المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 26 - بتاريخ: 01 - 01 - 1934 - مجلة الرسالة - جـ ٢٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 26

- بتاريخ: 01 - 01 - 1934

ص: -1

‌الرسالة في عامها الثاني

في مثل هذا الأسبوع من عامنا المنصرم أخذت الرسالة طريقها الصامت إلى المطبعة. ثم خرجت منها إلى الناس تخطو خُطى الوقار في عِطاف الحشمة، لا يَجذب الطرف ظاهرها المتبرج، ولا يخلب اللب باطنها الفكِه. وكانت منذ انطلاقها من عقال التردد نتظنن في عواقب الجرأة على لقاء الجمهور بهذا المزاج في هذا الزي، فلا تدري أيصّدق ظنّها أم يكّذبه، ويحقق أملها أم يخيبه.

فلما بش لها بشاشة الزهر، وأقبل عليها إقبال الدهر، تبدلت لهذا الشعب الكريم صورة مكان صورة، ونشأت عنه فكرة بدل فكرة، وأيقن الذين رموا عقليته بالاعتلال، وثقافته بالهزال، وأدبه بالعبث، إن وراء هذا المظهر المزور عقلا قويما يلذه التفكير، وذوقا سليما يروقه الجد

والواقع أن الرسالة كانت صرخة الحق في ضجة الباطل، دلت على العمق الصحيح لثقافة الكتاب، والاتجاه الصادق لهوى القراء، والمستوى الحق لرقي الأمة، وكان لها أن تزعم - إذا استجازت الفخر - بأن مجموعتها سجل مضبوط لألوان الأدب العربي في هذا العصر

لم تلبث الرسالة على قرب عهدها بالوجود ان عقدت أسباب المودة بينها وبين القلوب العربية في أقطار الأرض، فظلوا يخالصونها الولاء، ويصادقونها النصح، ويواضعونها الرأي، ويربأون بها أن تسف أو تخف أو تشغل مكانا منها بإعلان؛ وظلت هي على العهد الذي قطعته تتحرى وجوه الرشد وتتوخى سبيل القصد، وتحدوا أهواء النفوس إلى الغاية التي يتوافى عليها الاخوة، وتلتئم عندها الوحدة، والله يعلم ما لقيت الرسالة في طريقها من عنَت الشهوات، ورَهَق الحوادث، فما خنست لها همة، ولا انقبضت لها عزيمة، لان المؤمن الصادق لا يُفْتَن عما يعتقد، ولَا يُخدع عما يرى، ولا يُؤفك عما يقصد

لم تكن الرسالة متجنيَة على الحق يوم أخذت على نفسها الموثق بأداء هذا الواجب، فأن القائمين بها كانوا يعملون من دلائل الحال ان الأدب الصحيح الناضج إنما يتجلجل داويا في أعماق أهله، ثم لا يجد السبيل إلى الخارج لتسلط الوساوس التي ذكرناها في صدر العدد الأول من الرسالة. فكان كل أديب موهوب يقصر الحان قلبه على سمعه، كأنه الينبوع الشادي في خلوة الوادي، لا يقع شدوه في إذن، ولا يتصل نشيده بنشيد.

فكان سبيل الرسالة إذن أن تضم الأشتات إلى الأشتات، وتوفق بين الأصوات والأصوات،

ص: 1

ثم تؤلف من هذه الآلات المفردة جوقة موسيقية متحدة تسكب في مسامع الوجود، أناشيد الخلود!

ولانت للرسالة بحمد الله أعطاف الأمور فنجحت في هذا التوفيق، وكانت كما ترى في فهارس سنتها الأولى صدى حاكيا لتلك الأصوات الصوادح بالمجد العربي والأدب العربي في العراق وسورية ولبنان وفلسطين ومصر والسودان والمغرب

نضّر الله بالحمد وجوه اؤلئك الأدباء البررة الذين استجابوا دعوة الوطن الأكبر فساهموا في تبليغ الرسالة، وأعانوا على تأدية الأمانة، وأضافوا خيرهم الفَمْر إلى تراث آبائنا الخالد!

في السنة الأولى للرسالة هنات يصيبها المتعقب ويُخْطِئها الكريم، ولم يكن في مقدور المبتدئ ولا تقديره أن يتسلف النظر إلى كل الطوارئ، وقد اكتسبنا بفضيلة الصبر خبرة في العمل وقدرة على صعابه، نرجو أن يظهر أثرهما في هذه السنة، فيحسن الطبع، ويجود الوَرق، ويدق التصحيح، وتتسع الأبواب، ويكبر الحجم، ويكمل النقص، وتزداد في كل ذلك العناية

وقد استقبل القراء صدور الرسالة أسبوعيا بأريحية السرور وهزة الأمل، واستهال الأمر بعض الأصدقاء فأشفقوا على الرسالة أن تقوض العجلة ما بنته الروية من هيكلها المتين وسَمكها العالي

وأنا لنشكر للمتفائلين الفرح، ونحمد للمتشائمين الخوف، ونؤكد لهؤلاء أن الرسالة تمضي بعون الله قُدُما إلى الغاية، فلا يمكن أن تهبط عن مستواها، ولا أن تقصر عن مداها وأنا لنجدد للقراء عهد الرسالة ونحن أقوى ما نكون اعتماداً على فضل الله، واطمئنانا إلى عطف الأمة، واتكاء على عون الشباب، واعتداداً بإخلاص العمل

وإذا كنا قد قطعنا موفقين أول العهد، والرسالة رسالة فرد، والمجهود مجهود نفر، فكيف يتلكأ الحظ ويتعثر الأمل، وقد أصبحت الرسالة رسالة أمة، والمجهود مجهود شعب؟!

احمد حسَن الزيات

ص: 2

‌النفس والرقص

للكاتب الشاعر الفرنسي العظيم بول فاليري

ترجمة الدكتور طه حسين

اركسيماك - هي المدهشة، هي البالغة غاية الإبداع في الرقص (اتكتيه)

فيدر - ما أعرفك بهن!

اركسيماك - لكل هؤلاء الحسان أسماء كثيرة أخرى بعضها يأتيهن من الاسرة، وبعضها يأتي من الاخصاء

فيدر - أنت أخص هؤلاء الأخصاء!. . تعرفهن اكثر مما ينبغي!

اركسيماك - أنا اعرفهن اكثر جدا من المعرفة الحسنة، ومن بعض الأنحاء أحسن مما يعرفن أنفسهن. أي فيدر! الست أنا الطبيب؟ عندي وبي تستحيل أسرار الطب كلها، أسرارا تشترى بها كل أسرار الراقصة! هن يدعونني لكل شيء، يدعونني لالتواء القدم، وللدمل، والذهول، ولما يمس القلب من حزن، وللأحداث المختلفة التي تصيبهن من الصناعة (وهذه الأحداث الجوهرية التي تنتج في سهولة من مهنة شديدة الحركة) وضبقهن الخفي، حتى الغيرة سواء أكان مصدرها الفن أو الغرام، وحتى للحلم. . أتعلم انه يكفي ان يسررن إلى ببعض ما يقلقهن من الأحلام لاستنبط من ذلك ان في بعض أسنانهن فساد؟

سقراط - يالك من رجل خليق بالإعجاب يعرف الأسنان بالأحلام! أتظن إن أسنان الفلاسفة كلها فاسدة؟

اركسيماك - لتحمني الآلهة من عض سقراط؟

فيدر - دع هذا وانظر إلى هذه الأذرع والسوق التي لا تحصى! عدد ضئيل من النساء يظهر ألف شيء ألف مشعل، ألف رواق معمد قليل البقاء، عروشا، عمدا. . الصور تذوب تنمحي. إنما هي جماعة من الشجر حسان الغصون يهزها نسيم الموسيقى! أترى يا اركسيماك أن هناك حلما يصور من الألم واضطراب العقل اكثر مما يصور هذا الذي نراه الآن؟

سقراط - ولكن هذا الذي نراه إذا حققت ابعد الأشياء عن الحلم أي فيدر العزيز

فيدر - ولكني أنا حالم. . حالم بالعذوبة تضاعف نفسها بنفسها إلى غير حد بما يكون بين

ص: 3

هؤلاء العذارى من التلاقي ومن تبادل الصور. حالم بهذا التماس الذي لا يوصف والذي يحدث في النفس بين الأزمنة، بين بياض الأذرع واشتباكها بمقدار، وأصوات هذه الأنغام المؤتلفة الخافتة والتي يظهر عليها كل شيء كأنه مصور محمول. تنفس اختلاط هؤلاء الفتيات الساحات كأنه شذى مسكي مركب، ويهيم محضري في هذا الظرف المختلط حيث تضل كل واحدة منهن مع رفيقة ثم تظهر مع رفيقة أخرى

سقراط - إن نفسك لمفتونة باللذة، إن ما تراه لنقيض الحلم لا أثر للمصادفة فيه. . ولكن نقيض الحلم ما هو يا فيدر؟ إنما هو حلم آخر! حلم تنبه ويقظة يحلمه العقل نفسه! - وماذا يمكن أن يحلم العقل؟ لو حلم العقل صلبا قائما مثلج العين مطبق الفم كأنه سيد شفتيه - فالحلم الذييراه هل يكون إلا شيئاً كالذي نراه الآن - هذا العالم من القوة الدقيقة والتخيل المتعمد في عناية وإتقان! حلم، حلم، ولكنه حلم يملؤه التناسق كله نظام، كله فعل وغناء. . من يدري أي القوانين المقدسة تحلم هنا الآن وقد اتخذت وجوها نضرة واتفقت على أن تظهر للناس كيف تستطيع الأشياء الواقعة وغير الواقعة والمعقولة ان تمتزج وتأتلف حسب ما لآلهة الفن من مقدرة؟

اركسيماك - من الحق يا سقراط ان كنز هذه الصور لا يقدر. . ألا تظن أن فكرة الآلهة هي بالضبط ما نرى وان هذا التشابه الفخم إلى غير حد. هذا التداور والتقابل والتقاطع التي لا تنتهي والتي تظهر لأعيننا ينقلنا إلى عالم المعرفة الإلهية؟

فيدر - ما أجمله ما أظرفه هذا المعبد الصغير الوردي المستدير الذي يؤلفنه الآن والذي يدور في بطء كأنه الليل! انه ليتفرق فتيات أن الأردية لتتطاير وكان الآلهة قد غيروا من تفكيرهم

اركسيماك - إن الفكرة الإلهية الآن هي هذه الجماعات الكثيرة المختلفة الألوان من الوجوه الباسمة. أنها تبدئ المعاد من هذه الحركات الحدة وهذه العَواصف اللذيذة التي تتألف من جسمين أو ثلاثة أجسام ثم لا تستطيع أن تفترق. . لقد وقعت إحداهن فيما يشبه الأسر فلن تخرج من سلاسلهن السحرية!

سقراط - ولكن ماذا يصنعن فجأة؟. . . إنهن ليختلطن، ثم يمضين مسرعات!. . .

فيدر - هي يطرن إلى الأبواب، ينحنين ليستقبلن

ص: 4

اركسيماك - أي اتكتيه! أي اتكتيه!. . . يا للآلهة!. . اتكتيه الخافقة!

سقراط - ليست شيئاً.

فيدر - هي طائر صغير

سقراط - شيء لا جسم له!

اركسيماك - شيء لا ثمن له!

فيدر - أي سقراط! كأنها تطيع إشكالا لا ترى!

سقراط - أو تذعن لقضاء جليل!

اركسيماك - أنظر! أنظر! أترى أنها تبتدئ بمشي الاهي؛ مشي يسير مستدير. . تبتدئ بأرقى ما عندها من الفن، تمشي في يسر على ما انتهت إليه من القمة! طبيعتها الثانية هذه أبعد ما تكون عن طبيعتها الأولى، ولكن يجب أن تشبهها، حتى تخدعنا عنها.

سقراط - إني لاستمتع إلى أقصى حد بهذه الحرية. أن صاحباتها الآن لمستقرات كأنهن مسحورات. وأن الموسيقيات ليسمعن لأنفسهن دون أن يحولن أبصارهن عنها. . . يمتزجن بها كأنما يلححن في كمال التوقيع.

فيدر - إحداهن كأنها المرجانة الوردية قد انعطفت على نفسها وهي تنفخ في قوقعة عظيمة.

اركسيماك - صاحبة المزمار هذه العالية في الطول ذات الفخذين النحيفتين كأنهما المغزلان، قد لفت إحداهما على الأخرى، ومدت قدمها الظريفة التي تخفق إبهامها بوزن الموسيقى. . . أي سقراط ما ترى في هذه الراقصة؟

سقراط - أي اركسيماك هذه المخلوقة الصغيرة تدعو إلى التفكير. . أنها تجمع على نفسها أنها تحتمل جلالا كان مفرقا فينا جميعا وكان يحل غير مشعور به كل الذين يشتركون في هذا اللهو. مشى يسير، وإذا هي الآهة، وإذا نحن جميعا كأننا الآلهة!. . . مشى يسير ايسر التسلسل كأنها تأجر الفضاء بأعمال جميلة متساوية وتضرب بعقبها حركات كالدنانير ذات الرنين. كأنما تعد وتحصي في قطع من الذهب الخالص ما ننفقه نحن غافلين نقدا عاديا من الخطوات حين نسعى لأي غاية من الغايات

اركسيماك - أيها العزيز سقراط. إنها تعلمنا ما نعمل، مظهرة لنفوسنا في جلاء ما تأتي

ص: 5

أجسامنا من الحركات، تظهر لنا ساقاها حركاتنا كأنها المعجزات. ثم هي تدهشنا بمقدار ما ينبغي أن ندهش

فيدر - في أي شيء تمتاز هذه الراقصة عندك بشيء سقراطي، فتعلمنا من المشي كيف نعرف أنفسنا بأنفسنا خيراً مما كنا نعرفها،

اركسيماك - في هذا بالضبط وهو أن خطواتنا تبلغ من اليسر والألف حدا لا نشرفها معه بملاحظتها في أنفسنا ومن حيث هي أعمال غريبة إلا أن يكون أحدنا مقعداً أو مريضاً فيضطره العجز إلى الإعجاب بها - وإذن فهن يحملننا كما يعرفن، ونحن نجهلهن، وهن يختلفن باختلاف الأرض والغاية والأخلاق والأحوال بل وضوح الطريق، ونحن ننفقهن في غير تفكير.

ولكن انظر إلى هذا المشي التوقيعي الكامل. تمشيه اتكتيه على ارض لا عيب فيها، وهي حرة صريحة تكاد تكون مرنة تضع في تناسق على مرآة قوتها قدميها متتابعتين، عقبها يصب جسمها نحو مقدمة رجلها، ثم تمر رجلها الأخرى فتتلقى الجسم وتصبه إلى امام، وهكذا على حين تخط قمة رأسها البديعة في الحاضر الأبدي جبهة موجة متثنية

وإذا كانت الأرض هنا كأنها مطلقة قد برت من كل عوج مفسد للتوقيع أو دافع إلى التردد فهذا المشي العظيم الذي لا غاية له إلا نفسه، والذي برئ من الوان الفساد على اختلافها يصبح نموذجا عاما

(انظر أي جمال، أي أمن شامل للنفس ينشأ من طول خطواتها الفخمة، هذه الخطوات الممتلئة ملائمة لعددها الذي يلائم الموسيقى ولكن عدد الخطوات وطولها ملائمتان من ناحية أخرى لقوام الجسم

سقراط - انك لتحسن الحديث عن هذه الأشياء أيها الخبير اركسيماك حتى أنى لمظطر إلى أن أرى كما تتفكر. إني لأنظر إلى هذه المرآة التي تمشي وتثير في نفسي شعور السكون لا اعني إلا بما لحركاتها من المساواة. . .

فيدر - إنها لتقف بين محاسنها التي لا تنتهي. .

اركسيماك - ستريان!

فيدر - إنها تغمض عينها. .

ص: 6

سقراط - إنها كلها في عينيها المغمضتين وحيدة مع نفسها في إفناء عنايتها الخاصة. تشعر كأنها أصبحت شيئاً حادثا جليلا.

اركسيماك - انتظرا، ان. . . الصمت الصمت!

فيدر - يالها لحظة حلوة! هذا الصمت تناقض. كيف السبيل إلى إلا أصبح. الصمت!

سقراط - لحظة عذراء حقا. ثم لحظة نحس فيها كأن شيئا يجب ان ينقطع في النفس وفي الانتظار وفي الجماعة. . شئ ينقع ولكنه في الوقت نفسه كأنه يتصل.

طه حسين

ص: 7

‌كلمات في الحياة

من الأدب العربي والأدب الغربي

للأستاذ احمد أمين

إنما الحياة الدنيا لعِبٌ ولهوٌ

(قرآن كريم)

خطَّ رسول الله (ص) خطا وقال هذا الإنسان، وخط إلى جانبه خطا وقال هذا أجله، وخط آخر بعيداً عنه وقال هذا الأمل، فبينما هو كذلك إذ جاءه الأقرب.

(حديث)

لما رجع رسول الله (ص) من غزوة غزاها قال: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)

الدنيا حلم، والآخرة يقظة، والموت متوسط، ونحن في أضغاث أحلام.

(الحسن البصري)

الدنيا شوك، فانظر أين تضع قدمك

(حكيم)

الدنيا بيت له بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر

(حكيم)

أدرْها علينا مُزَّةً بابِلِيَّةً

تخَيَّرَها الجاني على عهد قَيْصرا

فما الطَّيْشُ إلا أن تراني صَاحيِاً

وما العيش إلا أن ألَذَّ فأسكَرَا

(أبو نواس)

هل العيش إلا أن تَرُوح مع الصَّبَا

وتغدو صريعَ الكأس والأعين النُّجْلِ

(صريع الغواني)

أصاحِ هي الدنيا تشابه مَيْتَةً

ونحن حواليها الكلابُ النوابح

(أبو العلاء المعري)

وما العيش إلا عِلَّةٌ برؤها الرَّدَى

فَخلَّ سبيلي أنْصَرِفْ لِطِيَاتي

(أبو العلاء)

ص: 8

وما الأرض إلا مثْلنُا، الرَّزْقَ تبتغي

فتأكُلُ من هذا الأنام وتشربُ

(أبو العلاء)

عاقر الخمر فإنها مُلْكُ محمود، واسمع القيثارة فإنها لحن داود، ولا تذكر إلا الحاضر فذلك هو المنشود.

(عمر الخيام)

خذ كأسا وإبريقا وتجول في الرياض الناضرة على شاطئ الأنهار، فان هذا الفَلَك طالما جعل من قدود الغانيات كؤوسا، وجعل منها أباريق

(عمر الخيام)

ليست الحياة أن تتنفس، ولكن أن تعمل

(ليكوغوس)

إن الحياة طويلة لمن عرف كيف يستخدمها

(سينكا)

إذا أردت أن تعيش سعيداً فعش ليومك

(بلوتوس)

إنما يسيطر على الحياة الحظ لا الحكمة

(بوبليوس سيروس)

الحياة نسيج آراء

(ماركوس أوريليوس)

الحياة دمعة منسكبة تبتلعها الأرض

(اليارذي)

كثير من الناس لا يتمتعون بالحياة لأنهم لا يجدون نقطةَ تَوَازُنِها

(تارشتي)

حياة الإنسان كاليوم، فجره ميلاده وصباحهِ طفولته، وظُهْره إيقاعه، وغروبه موته

(بوب كليمان)

الحياة سباق إلى الموت

ص: 9

(دانتي)

حياة الإنسان تكيَّفُها عواطفه

(بلزاك)

الحياة أُغْنِية وكل نَفْس لحن

(لامارتين)

الحياة أن تستخدم كل أعضائك ومشاعرك وملكاتك وكل قوة فيك حيى تشعر أقصى شعور بوجودك

(روسو)

أكثر الناس يستخدمون شطر حياتهم لتنغيص الشْطر الآخر

(لابرويير)

الحياة بين أن تحارب وأن تستعد لان تحارب

(أري شفر)

الحياة حروفُ تعجب واستغاثة وندبة، ومجموعة من آه والله وأخّ وبخ

(بيرون)

وسئل فيلسوف ما رأيك في الحياة فهز كتفيه وانصرف لوجهه

الحياة عمليات حسابية مختلفة الأرقام نتيجتها صفر دائماً

أحمد أمين

ص: 10

‌إلى سيدي الأستاذ العبادي

وقفة أخرى على جسر إسماعيل

أما أنا فقد وقفت أيضا بالجسر ولكني أشهد أنه لم يثر في نفسي إلا الأسى وحده، ولقد قطعته غير مرة ذهابا وجيئة، أرسلت الطرف في كل طريق، واسترسلت في التفكير العميق، لعلي أجد شيئا يرفع عن نفسي الحزن، أو يدفع إلى حسي قليلا من السرور، فارتد إلى البصر دامعا وهو حسير

لست أنكر ان الجسر كان يوما مهبط الفخر ومسقط السحر ولكن متى؟

ذلك يوم كانت أسده طليقة من إسار الذل، أما اليوم وهي غريقة في

بحاره فليس يستطيع السائر هناك أن يمسك دمعه أن يهلك لوعة

سيدي: اسمح لي أن أقول إن وقفتي بجسر إسماعيل أعقبتني ندما وألما، وأنها ردتني إلى شيء من الحسرة والحيرة لا حد له، فلقد كنت أسمع في همس موجه، وجرس لجة، طنين تلك الأرواح الهاتفة من الماضي الزاخر بالمجد، وأنين هاتيك الأشباح الطائفة من الشهداء تبكي أسى على استقلال زال، واحتلال ما حال. . .

سيدي، لقد كان لي فيما رأيت من منظر النهر ما أغرقني في فيض من الهم، فأغرقت في تفكير مرير ولم أفق إلا على صوت - البوري - فرفعت رأسي إلى المعسكر الأحمر وتحاملت على نفسي ومضيت دامع العين دامي القلب

واليوم قرأت مقالك فانسابت الذكريات سراعا تباعا فنكأت الجرح بعد أن كاد يندمل، وطاب لي أن أمسح حول هذا الجرح فوجدت في ذلك شيئا من اللذة مصدرها الثقة في الله والأمل في المستقبل، وأنا الآن أكتب إليك هذا في الثالثة صباحا بينما تقرع إذني طرقات متواليات من طبلة (السحور) فتشيع في نفسي ألوانا من الإيمان، وتجعلني أرفع يدي إلى السماء في ضراعة وأهتف:

(اللهم لا تمتني قبل أن أشهد مصر حرة)

البكري القلوصناوي

الجامعة المصرية. كلية الحقوق

ص: 11

‌الحبس=الإعدام

للأستاذ حسن جلال

من أنباء الصحف اليومية:

(أن المدعو محمد فضل الله الحمري دخل ذات ليلة بيته فوجد أحد أصدقائه ويسمى محمد خليفة الكاجاوي مع زوجته فأخرج مديته وأغمدها في صدره فقضى عليه لساعته، فقبض عليه رجال البوليس وحقق معه، ثم أحيل إلى المحاكمة الجنائية وشكلت له محكمة وطنية برياسة المستر بمفري المفتش بمديرية غرب كردفان وعضوية الشيخ بانقا مهيدي والشيخ الشرقاوي حماد عبد الكريم، ولما سئل الجاني اعترف بجريمته وقال أنه ارتكبها عامدا بسبب ما أثار حفيظته من تلك الفعلة الشنيعة التي ارتكبها المجني عليه، فأصدرت المحكمة أخيرا حكمها وهو يقضي بإعدام القاتل محمد فضل الله الحمري.)

والذي يلفت النظر إلى هذا الخبر أن مثل هذه الفعلة الشنيعة إذا قابلها الزوج في مصر بمثل ما قابلها به (المدعو) محمد فضل الله الحمري لا تصدر المحكمة - أخيرا - حكمها عليه بالإعدام بأي حال من الأحوال، لان المادة 201 من قانون العقوبات المصري تنص على ما يأتي:

(من فاجأ زوجته حال تلبسها بالزنا وقتلها في الحال هي ومن يزنى بها يعاقب بالحبس بدلا من العقوبات المقررة في المادتين 198 و200

أما المادة 198 المشار إليها فهذا نصها.

(من قتل نفسا عمدا من غير سبق إصرار ولا ترصد يعاقب بالإشعال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة. .) والمادة 200 نصها كالآتي:

(كل من جرح أو ضرب أحدا عمدا أو أعطاه مواد ضارة ولم يقصد من ذلك قتلا ولكنه أفضى إلى الموت يعاقب بالإشعال الشاقة أو السجن من ثلاث سنوات إلى سبع. . .)

والمفهوم من مقارنة هذه المواد أن الأصل فيمن قتل نفسا عمدا ولكن من غير أن يكون قد بيت النية على قتله بل يكون القتل قد جاء مثلا نتيجة مشادة أو مشاجرة أو نحوهما - الأصل فيمن فعل ذلك أن يكون جزاؤه الإشعال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة. كما أن الأصل فيمن ضرب أنسانا ولم يكن يريد قتله ولكن الضرب أفضى إلى موته يكون جزاؤه الأشغال

ص: 13

الشاقة أو السجن. .

بيد أنه روعي بعد ذلك أن الشخص الذي يفاجئ زوجته بين أحضان رجل آخر فيعتدي على غريمته بالقتل أو بالضرب الذي يفضي إلى موته لا يمكن أن تعتبر جريمته مثل جريمة غيره. ولوحظ أن الظروف الخاصة بهذه الجريمة تبرر وقوعها نوعا ما، ولذلك خفف الشارع على مرتكبها في العقاب وجعل جزاءه الحبس بدل الأشغال الشاقة أو السجن. .

على أن هناك نصا آخر في قانون العقوبات المصري تصح الإشارة إليه في مثل هذا المقام وذلك هو نص المادة 57:

(لا عقاب على من يكون فاقد الشعور أو الاختيار في عمله وقت ارتكاب الفعل إما لجنون أو عاهة في العقل وإمالغيبوبة ناشئة عن عقاقير محددة أيا كان نوعها إذا أخذها قهرا عنه أو على غير علم منه)

وأول ما يتبادر إلى الذهن أن الرجل الذي يفاجئ زوجته وشريكها في حالة تلبسهما بالجريمة المنكرة فيقتلهما لابد ان يكون قد فقد شعوره نوعا ما، فلماذا لا تطبق عليه المادة 57 ويعفى من العقاب بتاتا؟

والجواب على ذلك أن المادة 57 قيدت فقدان الشعور المنصوص عنه بقيدين. فما لم يكن فقدان الشعور بسبب (الجنون) أو بسبب (العقاقير المخدرة) فلا يقبل كظرف مانع من العقاب وعذر الشارع في هذا التقييد واضح، وهو الإعفاء من العقوبة لو جعل نتيجة مطلقة لفقدان الشعور لوجد الدفاع عن المتهمين ما يقوله دائما في كل جريمة قتل لأثبات أن المتهم ما أٌدم على فعلته إلا بعد أن افقده الشر شعوره إما لاحتدام الخصومة بينه وبين غرمائه، وإما لأن المنهم حصل له من الاستفزاز ما لم يعد يدرك معه ما يفعله، وإما لغير ذلك من الأسباب

ولسنا الآن بصدد البحث في المادة 57 ولكننا ألممنا بها لما لها من المساس بموضوعنا من قريب أو من بعيد.

ولنعد إلى المقارنة بين مركز الزوج في حكم القانون المصري وفي حكم القضاء السوداني، فقد رأينا أن الفعلة الواحدة لا تذهب بصاحبها في مصر إلى ابعد من الحبس بينما هي في

ص: 14

السودان قد ساقت صاحبها فعلا إلى المشنقة، هذا هو الذي أردنا ان نوجه نظر القارئ إليه ليتمعن فيه ويستخلص لنفسه منه ما شاء

أما الأسئلة التي تهاوت على رأس كاتب هذه السطور عند مطالعة الخبر في الصحف فهذا بعضها:

1 -

ماذا كان يجب على الزوج أن يفعل بدلا من أن يغمد مديته في صدر (صديق الطرفين)؟!

2 -

إن كان لابد من ارتكاب جريمة قتل (حتى يسلم الشرف الرفيع من الأذى) فمن هو أحق الثلاثة بالمدية تغمد في صدره؟

أهي الزوجة الخائنة، أم هو الصديق الغادر، أم هو الزوج الخائب؟

2 -

هل يمكن أن يكون الزوج (غير فاقد الشعور) وفي حالة (جنون) فعليه إذا ما وقعت عينه على هذا المشهد؟

3 -

هل يكونمن المستحسن إعادة النظر في أمر العقوبة التي يجب توقيعها على الزوج القاتل في مثل هذه الأحوال؟

5 -

هل يفهم من حكم المحكمة السودانية الوطنية أن الزوجة في السودان هينة على زوجها وعلى المجتمع إلى حد يجعل غيرة الرجل عليها أمرا غير معقول. وذياده عن نكبة شرفه فيها أمرا غير مقبول؟

الخ. . . الخ. . . . .

حسن جلال

ص: 15

‌المقامة الهرمية بين الهرم الأكبر وناطح السحاب

للدكتور محمد عوض محمد

أصبح عيسى بن هشام شيخاً فانياً خَرِفا، لم يبق منه الدهر سوى جلد ذابل، على عظم ناتئ. غير أن مر السنين لم يَزِده إلا ولعا بسرد القصص ورواية الأخبار:

لكن حديثه أصبح كحديث كل شيخ يَفَنٍ كبير، قد اشتمل على شيء

كثير من الخرافات والخيال. مما يجهد العقل، ويعيا به اللب، ويكاد

حبل الفهم أن يْنبَتَّ دون إدراكه.

أنْصِتْ إليه اليوم إذ يتحدث إلى جُلاسَّه عن الهرم الأكبر وناطح السحاب فيقول:

كان الهرم الأكبر راقداً، غارقا في رقاده، نائما يغط في نومه. وقد وسد رأسه ترابا لينا ورملا ناعما. وقد وُطَّئ له الفراش. ومهُدَّ له الثرى. فمضجعه سهل وثير ويغشاه لحاف غليظ تِرب، قد أكل عليه الزمان وشرب. لكنه كان يجد تحت هذا الغطاء الكثيف الراحة والدعة، وهما أجل ما يتمناه.

ولهذا بقى راقدا غارقا في رقاده، نائما يغط في نومه عصفت به العواصف، وأهابت به الأحداث. وثارت من حوله الأعاصير. واهاجت الرياح رمال الصحراء حتى امتلأت بها طباق الهواء. واحتجبت النجوم عن العيون، ولمع البرق وقصف الرعد، وملئت السماء حَرَسا شديداً وشهُبُا. . . ثم زلزلت الأرض زلزالاً عنيفاً مخيفاً. فمالت إلى اليمين ثم مالت إلى اليسار! وأخذت ترتجف وترتعد، وتعلو وتهبط.

فهل حرك الهرم الجاثم؟ هل فتح جفنا أو حرك طرفا؟ هل أيقظته هذه القوارع الملمة والكوارث المحدقة من كل جانب؟

انه بقى راقداً، غارقا في رقاده، نائما يغط في نومه

وفي يوم من أيام البلاء أتى إليه رجل فرنسي قصير القامة، دميم الصورة. مُقَشَّر الوجه. قد ملأ الغرور قلبه، وأعمى الوهم عينيه. . جاء هذا الفرنسي فنصب مدافعه أمام الهرم وصوبها إلى رأسه، يريد أن يوقظه من رقاده الطويل. فجعل يلقي بقذائفه: قنبلةً خلف قنبلة، وقذيفة إثر قذيفة.

فهل تحرك الراقد أو التفت؟

ص: 16

إنه - والله! - لم يزد على أن رفع الرأس قليلا، وبصق في وجه ذلك المغرور. ثم عاد إلى سباته العميق.

وظل راقداً، غارقا في رقاده، نائما يغط في نومه.

ولهذا الغطيط الدائم ضوضاء هادئة حينا، عنيفة أحيانا وقد ألفتها الأسماع فهي قلما تزعج أحداً أو تقلق كائنا. . غير أن أبا الهول قد أصبح ذا مِزَاج عصبيً حساس. وقد استيقظ مرة فخيل إليه أنه لم يعد يطيق تلك الضوضاء. فالتفت مرة إلى الهرم في ليلة حالكة الظلام، وخاطبه بصوت أجش، فيه حدة وفيه عنف وشدة. وقال: أما كفاك رقاداً أيها الشيخ الهرم، الذي طال نومه وأظلم يومه، وخمد فهمه، وطاش سهمه؟ ألم يأن لك أن تفيق، وتكف عن الغطيط؟ لقد فضحني في الملأ الأدنى وفي الملأ الأعلى بنخيرك هذا الذي ليس له غاية، ورقادك الذي ليس منه إفاقة. حتى أصبحت مضرب الأمثال في الكسل والجمود وغدوتَ لي سُبَّةً وعارا. . فوا الذي نفس خوفو بيده، لولا بقية حلم ووقار لَلَكْزُتك لكزاً، أو سفعتك سفعا ولأطرت النوم عن عينيك أنهضتك من هذا الرقاد الشائن. . .

قال عيسى بن هشام: هكذا أهاب أبو الهول بالهرم، هكذا صاح المسكين، وأمعن في الصياح، حتى انتفخت أوداجه، وجاشت مناخره، واحمرت عيناه وجف ريقه. . فلا والله ما تحرك الهرم ولا تحول. وما زاد على أن تثاءب، ثم عاد إلى سباته العميق.

وهكذا ظل راقداً، غارقا في رقاده، نائما يغط في نومه

حتى إذا كان الشتاء الماضي شهد العالم مشهداً غريبا، وحادثا عجيبا: ذلك أن الهرم تحرك. . أجل وأبيكم - بل وأبي أنا أيضا - لقد تحرك الهرم، ومدَّ يده إلى عينيه فدلكْهُما دلكا عنيفا، ومسحهما مسحا شديداً. . ثم رفع رأسه قليلا. . وأخذ يحرك شفتيه بالكلام، فإلى من كان يتحدث؟. .

ذلك هو السر الخطير، والخطب الكبير! إنه كان يتحدث إلى بعض نواطح السحاب. . .

ولا تعجبوا أنْ وُفَّق هذا الناطح إلى إيقاظ الهرم، حين أعيت فيه سائر الحيل. ذلك أن النظير أبداً يجذب النظير، والحجر العظيم يلين للحجر العظيم، ولا يفل الحديد إلا الحديد، وسيد أبنية الغرب جاء قاصداً سيد أبنية الشرق، لا زائراً أو حاجا، بل سائحا ومطلعا. فأبى السخاء الشرقي والكرم الشرقي إلا أن يتحرك له الهرم الأكبر بعض الشيء، ويكرم وفادته

ص: 17

بعض الشيء.

ولو تبين الهرم حقيقة أمر هذا الزائر وما امتلأ به قلبه من غرور؛ لأشاح عنه بوجه، وأعرض عنه كل الإعراض. ولعمركم ولعمري! متى جاء من الغرب شيء يسر القلب؟

سعى هذا الناطح إلى الهرم سعيا حثيثا. فلم يزل يسبح فوق البحار، ويجتاز القفار حتى أسْلمه طول المسير إلى رحاب الهرم الكبير. وربما سألوني لماذا جشم الناطح نفسه كل هذا العناء، وسط هذه الصحاري المحرقة المُنْصبة. وهو ربيب النعمة، حليف النعومة، ولقد تحسبون أنه ما جاء إلا ليلتمس الحكمة من منبع الحكمة، أو يطلب النور من حيث يطلع النور. أو يبغي إيقاظ الهرم الراقد، إذ عز عليه أن يطول رقاده. . ولكن الحق انه ما جاء لشيء من هذا كله. بل ساقه إلى الهرم الأكبر ذلك الفضول، ذلك الشغف بالاطلاع والاستطلاع، والذي هو من غرائز العجماوات. . ثم لكي يستطيع ان يقول للنواطح الأخر إنه طاف بالهرم الأكبر وحظي بالمثول بين يديه، بل قد يزعم أنه غالبه فغلبه، وسابقه فسبقه

لم يكد يستقر المقام بناطح السحاب حتى انفتح منه الطابق الأعلى، وأخذ يخاطب الهرم وفي صوته تلك الغنةَّ التي امتاز بها أهل امريكا، كأنما يسدون أنوفهم إذ يتكلمون. . وقال له: عم صباحا يا عزيزي أبا الأهرام. إن الهواء ها هنا جاف حار، وقد طال سيرى في البيد، وبلغ مني الظمأ، ولا أجد في هوائكم سحابا يجلل هامتي، ويبرد أو أمي

قال الهرم: عم صباحا ناطح السحُب! هل لك في الجلوس لتستريح قليلا من قطعك البحار في القفار؟

قال: هيهات لمثلي الجلوس! أني لا أقضي حياتي جاثما فوق أديم الثرى، بل ناهضا قائما، أحمل هذه الطباق السبعين بين جدراني.

قال الهرم: أجل وفي طيها هذه الكائنات الغربية من كل ما هب ودب!

قال: إن في باطني، وبين جوانحي إحياء ملؤها الحركة والنشاط، أما أنت فلم تشتمل إلا على أجساد هامدة.

قال الهرم: تأدب يا ناطح! إن جسد خوفو الذي أضم بين جوانحي لأعز على الدهر من كل هذه الأحياء التي انطوت عليها طباقك السبعون.

ص: 18

قال: ان بلادك تحيا حياة جمود.

قال الهرم: ليست حياة الجمود بِشَرَّ من جمود الحياة

قال الناطح: أرجوك ألا تكلمني، بلغة الكهان القدماء واذكر أننا في عصر البخار والكهرباء، وفي القرن العشرين بعد الميلاد. لا قبل الميلاد منذ أربعة آلاف من السنين، كان فرعونكم يسأل كاهنه عن الأمر العويص. فلا يحير الكاهن جوابا. فيُلْجئه العجز إلى هذه العبارات المبهمة والاسجاع الغامضة. أما أنت فما أخرك أن تخاطبني بلغة العصر، وان تحدثني في صراحة ووضوح.

قل لي: انك لست إلا قبرا. ومع ذلك فأنت رمز لهذه الأمة القديمة. فكيف ترضى أمة حية ان يكون رمزها الذي يدل عليها قبراً من القبور.

قال الهرم: أنا رمز الخلود، رمز البقاء: رمز السَّرْمَدية التي تنتظم الوجود. ما هذه الآلاف السنين التي تذكرها غير حباب يطفو على موج الأثير الأزلي، وما أنت والنواطح أمثالك، وما بخارك وكهرباؤك سوى ذرات في هباء تذروها رياح الأبد. وما كيانكم وأقداركم وحظوظكم سوى اهتزازات في أطراف جناح الدهر الخفاق. .

لقد شغلتكم الحياة عن التفكير في الحياة. وأعماكم النور عن رؤية ما وراء النور، وألهاكم الوجدُ عن حكمة الوجود. . ولعمرك ماذا تستطيع في الدهر، وماذا تنال من الأزل شرارة لا تكاد تذكو حتى تخبو، ولا تكاد تبدو حتى تختفي؟

فأطرق الناطح مليا ثم قال: ان الحياة أعز لدي من سر الحياة، والوجود أحب إلي من حكمة الوجود. فدعني من أزليتك وأبديتك! ان ساعة واحدة من حياتنا الأمريكية الممتلئة حركة وجدا ونشاطا، أشهى إليَّ من آلاف السنين أقضيها مثلك رابضا فوق التراب في همود وخمود، وسبات ورقاد. إنني ضَحَّيتُ بالدهر من أجل الساعة، وأعرضت عن الأزل من أجل اللحظة.

قال عيسى بن هشام: ولم يكن الهرم يوما ممن يُطيلون الجدل، فحينما أبصر في محدثه كل هذا التمادي والغرور أعرض عنه لحظة. ثم حدجه بنظرات حداد. فإذا المغرور يرتعد وينتفض، ولم يكن إلا مقدار ما يسقط الشهاب، أو يلمع البرق، فإذا الناطح تندك أركانه، ويتداعى بنيانه، وتتساقط طباقُه السبعون بعضها فوق بعض، فأضحى هشيما منثورا. وأثراً

ص: 19

من بعد عين.

أما الهرم الأكبر فلم يلبث أن عاوده السكون وغشيه الهدوء، وكأني سمعته حين أغمض عينيه ينشد شعرا غريبا، بل أكاد أجزم أني سمعته يتمتم، في صوت غامض مبهم، بهذه الأبيات الغامضة المبهمة:

العيش مستعذب عذاب

والعمر تلهو به سراب

والناس تبني. وما بناءٌ

إن كان في أسه الخراب؟

في إثر فوج يروح فوج

فهل لذى روحة إياب؟

مهدٌ يضم الورى ولحد

فهل هما البدء والمآب؟

الناس تجري على سفين

في بحر وهْم له حباب

فلا سرور ولا صفاء

ولا انتحاب ولا اكتئاب

ولا شقاء ولا نعيم

ولا ابتعاد ولا اقتراب

للمرء من دهره سؤالٌ

ما بالهُ راعه الجواب؟

ثم عاوده سباته العميق. وظل راقدا غارقا في رقاده، نائما يغط في نومه.

لم يكد عيسى بن هشام أن يبلغ هذا الموضع من حديثه، حتى هاج سامعوه وماجوا. وأخذوا يتصايحون ويتصارخون، وقال قائل منهم: اشهد يا ابن هشام لقد أدركك الخرَف ولم تعد تحسن الحديث. فما أحراك أن تمتنع عن التحدث إلى الناس! أو تكف عن الإدلاء بمثل هذه الترهات. أو قل إنك رأيت هذا في المنام، وإنه أضغاث أحلام.

ثم انصرفوا. ولبث عيسى بن هشام في مكانه، حزينا كئيبا، يندب جده العاثر، وبأسف على مجده القديم، حين كان يتحدث، فترهف لحديثه الإذان، وتميل نحوه الأعناق. ولا يكاد الناس يملكون أنفسهم من الإعجاب.

ص: 20

‌علم النفس والتربية والأخلاق عند إخوان الصفا

فلسفة اللذة والألم - كيف تحس وكيف تتجمع التذكارات في الدماغ غاية التربية - الطفل صحيفة بيضاء - واجبات المتعلم والمعلم - فعل البيئة - الوظيفة بحسب الاستعداد. . . منشأ الأخلاق التساهل - أسباب التعصب - فوائد التعصب - الدين العملي - اختبار الأصدقاء. . .

في رأي الأخوان أن الحيوانات في اكثر الأحيان تحس باللذة والألم (لأن أبدانها مركبة من الأمهات الأربعة ذات الطباع المتضادة: وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة. وهي دائمة التغيير والاستحالة والزيادة والنقصان. فهي تخرج المزاج تارة من الاعتدال إلى الزيادة في أحد الأخلاط والطباع، أو إلى النقصان في واحد منها. واللذة هي رجوع المزاج إلى الاعتدال بعد أن يكون خارجا عنه. فمن أجل هذا لا يحس الحيوان باللذة إلا بعد أن يتقدمها ألم. وكل محسوس يخرج المزاج عن الاعتدال فأن الحاسة تكرهه. وكل محسوس يرد المزاج إلى الاعتدال فأن الحاسة تحبه)

تأمل هذه الأفكار فأن لها - على سذاجتها - حظاً كبيراً من الصدق والإصابة.

أما كيف تصل المحسوسات إلى الدماغ فهو انه ينتشر في مقدم الدماغ عصبات لطيفة لينة، وتتصل بأصول الحواس وتتفرق هناك وتنسج في أجزاء جرم الدماغ كنسيج العنكبوت. فإذا باشرت كيفية المحسوسات من أجزاء الحواس، وتغير مزاج الحواس عندها وغيرتها عن كيفياتها، وصل ذلك التغيير في تلك الأعصاب التي في مقدم الدماغ فتتجمع كلها عند المخيلة كما تتجمع رسائل أصحاب الأخبار عند صاحب الخريطة الذي يوصل تلك الرسائل كلها إلى حضرة الملك. ثم ان الملك يقرأها ويفهم معناها ثم يؤديها إلى القوة الحافظة لتحفظها إلى وقت التذكار.

هذا رأي الأخوان في تفسير الإحساس واختزان التذكارات في الدماغ. وللقارئ أن يتناول كتابا في علم النفس الحديث ليرى كيف يفسرون هذه الظواهر النفسية كالإدراك والإحساس والتذكر، ثم ليقابل ذلك بما يبثه إخوان الصفا من رأي صائب في هذه القطعة الطريفة الساذجة. بيد إنني لا احب أن يستقر في روع القارئ أن رسائل الأخوان كلها أو جلها على هذا النحو، وفي هذا الحد من الابتكار والإصابة. فان فيها من السخف والضحولة الشيء الكثير. ولهذا كان حتما على المطالع لهذه الرسائل ان يوطن النفس على ما فيها من تجاوز

ص: 21

بين الفكرة الملهمة العميقة والفكرة الغثة المضحلة إذا شاء أن يمضي في هذه المطالعة ويواصل المجهود إلى النهاية.

أما التربية فغايتها ومثلها الأعلى، في رأي الأخوان، هما الغاية والمثل الأعلى اللذان كانا لها في القرون الوسطى حينما كانت الأديرة والكنائس وما إليها هي معاهد التثقيف الوحيدة في أوربا. ولعلك تعلم ان نظرية القرون الوسطى هذه هي أن هذه الحياة دار فناء، والآخرة دار بقاء، فالسعيد السعيد هو الذي كانت حياته عدة وسلماً يرقى عليها مبراً من كل وزر إلى دار البقاء. واليك ما يقوله الإخوان في هذا الشأن، وان لم يكن صريحا في الدلالة على قصدهم كل الصراحة، قالوا:

(وأما رتبة الإنسانية التي تلي رتبة الملائكة، فهي أن يجتهد الإنسان ويترك كل عمل أو خلق مذموم ويكتسب أضداداها من الأخلاق الجميلة حتى يكون إنسانا خيراً فاضلا. فإذا فارقت روحه جسده عند الموت صارت ملكا بالفعل، وعرج بها إلى ملكوت السماء، ويرى أخوان الصفا - كما رأى غيرهم - أن الطفل صحيفة بيضاء قابلة لكل ما يطبع عليها من تأثيرات. ومتى لوثت هذه الصحيفة مرة أو سودت كان من الصعب جلاؤها وإماطة السواد عنها (لانه إذا كتب فيها شيء حقاً كان أم باطلا فقد شغل المكان ومنع أن يكتب فيه شيء آخر ويصعب حكه ومحوه)

لهذا فالإخوان لا يطمعون في إصلاح المشايخ الهرمين (الذين اعتقدوا من الصبي آراء فاسدة وعادات رديئة وأخلاقا وحشية. فأنهم يتعبونك ولا ينصلحون، وان صلحوا قليلا فلا يتعلمون. ولكن عليك بالشباب السالمي الصدور الراغبين في الآداب المبتدئين بالنظر في العلوم

وهم يحددون واجبات المتعلم والمعلم تحديداً صريحاً إذ يقولون: (ان ما يحتاج إليه المتعلم من الأخلاق الجميلة والخصال الحميدة هو فصاحة اللسان والتواضع للمعلم والتعظيم له ومعرفة حقه. أما المعلم فواجب عليه الشفقة على تلاميذه وعد الضجر من إبطاء فهمهم، وقلة الطمع في اخذ العوض، وقلة المنة عليهم)

ويدرك أخوان الصفا ما لفعل الوسط والقدوة من أثر في تربية الطفل فيقولون:

(وأعلم أن كثيراً من الصبيان إذا نشأوا مع الشجعان والفرسان يتخلقون بأخلاقهم ويصيرون

ص: 22

مثلهم. وهكذا أيضا كثير من الصبيان إذا نشأوا مع الصبيان والمخانيث فانهم يكتسبون أخلاقهم، وعلى هذا القياس يجري حكم سائر الأخلاق التي ينطبع عليها الصبيان منذ الصغر)

وإخوان الصفا يوصون بأن يدأب المعلم (ولفظهم صاحب الشريعة) في دراسة تلاميذه والتفطن إلى احوالهم، والانتباه إلى أخلاقهم وسجاياهم واحداً واحداً (حتى يعرف كل واحد منهم، ما اسمه وما نسبه وما صناعته وما هو سبيله في أمر معاشه وما هو الغالب عليه من الطبع الجيد والرديء وحتى يثق بهم علما ويتبين منازلهم، ويستعين بكل واحد منهم في العمل المشاكل له، ويستخدمه في الأمر اللائق به)

تقرأ هذا فيخيل إليك أن إخوان الصفا مطلعون على فلسفة التربية الحديثة التي تصر على وجوب دراسة الطلاب دراسة دقيقة منظمة تقضي إلى فهم كفايات كل طالب ليعطي من الدروس والأعمال ما يتلاءم وأعظم هذه الكفايات بروزاً وأكثرها خيراً مأمولا.

والأخلاق عند إخوان الصفا خاضعة لفعل الوراثة ولفعل الوسط الطبيعي والوسط الاجتماعي ولشيء آخر هو فعل الكواكب فيهم يقولون:

(اعلم يا أخي إن أخلاق الناس وطبائعهم تختلف من أربع جهات: أحدها من جهة أخلاط أجسامهم ومزاج أخلاطها، والثاني من جهة ترب بلدانهم واختلاف أهويتها، والثالث من جهة نشوئهم على ديانات آبائهم وعادات معلميهم وأساتيذهم ومن يربيهم ويؤدبهم، والرابع من جهة موجبات أحكام النجوم في أصول مواليدهم، وقد تكلم إخوان الصفا في الأخلاق كثيراً ولا نستطيع أن نعطيك رأيهم إلا في النذر القليل.

يعجبك حقا من إخوان الصفا اقتناعهم اقتناعا عميقا بفائدة التساهل. فلسفتهم الانتخابية قد بنوها على هذا المبدأ. فالأديان والشرائع كلها عندهم سواء. وليس لدين فضل على دين إلا بمقدار ما فيه من صدق وإصابة. ولذا فهم ينصحونك بان تخضع دائما للحق وتحترمه أنى كان مصدره. واليك ما يوصون به:

(لا تتمسك بما أنت عليه من دين ومذهب واطلب خيراً منه، فأن وجدت فلا يسعك الوقوف على الأدون، ولكن واجب عليك الأخذ بالأخير. ولا تشغلن بذكر عيوب مذاهب الناس، ولكن انظر هل لك مذهب بلا عيب؟

ص: 23

وهم يعتقدون أن للتصلب في الرأي والتعصب للعقيدة أسبابا جمة منها: (شدة تعصب المرء فيما يعتقده بقلبه من غير بصيرة، وأخرى إعجابه بنفسه في اعتقاده، وأخرى اعتقاده أصولا خفي فيها خطأه بين ظاهر الشناعة في فروعها. ولهذا فهو يلزم هذه الشناعات في الفروع مخافة أن تنتقض عليه الأصول، فيطلب لها وجوه المراوغة عن إلزام الحجة عليه: تارة بالشغب، وتارة يموه وتارة يروغ في الجواب والإقرار بالحق ويأنف أن يقول: (لا أدري)

على أن أخوان الصفا لا يمقتون التصلب في الرأي كل المقت لأنهم يرون فيه فوائد تغطي على بعض مضاره. يرون أن اختلاف العلماء في آرائهم وتعصبهم لها يدعوان إلى شحذ الافكار، لان كل فريق يحاول أن ينصر مذهبه على مذهب غيره مما يدعو إلى الغوص على المعاني الدقيقة، والنظر إلى الأسرار الخفية، فيكون ذلك سبباً في يقضة النفوس.

كذلك هم يرون أن اختلاف العلماء يدعو لي نشر معائبهم، إذ يكون هم كل واحد تبيان مساوئ الآخر وإظهار رذائله، فيكون ذلك حاثاً للجميع على ترك الرذائل.

ويرون أيضاً أن هذا الاختلاف في الآراء والمذاهب يوجد مضطرباً أوسع في أمور الدين وممارسة شعائره.

وقد قادهم تساهلهم إلى هذا الدين العملي: وهو اعتبارهم: أن العبادة ليست كلها صلاة وصوماً، بل عمارة الدين والدنيا معاً، لان الله يريد أن يكونا عامرين)

وللإخوان رأي جميل في اختيار الأصدقاء والوفاء للصداقة الصادقة فيقولون:

(ينبغي لك إذا أردت أن تتخذ صديقاً أو أخاً أن تنتقده كما تنتقد الدراهم. واعلم بأن إخوان الصدق هم نصرة على دفع الأعداء، وسلم للصعود إلى المعالي، فان غبت حفظوك، وإن تضعضعت عضدوك. والواحد منهم كالشجرة المباركة تدلت أغصانها بثمرها إليك، وأظلتك أوراقها بطيب رائحتها، وسترتك بجميل فيئها. فإذا أسعدك الله يا أخي بمن هذه صفته فابذل له نفسك ومالك وق عرضه بعرضك، وافرش له جناحك، وأودعه سرك، وإن هفا هفوة فاغفرها له، وإن زل زلة فصغرها في عينيه).

هذا بعض ما في رسائل الإخوان من طرافة في التفكير، وهدى في البحث، وجدة في التعليل والتفسير. وعسى أن يتاح لهذه الرسائل من يكشف كشفاً أعم وأشمل عما استتر فيها

ص: 24

من لؤلؤ وغاب من در.

شرق الأردن

أديب عباسي

ص: 25

‌من الأدب الفارسي

إيوان كسرى بين التاريخ والشعر

للدكتور عبد الوهاب عزام

المدائن أو مدائن كسرى اسم لطائفة من المدن قامت على جانبي دجلة في عهد الدولة الساسانية. أعظمها على الشاطئ الشرقي طيسفون، وتخص باسم المدائن في التاريخ الإسلامي. وهي محلتان: المدينة العتيقة إلى الشمال وهي مدينة قديمة قامت قبل عهد الساسانيين وكان بها القصر الأبيض الذي بناه بعض المتأخرين من الاشكانيين أو الأوائل من الساسانيين، والمحلة الجنوبية تسمى اسفانبر وكان بها القصر الذي عرف عند العرب باسم (إيوان كسرى) ويظن أن بانيه سابور الأول (241 - 272 م)

وقد اضمحلت المدائن على مر الزمان حتى لم يبقى منها في القرن السابع الهجري إلا قرية صغيرة حملت هذا الاسم العظيم، يقول ياقوت:(فأما في وقتنا هذا فالمسمى بهذا الاسم بليدة شبيهة بالقرية بينها وبين بغداد ستة فراسخ. وأهلها فلاحون يزرعون ويحصدون والغالب على أهلها التشيع على مذهب الإمامية) وليس في موضع المدائن الشرقية اليوم إلا قرية صغيرة جداً فيها مسجد سلمان الفارسي رضي الله عنه على نحو 30 كيلو إلى الجنوب الشرقي من بغداد.

وعلى مقربة من هذه القرية التي تسمى (سلمان باك) أي سليمان المطهر، يرى اليوم (طاق كسرى) وهو الذي سماه العرب والفرس في العهد الإسلامي إيوان كسرى أو إيوان المدائن. وهو بقية من بنية عظيمة بناها سابور الأول وعمرها كسرى أنوشروان وتدل الخرائب حول هذا الطاق أن البناء كان 400 متر في عرض 300، ويظن أن البناء كله بقى إلى عهد العباسيين، وأن المنصور أو الرشيد حاول أن يهدمه ثم كف عنه. ثم تعاورته غير الزمان حتى لم يبق منه في القرن السابع الهجري إلا الإيوان. يقول ياقوت في الكلام عن الإيوان:(رأيته وقد بقى منه طاق الإيوان حسب) وقد بقى هذا الطاق وجناحان من البناء على جانبيه يمتدان زهاء مائة متر إلى زمن قريب. ثم انقض الجناح الشمالي (5 أبريل سنة 1888 م) وبقى الإيوان وجناحه الأيسر. وظاهر من بقية هذا الجدار أن علوه كان نحو 25 مترا وأن القصر كان ذا ثلاث طبقات. وقد سقط بعض سقف الطاق وجداره

ص: 26

الخلفي وبقى معظم العقد والجداران الجانبيان في علو وجلال يرتاع لهما كل زائر، وقد زرت بقية الأحداث من هذا الإيوان يوم الاثنين 22 رمضان سنة 1349 في بعثة كلية الآداب من الجامعة المصرية فشهدت جلاد الزمان والإنسان، وتخيلت الطاق نسرا قشعما أنحت عليه الخطوب فحصت ريشه وذهبت بجناح، وهاضت الآخر ولكنه بقى متجلدا مستكبرا يقلب عينيه في لوح الجو محاولا أن يسمو إلى ملكه الواسع في عنان السماء. وصدقت قول البحتري:

فهو يبدي تجلدا وعليه

كلكل من كلاكل الدهر مرسى

وأما القصر الأبيض أو أبيض المدائن فقد هدم في عهد المكتفي بالله العباسي سنة 290 وبنى بأنقاضه قصر التاج، ولكن كثيرا من المؤخرين يخلط بين الإيوان والقصر الأبيض كما يتبين من معجم البلدان وغيره

رويت في إيوان كسرى أشعار ذكر بعضها ياقوت في معجم البلدان. ومنها بيتان خطهما على الإيوان الملك العزيز جلال الدولة البويهي:

يا أيها المغرور بالدنيا اعتبر

بديار كسرى فهي معتبر الورى

غنيت زمانا بالملوك وأصبحت

من بعد حادثة الزمان كما ترى

وأعظم ما نظم في الإيوان قصيدتان: قصيدة البحتري وقصيدة فارسية نظمها الخاقاني الشاعر الفارسي المتوفى سنة 595 والبحتري يذكر في قصيدته ثلاثة أسماء: أبيض المدائن، والإيوان. والجرمان. والظاهر ان ابيض المدائن في شعره غير الايوان، وإن خلط المؤرخين بينهما، وكأن هذا الخلط كان بعد عصر البحتري وبعد أن هدم الخليفة المكتفي القصر الأبيض سنة 290. فالبحتري يصف في قصيدته أبنية عدة لا بناء واحدا.

وقراء العربية يعرفون سينية البحتري، فلا حاجة إلى إثبات بعضها هنا. وحسبي أن أترجم قصيدة الخاقاني. ويرى القارئ أن الشاعر اقتصر منها على الرثاء والبكاء ولم يصف وصف البحتري وقد حذفت منها بضع أبيات بنيت على جناسات، ورموز مألوفة في الفارسية ولا يمكن نقلها إلى العربية نقلا معجبا:

هيا أيها القلب المعتبر أنعم النظر، فما إيوان المدائن إلا مرآة العبر. عرج عن طريق دجلة إلى المدائن للذكرى، وأسل على تراب المدائن دجلة أخرى. إن دجلة لتبكي حتى تحسبها

ص: 27

مائة دجلة من الدمع القاني - وانه لدمع نقطر به الاهداب نارا. هذه دجلة تضرم قلبها الحسرات، فهل سمعت بماء تحرقه الجمرات؟ أسعد دجلة بالبكاء كل حين، واجعل لها زكاة من دمعك وان يكن البحر يأخذ الزكاة منها. لو مزجت دجلة آهاتها بحرقة قلبها لا نقلب نصفها جمدا، ونصفها للنار موقدا هلم فناد الإيوان بلسان الدمع حينا بعد حين فلعل قلبك يستمع جواب الإيوان الحزين. ان هذه الشرفات لا تفتأ ترسل إليك العظات فأصخ واحسن الاستماع إليها: إنها تقول: أنت من التراب، ونحن هنا من ترابك، فامنحنا بعض خطواتك، ولا تبخل علينا بعبراتك. إن برءوسنا صداعا من نعيب البوم فهات من دمعك الجلاب، وخفف عنا هذه الهموم. قد كنا مجالس للعدل وقد أصابنا من جور الزمان ما ترى، فكيف بقصور الجائرين ماذا أعد لها من النوائب؟ ما الذي نكس هذا الإيوان الذي يحاكي الفلك؟ احكم الفلك الدائر، أم قضاء مدير الفلك القادر؟

أيها الضاحك من عيني الباكية! تقول ما يبكيه ها هنا. إن العين التي لا تبكي هنا جديرة أن يبكى عليها. هلم فتمثل الإيوان والكوفة معا، ثم سعر من القلب تنورا وأفض من العين طوفانا. . . ذلك الإيوان الذي نقشت خدود الرجال على تراب عتبته جدارا من الدمى والصور. وتلك هي السدة التي كان يقف بها ملوك الديلم وبابل، والهند والتركستان. تصور ذلك العهد، وانظر بعين الفكر تر الصفوف مترادفة، والمواكب متزاحمة.

لا تعجب فليس عجبا أن ترى في بستان هذه الدنيا أسراب البوم بعد البلابل، وزفرات البكاء بعد ألحان الغناء. . . . سكرى هذه الأرض، فقد شربت مكان الخمر دم قلب أنوشروان في كأس من رأس هرمز. تقول أين ذهب أصحاب التيجان واحدا إثر واحد. فانظر فهذه الأرض حبلى بهم إلى الأبد. . . ان دم قلب شيرين هذه الخمر التي تشربها، وهذا الدن الذي يضعه الدهقان ماء برويز وطينته. كم ابتلع هذا التراب من أجساد الجبابرة ثم لا يزال نهما لا يشبع. .!!

إن القادمين من السفر يأتون بالهدايا لإخوانهم. وهذه القصة هدية إلى قلوب الأخوان. يا خاقاني استجد العبرة على هذه الأبواب ليقف الخاقان مستجديا على بابك. اهـ

عبد الوهاب عزام

ص: 28

‌الحركة الوطنية الاشتراكية الألمانية

1 -

كيف نشأت بعد الحرب

للأستاذ محمد عبد الله عنان

شهدت أوربا في العصر الأخير طائفة من الحركات والثورات القوية، السياسية والاجتماعية، التي قلبت نظم الحكم والمجتمع، وغيرت مناحي التفكير والعواطف، وأثرت في سير السياسة الدولية اعظم تأثير

ولا ريب أن الثورة الفاشستية الإيطالية، والثورة الوطنية الاشتراكية الألمانية أو الحركة الهتلرية أو النازية، هما اعظم هذه الحركات والثورات البعيدة المدى والآثار في مصاير أوربا القديمة والمجتمع الأوربي القديم. والثانية وليدة الأولى في معنى من المعاني، وشبيهتا في بعض الغايات وفي كثير من الوسائل والإجراءات. ولكنها تختلف عنها في البواعث والظروف التي نشأت فيها، وفي الغايات الجوهرية التي تعمل لها، ثم تختلف عنها في طوالعها، وفي الآثار التي أحدثتها ومازالت تحدثها في سير السياسة الدولية وفي الرأي العالمي

ولعل اعظم ما تتفق فيه الحركتان الإيطالية والألمانية انهما عملتا معا لسحق الشيوعية، ولتحطيم النظم الدستورية والديمقراطية كلها، والقضاء على الحريات العامة وكثير من الحريات الفردية بوسائل متماثلة ولغايات متماثلة. وقد كان تفاقم الفوضى الاشتراكية والشيوعية في إيطاليا عقب الحرب الكبرى اكبر عامل في وثوب الفاشستية الإيطالية. ولكن اكبر عامل في وثوب الحركة الوطنية الاشتراكية الألمانية هو معاهدة الصلح (معاهدة فرساي) وما فرضته على ألمانيا من صنوف التمزيق والذلة والمغارم، وما بثته شروطها وفروضها الفادحة في الشعب الألماني من يأس وتفكك وانحلال. ويكفي أن نذكر أن معاهدة فرساي قضت باقتطاع الألزاس واللورين، ووادي السار، وسيليزيا العليا، ودانتزج، وقسما من شلزقيج من ألمانيا؛ وقضت بإنشاء الممر البولوني داخل أرضها ليمزق بروسيا الشرقية إلى شطرين؛ وقضت بتجريد ألمانيا من سلاحها وسحق عسكريتها التاريخية، وتحطيم أسطولها الضخم وجعلها من حيث الدفاع القومي كأصغر دولة ثانوية؛ وقضت على ألمانيا بتحمل مسئولية الحرب الكبرى ومن ثم بإلزامها بتعويضات مالية فادحة استنزفت مواردها

ص: 29

وقوى شعبها، واحتل الحلفاء من اجل ذلك بعض مناطق الرين الألمانية مدى أعوام، وجردت ألمانيا من جميع مستعمراتها. واستمر الحلفاء بعد الحرب مدى أعوام يعاملون ألمانيا بمنتهى العسف والشدة والكبرياء؛ ولم يكن لألمانيا في تلك الأعوام العصيبة سلاح تشهره للمقاومة أو الاحتجاج المجدي ولم يكن في وسعها إلا التسليم واللاذعان في معظم الأحوال

لبثت ألمانيا مدى أعوام وهي تتخبط في غمر من الصعاب والأزمات الفادحة. ثم كانت نكبة هبوط المارك سنة 1923، وجاء التضخم النقدي كالسيل فقضى على معظم الثروات، وقضى على الطبقات الوسطى بنوع خاص، ودفعها إلى حضيض البؤس والفاقة، وبث إلى التعامل فوضى لم يسمع بها؛ وهبت على الشعب الألماني ريح قوية من الدمار واليأس كادت تذهب بما بقى له من أمل وقوى معنوية وكانت الدعوات الثورية التي تثب دائماً في غمر اليأس والانحلال تعمل من جهة أخرى عملها، فاشتد ساعد الشيوعية، واخذ شبح البلشفية يساور ألمانيا ويهدد مصايرها، وكان الشعب الألماني في تلك الأيام السود يعيش في نوع من الاستسلام لا يكاد يرى طريقا للخلاص من هذه المصائب المتعاقبة والظلمات الكثيفة

ولكن ألمانيا استطاعت منذ سنة 1924 أن تشعر بشيء من الأمل والثقة، ذلك أن الحلفاء أنفسهم أدركوا أن العمل عل إرهاق ألمانيا وخرابها لا يعاون ألمانيا على الوفاء بشروط الصلح بل يدفعها إلى براثن البلشفية المتحفزة. والبلشفية خطر داهم على كل الدول الغربية. وألمانيا هي حاجزه من الشرق. ثم أن فرنسا اقتنعت مذ أقدمت على احتلال وادي الروهر في خريف سنة 1923 لكي ترغم ألمانيا على أداء أقساط التعويضات، أنها ارتكبت خطأ فادحا ولم تفعل سوى أن أثارت في المانيا التي جنحت عندئذ إلى المقاومة السلبية روحا جديدا من النضال والتضامن، وان باقي الحلفاء ولاسيما إنجلترا لا يؤيدونها في هذه السياسة العنيفة، وإنها ستتحمل وحدها تبعات سياسة خطرة، وهنا تبدأ مرحلة جديدة في تاريخ ألمانيا المعاصر، وتنحسر الظلمات من حولها نوعا، وتجد في تلك الآونة العصبية رجلها المنقذ في شخص الدكتور جوستاف شتريزمان الذي تولى رآسة الحكومة عندئذ (أغسطس سنة 1923) ثم غادر الرآسة بعد قليل ليتولى وزارة الخارجية في

ص: 30

الحكومات المتعاقبة مدى أعوام. وكان شتريزمان سياسيا وافر البراعة، استطاع أن يقود ألمانيا خلال هذه الغمار الكثيفة بذكاء وجلد، وان يحررها من كثير من فروض معاهدة الصلح، وكانت مسألة مسئولية الحرب التي سجلت على ألمانيا في معاهدة فرساي واتخذت أساسا لفرض التعويضات والمغارم الفادحة علها موضع الجدل المستفيض، وكانت الوثائق والمذكرات والبحوث المختلفة في ألمانيا وإنجلترا وأمريكا تلقي عليها الضياء تباعا، ويبدو للرأي العالمي شيئا فشيئاً ان القول بمسئولية ألمانيا وحدها عن إثارة الحرب، نظرية خاطئة مغرضة، فكان الأساس الذي بني عليه إلزام ألمانيا بتعويضات الحرب ينهار شيئا فشيئاً، وبذا أعيد النظر في مسألة التعويضات وسويت لأول مرة بمشروع داوز ثم بمشروع يونج، وكانت ألمانيا تظفر في كل خطوة بتخفيضات وتسهيلات جديدة، ولكن المغارم التي بقي على ألمانيا أن تؤديها لبثت مع ذلك فاتحة تحطم موارد أغنى الشعوب. وفي سنة 1925، انتهت جهود شتريزمان الجلدة إلى عقد ميثاق لوكارنو بين ألمانيا وفرنسا وإنجلترا وإيطاليا وبلجيكيا وبه ضمنت سلامة فرنسا وحدود ألمانيا الغربية كما قررتها معاهدة الصلح ضمانا متبادلا تشترك في تأييده كل الدول الموقعة، أكدت ألمانيا بذلك إنها تركت التفكير نهائيا في مسألة الألزاس واللورين وصفا الأفق الدولي بذلك نوعا، ودخلت ألمانيا عصبة الأمم في سبتمبر سنة 1926 - وجلست في كرسيها الدائم إلى جانب أعدائها بالأمس، وبدأ عهد جديد من التفاهم والتقرب من بين فرنسا وألمانيا، وكان شتريزمان رجل ألمانيا في تلك المراحل، كما كان استريد بريان رجل فرنسا. وكان كلا السياسيين العظيمين يؤمن بقضية السلام وعقد الوفاق والتفاهم بين الأمتين. واستمرت هذه السياسة حتى توجت بظفر جديد لشتريزمان: هو حمل فرنسا على الجلاء عن مناطق الرين المحتلة في خريف سنة 1929 قبل الموعد الذي حددته المعاهدة. وكان ذلك آخر ظفر للسياسي العظيم، إذ توفي بعده بقليل في أكتوبر سنة 1929

وكانت وفاة شتريزمان خسارة فادحة لألمانيا إذ فقدت بذهابه اعظم سياسي أخرجته بعد الحرب وضربة جديدة لسياسة الوفاق والتفاهم التي جرت ألمانيا عليها مدى أعوام وجنت ثمارها كما تقدم. وقد حاول الساسة الذين خلقوا شتريزمان في تولي مصاير ألمانيا مثل فون ملير زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي ثم بريننج، ان يتابعوا سياسته ولكن دون نجاح.

ص: 31

أولا لان حالة الاستقرار النسبي الذي تمتعت به ألمانيا بضعة أعوام اخذ يضطرب نظراً لاشتداد ساعد الحركات والأحزاب المعارضة لهذه السياسة، وتفكك الأحزاب التي تناصرها، ونهوض الحركة الوطنية الاشتراكية بالاخص، وثانيا لان نفوذ بريان في فرنسا اخذ في الضعف، أخذت الجبهة التي كانت تناصره تشعر بعقم سياسته أخذت الجبهة العسكرية القوية من جهة أخرى تقاوم كل تساهل جديد مع ألمانيا، وتندد بخطر هذه السياسة على سلامة فرنسا. وتفي بريان بعد ذلك بعامين (أوائل سنة 1933) وكان اضطراب أفق السياسة الأوربية يزداد شيئاً فشيئاً. وظهرت ميول ألمانيا قوية في التحرر من أغلال معاهدة الصلح في مسألة التعويضات. ونزع السلاح، ومسائل الحدود التي تعتبرها ألمانيا جوهرية، لسلامتها، أصرت فرنسا على التمسك بنصوص المعاهدة بحجة المحافظة على سلامتها، وبدأ عهد من النضال الواضح بين الدولتين هو الذي نشهده اليوم في ذروة عنفه وأهميته.

هذه خلاصة موجزة لتاريخ ألمانيا بعد الحرب، وهذه هي نفس الحوادث والظروف التي نشأت في مهادها الحركة الوطنية الاشتراكية. فمنذ نوفمبر سنة 1918، أعني مذ نشبت الثورة التي انتهت بإعلان الجمهورية واختفاء الإمبراطورية من الميدان. وقيام الحكومة الشعبية الأولى برآسة ايبرت لتقبل شروط الهدنة؛ ومذ عقدت الجمعية الوطنية في فيمار (6 فبراير سنة 1919) لتضع دستوراً ديمقراطيا لالمانيا؛ ظهرت في الميدان أقلية تصم بالخيانة العظمى تلك الكتلة الاشتراكية الديمقراطية التي أيدت الثورة واستولت على مقاليد الحكم، وقبلت الهدنة ثم معاهدة الصلح. وكان قوام هذه الأقلية بالأخص جمع من القادة والضباط القدماء أنصار الإمبراطورية: وكانت أثناء تلك الأزمات العصيبة التي غدت ألمانيا فيها فريسة الحرب الأهلية بين الديمقراطيين والشيوعيين بينما كان العدو الظافر يملي عليها شروطه ويثقل كاهلها بفروضه وأغلاله، ترقب مصاير ألمانيا في غمر من الحسرات واليأس؛ ولم تكن يومئذ قوية ولا ومنظمة، ولكنها كانت منذ الساعة الأولى تتلمس السبل لإنقاذ ألمانيا مما اعتقدت أنه منحدر الخطر والانحلال. وكان مركزها بالأخص في بافاريا، في مدينة ميونيخ التي لم يجرفها تيار الدعوة الاشتراكية كما جرف العاصمة البروسية (برلين). وكان التمزق الذي يسود جبهة اليسار (الديمقراطية

ص: 32

والشيوعية) يفسح بعض الأمل لهذه الجبهة (الوطنية) الناشئة. ففي مارس سنة 1920 بدأت أول محاولاتها على يد الجنرال فون لتفتز والدكتور فون كاب واستولت على مقاليد الحكم، ولكنها لم تثبت سوى أيام قلائل؛ وفشلت هذه الوثيقة الأولى ولكنها كانت بداية ذلك الصراع الذي شهرته الجبهة الوطنية المحافظة على الجمهورية الفتية؛ وكانت بالأخص دليلا على أن الجمهورية ليست من المناعة بحيث يستحيل غزوها وتحطيمها.

وكان بين الجماعات الوطنية المحافظة التي اتخذت ميونيخ مركزاً لها، حفنة من الرجال المغمورين عرفت باسم (حزب العمال الألماني) وزعيمها صف ضابط فتى يدعى (ادولف هتلر). وكانت تضم ستة رجال فقط في سنة 1919 حين انضم إليها هتلر. ويقول لنا هتلر في كتابه (جهادي)، انه حين هبط ميونيخ في ذلك الحين لم يكن ينوي أن ينظم إلى أي حزب قائم، بل كان يريد أن يؤسس لنفسه حزبا جديداً، ولكنه انضم إلى هذه الجماعة المتواضعة، وغدا منظمها وزعيمها ومن ذلك الحين يظهر اسم هتلر على مسرح التاريخ الألماني المعاصر، كزعيم وداعية وطني متطرف، وتسير عصبته المغمورة إلى ميدان الحوادث والظهور، وتزداد في العدد والنفوذ بسرعة، وتشق طريقها بعزم وجلد

ويجب قبل أن نتقدم في تتبع هذه الحركة الوطنية المحافظة أن نعرف القارئ بادولف هتلر، ذلك الفتى المغمور الذي شاء القدر أن يغدو اليوم زعيم المانيا، وسيدها المسيطر على مصايرها

ولد أودلف هتلر سنة 1889 في بلدة براونا ومن أعمال النمسا العليا على مقربة من الحدود البافارية في أسرة نمسوية متواضعة، فهو إذن نمسوي الجنس والنشأة. وكان أبوه موظفا صغيراً في الجمارك، فتلقى تربية عادية. وتوفي والداه قبل أن يتجاوز الحداثة. وفي السابعة عشرة ألقت به يد القدر إلى العاصمة النمسوية فنزل بها وحيداً بائساً لا عائل له، أو على قوله:(لا يحمل سوى حقيبة من الملابس، ولكن يحمل في قلبه عزما لا يقهر) وأراد هتلر أن يدرس التصوير فلم يوفق لفقره؛ ورمت به المقادير إلى صناعة البناء يدرسها ويكسب منها قوته: فاشتغل مدى حين صبي بناء يعيش في ضعة ومسغبة، فلما لم يبسم له الحظ في العاصمة النمسوية، نزح إلى ميونيخ يبحث وراء طالعه؛ ولما نشبت الحرب الكبرى التحق بفرقة بافارية بإذن خاص من حكومته. وقاتل مع الجيش الألماني في

ص: 33

الميدان الغربي، وظهر بأقدامه وشجاعته وكوفئ بوسام (الصليب الحديدي). وأصيب في أواخر الحرب من الغازات الخانقة فحمل عليلا إلى ألمانيا: ولزم فراشه حتى انتهت الحرب وعقدت الهدنة. ويقول لنا هتلر انه بكى حزنا وتأثرا حينما سمع بخبر الهدنة. كما أنه شكر الله حين نشبت الحرب، وما كاد يبرأ من علله حتى عاد إلى ميونيخ وانضم إلى أولئك الستة الذين أطلقوا على أنفسهم (حزب العمال الألماني)، فلم يلبث أن غدا قائدهم وزعيمهم، واتخذ للجماعة اسما آخر هو (حزب العمال الوطني الاشتراكي الألماني)

محمد عبد الله عنان

ص: 34

‌في طريق المنفى

للأديب حسين شوقي

هي ذكرى مؤلمة من ذكريات الصبي حدثت في بداية الحرب العالمية.

عند مغادرتنا محطة القاهرة في طريق المنفى، جاء أقاربنا يودعوننا وكانوا يعتقدون أن الحرب سوف تنتهي قريبا لأن الفيالق الألمانية المظفرة كانت وقتئذ عل أبواب باريس، فكان من المفروض أن فرنسا سوف تضطر إلى التسليم، وعلى هذا نرجع من المنفى بعد أشهر قليلة، ولكن اخطأ مع الأسف هذا الحساب لأننا بقينا في الخارج خمس سنوات، كما أن بعض هؤلاء الأقارب الأعزاء أدركتهم المنية قبل عودتنا إلى الوطن. قصدنا بعد ذلك السويس حيث ركبنا سفينة أسبانية قادمة من جزر الفلبين، وتقصد برشلونة (أسبانيا)، ولم تكن السفينة متينة ولا كبيرة، ولكن لم يكن لنا وقتئذ الخيار في ركوب سفينة أخرى وقديما قالوا ان المضطر يركب الصعب من الأمور وهو عالم بركوبه، وفوق هذا لم تشفق أمواج المحيطات الهندية على هذه السفينة في طريقها إلى السويس، فخلفتها في حالة سيئة.

انقضت الأيام من الرحلة في هدوء تام، وقد تعرفت أسرتي بمعظم المسافرين وأغلبهم أسر ألمانية ونمساوية اعتقل رجالها في مصر. وكم كان محزناً حال هذه الأسر وهي مدفوعة إلى مصير مبهم مجهول بلا مال ولا نصير! ولولا أمل هؤلاء القوم في النصر لما استطاعوا أن يصبروا على ما كانوا فيه من بؤس وشقاء.

أما أنا فقد تعرفت على الفور (قبل أقاربي) بالركاب الذين هم من سني، لأن الديمقراطية الحق هي التي تسود علاقات الأطفال

وكنا - هؤلاء الأطفال - وأنا - بطبيعة الحال غير شاعرين بالمأساة الكبيرة التي تمثل على مسرح العالم، بل العكس كانت فرصة لنا لنمثل معارك كالتي كانت ناشبة بين الألمان وخصومهم

ولكننا كنا نجد بصعوبة من يرضى منا ان يقوم بدور العدو لأن هذه الوقائع كانت دائما تنتهي بفوز ألمانيا، وبضرب الجنود المفروض أنهم أعداء ضربا مبرحا. وكان معنا على ظهر السفينة قسيس ألماني منفي من مصر، وكان يلومنا على عملنا ويدعونا إلى المحبة والوئام، ولكن لعمري هل كان الكبار وقتئذ ينصتون إلى مثل هذا القول حتى ينصت إليه

ص: 35

الصغار؟

وكان على ظهر السفينة - غير هذه الأسر الألمانية - عشيقان أسبانيان قادمان من الفلبين، وكانت حالهما أشبه بحالنا - معشر الأطفال - في عدم الاكتراث بما يقع في الدنيا من حوادث جسام، إذ كانا يقضيان الأيام في غزل متواصل، كان لهما على ظهر السفينة كرسيان طويلان متلاصقان، فكنت إذا مررت أمامها قطعا الغزل، فإذا انصرفت استأنفاه، فأغضبني هذا التصرف منهما، وأقسمت أن أفاجئهما متلبسين بالجريمة، من اجل هذا وضعت كرسي بالقرب منهما ثم اضطجعت عليه، وغطيت وجهي بشال من الصوف متظاهراً بالنوم، فلما أستأنف العاشقان الغزل فزعت من مقعدي فجأة وضحكت ضحكة عالية لأنني كنت أرقبهما من ثقب صغير أحدثته بأسناني في الشال!

ثم كان هناك راكب اختل عقله من طول السفر، إذ مضى عليه أربعون يوما وهو في السفينة، وكانوا يسمحون له بالنزهة على ظهر المركب في حراسة بحار حتى لا يلقي بنفسه في اليم، ولكن جنون هذا المجنون كان من حسن حظنا هادئا. وكان بعضهم يزعم أن مثل هذا الجنون وقتي يذهب لدى نزول صاحبه على الأرض. ثم كانت معنا في السفينة شحنة من الثيران مرسلة إلى أسبانيا ليمثل بها - المسكينة - (في الكوريداس)، ولكن قبل وصولنا إلى برشلونة بيوم، هبت عاصفة شديدة لم أذكر أني شاهدت في حياتي مثلها، فكانت أمواجها الصاخبة تهاجمنا، وكأنها في بأسها قبائل الهون المتوحشة، وكانت تصيح أثناء الهجوم صياحا شديدا، فإذا كان غرضها إذ ذاك أن ترعبنا فأنها أدركت حقاً بغيتها، إذ كانت حالنا جميعاً سيئة جداً كما أن أضلاع سفينتنا كانت تئن من جراء هذه الصدمات أنين الشيخ الهرم عند أزمة (لومباجو) حادة. . . وقد أمر القبطان بإلقاء الثيران في البحر حتى يخفف عبء المركب، ولا زلت أذكر ذلك المنظر البشع برغم عهده البعيد! كان يلقى بالثيران الواحد تلو الآخر وهي تصرخ كأنها تشهد السماء على جبروت الإنسان!

وقد أخرتنا هذه الزوبعة - التي ما زالت إلى اليوم أعجب من نجاتنا منها - يوما كاملاً عن ميعاد الوصول. .

ولما بلغنا في النهاية برشلونة، وتراءت لنا المدينة عن بعد، لم يكن فرحنا إذ ذاك يقل عن فرح (كرستوف كولومب) حين شاهد (سان سلفادور). . وقبل أن ينزل إلى البر، اقترب

ص: 36

مني أحد أصدقائي الصغار، وهمس في إذني قائلا: أتعلم لماذا نجونا من العاصفة؟ ان القسيس كان يصلي من أجلنا طول الليل. فلما نقلت هذا الحديث إلى والدي ابتسم وقال: بل هي دعوات جدتك يا بني!. . أما أنا فأرى ان العناية لم تشأ ان يموت هذا الشاعر قبل أن يتم رسالته، ويغني على قيثارته حضارة العرب الفخمة بالأندلس!

حسين شوقي

ص: 37

‌الشافعي واضع علم أصول الفقه

للأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرزاق أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية

الآداب

- 4 -

أ - الدراسات الفقهية إلى عهد الشافعي. ب - أهل الرأي وأهل الحديث. ج - الشافعي بين أهل الرأي وأهل الحديث وآثاره وكتبه. د - وضع الشافعي علم أصول الفقه

أ - الدراسات الفقهية إلى عهد الشافعي

1 -

كان التشريع في عهد النبي عليه السلام يقوم على الوحي من الكتاب، والسنة. وعلى الرأي من النبي ومن أهل النظر والاجتهاد من أصحابه بدون تدقيق في تحديد معنى الرأي وتفصيل وجوهه وبدون تنازع ولا شقاق بينهم

ومضى عهد النبي عليه السلام وجاء بعده عهد الخلفاء الراشدين من سنة 11م5هـ - 632 إلى سنة 40هـ - 660 وقد اتفق الصحابة في هذا العهد على استعمال القياس في الوقائع التي لا نص فيها من غير نكير من أحد منهم، وفي هذا العهد أخذت تبدو الصورة الأولى من صور الإجماع بما كان يركن إليه الأئمة من مشاورة أهل الفتوى من الصحابة، وكان أهل الفتوى من الصحابة يومئذ وهم المعتبرون في الإجماع قلة لا يتعذر تعرف الاتفاق بينهم في حكم من الأحكام

ولم يكن يفتي من الصحابة ألا حملة القرآن، الذين كتبوه وقرءوه وفهموا وجوه دلالته وناسخه ومنسوخه، وكانوا يسمون (القراء) لذلك، وتمييزاً لهم، عن سائر الصحابة بهذا الوصف الغريب في أمة أمية - لا تقرأ ولا تكتب -

ثم كان عصر بني أمية من سنة 40هـ - 660م إلى سنة 132هـ - 749م وتكاثر الممارسون للقراءة والكتابة من العرب، ودخلت في دين الله أمم ليست أمية فلم يعد لفظ القراء نعتا غريبا يصلح لتمييز أهل الفتوى ومن يؤخذ عنهم الدين، هنالك استعمل لفظ العلم للدلالة على حفظ القرآن ورواية السنن والآثار وسمي أهل هذا الشأن (العلماء) واستعمل لفظ (الفقه) للدلالة على استنباط الأحكام الشرعية بالنظر العقلي فيما لم يرد فيه نص كتاب ولا سنة

ص: 38

وسمي أهل هذا الشأن (الفقهاء) فإذا جمع امرؤ بين الصفتين جمع له اللفظان أو ما يراد فهما

وفي طبقات ابن سعد (كان ابن عمر جيد الحديث غير جيد الفقه، وكان زيد بن ثابت فقيها في الدين عالما بالسنن

وقد كان كثير من الصحابة والتابعين يكره كتاب العلم وتخليده في الصحف كابن عباس، والشعبي، والنخعي، وقتادة، ومن ذهب مذهبهم، وهؤلاء كلهم عرب طبعوا على حفظ جبلة العرب

قال ابن عبد البر: من كره كتاب العلم إنما كرهه لوجهين:

أحدهما - ألا يتخذ مع القرآن كتاب يضاهي به، ولئلا يتكل الكاتب على ما يكتب فلا يحفظ فيقل الحفظ. (مختصر جامع بيان العلم ص24)

ولما انقرض عهد الصحابة ما بين تسعين ومائة من الهجرة وجاء عهد التابعين، انتقل أمر الفتيا والعلم بالأحكام إلى الموالي إلا قليلا (عن عطاء قال: دخلت على هشام بن عبد الملك فقال: هل لك علم بعلماء الأمصار؟ قلت: بلى قال: فمن فقيه المدينة. قلت: (نافع) مولى ابن عمر، وفقيه مكة (عطاء بن رياح) المولى، وفقيه اليمن (طاوس) بن كيسان المولى، وفقيه الشام (مكحول) المولى، وفقيه الجزيرة (ميمون) بن مهران المولى، وفقيها البصرة (الحسن، وابن سيرين) الموليان، وفقيه للكوفة (إبراهيم) النخعي الغربي، قال هشام: لولا قولك عربي لكادت نفسي تخرج) مناقب الأمام الأعظم للبزاز جـ1 - ص57

عندئذ تضاءلت النزعة العربية إلى خطر التدوين وصارت كتابة العلم أمراً لازما (عن سعد بن إبراهيم قال: أمرنا عمر بن عبد العزيز المتوفى سنة 101هـ - 720م بجمع السنن فكتبناها دفترا دفترا فبعث إلى كل بلد له عليها سلطان دفترا) مختصر جامع بيان العلم ص33

وقد بدت مخايل نهضته في التشريع الإسلامي منذ ذلك العهد فحصل تدوين بعض السنن وبعض المسائل ولم يصل إلينا من تلك المدونات إلا صدى

ويقول (جولد زيهر) في مقاله عن كلمة (فقه) في دائرة المعارف الإسلامية: (وينبغي ألا يعطى كبير ثقة لما نسب لهشام بن عروة من أنه في يوم الحرة حرقت لأبيه كتب فقه، ولا

ص: 39

يمكن أن يتصور بحال أنه في ذلك العهد البعيد كانت توجد كتب بالمعنى الصحيح وإنما هي صحائف متفرقة، وتوفي عروة سنة 94هـ - 712 التي كانت تسمى (سنة الفقهاء) لكثرة من مات فيها من الفقهاء)

وبالجملة: فانه إذا كان دون شيء لضبط معاقد القرآن والحديث ومعانيها في عهد بني أمية، فان التدوين في الفقه بالمعنى المحدث لم يكن إلا في عهد العباسيين.

هذا هو الرأي الذي كان مقررا بين الباحثين لكن (جولد زيهر) يذكر في المقال الذي أشرنا آنفا ما يأتي: (وقد اكتشف (جرفيني) بين المخطوطات القيمة في المكتبة (الامبروزية) بميلانو الخاصة ببلاد العرب الجنوبية مختصرا في (الفقه) اسمه (مجموعة زيد بن علي) المتوفى سنة 122هـ - 740م وهو منسوب إلى مؤسس فرقة (الزيدية) من الشيعة، وعلى ذلك تكون هذه المجموعة أقدم مجموعة في الفقه الإسلامي، وعلى كل حال ينبغي أن يوضع هذا الكتاب موضع الاعتبار فيما يتعلق بتاريخ التأليف في الفقه الإسلامي. وإذا صح: أنه وصل إلينا من بطانة (زيد بن علي) وجب أن نعترف بأن أقدم ما وصل إلينا من المصنفات الفقهية هو من مؤلفات الشيعة الزيدية

على أن البحث الذي أثير لتعيين مركز هذا الكتاب بين المؤلفات الفقهية لم يكمل

ومن أسف ان هذا البحث لم يثره مسلمون ولا أثير في بلاد أسلامية

وقد ذكر صاحب (الفهرست) عند الكلام على (الزيدية) ما نصه: الزيدية الذين قالوا بإمامة زيد بن علي عليه السلام، ثم قالوا بعده بالإمامة في ولد (فاطمة) كائنا من كان بعد أن يكون عنده شروط الإمامة، وأكثر المحدثين على هذا المذهب مثل:(سفيان ابن عيينة) و (سفيان الثوري). . . ص187

وعلاقة هذين الإمامين بنهضة الفقه عند أهل السنة تجعل للبحث الذي يشير إليه (جولدزيهر) شأنا خطيرا

وجاء عهد العباسيين منذ سنة 132هـ و749 - 750م وشجع الخلفاء الحركة العلمية وأمدوها بسلطانهم، فكان طبيعيا ان تنتعش العلوم الدينية في ظلهم، بل كانت حركة النهوض أسرع إلى العلوم الشرعية لأنها كانت في دور نمو طبيعي وتكامل

وهناك سبب آخر يذكره (جولدزيهر) في كتابه (عقيدة الإسلام وشرعه) هو: أن حكومة

ص: 40

الأمويين كانت متهمة بأنها دنيوية فحلت محلها دولة دينية سياستها سياسة ملية

كان العباسيون يجعلون حقهم في الإمامة قائما على: أنهم سلالة البيت النبوي، وكانوا يقولون: انهم سيشيدون على أطلال الحكومة الموسومة عند أهل التقى بالزندقة نظاما منطبقا على سنة النبي وأحكام الدين الإلهي

ويلاحظ أن المثل الأعلى للسياسة الفارسية، وهو الاتصال الوثيق بين الدين والحكومة، كان برنامج الحكم العباسي

(وقد اقتضى ضبط أمور الدولة على منهاج شرعي، جمع الأحكام الشرعية، وتدوينها)

ص: 41

‌مِن طرائف الشِعر

نشيد النيل

للأستاذ محمود الخفيف

طالما سرت وقد طاب النسيم

في بهاء الصبح أو صفو الأصيل

أجتني اللذات من روض النعيم

حيث يجري النيل في الوادي الظليل

وأرى الشاطئ رفَّاف الأديم

يسحر الأعينَ مرآه الوسيم

سندس طلق وماء سلسبيل

مسرح للعين والقلب معا

رائق الآصال وضاح البُكَر

قامت الأطيار فيه سُجَّعا

وزكت فيه أفانين الزَّهَر

وبسلط الروض يبدو ساطعا

يمرح الشاعر فيه راتعا

بين دوْح ونخيل ونَهَر

ينجلي النيل لديه رائقا

رائع الأقبال موفور الجلال

كجنين الصبح يبدو مشرقا

في معاني الحسن مفقود المثال

ساقه الله فراتا دافقا

طافح البشر نميرا مونقا

آية في الكون من آي الجمال

يا وريد القلب في الوادي الخصيب

أنت يا من وهب الوادي ثراه

سر تدفق أيها النهر الحبيب

يا عبابا يبهر الفكرَ مداه

يا جديدا وهو للدهر ضريب

يتجلى فيك لي معنى عجيب

فطن القلب إليه فوعاه

أنت كالمصريِّ في نزعته

زاخر بالخير فياض المعين

خالد تحكيه في فطرته

وداع تنساب في خفض ولين

ص: 42

حالم كابنك في رقته

ولقد تحكيه في غضبته

باعتكار ثم تصفو بعد حين

أنت في الوادي تراث الأزل

لم تنل منك تصاريف الزمن

وستبقى مستدام الأجَلِ

ليس يعروك فناء أو وَهَن

ذاكراً للناس عهد الأول

باعثا في مصر روح الأمل

حافزا للجد أشبال الوطن

إيه يا رمز المعالي والخلود

قد شهدت المجد والدهر غلام

وصحبت العز في كل العهود

في هجير الحرب أو ظل السلام

قِرَّ عينا أيها النهر الودود

قد صحونا بعد أن طال الهجود

وجمعنا بين رأي واعتزام

أيها النيل سلام عاطر

ما أضاء الصبح أو أمسى المساء

لك يا نيل وفاء ظاهر

وصفاء لم يكدره الجفاء

قد دعانا منك عزم صابر

لا روانا بعد فيض غامر

ان صدفنا اليوم عن هذا الدعاء

تحية الرسالة في مستهل عامها الثاني

للأديب فخري أبو السعود

حيَّ الرسالة في أولى مراحلها

وودِّع العام عنها خير توديعِ

أوْفَتْ على عامها الثاني فلا برحت

تسير للنُّجح سيراً غير مقطوع

تحية الشعر يهديها لأروعَ ذي

ماضٍ مكينٍ وفضل غير مدفوع

صافي النسيج إذا ما راح يحْكِمُه

ورصّع اللفظ فيه خير ترصيع

ص: 43

عف المقالة لم تهمم يراعته

يوما بهجوٍ ولم تعمد لتقريعِ

ضمتْ جهابذةَ الفصحى رسالتُه

في حُسنِ سمْطٍ نضيدِ النَّظم مجموع

ومهَّدتْ لحصيف النقد مخلصه

ونَوَّهَتْ برصين الشعر مطبوع

فجال فيها جِيادُ النثر واستَبَقَتْ

ورَّجع الشعر فيها أي ترجيع

وصال فيها أساطينٌ الو هِمَم

مِنْ كلْ ذي قلم للعلم مشروع

يُبَسطَّون بها للدرس منهجه

على طراز عزيز النَّدِ ممنوع

أئِمة الضادِ من عِشرينَ تَعْرِفهمْ

في منتدًى للحجى والفضل مرفوع

قد أترعها بنبع من قرائحهم

ومِن مَعين اللغى الأخرى بينبوع

ترضي صحافة مصر عن رسالتهم

وعن جهاد لها بالنجح مشفوع

قد احتوتْ في قليل من صحائفها

كل الفنون وجابت كل موضوع

وأشرقت كلْ شهر مرتين لنا

واليوم تشرق فينا كل أسبوع

حلم

للشاعر الدمشقي أنور العطار

ذَوبْتُ في رَوْعهِ الامْسَاء أتْرَاحى

وَصُغْتهَا نَغَمَات ذَاتِ أفْرَاح

أعيِذٌ أشعْارٍيَ الضَّحَّاك مَبْسِمُها

منْ كُلِّ مُسْتَرْسِلِ الأعْوَالِ نَوَّاح

مَا قيمةُ العَيش نمضيهِ مُرَوَّعةً

أحْلَامُنّا بخَيّالَات وأشْبَاحِ

يَسْمُو بِكَ الكَونُ إمَّا زدّتَهُ مَرحاً

وَالكَوْنُ ملكُ لعُوبِ الْحُلْم مِمْراحِ

إِغْفَاءةٌ تَعْدلُ الدُّنْيَا بمَا نِهلتْ

أفْيَاؤهِا مْن نَعِيِمٍ غَيْرِ مِنْجَاحِ

فَغطَّ فيِ حُلْمِكَ الفِضِّيِّ مُطَّرحاً

إِسَار عَيْش طَويل الهَمِّ مِلْحَاحِ

فقِي غيَابَتِهِ تغفى موَاجُعنا

كَأنَّمَا قَد مَحَا آثَارَهَا مَاحِ

يا غيْبُ! مهدِّ لِرُوحي فيكَ معتكَفا

رحبَ الاعاليلِ خصْباً جِدَّ مَنَّاحِ

مُجنَّح الحُلْم مبثوثَ الأطار رُؤىً

كالفجرِ ما بينَ تعتيمٍ وإِصباح

يُعِله النورُ أو تَعرى مَحِفته

كأنها زهرةٌ في كف سباح

تِغيم بالزَّبد الواهي غِلالتُها

فتنجلي عن جبينٍ مُشْرقٍ ضاح

ص: 44

وإِن تَضِع في مطافٍ جاهد عسِرٍ

تظفرْ بفيءٍ وأمواهٍ وأرواح

هذى سماؤك فانظمْ في روائِعها

شعرَ الخلودِ بتَبيانٍ وأفصاح

يعيرُك الشفق الرَّجراج قافيةً

من كل مؤتلق الألوانِ لماح

ففي الغيوم أناشيد وأخيلةٌ

صبَيغةٌ بسَناً كالفجرِ وضَّاح

يا زورقَ الشعرِ جُزْ يَمَّ الدنى فرِحا

لأنتَ في غُنيةٍ عن كل ملاَّح

رُبَّانكِ الحبٌ، لا تثنيه غاشيةٌ

عن السُرى في سماء ذاتِ ألواح

الخلود

للأستاذ خليل هنداوي

وساقية راعها قائل

(نجئ، ونذهب كالساقيه)

فقالت - واَلمها قوله

متى أدركت روحه شانيه؟

خرجْت من الأرض دفَّاقة

وودَّعتُ أرض الحمى باكيه

ما كان معنى خريري سوى

بكائي على نفسي الفانيه

هويتُ إلى البحر مضطرة

لي الله من قطرة هاويه!

فما غمرتني - سوى برهة -

من البحر أمواجه الطاغيه

فحُمَّلْت فوق متون السحاب

وعدت إلى وطني ثانيه

فِأدركتُ بخلود الوجود

فتسمعني إذن واعيه

وقد أدرك الروض هذا الحديث

فلم يبك أزهاره الذاويه

وقد فهمتهُ طيور المروج

فما أسلمت روحها شاكيه

وان تبك لا تبك إلا على

مظاهرَ قد بُدِّلت ثانيه

مظاهر تسمو بقدر الطموح

وتسفل في الأنفس الدانيه

فمن وردة رجعت شوكة

ومن شوكة. . . وردة ساميه

ومقياس ذلك في رغبة

تقود إلى المثل العاليه

رويداً! فأنت هنا خالد

تروح وترجع كالساقيه. .

دير الزور

ص: 45

احب السماء

أحبُّ السماَء إذا ازَّينتْ

بأنجهما وأطل القمرْ

وماجتْ بموكبها في الظلام

كبحرٍ تَلَامَحُ فيه الدُّرَرْ

أحِبُّ السماَء إذا أبرقتْ

بليلٍ وجَلْجَلَ فيها السحابْ

وغارت بها الانجم الزاهراتُ

كما غَيَّبَ الهامدينَ التراب

وعمَّ الدُّجَى واكفهرَّ الغمامُ

كوجهٍ تلبَّدَ فيه الأَسَى

وهَبَّتْ تعربد ريح الشتاءِ

وضَلَّ شريدُ القضاء الحمَى

أحبُّ السماء إذا ما الربيعُ

كساها من الورد أبهى وشاح

وأضحت مجالا لأنفاسه

ومهداً عليه الأصيلُ استراح

حمص

رفيق فاخوري

الوردة الذابلة

قالت وقد ألفْت على وجها

لفحة سقم لم تكد تنجلي

إن تذبل الوردة ظلّت لها

بقيةٌ من عطرها الأوّل

قلنا وطيّ النفس ماطْيها

لو شاءت الوردة لم تذبل

لو شاءت الوردة كنا لها

ندى إذا الأنداء لم تنزل

لو شاءت الوردة كنا لها

شوكا يقيها عبثَ الأنمل

لو شاءت الوردة كنا لها

أرضا مُوَّطاة على جدول

لو شاءت الوردة كنا لها

شمسا تريقُ الضوء في معزل

فظلّ للوردة ما أُعطيت

من ناضر الحسن وغالي الحلي

لكنها اختارت لها مغرسا

بمثلها في الورد لم يجمل

حيث الثرى سمُّ وحيث الندى

هم وحيث الضوء لم يُرسل

فكان حقا أن ترى حسنها

يذوي وأن لا تُعجب المجتلى

ص: 46

وإن تعّزتْ ببقايا الشذى

فهو عزاء الكحل للأحوال

محمود عماد

ص: 47

‌استدراك

كتب إلينا الأديب محمد حسنين احمد يلاحظ على عبارة وردت في مقالة (فلسطين) المنشور في العدد الماضي بقلم مستر كنيث وليمامس، يستفاد منها أن مستر لويد جورج كان رئيسا للوزارة البريطانية قبل الحرب، ويقول ان الحقيقة ليست كذلك، والواقع ان هذه العبارة وردت بنصها في مقال الكاتب الإنجليزي ونقلتها الرسالة مترجمة كما وردت. وهي سهو من الكاتب بلا ريب، لان لويد جورج كان قبيل الحرب وزيرا للمالية في وزارة مستر اسكويث، ثم كان في بداية الحرب وزيرا للذخائر في هذه الوزارة أيضا ولم يتول الرياسة إلا في ديسمبر سنة 1916. والمرجح ان كاتب المقال يقصد (أثناء الحرب) (لا قبل الحرب)

العلوم

في النبات، وحشة وأنيسة

للدكتور أحمد زكي

كلما كثر السكان وضاقت المناطق العامرة بالناس، نزحوا عن أوطانهم طلب الوسعة في الأرض وما يستتبعها من الوسعة في العيش، والاستعمار دأب الإنسان من قديم. إلا أن صفات العصر وأساليب الوقت في مرافق الحياة كانت تؤثر فيه فيتئد حينا ويسرع حينا. فلما كانت الدواب وسيلة التقلب في جَنَبات اليابسة، والشراُع حامل الإنسان على ظهر المائعة ودفاع الإنسان لما يلقى من وحش جائع وناب كاشر سيفاً ورمحا، وأدائه في تذليل الأرض مِعولا وفأسا، وسقايته لها رهينة بما يجد عفوا من نبع يتفجر أو نهر يزخر، أو مطر يهطل حينا ويمتنع حينا، وعلمه بزراعتها علما يسيرا علمته إياه التجربة المبتَدَهة والأخطاء المتكررة، كان استعماره للأرض بطيئا، وانتشار الجنس الإنساني على هذه الكرة محدودا. وكان يزيد في بطئ استعماره وقلة انتشاره ما في طبيعته من حب ارتباط بأرض ألفها ومهابط اعتادها، وذكرى لماضيه أوثقها بحاضره، وعادة يسرت حاضره فأمل اضطرادها في تيسير مستقبله، أما وقد تغيرت صفات العصر وتبدلت أساليب العيش، فأصبح البخار دابته على اليابسة والمائعة، والبنزين مطيته يشق به الأرض ويفلق الهواء،

ص: 48

واصبح دفاعه الحديدَ الصارخ والجمر الطائر، وأداته في تذليل الأرض المكنات الكثيرة تديرها الأكف القليلة، وسقايته لها ترتبط بإرادته أكثر من إرادة الماء، وترتهن بهندسته أكثر نم ارتهانها بالأمطار والانواء، وصار علمه بزراعتها علماً غزيراً علمته إياه التجربة المقصودة والأبحاث المنتظمة، فقد أسرع الاستعمار إسراعا لم يعهده التاريخ، حتى ليُنذر بأن لا تبقى رقعة من الأرض لا تطؤها قدم مستعمر. حتى الروابط التي كانت تربط الإنسان بأرضه الأولى، فتمنعه، أن ينزح النزحة الأولى، قد هانت بسهولة المواصلات وسرعتها لانه إذا هو استبدل جديداً بقديميستطيع الآن إلى حد كبير ان يجمع بين موطن عتيق وموطن مستحدث، ويمد خيوطه طويلة ميسورة إلى سلف وراءه وخلف أمامه، ويؤلف في سهولة بين ما استدبر من أمسه واستقبل من غده

جميلٌ أن يرى الإنسان الحضارة تعم الأرض، ومعجبٌ مُزهٍ أن تلفّ العمارة المعمورةَ لفَ الهواء لها، ولكنها خسارة كبرى كذلك أن تذهب هذه الحضارة والعمارة بكل حيوان يَستْأنس، وبكل نبات لا يخضع لترويض الإنسان. لقد ضاع من أمثال هذا الحيوان ما ضاع، أو قلّ حتى إذن بالضياع، وانقرض من النبات ما انقرض، أو إذن بالانقراض وارتفعت أصوات في العصور القريبة تنبه إلى ذلك وتطلب حماية المستوحش من الحيوان، والنبات على السواء، وانعقدت أخيرا بلندن جمعية غرضها حماية الأصقاع الأفريقية الوسطى من التعمير وحفظها من عبث المدينة، وصيانتها صيانة الأثر الحي الخالد، وهي صيانة بالسلب، وحفظبالترك، فلا تكلف دينارا ولا درهما. وفي الحق كيف تجوز علينا صيانة المعابد ورعاية الهياكل والاعتزاز بصحاف من خزف ودوارق من صلصال وهي جميعا من صنع الإنسان المتحضر، فلا تزيد أعمارها عن قليل من آلاف السنين، ثم لا نصون آثارا أذهب من هذه في القدم وأبعد في العراقة من الإنسان. تلك يستعاض عنها إذا افتقدت، ويقام على أنقاضها إذا تهدمت، أما هذه فما ذهب منها فلغير رجعة، وما فني فلغير إيجاد. تلك تعيدها الصناعة، وهذه لا يعيدها إلا الخلق، والخلق ليس من عمل الإنسان.

وفوق هذا فالحيوان المستوحش والنبات البريّ، ان رثت صلتهما بالإنسان في نظام الخليقة العام. وتباعدت منابتها عن منبتة في جدول الاجناس، فان بينهما صلات قريبة وبين ما

ص: 49

استأنس الإنسان منهما فكل حيوان مستأنس كان متوحشا يوما ما ونحن الذين أنّسنَاه، وكل نبات كان مستوحشا كذاك يوما ما ونحن الذين ألفناه، ولا يزال يوجد في الوحشي من الحيوان والنبات أشباه ونظائر لتلك التي تعيش بيننا في رخاوة ودعة، ولكن هذه النظائر كانت قليلة فزادت قلَّة، وهذه الأشباه كانت نادرة فزادت ندرة، فإذا نحن إذنا للعمارة أن تمتد بلا حدّ فقد قطعنا آخر الخيوط الواهنة التي تربط حاضر الأحياء بماضيهم، وطمسنا في رقعة الأحياء الخانات القليلة الباقية التي فاتها الطمس، وجئنا على آخر الأدلة الحية على أصل الإنسان والحيوان والأواصر التي بينهما

متى كان تأنيس النبات وأين كان؛ ومن أول من قام به - كلها أسئلة لا يستطيع إجابتها إلا بالحدس والظن وإعمال الخيال. والخيال إذا أصاب مرة أخطأ مرارا، ولكن مما لا شك فيه أن هذا كان والإنسان في حداثته الأولى، قبل التاريخ المعروف، وقبل العصور التي سّجل أحداثها الحجر. ففي مقابر المصريين فيما قبل عصر الأسر وفي العراق في منازل عريقة في القدم. وكذلك في الحفائر عن بقايا سكان مناطق البحيرات السويسرية والإيطالية كشفوا عن حبوب من القمح في درجة عاليه من التقدم النباتي ما كان يبلغها لولا تدريب سبق، طال حتى ضاع أصله في الأحقاب القديمة وامتد إلى الوراء حتى اختفى في حلوكة العصور الأولى. ان مكتشفات الإنسان كثيرة واختراعاته الخطيرة عديدة، وكلها كان لها نصيب في تقدم الانسان، وقد تختلف في المفاضلة بين هذا المخترع وذلك المبتدع، ولكن قليل من يماري في أن أكبر اكتشاف وأخطر ابتداع ساق قدم الإنسان إلى أول الدرجات من سلم الرقيّ الذي نراه اليوم، ذلك الاكتشاف الذي امحي أصله بإمحاء الحياة الأولى، وضاع سره مع سر الإنسان القديم، ذلك إمكان تأنيس النبات - تلك الحقيقة التي فطن إليها آباؤنا الأولون من أن بعض النباتات يمكن ترويضها وتمريضها وتَنْشِئتها وهدهدتها فتعطي ثمرات كثيرة وغلاّت وفيرة تكون غذاء مأمونا مضمونا يسكن الإنسان إليه في المكان الواحد العام بعد العام؛ لا يقلقه الترحل ولا تتلاقفه السهول والجبال. تلك الحقيقة التي خلقت أولى الصناعات وأكثرها تأصلا وعراقة، تلك الزراعة التي كانت وما زالت أس المدنيات جميعها،

إن النباتات القابلة للتأنيس قليلة، وقليل من هذه ما يعطي حبا أو ثمراً يصح أن يتخذ غذاء

ص: 50

أساسيا كافيا للإنسان، وهذه متفرقة على سطح البسيطة، وهي كالحيوان لها مواطن خاصة من سطح الأرض، فمنها الأفريقي والأسيوي والأمريكي، وفي هذه المواطن دون سواها نشأت المدنيات البائدة، حتى ليكاد الفكر والبحث يردّ كل مدنية قديمة إلى حب أساسي، وكل حضارة بائدة إلى ثمر أصلي. فالمدنيات الأمريكية قبل كولومبس تركزت في الأصقاع الاستوائية وامتاز كل منها بغلة كانت أساسا لمدنية، فغلة المكسيك الذرة، وغلة بوليفيا واكوادور وبيرو البطاطس، فحضارة المكسيك العتيقة التي كشفت عنها الحفائر الحديثة حضارة ذرويه، وحضارة أمريكا الجنوبية بطاطسية

وليس معنى هذا أن تلك البلاد لم تنتج من النباتات غير الذرة والبطاطس، فقد أنتجت أنواعا من الخضر والفواكه لكنها ثانوية في تغذية الإنسان. وفي الدنيا القديمة، أو التي لا نزال نسميها الدنيا القديمة على الاعتبار الخاطئ، ان أمريكا لم يكن لها حياة مسرفة كذلك في القديم قبل أن (اكتشفها) كولومبس، تركزت فيها المدنيات حول المناطق التي تنتج أغذية أساسية لحياة الإنسان. وهي القمح والشعير والقرطم والشيلم وتنبت فيما حول البحر الأبيض المتوسط وآسيا الصغرى والجانب الجنوبي الغربي لآسيا، والأرز في الهند والصين. ولا نزال اليوم نجد نوعا من الأرز البري ينبت (شيطانيا) في الهند وفي جنوب الصين؛ وهو لا شك جَدٌّ لأنواع الرز الحديثة. كذلك نجد في آسيا الصغرى وفي الجنوب الغربي لآسيا أنواعا من النبات تمتّ إلى القمح والشعير والقرطم بوشائج من الرحم على بعدها بيِّنة واضحة

ومن المدهش أن نباتات أمريكا فيما قبل (كولومبس) أي عام 1500 ميلادية تختلف كل الاختلاف عن نباتات الدنيا القديمة. فلم يكن بينهما نبات مشترك واحد. كان في أمريكا الذرة والبطاطس والبطاطا وأنواع من الفول والطماطم والفلفل والفول السوداني والأناناس والجوافة والكاكاو وغير هذه من أجناس أخرى غير مشهورة لدى الناس. ولم يكن في أمريكا في تلك العهود من حيوانات الدنيا القديمة غير الكلب. وكان في الدنيا القديمة من النباتات المستأنسة القمح والشيلم والشعير والقرطم والدخن، والأرز وكلها حبوب أساسية في تغذية الانسان، واللفت والبصل والسبانخ والخس والحمص والعدس والسمسم وغيرها

قال العمدة النباتي (ألفونس دي كندول) في كتابه الأثري (أصل النباتات المزروعة) عام

ص: 51

1882: (وفي تتبع تاريخ هذه النباتات لم أجد أثرا لصلة كانت بين سكان الدنيا القديمة وسكان الدنيا الجديدة فيما قبل العصر الكولومبسي) وقال العالم الأحدث فافيلوف (1931): (ان الزراعة في أمريكا قبل العهد الكولومبسي نشأت نشوءاً مستقلا عن الزراعة في الدنيا القديمة، فإذا نحن قلنا مع أغلب البحاث ان سكان أمريكا القديمة أتوا من آسيا وجب أن نقول أيضا أنهم أتوا فارغة أو طابهم من كل نبات أسيوي. ومعنى هذا إن النبات في الدنيا الجديدة استأنست عن أجناس وحشية نبتت في تلك الأصقاع ذاتها) ولكن لما فتح كولومبسي أمريكا للعالم القديم، وصح عند الناس أن بلداً كبيرا واسع الغنى خبيئ الثورة قد انكشف، ركبوا إليه أفواجا بأهلهم ومتاعهم وحملوا معهم ما عرفوا من الحيوان وما ألفوا من النبات وبذوره. وبذلك نقلوا المستأنس من الحيوان والنبات إلى ذلك البلد الجديد، ورجعوا إلى بلدهم القديم بنبات تلك القارة الجديدة الواسعة وبحيوانها. ودارت الأفلاك بالسنوات والأحقاب. والإنسان دائب في مزج أحياء المشرق بأحياء المغرب غير متعمد ذلك ولا قاصد إليه، حتى ضاعت المواطن الأولى لتلك النباتات وأمحت قوميتها، وتأقلمت فاستترت سيماء الأجنبية منها، واستعربت فاختفت مظنة العجمة فيها. أو استعجمت فذهبت العروبة عنها، فالمصري يزرع الذرة والبطاطس ويحسب أنها مصرية وهي أمريكية، والأمريكي يزرع الأرز والموز وجوز الهند ويحسب أنها أمريكية وهي أسيوية. وما جرى بين أمريكا والدنيا القديمة جرى لا شك بين تلك القارات فيما بينها وبين أصقاع القارة الواحدة

اختلطت نباتات الأرض فاستبهمت أصولها، وانتشرت حيواناتها في البلاد فأصبحت كل أرض بلدها، فهل يكون للإنسان، وهو جنس واحد من الحيوان. مثل هذا المآل؟

احمد زكي

ص: 52

‌البلجاء

للآنسة سهير القلماوي ليسانسييه في الآداب

ظلت العراق شوكة في حلق الدولة الأموية إلى أن جاءها منه ما قوض أركانها وهدم سلطانها. وظلت العراق موطنا لكل خارج على الدولة الأموية تأوي كل من يرى فسادا فيما آلت إليه الحال وكل من يحس سخطا على القائمين بالأمور. آوت العراق أهم فرقتين كانتا ساخطتين على خلفاء بني أمية وسياستهم وهم الشيعة والخوارج.

كان هم كل وال جديد على العراق أو أحد مصريه الكوفة والبصرة، أن يحارب هاتين الفرقتين حربا تختلف قوة وضعفا باختلاف شدة معارضتهما أيام ولايته وباختلاف طبيعته الشخصية وما تحتمل تلك الطبيعة من منظر سفك الدماء وإزهاق الأرواح

ما كاد العراق يتنفس في شيء يسير من الراحة بعد موت زياد حتى ابتلاه معاوية بمن هو إلى السر أسبق ولو في تهور، وإلى سفك الدماء أسرع ولو في ظلم وعدوان - ابتلاه بعبيد الله بن زياد

أما الشيعة فكانت تصطنع الاستكانة شيئا ما، وما زال عهدها بزياد قريبا وما زال مقتل حجر بن عدي وصحبه يتمثل لها فترتجف لهوله القلوب ويثور من اجله في النفوس شيء من السخط. ولكنه سخط مستسلم أو قل هو سخط يستعد ويدبر للثورة والانتقام

وأما الخوارج فما زالت دعوتهم قوية لا تعرف تسترا ولا رفقا كانت شعلة تحرق ما يقف في طريقها كانت نارا مقدسة من الإيمان الجارف القوي تلهبه القلوب وتلهبه الضحايا البريئة الطاهرة التي كانت تقدم في كثير من التنكيل والإسراف قربانا على مذبحه.

أصبحت البصرة منذ مقدم ابن زياد مرجلا يغلي بما فيه من خوف وقلق واضطراب، كل يتستر بعقيدته، يجتمع وصحبه ولكن في حذر كل الحذر. كل يبث دعوته ولكن في حيطة دونها كل حيطة. عرف أهل البصرة في وإليهم الجديد نوعا من البطش قلل في نظرهم شيئا من بطش زياد على قرب عهدهم به. هذا البطش الجديد لم يكن يقف عند حد، لم يكن يعرف شيئا من الأناة في تنفيذ اشد العقوبات وانكاها، لم يكن يعرف هوادة ولا تريثا وإنما كان قوة تكتسح أمامها كل شيء، لا تعرف إلا إنها قوة وإلا إنها يجب ان تندفع.

نال الخوارج من هذا البطش ومن هذا النكال النصيب الأوفر فقد قتل منهم عدد غير قليل

ص: 53

ولم يكن قتلا عاديا وإنما كان قتلا يقصد به الردع والإرهاب كأشد ما يمكن ان يكون الردع والإرهاب كان صلبا، كان تقطيعا للأيدي والأرجل في الساحات العامة، كان قتلا لا ككل القتل، كان القتل صبرا ولم تكن الضحايا فرادى وإنما كانت جماعات.

عرف الخوارج منذ أول ظهورهم بشجاعة نسائهم وجهادهن معهم. ويذكر الخوارج في تاريخهم عددا غير قليل ممن استشهدن وحاربن بل ممن قاتلن وتبارزن في سبيل نصرة المذهب الجديد. ولقد غاظ زياد أمر هؤلاء النسوة، ماذا يفعل بهن لقد نهى الرسول عن قتل نساء المشركين أثناء حروبه معهم فكيف بنساء المسلمين. ولكن أمر هؤلاء النسوة لم يكن يسيرا. لقد كن ينشرن الدعوة فتسير كالنار في الهشيم لابد لهن من عقاب رادع، لابد لهن من شيء فوق طاقتهن حتى يعدن إلى ما خلقن له حتى يدعن الجهاد لمن هم به أولى وعليه أقدر. وتذكر فعل الوالي قبله. لقد قتل زياد خارجية وعراها وعراها في الميدان العام فلم تظهر خارجية بعدها أمرها أيام زياد. لقد خفن العار وإن لم يخفن الموت. أتتحسبن انه لن يقدر على هذا، كلا فوالله لو ظفر بإحداهن ليجعلها عبرة لمن بعدها.

وبسط هذه القلاقل كان أبو بلال مرواس زعيم الخوارج إذ ذاك يجتمع بصحبه كل مساء يتدارسون مذهبهم ودينهم ويتدبرون حالهم وما يستطيعون أمام هذا السلطان العاتي. يفكرون في أمور الدولة وأعمال الوالي الجديد ويدبرون خططا جديدة لبث الدعوة وتيسير السلطان لمذهبهم.

كان بين هؤلاء الصحب امرأة تعرف بالبلجاء فإذا ما جلس أبو بلال جلست إلى جواره تستمع إلى حديثه في شغف وتلتقط الكلام من فم هذا الذي كادت تؤلهه الجماعة كأنما كلامه قطرات ماء وكأنما إذنها قد أعياها طول العطش. وكان أبو بلال سمح الطبع قوي الإيمان فاستراح لقرب تلك السامعة، وحفظ لها في قلبه مكانة عظيمة. لقد أعجبه منها إيمانها وتعلقها بالمذهب، تسأل عما أشكل عليها فيه فلا تمل سؤالا. ولم يكن هو ليدخر جهدا حتى يوفق في إجابتها إلى الجواب المقنع الشافي.

ظلت البلجاء هكذا زمنا إلى ان آمنت بالمذهب الجديد إيمانا لا يرتضى سكوتها وهدوءها. فبدأ الإيمان يملي عليها العمل والتضحية في سبيله شأن كل إيمان يتم نضوجه ويعم القلب نوره. قامت البلجاء بدورها تبث الدعوة بين أهل البصرة فيلبي دعوتها الكثير. ولكنها ما

ص: 54

زالت تختلف إلى مجلس أبي بلال بعض الليالي تأنس بالشيخ وبصحبه فينمو إيمانها في هذا الجو المشبع إيمانا ويقوى جلدها على احتمال أتعاب النهار وأخطاره

جلس أبو بلال ذات ليلة وانضم حوله الصحاب متشوقين إلى سماعه، فما عرفوا لديه إلا الصواب، متلهفين إلى حجمه وآيات إيمانه، فقد كانت لقلوبهم وعقولهم خير غذاء في هذا الجو المكفهر المضطرب. ولكنه ما كاد يلتئم جمعه ويبدأ حديثه حتى قام إليه أحدهم وهو غيلان بن خرشة الضبي وقال:(يا أبا بلال أني سمعت الأمير البارحة عبيد الله بن زياد يذكر البلجاء واحسبها ستؤخذ.)

وجم المجلس وفكر الشيخ طويلا. فالبلجاء كانت من خير أعوانه، وكان الذين دخلوا على يديها في المذهب الجديد غير قليلين، فلابد إذن أن ابن زياد عرف هذا ولابد أنه بعد أن عرف قدر وفكر، ولابد انه من بعد أن قدر قرر، ويا عظم ما قرر! وتنازعت نفسه عوامل عدة ولكن أقواها كان الخوف على البلجاء، خوف العار لا خوف القتل.

ولم يستمع القوم لأبي بلال هذا المساء فقد كان فكره مشغولا وعقله مضطربا. ينتظر البلجاء فلا تأتي، ويطول الانتظار. وما كاد المجلس يخلو حتى عدا إليها مسرعا. وفي الطريق قدر رغم إسراعه وفكر. ماذا يقول لها؟ ثم يصحها؟ لقد كان يذكي إيمانها كل يوم فيسره هذا الإذكاء، أيطفئ اليوم هذا النور بيده أو يداريه فيحجب شعائه، ولكن بطش زياد عظيم وانه لجبار عنيد.

وصل إلى بيت البلجاء فوجدها قد آوت إلى فراشها من تعب النهار ولكنها ما كادت تسمع صوت أبي بلال في الفناء حتى قامت إليه مسرعة وقلبها يكاد يحطم صدرها من اضطرابه ما سر هذه الزيارة المتأخرة؟ وماذا عند أبي بلال وقد آوى الناس إلى فراشهم إلا القليل؟ ولكن أبا بلال لم يطل عليها الاضطراب فقد قر رأيه ولم يعد لديه إلا قولا واحد يقوله لها

- إن الله قد وسع على المؤمنين بالتقية فاستتري فان هذا المسرف على نفسه، الجبار العنيد قد ذكرك.

وكان موقف البلجاء جليا واضحا فلم يكن ذكر ابن زياد لها أمرا مستبعدا ولم يكن خوف أبي بلال عليها شيئا غير منتظر ولكن ألام يدعوها أإلى اليقين وهل عرف التقية ذوو الإيمان القوي؟ ورنت في إذنها الآية (إلا من اكره وقلبه مطمئن بالإيمان) أي رحمة، أي

ص: 55

شفقة، أي تقدير للإنسان أي فهم لضعفه ولنواري ولكن الإيمان النار القوية الملتهبة ما هذه الحشرات التي تدنو منها الخوف؟ أخوف الموت؟ أعار التعرية؟ والنار القوية تحرق كل حشرة تدنو منها فتزداد بهذا الاحتراق قوة ولهبا وهؤلاء الذين دعتهم فلبوا أيشهدون خبو هذه النار التي مسهم شررها فآنسوا إليه؟ كلا كلا وايم الله!

- أن يأخذني فهو أشقى أما أنا فما احب أن يعنت إنسان بسبي.

السوق هائجة مائجة والناس تروح فيها وتغدو وعلى وجوههم غبرة قاتمة حاسرة. كل وجه عليه مزيج من علائم الحزن والاضطراب والاشمئزاز والسخط ماذا في السوق ما الذي يثير كل هذه العوامل في نفوس الناس فتغير من ملامحهم تغييراً أليما منكرا:

جاء أبو بلال إلى السوق والفى القوم على تلك الحال ولكن لم يتساءل فقد وجد أبصارهم عالقة بشيء منصوب عن بعد فما لبث أن رفع هو بصره إليه، مإذا؟ أجسد امرأة قطعت يداها ورجلاها؟ ومن تكون تلك التي أثارت حفيظة الأمير فنكل بها هذا التنكيل البشع؟ الجواب يضطرب في صدره ولكنه لا يقوى على تصديقه والمرء إزاء المصائب اعزل لا سلاح له إلا محاولة إنكار الواقع أيكون حلما؟ أأكون مخدوعا؟ والمصائب ثابتة في عالم الحقيقة تهزأ بهذا الإنكار.

دنا أبو بلال من أحدهم وفي نفسه أمل ضعيف خائر وهمس في إذنه من تكون؟

- البلجاء

واقترب أبو بلال من الجسد المنصوب وعيناه عالقة به ونفسه كليمة حسرى. ما اعجب الحياة وما أمر هزء الحقيقة إذا ما انتصرت على كل إشفاق من حقيقتها.

وأملت البلجاء على أبي بلال درسا عوض كل ما ألقاه عليها من دروس. ما هو؟ ما قيمته؟ وما قيمة تعظيم الجماعة إياه امام هذه في عليائها؟ ما أعظمها! ما اجلها! وما أحلى رضائها عن نفسها! وعض الشيخ على لحيته وقال لنفسه:

لهذه أطيب نفسا عن بقية الدنيا منك يا مرداس.

سهير القلماوي

ص: 56

‌العَالم المسرحيّ والسّينمائِي

أزمة المسرح في مصر

لناقد (الرسالة) الفني

أصيب المسرح المصري في السنوات الأخيرة بضربات شديدة قضت عليه أو كادت. وانه ليحتضر الآن. ولا مفر من أن نشيعه عاجلا أو آجلا إلى مثواه الأخير لنعيد خلقه من جديد إذا وسعتنا الحيلة، وتوفرت الوسيلة، وتهيأت الأسباب التي تؤدي بنا إلى هذه الغاية.

وانظر كيف أصبح اليوم، وماذا كان بالأمس، وها نحن أولاء في أواخر ديسمبر والموسم المسرحي لم يبدأ إلا منذ أيام، ويالها من بداية فاترة لا تبشر بخير ولا تسفر عن عظيم. ولا نرى من الفرق القديمة إلا فرقة رمسيس، ثم إن هناك فرقة دار التمثيل العربي التي ألفت هذا الموسم وما نظن أن العمر سيمتد بها كثيرا لفقرها المادي والمعنوي وان كنا نرجو مخلصين للأستاذ عزيز عيد كل توفيق ونجاح، فقد خدم المسرح في السنوات الأخيرة خدمات كثيرة لا شك في قيمتها ونفعها، ولقد كان وما يزال من أهم العوامل البارزة في المسرح.

وهذا الفشل الذريع الذي أصيب به المسرح يرجع إلى عوامل عدة، يتصل بعضها برجال المسرح أنفسهم، وبعضها بالحكومة والبعض الآخر بظروف لم يكن في الوسع التغلب عليها إلا بتضافر القوى والجهود وهو ما لم يحدث مع الأسف.

وأعتقد مخلصا ان رجال المسرح هم الذين يحملون العبء الأكبر من المسئولية في هذا الانحطاط الذي وصلت إليه حالة المسرح اليوم. وأذ أقول رجال المسرح إنما اعني في المقدمة مديري الفرق لأنهم الرءوس المفكرة والأيدي العاملة، ثم هم الممولون الذين يتحكمون في كل شيء بحكم سيطرتهم المإليه فعليهم تقع التبعة الكبرى، ولا مناص لهم من مواجهة الحقائق والاعتراف بخطئهم.

قام نزاع شديد بين النقاد وبين مديري الفرق حول تقدير ذوق الجمهور الفني وتذوقه لبعض الأنواع من الروايات وإقباله عليها. فمديرو الفرق يقولون أن الميلودراما هو النوع المفضل عند الجمهور وان الروايات الفنية التي يطلب النقاد تمثيلها، لا يتذوقها المتفرجون ولا يقبلون على مشاهدتها الإقبال الذي يضمن لمدير الفرقة نفقاته التي تكبدها فضلا عن الربح

ص: 57

الذي ينتظره كغيره من أصحاب رءوس الأموال. وطال النزاع بين الفرقين وكل يصر على رأيه، على أن مديري الفرق اندفعوا يخرجون على مسارحهم الروايات الميلودرام المليئة بالمشاهد المفزعة، المثيرة للأعصاب، وحذرهم النقاد من مغبة الأمر ولكنهم مضوا في طريقهم غير آبهين لشيء.

والآن. . . ها هو الزمن يقول كلمته الحاسمة في الحكم على الفريقين أيهما كان أهدى سبيلا وأبعد نظرا، وهذا الفشل الذي مني به المسرح أخيرا دليل صادق وحجة قاطعة على إن مديري الفرق كانوا على ضلال، وان النقاد كانوا على حق في تحذيرهم. فلو أن الجمهور كان يتذوق حقا الميلودراما لكان مديرو الفرق اليوم من أثرياء العالم المعدودين، فقد ظلوا لا يخرجون إلا هذا النوع من الروايات، ولكان حال المسرح اليوم غير هذه الحال، ولكن هذا الفشل الذي أصيب به المسرح، وصيحات الاستغاثة التي يصم بها مديرو الفرق آذاننا، دليل قاطع على انهم لم يجدوا في الميلودراما كنز قارون الذي كانوا يتوهمون.

على أن جريرة مديري الفرق لم تقف عند هذا الحد فقد أبعدوا عن المسرح خير الكتاب والأدباء الذين خدموا هذا الفن الجليل منذ نشأته بأقلامهم وروايتهم فرفعوا من شأنه، ووجهوا أنظار الشعب إليه، وجعلوا له مكانة محترمة ومنزلة سامية في النفوس، وانفض هؤلاء الكتاب عن المسرح وما يزال مكانهم شاغرا إلى اليوم، وخسر المسرح بابتعادهم خسارة لا تعوض.

ومن الحق ان نذكر ان الحكومة ينالها من المسئولية فيما يصل إليه حال المسرح الشيء الكثير، فسياستها حياله كانت دائما سياسة ملؤها التردد والحيرة، وطابعها البارز الاضطراب والفوضى. فقد بدأت بأن أقامت مباراة للمثلين، ثم أوفدت أحد المبرزين فيها في بعثة فنية إلى أوربا؛ وكان المظنون أنها ستتبع هذه الخطة الحميدة في السنين التإليه، ولكنها عدلت عنها حتى اليوم وبقى الأستاذ زكي طليمات عضو البعثة الوحيد. على ان الوزارة عدلت عن طريقة المباراة السنوية وألفت لجنة تمر على دور التمثيل طوال السنة وفي نهايتها توزع مبالغ متفاوتة من المال على مديري الفرق وعلى الممثلين في حدود المبلغ المخصص لذلك.

ص: 58

وقامت الوزارة بإنشاء معهد لفن التمثيل، ثم ما لبثت أن الغته واستعاضت عنه بما سمته قاعة المحاضرات، ووضعت في السنة الماضية شروطا دقيقة لتوزيع إعانتها السنوية على مديري الفرق ولكنها لم تتقيد هي نفسها بالشروط التي وضعتها.

ولا ننسى قبل كل شيء أن ننوه بالمبلغ الضئيل المخصص لاعانة المسرح المصري إذ لا يتجاوز عشر المبالغ التي تصرف على دار الأوبرا وتقدم للفرق الأجنبية التي تفد للتمثيل على مسرحها في موسم الشتاء.

من هذا، ودون أن ندخلفي تفصيلات دقيقة أخرى، نرى مبلغ التردد وعدم الاكتراث في سياسة الوزارة حيال فن التمثيل حتى هذه المبالغ الضئيلة التي تقدمها للممثلين كل سنة على سبيل (الإعانة) لم يكن لها أثر، لضآلتها أولا، ولان الوزارة لم تشرف على نفاقها ثانيا، ومن يدرينا لعلها صرفت في أغراض شخصية لا تتصل بالفن في كثير ولا قليل؟

ومن العبث على ما أرى أن نطيل الحديث مع الوزارة فأنها إلى اليوم لم تنظر إلى المسرح وإلى فن التمثيل نظرة جدية، وأغلب الظن أنها إذ تقدم هذه المبالغ الزهيدة لرجال المسرح في نهاية العام تقول:(إنما نطعمكم لوجه الله، لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) وما دام هذا هو يقين الوزارة فكل حديث معها عبث محض وضياع للوقت فيما لا طائل تحته.

بقيت بعد ذلك بعض الظروف الطارئة التي كانت عاملا من العوامل التي ساعدت على اشتداد أزمة المسرح، منها هذه الأزمة التي اكتسحت مصر في السنوات الثلاث الأخيرة وشدت عليها الخناق، ومنها طغيان السينما الناطقة ونجاحها هذا النجاح الباهر الذي نراه ونلمسه كل يوم، ثم رخص الأجور في دور السينما عنها في المسارح مع فخامة ما نراه هناك على الشاشة الفضية، وضآلة ما نشاهده هنا.

ولعل من اشد العوامل التي كان لها اكبر أثر في المستوى الذي هبط إليه المسرح إخراج الأفلام المصرية وما لاقته من النجاح والإقبال مما ساعد أصحابها على موالاة الجهود وزيادة الإتقان في العمل ولفت أنظار الآخرين إليها، حتى رأينا بعض مديري الفرق أنفسهم ينصرفون إلى هذه الناحية الجديدة ويخصصون لها من المال والجهد أضعاف ما ينفقون في مسارحهم.

والجهد الذي يجب أن يبذل للنهوض بالمسرح لابد من أن يتناول كل هذه النواحي التي

ص: 59

الممنا بها في مقالنا وكل هذه العوامل المختلفة إذا أردنا أن يكون لعملنا أثره ونفعه المنتظر، فمن الخير أن يعود مديرو الفرق إلى رواياتهم الأولى التي كانوا يغذوننا بها من سنوات، والتي عدلوا عنها لغير علة إلى توع الميلودرام الذي يقوم على محض الافتعال وارتجال المواقف الكاذبة ارتجالا قد يكون له أثره الوقتي، ولكن سرعان ما ينقضي دون أن يخلف في نفس المتفرج شيئا له قيمته أو خطره،

ومن الخير أن نجتذب كبار الكتاب والأدباء ليعودوا إلى خدمة المسرح والكتابة له كما كانوا يفعلون

ومن الخير أن تجد الوزارة في موقفها حيال المسرح وترصد لأعانته ألوف الجنيهات سنويا على أن تشرف عليه إشرافا فعليا وتتحرى أوجه الصرف بحيث لا تتعدى النواحي الفنية التي يكون لها أثرها في تقدم المسرح والنهوض به

على أن المسرح يتطلب دما جديداً يغذيه وينشر فيه روحا فنية خالصة، أساسها الثقافة والموهبة والدراسة الحقة، وقد كان معهد فن التمثيل هو النبع الذي سنستقي منه هذا الجديد، فإذا أصرت وزارة المعارف على غلق أبوابه فلنفكر إذن في إيفاد بعثات فنية إلى أوربا من الشبان الذين تؤهلهم لذلك ومواهبهم الشخصية وميولهم، على أنه يجب قبل هذا أن تعد سياسة إنشائية إيجابية لخدمة المسرح يقوم بتنفيذها أعضاء بعثتها عندما يرجعون، أما أن يعودوا ليأكلوا أنفسهم من اليأس وخيبة الأمل وتجاهل الوزارة لثقافتهم واستعدادهم، وعدم إفساح المجال أمامهم للعمل، فهذا يكون عبثا وسخفا وخير للوزارة أو تكتفي بعضو بعثتها الذي لم تحاول أن تستفيد من كفاءته واستعداده، ولا خير لها ولا للمسرح في أن تزيد صفوف الساخطين المتذمرين

الحركة المسرحية والسينمائية في الخارج

لندن

يعد الآن في لندن فلم سينمائي عن (مارشال هول) من أشهر رجال المحاماة والقانون في إنجلترا، وهو الذي تولى الدفاع عن قاتلة المرحوم علي فهمي كامل وفاز لها بحكم البراءة، وسيتولى خراج هذا الفلم المخرج العالمي هتشكوك

ص: 60

يعد الآن تحت إشراف مصلحة البريد في إنجلترا فلمان الأول ترى فيه كل الخطوات التي يمر بها خطابك من ساعة ان تكتبه حتى يصل إلى يد مرسله وسيكون هذا الفلم شاملا لكل التحسينات التي أُدخلت من عهد حمل البريد بواسطة العربات التي تجرها الجياد إلى العهد الحاضر، ويعرض مختلف الطرق التي كانت تستخدم لهذا الغرض بكل تفصيلاتها. أما الفلم الثاني فسيكون خاصا بإظهار شبكة الأسلاك التلفونية التي تربط بريطانيا ويبلغ طولها 9 ، 000 ، 000 ميل وترى فيه كل العمليات والخطوات التي تتخذ أثناء المحادثات التلفونية وقد أعلن مدير مصلحة البريد في إنجلترا انه يسترشد في إعداد هذين الفلمين بآراء لجنة من رجال الفن السينمائي الأخصائيين

والآن. . . هل لنا أن نقترح على مصلحة البريد المصرية إعداد فلم يجمع بين هذين الغرضين بمناسبة انعقاد مؤتمر البريد الدولي في القاهرة وتعرض فيه الطرق التي كانت تستخدم في نقل البريد في مصر في عهودها المختلفة؟!

مستر دنيس جوزيف كلارك من اشهر رجال المسرح في إنجلترا وله صيت ذائع في أوربا كلها، وهو يدير عدة مسارح في (بركنهد) كما يتولى بنفسه إخراج بعض الروايات المسرحية ثم هو فوق ذلك عضو المجلس البلدي في بركنهد منذ أربع وعشرين سنة، وقد عرض عليه حزب العمال الإنجليزي ان يتولى منصب محافظ بركنهد بمناسبة انتهاء مدة المحافظ السابق. ومن عادة الأحزاب الإنجليزية أن يتولى أحدها كل عام مهمة اختيار المحافظ الجديد على التناوب، وكان من حق حزب العمال هذا العام اختيار المحافظ، على إن أعضاء هذا الحزب تنازلوا عن هذا الحق، الذي يسمح لهم بطبيعة الحال أن ينصبوا رجلا من أنصارهم إذا وافق مستر كلارك على إسناد المنصب إليه مع انه من حزب المحافظين. ولا شك أن تنازل حزب العمال عن حقه وتنصيب رجل في هذا المركز الكبير من غير رجال حزبه شرف عظيم لمستر كلارك وشهادة لها خطرها بما له من المكانة والاحترام، وقد كان هذا الحادث مثار اهتمام الصحف الإنجليزية، كما أثار عاطفة الفخر والكبرياء في الأوساط المسرحية في إنجلترا وعده رجال المسرح الإنجليزي من دواعي مجدهم الفني وسيقيمون حفلة كبيرة لتكريم الرجل

باريس

ص: 61

انتهى موريس روستان نجل أدمون روستان الشاعر الفرنسي المعروف من وضع رواية مسرحية عن (أسكار وايلد) الكاتب الإنجليزي الشهير. وليس بين شخصيات الرواية سيدات وسيقوم الممثل الفرنسي كونيه بوييه بتمثيل دور البطل

بودابست

(مجموعة اللآلئ) أسم لاستعراض مسرحي حديث أخرج أخيراً في بودابست اشترك فيه أكثر من ثلاثمائة قروي بملابسهم الوطنية الزاهية الألوان وبرقصاتهم الريفية الجميلة مما جعل الإقبال على هذا الاستعراض منقطع النظير. وبرغم ضخامة عدد الممثلين والممثلات وتكاليف الاستعراض من مناظر وملابس وغيرها، فسيجني مدير المسرح ربحا طائلا لأن هؤلاء الريفيين الهواة لا ينظرون إلى الناحية المادية ولا يأبهون لمسألة المرتبات التي يتقاضونها إلى جانب الفخر الذي نالوه بظهورهم على المسرح ولجدة الحادث بالنسبة لهم. ولعلها المرة الأولى التي تحاول فيها مثل هذه التجربة فتلقى هذا النجاح الكبير. ولا شك أن رواد المسرح سعداء بهذه الفرصةالتي أتيحت لهم مشاهدة رقصات حقيقية. يرقصها أصحابها لا ممثلين يدربون عليها، فلا يجيدونها مهما بذلوا من مقدرة كما يجيدها أصحابها أنفسهم. وأثناء الرقص يلقي هؤلاء القرويون أناشيد القرية وأغانيهم الساحرة ليكون لها أشد وقع في النفوس

ص: 62

‌القصص

قصة شاءول بن شمويل اللاوي

للأستاذ محمد فريد أبو حديد وكيل مدرسة القبة الثانوية

قد كان لي ولع بالتجوال في البراري، ففيها كان الهواء مما يلذ امتلاء الصدر منه، وفي سمائها صفاء يروق الأبصار لا تدانيه زرقة البحر إلا في أيام الخريف الوادعة، ورمال الصحراء أخاذة باللب في لآلائها واختلاف لون حصاها، فإذا ما جرت عليها قطرات من الغيث في الشتاء غسلت عنها ما يغشاها من التراب، فإذا هي تزري باليواقيت وللآلئ، وإذا أسعد الإنسان الحظ فجاس خلال تلك الرمال في عقب سيل لا تزال منه بقية تجري في جدول رأى منها المعجب والفاتن حتى ليتمثل العذراء الحإليه وقد راعها ذلك الحصى فلمست جانب عقدها النضيد. وقد جمع حب ذلك التجوال بين قلوب مختلفة الأصول متباينة الطباع، يرضعون جمعيهم معا من ثدي تلك الطبيعة الجميلة حتى لقد نما في قلوبهم إخاء هو أقوى من الإخاء المعتاد إذ قد عرف كل منهم أخاه وكشف عن مخبوئه في تلك المعاشرة الطويلة، واعتاد كل منهم أن يكون مستعدا لان يبذل كل شيء حتى حياته ذاتها في سبيل الإخلاص لصديقه. لا عجب أن تكون الصحراء مهد جلائل الأمور!

وقد قصدت يوما مع صديق من الانجليز، وهو ممن يهيمون بالصحراء هياما، وقصدنا معا إلى برية سيناء نقطع الفيافي بمركبة القرن العشرين ونطوي أميالها مرحلة بعد مرحلة، فكانت صحبة عجيبة من كل الوجوه.

قلت له في فترة من فترات ما بين التفكير المتصل: كأني بك من أبناء الصحراء يا مستر لي. فأن حبك للصحراء وصبرك على مشتقاتها ينمان عن بدوي في اصله)

فقال لي باسما (إن البدوي وجواب البحار أخوان، فإذا لم يكن في دم البدوي فان في بغير شك دما من جوابي البحار)

قال لي ذلك وهو يحدق بنظرة في ناحية من الصحراء إلى يسارنا ونحن نطوي مراحلها، ثم قال لي:

انظر إلى هذا الموضع. كأني به فناء بيت من بيوت الجان، إنني اشعر بانجذاب عجيب نحوه. ألا ترى أن نقف هنا قليلا؟ أن التمتع بالصحراء لا يكون إلا إذا سرنا فيها كما كان

ص: 63

يسير البدو على الإبل أو الحمير أو ما سوى ذلك من وسائل السير الوئيد. أما هذه السيارات السريعة فليست هنا إلا دخيلة غريبة. إنها تدخل السرعة والعجلة والقلق إلى ارض خلقها الله لتكون وادعة متئدة مطمئنة

قال هذا وعرج إلى الموضع الذي أشار إليه وأوقف دولاب السيارة والقينا عصا السير وجلسنا إلى جانب صخرة قائمة كأنها المائدة، واعددنا عدة الطعام إذ كان وقته قد أظلنا، وكان سمرنا على ذلك الطعام حديثا أوحاه إلينا الموضع. وأي حديث لمن يسير في برية سينا أقرب من حديث قوم موسى؟ لقد كان المكان يوحى به وحيا فاستغرق خيالنا حتى كأننا كنا نعيش في ذلك الوقت ونحس بما كان ينبض به قلب أهله

كان ذلك الموضع متسعا من الأرض تحيط به تلال من كل نواحيه إلا من جهة الغرب المائل إلى الشمال، وكان متدرجا في العلو من خارجه إلى داخله، ولا يكاد تمر عليه ساعة من النهار وليس في ناحية منه ظل ممتد. وكانت الرياح كلها محجوبة عنه إلا الرخاء التي تتهادى إليه من الشمال الغربي. فجلسنا به جلسة هنيئة زادت حديثنا اطمئنانا واستغراقا.

وخاطبت صاحبي في شيء من الدعابة قائلا (كم شهدت هذه البقعة من مناظر جليلة! أترى قد شهد موضعنا هذا بعض مواقف بني إسرائيل يحرجون صدر موسى بذكريات عدس مصر وفولها؟ فأجاب صاحبي (لقد كنت أفكر في هذه اللحظة في أن مكاننا هذا لابد قد وطئته أقدام من خرجوا من مصر مع موسى) وكنا قد فرغنا عند ذلك من أكلنا فقمنا نمشي رويدا ونتحدث. وحدث أن ضربت بقدمي حجرا من الأحجار على عادة كانت بي منذ صغري كنت اعتدتها في عبث الصبا، وما كان اشد عجبي إذ رأيت أن ذلك لم يكن حجرا بل كان قطعة من عظام جمجمة آدمية.

إذن لقد شهد ذلك الموضع حادثة إنسانية! وإذن فان لذلك الموضع قصته! فوقفت حيث كنت وملت إلى الموضع لأفحص موضع تلك العظمة فإذا بي أبصر عظمة أخرى قد طمرها الرمل. فتناولت حجرا وجعلت أحفر ما حولها لاستخرجها فرأيتها تتصل بهيكل إنساني. فاعتراني انقباض شديد، واسترجعت ثم ألقيت الرمال التي كنت استخرجتها لكي أعيد لتلك العظام مدفنها، وفيما أنا في ذلك إذ بدا لي سطح من الخشب الصقيل. فتركت ما كنت فيه وأقبلت على ذلك الخشب أفحص أمره، وإذا به غطاء صندوق صغير طوله نحو نصف

ص: 64

متر في عرض اقل من ذلك بقليل وعمق أقل من عرضه، وكان صديقي عند ذلك قد بدأ يقبل على مساعدتي إذ رآني قد عثرت على شيء يستحق الاهتمام، فاستخرجنا الصندوق من مكانه ونفضنا عنه الرمال، ونزعنا عنه غطاءه فإذا فيه مجموعة من الجلود الرقيقة وقد دب إليها شيء من الفساد من اثر البلى. وكانت على تلك الجلود كتابة يميل لونها إلى السواد، وكانت بقلم غريب

انتهى بنا السير بعد ذلك إلى غايتنا، ثم عدنا وكان ذلك الصندوق قطب حديثنا في رجعتنا إلى القاهرة. ففرضنا فيه الفروض المختلفة وتناقشنا في قيمة ما فيه حتى بلغنا نهاية رحلتنا، فكان أول هم لنا أن نطرق باب صديق من علماء الآثار ليساعدنا على كشف ما وراء ذلك الطلسم.

نظر صديقنا العالم إلى صحيفة منها نظره الفاحص ثم قال: (إن هذا خط كاتب مصري. وهذا المداد مما كان يستعمله الكتاب في عصر الإمبراطورية الثانية في المحابر النحاسية التي كانوا يضعونها في مناطقهم. وهذا هو الحرف (الديموطيقي) الذي كانوا يكتبون به في الدواوين عند ذلك

قال هذا ونظر إلى أول سطر من الصفحة طويلا ثم علت وجهه ابتسامة الظفر وقال: (لم يكن كاتب هذه السطور مصريا بل هو (شاءول اللاوي) أحد بني إسرائيل الذين خرجوا مع موسى من مصرفي أيام (منفتاح) فرعون مصر، وقد كتبها بلغة قومه العبرانيين كاتب بارع

ولأخذ يترجم لنا الصحائف واحدة بعد واحدة فإذا هي آية العجب وفريدة الصدف وها هي:

(أنا شاءول بن شمويل بن شمعون اللاوي من عشيرة اللاويين قادة إسرائيل وساداتهم. كنت بمصر مع قومي وكنا في أرض جاشان مهد أبي وجدي، والأرض التي دفنت فيها عظامهما. كنت في أول الأمر صاحب خاتم الأمير (راحا ترع) ثم حدثت الحوادث المشئومة المعروفة فطردت كما طرد كل قومي من خدمة المصريين، ووضعت على رقابنا العبودية. وكنت أنا ممن حشروا لعمل اللبن من الطين لبناء مدينة (بيثوم) تسوقنا سياط المقدمين ورؤساء العمل ذوي الأيدي الصلبة والقلوب التي مثل خشب السنط.

وكانت مشقة العمل تزيد من يوم إلى يوم، وكلما مر شتاء علينا جاء شتاء آخر أشد منه برداً، فامتلأت نفوس الشعب الإسرائيلي من الغيظ والحقد. وبدءوا يسأمون حياتهم،

ص: 65

ويتخلصون منها بضرب المقدمين ورؤساء العمل المصريين. وكان الذي يضرب منهم أحد هؤلاء يموت تحت السياط، وهذه ميتة أهون من الحياة الشاقة التي كان أبناء إسرائيل يحيونها.

وقد جاء رجل من أولاد عمي بني لاوي اسمه (موسى) كان هاربا من مصر من زمن. وقد عرفته كما عرفه كثيرون من أبناء أعمامي. وكان رجلا رحيما يبكي كلما رأى أحد بني إسرائيل يضرب ويصيح وتجري الدماء من جسمه، فكان في أول الأمر يزورنا في الليل ليواسينا، ولا يظهر في النهار مخافة أن يراه أحد فيعرفه، فاحبه الشعب المسكين وصار كل فرد منه يرضى أن يقتل في سبيل حمايته. وأقام سنين وهو على تلك الحال، وجعل يفهم الشعب أن وراء البرية أرضاً فسيحة يقدر أن يعيش فيها حراً ويجد فيها ماء وطعاماً. ولكن الشعب كان يخاف من البرية ولا يرضى أن يخرج من أرض مصر التي فيها عظام آبائه.

ولكن فرعون مصر عرف من جواسيسه أن هناك رجلا عبرانيا يحرض العبرانيين على العصيان والخروج. وقال له خدمه وعبيده إنه السبب في تجمع الإسرائيليين وتجمهرهم ومطالبتهم بعبادة إلههم على طريقتهم الخاصة. وقالوا له ان العبرانيين يتظاهرون بأنهم يريدون أن يسمح لهم بالخروج إلى البرية لتقديم الضحايا لألههم بعيداً عن أرض مصر، والحقيقة أنهم يريدون الذهاب إلى أرض الفلسطينيين والحيثيين لمساعدتهم على غزو مصر

فقال لهم فرعون: (وماذا ترون؟) فقال له عبيده (نرى أن تشغلهم وتضيق عليهم الخناق، فمر بمنع التبن عنهم حتى يضطروا لجمع الأعشاب الجافة ليصنعوا بها اللبن وطالبهم بأن يقدموا كل يوم ما اعتادوا ان يقدموه من قبل من اللبن اللازم للبناء)

فأمر فرعون بذلك ومنع خدمه من صرف التبن للشعب المسكين، وطالبهم بأن يقدموا له كل يوم نفس المقدار الذي كانوا يصنعونه من قبل من اللبن، مع قيامهم بجمع الأعشاب الجافة لاستعمالها بدل التبن الذي منع عنهم. فكان هذا الأمر غير ممكن. فعصا الشعب وامتنع وتجمهر وصاح بفرعون وخدم فرعون. وكان ابن عمي موسى يحرضا على العصيان ويأمرنا بالخروج معه إلى البرية، ولكنا كنا نخاف من ذلك فالموت مخيف وإن كانت العبودية صعبة.

وكثر التعذيب والضرب والقتل فينا حتى أننا ضجرنا وفزعنا، وسمعنا كلمة موسى وقمنا

ص: 66

لنخرج إلى البرية جميعا نساؤنا وأطفالنا على الحمير، وقد لبس النساء الحلي التي استعرنها من جاراتهن المصريات. وفي الليلة الموعودة خرجنا نغطي وجه الأرض نحو البرية.

وكان الخوف يملأ قلوبنا من جنود فرعون أن تلحق بنا، فعبرنا إلى الصحراء من أقرب طريق، وخضنا في البحر بإذن الله وبركة ذلك الرجل المبارك (موسى). وتنفسنا الصعداء عند العيون التي حولها النخيل، عندما رأينا جيش فرعون قد عجز عن اللحاق بنا وعاد أدراجه بعد أن غرق منه عدد كبير. ويقال ان فرعون نفسه كان من الذين غرقوا في المياه. غير أن الحرية لا تعطي طعاما ولا ماء. فلما أكلنا الزاد الذي كان معنا بدأنا نفكر في موقفنا، وخرجنا إلى (موسى) نطلب منه أن يعطينا خبزا ولحماً.

أعطانا موسى كل ما معه، وقال لنا اقتصدوا ولا تأكلوا كثيرا ولكنا لم نقدر أن نمنع الأطفال والنساء من الأكل والشرب، ولم نقدر أن نمنع بكاءهم عندما نفذ ما كان معنا من الزاد، فقمنا بعد أسبوع من الجوع والعطش وطلبنا من (موسى) أن يطعمنا. وصرخنا له (أعدنا إلى مصر. أعدنا إلى العبودية. الإنسان قد يحيا مع العبودية. ولكنه يموت حتما بلا طعام. نريد الحياة ولو مع العبودية. لا نريد الموت في هذه الحرية وسط الصحراء).

لقد غضب موسى وظهر عليه الغيظ، وكلمنا كثيرا ولكن لم يكن لقوله ذلك الأثر الذي اعتدنا أن نجده في نفوسنا عندما كنا نسمع ألفاظه. وزاد صراخنا وعزم بعضنا على الرجوع.

وفي الصباح التالي ذهبنا إلى موسى لنخبره بأننا سنعود إلى مصر لنأكل من طعامها، فوجدناه يصلي ثم أقبل علينا ووجهه يتهلل وقال (اذهبوا إلى ذلك الوادي) وأشار بيده إلى جهة الشروق. (وهناك تجدون كثيرا من الحب على الأرض. فاطحنوه وكلوا منه فانه مثل الحنطة إذا عجنت بالزيت) ثم أشار إلى السماء وقال (انظروا إلى هذه الطيور الكثيرة الآتية من البحر. أنها تقع على الأرض عند أول وصولها إلى البحر فاذبحوا منها وكلوا فان هذا رزق حلال قد أرسله الله إليكم)

سرنا بعد ذلك في البرية نأكل من هذا الطعام ولكنا كنا كل يوم أشقى مما كنا في اليوم الذي قبله. فأين طعام مصر؟ وأين زيتها الكثير وأعشابها الخضراء المسمنة؟ وأين ماؤها العذب.

ص: 67

وخيراتها العميمة؟ حقا لقد كنا فيها معذبين، وكنا عبيداً نسام الخسف والذلة، ولكن الجوع والموت كانا أفظع في نظرنا من الذل. أقمنا أكثر من سنة في البرية ننتقل من مكان إلى مكان ومن واد إلى واد حتى ذهبنا إلى (رفيديم) في جوار الجبال العإليه التي تغطيها ثلوج الشتاء وقد بلغ بنا الحنين عند ذلك إلى مصر مبلغا عظيما وأشتد غضبنا على ذلك الزعيم الذي أخرجنا منها.

فهل الحرية تستحق أن نسعى إلى الفقر من أجلها؟ وهل الذل والعبودية يستحقان أن يهرب منهما إلى الموت؟ لقد كرهنا كل شيء في تلك البرية حتى اسم الحرية، وذكرنا مصر بالحنين بما كان فيها من طعام وشراب، حتى لقد بلغ بنا الحنين إليها ان نحن إلى ما كان فيها من ذل وخسف، ثم حننا إلى النيران التي كنا نوقدها ليلا ونرقص حولها فرحا في أعياد (رع) و (هاتور) لا بل لقد مالت قلوبنا إلى تلك الآلهة المرحة، ووددنا لو أقيمت لنا تماثيلها الذهبية لنعبدها بدل الآله الذي لا نراه ولا تقام له الأعياد المرحة على شراب البلح والحنطة.

فما كاد (موسى) يصعد على عادته إلى الجبل العالي الذي تغطي قمته الثلوج حتى اجتمعنا وصرخنا إلى (هرون) وتجمهرنا واجتمعنا حوله، فلم يستطيع أن يمنعنا من أن نصور تمثالا (لأبيس) من الذهب الخالص، وأقمنا حوله الأعياد والأفراح ونادينا بالعودة إلى مصر. غير أن (موسى) عاد بعد قليل فرآنا على تلك الحال فغضب وحطم التمثال، وأوقع بالرؤساء، ولم يقدر أحد منا أن يقاوم أو يراجع.

وجعل يعنفنا على ما ارتكبناه من الذنب العظيم، وكنا لا نستطيع أن نرفع أعيننا نحوه. وكأنه أراد أن يعاقبنا على ذلك عقاباً شديداً فما مضت أيام حتى أمرنا بالتأهب لغزو بلاد (مواب). بلاد مواب؟ أنستطيع أن نحارب جنود (مواب)؟ وهل خرجنا من مصر لكي نحارب؟ أي معنى لهذه الحرية وأي معنى لهذا الخلاص؟ إننا لم نفهمه ولم نفكر في شيء سوى ما كنا فيه من الحرمان. أنحارب، لا، لا إننا لن نستطيع الحرب مع أحد فلنعد إلى مصر

غضب (موسى) غضباً شديداً وصاح بنا (أيها العبيد، انكم قد نشأتم في الذل وعشتم في الخسف، ان دمكم قد تلوث بالعبودية فليس يحمى وليس يغضب. إنكم لا تعنون إلا بالطعام،

ص: 68

كلوا واشربوا وعيشوا في الذل والخسف؛ فما أنتم إلا مثل الأنعام لا تعبئون إلا بما يملأ بطونكم. لقد حكم على جيلكم أن تظلوا عبيدا لا تهتمون إلا ببطونكم حتى تنقرضوا ويفنى كل جيلكم، فإذا نشأ جيل آخر لم تسممه العبودية استطاع أن يفهم الحرية والكرامة ستبقون في البرية أربعين عاما حتى يموت آخركم فيها، ثم ينهض الجيل الجديد الذي يقدر له أن يفهم حياة الأحرار ويغزو معي بلاد مواب) سمعنا ذلك القول ولم نستطع جوابا، ولكن قلوبنا كانت تغلي من الغيظ، ولم يكن موسى سوى أبن عم لي أنا شأول بن شمويل اللاوي. فذهبتّ تلك الليلة إلى مضجعي ولم أستطيع أن أجد النوم، وسألتني امرأتي أن أخبرها بما يقض مضجعي فأخبرتها. فقالت لي لماذا لا نعود إلى مصر؟) ولم أكن أنتظر أكثر من ذلك، فعولت على الخروج ليلا والعودة إلى مصر في الطريق الذي أتينا منه. وفي الليلة التإليه كنت في طريقي إلى بلاد فرعون. قضيت في سيري هذا ثلاثة شهور من هلال أول السنة إلى هلال الشهر الثالث، وكانت هذه الشهور الثلاثة عقابا عادلا على كل ما وقعت فيه من البطر والاعتداء لقد هربت خوفا من الجوع وعدت بنفسي لكي أعرض ظهري إلى سياط عبيد فرعون وأضع يدي في قيود الذل والظلم لكي أشبع جوعي، وأطعم امرأتي وأبنائي، ولكني لم أجد ما ابتغيت. فقد قبض علي (منحوتب) قائد رميد وأرسل أبنائي وامرأتي ليكونوا عبيدا لفرعون، ووضعوني في السجن لانتظر الموت، وهنا في هذه الحجرة أبقاني في انتظار حكم فرعون.

وإني في هذه الحجرة المظلمة أجلس الآن في انتظار الهلاك، ويمر بخاطري كل ما حدث في حياتي من الحوادث، يمر كل ما كان في أيامي الماضية كما تمر حوادث الماضي أمام عين الغريق إذا اشرف على الموت وقد رأيت أن أكتب قصة تلك الحياة لكي أخلف صرخة لمن يجئ بعدي. لقد كنا نهرب في كل أيامنا من الموت، وهاهو يجئ أخيراً ويلحق بنا مع طول هربنا منه. ونرضى بالذل في سبيل الحياة، ونرضى بالعبودية والخسف في سبيل الحصول على القوت، مع أن الحياة لا تستحق أن يحياها الإنسان إذا كانت حياة ذل وعبودية. ها قد تنبهت أخيرا إلى أن (موسى) كان عظيما حين دعانا إلى البرية وفضل الجوع والموت على حياة الشبع والذل. ولكن كنا قد مشى دم العبيد أجيالا في دمائنا، فلم يحم ذلك الدم في عروقنا غضبا للكرامة والحرية، ولم نفهم صرخة زعيمنا على وجهها، بل

ص: 69

اندفعنا وراءه هربا من ألم السياط؛ فلما رفع عنا ألم السوط عدنا إلى بذل أنفسنا الذليلة. لقد أحرجنا صدره كثيرا بنفوسنا الوضيعة، وهربت أنا منه خوفا من الموت والجوع وفضلت أن أعود إلى ذلي في مصر لكي اشبع بطني، فوجدت الذل والأسر، ولكني لم أجد الطعام الذي يملأ البطن. وهاأنذا انتظر الموت الذي استحقه. حقا لقد فهمت الآن قول موسى إذ قال لنا عند سفح جبل سيناء إننا من جيل مسمم، وانه سيصبر حتى يهلك ذلك الجيل كله في البرية، حتى ينهض جيل جديد يفهم معنى الحرية الكرامة. إنني الآن اسمع ضجةعند باب سجني وهاهو مفتاح الباب يصر في ثقبه)

إلى هنا انتهت القصة التي عثرنا عليها في الصحراء وحقا قد كان ذلك المكان الذي عرجنا إليه جديرا بأن يكون طلل بناء قديم حصين، لم يبق منه اليوم إلا تلال الرمال، ولا تزال تحتفظ بالروح الرهيبة التي خلفتها حوادث الماضي في ثنايا الأطلال.

ص: 70

‌صديقها عشيقها

رواية مصرية عصرية في فصل واحد

للكاتب الروائي الأستاذ محمد خورشيد

(تتمة)

حكمت - (في عطف) لا تمكث مرة أخرى يوما كاملا بعيدً عني ولا تحرمني رؤيتك المحبوبة. اني أحبك يا فريد من أعماق قلبي. أحبك بكل ما أملك من قوة وعاطفة.

فايد - قلبي يؤمن بحبك ويترك لقلبك تقدير حرارة، حبه ومن القلب إلى القلب رسول

حكمت - (تقترب منه وتحوطه بذراعيها في حنان وتقول) ألم تكن لنا ساعات، هنيئة ذكراها السعيدة لا يمكن أن تزول؟

فايد - نعم. نعم

حكمت - تعال اجلس بجانبي ولا تتكلم، لأن صمت المحبين هو نغمة الحب. فلنستمع ترنيم قلوبنا في سكون.

(يجلسان متقاربين برهة ثم يتعانقان، وبينما هما يتبدلان القبلات إذا بالباب يفتح ويدخل مختار فيراهما على هذه الحال فيقف مصعوقا. فيفترقان ويقفان، تتقدم حكمت إلى مختار وتقول.)

المنظر التاسع

حكمت، فايد، مختار

حكمت - لا تلمني يا أعز الأصدقاء. كن كريما وسامحني. لم أتمكن من الدفاع عن صداقتنا القديمة لأني فوجئت بهجوم حب جديد أخذ بمجامع قلبي. غلب سلطانه عزيمتي. قهرت قوته إرادتي. فأصبحت لا حول لي ولا قوة، وخضعت لأمره ومن يتحكم الحب فيه يصبح غير مسئول. . . فعفوا فعفواً. أعذرني يا صديقي وكن رحيما.

مختار - أني مذهول. حكمت هانم أنبل وأشرف فتاة تأتي إلى عشيقها كأي النساء؟! أراها بعيني بين ذراعيه؟ تصرح أمامي بشدة حبها له، تعترف لي بأنها ضحتني أنا صديقها الوفي لأجله هو؟ كنت أعلم أن أغلب النساء يفعلن ذلك، ولكن أنت! أنت! ما كان يخطر ببالي. أفكرت فيما سيذيعه الناس عنك؟ (إلى فايد) وأنت وادعاؤك السفر. لم كل هذا

ص: 71

الخداع؟. أهذا جزائي أنا الذي احبك وأعزك كولدي؟ ألا يؤنبك ضميرك على تلويث سمعتها.؟

فايد - (يقترب منه ويقول) تأن ولا تلم. إني عند حسن ظنك بي لقد أحببت حكمت واحبتني، وعقدنا النية على الزواج فلا خوف على سمعتها.

حكمت - لكن يا فايد. . .

فايد - (يقاطعها قائلا) تمهلي، سأقول ما يجب، وما أقوله سيكون. أريد ألا يكون بحبنا ما ينتقد (يقول ذلك وهو ينظر إليها نظرة كلها رجاء) لم ادع السفر يا مختار بك. أني سأسافر فعلا ولكن لست مسافرا وحدي. سنسافر معا. وما أخفيت عنك أمر سفرها الأبناء على طلبها خشية ان تحزن لفراقها. وقد اتفقنا على أن نبادر بالكتابة إليك بمجرد وصولنا إلى أستانبول لنخبرك بكل ما حدث. وبما ان القدر شاء غير ما شئنا وحضرت والتقينا، فهاأنذا قد أخبرتك بالحقيقة كلها.

مختار - (لحكمت) أحقا ما يقول؟

حكمت - (تنظر إلى فايد وتقرأ في عينيه الرجاء الحار فيقول) نعم

مختار - إذا ستسافرين معه وتتركيني. ألا تفكرين؟ ألا تفكرين قليلا فيما ستكون عليه حياتي أثناء غيابك؟

فايد - لم يبق أمامنا سوى ساعة واحدة. سأذهب إلى منزلك لأحض خادمَك على الإسراع في الحقائبِ لا تطيلا الحديث. فالوقت قد أزف. (ويخرج)

المنظر العاشر

حكمت، مختار

مختار - إذا ستسافرين معه وتتركيني عرضة للهلاك! إلا تعلمين ان حياتي رهينة تلك اللحظات التي كنا نقضيها معا يوميا في هناء الصداقة والوفاء تلك اللحظات افقدها وكانت كل ما احب في الحياة، ستتركني فريسة للوحدة القاتلة، للحزن المؤلم المضني

حكمت - هدئ روعك يا صديقي. لا تدع الوهم يتغلب عليك. تنبه للحقيقة. ليس بها من الخطر ما تراه، ولن يكون لها من العواقب ما تخشاه. سأعود إليك بعد غياب قصير، وستعود لنا أيام الصفاء.

ص: 72

مختار - أيام الصفاء. تعود لك وله لا لي أنا. صفاء أيامي كان في صداقتك التي فقدتها إلى الابد، لأنك أعطيته كل ما بنفسك ولم تبق منه على شيء، والبرهان استخفافك بمصابي وعدم رثائك لحالي.

حكمت - لا تحور الحقيقة ولا تبالغ. لم يغضبك حبي له؟. أيمنع ذلك أن يكون لي أصدقاء؟ كل خطأي ينحصر في أنني لم أشترك في أمر الزواج. وما منعني إلا عطفي عليك وخوفي على أعصابك من تأثير المفاجأة. والآن وقد وقعت برغم تدبيري فتأثيرها هو الذي أذهلك

مختار - أنا الذي أذهلته المفاجأة أم أنت التي أذهلك الحب حتى أصبحت لا تعين ما تقولين؟ أينحصر خطأك حقا في أنك لم تستشيريني في أمر الزواج؟ أين ذهبت تصريحاتك بأنك لن تحبي ولن تتزوجي أبداً وأنك ستظلين وفية لذكرى حبك الأول؟ وماذا فعلت بتأكيدك لي أن صداقتنا قد أخذت بمجامع قلبك فأصبح لا يرضى عنه بديلا؟

حكمت - نعم لقد أخطأت ولكن. . . النهاية سامحني يا صديقي. . . المسامح كريم

مختار - أنا لا أسامحك أبداً

حكمت - أتوسل إليك

مختار - أبداً أبداً

حكمت - حسن! أفضل أن أتركك غاضبا على أن أتركك متألما (وتسرع بالخروج)

مختار - (يبقى في ذهول لحظة وهو لا يكاد يصدق أنها خرجت ثم يصرخ): حكمت. حكمت هانم حكمت هانم (ويندفع نحو الباب ويفتحه ويلقي نظرة سريعة ثم يعدو إلى المسرح قائلا) ذهبت لقد ذهبت.

(ثم يتمالك نفسه ويقول في هدوء أولا ثم في انفعال):

حقا أن من تصل به السذاجة إلى حد أن يؤمن بصداقة امرأة ليستحق درساً قاسياً كهذا ان المرأة لا تتخذ لنفسها صديقا إلا إذا خلا قلبها من الحب، ولا تزيد صداقتها عن سد الفراغ بين حب انتهى وحب منتظر. صديقها عشيقها. هذه هي الحقيقة.

ينزل الستار

ص: 73

‌الكتب

هدية الكروان

مجموعة أشعار للأستاذ عباس محمود العقاد

كلمة تقدير ونقد للأديب عبد الرحمن صدقي

بات العقاد يصغي لهتفات الكروان في الليالي الحسان السواحر، ويتطلع إلى مجال الربيع من زهر وعطر، ويتملى بجمال الحياة من حب وحسن، ويخف لشباب النفس من عطف وبشر. ومن هذه جميعا اقتبس مجموعة أشعاره الجديدة (هدية الكروان). وهي وان لم تكن جميعا منظومة في مناجاة الكروان، إلا أنها في موسيقيتها كأنما تعارض الكروان وتساجله.

هذه خلاصة قولي في الديوان الأخير. وهذه الخلاصة نفسها مقتبسة من مقدمة الديوان نفسه نظما ونثرا! ولا عجب فالعقاد جبار لا يكاد يدع بعد مقاله مجالاً لقول قائل

ولقد عرض الشاعر في مقدمته المنثورة لطائره الصيدح في كلمات مشرقة ناصعة البيان، رخيمة الحواشي مصقولة الأطراف كحب الجمان، غنية بالمعاني الصادقة. قال:

(تسمعه الفينة بعد الفينة في جنح الليل الساكن النائم البعيد القرار، فيشبه لك الزاهد المتهجد الذي يرفع صوته بالتسبيح والابتهال فترة بعد فترة، ويشبه لك الحارس الساهر العساس الذي يتعهد الليل بالرعاية بين لحظة ولحظة. وينطلق بالغناء في مفاجأة منتظرة أو انتظار مفاجئ فلا تدري أهي صيحة جذل أم هي صيحة روعة وإجفال. ولكنك تشعر بالجذل والروعة والإجفال تتقارب وتتمازج في نفسك حتى لا تتفرق. كأنك تصغي إلى طفل يرتاع وهو جذلان، ويجذل وهو مرتاع، ويطلب الخطر ويشتهيه لأن الخطر في حسه طرافة وحركة، فهو من عالم التفاؤل والإقبال لا من عالم التشاؤم والنكوص

(ويطلع عليك بهتافه من هنا وهناك وعن اليمين وعن الشمال وعلى الأرض وفوق الذرى. فيخيل إليك أنك تستمع إلى روح هائم لا يقيده المكان ولا يعرف المسافة، أطلقوه في الدنيا على حين غرة فسحرته فتنة الدنيا وخلبته محاسن الليل فهو لا يعرف القرار ولا يصبر في مطار)

(فأنت تتلقى من صوت هذا الطائر الأليف النافر عالما من معان وأشجان يتجاوب فيها

ص: 74

تقديس المصلي القانت وحدب الحارس الأمين وروح الطفولة ومناجاة الخطر المقبول وهيام الروح المنهوم بالحياة والجمال: عالم لا نظير له فيما نسمع من غناء الطير بهذه الديار)

هذا الوصف الرائع من العقاد لا يفوقه موسيقية وجيشانا، ولا يدق عنه معنى واحساسا، ولا يزيد عليه تصرفا وافتنانا إلا نظم العقاد.

وأشعار (هدية الكروان) كسابقها في وحي الأربعين، تنزع إلى الموسيقى في تقطيع أوزانها وعذوبة نظم ألفاظها ولطف وجدانياتها. تخلق حولك جوا من الموسيقى الرفيعة الساحرة تشيع روحها وتشيع حتى تملأ عليك الفضاء وتملك منك المشاعر، وحتى لتحس ان الموسيقى ليست لشعره أداة تعبير فحسب، بل هي عنصره الصميم

وأظهر ما تظهر هذه الميزة في أنشودة (ما احب الكروان) فقد افترق الشاعر وصاحب له فتراه يواعده النجوى واللقاء على البعد عند سماعها هتفات الكروان:

ما أحب الكروان!

هل سمعت الكروان؟

موعدي يا صاحبي يوم افترقنا

حيث كانت جيرة أو حيث كنا

هاتف يهتف بالأسماع وهنا

هو ذاك الكروان! هو هذا الكروان!

الكراوين كثير أو قليل

عندنا او عندكم بين النخيل

ثم صوت عابر كل سبيل

هو صوت الكروان! في سبيل الكروان

لي صدى منه فلا تنسى صداك

هو شاديك بلا ريب هناك

فإذا ما عسس الليل دعاك

ذاك داعي الكروان، هل أجبت الكروان؟

مفرد لكنه يؤنسنا

ساهر لكنه ينعسنا

واحد أو مائة ترجعه

عندنا أو عندكم مطلعة

ذاك شيء واحد نسمعه

في أوان وبيان، هو صوت الكروان

واحد بين عصور وعصور

نحن نستحي به تلك الدهور

لم يفتنا غابر الدنيا الغرور

في أوان الكروان، ما احب الكروان

وقد ألم الشاعر ببضع لمسات من ريشته المنغومة في خفة وإيجاز بليغ بحركة الكروان

ص: 75

وطفراته في مطاره، وسرعة انتقاله هنا وهناك في الفضاء الداجي، فلا تكاد تسمعه من بعيد إلا ويصبح أقرب قريب، ولا تكاد تقول مع الشاعر: هو (ذاك) الكروان حتى تردف كما أردف: هو (هذا الكروان وحتى تجمل معه هذين معاً فتقول: هو صوت عابر كل سبيل

ولما كانت هذه الأنشودة من مستوحيات الإلهام في لحظاته النادرة، فقد اجتمع فيها ما توسع الشاعر في تنويعه وترجيعه في غيرها من القصائد الجزلة والأناشيد المطربة. وتطيب لنا الإشارة إلى مواضع هذا الترجيع تنويها بطبيعة الشاعر المطبوع الذي يعيش في معانيه! وتعيش معانيه في منبت مريع التربة خصيب فهي لا تني فيه أبداً متفتحة نامية، وأنفاسها أبداً خفاقة مرددة، وحرارتها أبداً مذكوة متجددة.

فلا غرو إذن إذا رأيت هذه الإشارة إلى طفرات الكروان يرددها الشاعر بين آن وآن، موضحا موكداً:

بينا أقول هنا، إذا بك من هنا

في جنح هذا الليل أبعد باعد

لوددت يا كروان لو ألقيت لي

صوتين منك على مكان واحد

وكما المع الشاعر في أنشودته إلى أنك لا تدري عند سماعك هتافات الكروان المتقطعة المنتقلة المتشابهة، أهو واحد أو مائة، فقد ترنم بهذا المعنى في مقطوعة صغيرة هزجة النبرات متجاوبة الأصداء

ألف صدى لهاتف

منفرد على الذرى؟

أم ألف شاد رددت

هتافها مكررا؟

أم ذاك روح أطلقو

هـ في الدنى محيرا

فردوها مستغربا

وطافها مستبشرا

فلا يقال مقبل

حتى يقال أدبرا؟

هن كراوين الليا - لي أو فقل هو الكرا

وفي عزلة هذه الليالي الساجية يساهر شاعرنا هذا الطائر الساهر، ويأنس به ويصغي لدعواته، وقد يهفو أحيانا على جناح الفكر، فيذكر الطيور المغردة في الفجر فيجري على لسانه:

لهجت طيور بالضحى وتكفلت

بالليل حنجرة المغني الخالد

ص: 76

ثم تأخذ الشاعر النشوة وأي نشوة، ويهز أعطافه الطرب وأي طرب، فيغني طائره المغني أمتع الغناء وأعذبه:

الليل يا كروان=بشراك طاب الأوان

بشراك؟ بل أنت بشرى

تهفو لها الإذان

ان كان في السمع طيف

فأنت يا كروان

صوت ولا جثمان

لحن ولا عيدان

كأنه هاتف في

فضائه حيران

أو رجع صوت قديم

يعيده الحسبان

ليل الطبيعة صمت

وأنت فيه لسان

وظلمة الليل سر

فاقرأه يا ترجمان

واملأ من الليل نفسا

عزيزة لا تهان

لا هتفة فيه تبقى

إلى غد أو إذان

الليل يا كروان

والعالم الغفلان

ونسمة الصيف تسري

وفي يديك العنان

والصبح أول مرسى

يرتاده الركبان

الليل يا كروان!

الصبح يا كروان!

وهنا يحسن بي الصمت هنية تاركا في سمعي ومسامع القراء، وفي نفوسنا المتضعضعة السكرى جميعا، هذه الأصداء المشجية والمعاني السرية المجلوة

ننتقل بعدئذ إلى بقية الديوان، لا للكلام عنه - فأن الشعر الغنائي حظه الأجدر به الإنشاد والتطريب، لا المبالغة في الدرس والتنقيب - وإنما لنومئ إيماءة المعجب المسحور بطرف البنان، إلى بعض المقطوعات الغرر الحسان، أمثال: - جمال يتجدد - بما فيه من فلسفة للحب عميقة الأثر غنية. .، - واليوم الموعود - للمحب المشوق إليه شوق لاعج يتعجله الأيام، ولو اختلت سيرة الشموس، وانفرط نظام الدهر. . . .، و - الثوب الأزرق - وهو آية في الطلاوة وظرف الهندام وملاحة القالب،. . . و - الحب المثال - وقد خلعت المحبة بقدرتها الخالقة على كيان المحبوب شتى السمات والشكول، كلما اقترح الخيال المتفنن،

ص: 77

وهفت بدوات الهوى المتقلب، وخيلت مقادير الأحلام. .، و - قبلة من غير تقبيل - ما للمجتمع عليها من رقابة، ولا له إليها من سبيل. . .، وذلكم الإحصاء المنمق البديع بعنوان - تسلم - وبمقتضاه يسلم الشاعر المهجور محاسن الدنيا ومجالي فتنتها لهاجره، ويسردها بين يديه، في يوم عودته كما خلفها يوم قطيعته، فالشاعر لم يفد منها متعة ولا معنى، ولم يعرف لها استعمالا، كأنما كانت الدنيا هامدة واقفة الحركة أثناء هذه الغيبة المريرة. .، ثم - حلم اليقظة - و - كلماتي - و - بلدي - و - سريان روح - و - صنوف الحب - وهذه جميعا كما ترى أغاني حب ترى فيها الشاعر عاكفاً على الجمال كأنه العابد المتبتل، يمسح بيده الملتهبة على تمثاله، ويتدله في لثمه وتقديسه، ومع هذا الاستغراق من الشاعر في حسه، وتهالكه على حبه، فليس في غزله أثر للترقق المخنث، والاسترخاء المهين والتباكي الهازل، كما أن هذه العبادة الوثنية في الشاعر للأشكال المحسوسة والصور المفرغة، مقرونة على الدوام بالتصعيد المعنوي والتجريد الروحي، فلا محسوس عنده إلا يشف عن معنى ويقوم رمزا على فكرة، ولا معنى عنده إلا يبرز في محسوس ويتجسد فيه

وهاكم ما يقوله صاحبنا نفسه في ما يسميه - الفن الحي أو الحياة الفنية -:

خذ من الجسم كل معنى، وجسم

من معاني النفوس ما كان بكرا

حبذا العيش يبدع الفكر جسما

ويرى للحياة فناً وشعرا

ويرى الفن كالحياة حياة،

ويرى للحياة فناً وشعرا

ضل من يفصل الحياتين جهلا،

واهتدى من حوى الحياتين طرا

ونحب، ونحن بمعرض الإشارة إلى أغاني الغزل، أن نعرض تحت أنظار شاعرنا الكبير أن بعض المقطوعات كالمنديل والفنجان والرقية وساعي البريد لا تقع في نفوسنا موقع سائر أغانيه، ولسنا نجهل أن من بين شعراء الشرق والغرب من عالجوا أمثال هذه العادات الشعبية والمواضيع الدارجة في شعرهم ولكنها بعد دون العقاد، وتناولها على هذه الصورة فيه ترخص ظاهر

ونزيد بهذه المناسبة - أن بالديوان منظومة عن البيرة على لسان طفل، وهي في وهمنا وبحسب ذوقنا محسوبة على الفكاهة ولا فكاهة فيها، وليست من الفكاهة في قليل ولا كثير،. ونحن نعرف للعقاد غيرها كثيرا أبدع في نوعه منها وأفكه، وقد ترفع الأستاذ عن

ص: 78

نشرها وحق له هذا الترفع.

ونحسب في تعليل ما تقدم أن سهولة النظم، وسرعة استجابة اللفظ، ولين أداة التعبير في قبضة صناع اليدين مثله، جعلته ينظم كل خاطرة ترد على ذهنه في شتى المناسبات. ولو أنه يعاني في النظم صعوبة وعنتا لأدخر الجهد الناصب لما هو أولى به من موضوعات وأحاسيس احتضنها ورخم عليها طويلا كعهدنا به أبدا. على أنه من حق الشاعر الكبير الذي يرضينا بنيف ومائة وخمسين صفحة أن يكون له رأيه وحريته في بضع صفحات، إذا هي لم ترعنا فلعلها ترضي الآلاف من قرائه ذوي الفضل، وترضيه هو من ناحية فنية لم نعرفها بعد، أو لما يعلق بها عنده من ذكريات شخصية غإليه

بقيت كلمة إعجاب بقصيدتين إلى صديقين يوجه في إحداهما تهنئة وفي الأخرى تقريظا وفي هذه الأخيرة يقول في وصف نفس صديقه:

جبلت كالفراش في أمة الط - ير خفوقاً بين الندى والضياء

واستوت في الحياة فوق جناح

مستطار الخطى رقيق الغشاء

ولا شك في انه لم توصف نفس بأجمل من هذين البيتين بغض النظر عمن قيلا فيه

كما ان قصائد (تجريبي) و (يوم شتاء) و (القديس) تلفت قارئ الصفات والتأملات كل منهما بصفة متميزة، لاسيما (القديس) فهي مطوية على ليل سر عميق. وأخيراً (ليالي رأس البر) وهي من القصائد الخوالد تنبه فينا تلك الحالة النفسية الغامضة، التي نحس فيها اتصال مشاهد هذا العالم المشهود بمعاني العالم المستور، وقد اختار لها الشاعر وزناً طويلا، وقافية كأنفاس الحالم الممدودة فكأنما يسري القارئ منها في عالم النسيان والرضوان

حقاً هو كتيب صغير ولكنه ديوان كبير

عبد الرحمن صدقي

المآسي في الجمال والشعر والحب

للأستاذ الحوماني

قبل أن أتحدث عن هذا الكتاب القيم يجدر بي أن أتقدم بالشكر إلى الأستاذ الجليل صاحب

ص: 79

الرسالة فقد هداني به إلى نوع من الأدب طالما تمنيت أن يجري على لسان عربي وإلى لون من الجمال والفن كثيراً ما نزعت نفسي إليه، حتى ألقيته اليوم بين دفتي هذا السفر الجليل.

ترى الكتب أنماطا مختلفة، فمنها ما يعتمد على زخرف القول ويستند إلى الدجل والتمويه، فلا تكاد تظهر حتى يذهب الزمان بما حوت من بهرج زائف، فتصبح كأن لم تكن بالأمس، كالفقاقيع لا تكاد تظهر حتى تنطفئ. ومنها ما يصدر عن القلب فيفيض بخلجات النفي، ويجيش بنزعات الوجدان ويزخر بخطرات الضمير: ومصير هذا النوع إلى الخلود، لأنه والحياة شيء واحد فيبقى ما بقيت الحياة.

وكتاب الأستاذ الحوماني من هذا النوع الخالد فهو مرآة صافية رفعها الكاتب الفذ فانعكست فيها الطبيعة، بما حوت من ضروب الفن وضروب المذاهب.

يقع بصرك على الكتاب فتحس أن له شخصية ممتازة، فهو مطبوع طبعا جيداً، وهو كما ترى من عنوانه سلسلة من المآسي، ولقد حليت زوايا غلافه بخطوط عريضة سوداء قوية الإشارة واضحة الدلالة، وتوسطت هذا الغلاف الأنيق صورة نقشتها ريشة ماهرة لفتاة بارعة الجمال تنحدر الدموع من عينيها الواسعتين الضارعتين وقد اشتبكت يداها على صدرها في شكل يحرك القلب ويثير الشجن. أما الوجه فانه مزيج مدهش من الجمال البارع والعفاف الوادع والالم اللاذع، وتحت هذه الصورة نقش اسم (أمل) بطلة القصة ومحور الجمال فيها.

وهي قصة قوية إذا بدأتها فلن يشغلك عنها شاغل ولن تضعها حتى تتمها، وهي إلى جانب ذلك مؤثرة إلى أقصى حدود التأثير، لا يتمالك ذو العاطفة الحساسة دمعة حين قراءتها ومؤداها أن خالدا ذلك البطل العربي، رحل عن بلاده الشام حين عافت نفسه الأبية أن تقيم على الضيم، فهبط الحجاز وأقام هناك زمناً في ضيافة عربي كريم هو الشيخ أبي وسيم، ولقد كان هناك موضع حفاوته وحفاوة ابنه وسيم. وسرعان ما أحب وسيما واحبه وسيم.

ماتت زوجه وهو بعيد عنها وبقيت ابنته أمل تعاني بؤس الحياة، وكانت تحب ابن عمها (ناظما) وكان يحبها، ولكنه كان فتى طائشا يطلق العنان لشهواته ويفهم من الحب غير ما تفهم أمل، فحبب إليها المجون ورغبها في التبرج والخلاعة، ولكنه فشل في إغرائها ورحل

ص: 80

إلى بيروت حيث اللهو والمجون فلما علمت بذلك ابنة عمه تبعته لترى بنفسها ما ينغمس فيه من المفاسد، فرأته هناك من حيث لا يراها يغازل فتاة من بنات الهوى تدعى جوزفين فبرح بها الألم وكتبت إليه تلومه، ولكنه رد عليها ساخرا، وكرر الدعوة إليها لتحيا معه هذه الحياة. وفي تلك الأثناء كان أبوها في طريقه إلى بلده دمشق فقضى نحبه على مقربة من العقبة، ولقد ترك خطابين أحدهما لابنته والثاني لوسيم، وأوصى بأن يسلما إليهما في وقت واحد، وهرعت أمل إلى قبر أبيها هالعة جازعة والتقت هناك بوسيم واكبا على القبر يبكيان فلما أفاقا وجد كل منهما في صاحبه ضالته فربط الحب قلبيهما برباط وثيق. وحملها وسيم إلى التهامي. وأخذ ناظم يرسل إليها الخطابات يستحلفها ويعلن التوبة بين يديها فسافرت لتراه قبل موته وهو على فراش المرض فلم تكد توافيه حتى اسلم الروح وبكته ابنة عمه ولبست الحداد وأقامت بدمشق أياما. وهنا شبت نار الحرب بالبلاد العربية واشترك فيها وسيم، وجعل يدون مذكراته عن حبه ويشاء القدر الساخر أن يذهب ضحية الزلزال وهو يبحث عن أمل بعد أن وضعت الحرب أوزارها فحملت مذكراته إلى أمل البائسة.

أخاف أن يذهب هذا التلخيص بجمال القصة وأدعو الشبان مخلصا إلى قراءتها في إمعان. فليس جمالها في حوادثها فحسب بل فيما، تفيض به من دروس وعبر، وأحاديث عن الجمال والشعر والحب ووصف شائق للكون والطبيعة، كل ذلك في تعمق وخبرة وبعد نظر أما أسلوب الحوماني فهو ذلك الأسلوب العربي المتين، دقيق العبارات موسيقي الوقع مشرق، الألفاظ؛ قوي المبنى، واضح المعنى حتى ليعد في ذاته ناحية هامة من نواحي الجمال في الكتاب ولو ضيق المقام لأوردت بعض عبارته على أنني لو فعلت ذلك لاضطررت إلى إيراد الكتاب كله، فهو قطعة متسقة من الفن.

أما بناء القصة فقد سار فيه المؤلف على نهج فريد، فابتدأه بأن ترك كل فرد يتناجى ونفسه بعيدا عن بقية الأشخاص، ثم أخذ بعد ذلك يسرد الحوادث حتى اختتم الكتاب، بمذكرات وسيم وبتلك المفاجأة المؤلمة التي حملتها فريدة الوصيفة إلى سيدتها أمل. ولقد أضاف هذا إلى الكتاب قوة ونجاه من السامة الملل.

وأني أتقدم بخالص التهنئة إلى الأستاذ الحوماني راجيا إياه ان يزيد الأدب من نفثاته

ص: 81

الرائعة التي تعد مفخرة للعربية وأهلها

محمود الخفيف

الوصية

هذه القصة التمثيلية التي تقع في فصل واحد ذي ثلاثة مناظر والتي ألفها ج. م. باري، قد نقلها إلى العربية الأستاذ خطاب عطيه

أما القصة فهازلة، تريك رجلا يصطحب زوجته إلى مكتب محام ليوصي لها بكل ما يملك بعد موته، مع انه لا يملك شيئا. ولكن شاء الدهر أن تنمو ثروة الرجل وتطرد في النمو، وكلما ازدادت نماء سارع إلى تعديل الوصية حتى تلائم موقفه الجديد، وظل كذلك يحرص على تأكيد الوصية بما له إلى زوجته حتى رزاءه القدر بموتها! وإذن فلابد أن يقلب الوصية رأسا على عقب، ولكن من ذا عسى أن يظفر بتلك الثروة الضخمة؟ انه يفكر أن يوصي بها إلى ستة رجال كانوا قد نازلون في ميدان الجهاد فصرعهم! ولكن ظرفا طارئا قد انعرج به عن هذا التفكير السقيم، واعتزم من فوره أن يبذلها في سبيل المرضى الذين يذهبون ضحية الفقر والإهمال. وهكذا أراد الكاتب إلا تكون الوصية لأشخاص الفناء، بل انتهى بها إلى عمل الخير لأنه خالد لا يزول

والأستاذ خطاب يشكر لنقله هذه القصة إلى العربية لأغذاء قراء العربية بمحصول جديد، كما أعان طلاب السنتين الرابعة والخامسة الثانويتين لأنها مقررة في منهجهم الدراسي. ولكن هل يسمح لنا بأن نأخذ عليه عبارته الركيكة الضعيفة التي بلغت من الإسراف في الركة والضعف حد الارتباك والتعقيد وحتى تمنيت في كثير من المواضع أن يكون إلى جانبي الأصل الإنجليزي لأستعين به على فهم الترجمة العربية! ولا شك في انه قد أساء بذلك بعض الشيء إلى الأدب الذي نقل عنه واللغة التي نقل إليها

ز. ن. محمود

ص: 82