته الجامعة لقب دكتور في الآداب

وعلى ذكر مجلة اللغات الشرقية نقول إن هذه المجلة إحدى نشرات جماعة المستشرقين القيمة التي تعني بالدراسات الشرقية على وجه العموم، فتلتقي على صفحاتها أقلام أعلامهم، متناولة شتى جوانب الحياة الشرقية والتفكير الشرقي ممثلين في آدابه ودياناته وحركاته الاجتماعية، ولقد ظل الأستاذ سير دينسون روس أستاذ اللغة العربية بجامعة منشستر محرر هذه المجلة منذ نشأتها حتى العام الماضي، ثم تولاها من بعده الأستاذ تيرنر وهو من

ص: 72

أفذاذ المستشرقين الإنجليز

ص: 73

‌الكتُب

التجديد في الشعر

أرجوحة القمر

للشاعر اللبناني صلاح لبكي

للأستاذ فليكس فارس

لا أحب هؤلاء المدعين التجديد في الإنشاء المرسل والشعر المرسل الذين يحسبون أنهم يجيئون بالعجب العجاب إذا هم قلبوا أوضاع اللغة وتصرفوا بلهجاتها وروعة اتساقها، فكأن تفكيرهم وشعورهم لا يقويان على الظهور إلا إذا خلقوا لنا لغة جديدة تقوى على اقتناص شوارد الخيال وجامحات التفكير فيهم؛ وكأن البيان العربي الذي اتسع لأقدس وحي وأروع إلهام، قد فقد روحه وأنحطم جناحاه في هذه الأيام

لا ريب في أن لشاعر الحضارة ما لم يكن لشاعر البداوة من الانطباعات الذهنية والتأثر؛ ومن وقف عند القديم في مجال التصور والانفعال كان مقلداً يجره البيان إلى المعنى إذ لا يملك تحكيم معناه ببيانه

نحن اليوم في مرحلة يتنازع فيها إلهام الشاعر قوتان: قوة تفكيره وشعوره في بيئة تختلف عن البيئة التي ألهمت الشعراء الأقدمين، وقوة الأسلوب العربي الذي لا يسلس قيادة إلا لمن اهتدى إلى مواضع المرونة في قوته

إن من الشعراء الذين وقفوا إلى حد بعيد في إلهامهم وبيانهم الأستاذ صلاح لبكي وهو ابن المرحوم نعوم لبكي صاحب جريدة المناظر (جدة صحف المهجر) الذي قضى حياته محلقاً في أجواء السياسة والأدب فما جاراه إلا العدد القليل في أوائل النهضة بلاغة وجراءة وإخلاصاً. وقد طوى جناحيه في أواخر أيامه على صخرة جرداء كانت كرسياً لأول رئيس للمجلس النيابي في لبنان

والأستاذ صلاح محام لامع قدير لم ينضب القانون معين شاعريته، فالشاعرية الأصيلة كدوحة السنديان تنشب أصولها في كل تربة ونتغذى حتى من الصخور

وقد نشر مؤخراً في ديوان صغير بعض مقطوعات تعد بحق من نماذج التطور الذي لم

ص: 74

يضل سبيله في الشعر العربي فاسمعه يقول في مقدمته:

ورب شعر نام عنه القضا

مر بجيل بعد أجيال

يحمل منى زفرة مرة

مرثاة أحلامي وآمالي

ردده عني فتى لم تدع

منه الرزايا غير أسمال

مستأنساً بي جاهلا من أنا

إني أخو الباكين أمثالي

وإذا ما وصلت إلي مقطوعة العاصفة فاقرأها كلها فهي ستة أبيات تقرأ فيها قصيدة طويلة

اسمعي الإِعصار يدوي في الجبال

اسمعي للغاب أناتٍ طوال

اسمعي كم طائر تحت الظلام

تائه بلله القطر السجام

يتوخى مأمنا حتى الصباح

من تُرى ينجيه من كف الرياح

افتحي الكوة في وجه السما

وانظريها لبست ثوب الشقاء

وتوارت رهبة خلف الغيوم

بعد أن أطفأت الريح النجوم

أغلقي الكوة في وجه الرياح

للصباح

خبئي رأسك في صدري ونامي

يا غرامي

وعندما تستوقفك قصيدة تشويق بمقدمتها الصوفية فاتلُ منها بصوت مرتفع هذه الأبيات لتشرك أذنك بما يتمتع به تفكيرك وشعورك من روعتها وسلاستها

رب يوم تمشين فيه إلى مغْ

رِب عمر الحياة دون رجاء

يلفح الريح في طريقك والقر

ويرسو عليك هم الشتاء

وتصيرين والضحى كبقايا

علم رث تحت ستر الخفاء

نسجوه لكل مجد فلم يخْ

فق بجو ولم يصن بدماء

وتبيتين دون ذكرى غرام

كان دفء الصبا عجوز شقاء

فتعالي إني فرشت لك الحب

وعطرت بالحنان هوائي

نتساقى الهوى ونذخر للتذ

كار نوراً لساعة الإمساء

حينما لا نعود نسكر بالحب

ويمسى التذكار كل المزاء

فليكس فارس

ص: 75

‌الحروب الصليبية

في نهاية العصور الوسطى

تأليف الدكتور عزيز سوريال

الدكتور عزيز سوريال عطية أحد القلائل - بين المؤرخين العالميين - الذين كرسوا جهودهم لدراسة الحروب الصليبية في عهدها الأخير، ولإيضاح الصراع الهائل الذي كان بين الشرق والغرب إبان العصور الوسطى، والذي كانت تذكي حماسته عوامل مختلفة بعضها ماديّ وبعضها روحي. ولقد أصدر منذ بضعة أعوام كتابه عن (حرب نيقوبوليس الصليبية) فلقي من تحبيذ الهيئات العلمية والجامعات الأوربية ما دفع مؤلفه للسير في هذا السبيل الشائك برغم ما يعترض سبيل الباحث من عقبات كأداء تكاد تصرفه عن متابعة البحث في تلك الناحية.

واليوم يفاجئ المؤلف المصري باحثي التاريخ بكتاب آخر يضعه في مصاف أقطاب مؤرخي هذه الناحية الصعبة الولوج، إذ أصدر في الشهر الغابر كتابه الثاني الضخم (الحروب الصليبية في نهاية العصور الوسطى) في قرابة 620 صفحة من القطع الكبير، أصدرته مطبعة ماتيوين في إنجلترا في طبعة أنيقة، ولقد شمل الكتاب من اللوحات الفنية الملونة وغير الملونة عدداً لا يستهان به، وقد نقلت هاتيك اللوحات من المخطوطات الأصلية الموجودة في المتحف البريطاني ومكتبة الفاتيكان بروما وليدن وغيرها من مكاتب أوربا، ولا مشاحة في أن هذه اللوحات تعين القارئ على تفهم كثير مما يلقاه في ثنايا هذا السفر الضخم، كما أضاف المؤلف لكتابه خرائط عدة منقولة عن مخطوطات الرحالة التركي بيرى رئيس، الموجودة في مكاتب برلين ودرسدن، ولا شك في أن الدكتور عطية قد ذلل للقارئ السبيل بما قدمه له من خرائط رسمها بنفسه حتى يتفهم المرء من غير عسر مضمون أبحاث هذا الكتاب

وينقسم الكتاب إلى أربعة أقسام كبيرة، استعرض المؤلف في أولها تاريخ الشرق والغرب من حيث الحروب الصليبية وعلاقتها بالتاريخ العام في تلك الفترة، وشمل ثانيها تحليلاً للأصول الأوربية في الدعاية لهذه الحروب ومشروعاتها المختلفة، وألم المؤلف في ثالثها بموقف الشرق بما في ذلك أمم التتر والطوائف المسيحية الشرقية إزاء الحروب الصليبية؛

ص: 76

أما الأخير فيفصل تاريخ الحملات الصليبية نفسها واحدة فواحدة. كل هذه المباحث في عشرين فصلاً، أضاف إليها الدكتور ع. س. عطية خمسة ملاحق منها ما هو منقول عن مخطوطات لاتينية لم تنشر بعد، ورأت النور لأول مرة على صفحات الكتاب، ومنها ما هو تحليل لما اكتشفه المؤلف من رسائل سلاطين المماليك في ذلك العهد النائي لملوك أرغونة، وينتهي الكتاب بفهرس للمراجع الخطية والمطبوعة من عربية وتركية ولاتينية وفرنسية وإنجليزية وإيطالية وألمانية. الخ

ولقد جاء في تقدمة الناشرين: (إن مؤلف هذا الكتاب الهام - الذي برهن على مقدرته في تناول البحث بمجلده السابق عن حرب نيقوبوليس - يستعرض اليوم في كتابه الحاضر ذلك التاريخ الذي تعتبر نيقوبوليس آخر فصل فيه، ونحن نعتقد أن المشاق التي تجشمها في هذا الصدد قد أسفرت عن عمل ذي قيمة علمية عظمى، ولقد واصل المؤلف سلسلة دراساته لهذه الغاية في المخطوطات) العربية بقارتي أوربة وأفريقية، وهو إلى جانب إجادته لأحدث طرق البحث العلمي في أوربة، فإنه يتكلم الإنجليزية كلغته الأصلية، ومن ثم كان نتيجة بحوثه سفراً علمياً دقيقاً، وهو بالإضافة إلى كل هذا صورة حية للكفاح بين الشرف والغرب في القرن الرابع عشر، وتصوير لحال العالمين الإسلامي والمسيحي في ذلك العهد السحيق. ومن ثم لم تكن ثمة مندوحة عن هذا الكتاب للمؤرخ والسياسي ولكل مشتغل بدرس الشؤون العالمية وتفهم أصول الصراع الحاضر في شرق البحر الأبيض المتوسط) هذه هي كلمة الناشرين، أما نظرية المؤلف فتتلخص في أن الحروب الصليبية لم تنته بسقوط عكا - وهي آخر حصن للصليبيين - في يد المسلمين عام 1291، وإنما بقيت هذه الحركة قوية حتى سنة 1396، يدل على ذلك الاهتمام الشامل في أوربا بأمر غزوة بيت المقدس والحروب التي قامت بها الدول ضد المسلمين في مصر وشمال إفريقية وسوريا وتركيا، فكأن المؤلف بذلك ينفي الفكرة التي شاعت بين المؤرخين في هذه الناحية حتى وقتنا هذا، وهو بذلك يضع أساساً جديداً لاستعراض تلك الدراسة. ومن رأيه أيضاً أن نتيجة هذه الحركة قيام الإمبراطورية المصرية بالقضاء على ملك المسيحيين بالبحر الأبيض المتوسط وتوغل الأتراك في أوربا نفسها

والمؤلف المصري جدير بما أحلته إياه جامعات أوربة وتسابقها في الاحتفاء به، وهو بعد

ص: 77

كل شيء فخر لمصر في عالم البحث والتحليل

ح. ح

ص: 78

‌عصفور من الشرق

تأليف الأستاذ توفيق الحكيم

للأستاذ علي الطنطاوي

الأستاذ توفيق الحكيم أكبر أدبائنا القصصيين. لا يكاد ينازع في ذلك أحد، ومن أكثر الأدباء إنتاجاً وأخصبهم قريحة. عالج أنواعاً من القصة فوفق فيها وأني بالمعجب المطرب، ومن ذلك قصته الأخيرة (عصفور من الشرق) التي فرغت من قراءتها الآن، فأحسست كأني كنت في جنة سحرية، ثم هبطت إلى الأرض، وتمنيت لو طال نفس الأستاذ فيها حتى ما تنتهي. وأكبر ما أعجبني فيها هذه النظرة إلى الغرب وماديته، وهذه القولة الجريئة في بيان حقيقة الغرب وتخلفه في ميدان الروح، على سبقه في مجال المادة، تلك التي لو قالها غير الأستاذ توفيق الحكيم لا تهمه هؤلاء المفتونون بالغرب من شباننا بالجمود والرجعية وما إلى ذلك من الألفاظ التي حفظوها حفظ الببغاوات، وما فتئوا يرددونها ترديد الحاكي، فلما قالها الأستاذ الحكيم وهو الذي يعترفون بأدبه، ويقرون بسمو منزلته، ويتمثلون بأقواله، سكتوا ولكن على مضض. وهذه ميزة كبيرة للقصة ترتفع فيها إلى صف القصص العالمية التي لم تنشأ لمجرد اللهو، ولإمتاع القارئ بالجمال الفني، وإنما جمعت إلى الجمال الفني نظرة تحليلية إصلاحية عميقة؛ غير أني أخذت على القصة أشياء، منها ما يتصل بالفن، ومنها ما يمس الدين، ومنها ما يعود إلى اللغة. أسأل عنها الأستاذ الكبير، ليوضح منها ما خفي، ويفتح ما استغلق

أولها: إن القصة تكاد تكون مؤلفة من حلقات ثلاث لا صلة بينها إلا صلة محسن الذي يمر فيها جميعاً، أندره وأمه العجوز وزوجها الهرم، ودارهم التي وصفها المؤلف وبيّن أنه لا مورد لشيخي الدار إلا ما يأتي من محسن، وبدا للقارئ أن بين محسن وأهل الدار أكثر مما يكون بين مستأجر وبين أصحاب المنزل. فلما انتقل محسن إلى المنزل، انقطع الحديث عن والدي أندريه وعن منزلهما، على حين أن القارئ يتشوق للعودة إلى حديثهما، وما كان من أمرهما بعد انتقال محسن

والحلقة الثانية: سوزي التي أحبها محسن وشغف بها ثم انتهت العلاقة بينهما على هذا الشكل، ولم يرجع لها في القصة ذكر، مع أن القارئ يحب أن يسمع شيئاً عنها ويعجب من

ص: 79

محسن هذا الذي كان مستهاماً عاشقاً، لا يفكر إلا في هذه التي يحبها، كيف ينساها أبداً ولا يجري اسمها على لسانه ولا تمر صورتها في جنانه، ولا يبقى لها أثر في نفسه؟ ما هكذا عهدنا المحبين يغفلون، فأي حب هذا؟

والحلقة الثالثة: إيفان الذي أنطقه المؤلف بأصح الآراء وأثمنها في حضارة الغرب ومذاهبه الفكرية، وهي حلقة منفردة عن الحلقتين، ولكنها حلقة مفرغة، ليس فيها نقص ولا خرم

أما ما يتصل بالدين، فهو أن الأستاذ ينظر إلى السيدة زينب نظر المسيحيين إلى القديسين والشفعاء، فيسميها حامية، وينسب إليها الضر والنفع، ويطلب منها ويتوسل إليها؛ وهذا كله مخالف لروح التوحيد الذي جاء به الإسلام، فليس في الإسلام حماة ولا وسطاه بين الله وعباده، ولا ينفع ولا يضر إلا الله، وإذا كان الله يقول لرسوله الأعظم:(ليس لك من الأمر شيء) وإذا كان النبي يقول لابنته فاطمة: (يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئاً) فماذا تصنع السيدة زينب للأستاذ الحكيم؟ وكيف تحميه من الله الذي لا يشفع عنده واحد إلا بإذنه، فهل أذن لها الله بحماية الناس، أم إن من الناس قوماً (شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله)؟

أما ما يعود إلى اللغة، فشيء يعرفه الناس من لغة الأستاذ، لا حاجة إلى بيانه

هذا وإني أهتبل هذه الفرصة لأرفع إلى الأستاذ الكبير تحياتي وإكباري

علي الطنطاوي

ص: 80