المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 260 - بتاريخ: 27 - 06 - 1938 - مجلة الرسالة - جـ ٢٦٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 260

- بتاريخ: 27 - 06 - 1938

ص: -1

‌المعرفة سيادة

للأستاذ عباس محمود العقاد

المسافة بين منشية الإسكندرية ومحطة الرمل قصيرة، ولكنها على قصرها تريك من أي طريق سلكتها عظم المسافة بين الأمم التي تسود والأمم التي تساد

عشرون أو ثلاثون مكتبة في هذه الطريق بين فرنسية وإنجليزية وإيطالية ويونانية، وفيها من الكتب الأدبي والقصصي والفلسفي والعلمي وكل ما يبحث فيه الباحثون ويصنف فيه المصنفون

والبلاد عربية، فأين هي المكتبة العربية بين جميع هذه المكتبات؟

لا ترى هناك مكتبة واحد؛ وإن رأيت بعض الكتب العربية فقد تراها معروضة في إحدى الوجهات الإفرنجية فرعاً من الفروع الصغيرة، لا أصلا من الأصول الكبيرة التي تتشعب عليها الفروع

لم هذا؟

ألأن السكندرية مدينة تجارية كما يقولون فلا شغل فيها للمصريين غير التجارة والسوق، وغير البضاعة والأسعار؟

إن كانت التجارة صارفاً عن الثقافة فالأجانب في الإسكندرية تجار أو عاملون في التجارة، ولعلهم هم القابضون على أزمة السوق وهم الظافرون منها بحصة الأسد، وما من أجنبي في الإسكندرية إلا وهو طالب مال ومشتغل بحرفة من حرف الاتجار والصناعة. فلم كثرت الكتب الإفرنجية وقلت الكتب العربية في المدينة؟؟

أم هي كثرة الصحف والمجلات كما يقولون قد صرفت المصريين عن دراسة الكتب إلى لهو القراءة وتزجية الفراغ؟

ليس هذا أيضاً بصالح لمعذرة ولا لتفسير، فأن الصحف والمجلات الأجنبية التي تظهر في القاهرة والإسكندرية، أو ترد إليها من لندن وباريس وروما أكبر عدداً وأوسع انتشاراً من صحفنا ومجلاتنا العربية، وهي مع هذا لا تصرف القراء عن مطالعة الآداب ومتابعة العلوم والأخذ بالنصيب المطلوب من الثقافات والفنون.

لا هذا ولا (الأمية) سبب معقول لشيوع الكتب الإفرنجية وندور الكتب العربية في عاصمة

ص: 1

القطر الثانية، أو في عاصمة الثقافة الشرقية على عهد من عهود مصر الغابرة، فان العارفين بالقراءة من المصريين في الإسكندرية لا يقلون عدداً عن العارفين بالقراءة فيها من النزلاء والغرباء، وإن كان فرق بينهما في العدد فليس هو الفرق الذي يكون بين صفر وثلاثين

إنما الفرق الصحيح هو فرق بين أمم تسود وأمم تساد

أو هو فرق بين من يطلبون المعرفة شوقاً واستطلاعاً، ومن يطلبونها تكليفاً واتباعاً، لأن التكليف فرض على المسودين حتى حين يعرفون

بل هو فرق بين النفس التي يبقى فيها جانب يطلب الغذاء بعد أن تشبع المعدة بالخبز والماء، وبين النفس التي يشبع منها كل جانب حين تمتلئ الأحشاء بالطعام والشراب

وذلك هو الفرق الصحيح لا مراء

وفي الطريق من مصر إلى الإسكندرية على جانب الصحراء أديرة قديمة نعلم عنها من كتب الأجانب ما لسنا نعلم من الكتب العربية جمعاء.

ذهبت إلى الإسكندرية ومعي كتاب ضخم بالإنجليزية عن هذه الأديرة يقع في نيف وخمسمائة صفحة كبيرة بين كتابة ونقوش

لمن كتبه الكاتب؟

وماذا يعني القراء مما كتب؟

كتبه للمعرفة، ويقرأه القراء للمعرفة؛ وليس من سبب غير المعرفة يساوي الجهد المبذول فيه والثمن المقدور له والوقت الذي انقضى في تحضيره وتأليفه وضبط نقوشه ورموزه وتواريخه

أما هذا السبب فلعله آخر الأسباب التي تدفع الجمهرة عندنا إلى فتح كتاب، فضلاً عن تأليف كتاب

من يطلب المعرفة لفائدة يحصرها في المأكل والملبس والمسكن وما هو في حكم الطعام واللباس والبيوت، فإنما هو مسوق إلى ما يطلب، وإنما هو عبد في جهله وعبد في معرفته على السواء

ومن يطلب المعرفة لأنها المعرفة، فذلك هو السيد وتلك هي السيادة؛ وحسبه أنه هو يريد

ص: 2

أن يعرف ثم تأتى الفائدة في الطريق، وليس؛ يراد على معرفة شيء كما يراد على جهله، لأنه مسوق بسلطان الضرورة القاهرة إلى ما يريد

ولست أعني بسيادة العارف أن المعرفة سلاح في يديه يصل به إلى السيادة كما يصل المرء إلى السلطان بالسيف والمال والحيلة

كلا. فلو كان كل في ما المعرفة من سيادة أنها كالسلاح في هذا المطلب لكانت أداة تؤدي إلى غيرها ولم تكن غاية تتأدى إليها المقاصد وتنتهي إليها اللبانات.

ولكنما عنيت أن طلب المعرفة للمعرفة هو هو السيادة، وهو هو العلامة على أن الإنسان (سيد)، يفهم ما يفهمه لأنه طبيعة فيه ووظيفة من وظائف عقله وتكوينه، لا لأنه مغرى به إغراء الطمع، ولا لأنه مسوق إليه سوق الإجبار والإكراه

لم تعرف النفس؟

ألا تسأل: لم تنظر العين؟ ولم تسمع الأذن! ولم يشم الأنف؟ ولم تدرك الحواس؟

إن العين لا تنظر لسبب غير أنها حاسة فيها قوة النظر، والأذن لا تسمع لسبب غير أنها حاسة فيها قوة السماع، وكذلك الأنف وكذلك كل حاسة في الإنسان أو الحيوان. فما بالنا نبتغي سبباً للعقل أو للبصيرة حين يدركان ويعرفان؟ لماذا تنظر العين لغير علة ولا مطمع ولا فائدة، ثم نأبى على العقل أن يدرك ما يدرك إلا للعلل والمطامع والفوائد، وإلا لهذه العلل والمطامع والفوائد التي نحصرها في أضيق الحدود وأقرب الحاجات.

لأحرى بنا أن نسأل: لماذا يحجم العقل عن المعرفة، وأن نسأل لماذا تحجم العين عن النظرة، وأن نسأل لماذا تعجز الحواس عن الإدراك

عندئذ نفهم الجواب ولا يطول بنا العناء في فهمه، فذاك أن الحواس عاجزة مكفوفة، وأن العين عمياء، وأن العقل معدوم أو ضعيف.

أما أن نسأل لماذا يعنى العقل بالمعرفة فذاك هو اللغو والفضول، وذاك هو السؤال الذي يشبه سؤالنا: ما بال العين تقع على ما تراه ولا تنحرف عنه ولا تأبى النظر إليه

حسب الشيء أنه يرى ليكون ذلك حقاً له في رؤية العيون

وحسب الشيء أنه يعرف ليكون ذلك حقاً له في معرفة البصائر والعقول

فأن جعلنا للمعرفة ثمناً من الحطام أو ثمناً مما يشبه الحطام فهي أذن معرفة اضطراراً أو

ص: 3

معرفة عبيد وأتباع؛ وهي إذن شيء وطبيعة السيادة شيء، ولو نجح صاحبها في السيطرة على الآخرين كما ينجح الجبان في يده المدفع وخصمه أعزل من السلاح

قال الأستاذ طمسون عن آراء أرسطو في علم الأحياء ما معناه: إن الفضل كل الفضل للفيلسوف الإغريقي العظيم أنه شعر بالحاجة إلى مراقبة الحشرات والأسماك في الخلجات، وفهم أن تقييد حركتها وتسجيل ولادتها ونموها معرفة تحسن بالحكيم؛ وليس الفضل أنه أتى بآراء في علم الأحياء يعول عليها الناس في العصر الحديث

ولو أن الفيلسوف الإغريقي لم يشغل عقله في زمانه إلا بما يفيد لتوه وساعته لما وصلنا إلى علم أحياء يفيدنا اليوم، أو لا يفيد

ليست الآفة عندنا أننا مشغولون بالتجارة عن القراءة، فالأوربيون أعظم منا اشتغالا بالتجارة واجتناء لخيراتها

وليست الآفة أن الصحف اللاهية تصرفنا عن كتب العلم والأدب والدراسة، فان الصحف اللاهية سبقتنا في أوربا ويسبقنا بها الأجانب في بلادنا المصرية

ولكنما الآفة أن التجارة تجارتان: تجارة أحرار فهم مسيطرون عليها، وتجارة اتباع فهي مسيطرة عليهم، وأننا إذا طلبنا المال أو المعرفة طلبناهما مسوقين ولم نطلبهما طلب السادة الذين يملكون من أنفسهم بقية يشغلونها بما يحبون

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌تأملات في الأدب والحياة

للأستاذ إسماعيل مظهر

أديب طبعة ثانية

عرضت في كلمة سابقة إلى تلك المعركة القائمة على صفحات الرسالة بين الأدباء حول أدب الأستاذ العقاد وأدب الأستاذ الرافعي رحمه الله؛ وسقت نقدي مساق من لا يبرئ نفسه مما تناول ذلك النقد من رأي واتجاه. فلم أخرج ذاتي من مجال النقد الذي سقت، معترفاً بان ذلك رجوع إلى الحق، واطمئنان إلى اتجاه جديد. ولكن هذا كله لم يرض الأديب سيد قطب فراح يتهكم ويسخر لا ليقول شيئاً جديداً ولا ليحاسب نفسه حساب الرجل القادر على كبح عواطفه ليجعل لعقله بعض القدرة على وزن الموقف بميزان لا يميل مع الهوى ولا ينساق مع الانفعال.

غير أن انفعال الأديب سيد قطب فيما كتب لم يكن ليجعل لعقله محلاً من الأثر في صوغ المعاني التي أرادها، فأخذ يرمي الجمل والكلم ذات اليمين وذات الشمال وعن أمام وعن خلف، شأن الثائر لا شأن الناقد؛ ثم خانته ثورته وخذله انفعاله، فاستيقظ عقله الباطن استيقاظة طفيفة، فرجع إلى قوله:(أنا)، كأنما طبيعته لم تقو على احتمال تلك الثورة ولم تستطع مقاومة ذلك الانفعال، فتبدت في ثوب ذي ألوان - ألقى إليه به قزح وأدبر وانصرف - كان أبين لون فيه ذلك اللون الذي تتخيله من قوله:

(وإننا من أخلص تلاميذ مدرسة هذا الكاتب (أي الأستاذ العقاد) لطريقته، وأشد الناس فهماً لها، واقتناعاً بها، ونسجاً على منوالها)

إذن فالأديب سيد قطب أشد الناس فهماً لأدب الأستاذ العقاد، وليس ذلك فقط فهو أيضاً أشد الناس اقتناعاً بطريقته؛ وليس هذا ولا ذاك فقط، بل هو فوق هذا وفوق ذاك أقدر الناس على النسج على منوال الأستاذ العقاد. وإذن يكون الأديب سيد قطب، أديب طبعة ثانية؛ فهو باعترافه أديب، غير أنه عبارة عن نسخة من أديب آخر؛ أديب شخصية صورة من شخصية أديب آخر، وأدبه لوحة من أدب شخص آخر؛ أديب أسلوبه كالطبعة التي يتركها في الرمل قدم أديب آخر؛ أديب نفسيته وطبعه وذاتيته كالصورة الموهومة التي تلتقطها المصورة الضوئية وتطبعها على الرق المعروف، ولكنها صورة وهمية

ص: 5

هذه الصورة الوهمية، قد أفرغ عليها الأديب سيد قطب صفات وحلاها بفضائل، لا أنكر أنه نسبها إلى الأستاذ العقاد، كما لا أنكر أنه إنما نسبها إلى الأستاذ العقاد، لتكون نسبتها إليه منصرفة بالتبعية إلى (الطبعة الثانية) من الأستاذ العقاد؛ وتلك الطبعة هي الأديب سيد قطب

أما هذه الصفات وتلك الفضائل، فلا أنكر أنها قد فخمت وحليت، حتى إذا لابست أدب الأستاذ العقاد، لابست بالتبعية (طبعة ثانية) سيد قطب. يقول الأديب سيد قطب في مقاله الأخير:

(يعنى العقاد (والأديب سيد قطب باعتباره طبعة ثانية) إمام المدرسة الحديثة (والأديب سيد قطب باعتباره إمام المدرسة الحديثة طبعة ثانية) بالحياة النابضة في ضمائر الأشياء قبل الحياة الظاهرة على سطوحها، ويعني بالحياتين معاً قبل العناية بأشكالها وصورها، ويلتفت للخوالج النفسية قبل أن يلتفت إلى الصور الذهنية، ويعنى بهاتين قبل العناية ببهارج الأسلوب وزخارف الطلاوة)

ثم يقول:

(وللعقاد (والأديب سيد قطب باعتباره طبعة ثانية) عناية بتصحيح مقاييس الأحكام على الطبائع والنفوس) ومنشؤه أنه صاحب (نفس) خاصة، وطبع (أصيل)، فهو لا يتلقى المبادئ والأحكام من الخارج، ولكن يفيض بها من الداخل، ويسمع فيها منطق الحياة الخالدة، ووحي الإنسانية الدائمة، لا منطق الفرد العابر، ولا الجيل القاصر) - ومن عندنا - تعبيرات الاختلاجات المستقوية على النفسانيات في كلمن سعفص قرشت هذا الكلام المغلق بسبعة أبواب كما يقولون، وأشباهه في كلام الأديب سيد قطب كثير وكثير جداً وجداً كثير، هو الذي يحاول أن يجلو به أستاذاً كالعقاد في مجال الكلام عن مذهبه، فإذا به يطمس المعاني ويرسل التعميمات التي لا حدود لها

لتكون حدوداً لمذهب أدبي. غير أن لهذا الأمر حقيقة خفية؛ حقيقة تختفي وراء هذه الضربات القاسية المصمة التي يخرج من هذه الطبلة التي يضرب عليها الأديب سيد قطب. أما هذه الحقيقة فهي أن الأديب قطب لا يتكلم عن الأستاذ العقاد، وإنما يحاول أن يتكلم عن نفسه متخذاً من الأستاذ العقاد دريئة يحتمي بها. كيف لا والأديب سيد قطب (من

ص: 6

أخلص تلاميذ هذا الكاتب لطريقته، وأشد الناس فهماً لها، واقتناعاً بها، ونسجاً على منوالها)؟ أما أن الأديب سيد قطب (أشد الناس فهماً لطريقة الأستاذ العقاد واقتناعاً بها ونسجاً على منوالها) فأمر جدلي، ودعوى من السهل أن يدعيها أي إنسان؛ والدعوى شيء وإثباتها شيء آخر. وأما أنه يتكلم عن الأستاذ العقاد ليتكلم عن نفسه؛ وأما أنه لم يمدح الأستاذ العقاد ألا ليمدح نفسه، وليقول صراحة أنه خليفة العقاد في طريقته وإنه، أشد الناس فهماً لها واقتناعاً بها ونسجاً على منوالها، فدعوى نقولها ونثبتها بكلام ذلك الأديب نفسه.

وحيث أن الأديب سيد قطب أثار النقع متخذاً من خصومة أدبية قديمة بين أديبين ذريعة للكلام في أشياء بعيدة عن مذهبيهما

وحيث أنه نصر الأستاذ العقاد على الأستاذ الرافعي رحمه الله في حماسة متقدة دلت على أنه يحاول من ورائها كسباً أدبياً

وحيث أنه قضى بأن الأستاذ العقاد صاحب مذهب، وأن مناظره لا مذهب له من غير أن يقيم الحجة على ذلك

وحيث أنه أتضح أن السبب في ذلك إنما يرجع إلى غرض خفي هو أن يدعي لنفسه أنه أشد الناس فهماً لطريقة الأستاذ العقاد واقتناعاً بها ونسجاً على منوالها

وحيث أن المنطق يسلم بأنه لم يقصد من وراء ما كتب كله إلا بلوغ هذه الغاية الشخصية، وهو أن يكون خليفة الأستاذ العقاد، محاولاً أن يستل مجد أديب خدم الأدب ربع قرن ليدعيه لنفسه ببضع مقالات

لهذا كله يكون الأديب سيد قطب (طبعة ثانية) ولكنها طبعة مزورة من الأستاذ العقاد

هذا الاستقراء صحيح تحت مسئوليتي ولا أتكلم في هذا الموضوع مرة ثانية. فإن الحقائق التي نمت عنها كلمات الأديب تجعل كل نقاش في الموضوع فاقد القيمة، ما دام أن (أنا) هي المحور الذي تدور من حوله تلك البحوث

عن فولتير

(1)

من أنت؟ ومن أين أتيت؟ وما هو عملك؟ وما الذي سوف يحل بك؟ عامة ذي أسئلة ينبغي أن يفكر فيها كل مخلوق في هذا الوجود؛ ولكن لم يجب عنها كائن ما. أتساءل عن النباتات بأي سر تنمو، وكيف أن الأرض الواحدة تؤتي بالثمر المتباين المختلف؟ إن هذه

ص: 7

الكائنات غير الحساسة - مع إيماني بأنها زودت بسر إلهي - تتركني أمامها شاعراً بالجهل العميق، سابحاً في فروضي العميقة. إني أقف حائراً أمام هذه القطعان الغفيرة من الحيوانات، فكلها ذات قدرة على الحركة والانتقال، وفيها من الاحساسات ما أجد مثله في نفسي، ولها انفعالات تمتد إلى حيث تكون الأفكار والذكريات. ومع هذا فانهم بأنفسهم أجهل مني بنفسي. فلأي شيء وجدوا؟ وإلى أي شيء سوف ينقلبون؟ لقد أظن أن السيارات وتلك الشموس العظيمة التي تملأ رحاب الفضاء يأهل بها مخلوقات مفكرة واعية، ولكن دونها حاجز أبدي يفصلني عنها، فأن واحداً من سكان تلك الكرات العظام، لم يستطع الاتصال بعالمنا

قال رئيس الدير، متجلياً في الطبيعة، للفارس: إن النجوم قد صنعت من أجل الأرض، وإن الأرض والحيوانات صنعت من أجل الإنسان. ولكن هذه الكرة الأرضية الصغيرة إذ تدور مع بقية السيارات من حول الشمس؛ وإن هذه الحركة المنتظمة المنتسقة التي تسيرها الأجرام السماوية إذ ربما تستمر ولو لم يكن ناس؛ وإذ كان في سيارنا الصغير من الحيوانات عدد اعظم من عدد أبناء آدم؛ فقد أتصور أن رئيس الدير قد شمله حب الذات وعمه الغرام بالنفس، فخيل إليه أن كل شيء قد صنع من أجله. وإني لأرى أن الإنسان عرضة لأن يلتهمه أي حيوان إذا لم يتقها بالسلاح، وإن كل الحيوانات تأكله بعد أن يموت. من أجل هذا داخلني الشك في أن رئيس الدير والفارس هما سيدا الطبيعة. وباعتباري كائناً هو يحكم وجوده عبد لكل شيء يحيط به، لا سيداً آمراً مطاعاً؛ كائنا مكبلاً حيث ذهب وكان؛ كائناً تحيط به اللانهايات، أبدأ بحثي عن طبيعة نفسي.

2 -

ضعفنا

إني حيوان ضعيف؛ ولدت بلا قوة وبلا معرفة وبلا غريزة. كنت عديم القدرة حتى على الزحف إلى ثدي أمي، على الضد من كل ذوات الأربع. استوعبت قليلاً من الفكرات، وحزت قليلاً من القوة عندما أخذت أعضائي تبرز وتتكون. ومضت القوة تزيد في، حتى إذا بلغت حداً اكتملت فيه، أخذت من ثم في التناقص. وتلك القوة التي مكنتني من إدراك الفكرات أخذت بدورها تزيد وتستفحل حتى بلغت حدها الأقصى، ثم أخذت تتخاذل بعد ذلك، حتى لأشعر بأنها تفني شيئاً فشيئاً

ص: 8

ما هي تلك القوة الآلية التي تزيد من قدرة أعضائي في حدود هذا الهيكل الجسمي؟ إني لأجهلها. وأولئك الذين قضوا أعمارهم في الفحص عنها، ليسوا أكثر مني معرفة بها.

وما هي تلك القوة الأخرى التي تحمل الصور إلى ذهني، ثم تخزنها في ذاكرتي؟ أما أولئك الذين أجروا بالمال لكي يعرفوا شيئاً، فقد ذهبت كدودهم أدراج الرياح. ونحن وهم في الجهل سواء بالمبادئ الأولية التي تقوم عليها طفولتنا

3 -

كيف أفكر

هل علمتني تلك الكتب التي حبرت في خلال الألفين الفارطين من السنين شيئاً؟ قد تشب في نفوسنا بعض الأحيان رغبة في أن نعرف كيف نفكر، وقلما تقوم في أنفسنا رغبة في أن نعرف كيف نهضم أو كيف نمشي. لقد تساءلت ما هو عقلي؟ والحق أنه سؤال كثيراً ما اربكني

لقد حاولت أن أكشف بقوة عقلي ما إذا كانت المصادر التي تجعلني أهضم وأمشي، هي بنفسها المصادر التي تجعلني أتقبل الفكرات. ولم أستطع أن أدرك كيف وإلى أين تذهب تلك الفكرات عندما يعضني الجوع بنابه السام، وكيف تعود وتتجدد بعد أن أسد نهمة الجوع بالأكل

استبنت فارقاً كبيراً شاسعاً بين الفكر والاغتذاء، بغيره لا أستطيع التفكير، حتى لقد اعتقدت أن في كياني مادة تفكر وأخرى تهضم. ومع هذا وبالرغم من أني رضت نفسي دائماً على الاعتقاد بأن في وجودي شيئين، فإني من الوجهة المادية أشعر شعوراً صادقاً بأنني شيء واحد. على أن هذا التناقض يؤلمني ويؤذيني

سألت بعضهم، وكانوا من أولئك الذين يفلحون الأرض، أمنا العظمى، عما إذا كان كل منهم شيئين، وعما إذا كانوا قد استكشفوا بفلسفتهم الخاصة أن فيهم جوهراً خالداً باقياً، ومع ذلك فهو مؤلف من لا شيء ولا امتداد له، وأنه يؤثر في أعصابهم من غير أن يلمسها، وإن هذا الجوهر قد حل فيهم بعد أن حملت فيهم أمهاتهم بستة أسابيع؟ فظنوا أني أهزل، ومضوا يفلحون الأرض مبتسمين من غير أن يحيروا جواباً

4 -

أمن الضروري أن أعرف

ص: 9

لما أن وجدت أن عدداً عظيما من الناس ليس لهم أية فكرة في تلك المشكلات التي تساورني، وهم مع ذلك لا تختلجهم الشكوك فيما يتلقى في المدارس أو في الوجود عامة أو في المادة أو في الروح إلى غير ذلك؛ ورأيت أنهم يهزءون من رغبتي التي تدفعني إلى معرفة هذه الأشياء واستيعابها، شرعت الريبة تداخلني في ضرورة معرفتها؛ وتخيلت أن الطبيعة قد أعطت لكل مخلوق نصيباً هو حقه الطبيعي غير زائد ولا منقوص، وإذن تكون تلك الأشياء التي لا نستطيع أن نعرفها، ليست من نصيبنا، ولكن بالرغم من هذا اليأس، فأني لا أقدر على أن أجرد نفسي من الرغبة في أن أتعلم، فان حب الاستطلاع نزعة سوف تظل غير مكفية في نفسي.

5 -

أرسطو طاليس وديكارت وغسندي

بدأ أرسطو طاليس كلامه بالقول بأن الشك نبع المعرفة، وتابعه ديكارت فانتقل بهذه النزعة خطوة أخرى حتى لقد علمني كلاهما بألا أعتقد في شيء يقولانه. وديكارت هذا على الأخص بعد أن ادعى أنه يشك، مضى يتكلم بأسلوب تقريري حاسم في أشياء لا يفهمها. يقول أنه موقن بالحقائق، بينما تجده على خطأ كبير في طبعياته. لقد بنى ديكارت عوالم وهمية، فان حلقاته الزوبعية وعناصره الثلاثة، أمور تثير الضحك، حتى لقد أشك فيما قال في النفس، إذا قست علمه بها على علمه بالأجسام

هو يعتقد، أو بالحري يظن أنه يعتقد، أننا نولد مزودين بفكرات غيبية، فهل يحق لي أن أقول بناءً على هذا أن هوميروس قد ولد مزوداً بالإلياذة، وأنها كانت كامنة في تضاعيف ذهنه. مما لاشك فيه أن هوميروس قد ولد وذهنه مهيأ لأن يستوعب فيما بعد فكرات شعرية، بعضها جميل، وبعضها متضارب، وفي بعض الأحيان مصبوغة بالمغالاة، وفي النهاية استطاع أن يؤلف الإلياذة، إننا إنما نولد في هذه الدنيا وفينا البذرة التي تتمخض عما سوف نكون، ولكن الحقيقة أننا نولد وليس فينا من الفكريات الفطرية أكثر مما كان عند روفائيل وميكال انجلو من أقلام وألوان عند مولدهما

يحاول ديكارت أن يوحد بين خيالاته تلك، بأن يفرض بأن الناس يفكرون دائماً. من هنا أستطيع أن أفرض أيضاً أن الطيور تطير على وجه الدوام، وأن الكلاب تجري فلا تقف،

ص: 10

لأن في الطيور القدرة على الطير، وفي الكلاب القدرة على الجري.

إننا لا نحتاج، لكي نقتنع، بما يتناقض هذه الأقوال، إلا لفتة إلى تجاريبنا، وأخرى إلى الطبيعة البشرية، فليس في الإنسانية برمتها واحد بلغ منه الجنون مبلغ أن يعتقد أنه مضى يفكر كل حياته ليلا ونهاراً بغير انقطاع، من يوم أن كان جنيناً حتى مرضه الأخير؛ أما الملجأ الذي يلجأ إليه الذين يدافعون عن تلك الأقصوصة، فقولهم إننا نفكر على الولاء، وبغير انقطاع، من غير أن تدرك أننا نفكر، ومن هنا يمكن أن نقول إننا قد نشرب ونأكل ونركب الخيل من غير أن تدرك أننا فعلنا ذلك؛ وإذا كنت عاجزاً عن أن تدرك أنك تحوز فكرات، فكيف تعتقد أو توقن بأن فيك منها شيء؟ لقد سخر غسندي من هذا المذهب المتطرف، جهد ما يستحق أن يسخر منه. ولكن أتعلم ماذا كانت النتيجة؟ كانت أن ديكارت وغسندي قد رميا بأنهما من الملاحدة المنكرين لله.

إسماعيل مظهر

ص: 11

‌قصة الكلمة المترجمة

(القتل أنفى للقتل)

لأستاذ جليل

- 2 -

قرأ الأستاذ الرافعي رحمه الله كلمة الأستاذ النشاشيبي فأرسل إلى الجريدة بمقالة عنوانها (ليست مترجمة) - البلاغ 20 رجب 1352 - قال فيها:

(قال الأستاذ الكبير محمد إسعاف النشاشيبي في كلمة للبلاغ إن عبارة (القتل أنفى للقتل) ليست بعربية ولا مولدة بل هي مترجمة. ولكن هذه الكلمة لم يشر إلى أصلها غير (الثعالبي) وهو مع ذلك لم يقطع فيها برأي، بل أشار إلى ترجمتها في صيغة من صيغ التمريض المعروفة عند الرواة فقال:(يحكى فيما ترجم عن أردشير) و (يحكى) هذه ليست نصاً في باب الرواية، ولو كانت العبارة مترجمة لتناقلتها الأئمة معزوة إلى قائلها أو لغتها التي قيلت فيها. ولقد ذكرها العسكري في كتابه (الصناعتين) على أنها (من قولهم) أي العرب أو المولدين ونقلها الرازي في تفسيره فقال: إن للعرب في هذا المعنى كلمات منها (قتل البعض إحياء للجميع) وأحسنها (القتل أنفى للقتل) وكذلك جاء بها أبن الأثير، ولم يعزها. وكل ذلك صريح في أن خبر الترجمة ما أنفرد به إلا الثعالبي، ولا يقوم الدليل على ترجمتها إلا بظهور أصلها الفارسي! فان كان علم ذلك عند أحد فليتفضل به مشكوراً مأجوراً)

قلت: هذه أقوال الذين أشار إليهم الأستاذ الرافعي رحمه الله أرويها وغيرها بعدها فوائد يرغب الأدباء في علمها:

قال أبو هلال العسكري في (كتاب الصناعتين): (والإيجاز القصر والحذف، فالقصر تقليل الألفاظ وتكثير المعاني وهو قول الله عز وجل: - ولكم في القصاص حياة - ويتبين فضل هذا الكلام إذا قرنته بما جاء عن العرب في معناه وهو قولهم: (القتل أنفى للقتل) فصار قول القرآن فوق هذا القول لزيادته عليه في الفائدة) ثم بين هذه الزيادة

وقال الرازي في تفسيره (مفاتيح الغيب): (اتفق علماء البيان على أن هذه الآية في الإيجاز

ص: 12

مع جمع المعاني باللغة بالغة إلى أعلى الدرجات، وذلك لأن العرب عبروا عن هذا المعنى بألفاظ كثيرة كقولهم:(قتل البعض إحياء للجميع)، وقول آخرين (أكثروا القتل ليقل القتل)؛ وأجود الألفاظ المنقولة عنهم في هذا الباب قولهم:(القتل أنفى للقتل)؛ ثم إن لفظ القرآن أفصح من هذا، وبيان التفاوت من وجوه) وهي ستة وقد ذكرها، منها:(أن قول القائل: القتل أنفى للقتل لا يفيد إلا الردع عن القتل، وقوله (القصاص حياة) يفيد الردع عن القتل وعن الجرح وغيرهما فهو أجمع للفوائد. إن القتل ظلماً - قتلٌ، مع أنه لا يكون نافياً للقتل. إنما النافي لوقوع القتل هو القتل المخصوص وهو القصاص، فظاهر قولهم باطل، أما الآية فهي صحيحة ظاهراً وتقديراً، فظهر التفاوت بين الآية وبين كلام العرب)

قلت: نسبة الرازي قولهم (قتل البعض إحياء للجميع) إلى العرب باطلة مثل نسبة عبارة القتل إليهم، فقد أطبق الأئمة المحققون على أن العربية الأولى، عربية (الجزيرة) لم تقل في وقت:(الكل والبعض). قال الجوهري في (تاج اللغة وصحاح العربية): (وكل وبعض معرفتان، ولم يجيء عن العرب بالألف واللام، وهو جائر لأن فيهما معنى الإضافة أضفت أو لم تضف) ونقل قول (الصحاح) صاحب (المختار)

وقال أبن منظور في (اللسان): (وقال أبو حائم: قلت للأصمعي: رأيت في كتاب ابن المقفع: (العلم كثير، ولكن أخذ البعض خير من ترك الكل) فأنكره أشد الإنكار، وقال الألف واللام لا يدخلان في بعض وكل لأنهما معرفة بغير ألف ولام. قال أبو حاتم: ولا تقول العرب الكل والبعض وقد أستعمله الناس حتى سيبويه والأخفش في كتبهما لقلة علمهما بهذا النحو فاجتنب ذلك فانه ليس من كلام العرب)

وفي (القاموس): (بعض لا تدخله اللام خلافاً لابن دُرُستُويَه)

وفي (شرح القاموس): (قال أبن سيدة: وفيه مسامحة، وهو في الحقيقة غير جائز. وفي العباب: وقد خالف أبن درستويه الناس قاطبة في عصره. وقال الناقدي:

فتى درستوي إلى خفض

أخطأ في كل وفي بعض

دماغُه عفَّنه نومُه

فصار محتاجاً إلى نفض

وقال أبن أبي الحديد في شرح النهج: (وقد استعملت في كثير فيما يتعلق بكلام المتكلمين والحكماء خاصة ألفاظ القوم مع علمي بأن العربية لا تجيزها نحو قولهم الكل والبعض

ص: 13

والصفات الذاتية والجسمانيات ونحو ذلك مما لا يخفى على من له أدنى أنس بالأدب، ولكنا استهجنا تبديل ألفاظهم فمن كلم قوماً كلمهم باصطلاحهم)

وقد روى أبو العلاء هذا البيت في (رسالة الغفران) لسُحيم:

رأيت الغني والفقير كليهما

إلى الموت يأتي الموت للكل معمداً

لكنه قاله في (الرسالة) قبل ذلك: (وكذلك قوله: الكل (أي قول ابن القارح) إدخاله الألف واللام مكروه، وكان أبو علي يجيزه ويدعي إجازته على سيبويه، فأما الكلام القديم فيفتقد فيه الكل والبعض)

وفي (المصباح): (قال الأزهري وأجاز النحويون إدخال الألف واللام على بعض وكل) وتجويز نحوي لا يثبت عربية قول بل يجيز أن يقوله المولد وإن لم يرد

فقولهم: (قتل البعض إحياء للجميع) مولد محدث، وقد روى الجاحظ في كتاب الحيوان هذا القول: (وقد قالوا: بعض القتل إحياء وبعض العفو إغراء، كما أن بعض المنع إعطاء. وهو كلام حسن من حكم المولدين المنشئين

وقال أبن الأثير في (المثل السائر): وهو - أي الإيجاز بالقصر - أعلى طبقات الإيجاز مكاناً، وأعوزه إمكاناً، وإذا وجد في كلام بعض البلغاء فإنما يوجد شاذاً نادراً. فمن ذلك ما ورد في القرآن الكريم (ولكم في القصاص حياة) فان قوله تعالى (القصاص حياة) لا يمكن التعبير عنه إلا بألفاظ كثيرة. ولا يلتفت إلى ما ورد عن العرب من قولهم:(القتل أنفى للقتل) فان من لا يعلم يظن أن هذا على وزن الآية، وليس كذلك، بل بينهما فرق من ثلاثة أوجه) ثم ذكرها ثم قال: (وقد صاغ أبو تمام هذا المعنى الوارد عن العرب في بعض بيت من شعره فقال:

وأخافكم كي تغمدوا أسيافكم

إن الدم المغبر يحرسه الدم

فقوله: إن الدم المغبر يحرسه الدم أحسن مما ورد عن العرب من قولهم: القتل أنفى للقتل)

وممن مشى وراء غيره في نسبة العبارة الفارسية إلى العرب يحيى بن حمزة صاحب (الطراز) فقد قال: (ومن هذا قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة) فانظر إلى اللفظة الجميلة كم يندرج تحتها من المعاني التي لا يمكن حصرها، ولا ينتهي أحد إلى ضبطها، فأين هذا مما أثر عن العرب من قولهم: القتل أنفى للقتل وقد تميزت الآية عنه بوجوه

ص: 14

ثلاثة) ثم ذكرها

ومنهم الأسيوطي فقد قال في (الإتقان): وقد فضلت (يعني الآية الكريمة) على أوجز ما كان عند العرب في هذا المعنى وهو قولهم (القتل أنفى للقتل) بعشرين وجهاً أو أكثر، وقد أشار أبن الأثير إلى إنكار هذا التفضيل وقال: لا تشبيه بين كلام الخالق وكلام المخلوق وإنما العلماء يقدحون أذهانهم فيما يظهر لهم من ذلك) ثم ذكر العشرين وجهاً

وصاحب (المفتاح) قال: (والعلم في الإيجاز قوله (علت كلمته) - في القصاص حياة - وإصابته المحز بفضله على ما كان عندهم أوجز كلام في هذا المعنى وذلك قولهم: القتل أنفى للقتل)

ونقا القزويني في (التلخيص والإيضاح) كلام المفتاح فقال: (عندهم)

وقد ذكر ابن القطقطي في كتابه (الآداب السلطانية والدول الإسلامية) قول الله وتلك العبارة قال: (قال الله تعالى: (ولكم في القصاص حياة) وقيل: القتل أنفى للقتل) وروى بعد ذلك هذا البيت غير منسوب إلى أحد:

بسفك الدما بجارتي تحقن الدما

وبالقتل تنجو كل نفس من القتل

وهو أفصح من الكلمة الفارسية وأبين وأجود، وهو محدث.

وأضبط الروايات في نسب تلك العبارة رواية (غرر أخبار الفرس وسيرهم) للثعالبي. قال في الصفحة 483: (فصول من كلام أردشير في كل فن: القتل أنفى للقتل الخ)

و (غرر أخبار الفرس وسيرهم) كتاب جليل ترجمه كله أجمع إلى الفرنسية هـ. زتنبرج. وقد قال في ترجمة عبارة أردشير:

ونشرت البلاغ (20 رجب 1352) بعد مقالة الأستاذ الرافعي رحمه الله كلمة للشيخ عبد العزيز الأزهري، عنوانها:(هي عربية) ومما قال فيها:

(نشرتم أمس في صحيفتكم أن جملة (القتل أنفى للقتل) يراها الأستاذ النشاشيبي مترجمة فهي ليست عربية ولا مولدة في رأيه. والذي أراه أنها عربية لما يأتي: أولاً - لأنها وردت بين ثنايا عهد القضاء الذي بعث به سيدنا عمر إلى أبي موسى الأشعري.

ثانياً - لأنها مما يوافق طباع العرب قبل غيرهم موافقة تامة فليسوا بحاجة إلى من

ص: 15

يقرضهم أمثال هذه المعاني التي طفحت بها سيرهم وأملتها الدماء المهراقة بين لابتي الجزيرة العربية. فهي عربية لا مولدة ولا مترجمة، وقد يكون المترجم كلمة أخرى تشبهها هي: الاستعداد للحرب يمنع الحرب! فهذه معقول أن تكون مترجمة وخاصة في العصور الحديثة! لا بالعصور القديمة أو الوسطى التي كانت تضطرم نيران الحروب فيها لأوهى الأسباب)

قلت: قال الشيخ عبد العزيز الأزهري: (بين ثنايا عهد القضاء) والثنايا جمع الثنية. وقال (الصحاح): (والثنية واحدة الثنايا من السن، والثنية طريق العقبة). وقال اللسان: (كل عقبة مسلوكة ثنية وجمعها ثنايا. الثنية من الأضراس أول الفم، وثنايا الإنسان في فمه - الأربع في مقدم فيه، والثني من الإبل الذي يلقي ثنيتة، وذلك في السادسة، ومن الغنم الداخل في السنة الثالثة تيساً كان أو كبشاً)

فلا ريب أن الشيخ يريد أن يقول: (في أثناء عهد القضاء) و (الثني واحد أثناء الشيء أي تضاعيفه. تقول: أنفذت كذا في ثني كتابي) كما قال (الصحاح)، وفي (الأساس):(ومن المجاز في أضعاف الكتاب: في أثنائه وأوساطه)

وقال الشيخ عبد العزيز: (بين لابتي الجزيرة العربية)، والجزيرة العربية ليست بين لا بتين وإن كانت فيها لوب كثيرة. وتخومها في البر والبحر معلومة. والتي بين لابتين هي المدينة، يثرب، مُهاجَر سيدنا ومولانا رسول الله (صلوات الله وسلامه عليه). وفي الحديث:(إنه حرم ما بين لابتيه المدينة) وهما حرتان يكتنفانها. قال صاحب (النهاية): (اللابة الحرة وهي الأرض ذات الحجارة السود التي قد ألبستها لكثرتها وجمعها لابات، فإذا كثرت فهي اللاب واللوب مثل قارة وقار وقور، وألفها منقلبة عن واو. والمدينة ما بين حرتين عظيمتين)

(للقصة بقية)

(* * *)

ص: 16

‌جورجياس

لأفلاطون

للأستاذ محمد حسن ظاظا

- 1 -

(تنزل (جورجياس) من آثار أفلاطون منزلة الشرف لأنها

أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلا)

للفلسفة)

(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة دائماً وتنتصر لأنها أقوى وأقدر

من جميع الهادمين!)

(جورجياس - أفلاطون)

نبدأ اليوم فنقدم لقراء الرسالة الغراء ترجمة (محاورة جورجياس لأفلاطون) وهي من أجمل وأكمل محاورات الفيلسوف الخالدة إن لم تكن أجملها وأكملها جميعاً كما يقول الأستاذ (رينوفيير)؛ ولقد شئنا أن نختار هذه المحاورة على وجه خاص لأننا وجدنا فيها الكثير الجم من تلك المبادئ الخالدة التي هي جديرة تماماً بإنقاذ العالم من بحر المادية الصاخب الذي يغرق فيه اليوم، ومن تلك الفوضى الاجتماعية والسياسية والفكرية التي يعاني منها أشد العناء وينتحر على مذبحها انتحاراً أليماً!! ولما كان الكثير من القراء لا يعرف شيئاً عن هذه المحاورة فقد قصرنا هذا المقال على التعريف بها

مقدمة

ولد أفلاطون حوالي عام 427 ق. م في أسرة أرستقراطية عريقة. وشغف أثناء حداثته بالشعر، ثم ما لبث أن تركه بعد أن عرف أستاذه سقراط وأعجب به وبحواره العذب الطريف؛ وقد شهد في عصره عهد فوضى الحكومات الأرستقراطية والديمقراطية، كما

ص: 17

رأى الكثير من أحوال أولئك السفسطائيين الذي كانوا ينادون بأن الفرد مقياس كل شيء! وبأن الحواس أساس المعرفة! وبأن حقائق الأشياء لا يمكن أن تعرف معرفة يقينية! بل والذين كانوا يعلمون أبناء الأثرياء الفصاحة والبيان ليجعلوا منهم خطباء قادرين على إقناع الناس واستهوائهم آناً بالباطل وآناً بالحق، كيما يفوزوا بمناصب الدولة وببعد الصيت وكيما يستطيعوا أن يدافعوا عن أنفسهم ويبرروا سلوكهم إزاء هجمات الخصوم والمنافسين، وأمام القضاة والجماهير!

شهد أفلاطون ذلك كله وسمع بإذنيه قول القائلين بأن القوة حق!، ورأى بعينيه كيف زج (الشعب) بأستاذه العظيم سقراط في السجن وكيف راح يستمع إلى تمويه (أصحاب الدعوى) ويصم أذنيه عن صرخة الحق التي كان يجلجل بها صوت ذلك الأستاذ المظلوم!. فكان لنا منه تلك المحاورات الكثيرة التي جعل بطلها سقراط، والتي تناول فيها أولئك السفسطائيين بالسخرية والتصوير، والتي دعا فيها إلى تلك المبادئ التي كانت ولم تزل ولن تزال نوراً تهتدي الإنسانية بضوئه الساطع في مجال العلم والفن، والسياسة والاجتماع، والآداب والأخلاق على السواء

أما (جورجياس) فكان من أئمة السفسطائيين ومن أشهر خطبائهم ومعلميهم. ولد سنة 485 ق. م. وزار أثينا حوالي سنة 424 ق. م. وكان يدعي أن في استطاعته أن يجيب على كل سؤال!، وكان يقول إنه ليس من الضروري أن تعلم شيئاً عن الموضوع لتجيب عن الأسئلة التي توجه إليك بشأنه!؛ ولقد حاول بعد هذا أن يثبت في كتابه (اللاوجود) أنه لا يوجد شيء!، وإذا وجد فلا سبيل إلى معرفته!، وإذا أمكن أن يعرف فلا سبيل إلى إيصاله للغير!!

لذلك نرى أفلاطون يكتب عنه محاورة خاصة هي المحاورة التي نبدأ بتقديمها اليوم للقراء الأعزاء. وقد نقلت هذه المحاورة إلى جميع اللغات الهامة كسائر محاورات أفلاطون. والترجمة التي سنعتمد عليها هنا هي الترجمة الفرنسية للدكتور (بول لمير أستاذ الفلسفة المعروف. ولكنا نرجو على أية حال أن تصلنا قريباً ترجمة أخرى من باريس كيما نقارن الترجمتين ونخرج منهما بالنص المضبوط

وقد جاء في مقدمة هذه الترجمة للأستاذ (بول) ما يلي:

موضوع المحاورة

ص: 18

(يصعب جداً تحديد الوقت الذي تحدث فيه سقراط مع السفسطائي، وربما كان ذلك أثناء زيارة جورجياس لأثينا. وتعتبر هذه المحاورة من المحاورات التي ألفها أفلاطون في شبابه. وهي تبدأ بوصول كل من سقراط وشيرون متأخراً، وكانا يريدان سماع محاضرة لجورجياس

ومن ثم يريد سقراط أن يعرف من المحاضر مفتاح فنه وطبيعة تعاليمه، فيطلب منه المناقشة. أما موضوع المحاورة فهو فن البيان ويريد أفلاطون أنه فن إقناع الناس بالحق والعدل لا بالباطل والظلم، كما يرى أن وسائله في الإقناع كثيرة، إذ أنه أما أن يضع الظواهر مكان الحقائق ويشير إلى الحواس والخيال والشهوات ثم العقل، وإما أن يشير إلى العقل ولكن بالمنطق السفسطائي الزائف كيما يخدعه. وبهذا يقتنع الشعب الوادع الجاهل، المخدوع دائماً بأولئك (الاستغلاليين) الذين يتملقونه!؛ والبيان بهاتين الوسيلتين دنيء حقير لا يعدو (فن الطبخ) في كثير! ولا يخرج على أن يكون خطاباً زائفاً منصباً على اللذائذ والشهوات فحسب؛ أما البيان الرفيع الصحيح فهو الذي يعني فقط بنصرة الحق والعدل؛ وتلك هي الناحية الإيجابية في المحاورة، ذلك أن الخطيب الحق عند أفلاطون، هو ذلك الصادق العادل الذي يستعين بالفلسفة في دراسة العدالة ونشرها، والذي يدعو لأن نكون أخيارا في السر والعلن، ولأن نكون عادلين دون أن نطمع في الجزاء!

(ولم يكن أشجع بعد هذا ولا أجرأ من أن يعلن أفلاطون في وقت اختفت فيه فكرة الواجب وانتهكت حرمة النظم والقوانين بالبلاد اليونانية، أن الأخلاق الفاضلة تحيا دائماً وتسود لأنها أقوى وأقدر من جميع الهادمين!، بل لم يكن أعظم ولا أجمل من أن تشيع هذه اللهجة السامية في جمهور متكبر اعتاد السياسيون أن يتملقوه، وامتلأ إيماناً (بحقه الأعلى) في شئون الدولة الصغيرة والكبيرة بغير استثناء!)

تحليل المحاورة:

أما الأستاذ (رينوفيير فقد حلل المحاورة تحليلا بديعا في كتابه ، ، ولذلك قد آثرنا أن نقدم هذا التحليل للقراء كيما نعدهم للترجمة أتم إعداد:

يقول (الظلم أفدح الشرور، وارتكابه أفدح من احتماله! وذلك هو الموضوع الذي يدعمه

ص: 19

سقراط ويدافع عنه أمام ثلاثة من السفسطائيين!، أحدهم جورجياس أستاذ البيان، وكان يدعي أنه يعلم الناس العدالة وأنه يعرفها حق المعرفة، ولكنه كان يقول أن البيان يعلمنا كيف نقنع الناس بالعدل والظلم، وكيف ندهشهم ونذهلهم ونظللهم ونحكمهم!؛ ولذلك يريه سقراط أنه يجهل العدل. فيتقدم إليه متحدث آخر بحماس، ويقول له انه يعترف بأنه لا يعلم الناس العدالة وإنما يعلمهم فن القوة والسعادة، وإنه يعتبر ظالماً جباراً (كأرشليوس)(الذي قتل أخاه وعمه وأبن عمه ليصل إلى العرش) - أسعد الناس. . . فما يلبث سقراط أن يقرر أن الظلم شر، وأن العقاب بسببه خير، وأن أسوأ النفوس وأشقاها هي تلك التي تكون غارقة في بحر الظلم وتأبى مع ذلك أن ينقذها منقذ يبعدها عن العقاب!، وهنا يشك السفسطائي الثالث في أن سقراط يعني حقاً ما يقول و. . .، ثم يعلن أن الأفضل لنا هو أن نكون ذلك (الهرقل) الذي تصبح إرادته قانونا!، وان الضعفاء هم الذين يسنون القوانين ويسمونها عدلاً!. . .، وأن العدل في الطبيعة هو حق (الأقوى والأحسن) فيسائله سقراط: إذا كان الأمر كذلك فهل تصبح إرادة (الجماعة) عدلا مادامت هي الأقوى؟)

وهكذا يأخذ سقراط في إحراج المتحدثين الثلاثة وفي تضييق الخناق عليهم حتى يفسد عليهم حججهم، ويعلن (أننا نستطيع أن نستمد من العقل كل ما هو مشروع بالنسبة للجماعة والفرد، وأن الشخص العفيف يكون عادلاً وطيباً وشجاعاً، وأن غير العفيف يكون شقياً لا صديق له من الله والناس، لأنه خارج عن نطاق ذلك الكون الذي قد ربط الحب بين أرضه وسمائه وآلهته وأناسه بصلات وثيقة اقتضاها نظامه العام؛ فالظلم إذن أفدح الشرور لمن يرتكبه، ولن يكون سقراط العادل شقياً في يوم من الأيام، لن ُيسرق أو يجلد أو يباع بيع الرقيق، ولكن الذي يشقى ويذل هو الذي يسرقه أو يجلده أو يبيعه بيع الرقيق!. . .

(لهذا يجب أن نحفظ أنفسنا من ذلك الشر. . . وأن نكسب الفضيلة بكل ثمن، وأن نبحث عن فن يساعدنا على ذلك الاكتساب ونمضي حياتنا في دراسته. . . الخ)

وتنتهي المحاورة بخرافة كما تنتهي أغلب محاورات أفلاطون. وهو يصور لنا في هذه الخرافة ما تلقاه النفوس الظالمة الشريرة من عذاب الجحيم!

فإلى اللقاء حيث أقدم لك أشخاص المحاورة وأبدأ الترجمة بعد إذ قدمت لها بتلك المقدمة

(يتبع)

ص: 20

محمد حسن ظاظا

ص: 21

‌حول أصل قاسم أمين

للأستاذ محمد حسن البرازي

قرأت في العدد رقم 255 من الرسالة الغراء مقالة الأستاذ الجليل الذي أجهل أسمه - فهو لا يوقع أسمه - وأقر بفضله وأعجب بأدبه وسعة معارفه ودقة ملاحظاته. وعنوانها (قاسم أمين، هل كان كردياً؟) وكنت أطلعت قبل ذلك على قصيدة الأستاذ الجارم بك

أما بيت القصيدة الذي يشير إلى أصل قاسم أمين الكردي:

يا فتى الكرد، كم بززت رجالاً

من صميم الحمى ومن أعرابه

فقد كنت، شأن الأستاذ الجليل، استعجبت منه ومن قائله؛ ولكن عجبي قد يختلف عن عجب الأستاذ بعض الاختلاف.

تعجبت من هذا القول، بل استنكرته، لأن فيه استخفافاً بقوم من الأقوام، فكأن الأستاذ الجارم سامحه الله يقول في بيته:

(على الرغم من أنك كردي، أيها القاسم الأمين، فقد فقت العرب، وعلى الرغم من أنك غريب فقد سبقت أهل البلاد).

إنني لا أدري إذا كان قاسم أمين كردي الأصل حقاً أم عربياً. ولكني أستفظع أن ينقص أصله لأنه كردي. فالكرد ليسوا من حيث المواهب والمؤهلات دون غيرهم من الشعوب. ولئن كنت أسلم مع الأستاذ الجليل ويسلم كل رجل يدين بالديمقراطية ويخضع لسلطان العقل والعلم، بأن (المرء بفضله لا بأصله) وأن (الإنسان - كما قال بديع الزمان - من حيث يوجد لا من حيث يولد). بيد أني لا أرى مجالاً لهذا الاستشهاد بصدد أصل قاسم أمين، لأنه ليس يزري بقاسم أمين أن يكون كردياً لا من حيث العلم والفضل، بل من حيث المنبت والأصل.

فهل طيب الأرومة وكرم العنصر وقف على قوم دون قوم وعرق دون عرق؟

إنني كما ينتقد الأستاذ الجليل من يقول من أبناء فرنسا مباهياً (أنا فرنسي، أنا ابن الغول) آخذ أيضاً على كل من يقول من المتكلمين بالعربية: (أنا عربي أنا من نسل قحطان أو عدنان) بمعرض المفاخرة على غيره من أبناء العربية المستعربين، أكراداً كانوا بالنسب، أم شراكسة، ألباناً أم صقليين.

ص: 22

إنها العصبية تسربت إلى الأستاذ الجارم في بيته (يا فتى الكرد) والعصبية نزعة قديمة بعثت حديثاً في بعض البلاد، كافحتها في القديم الأديان السماوية العالمية كالإسلام، والنصرانية، وتحاربها الآن جميع المذاهب التي ترمي إلى التقريب بين بني الإنسان وإحلال الوئام والسلام محل البغضاء والخصام

لقد كانت العصبية في الجاهلية مبدأ سائداً تقوم عليه الحياة الاجتماعية والسياسية فقد كانت الوحدة القبلية قبل الإسلام شبيهة بالرابطة تجمع بين أفراد الدولة الواحدة في عهدنا هذا. وقد بعثت العصبية من جديد في عهد بني أمية، بالرغم من مخالفتها روح الإسلام لغاية سياسية، خلاصتها دعم العرش الأموي ومقاومة خصوم الأمويين من آل البيت الذين كان أكثر دعاتهم وأقوى أنصارهم من غير العرب وجلهم من الفرس والأكراد.

اضمحلت العصبية بعد بني أمية. ولم يعد لها أثر يذكر إلا في الأدب العربي. وخاصة في الشعر لأسباب لا محل لتفصيلها الآن أجلها تقليد الأوائل ولا سيما الجاهليين

ولئن قامت في بعض البلاد الأوربية نزعات ومذاهب تشبه العصبية العربية كالقومية. في ألمانيا فهي تبرر عند أربابها على الأقل بأسباب حيوية لا نظير لها في البلاد العربية - ما خلا فلسطين التي نزلت بها من الصهيونية نازلة خاصة - فقد يكون للألمان بعض العذر بأن يتسلحوا بالقومية لمناوأة اليهود. لأن اليهود يتظاهرون في كل بلد يقيمون فيه بأنهم من صميم أهله في حين أنهم رغم السنين والقرون تمر عليهم، ورغم ما يفيدون من البلاد التي تلقتهم وآباءهم قبلهم من حقوق سياسية ومدنية يظلون يهوداً قومياً وعاطفياً تجمعهم جامعة قومية يهودية، ويبقون أمة داخل أمة. على أن العصبية أو القومية - أنى كانت وفي أي زمن وجدت - إذ تتخذ شكل رجحان عرق على عرق وجنس على جنس، ممقوتة ظالمة، خاطئة تنقضها الفكرة الحرة ويفندها العلم وتستنكرها المثل العليا الإنسانية.

لقد قام الإسلام الذي يدين به أكثر العرب على أساس غير قومي، فدين الإسلام كما قلنا فيما تقدم عالمي لا قومي، ومحمد (ص) لم يرسل للعرب وحدهم بل أرسل للبشر عامة، ولا فضل في نظر صاحب الرسالة (لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى). ولكم نهى النبي (ص) عن العصبية بالتصريح، فقال (ليس منا من دعا إلى عصبية أو قاتل عصبية).

ص: 23

فاستحقار الأقوام غير العربية بالنسبة للعرب لا يقره إذن الإسلام الذي رفع من شأن العرب وأكسبهم مجدهم الخالد.

وفي نظر علماء الاجتماع والمتشرعين ما خلا الألمان لا تقوم الأمة على العرق والجنس، بل عن ما يكون الأمة حقاً الآن بعد أن ضعفت الرابطة الدينية، ولم يعد الدين العنصر المؤلف للأمم، هو الرضاء والرغبة في العيش عيشة مشتركة في الحاضر، مضافة إلى ذكريات ماضية مشتركة، وآمال مستقبلة واحدة (نظرية رنان) إذن فلا الإسلام يقر مبدأ القومية وتفوق قوم على قوم أو جنس على جنس، ولا العلم الحديث والمثل العليا الإنسانية تؤيد هذا المبدأ وهذه النظرية

ولئن كنا نستنكر ادعاء فئة من الغربيين تفوق العرق الآري - والكرد آريون - على العرق السامي، فأننا نأنف أيضاً من الاعتقاد يرجحان السامي على الآري. فاستحقار الأقوام غير العربية بالنسبة للعرب لا يقره الإسلام الذي رفع من قدر العرب وأكسبهم مجدهم الخالد، ولا يقبله العلم، ولا يرضى عنه الشعور الإنساني. بل أن فكرة الوحدة العربية التي تعلق عليها الأمم العربية آمالها لتحرر وتقوي وتستعيد مجدها الغابر، لا يمكن أن تتخذ العصبية أو القومية لها سلماً. وليس من العقل والحكمة في شيء أن يلهج بصددها بفكرة الجنس والعرق لأن الأقوام الآهلة بها البلاد الناطقة بالضاد مؤلفة من شتيت من الأجناس والأعراق. فالرابطة التي توحد بين أفراد كل أمة من هذه الأمم العربية ليست العصبية أو القومية، والجامعة التي تقرب بين الدول والأقطار العربية لا يمكن أن تكون آصرة جنسية، بل أنها رابطة سياسية عاطفية، قائمة على الإرادة والشعور والمصلحة

أردت من عرض هذه الفكرة أو التذكير بها - لأنها ليست مجهولة - أن أؤيد ما جاء به الأستاذ الجليل من تفنيد التفريق بين أفراد الأمة الواحدة بحسب أصولهم، وأبين الخطأ في النظر - لقاسم أمين إذا عد كردياً - ولكل من يحسب غير عربي من أشباهه كرجل خامل بنسبه وإن كان نابهاً بحسبه.

فليس يضر القاسم الأمين رحمه الله أو غيره من رجال الأمم العربية أن يكون أصله كردياً، بعد أن كان أمثال صلاح الدين بطل الشرق والإسلام والعرب، وكثير ممن تلاه من الملوك الأيوبيين ذوي الفضل العميم على مصر والشام أكراداً؛ بل له الفخر كل الفخر إذا جاز

ص: 24

لإنسان أن يفخر بأصله بجانب فضله أن يمت بالنسب إلى قوم أخرجوا أمثال هؤلاء الرجال وأشباه أولئك الأبطال الذين ما زال تاريخ العرب والإسلام والإنسانية يباهي بعظمتهم وعبقريتهم.

هذا وإني على يقين من أن الأستاذ العالم الجارم لم يقل البيت الذي حملنا على كتابة هذه الكلمة عن عصبيته، أو إيمان بمذهب (القومية) بل اعتقادي أنه نظم هذا البيت من قصيدته تأثراً من نغمة طالما سمعها في شعر العرب، وتلذذاً من حيث لا يشعر بالطباق بين العجم (أو الكرد) والأعراب. وقصيدة شاعرنا اللغوي النحوي في جلالة الملك فاروق سليل الأسرة العلوية الألبانية الأصل التي حبت مصر مجداً طريفاً يضاف إلى مجدها التالد، دليل على أن العرب العاربة والعرب المستعربة في نظره سواء.

دمشق

محمد محسن البرازي

دكتور في الحقوق وأستاذ في الجامعة السورية

ص: 25

‌يبن الغرب والشرق

للدكتور إسماعيل أحمد أدهم

تتمة

كان ذلك منذ أشهر وكنت أحاضر جمهوراً من الأدباء بكلية الليسيه بالإسكندرية، وكان موضوع المحاضرة (الحياة الإنسانية بين قضاء وقدر الشرق ومذاهب الغرب في حرية الإرادة). وقد جاء في محاضرتي كلام جيد عن الفروق بين أهل الشرق وبين أهل الغرب، لهذا رجعت وأنا أجول جولتي في كلام مناظري الفاضل إليها آخذ منها لردي على المناظر ما أراه ذا صلة وثيقة بالمسألة التي أثارها في العلم والثقافة.

قلت في محاضرتي ما نصه:

(هنالك فرق أساسي في منطق التفكير بين الشرقي والغربي، وهذا الفرق ينحصر في أن الشرقي يبدأ بحثه من الوحدة المتجلية حوله فينتهي للخالق ومنه للطبيعة. بعكس الغربي الذي يبدأ بحثه من التغاير الذي يكتنفه فينتهي للطبيعة ومنها للخالق)

هذا الفرق المشهود في أن الشرقي يبدأ من عالم الغيب لينتهي للعالم المنظور، بعكس الغربي الذي يبدأ من عالم المنظور لينتهي لعالم الغيب - كان سبباً لظهور اللاهوت عند الشرقيين والفلسفة عند الغربيين.

وهذا التباين في منزع التفكير ذهب بالعقل الشرقي إلى الاعتقاد بأن العالم حادث كما انتهى إلى أنه قديم عند الغربيين، ذلك أن الشرقي بدأ بحثه من الخالق فانتهى كما انتهى متكلمة المسلمين إلى أن العالم حادث وأن الخالق مطلق التصرف في الكون منفصل عنه ومدبر له، وأنه السبب لكل ما يحدث والعلة الأولى والأخيرة لكل ما يكون وما سيكون، بينما البحث عن التغاير المشهود في الكون يدفع بالأخذ بأساليب الاستقراء والمشاهدة إلى جانب أسلوب الاستنتاج والنظر، وهذا كله ينتهي بالإنسان كما انتهى بمفكري الغرب إلى أن لكل حادثة سبباً في الكون، وأن للعالم وحدته وانسجامه، وأنه خاضع لنواميس وسنن ثابتة لا تتغير لا في الزمان ولا في المكان، فإذا انتهى إلى الله قيده بهذه السنن والنواميس، وتصبح بذلك إرادة الله مقيدة بنظام هذا الكون وأفعاله قائمة على عنصر اللزوم والاضطرار.

والإنسان من حيث هو كائن في العلم المنظور، فهو في نظر الشرقي خاضع لإرادة عليا،

ص: 26

هي إرادة الخلق الحرة، هو الذي يقضي فيكون ويقدر فيحدث. وهذه فكرة القضاء والقدر عند الشرقيين، فإذا قضى الله أمراً فلا مرد لقضائه، وإذا أراد شيئاً قال له كن فيكون. غير أن الإرادة الإلهية لا تتعلق بالأمر الذي قضي بوقوعه إلا إذا تعلقت به إرادة الإنسان المخلوق الذي وهبه الخالق حرية الإرادة، في أن تتعلق بالأشياء فكأن للإنسان اختياراً، غير أنه عند النظر مقيد بالعلم الإلهي الأزلي وبتعلق الإرادة الإلهية لترجح.

أما في نظر الغربي فالإنسان وإن كان يتبع في تصرفاته وسلوكه نواميس الحياة ويخضع لها، فإن في قدرة الإنسان تغيير المقدر له عن طريق معرفة النواميس المتحكمة في وجوده والعمل على إيجاد الملاءمة بين حاجات الإنسان في الحياة ومطالبه في الوجود، وبين المقدر له عن طريق تغييره يتكافأ وصالحه.

وخلاصة القول أن قي الشرق استسلاماً محضا للغيب، والغرب نضالا محضا مع قوى الغيب، وبين منطق الغرب وروح الشرق تسير البشرية في قافلة الحياة.

هذا الكلام الذي لخصت فيه في ختام محاضرتي كل ما قلته في ذلك المساء، أجده بليغاً في الرد على مزاعم مناظري الفاضل.

وخشية أن يقف بعض الناس عند ظاهر هذا القول فلا ينزلون إلى أغواره القصية، أحب أن ألفت أنظارهم إلى أشياء.

1 -

إن ما نعنيه باصطلاح الشرق والغرب لا يقوم على أساس من تقسيم العالم إلى شرق وغرب في تقويم البلدان، وإنما ترجع التفرقة عندنا إلى ما نلمسه من طابع ذهني للغرب ومنزع ثقافي للشرق، على اعتبار أن هذا الطابع عام للغرب وذلك المنزع عام للشرق. غير أن هذا لا يمنع أن نجد مجتمعاً غربياً ينزع منزع الذهن الشرقي في قلب أوروبا في زمن من أزمنة التاريخ نتيجة لغلبة الطابع الشرقي لأسباب خارجة وطارئة على المحيط الاجتماعي والبيئة الطبيعية، فمثلاً يمكننا أن نقول إن طابع التفكير في القرون الوسطى في أوروبا كان شرقياً في العموم لغلبة المنزع الشرقي على الطابع الغربي نتيجة لبلوغ المنزع الشرقي شغاف أوربا وغزوها الغرب مع الدين المسيحي.

2 -

إن هذا المنزع الثقافي والطابع الذهني لكل من الشرق والغرب إذا اعتبرناه. من الخصائص الأولية لشعوب الشرق والغرب، فذلك لا يرجع لعوامل بيولوجية أو

ص: 27

انتروبولوجية كما حاول أن يثبتها بعض مفكري القرن التاسع عشر، إنما هي ترجع لأسباب طارئة على المحيط الطبيعي والبيئة الاجتماعية فلهذا لا يرد علينا بما كتبه المناظر في الرد على غوبنيو.

3 -

إن الفلسفة الإسلامية التي ظهرت على يد الفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم من أعلام الفلسفة الإسلامية ليست شرقية الروح لأنها وليدة الفلسفة اليونانية والمنطق اليوناني. ويمكنك بكل سهولة أن تنزل بخطوط فلسفة فلاسفة الإسلام لأصولها عن أفلاطون وأرسطو وفلاسفة الإسكندرية من الأفلوطنيين، فمن هنا لا يعترض علينا بأن هنالك من الفلاسفة الشرقيين من علقوا إرادة الخالق بسنن الوجود وقوانين الكون. كذلك لا يعترض علينا بالجانب العلمي من الثقافة السلامية لأنها نتيجة الأخذ بأساليب الفكر اليوناني.

هذه أوليات ألفت إليها الأنظار حتى أكفي نفسي مقدماً الرد على ما سيثار حولها من رد وجدال.

قد يكون من الأهمية في مكان أن أستطرد قليلاً هنا وأنقل بعض فقرات من الأستاذ الحكيم استشهد بها على صحة ما أرى من الفرق بين منزع الفكر الغربي وطابع الذهن الشرقي.

يقول الأستاذ توفيق الحكيم:

(إن الشرق قد حل معضلة وجود أغنياء وفقراء وسعداء وتعساء على هذه الأرض في يوم ما، هذا لا ريب فيه. إن أنبياء الشرق قد فهموا أن المساواة لا يمكن أن تقوم على هذه الأرض وأنه ليس في مقدورهم تقسيم مملكة الأرض بين الأغنياء والفقراء فأدخلوا في القسمة مملكة السماء، وجعلوا أساس التوزيع بين الناس الأرض والسماء معاً، فمن حرم الحظ في جنة الدنيا فحقه محفوظ في جنة السماء. هذا جميل. ولو استمرت هذه المبادئ وبقيت هذه العقائد حتى اليوم لما إلى العالم كله في هذه الأتون المضطرم).

إن مذاهب الغرب حينما نزلت الميدان تحاول إصلاح الحياة ألقت قنبلة المادية والبغضاء واللهفة والعجلة بين الناس. لقد أفهمت الناس أنه ليس هنالك غير الأرض، يوم أخرجت السماء من الحساب، ذلك أن علم الاقتصاد الحديث لا يعرف السماء. أما أنبياء الشرق فقد القوا زهرة الصبر والأمل في النفوس يوم قالوا للناس لا تتهالكوا على الأرض، ليست الأرض كل شيء. إن هنالك شيئاً آخر غير الأرض يدخل في التوزيع)

ص: 28

وليس من شأني هنا أن أرد على الأستاذ الحكيم آراءه وأقول له بأننا ما دمنا في الحياة فيجب أن نعمل من أجلها ومن أجلها وحدها. . . اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، وإننا إذا لم نحل مشاكلنا على هذه الأرض فلن نحلها في وقت من الأوقات ولن تحل!

ليس هذا ما يعنيني؛ أما الذي يعنيني من هذا الكلام أن أستوضح الفرق وأستبينه بين منطق الغرب ألا ثباتي وروح الشرق الغيبي بملاحظة أن المنطق العربي ينظر للحياة الإنسانية كما هي، وعن طريق العقل وحده يحاول معرفة حقيقته وتنظيم الصلات بين أفراد المجموع البشري. بعكس الذهن الشرقي الذي يدخل عنصراً غيبياً في الحياة الإنسانية، وعن طريق هذا العنصر الغيبي يحاول تفسير الحياة وتنظيم الصلات الإنسانية وإقامة العلاقات بين أفراد الهيئة الإنسانية.

ولنا أن نخلص من هذا كله بأن الثقافة الغربية إنسانية وإنها انتمت إلى المرحلة الأخيرة من مراحل التفكير الإنساني الذي كشف عنه أوغست كونت، بعكس الثقافة الشرقية التي وقفت عند حدود المرحلة الثانية حيث يمتزج فيها العالم المنظور بعالم ما وراء المنظور.

وإذن من الخطأ التفريق بين مفهوم الثقافة ومفهوم العلم الوضعي باعتبار أن الثاني عام والأولى خاصة كما يريد أن يثبت مناظري الفاضل، والصحيح أن يقال إن العلم الوضعي رغم أنه عام يقوم بمنهجه الثقافي، وإن العلم يتلون (بروح الأمة) وهذا ما نلمسه نحن المشتغلين بمسائل العلم من قيام مدارس علمية في أمم متباينة الروح فتخرج متباينة المذاهب والطرائق والاتجاهات؛ ولا أدل على ذلك مما نراه من مدارس في العلم، كل تحمل اسم أمة بعينها. مثال ذلك المدرسة الألمانية والمدرسة الفرنسية في الرياضيات والطبيعيات وبقية فروع العلم مما يعرفه كل من درس العلم في أوربا في جامعاتها الكبرى.

إذا صح ما ذكرته كله ولا أخاله إلا صحيحاً - فمن العجيب أن يناقشنا الأستاذ فليكس فارس الرأي فيما قلناه من كون الثقافة الشرقية ذاتية بكلام يلقيه على عواهنه دون أن ينظر إلى ما قدمناه من أدلة استفاضت بها كلمتنا التي أدلينا بها في مناظرتنا معه والتي شغلت أكثر من ثلاث صفحات من النص الذي نشرته (المجلة الجديدة). ومع ذلك أحب أن أنظر في كلام مناظري الفاضل، وأول شيء ألمسه أنه يعترف ضمناً بما نقول حيث كتب يقول:

(ومما يجدر ذكره هو أن العرب حين اقتبسوا من تراث اليونان ما يعززون به تفكيرهم

ص: 29

العلمي لم تستهويهم الثقافة اليونانية ولا حضارتهم الأدبية إذ أحسوا ما بين الحضارة التي كانت تتمخض في شعورهم وتقديرهم للحياة وبين حضارة اليونان الاجتماعية من مهاو سحيقة فأعرضوا عن شعرهم وموسيقاهم ونظم اجتماعهم لذلك لا تجد في شعر العرب شيئاً من إبهام بيندار وأورببيد وهوميروس)

وأنت ترى مناظرنا يعترف بأن العرب لم يتقبلوا تراث اليونان الأدبي، لوجود مهاو سحيقة بينهم وبين ثقافة اليونان التقليدية التي احتضنها روح اليونان، وهذا ما نقوله ونشرحه بأن ثقافة العرب ذاتية وأن الثقافة موضوعية عند اليونان. ولهذا لن تجد في الأدب العربي شعراً قصصياً ولا شعراً تمثيلياً ولا شعراً تصويرياً لأن القصص والتمثيل والتصوير يستلزم الانسحاب من آفاق الذات إلى رحاب الموضوعية، وليس هذا في مكنة الذهنية العربية كما شرحنا ذلك في توطئة كتابنا (الزهاوي الشاعر) الذي صدر منذ عام وفي دراستنا الإنجليزية لشعر الدكتور أبو شادي.

يتساءل مناظري بعد ذلك أين كانت العقلية الغربية قبل عصر النهضة - الرينسانس - أيام كانت الحضارة العربية تحتضن العلوم القديمة، ويسبقنا بالجواب فيقول: إنهم كانوا يغطون في نومهم، ولم تزل تراود أحلامهم الآلهة التي خلقتها عقلية التعاون فيهم، فبلغ عدد هؤلاء الآلهة ثمانية آلاف في الأساطير. وأقول أنا رداً عليه: إنه لو قلب وجوه النظر في ما أدليت به في مناظرتي ما يجده منشوراً بالمجلة الجديدة، فانه ليجد الجواب موجوداً على ما أراده، وإذا أراد أن ننقل له الكلام بحرفه نقلناه.

قلناه هناك ما نصه:

(قامت المدنية الرومانية على تراث الإغريق، غير أن المسيحية سرعان ما غزت روما وهبت عليها حاملة معها نزعات المنطق الأسيوي والروح الشرقية، إلا أن الحضارة الرومانية ابتلعت المسيحية وامتصتها ومثلتها، وكان في هذا الابتلاع والامتصاص والتمثيل بعض الخلاص لمنطق الغرب من روح النسك الأسيوية، ولو لم تكن المسيحية ديانة روحية صرفة قابلة للكثير من التفاسير مرنة بطبيعتها غير حاملة في طياتها منطق حياة اجتماعية معينة ونظم وشرائع مخصوصة لقام النضال بين منطق الغرب وأصول مجتمعه وبين روح الشرق وشرائعه التي هبت بها على أوربا. . . ولقد نضب معين مدينة روما

ص: 30

لعوامل داخلية فهاجمها البربر من الجرمان والصقلب والسلاف والهون، وسقطت إمبراطورية الرومان على ضفاف التبر. . . فكانت عصور ظلام في أوربا؛ غير أن الشعوب البربرية التي ورثت إمبراطورية الرومان احتفظت بالكثير من نظم الرومان الإدارية وعاداتهم، ولم يعد ما أحدثه البرابرة في أوربا سوى القضاء على التجارة الواسعة النطاق وعلى الإدارة العامة، وبذلك قامت بيوتات تجارية صغيرة تستطيع كفاية أهلها بمنتجاتها، فكان ذلك مقدمة للعهد الإقطاعي. وهكذا قدر لهؤلاء البرابرة أن يركزوا الحياة الاقتصادية في العمل الصغير، وبذلك وضعوا النواة لعهد الإنتاج الصناعي.

ثم طغت موجة العرب على الغرب. . . غير أن الغربيين نجحوا في وقف الموجة العربية عندما تفاقم أمرها. . . وكان نجاح شارل مارتل على العرب على نهر اللوار كنجاح الإغريق على الفرس سبباً في إنقاذ العقلية الغربية من طغيان روح النسك الأسيوية. . . في ذلك الوقت كانت العقلية الغربية رازحة تحت كاهل اللاهوت الكنسي الذي قام بروما رقيباً على النفوس والعقول محملاً بكل سيئات روح التنسك الأسيوية. . . غير أن العقلية الجرمانية لم تر في رقابة روما وتسلط البابا إلا روحاً أسيوية بعيدة عن طبيعة الذهن الغربي، فعملت كل الجهد في تقطيع أوصالها، وبدأ عهد الإصلاح بالصراع بين الذهنية الجرمانية الخالصة ممثلة العقلية الأوربية وبين العقلية الباباوية التي تحمل في طياتها شيئاً من روح النسك الأسيوية. . . في ذلك الوقت شق لوثر طريقه وكان عصر الإصلاح الديني وعهد الإحياء الفكري)

ومن هنا أرى عن حق أن مناظري الفاضل لم ينظر نظرة عميقة لكلامي وما أتى به لا يعد نقاشاً لما قلته لهذا أستحسن أن ينظر في كلامي وهو منشور بالمجلة الجديدة، ثم ينظر في كلامه المنشور بعددي الرسالة وردي عليه قبل أن يكتب رده فذلك أجدى لحسم نقط الخلاف في الموضوع.

ويبقى بعد ذلك كلمة أو كلمتان في موضوع الموسيقى الذي أثاره المناظر ولم أجد له أصلاً فيما قلت، ومع ذلك فأنا عند ظن المناظر أنتدب له الدكتور حسين فوزي وهو أخصائي في فن الموسيقى وله من العلم الواسع في هذا الموضوع ما يمكنه من بيان نواحي الزيف في آراء المناظر، وهو على ذلك قدير

ص: 31

(الإسكندرية)

إسماعيل أحمد أدهم

ص: 32

‌بين العقاد والرافعي

الرافعي ومظهر و (على السفود)

للأستاذ سيد قطب

- 9 -

أجملت الحديث في الكلمة الماضية عن طابع وناشر ومروج (على السفود) الذي يعيب (الشذوذ في نصرة أديب على أديب) ليعرف الناس من أين تصدر الآراء، وكيف تصدر؛ وكم من الأعاجيب يكمن في تقلب هذه الآراء وطريقة عرضها، كلما دعا الغرض إلى عرض جديد

وأغلب الناس ممن يقرؤون الرسالة قد يكونون من غير المطلعين على هذا الكتاب، الذي قدمت له (العصور) وطبعته ونشرته. وليس من المستطاع نقل عبارات منه اليوم إليهم في الرسالة، مما يصور شناعة التعبير، ويكشف مقدار التبعة في النشر، لأن (الذوق. والأدب. والخلق) لا تسمح باستعراض تلك الأساليب ولكني سأتلطف لقراء الرسالة في نقل بعض فصوله (البريئة) مع تقديم العذر، في شنعة هذه البراءة!

وسيعرف الناس كيف يكون الإنسان، سيئ الفهم، قاصر الإطلاع، ثم يناقش العلماء النيري البصيرة المطلعين؛ ولا يكلف نفسه الإطلاع على أصل المسائل التي يناقش فيها، ويجد من الجرأة في نفسه أن يقول: إنه لم يطلع على هذا الموضوع، ولكنه يجزم بأنه كيت وكيت. أما الذي أطلع فهو جاهل و. . . و. . . الخ.

لشوبنهور رأي في الجمال يلخصه العقاد، في أن هذا الفيلسوف يقسم الدنيا إلى (فكرة) و (إرادة) ويقول: أن الدنيا في (الفكرة) هي الدنيا المكنونة قبل أن تظهر في حيز الأسباب والقوانين، وعلاقات الأشياء بعضها ببعض. وإن (الإرادة) هي هذه الدنيا التي نكابد أوصابها وقوانينها، ولا نذوق السرور فيها إلا لسبب من الأسباب التي تدور عليها أغراضنا وشهواتنا؛ ولما كان سرورنا (بالجمال) سروراً بلا سبب ولا منفعة فهو من قبيل الفكرة المجردة ننظر إليها كما هي في عالمها المنزه عن الأسباب والعلاقات)

ثم يقول العقاد ما ملخصه: إن رأيه هو أن (الجمال) هو (الحرية) وأنه يلتقي في رأيه هذا

ص: 33

مع رأي شوبنهور في نقطة ويختلف معه عند أخرى. فهما يلتقيان حين يقول شوبنهور: إن الفكرة لابد أن تكون بعيدة عن عالم الأسباب والضرورات، ومن ثم لابد أن تكون (مطلقة) من أسر الأسباب والضرورات؛ ويختلفان حين نذكر أن الحرية لا تكون بغير إرادة، وأن شوبنهور يخرج الجمال كله من عالم (الإرادة المسببة) إلى عالم (الفكرة المجردة).

ثم يرجح رأيه على رأي شوبنهور بأن الجمال يتفاوت في نفوسنا ويتفاضل في مقاييس أفكارنا، ولو كان المعول على إدراك (الفكرة) وحدها في تقدير الجمال، لوجب أن تكون الأشياء كلها جميلة على حد السواء.

ثم يوضح هذا بأن الشجرة كفكرة تستوي مع الإنسان كفكرة كذلك، ولكن جمال الأولى أقل من جمال الثاني - مع تساويهما لو أخذنا برأي شوبنهور - وذلك لأن الثاني أكثر حرية و (الحرية هي المعنى الجميل في الفكرة أو هي التي تهب الفكرة ما فيها من جمال)

وهذا - كما ترى - كلام واضح وهو كذلك دقيق. ولكن الرافعي لا يفهمه. وهو في عدم الفهم على درجات: بعضها يتعلق بالقصور النفسي عن تصور حالة من الحالات النفسية، وهو ما نعذره فيه، ولا نطلبه بفهمه. وبعضها يتعلق بالقصور في فهم الأسلوب والكلمات وهو ما لا ندري كيف نسميه.

والنوع الأول يبدو في تعليقه بالهوامش على إن السرور بالجمال سرور بلا سبب ولا منفعة، فهو يقول:(وهل في الدنيا من يسر من الجمال (بلا سبب)

ونحن نقول له: نعم يا سيدي في الدنيا من يسر من الجمال بلا سبب، لأن بداهته وفطرته تتصل مباشرة بالجمال في (عالم الفكرة) كما يشرحه شوبنهور فيحس بالسرور. وفي هذا العالم لا توجد (أسباب) فهذه إنما تتعلق (بعالم الإرادة) أي العالم الموجود في الخارج. وهي على كل حال مسألة تتطلب (نفساً) فلا على الرافعي منها.

وهو يعلق على شرح العقاد (للفكرة) في رأي الفيلسوف الألماني بأنها بعيدة عن عالم الأسباب والضرورات، ومن ثم لابد أن تكون مطلقة من أسر الأسباب والضرورات. فيقول:(ففكرة من تكون هذه الفكرة البعيدة عن عالم الأسباب والضرورات؟ وكيف تسمى فكرة؟)

وهذا القول غريب من رجل يدعى أنه يفهم الثقافة الإسلامية ويدافع عن علوم الإسلام.

ص: 34

وفي الفلسفة الإسلامية كثير من هذه المباحث، وقد ورد فيها ذكر (الهيولي) و (الصورة) وهي تقابل مع تعديل (الفكرة) و (الإرادة). وفي مباحث (علم الكلام) كثير من مثل هذه التعبيرات عند الكلام على صفتي (القدرة. والإرادة) فمن العجب ألا يفهم إذن أن (الفكرة) بعيدة عن عالم الأسباب والضرورات. وهي على ضوء الفلسفة - ونمثل بها وحدها لما يدعيه الرافعي عنها - تمثل فكرة الخالق التي لا تتعلق بالأسباب والضرورات، لأنه منزه عن الضرورات وهي في كلام شوبنهور تمثل فكرة القوة الخالقة - أياً كان اسمها - فدارس الفلسفة الإسلامية لا يعسر عليه فهمها، ولا يسأل هكذا:(ففكرة من تكون؟)

وهذا أيضاً مسألة (ذهنية) تتطلب ذهناً مشرقاً. فلا على الرافعي منها كذلك!

إنما الطامة الكبرى أن يخطئ في فهم الكلمات المفردة. وهنا فليأخذ القراء حذرهم، فإنني سأنقل لهم بعض كلام الرافعي بنصه في هذا الموضوع - مع ما يتضمنه من شتائم (بريئة) إذا قيست إلى سواها، ونحن نكتبه بنصه وبعلامات ترقيمه:

إنه يقول:

(بيد أن العقاد يقول بعد ذلك: (أين نتفق في هذا الرأي وأين نفترق؟ (ما شاء الله أين يتفق العقاد وشوبنهور وأين يفترقان) وأين يتساوى القول بأن الجمال فكرة، والقول بأن الجمال حرية؟ يتساويان حين نذكر أن الفكرة في رأي شوبنهور لا بد أن تكون بعيدة عن عالم الأسباب والضرورات. ومن ثم لا بد أن تكون مطلقة من أسر الأسباب والضرورات).

(ثم أين يتعارضان. (المراحيضي! وشوبنهور)؟ يقول العقاد: يتعارضان حين نذكر أن الحرية لا تكون بغير إرادة، وأن شوبنهور يخرج الجمال كله من عالم الإرادة المسببة إلى عالم الفكرة المجردة).

(وما الذي يرجح رأي فيلسوفنا! المراحيضي! بأن الجمال هو الحرية، على رأي شوبنهور بأن الجمال فكرة؟ يقول العقاد:

(يرجحه أن الجمال يتفاوت في نفوسنا ويتفاضل في مقاييس أفكارنا؛ ولو كان المعول على إدراك الفكرة وحدها في تقدير الجمال لوجب أن تكون الأشياء كلها جميلة على حد سواء).

(ونوضح ذلك فنقول: لو كانت الشجرة جميلة لأنها فكرة فقط، لما كان هناك داع لتفضيل فكرة الإنسان على فكرة الشجرة (افهموا يا ناس) ولصح لنا أن نزعم أن الناس أجمل من

ص: 35

الأشجار (برافو مراحيضي) ولكننا نعلم أن فكرة الإنسان غير فكرة الشجرة (تمام تمام!!!) وأن الفكرتين تتفاضلان في تقرير الجمال (صحيح لأن الشجرة تقدر جمال الناس كما يقدر الناس جمالها!) ولا بد أن يكون تفاضلها بمزية أخرى فما هي تلك المزية؟

(قال المراحيضي. هي الحرية: فالإنسان أوفر من الشجرة نصيباً من الحرية (برافو. برافو!) ولذلك هو أجمل منها

(يا سلام يا سلام على هذا المنطق. في رأي من هو أجمل منها؟ في رأي الجبل بالطبع لأنه لا بد من حكم بينهما يحكم أيها أجمل. وإلا فما الذي يمنع الشجرة أن تحكم لنفسها كما حكم الإنسان لنفسه؟)

والتعليقات التي بين أقواس كبيرة هي كلام الرافعي. وهي كلها قد نشأت من عدم فهمه للفظة واحدة في جملة العقاد:

(لو كانت الشجرة جميلة لأنها فكرة فقط، لما كان هناك داع لتفضيل فكرة الإنسان على فكرة الشجرة) فالعقاد يريد بقوله (فكرة الإنسان) الفكرة التي صورت إنسانا. وبقوله (فكرة الشجرة) الفكرة التي صورت شجرة. فيفهم صاحبنا (فكرة الإنسان) بأن الإنسان يفكر، و (فكرة الشجرة) بأن الشجرة لها فكرة في رأسها! ولما كانت الأشجار لا تفكر، فقد راح يقول:(افهموا يا ناس) وراح يقول: (صحيح لأن الشجرة تقدر جمال الناس كما يقدر الناس جمالها). وراح يقول: (في رأي من هو أفضل منها؟ في رأي الجبل بالطبع) لأن الجبل كذلك يفكر وله فكرة!

والمسألة هنا مسألة قصو في فهم ألفاظ ثم تعالم بعد ذلك وتهكم حيث يجب الخجل والانزواء

ثم ماذا؟ ثم أخذ يجمل هو رأي شوبنهور (الذي لم يطلع عليه باعترافه في هامش الكتاب حين يقول: (نحن لا نثق أن ترجمة العقاد عن شوبنهور هي نص معاني شوبنهور. . . إنما نذهب إلى (ما نظنه) الأصل في غرض الفيلسوف)!

فماذا قال؟

(فان محصل كلام هذا الفيلسوف أن ما تراه بسبب من إرادتك وغرضك وشهواتك فجماله فيك أنت لا فيه، لأنه في هذه الحالة صورة الاستجابة إلى ما فيك، فلو لم يكن معك أنت

ص: 36

هذا الغرض لم يكن معه هو ما خيل لك من الجمال، فهو على الحقيقة (باعتبار الفكرة المجردة لا جمال فيه)(لاحظ هذا) إنما أنت صبغته وأنت أوقعته ذلك الموقع من نفسك فالنتيجة من ذلك أن الأشياء تحزننا (أي لا نراها جميلة) كلما ابتعدت من عالم الفكرة واقتربت من عالم الإرادة، وأنها تفرحنا كلما ابتعدت من عالم الإرادة واقتربت من عالم الفكرة.

(وهذا الرأي هو الرأي الصحيح في معنى الجمال وبه يوؤل اختلاف الناس في تقدير جمال الأشياء، لأن الجمال في أهوائهم وأذواقهم ومعاني نظرهم)

وإن الإنسان ليفغر فاه عجباً من هذا التلخيص الرافعي لنظرية شوبنهور بل هذا المسخ الذي يمسخه للفيلسوف المسكين. ويحار في السؤال من أين وكيف يلتقي هذا الملخص بأصل الرأي، وما بينهما شبه ولا اقتراب في أي لمحة من اللمحات

ثم هذا الخلط بين الرأي الذي جاء به الرافعي وبين رأي شوبنهور، ونسبة كلام إلى الرجل هو يقول ضده تماماً. الفيلسوف يقول: إن الأشياء (تسرنا) كلما قربت من عالم الفكرة وابتعدت عن عالم الإرادة. فيقول الرافعي عنه: إن الأشياء (تحزننا) كلما ابتعدت من عالم الفكرة واقتربت من عالم الإرادة. وهو عكس قول شوبنهور. ثم يعود فيقول:

(وأنها تفرحنا كلما ابتعت من عالم الإرادة واقتربت من عالم الفكرة) وهو عكس كلام الرافعي الأول!! فأيهما يريد؟ أغيثونا بالله يا أصحاب الفهم وقولوا لنا: متى تفرحنا الأشياء ومتى تحزننا؟ وأي القولين ينسبه الرافعي لشوبنهور وأيهما ينفيه عنه؟

ولا يقنع الرافعي بهذا ولكن اسمعه يقول: (على مثل تلك الطريقة من الغباوة. وسوء الفهم وقبح الاجتراء والغرور والحماقة، تجد كل ما يولده العقاد، أو أكثره، ثم يزين له لؤم نفسه وعمى بصيرته أنه هو وحده الذي يهدي إلى سرائر الأشياء ويلهم حقائق المعاني. . . الخ)

ولو أننا نسمو بآدابنا وآداب المجتمع، لرددنا هذه الكلمات إلى من يستحقها - بعد هذا البيان - من الرجلين!

وبعد فقد نشر صاحب (العصور) هذا الكلام في مجلته، ثم جمعه وطبعه وقدم له معجباً مستحسناً. فهل كان يا ترى يعلم هذا الخطأ في الفهم وذلك التخليط، أم لم يكن يعلم؟ وأن كانت الأولى فكيف لم ينبه صاحبه إليه؟ وإن كانت الثانية، فكيف يتفق هذا مع علمه

ص: 37

واطلاعه؟

ثم ألم يجد جملة نابية، ولا لفظة خسيسة، في هذا النقد؟ بل ألم يجد فيه (شذوذا) ولم يلمح أن ليس وراءه انتصار لمذهب بين في الأدب، وإنما وراءه ارواء حفيظة شخصية بحتة؟

أفتونا أيها المنصفون، المتعالون عن الشخصيات!

(حلوان)

سيد قطب

ص: 38

‌كلمة ثالثة على الهامش

للأستاذ علي الطنطاوي

لقد أكرم الأستاذ قطب دمشق وجيرتها. . . وصمت عن تقويم كلمتي (ووضعها حيث ينبغي وضعها من الأدب والرأي في مدارج الآداب والآراء، وشاء لي بهذا الصمت أفضل مما شئت لنفسي) فلم يسعني إلا أن أشكر له ما تفضل به علي وعلى دمشق التي لن تنسى له هذا الفضل. . . ولكن متى سألت سيد قطب تقويم كلمتي ومتى طلبت إليه رأيه فيها؟ وهل بقى علي أن أصدر عن رأي سيد قطب فيما أكتب؟ لا يا سيدي، ما هكذا يكون النقد ولا هكذا تكون المناقشة. إني سقت رأياً إن كان خطأ عدت إلى الصواب الذي تكشفه لي فيه، وإن كان صواباً وجب أن تعود أنت إليه فبين خطأه من صوابه، وعد عن هذا الأسلوب أسلوب التعريض والسخرية، واعلم أني إن حططت عليك ساخراً ومعرضاً لم أدعك حتى تلتصق بالأرض، وأنا من أقدر الناس على ذلك، ولكن ذلك شيء يأباه الخلق الكريم، وتأباه (الرسالة) ولقد كانت لي في هذا الميدان جولات، صرعت فيها كثيراً من الكتاب المدعين المستكبرين، ثم أقلعت عنها واستغفرت الله، وأرجو ألا يضطرني أحد إلى مثلها. ثم إن العهد بك تنكر من الأستاذ شاكر هذا الأسلوب فما لك لا تنكر على أحد شيئاًُ إلا عدت فانغمست فيه إلى إذنيك؟

لقد أنكرت علي أن ذكرت المتقدمين من نقدة الأدب، ومازالت تبدأ في السخرية وتعيد، كأن ذكر هؤلاء المتقدمين جريمة في شريعة التجديد. . . وهاأنت ذا في مقالك الأخير (العدد 258) تقر بصحة مذهبهم في اللفظ والمعنى وتثبته بقولك في آخر مقالك:(قد تكون المعاني كذلك) - أي ملقاة على قوارع الطرق - وها أنت ذا تتبعه بفعلك: كانوا يأخذون البيت والبيتين فيتكلمون فيهما، وأنت تفعل فعلهم، تأخذ إذا تكلمت عن الرافعي بيتاً من الشرق وبيتاً من الغرب تتوهم أن فيه ضعفاً فتتخذه معولاً لهدمه، ثم تأخذ للعقاد ما تظن أن فيه قوة وجمالا، فتجعل منه وسيلة إلى مدحه، فكأنك لم تسمع بنقد حديث، ولم تدر به. . . وإلا فأين شروط النقد، وأين التجرد عن الهوى، وأين (الموضوعية) في البحث، وأين الدراسة العامة التي تكشف عن أدب الأديب من كافة نواحيه؟ أليس كلامك عن الرجلين هو المدح لهذا والهجاء لذلك؟ بل إني لأظنك والله لا تريد بالعقاد إلا شراً حين تختار له ما

ص: 39

اخترت

إنا والله نجل العقاد، ونعرف له منزلته، ونعده في الأكابر من كتابنا، ولكن قوله:

أيها الجيبون انعم سلاماً

يا أخا العبقري والبهلوان

هذا الشعر يشين طالباً ذكياً لو نسب إليه فكيف بالعقاد العظيم؟

دع الابتداء بـ (أيهذا) وما في هذا الابتداء من ثقل واستكراه، ودع الجيبون التي لو حلف متزوج بالطلاق على أنها لا تدخل شعراً لما أحسبه يحنث. وانظر في (أنعم سلاما) قالت العرب عم صباحاً، جاء في اللسان:(وأنعم الله صباحك من النعومة، وقولهم عم صباحاً كلمة تحية كأنه محذوف من نعم ينعم (بالكسر) كما تقول: كل من أكل يأكل فحذف منه النون والألف استخفافاً) فالنعومة في قول العرب مسندة إلى الصباح الذي هو زمان فإذا نعم صباح المخاطب كان سعيداً مسروراً فما معنى إسناد النعومة إلى السلام، هل المعنى أنه يطلب من هذا الجيبون أن يسلم سلاماً ناعماً؟ وماذا يعني بذلك؟

وانظر في قوله (يا أخا العبقرية والبهلوان)، ودع كلمة (البهلوان) وما فيها من صحة وجمال! وانظر إلى اقترانها بالعبقري تدرك مبلغ ما فيها من الغرابة والثقل على السمع وما فيها من غموض المعنى، حتى أن القارئ لا يفهمها إلا إذا قرأ كتاب دارون. . . مع أن الشعر يجب أن يفهمه كل من كان ذا شعور مرهف، وكان واقفاً على لغة هذا الشعر، فإذا جاوز الأمر هذين الشرطين صار علماً منظوماً! لا فرق بينه وبين ألفية أبن مالك مطلقاً.

والبنون في قوله (كيف يرضى لك البنون مقاماً مزرياً) من هم هؤلاء البنون؟ إن الإقرار حجة قاصرة، وإنا لنسأل الله السلامة من خذلانه! إن هذه النظرية لم تثبت عند أصحاب العلم ولم تصبح بعد حقيقة علمية، أفكلما ظهرت نظرية في الفلك أو الطبيعة، فنظمها أديب، كان بنظمها شاعراً كبيراً؟ فلم لا ينظم الدكتور ناجي إذن في الطب، والمهندس في الهندسة، وأبو شادي في البكترلوجيا، وعوض في الجغرافيا؟ وأي فرق بالله بين نظرية دارون ونظريات غيره من العلماء؟

وتأمل قوله:

(يا عميد الفنون صبراً ومهلا) واترك مهلا التي لم تجئ إلا للقافية. وفكر في هذه الفنون التي صار عميدها قرداً في حديقة الحيوانات ثم انتقل إلى قوله:

ص: 40

مرحباً مرحباًُ وأهلا وسهلا

والهدايا ما بين لب وفول

ألا تذكر بشاراً وربابة ربة البيت. . . أفيعقل أن يتصدر سيد قطب للنقد والكلام في مثل الرافعي أبلغ من كتب في العربية ثم يختار مثل هذا الشعر إلا أن يكون عدواً للعقاد يريد أن يذمه بما يشبه في ظاهره المدح؟ أو أن نكون قد فقدنا عقولنا فلم نعد نميز بين الحسن والقبيح، ولم نعد نعرف أقدار الكلام. . .

وبعد فأني أسأل الأستاذ البليغ صاحب الرسالة هذا السؤال الذي يتردد على فم كل قارئ للرسالة في دمشق؛ وأرجو أن يتفضل بالجواب: لماذا تنشر الرسالة هذه المقالات للأستاذ قطب؟ أللحقيقة، والحقيقة لا ظل لها في هذه المقالات؟ أم من أجل الأستاذ العقاد وفيها من الإيذاء للعقاد مثل ما فيها من المس بالرافعي؟ أم بغضاً بالرافعي والأستاذ صاحب الرسالة صديقه حميم، وهو شريكه في التلبس بجريمة البلاغة والحرص على البيان المشرق الذي يسوء هؤلاء المجددين؟ أم لماذا؟

أننا لم نفد من هذه المقالات إلا فائدة واحدة، هي أننا عرفنا أن الجديد إن كان كما يصوره سيد قطب فهو أهون شيء وأبعده عن الحق، وإنا راضون بقديمنا، مطمئنون إلى (رجعيتنا. . .) عرفنا هذا، أفلا يعفينا الأستاذ قطب من هذه المقالات؟ ألا يتفضل فيعلم أن قراء الرسالة قد غدوا بفضل الرافعي والزيات وسائر من كتب فيها من البلغاء لا يعدلون ببلاغة القول وصفاء الديباجة شيئاً وأن كل سعي لتكفيرهم بالبلاغة (والتبشير) فيهم بهذا الجديد سعي ضائع!

فهل الغاية إذن ملء صفحات الرسالة بمقالات الأستاذ سيد قطب؟

دمشق

علي الطنطاوي

(الرسالة) والرسالة تجيب صديقها الأستاذ الطنطاوي بان من

مبادئها أن تكون صورة صادقة لأدب العصر فلا تسجل مذهباً

دون مذهب، ولا تتوخى أسلوباً دون أسلوب. ومعارك النقد

ص: 41

ظاهرة مألوفة في عصور الأدب عفت الرسالة عنها حيناً، ثم

رأت من أخير أن تسجل هذه المعركة؛ لأن أدب الرافعي

وأدب العقاد يمثلان وجهتي الثقافة في أقطار العروبة؛ فالقول

فيهما - إذا حسن - يعين المتأدب على الوجهة التي يوليها،

وينعش الأدب من الخمود الذي هو فيه. ومن حسن القول أن

يتكلم الناظر في الأدب بلسان الأدب، وأن يعتقد أن أدب

الرجل شيء آخر غير شخصه، فلا ينبغي أن يدخل الناقد في

حسابه الحياة والموت، ولا الصداقة والعداوة

أما رأي الرسالة في الكاتبين العظيمين فقد سجلت في افتتاحياتها. فهي لا تحمل من تبعات ما تنشر غير ذلك الذي رأت

ص: 42

‌بين العقاد والرافعي

كلمة على الهامش أيضاً

للسيد عبد الوهاب الأمين

أوقفتني كلمة الأستاذ علي الطنطاوي في التعقيب على المناقشة الأدبية الرفيعة بين الأستاذ سيد قطب والأستاذ محمود محمد شاكر حول منزلة العقاد والرافعي في الأدب الحديث، ولولا أني كنت أخشى أن أفسد هذا الحوار وهو في عنفوانه بين الأستاذين لما ترددت في أن أقول كلمة، ولكني احتبستها حتى قرأت تعليق الأستاذ علي الطنطاوي فرأيت أن موقفي المتزمت قد تحلل من قيوده

شاء الأستاذ علي الطنطاوي أن ينتصر للأستاذ شاكر وأن يكتسب له النصر، فلم يتوقعه، بل أكده لزميله، وليس في ذلك بأس كبير، فقد يكون الأستاذ شاكر عبر عن خوالجه تعبيراً محكماً فخيل إليه أن ذلك هو فصل الخطاب. والحق أن الأمر لم ينته، وأن بوادر الحال تدل على قوة مستجدة في كلام الأستاذ شاكر تنبئ بأن شدة المعركة لم تأت بعد، ولكن الأستاذ علي الطنطاوي يريد أن يظهر الأمر للقارئ كأنه انتهى

ثم ماذا؟

يأتي الأستاذ الطنطاوي مدافعاً عن (إنسانية) الرافعي فلا يجد ما يقول سوي أن الرافعي صاحب عقيدة، وأن العقيدة (مشتقة من العقد، قال في اللسان. . .) كأن الرجوع إلى اللسان مشكلة لا يتوصل إلى حلها إلا أمثال الأستاذ الطنطاوي، ولست أدري هل قرأ حضرته - على الأقل - كتاب (الآراء والمعتقدات) لكستان لوبوب وهو كتاب ترجم منذ سنين ليعلم أن خلافاً في أمور العقائد لا يحله الرجوع إلى اللسان، ولو كانت الخلافات على العقائد تحل بالرجوع إلى القواميس لما قامت الحرب الأسبانية مثلاً!

ثم ماذا؟

ثم يأتي كلامه في الخلاف بين أدب الرافعي وشعر العقاد (فهو الخلاف بين الأسلوب الذي يعتمد على البيان والصحة والصناعة والجمال، وبين الأسلوب الذي يستند إلى المعنى المبتكر والصورة الجديدة، لم يظهرهما لفظ قوي، ولا أداء مستقيم) فالأمر كله في نظر الأستاذ الطنطاوي إنما هو أمر اللفظ القوي والأداء المستقيم. أما أننا نعيش في عصر

ص: 43

الحديد والنار، العصر الذي يتطلب من أدبائنا أن يكونوا طليعتنا في إدراك الوضع الحاضر والاستعداد له وتلقف الفلسفات التي تنطوي عليها حضارة هذا العصر ومدنيته، فنتطلب من شاعرنا وأديبنا أن يكون شخصاً ذا رأي وعقيدة، فهذا أمر إن جاء في حساب الأستاذ فإنما يأتي في الدرجة الثانية أو الثالثة. . . وهو إذا أراد أن يقول كلمته في أمر اللفظ والمعنى فإنه يعود تواً إلى الجاحظ والجرجاني ولا يزيد عليهما. . . أما الأعصر التي مرت على البشرية بعدهما فلا حساب لها عند الأستاذ. . . (أما المتقدمون من نقدة الأدب العربي فأكثرهم على أن المعاني على قوارع الطرق (!. .) وإنما يتفاضل الناس بالألفاظ). ولسنا ندري على قارعة أي طريق وجد المعري معانيه في لزومياته ورسائله، أو المتنبي في شعره الخالد!

ويعود حضرته فيؤكد ويقول (وإنما الأدب هو الصيغة اللفظية التي يعبر بها عن هذا الإحساس، وعلى مقدار التوفيق في هذه الصياغة تكون قيمة القطعة الأدبية) فالأمر كله على الثوب ورحم الله حجا وثوبه في مأدبته المشهورة!

ولو كان نقد الأستاذ موجهاً إلى أحد أدباء العربية غير العقاد لجاز أن يوجه بعض التوجيه، ولكن العقاد أديب لم يتهاون مطلقاً في أمر اللفظ القوي والأداء المستقيم) وهو يتحرى ذلك فيما يكتب وينقد. وقد اضطر في نقد له لجبران أن ينزل به لأنه كان في نظره ليس بالمتين في اللغة والأداء. وبيان العقاد في العربية أنصع بيان وأقومه، ويشهد بذلك كل (بياني) ولو شئت لأتيت بالأمثلة، ولكنها لن تغني سادتنا (اللفظيين) لأن الفن فيها لا يستكنه بالرجوع إلى اللسان أو القاموس المحيط! فاللفظ هو كل شيء في أدب إخواننا أصحاب الرافعي. ولست أعلم ما رأي الأستاذ الطنطاوي في كتاب (ألف ليلة وليلة)، هل مرجع الأهمية فيه الصيغة اللفظية أم سمو الخيال؟ وهل يرى الأستاذ أن قصيدة (ترجمة شيطان) للأستاذ العقاد هي (أشبه بالعمالقة الضخام، ولكنهم يحملون حفنة من الحصى) أم أنها ملحمة لا مثيل لها في العربية؟

ولنأت الأستاذ الطنطاوي إلى آخر حديثه فنسمعه يقول عن نقد هذا البيت!

قلبي يحب وإنما

أخلاقه فيه ودينه

(أن انتقاد هذا البيت وتشبيهه بالخطب المنبرية الجافة تحقير للحب، وتنزيل له إلى حيث

ص: 44

يخالف الدين والأخلاق حتماً. ودعوى ضمنية بأن المحب لا يستطيع أن يحتفظ بخلق ولا دين!)

هذا آخر سهم في الكنانة!

فان لم ينفع كل ما قيل فهناك الدين، وما أسهل ما ينقلب الأمر إليه فيكون العقاد وتلامذته كفرة جاحدين! وكذلك كأن الرافعي رحمه الله يقول عن كل ما يقع تحت مبضعه في النقد؛ فطه حسين والعقاد وسلامة موسى وسواهم كفرة؛ وإذا أراد العقاد أن يجادله في مفهوم إعجاز القرآن بلغة هادئة كلها منطق وحجج، فذلك لا يؤدي إلا إلى اتهامه في عقيدته الدينية. ولست أفهم كيف يرى إخواننا المعجبون بأدب الرافعي في النقد كالأستاذ شاكر والعريان والطنطاوي أن نقد العقاد للرافعي ما هو إلا (شتائم)، وماذا كانوا يقولون عنه لو أنه كتب في ثلب الرافعي رحمه الله كتاباً ككتاب (على السفود) وأقل ما فيه: وغد، ونذل، وزنيم؛ ولم يفعل العقاد عشر معشارها في نقد الرافعي؟ أكانت تبقى للعقاد حرمة عندهم؟ أم كانوا يسقطون منه فضيلة القول الجميل كما يريدون أن يسقطوا منه كل فضيلة؟

إن الأستاذ علي الطنطاوي لا يتجنى على العقاد وسيد قطب فحسب، بل هو يبتني سابقة غير محمودة في النقد، فليس من المروءة تأليب الطبقة المحافظة على كل أديب مجدد، وليس الدين مدار البحث في أدب الرافعي وشعر العقاد، بل هو موضوع قائم بذاته متى جاء البحث إليه جاز أن يقول فيه الناقدون مقالتهم، أما ونحن الآن في عصر لم نتخلص فيه بعد من عصبية جاهلية قائمة عند الأغلبية فان من الجناية التي لا جناية بعدها أن يدور الأستاذ الطنطاوي ويحوم حتى يأتي بالأمر إلى الدين! فيتهم الأستاذ سيد قطب من طريق غير مباشر بعدم الرعاية للخلق الديني.

وبعد فإن الحديث حول الرافعي والعقاد الآن حديث ذو دلالة في الأدب العربي المعاصر، ودلالته هذه في أنه يمثل عصرين يتطاحنان، ولا ريب عندنا في الغلبة لأحدهما. . . فالعصر الذي يمثله المرحوم الرافعي وإخواننا المنافحون عنه عصر يلفظ أنفاسه الأخيرة، وهو في حالة احتضاره يصحو صحوة الموت ليهدأ بعدها الهدوء النهائي، والعصر الذي يمثله العقاد وزملاؤه عصر الحاضر والمستقبل، عصر الأدب المنتج الخلاق، لا عصر التقليد والاجترار، عصر هضم الحضارة الغربية وتمثلها، لا عصر ازدرائها والابتعاد

ص: 45

عنها؛ وهو بذلك العصر الذي سيعيش حتماً.

وما دمنا في الحديث عن العقاد فإن له كلمة تدخل في حديثنا هذا، فقد لقيه أديب مشهور في أثناء نقده لشوقي بهذا البيت:

شوقي تولاه عباس فأظهره

واليوم يخمله في الناس عباس

فقال له: (بل إنه عصر يخمل عصراً، ولا غية وهم تخفتها صيحة حق) فالأمر في الخلاف بيننا وبين إخواننا المعجبين بأدب الرافعي كل هذا الإعجاب لا يقتصر على شخص العقاد أو الرافعي بل هو يمثل هذين العصريين المتطاحنين.

بغداد

عبد الوهاب الأمين

ص: 46

‌ليلى المريضة في العراق

للدكتور زكي مبارك

- 22 -

ليت ليلى تعرف بعض ما ألاقي في ليالي الصد من أهوال!

ليت ليلى تعرف كيف ندمت على التعرف إلى وجهها الجميل!

ليت ليلى تعرف كيف هدت عزمي وقوضت بنياني!

ليتها تعرف أن هواها أورث جسمي وقلبي أسقاماً وعقابيل ستكدر ما بقي من حياتي!

وليتني أعتبر بما صرت إليه فأتقي الله في نفسي وأتصون عن الهوى والفتون!

ما أشد حزني على ما ضيعت من شبابي في التغزل بالعيون السود!

ما أشد ندمي على الغفلة التي خضت أوحالها يوم وثقت بعهود الملاح. . .!

سيطول بكائي على العافية التي بددتها تبديد المسرفين على أنفسهم وأنا أتنقل من أرض إلى أرض في سبيل الجمال

سأكتوي بنار الحقد على الدنيا وعلى الناس كلما تفكرت فيما ردني الحب إليه من ظلمات.

لم يبقى لي رجاء في غير الله.

ومن سوء البخت ألا أعرف الأيمان إلا في أيام الضر والبؤس!

إليك أرجع يا ربي، أرجع مقهورا ًمدحوراً بعد طول الهيام بأودية الضلال

إليك أرجع، ولا فضل لي في هذا الرجوع، فقد انهد كياني، وانشقت مرارتي، وصار من الموجع أن أحمل إلى فمي كوباً من الماء

إليك أرجع، فامنحني من العافية ما أنقل به صور ذنوبي إلى ألواح خيالي، عساني أعرف كيف أستغفر وأنيب

لم أجد في النجف شفيعاً إلى ليلاى، فقلت أذهب إلى الموصل وتلك نهاية المطاف في البحث عن الشفعاء

وعقدت العزم على السفر بالقطار الذي يقوم من بغداد في الساعة التاسعة مساء

ولكن صديقاً موصليا طرق بابي في الساعة السادسة وعرف نيتي في الذهاب إلى الموصل، فنهاني، ولما استوضحت السبب قال:

ص: 47

إن أهل الموصل يحقدون عليك؛ فانزعجت وقلت: كيف؟ فأجاب:

أنت أطلت التشبيب بالعيون السود فغنمت عطف أهل البصرة وأهل بغداد، وخسرت مودة أهل الموصل، لأن عيونهم شهل لا سود. . .

فقلت: أتغزل بالعيون الشهل وأتناسى العيون السود

فقال: كان ذلك قبل اليوم

وتركني وانصرف

وكذلك قضيت نحو ثلاث ساعات في كرب وبلاء

أشهد أن ذلك الصديق طيب القلب، فما تعمد يوم إيذائي، ولكنه سيئ التصرف، فهو يزورني من حين إلى حين ليكدر صفائي، وهو يجد لذة في تنغيص من يعرف، ويشعر بارتياح حين يستطيع إلقاء صديقه في أتون العذاب

وقد وصل في إيذائي إلى ما يريد وخرج وهو جذلان

وفي غمرة هذا الحزن المظلم دخل موصلي آخر، موصلي كريم كاد أهله ينسونني أهلي، موصلي صيغ قلبه من العطف والحنان، فشاع الأنس في روحي حين اغتبقت بروحه الرفيق

وما هي إلا لحظات حتى كنت في القطار وهو يحملني التحية إلى أقربائه بالموصل الجميل

وفي القطار رأيت رجلا بيده مجلة تسمى (الأندلس الجديدة) وهي فيما أتذكر تصدر في البرازيل، وفيها رأيت مقالة في تجريح صديقي العزيز الدكتور زكي مبارك، فابتسمت وقلت: جرحوه كيف شئتم فستطيب الدنيا يوم يصل إلى فؤاده ليلاه!

وكان رأسي قد أثقله النعاس فلم أعرف شيئاً من معالم الطريق

وصلت إلى كركوك بعد عشر ساعات في القطار، وكركوك هي (شهرزور) في كلام القدماء، وفيها تشهد العين لأول نظرة مشاعيل اللهب، لهب النفط، فيدرك العقل أن هذا اللهب هو الذي يجذب الفراش، الفراش البغيض الذي يفد من وراء البحار ليسيطر على ذخائر تلك الأرض، وبعض البلاد تؤذي أهلها بفضل ما فيها من ذخائر وكنوز، والجمال يجني على أهله في أكثر الأحيان

ومضيت فسألت عن رئيس البلدية وهو الشيخ حبيب الطالباني فعرفني بأقربائه ودعاني

ص: 48

للتنزه في حديقته الغناء، وهناك جرى الحديث عن اللغة العربية فعرفت أن أهل كركوك بعضهم من الأكراد وبعضهم من التركمان وأنهم يتكلمون الكردية والتركية بأسهل مما يتكلمون العربية

وبعد لحظات رجع أبناؤه من المدرسة فدعاهم للتسليم علي، فوقفوا صفاً في أدب واستحياء، فسألتهم أن ينشدوا شيئاً مما يحفظون فأسمعوني نشيداً عربياً بديعاً دلني على أن أطفال تلك الناحية سيكونون بأذن الله من سواعد العروبة بعد حين

وكذلك عرفت أن الحكومة العراقية تستطيع بسهولة أن تؤلف بين عناصر العراق، وأن تجعل منه شعباً موحد اللغة والتقاليد في زمن قليل. ويؤيد ذلك أن العروبة هي في الواقع فكرة لا جنس، والكردي يتحول بعواطفه إلى العروبة بلا عناء

ومنظر كركوك جميل ولكن أهلها يشكون قلة المياه، وفيها اليوم نحو أربعين ألفاً من السكان، ودورها تبلغ ثمانية آلاف، وبها حديقة للشعب، ومكتبة، ولها ضواح صالحة لأن تكون من مرابع الابتهاج لو وجدت من يصلها بأصول التمدن الحديث.

وفي شهر زور - وهي كركوك - يقول أحد الشعراء:

وعدتِ بأن تزوري بعد شهر

فزُوري قد تقضَّى الشهر زُورى

وموعد بيننا نهر المعَّلى

إلى البلد المسمى شهر زُور

فأشهُر صدك المحتوم حقٌ

ولكن شهر وصلك شهر زُور

خطرت ببالي هذه الأبيات وأنا أطوف بكركوك فحزنت، فذلك شاعر كان يشك في صدق ليلاه، كما أشك في صدق ليلاي. ورأيت أن أبحث عن قريبات ليلى هناك، ثم خشيت أن يصعب التفاهم باللغة العربية فمضيت إلى أربيل بلد المبارك بن حمد بن المبارك الذي يقول:

تذكَّرنيك الريح مرَّت عليلةً

على الروض مطلولاً وقد وضح الفجرُ

وما بعدت دارٌ ولا شط منزلٌ

إذا نحن أدنتنا الأمانيُّ والذِّكرُ

وصلت أربيل في وقت القيظ فلم أجد من النشاط ما أصعد به لرؤية القلعة التي تحدثت عنها كتب التواريخ، وإنما اكتفيت بزيارة المسجد وشهود بعض الأسواق. وراعني أن تقوم أكثر المنازل على ربوة عالية تستدرج شياطين الشعر والخيال

ص: 49

وفكرت في تلقف بعض المعلومات عن أربيل فلم أجد من يسعفني بما أريد، حتى الشرطي حارس الميدان لم يعرف شيئاً عن عدد السكان في أربيل ولم يستطع أن يرشدني إلى بعض المدارس، وهذا لا يمنع أن يكون في أربيل أدباء نرى آثار أقلامهم في بعض المجلات المصرية من حين إلى حين

ثم اتجهت نحو الموصل فراعني أن أرى حقول الحنطة على جانبي الطريق، وهي تشهد بما في تلك البقاع من خيرات، وراعني أن أرى السيارة تنتقل من نجاد إلى وهاد، ومن وهاد إلى نجاد كأننا في جبل لبنان

الله أكبر ولله الحمد!

هذا مسجد النبي يونس، وهو فوق هضبة عالية، وكأنه نوتردام دي لاجارد التي تروع من يدخل إلى مرسيليا أول مرة.

وعند الجسر يستوقفني الشرطي ليسأل عن أسمي فأقول: زكي مبارك. فيسأل: الدكتور؟ فأقول: نعم! فيبتسم ويقول: عرفت أخبارك، ولكن حدثني عند من تنزل؟ فأقول: عند آل ليلى! فيقول: وهذا وجه الإشكال!

وسأعرف بعد أيام لماذا يهتم الشرطة بمعرفة أسماء من يدخلون كركوك وأربيل والموصل

ألقيت أمتعتي في الفندق وخرجت أدبر الوسائل للبحث عن قريبات ليلى. واتفق أن جلست لأشرب كوباً من الشاي في إحدى القهوات ففاجأني الأستاذ محمد بهجة الأثري وهو يقول: أتراك تفلت من يدي يا دكتور؟ من جاء بك إلى الموصل؟ أذو نسب أم أنت بالحي عارف؟ ونقلني إلى المدرسة الثانوية للتسليم على الأستاذ بهجة النقيب، وهنالك طالعتنا مجلة الرسالة فقرأنا فقرأت من حديث ليلى المريضة في العراق، وحددنا موعداً للتلاقي بنادي الجزيرة في المساء

ولم تمضي ساعات حتى تسامع أهل الموصل بقدومي على غير ميعاد، فأقبلوا متفضلين للتسليم على الرجل الذي أحب العراق وأحبه العراق

تحدث أحدهم فقال: هل رأيت المنارة الحدباء؟

فقلت: لا. فقال: لقد هم الدكتور عبد الوهاب عزام بصعودها، وبعد أن صعد خمسين درجة دار رأسه فنزل

ص: 50

فقلت: يا فضيحة الجامعة المصرية!

وانتقلت إلى مجلس آخر فابتدرني أحد الأدباء بهذا السؤال: هل رأيت المنارة الحدباء؟ فقلت: لا. فقال: لقد هم الدكتور عبد الوهاب عزام بصعودها، وبعد أن صعد أربعين درجة دار رأسه فنزل

فقلت: يا فضيحة الجامعة المصرية!

وفي مجلس ثالث تحث رجل فقال: هل رأيت المنارة الحدباء؟ فقلت: لا. فقال: لقد هم الدكتور عبد الوهاب عزام بصعودها، وبعد أن صعد ثلاثين درجة دار رأسه فنزل

فقلت: يا فضيحة الجامعة المصرية!

ثم صممت على صعود هذه المنارة ولو كان في ذلك حتفي، لأنقذ سمعة الجامعة المصرية، على حجراتها وغرفاتها ومدرجاتها أزكى التحيات!

سميت هذه المنارة حدباء لغلطة هندسية أورثتها الاحديداب ومن أجلها سميت مدينة الموصل (الحدباء) على طريق المجاز المرسل، وباسم الحدباء سمي نوع من الخمر يستقطره الموصلين، وكذلك انتقل الاسم من المنارة إلى المدينة إلى الشراب!

والمنارة الحدباء هي أعظم منارة في أقطار العراق، ودرجاتها فيما سمعت مائة وثلاث وتسعون درجة، وهي منارة الجامع الكبير.

ابتدأت فزرت الجامع، وهو قديم يرجع تاريخه فيما قيل إلى ثمانمائة سنة، ولمحرابه قبة عالية، وإقامة القباب فوق المحاريب طراز معروف في العراق

وبذلك الجامع مقصورة خاصة بالنساء، ولا تقام فيه الصلوات لهذا العهد إلا في الجمع والأعياد

وفي أثناء الطواف سمعت هديلاً يسجع بحنين فاجع يذيب لفائف القلوب، وسجع الحمام مألوف في العراق وقد تحدث عنه مئات الشعراء، ولكنه في هذه المرة كان حماماً موصلياً يعيش في البلد الذي نسب إليه أبو إسحاق

وقد نظرت فرأيت الهديل يسجع وبجانبه ليلاه، فما الذي كان يصنع لو غابت عنه ليلاه! ليتني في مثل حالك، أيها الهديل البكاء!

ثم توكلت على الله وصعدت المنارة بصحبة جماعة من الرفاق يحملون المصابيح، وآذاني

ص: 51

أن أجد درجات المنارة مهتمة، وأن أعرف أن الصعود فوق الدرجات أمر صعب، ولو أنني حاولت ذلك وأنا في سن أصغر أبنائي لكان الخطب سهلاً، ولكنني اليوم عالم علامة، والعلماء العلامون يصعب عليهم السير في الطريق فكيف يصعدون المنارة الحدباء؟!

وبعد أن صعدت نحو سبعين درجة شعرت بالتعب، فقلت: أنزل!

وهل يعيبني أن أعجز عن صعود منارة عجز عن صعودها الدكتور عزام؟

وشجعني على النزول أن الدكتور عزام صديق عزيز والتعالي عليه ينافي الذوق، وهو بالتأكيد سينشرح صدره حين يعرف أنني عجزت عن صعود المنارة والضعفاء يعطف بعضهم على بعض!

وبعد أن نزلت درجتين مر بالبال خاطر مزعج: وهو أن ليلى قد تسمع بهذه القصة فتعرف أن طبيبها أصبح من الأشياخ

وكذلك انطلقت لصعود المنارة بعزائم الشياطين.

وقفت فوق المنارة ونظرت إلى الأرض فعرفت خطر ما أُصيبت به من احديداب فالذي ينظر إلى الأرض من فوق تلك المنارة يتوهم أنها ستسقط به، ولكن هذا الوهم لا يجوز على رجل مثلي!

ذلك كان من أمر الصعود، ولكن كيف النزول؟

إن النزول بدا لي أمراً خطيراً جدا ومن كان في ريب من ذلك فليجرب، وقد خشيت أن تزل قدمي فأسقط، لأن درج تلك المنارة أصبح خيالا في خيال

واقترح السيد محسن جومرد أن أضع يدي على كتفه فرفضت لأن الاعتماد على الغير عند الشدائد هو بداية الانخذال.

نزلت من المغارة بلا مساعد ولا معين، فصح أن عافيتي لا تزال باقية، وتطلعت إلى الهيام بأرجاء الموصل لأرى ما فيها من بقايا السحر والفتون، ولأبحث عن الشفيعات إلى ليلاي.

وبدأت فزرت قبر أبي تمام، وكنت كتبت كلمة عن إصلاح قبره في جريدة الأفكار منذ ثمانية عشر عاماً، وكان من رأي أن تأليف كتاب جيد عن شاعرية أبي تمام أفضل من العناية بإصلاح قبره، فمتى أشرع في تأليف هذا الكتاب؟

كنت مبلبل الخواطر فلم أقرأ الفاتحة على قبر أبي تمام، وإنما قرأت على قبر أبي تمام قول

ص: 52

أبي تمام:

أحبَابَهُ لِمَ تفعلون بقلبهِ

ما ليس يفعله به أعداؤهُ

وهاج حقدي على ليلاي فوقفت شارد اللب لا أعرف ما أصنع ثم تلفت فرأيت جنيات الشط، شط دجلة، فسألت رفيقي:

ما بال هؤلاء الملاح يلقين الشط بلا احتشام؟

فأجاب:

(للحديث شجون)

زكي مبارك

ص: 53

‌حواء

ديوان شعر طريف في الغزل العرفاني من نظم الأستاذ الحوماني تحت الطبع، تحمل الرسالة منه إلى قرائها عدة نماذج قبل صدوره

في ليلة عرس

اسألي الروضةَ هل كا

ن بها إلاكِ غرسي

وهل العطر الذي يع

بقُ منها غير نفسي؟

زهرها الذابل يا ميُّ

غديِ والغضُّ أمسى

وعلى المخضرِّ من أو

راقها سطرت يأسي

فبدت منه على وج

هـ السما صبغة وَرْسِ

وهوى كالزَهَرِ المن

ثور في ليلة عرس

وتوارى لم يَرُق عي

ناً ولم يعلق بحسّ

هو مثلي تعبق ال

فاق منه وهو منَسي

ص: 54

‌فراش يتبارى

ما تَمُرِّينَ بآما_ليَ في الروض حياري

يترامين على الزه

ر كبار وصغارا

ويساجلن دوالَيْ

كِ على الدوح الهزارا

ويعانقن متى شئ

ن شقيقاً وبَهارا

وإذا البسها من

لونه الزهرُ إزارا

وسقاها من سَقيط

الطل شهداً وعَقارا

فبدت ألوانها الزُّه

ر لجيناً ونضارا

ومضت تختال من غص

ن إلى غصن سكاري

تتبدي فوقه طو

راً وطوراً تتواري

خِلْتهِا في اُفُق الر

ض فَراشاً يتبارى

الحوماني

ص: 55

‌التاريخ في سير أبطاله

ابراهام لنكولن

هدية الأحراج إلى عالم المدنية

للأستاذ محمود الخفيف

يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من

سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . . . . .

- 17 -

عاد المحامي يكدح من أجل قوته كدحاً شديداً، ويأخذ قسطه من النصب مع صديقه هرندن؛ وكان قد تركه وحده طيلة ذلك الصراع العنيف، فهو بذلك يخرج من جهد إلى جهد؛ والناس يعجبون من تلك القوة البدنية التي ما زال يتمتع بها قاطع الأخشاب في الغابة بالأمس وهو اليوم قد ناهز الخمسين أو كاد.

وإن به بعد عودته هذه لحاجة شديدة إلى المال فهو اليوم ذو عسرة؛ وإنه لن يطلب المال ليستعين به في الوصول إلى جاه كما يفعل دوجلاس ومن على شاكلته من الناس، بل لينفق منه فيما باتت تطلبه السياسة من أوجه الأنفاق؛ وإنه ليفطن إلى أن عودته إلى المحاماة إنما هي إلى أجل قريب، فلقد خطا في السياسة خطوة لن يكون بعدها نكوص

ولم يجعل إبراهام للمحاماة كل همه كما كان يفعل من قبل حينما كان يمني بالفشل في السياسة؛ فأن للسياسة اليوم نصيباً كبيراً من وقته ومن جهده؛ فهو يقرأ الصحف قراءة تمعن ليرى ماذا يقول الناس في مسألة العبيد، ولينظر في الأمر ليتعرف كيف يتطور وغلى أين يتجه البلاد فيه؛ وهو يدعم بنيان حزبه في ألينواس ويعدله ما استطاع من قوة يعتد بها في غد

ونظر الناس إليه اليوم نظرتهم إلى ذي جاه، ويشيرون إليه في إعجاب وإكبار، وهو يحس هذا فلا يزداد إلا دعة وليناً؛ فيدل بذلك على أن عظمته عظمة حقيقية تبدو للناس في أبسط مظهر لها فتكون بذلك في أبهى مظاهرها. . .

ص: 56

والعظمة الحق كالذهب الحر في بساطة جوهره وبهاء منظره ولن يخرج الذهب عن صفته إذا وجد غفلاً من الزخرف؛ والنحاس مهما أدخل عليه من النقش والزينة لن يكون إلا نحاسا؛ ً والعظمة الحق هي التي تخلق الرجال وتبنيهم، وليست هي تلك التي يختلقها الرجال فيكون الواحد منهم بما يتصنع ويتكلف كالذي يحظر في حلة رائعة وهو لا خلق له؛ فلا تخفى الحلة سمته، ولا يكون منها إلا أنها تظهره أقبح منظراً وأحقر أمراً؛ فهو إنما ينبه الناس بما ينتحل ويدعى لنفسه من أوجه الكمال إلى حقيقته فيرون أنه ليس بالكبير ولكنه يتكبر، ولا تقع أعينهم منه إلا على مظهر وإن كان ليخيل إليه أنه جوهر. . .

ولقد كان لنكولن يفعل الفعل أو يرى الرأي في أمر من الأمور عن لقانة مدهشة وطبع معجب بكماله، فإذا رددت فعله أو رأيه على ما تواضع الناس عليه من عرف وما اتفقت عليه عقولهم وقلوبهم ما وجدت فيه شذوذاً ولا نقصاً؛ بل إنك لتراه حقيقاً أن يسير الناس كما يرمم، كأنه في أعماله كوكب في هذا الفلك الدائر يتحرك وفق نظام محدود فلا يضطرب ولا يتذبذب إلا أن ينفرط عقد ذلك النظام.

وكان من أحب الأشياء إلى نفسه أن يرفع الناس بينهم وبينه الكلفة، فهو يصاحبهم ويعاشرهم كأنه أصغرهم قدراً؛ وهو على كثرة بره بهم لا يبتغي على معروف جزاء وكان إذا غشى مجلساً لهم رآهم يتنحون له عن مكان الصدارة فيأبى إلا أن يجلس حيثما اتفق له؛ وإنه ليستحي أن يناديه الناس باسمه مجرداً عن كل لقب يراد به التعظيم وهو عندهم أيب الأمين أو أيب العجوز أو هما معاً، وهي ألفاظ لها في أذنه سحر الغناء لأن فيها جمال الصدق وجلال التواضع. . .

وحسبك دليلاً على جمال نفسه وطيب عنصره أنه طلب إليه يومئذ أن يكتب كلمة فيها ملخص حياته لتكون مرشداً إلى ترجمة توضع له فلم يشر إلى أنه نشأ في الغابة من أبوين فقيرين، وأنه عمل منذ صغره على كسب قوته فساعد أباه تارة واشتغل أجيراً تارة، وأنه تعلم القراءة والكتابة دون مساعدة تذكر من جانب غيره، وأنه ذهب إلى نيوأر ليانز في تجارة لأحد الناس وأنه أشتغل بعدها صبياً في حانوت، وأنه عمل في تخطيط الأرض وفي توزيع البريد، وأنه عالج المحاماة حتى حذقها، وأنه اختير عضواً في مجلس الولاية. . . كل أولئك دون أن ترى في كلمته هذه العبارة تشعر بفخر أو تنم على الزهو، حتى أنه ما

ص: 57

استطاع أن يشير بكلمة إلى ما أصاب من نجاح في السياسة، وهو إن فعل لم يك يعدو الحقيقة في شيء. . .

رجع إبراهام إلى سبرنجفيلد ولكن اسمه ملء الأسماع في كل مدينة من المدن الكبيرة وخاصة في الشمال؛ والصحف لا تفتأ تشير إلى ما كان بينه وبين دوجلاس، ولا تكاد تذكر مسألة العبيد إلا مقرونة باسمه؛ ثم أن مسألة العبيد تذكر اليوم معها مسألة أخرى هي مسألة الوحدة، فقد أخذت تزداد في الجنوب دعوة الداعين إلى الانفصال عن الشمال؛ وكان خصوم ابراهام يجتهدون أن يرجعوا إليه وإلى الحزب الجمهوري السبب في هذا الانفصال إذا تم، وكانوا يسمونه الجمهوري الأسود حنقاً عليه وكيداً له. . .

وانهالت عليه الدعوات من مدن كثيرة في الشمال ليخطب الناس فيها، فأعرض أول الأمر عن إجابة هذه الدعوات قائلاً: إنه إن ترك عمله في المحاماة مدة كما فعل من قبل فسوف يعدم قوته؛ ولكن خصومه لن يدعوا الكيد له ولن يتوانوا عن تشويه مبادئه والطعن عليه بكل فاحش من القول وباطل من الاتهام؛ وإذاً فإلى مجادلتهم من جديد ما من ذلك من بد. . .

وكانت ماري على ما به من خصاصة تطلب منه الكثير من المال لتظهر به في المظهر الذي يليق بما أصبح له من مكانة؛ وهي في الوقت نفسه لا تنفك تستعجله في السياسة وتحرص ألا يتهاون في أمر من أمورها

ولقد عظمت ثقته بنفسه؛ ولكن تواضعه يغلب عليه فيرى نفسه بين عاملين يتنازعانه، فبينما هو يفطن إلى قوته ويحس أن منطق الحوادث يسير به إلى حيث يصبح رجل الساعة، إذا به - وكأنه يخشى الخيلاء - ينظر إلى نفسه نظرة لولا ما عرف عنه من الصدق والصراحة لأخذت على أنها نوع من المكر يلجأ إليه لغاية في نفسه. فهو يسر إلى صديق له أثناء منازلته دوجلاس أن امرأته تتوقع أن سيصبح رئيس الاتحاد، ثم يقول لهذا الصديق وهو يضحك ملء نفسه ويداه تعتقلان ركبتيه وهو مستلق على ظهره:(صور لنفسك يا صاحبي كيف يصير أبله مثلي رئيسا)

يا الله لهذا الرجل! ولكن المبدأ عنده كما أسلفنا فوق كل اعتبار آخر، وما الرياسة عنده إلا غرور ما لم تكن وسيلة إلى تحقيق ما استقر في نفسه، لذلك كان يجهد ويدأب كلما خاف

ص: 58

على مبادئه أن تعصف بها الأهواء والمغالطات، ولم يخطر بباله يوماً ما أن يخطو خطوة واحدة من أجل غرض شخصي

وكان لا يزال يرى في دوجلاس أخطر خصومه، لا لما كان بينهما من منافسة، بل لما كان يمتاز به ذلك الرجل من المكر الشديد والمقدرة على أن يخدع الناس في سياسة بلادهم ليصل من وراء ذلك إلى تحقيق أطماعه الشخصية وهو لا يراعي في الحق إلاً ولا ذمة

وكأن دوجلاس لم يكفه ما كان من جدال فحمل في أهايو على الحزب الجمهوري وقذفه بما شاء من اتهامات. فذهب لنكولن وخطب الناس في كولمبس وسنسناتي، وفي هذه المدينة أعلن سياسته في صراحة وجلاء، قال: (إني أعلن أول الأمر لأهل كنتولي أني كما يقولون - ولكن كما أفهم أنا - جمهوري أسود؛ إني أعتقد أن نظام العبيد خطأ خلقي وسياسي، وإني أود ألا تنتشر العبودية من بعد في هذه الولايات المتحدة!

ولم يقتصر كلامه على نظام العبيد بل تكلم في شؤون أخرى كانت تهم الناس، منها راس المال ونظام العمل، ولقد أطرب في ذلك السامعين وملك مشاعرهم؛ ولما رأى إقبالهم على هذا الحديث أعاده في سوق جمعية زراعية في حفل أقامته بعد ذلك بأسبوعين فقال أنه يرى رأس المال مديناً في وجوده للعمل، فللعمل لذلك أهم وأعلى منزلة، وإن خير عمل هو ما يقوم به الفرد الحر الذكي المستقل الذي يعد ذخر البلاد وعتادها. . .

وفيما هو ينافح عن حزبه ويجادل خصومه في مبادئه إذ وقع في البلاد حادث جديد زاد هياجها وكان مثله مثل الزيت يلقى به على النار وذلك هو حادث جون برون، فإن هذا الرجل على كبر سنه قد أعلن الثورة لتحرير العبيد، ولقد كانت له قبل ذلك بثلاث سنوات حركة جريئة لنصرة قضيتهم في كنساس، وقد عول اليوم أن يذكي نار الثورة في البلاد إذ لم يطق صبراً على بقاء هذا النظام البغيض، وكان أهل الجنوب قد قتلوا ابنه من قبل وباتوا يتربصون به ليقتلوه هو. . .

خرج هذا الرجل في ثمانين لا أكثر من الرجال، منهم خمسة من الزنوج؛ وكان قلبه يفيض حماسة، فأعلن خطته في جرأة الأبطال واستهتارهم بالموت، ألا وهي حق كل زنجي أن يثور على مالكه، فليس أمام هؤلاء الزنوج غير القوة؛ ولكن جون برون لم يكد يخطو الخطوة الأولى ويستولي على مركز يجعله قاعدة لحركته حتى غلب على أمره فحوكم

ص: 59

وأعدم. . . ولقد قابل الموت بجنان ثابت ونفس هادئة. ولما حانت منيته استنزل لعنة الله على الظالمين أعداء الحرية. . .

واغتدى جون بجرأته ثم بميتته هذه بطلاً عند دعاة التحرير في الشمال؛ وأخذوا ينظمون الأناشيد في بطولته ويجعلونه رمزاً لأحرار الشمائل ومثالاً يجب أن يحتذيه كل من كان له قلب يخفق بحب الحرية. . . ويرى دوجلاس في هذا الحادث فرصة يحذر أن تفوته، فيعلن أن ذلك ليس بعجيب فلن تفضي مبادئ الجمهوريين إلا إلى مثله. . .

وأدرك لنكولن خطر التهم، ولو كان غيره مكانه لأخذته مما رمى المارد الصغير ورطة؛ ولكن صوت الحق لا يضيع في ضجيج الباطل؛ فهذا لنكولن يتلقى دعوة من جماعة في نيويورك فيلبي مسرعاً ويلقي خطاباً من أبدع وأروع ما وانته به عبقريته وفي جمع لم يسبق أن وقف في مثله

احتشد لسماعه في تلك المدينة العظيمة جمع من كبار الساسة وقادة الرأي وذوي الثقافة وأساطين الصحافة، فكان لهذا الحفل بهم مهابة وجلال وخطر. . . واحتشد كذلك عدد هائل من عامة الناس ليروا لنكولن، هذا الذي كان يشتغل نجاراً أول ما نشأ فاستطاع أن يرقى حتى يقف من دوجلاس الشهير موقف الند من نده وأن يظهر عليه في الخطابة والمجادلة. . .

ولقد ارتاع فؤاده عند ما بلغ مكان الاجتماع وذلك حينما رأى هؤلاء السادة في ملابسهم الأنيقة، ورأى في وجوههم نضرة النعيم وفي أحاديثهم وتحياتهم روح المدنية؛ ولما نهض للخطابة شاهد بعض الناس علامات الحيرة عليه، فقد كان على غير ما ألف مشغول البال بملابسه المتهدلة العتيقة التفصيل والحياكة والتي تبدو بمقارنتها بما يقع عليه بصره كأنما جيء بها من متحف

وتطلع عامة الناس إليه في دهشة، وتقسمت ألحاظهم بين قامته الطويلة ويديه الكبيرتين اللتين تدلان في جلاء على أنهما خلقتا للمعول لا للقلم، ووجهه المصفار المسنون الذي تغشاه سحابة عميقة من الهم، وعينيه الواسعتين اللتين تعبران عن وداعة الأطفال وحماسة الأبطال، وأنفه الأشم الغليظ الذي يترجم عن صرامة عزيمته وشدته في الحق، وشعره الأشعث الذي يعلو رأسه الكبير في غير نظام كأنه ألفاف الغابة. . .

ص: 60

وكان صوته في أول الأمر خافتاً، ولكنه أخذ يعلو حتى ملأ الأسماع. وصفه أحد الحاضرين فقال:(أخذ وجهه يضئ بما في باطنه من نيران. . . وجلجل صوته وعظمت قوة خطابته، واتفق له إلى حد كبير مثل سهولة الإنجيل البالغة. . . وكان يسود المكان صمت عميق بينما هو يتكلم حتى لقد كان إذا سكت يسمع هسيس الغاز منبعثاً من ثقوب المصابيح، فإذا تحمس السامعون دوت في جنبات المكان رعود قاصفة من الاستحسان)

ولقد عد خطابه هذا من أبلغ الخطب السياسية قاطبة. قال عنه جريلي - وهو الذي رأيناه قبل ذلك بعامين يدعو إلى أن ينضم دوجلاس إلى الحزب الجمهوري ففقد بذلك مودته -: (ما من رجل استطاع أن يبلغ لأول مرة بخطابه إلى مثل هذا الأثر الذي بلغ إليه لنكولن أمام جمهور المستمعين في نيويورك)

عاد لنكولن فأوضح خطة الحزب الجمهوري بما لا يدع مجالاً من بعد لدسائس خصومه، ثم استنكر ما فعله جون برون ومما ذكره في ذلك قوله:(لا يمكننا أن نعارض في الحكم على جون برون جزاء خيانته ولاية من ولايات الاتحاد، لا يمكننا أن نعارض في ذلك ولو أنه يوافقنا فيما يراه من خطأ نظام العبيد فان ذلك لا يبرر العنف وسفك الدماء والخيانة)

وأقبل عليه الناس كبيرهم وصغيرهم عالمهم وجاهلهم يهنئونه بما ظفر به من توفيق في هذا الحفل المشهود، ويعلنون إليه حبهم وولاءهم وإعجابهم بمبادئه. ولقد طار صيته بهذا الخطاب عل نحو لم يرى مثله من قبل، وأخذ الناس يحسون أنه الرجل الذي تجتمع عليه القلوب والأهواء. ولقد رأى الصحف وهو في طريقه إلى سبرنجفيلد تتحدث عن ترشيحه للرياسة في الانتخاب الذي يحل ميعاده في نهاية هذا العام. . .

(يتبع)

الخفيف

ص: 61

‌تطور الحركة الأدبية في فرنسا الحديثة

بول فاليري

للأستاذ خليل هنداوي

يمكن القول إن شعر (بول فاليري) لا ينحدر من ينبوع واحد. فهو طوراً رفيق البرناسيين، وطوراً رفيق الرمزيين ولا سيما (ستيفان مالارمي) يغشاه عطف ناعم، وتكتنفه أحلام وتأملات ورموز. وشعر (فاليري) الطافح بالإبهام يبقى محافظاً على إيقاعه الموسيقي ولمعان صوره. وهنا سر عظمة الشاعر! وقد جرب (فاليري) أن يودع شعره (إلهامات) تجدد لغة العاطفة. وهذه الإلهامات قد أغنت عن كل الحريات، من الشعر الرمزي إلى البرناسي فالوجداني. ويرى فاليري أن هذه الحريات لم تنقذ الشعر ولم تعتقه من قيوده، إذ الشعر لا يمكن أن يولد إلا من حالة قهر أو من شدة، من صراع ومن ظفر. وقد يمتزج سهله مع النثر. ومقاطيع المقبرة البحرية - إذاً - قد بنيت وتحدرت كالشعر المدرسي، وفيها وفي حركتها قدرة - لو أنها دقت وانجلت - على أن تحمل الفكرة بوثبة لا تقهر، حتى في الموطن الذي لا تفهم فيه الفكرة، لأنه شعر حمل على الإبهام. وفاليري يعمل ضد المدرسة الرمزية والوجدانية بإعطائه - الشعر - خاصة الترنم لا بالأهواء وإثارة المشاعر ولكن بالأفكار! فالعاطفة يجب أن تقاد بالعقل. ويجب أن يكون محكوماً بصورة منظورة. على أن هذه الفكرة هي مولدة الشعر المدرسي. ولكن الشعر المدرسي لا يقيس من العقل إلا فكرة كبيرة واضحة. والعاطفة - وهي الشعر الصافي - إنما يجب أن تعبر عن العقل الصافي. وهذا العقل الصافي لا يربطه شيء بمنطق نصائحنا، ولا بأي مظهر من المظاهر الواضحة لحياتنا العملية. فهناك - في منطقة منعزلة بعيدة عن أنظمة هذه الحياة أو سطحيات اللغة العامة، هنالك عالم (للأفكار الصافية). فإذا ما استطعنا أن نستنقذ أنفسنا من هذه العبوديات في المظاهر بما أُوتينا من جهد ندخل حالاً عالم الشعر. . . الشعر الذي اكتشفه أفلاطون ووجده مصوغاً من النور ومن هذا الخلود الحي للرؤى العقلية. في هذا العالم لا يفكر بمنطق كما يفكر نثرنا وشعرنا. وإنما هذه الرؤى العقلية تترابط، أو تنحدر بحسب الإيقاع الضروري لها، كالزهرة ثم الثمرة تنشأن من الغرسة، لا كالقدوم يطرق المسمار. القصائد يجب ألا تفهم بالنظر في بنائها الظاهر كأنه مشهد نحن غرباء عنه،

ص: 62

ولكن يجب أن تفهم بالتأمل في باطنها، بجهد يجعلنا نحس أننا قادرون على خلقها في أنفسنا!

الشعر خلق لا تأثير ولا حالات إحساس - كما هو عند الرمزيين - ولكنه قوة إحساس عقلي.

إن شعر (فاليري) هو أكثر تعلقاً من شعر (مالارمي) بالعاطفة التي تنحدر إلى ما وراء الطبيعة. هو جهد يضعنا في اتصال - لا بأهواء إنسان ولا بهذا العدم الذي هو إنسان ولكنه يصلنا بنفس الوجود المنظور كلعبة دقيقة من الأفكار السامية. وإن من الصعب التكهن عن مستقبل هذا النزوع المبتدع. فقد يمكن أن يتلاشى غداً ولا يبقى منه شيء. ولكن من المحتم الإيمان بعبقرية فاليري الشعبية. . . ولا ينكرها عليه من لا يرون في هذا النزوع إلا هزيمة متكبرة، وإلا مقاطيع يتلقنها صاحبها من العمل المبهم وقبسات الجمال الخالد، ولا يمكن جحود تأثير الشاعر الراهن، ولكنه ما هو إلا شعر فئة مصطفاة ضئيلة العدد، ولكن الذين يتلون سببنوزا وهيجل قليلون ولم يغض هذا من عظمتهما وعبقريتهما.

المذاهب الأدبية المضادة للمذهب المدرسي

لقد رأيت أن شعر (مالاري وبول فاليري) ومن حذا حذوهما كان كله نزوعاً حاداً للانفصال عن تقاليد العقل والفن، ومنها التقاليد التي تبدو لنا أنها متعلقة بطبيعة عقلنا ومعانينا. هنالك مدارس ترى أن هذه التقاليد ليست إلا اصطلاحات بل أبسط اصطلاحات وأكثرها سطحية.

الموسيقى يجب ألا تكون إلا لذة الألحان، فكل الموسيقيين إذا وضعوا فيها أفكاراً وعواطف هي شكل مسهب لأفكارنا؛ والدهان يجب أن يكون اللذة الوحيدة للأشكال والألوان، فكل الدهانين إذاً وضعوا فيه مواضيع، منها موضوع زهرة أو مرجل والزهرة تلقن فكرة زهرة، والمرجل فكرة مرجل! أما الفن فيجب أن يكون محضاً أو صافياً، أي تنظيم ألحان وألوان وأشكال. يكفي لنفسه ويبدع لنفسه شرائعه الخاصة دون أن ينشأ أي سأم من تشابهه مع الحقيقة العلمية. وهكذا نشأ فن محض في أنواع الفن، ومنه الأدب الذي نشأت فيه مقاطيع وروايات يظهر أن هدفها ليس إلا إذهال نفس القارئ أو الناظر. وما شعر مالارمي أو فاليري إلا مشاهد ذات لون خاص، طليقة من كل تقاليد العقل والفن، ومنها التقاليد القائمة على عقلنا وحواسنا. ونشأ بين الروائيين (برست) صاحب كتاب (وراء الزمن

ص: 63

الغابر) وهو الروائي الذي ما عاش إلا ليلاحظ نفسه أو يلاحظ غيره. وقد ذهل عن حياته ومطامعه وانجذب بتفهم نفسه وتفهم غيره. ولقد كان ملاحظاً محللاً تطغى فيه صفة التحليل على صفة الإبداع، ولم يكن ميالاً إلى النظر العقلي أو النظرية الخفية، ليس هنالك في تحليله مواضيع فوق الوضع، ولا منحدرات في ظلمات اللاوعي. . . وأن كان تحليله النفسي تحليلاً ظاهراً دقيقاً. وهو في كل مظهر له يبدو أنه ينطلق عن الأسرار المجهولة في النفس، وجل عمله يميل به إلى إظهار هذه الأسرار المتحركة وتوضيح المنطق الذي يقود حياته وحياة الآخرين. وهي ليست بأسرار خفية أو غير قابلة للتحليل؛ إننا نخفيها عن أنفسنا، و (بروست) يعمل على إظهارها من خفاياها. وقصصه إنما تخرج كحياة نفسه أو كالحياة. وهو لا ينتخب له طريقة معينة في القصة، فقد تأتي قصصه اعترافية، وهو فيها البطل. وقصصه مما لا يمكن تقليدها لما فيها من قوة وتحليق!

خليل هنداوي

ص: 64

‌رسالة الشعر

هكذا قالت بغي. . .!

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

وَاسِ يَا دَهْرُ! وكَفكِفْ من صُرُوفيِ

وَأَعِنِّي!

طالَ بالْعَارِ عَلَى الدُّنْيا وُقُوفيِ

لَا تَلُمْنيِ!

وَخَبَتْ من خزْيِهَا تَحْتَ شُفُوفيِ

نارُ حُزْني! ِ

ما الذي في زَلَّةِ الجسم الضَّعيف

كان مني؟

بِعْتُ عِرْضي - يا إلهي - بِرَغيفِ

فَاعْفُ عني!. . .

قيلَ: إِنَّ الرِّقَّ قد ذَابتْ قُيُودُه

وَتَصَرَّم!

كذبوا. . . هذا على جسمي حديدهُ

يتضرَّمْ!

كلما هلَّتْ على رجْسيِ وُفُودُه

تتنعم!

غَاصَ بِي في الشَّهْوَةِ الدُّنْيَا عَبِيدُهْ. . .

رَبِّ فارْحَمْ!

وَأَنا. . . كالعودِ يُشْجيهم نشيدُه

وَهْوَ مُلْجَمْ!. . .

ساقَني الْقُوتُ وَساقَتْكم إليّْ

شهواتُ!

جذَبتْكم للهوى من شفتيّْ

جمراتُ

أَزهرتْ حُمْرتَهَا من رِئتيّْ

زفراتُ!

هي في شرعِكُمُ الجاني عليّ

صبوات

وَهْي لحنُ الزَّادِ غَنَّتْهُ لديّ

قُبُلاتُ!

في سبيلِ العَيْش يا شَرْعَ التُّرابِ

ما أُكابدْ!

حَرَّمَ اللهُ. . . وَحَلَّلْتُمْ. . . شَبَابي

لِلْمفَاسِدْ!

وَارْتَجَلْتُمْ شِرْعَةً سَوَّتْ خَرَابي

بالمعَابِدْ. . .

في زَحامِ اٌلإِثْمِ لا يَطْرُدُ بابي

أيَّ قاصِدْ!

لا. . . وَلا يُغْضي حَيَاءً من عَذَابي

طَرْفُ زَاهِدْ. . .

أيُّ شَرْعٍ قالَ: في الْقَيْدِ اسْلُكُوهَا. .

لِلفجُور؟

وَإِلى سِجْنِ الْمَواخيرِ ابْعثُوهَا. . .

لَا الْخُدورِ!. . .

ص: 65

أَلأَنِّي كُنْتُ أُنْثَي خَدَعُوهَا

بالسُّفورِ؟

حِينما الْعِفة هَاجتْ. . . أَغْرَقوهَا

في الُخمورِ. . .

لَيْتَهُم - لما أفَاقَتْ - شَيَّعُوهَا

لِلقُبُورِ!!

أَنا رَيَحْاَنَةُ عَارٍ قد رَوَاهاَ

إِثْمُ أَرْضي!

بَعْدَ ما لَوَّثَ جاَنيهاَ شَذَاهَا

راح يُغْضي. . .

نَجْمَةٌ كمْ أسْكَرَ الكون سَناَهاَ

ماَتَ وَمْضي

هكَذَا الدُّنياَ على الدُّنياَ هَوَاهاَ

رَاحَ يَقْضي:

حُرَّةٌ باللقْمَةِ الْعفْراءِ - وَاهاَ! =بِعْتُ عِرْضي!!

(المجمع اللغوي الملكي بمصر)

محمود حسن إسماعيل

ص: 66

‌من وحي الصحراء

للأديب أحمد فتحي

ظَمِئْتُ، عَلَى قُرْبيِ، مِنَ النَّهْل وَالعَلِّ

فَهَلْ عَافَ عَذْبَ الْوِرْدِ ظَمآنُ مِن قَبْليِ؟!

وَضِقْتُ بلَيْلى، ساهداً، وَلَوَ اُنَّنيِ

تَعَزَّيْتُ لم أَشْكُ التَّشَهُّد في ليلى!

وغشَّتْ حَياتي وَحْشَةٌ ليسَ يَنْتَهِي

مَداها، وَدُوني سائرُ الصَّحْبِ وَالأَهْلِ

وأَقْبَلْتُ، أَشْكُو للصَّحَارَى لواعِجِي

وآنَسُ بالإخْلادِ في كَنَفِ السَّهْلِ

وقلتُ أَجئُ البيدَ ملَء سكونها

وأسْمَعُ هَمْسَ الريح في أُذن الرمْل

تُقَبِّلُهاَ طَوْراً، وطوراً تُرِيدها

تُنَقِّلُ كالحسناءِ رِجْلاً إلى رجل

وأُبْصِرُ بالشمس التي مَلَّتِ النَّوَى

إلى الغَرْبِ تمشي مِشْيَةَ الواهِنِ الكَهْلِ

أراها، حريقاً أَضْرَمَ اللهُ نارهُ

لتأكلَ آجالَ السنينَ عَلَى مهل!

أُحِسُّ لظاها في ضلُوعي وتَنثَنيِ

ويبقى الَّلظى يُغْرِي مَآقيَّ بِالْهَمْل

نَجِيَّةَ رُوحِي لا عَدِمْتِ عواذلا!

فماذا يكونُ الحبُّ، إن يَخْلُ من عَذْلِ؟

وهل كان يُغْرِي الشاربين بِرَاحِهِمْ

سِوَي أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الرَّاح في حِلِّ؟!

وما أنا والعُذَّالُ، يمضي حديثُهُمْ

وَيبقَي حديث الحبِّ في قولِهِ الفصل؟!

أَصِيخِي إليَّ السَّمْعَ، لا تَتَعَجَّليِ

بناتِ خيالي بل دعيها على رِسْلِ!

ولا تحسبي نجوايَ من عَبَثِ الهوَى

وَلَغْوٍ حديثِ الشِّعْرِ، في الجدِّ والهزْلِ

فَرَرْتُ من الدنيا ومِنْكِ تَشَوُّقاً

إليكِ ولِلدنيا فيا للهوى النُّبلِ

أُطهِّرُ نفسي بالبِعاَدِ، لَعَلَّهُ

يُعَلِّمُني صَبْري على الهَجْرِ وَالدّلِّ

وما الحبُّ إلاًّ لهفةٌ، وَتَصَبُّرٌ

وَطُغْياَنُ تَبْرِيح على عاشق مِثْلِي

سَمَوْتُ بأفكاري إليكِ ولم أزَلْ

نَجِيَّكِِ في أحلام يقظانَ بالوَصْلِ

وأَسْرَى خَيالي طائفاً بكِ باسماً

كما تَبْسِمُ الأزهار في الفجر للطَّلِّ

وظلَّ يُنادِي لطْفَ حُلْمِكِ في الكرى

إلى سابقاتِ العَهْدِ، بالوصل والشَّمْلِ

فهل لَقَيِ البَرَّ السَّمِيعَ نِدَاؤُهُ

تُرَى، أم يعودُ الطيفُ بالمنْعِ والخَذْلِ؟!

نَجِيَّةَ رُوحي قد رَمَتْ بي يد النَّوَى

بخيلا من البَيْدَاء يجزل في البخل

تَلَفَّتُّ حَوْلِي، لم أَجِدْ لِيَ مُؤْنساً

وقد كان كلُّ الأثس لو شِئْتُ مِنْ حَوْلي

ص: 67

وأَصْغَيْتُ للصحراء يَنْشُدُ مِسْمعي

حديثاً، ومَنْ لي بالحديث بِهاَ، مَنْ لي؟!

هُناَ الصَّمْتُ حَرَّانُ الجوانِحِ مثْلَما

يُصَعِّدُ صَبٌّ زَفْرة الشوق لِلْوَصل

هنا مَلْعَبُ الذِّكرى وميدانُها الذي

تَشَعَّبَ بالعُشَّاقِ، سُبْلاً إلَى سُبْلِ

ومَسْرَح أفكار تساءل عن هَوًى

بعيدِ المرامي لا قريب ولا سَهْلِ

وَمهْبِطُ إيحاءٍ ومَذْرَفُ أَدْمُع

تحيَّرْنَ بين الكْبِرِ في العَيْنِ والذلِّ

وَمَعْبَدُ حُسْن قَدْ تحكَّمَ في الورى

قضاءً جَرَي بالظلم حيناً وبالعدل

وَرَوْضٌ مِنَ الأوهام لاذَتْ بِظِلِّهِ

قوافِلُ في الرَّمْضاءِ، تُحْدَى إلى الظِّلِّ

ودُنيا من الحِرْمَان ضجَّ ضَجِيجُها

تَصَايَحُ بالزَّمرِ الطَّرُوبِ وَبالطَّبْلِ!!

نَجَيَّةَ رُوحي يا مُناها وسُؤْلهاَ

هنيئاً لرُوحي بالأَماني والسُّؤْلِ

تَرَيْنَ شبابي ملء عَيْنَيْكِ ناضراً

يُغنِّي كما تشدو الطيور على النَّهل

أَعِنْدَكِ أنَّ القلب طفل وإنَّنيِ

أَخَافُ تَباَريح الغرام على طِفْلي؟

تَبَدَّى له النيرانُ ورداً وإنَّهُ

من الخوف والنيران بالوَردِ في شُغْل

فلا تَفْجَعِيِه في الأماني وحُسْنِهاَ

ولا تُركِبيهِ مَركَبَ الشَّطَطِ الهَوْل

خُذِيه حَناناً في يديك ورحمةً

ولا تُغْلظِيِ يوماً لطفلكِ في قَوْل

وغَنِّي لَهُ الألحان فَرْحَى رقيقَةً

فَعَلِّي أن أحْظَى بأصَدائِهاَ عَلِّي

وَرَاعيه كالأُمِّ الرَّؤُوم تَلَطفاً

فَوَيْلىِ إذا ما اليُتْمُ رَوَّعَهُ وَيليِ

ولا تُشْبِهِي الصحراء في جَدْبِ قَلْبِهاَ

إذا جَاَءها الظَّمآنُ للنَّهْلِ والعَلِّ!!

(القاهرة)

أحمد فتحي

مدرس بالتعليم الفني والصناعي

ص: 68

‌البريد الأدبي

توحيد الثقافة بين الشعوب الشرقية

تلقت وزارة الخارجية من وزير مصر المفوض ببغداد تقريراً عن زيارة صاحب العزة محمد العشماوي بك وكيل وزارة المعارف للعراق في أثناء عطلة العيد الأضحى الماضي، وعما نجم عنها من تفاهم مع رجال وزارة المعارف العراقية على الدعوة إلى مؤتمرات ثقافية، تعقد كل عام لتوحيد الثقافة بين الشعوب الشرقية.

وقد رفع صاحب العزة العشماوي بك وكيل المعارف إلى معالي الدكتور حسين هيكل باشا مذكرة يقترح فيها تشكيل لجنة لدراسة هذا الموضوع وقد جاء في هذه المذكرة ما يأتي:

(عند وجودي في العراق جرى الحديث مع كبار رجال التعليم في موضوع توحيد المناهج والخطط في البلاد الشرقية، بقصد توثيق الروابط الثقافية بينهما وانتفاع البلاد الشرقية بموارد بعضها العلمية، وإن مثل هذه الفكرة تؤدي إلى التفكير في بحث تمهيدي للدعوة لمؤتمر يدرس شؤون التعليم بين أمم الشرق ووسائل التربية والسياسة العامة في نشر الثقافة، ويواجه بعض المشاكل التي تعرض لهذه الأمم وتكاد تكون متشابهة.

وقد أثار هذا التفكير في العراق وسورية اتجاه هذين البلدين للاستعانة بموارد مصر الثقافية، وسعيها لأن تقتفي أثرها في نهضتها العلمية وتترسم خطاها.

وقد كان عقد المؤتمر الطبي في بغداد من المناسبات التي أثارت هذا البحث، وشجع نجاح المؤتمر على زيادة العناية بهذه الفكرة. ولما تشرفت بمقابلة صاحب الجلالة الملك غازي الأول، أثار سعادة وزير مصر المفوض هذه الفكرة فلقيت من جلالته كل تشجيع.

وإنني أرى أن الوقت قد حان لاتخاذ خطوة تمهيدية لتحقيق هذا الغرض وذلك بأن يعهد إلى لجنة من كبار رجال التعليم في الوزارة والجامعة بحث الفكرة من جميع نواحيها وتوحيد الموضوعات التي ينبغي العناية ببحثها، حتى إذا أقرت هذه الفكرة بدأت مصر في الاتصال بالبلاد الشرقية لمواصلة تنفيذها في الوقت المناسب).

فلما عرض هذا الموضوع على معالي الدكتور حسين هيكل باشا رأى أن تحقيق هذه الفكرة يتمشى مع السياسة التي يعنى باتباعها في هذه الأيام والتي ترمي إلى الروابط الثقافية بين ممالك الشرق المختلفة ولهذا أصدر معاليه قراراً بتشكيل لجنة لبحث الموضوع وفيما يلي

ص: 69

نص القرار بعد الديباجة:

المادة الأولى - تشكيل لجنة تمهيدية لبحث هذا الاقتراح على الوجه الآتي:

وكيل الوزارة رئيساً، والوكيل المساعد وعمداء الكليات ومحمد فهيم بك والدكتور عبد السلام الكرداني بك والأستاذ نجيب حتاتة أعضاء.

على أن يكون محمد فهيم بك سكرتيراً عاماً لهذه اللجنة.

المادة الثانية - تكون مهمة هذه اللجنة بحث الفكرة من جميع نواحيها، وتحديد الموضوعات التي يتعين العناية ببحثها حتى إذا أخذ بهذه الفكرة بدأت مصر في الاتصال بالبلاد الشرقية لمواجهة تنفيذها في الوقت المناسب

فلما وقف حضرات أعضاء البعثة الإيرانية السامية على هذا المشروع أبدوا رغبتهم إلى وزارة المعارف أن توافي وزارة المعارف الإيرانية بجميع القوانين واللوائح والإحصاءات المختلفة عن الشئون التعليمية التي تضطلع بها وزارة المعارف والجامعتان المصرية والأزهرية، وذلك لتكون تحت نظرها أثناء البحث في المشروع الذي يرمي إلى التعاون العلمي والثقافي بين البلاد العربية ومصر.

وقد تقدم حضراتهم إلى سعادة وكيل المعارف بالمقترحات التالية التي تنمي تلك الروح بين مصر وإيران.

أولاً - عقد اجتماعات دورية في أوقات متباينة بين القاهرة وطهران تنتظم أساتذة الجامعات المصرية والإيرانية دينية ومدنية.

ثانياً - تبادل الأبحاث الخاصة بالكشف الأثري الذي يتم في كل من البلدين.

ثالثاً - توطيد صلات العلم بين جماعات العلماء المشتغلين بالآثار والتاريخ والأدب في مصر وإيران

رابعاً - تبادل المطبوعات التي تصدر في كل من المملكتين.

في مؤتمر المستشرقين.

يعقد مؤتمر المستشرقين الدولي ببروكسل من اليوم الخامس إلى اليوم العاشر من شهر سبتمبر المقبل، ويمثل مصر فيه عميد كلية الآداب رئيساً، والأساتذة أحمد أمين أستاذ تاريخ الآداب العربية في الكلية، والدكتور عبد الوهاب العزام الأستاذ المساعد للغتين الفارسية

ص: 70

والتركية في هذه الكلية، والدكتور سامي جبرة أستاذ تاريخ مصر القديمة، ومسيو جاستون فييت مدير دار الآثار العربية والحفريات أعضاء.

وسيتقدم الدكتور طه حسين بك إلى المؤتمر ببحث عن تبسيط النحو، والأستاذ أحمد أمين ببحث عن امتزاج الثقافات في البيئة المصرية، وسيمثل الدكتور عبد الوهاب عزام الثقافة الفارسية، والدكتور سامي جبرة ناحية الآثار الفرعونية، ومسيو فييت ناحية الآثار الإسلامية

زيارة عضوين من البعثة الإيرانية السامية لمجمع اللغة

الملكي.

زار حضرتا صاحبي السعادة الدكتور قاسم غني والدكتور مؤدب نفيسي من أعضاء البعثة الإيرانية دار المجمع الملكي للغة العربية يرافقهما معالي الدكتور هيكل باشا وزير المعارف.

وكان في استقبالهما صاحب السعادة توفيق رفعت باشا رئيس المجمع، والأستاذ الشيخ عبد العزيز البشري مراقب المجمع، والدكتور فارس نمر باشا، والدكتور منصور فهمي بك، وعلي الجارم بك، وأحمد العوامري بك، والشيخ إبراهيم حمروش والشيخ محمد الخضر حسين، من أعضاء المجمع. فزارا معهم غرفة معجم الدكتور فيشر اللغوي التاريخي وكان يشرح ما فيها لسعادتهما الدكتور منصور فهمي، ثم زارا غرفة فيشات معجم الدكتور فيشر وهي تحتوي على معظم الألفاظ العربية، وطافا بعد ذلك بغرف المكتبة واطلعا على كتب تاريخية قديمة وأخرى خطية مما يعني به المجمع لحصر كلمات اللغة

وأعرب معالي الوزير عن رغبة المجمع في ربط الثقافة الإيرانية بالثقافة المصرية وأنه يسر المجمع المصري أن يعين فيه أربعة أعضاء إيرانيون مراسلون وطلب إلى سعادة الدكتور قاسم غني أن يقدم الأسماء التي يقع عليها الاختيار إلى المجمع لتتولى إدارته اتخاذ الإجراءات السريعة لتعيين حضراتهم فقدم سعادته كشفاً فيه أربعة أسماء فتسلمه الأستاذ الشيخ عبد العزيز البشري.

واتفق كذلك على تعيين أربعة أعضاء مصريين مراسلين للمجمع الإيراني.

ص: 71

متحف التعليم الفني

يفتتح - بعد أيام - معالي الدكتور حسين هيكل باشا وزير المعارف القسم الأول لمتحف التعليم الفني المقام بسراي المعارف بأرض المعارض بالجزيرة، وهو المتحف الذي وضعت نواته الوزارة في العام الماضي عندما احتفلت بعيدها المئوي.

ويشمل هذا القسم ثلاثين مجموعة، يحتوي كل منها نماذج بالحجم الطبيعي. ومن أبدع تلك المجموعات مدرسة نموذجية كاملة في الهواء الطلق، وكذلك حجرة مذاكرة لطالب من الأرياف يتلقى علومه في معاهد التعليم بالقاهرة.

وإلى جانب هذا طائفة كبيرة من النماذج المصغرة المجسمة، والتماثيل والصور المصبوبة صباً في غاية الإتقان، والرسوم البيانية التي أعدت على أحدث الأساليب، والطرائق الفنية التي تمثل اطراد النهضة التعليمية في مصر في العصور المختلفة.

إلى الدكتور عبد الوهاب عزام

قرأنا مقالكم الرائع المنشور في العدد (256) من الرسالة الزهراء عن فقيد الشعر والشرق محمد إقبال، وعند ذكركم مؤلفاته رحمه الله، لم تذكروا سفرين جليلين له نظمهما قبل كتابه الأخير (أهلك حجاز)، أحدهما باللغة الأردية أطلق عليه (صور إسرافيل)؛ والثاني باللغة الفارسية سماه (بس جيه بايد دكرداي أقوام شرق) أي (وماذا يجب أن نعمل أيتها الأمم الشرقية). وقد وضعه متأثراً بالحرب الإيطالية الحبشية الأخيرة واندحار الأحباش كما هو معلوم

هذا ما أردت ملاحظته على مقال الأستاذ الكريم، راجياً الالتفات إليه، داعياً الله أن يفسح له المجال، حتى يحدثنا عن شعر إقبال وفلسفة إقبال، إنه سميع مجيب.

(بغداد - الكرخ)

محمود العيطة

الكلمة الأخيرة إلى الأستاذ سيد قطب

أكتب هذه الكلمة جواباً عما تفضل به الأستاذ الناقد الأديب. . . سيد قطب في الرسالة

ص: 72

(259)

ثم لن أعود إلى الموضوع لأن الكلام فيه مع الأستاذ عبث. . .

تضمن جواب سيد قطب أموراً ثلاثة:

أولها: أنه جعل جهلي بحضرته (جهلاً بالأدب والأدباء في مصر)، وطمأن المصريين بأنه ليس كل شامي مثل (علي الطنطاوي) في هذا الجهل. . . ومعنى هذا أن (سيد قطب) هو (الأدب والأدباء في مصر) من عرفه فقد عرف ذلك ومن جهله فقد جهله، وهذا من الادعاء وعوج الفهم بمكان؛ وأنا بحمد الله أعرف أدباء مصر شعراءهم وكتابهم: أعرف شوقي وحافظ رحمهما الله والجارم ومحرم ورامي والهراوي، وأعرف الرافعي رحمة الله عليه والعقاد والمازني وهيكل والزيات وطه والبشري وأحمد أمين وكثيرين لأجدى من عد أسمائهم؛ وقرأت لهم (كل) ما كتبوه ولكني لم أتشرف بمعرفة سيد قطب؛ فهل يمحو جهلي به علمي بكل أولئك؟

وثانيها أنه لم يأخذ من كلامي أو لم يفهم منه إلا أني استدللت على صحة تشبيه الرافعي بأن لشوقي مثله، مع أن كلامي بين أيدي القراء، وأن الذي قلته هو أن الأستاذ سيد قطب لم يستكمل أدوات النقد، ولم يرع المعروف من قواعد البلاغة، وأنه أشتغل عنهما بما يبدأ فيه ويعيد من الدعاوى العريضة في العلم والفن والتجديد، فلماذا ترك ذلك كله من كلامي وأخذ مثالاً عارضاً جئت به، وعلماؤنا يقولون:(ليس من دأب المحصل المناقشة في المثال)

وثالثهما أن الأستاذ ينصحني بالاقتصار على التدريس وترك الأدب، ويخرجني من زمرة الأدباء، وهذا كلام لا أحب أن أجيب عليه، ولا أعود إلى البحث مع من يقوله، لأنه لا يقوله إلا جاهل بأصول النقد بعيد عن المنطق، لأن النقد لا يجيز شتم الخصم والكلام على شخصه، وإنما يدعو إلى مناقشة الرأي الذي رآه، والمنطق يقضي عليه أن ينظر في كلامي ويرد عليه أو يدع، ويذكره المنطق (لو كان من أهله) بأن إقرار التحكيم والاعتراف بكفاية القاضي وسلطانه، مقدم على إصدار الأحكام. فمنذا الذي نصب هذا المحترم قاضياً بين الأدباء وحاكماً فيهم؟

وآخر ما أقوله للأستاذ سيد قطب تحية و. . . (سلاماً)!

علي الطنطاوي

ص: 73

إلى الأستاذ سيد قطب

عاب سيد قطب على الأستاذ شاكر أن نقده مملوء بالغمز واللمز والتعريض، وعاب عليه أيضاً أنه لا ينفذ إلى صميم الموضوع عند ما يناقش. وكنا ننتظر من سيد قطب أن يرد على الكلمة التي كتبها الأستاذ الطنطاوي في عدد مضى، فيناقشها مناقشة هادئة تدل على أنه ناقد منصف ومناظر نزيه. . . أو يتجاهلها فلا يذكر شيئاً. وإذا به يتصف بالخلة التي عابها على الأستاذ شاكر فيعرض بالأستاذ الطنطاوي تعريضا، ً ويكرم دمشق أن يكسب خصومته إذا وضعها حيث ينبغي وضعها من الأدب والرأي. فما ندري أحسب سيد قطب أن كلمة الأستاذ الطنطاوي وظيفة إنشاء. . . أريد منه أن يتفضل فيدلي برأيه فيها ويضعها حيث ينبغي وضعها من مدارج الآداب. . .؟ وكأن دمشق قد فرغت من مشكلاتها ومصائبها، وانتهت من قضية (المعاهدة) و (اسكندرونة) ولم يبق لها إلا أن تتفرغ لسيد قطب! فنحن نريد أن يطمئن الأستاذ قطب وألا يجزع، وأن يتنازل فيناقش الأستاذ الطنطاوي مناقشة هادئة منصفة أو يقبل ما جاء به. . . ولن تغلق أسواق دمشق احتجاجاً بعد ذلك؟. . .! ثم لن ترسل البرقيات إلى عصبة الأمم. . .! فهل يكفي سيد قطب هذا التطمين؟ إذن:

فقد وجدت مكان القول ذا سعة

فان وجدت لساناً قائلاً فقل

(دمشق)

صلاح الدين المنجد

نداء الباعة

قرأت في العدد الماضي في البريد الأدبي كلمة حول هذا الموضوع، قال مسطرها: إن كاتباً إنجليزياً نشر بحثاً ضافياً في هذا الموضوع في صحيفة إنجليزية، وقد عنى فيه بالجانب النفسي عناية فائقة. ثم أثنى كاتب الرسالة على الباحث الإنجليزي وأعجب بطرافة موضوعه.

وأود - حفظاً لحق أدبي - أن أقول: إنني سبقت الكاتب الإنجليزي إلى معالجة هذا

ص: 74

الموضوع، ولكني عالجته شعراً في قصيدة تزيد أبيتها على الثلاثين، بداءتها قولي:

نَطَقْتمْ مقاطعَ لم أدْرِها

ولم تكشف النفسُ عن سرِّها

وصُغْتمْ نفوسكم هتفةً

تبينتكم من صدَي جَأُرِها!

ولا أريد أن أثبت تمام القصيدة في تلك الكلمة القصيرة، وسوف أنشرها - إن شاء الله - في ديواني عند طبعه.

(الإسكندرية - الشاطئ)

العوضي الوكيل

بين مذهبين

جاءتنا كلمة بهذا العنوان من الأستاذ محمد سعيد العريان، يرد بها على شيء تناوله به الأستاذ سيد قطب في عدد الرسالة الماضي، ولكنا لم نتمكن من نشرها لوصولها بعد إعداد هذا العدد وترتيب موضوعاته، فموعدنا بنشرها العدد القادم.

تصويب

في (قصة الكلمة المترجمة): (في الرابعة والرابعين) وهي (في الأربعة والأربعين) و (تذكرنا بهذه الأملوحة) وهي (بهذه الأملوحة) و (أبو بكر البلاقلاني) وهي (الباقلاني) و (نفي القتل لا يبيده) وهي (القاتل) وفي الشرح: (وإن كنت في الصنيعة) وهي (الصنعة).

مزالق الأدب

القصة الأدبية دعامة قوية يعتمد عليها الأدب الحي ويرتفع بناؤه الشامخ الوطيد، وهي لون جميل من ألوان الحياة الفكرية ومظهر خلاب من مظاهر الثقافة والتهذيب. . .

وإن أدب القصة يحتل اليوم المكانة الأولى والمنزلة السامية بين الآداب الأخرى، كما أن القارئ المصري ينظر الآن في القصة لا (للتسلية) فحسب بل ليجد فيها المتعة الأدبية والغذاء الروحي والحكمة الموفقة والموعظة الحسنة.

وقد حمدنا لبعض كتابنا عنايتهم بذلك الضرب من الأدب، وبذل الجهود السامية في سبيل نصرته وتقوية أركانه، ووضع ما يكفل له الحياة والنمو!

ص: 75

بيد أن هناك كتاباً قد وجدوا في ترجمة القصة (البوليسية) سوقاً نافعة وربحاً وفيراً، فحبسوا جهودهم عليها. وقد انزلق بعض كتاب هذه القصة فذكروا في قصصهم ما يعبد طريق الشر والفساد، ويبعث في نفس القارئ - الشاب - العوامل المختلفة المتباينة، وقد تؤدي هذه العوامل إلى الوقوع في مهاوي الجريمة. وحسبك أن ترجع إلى تلك القصص لترى فيها فساد الرأي، وعدم التوفيق إلى فكرة صالحة، تشاهد المجرم وقد صوره القاص في صورة البطل الفذ، وقدمه إليك في مهارة وعبقرية، بعد أن وضع على رأسه إكليل الغار.

لا جدال في أن ذلك الأدب الرخيص لا يؤدي إلى الغاية المنشودة ولا يحقق الرجاء المنتظر، بل ينزلق بالقارئ إلى مكان سحيق لا نرجوه له. . .

وبعد. فنحن في صدر طفرة جديدة وعهد جديد، فيجب علينا أن نتخير نوع الغذاء الروحي لأبنائنا، حتى يتسنى لنا أن نجعل منهم جيلاً جديداً له من نبل أخلاقه وحسن صفاته ما يحمله على النهوض والتقدم.

(بني مزار)

الطهناوي

ص: 76

‌الكتب

سندباد عصري

تأليف الدكتور حسين فوزي

للأستاذ محمد سعيد العريان

في صيف سنة 1933 خرج الدكتور حسين فوزي مدير معهد الأبحاث المائية في بعثة من رجال العلم الأوربيين للاستكشاف ودراسة الأحياء المائية في البحر الأحمر والمحيط الهندي؛ وقضت البعثة في تجوالها تسعة أشهر ثم عادت، وكان من نتائج هذه الرحلة كتاب سندباد عصري. . .

ولكن كتاب (سندباد عصري) لا يتحدث عن هذه الرحلة حديثاً علمياً؛ إذ كان مؤلفه قد لخص أبحاثه العلمية ونتائجها في تقرير قرره من قبل؛ ثم أنشأ هذا الكتاب من بعد، ليقص به قصة هذه الرحلة كما هي في شعوره وفكره ووجدانه، بعيدة عن العلم ونظرياته وأبحاثه ونتائجه. على أنها ليست قصة بمعنى القصة تبدأ بدأها وتنتهي إلى نهايتها؛ ولكنها خواطر وصور ومشاهدات مما أجتمع للمؤلف في رحلته: مما وقع عليه نظره، أو انفعلت به نفسه، أو انطبع في وجدانه، أو بعث في نفسه معنى من معاني الفن أو الشعر أو الجمال. فصول مفرقة هي خفقات قلبه، ونبضات روحه، وخلجات نفسه، وصورة من إحساسه وعواطفه في هذه الرحلة منذ بدأت إلى أن انتهت

وقد قسم المؤلف كتابه إلى مقدمة وأربعة أبواب: الباب الأول عبث وفكاهة، والثاني صور ومشاهدات، والثالث جد ودراسة ورأي، والرابع عواطف ومشاعر وخيال وفن؛ وتحت كل باب من هذه الأبواب فصول عدة، يتحدث كل فصل منها عن موضوع بذاته، ليس بينه وبين سابقه أو لاحقه صلة، إلا الصلة التي جمعت بين كل هذه المشاهد تحت عيني كاتب فنان له روح وعاطفة وفي نفسه شعر وفن.

على أن ما يحكيه المؤلف أو يتحدث عنه في هذه الفصول ليس هو مشاهداتٍ صامتة كبعض ما يصف الرحالون والرواد، ولكنها حكاية نفس رأت فتأثرت فألقت ظلالها وألوانها وعواطفها على ما رأته؛ فما يصف المؤلف مشاهداته، ولكنه يصف نفسه في مشاهداته؛

ص: 77

ومن ثمة فإن قارئ هذا الكتاب لن يعرف منه أول ما يعرف إلا نفس كاتبه قبل أن يعرف ما كتب عنه؛ وهو بذلك كتاب له ميزته، لأن فيه (صدق) الرواية؛ وله خطر، هـ لأن فيه القدرة على خداع القارئ ليقوده إلى الإيمان بالرأي الذي لم يكن يؤمن به لو لم يتوق بالحذر واليقظة والانتباه. . .

وأول ما تعرف من رأي مؤلف الكتاب ومن نفسه هو قوله الذي يصدر به الكتاب:

(درجت على حب الغرب والإعجاب بحضارة الغرب؛ وقضيت أهم أدوار التكوين من عمري في أوربا، فتمكنت أواصر حبي، وتقوت دعائم إعجابي؛ فلما ذهبت إلى الشرق، عدت إلى بلادي وقد استحال والإعجاب إيماناً بكل ما هو غربي. . .!)

هذه الكلمة، وفيها صراحة الرأي على ما يمكن أن يلقي هذا الرأي من شدة المقاومة، هي نهج المؤلف ورائده ورفيقه طوال مدة الرحلة؛ وهي نفسه الصريحة التي تتراءى للقارئ في كل صفحة من كل موضوع في كل فصل مما أنشأ المؤلف من فصول هذا الكتاب. وإنني - على يقيني بأن هذا الرأي لن يجد له نصيراً عند كثير من القراء، وبأن حظه من الاستنكار سيكون اكثر من حظه من الرضا - أكاد أوقن بأن كثيراً من القراء سيخرجون من قراءة هذا الكتاب أكثر إعجاباً بالكتاب ومؤلفه على ما بينهم وبينه من اختلاف في الرأي والمذهب والعقيدة، وأشد استمساكاً برأيهم ومذهبهم وعقيدتهم فيما بين الشرق والغرب. . .

وإنني لأبيح لنفسي وقد قرأت هذا الكتاب وحللت صداه في نفسي - أن أتقحم على قدس هذا الرأي في نفس الدكتور حسين فوزي، فأزعم أنه مؤمن بالشرق وما فيه إيمان الرأي والعقيدة والدم المورث؛ وما هذا الرأي الذي يجهر به إلا صدى معكوس لبعض هذا الإيمان، أنشأه في نفسه إحساس قوي بمحبة هذا الشرق، ورغبة غالبة في إنهاضه، وأسف بالغ لما صار إليه؛ ثم ثورة فائرة في أعماقه على أكثر ما يرى ويحس من عادات الشرقيين وتقاليدهم؛ فلما هم أن يصيح صيحته قائلاً:(يا بني قومي، ليست هذه روحانية الشرق وليست هذه مفاخرة. . .) عقه البيان فلم يجد إلا هذه العبارة التي صدر بها كتابه يترجم عن ذات نفسه في لغة من لغة الغرب الذي تعلم فيه فتكلم بلسانه. . .

على أن هذا الشرق الذي رآه الدكتور حسين فوزي بعينيه ليس هو الشرق الذي ندعو إلى

ص: 78

إحياء مجده وتجديد حضارته. إن للشرق حضارة أخرى لا تجتليها العين ولا تدركها المشاهدة فقد درست معالم هذه الحضارة فلم يبق منها فيما تراه العين إلا أرض وناس، وتاريخ يتحدث عن ماضي يخزى من ذكر حاضره. وليس الشرق هو هذا الهند الغارق في العبودية والأسر والهوان، ولا هذه الجزر المبعثرة بين شواطئ المحيط الهندي والبحر الأحمر؛ ولكن الشرق معنى عام إن لم يبد اليوم لعينيه فيما شاهد من نؤى وآثار وحجارة مركومة، فان حرياً أن يشرق في نفسه معناه إن حاول أن ينفذ بعينيه إلى ما وراء ما يرى من آثار وحجارة وناس. . .

على أنني في هذا الموضوع لست أريد الحديث عن شرق وغرب، فما هو إلا معنى يستتبع معنى، وإنما أردت أن أعرض هذا المؤلف الجديد بما فيه من رأي صاحبه وفكره، واحسبني قد بلغت في ذلك مبلغاً ما.

ولا يفوتني قبل أن أفرغ من هذا الحديث أن أنوه بالروح الأدبي الذي ألهم مثل الدكتور فوزي أن يؤلف هذه الفصول الشائقة في مثل هذه الرحلة العلمية، على أن هذا الموضوع كان حقيقاً بأن يكون أقرب إلى الكمال وأكثر جدوى وفائدة لو أن مؤلفه (العالم) لم يضن بعلمه على قرائه فيما أنشأ من فصول هذا الكتاب. ولعله حسب ذلك مما لا يهم القراء، على أنه كان عندي وسيلة يكمل بها فما أجمل أن يكون بين علمائنا الأجلاء أديب مثل الأستاذ فوزي في دقة الملاحظة وصراحة الخلق وفكاهة الواقع وخفة الروح وسهولة الكتابة، ليقدم لقراء العربية شيئاً من (الأدب العلمي) أو (العلم الأدبي) فان العربية في حاجة إلى هذا اللون الجديد من أدب الإنشاء الذي لا يقدر على مثله إلا مثل الدكتور حسين فوزي في علمه وأدبه.

وما أريد أن أتحدث عن هذا الكتاب في أسلوبه ولغته؛ إذ لم يكن مما يعني الدكتور فوزي أن أتكلم في هذا الكتاب عن أسلوبه ولغته؛ وإذا لم يكن من حقنا أن نتحدث عن مثل هذا الكتاب في أسلوبه ولغته، لذلك نغض النظر عما فيه من هذا الباب، راجين أن يكون لنا حديث آخر عن كتاب آخر أو كتب أخرى يخرجها الدكتور حسين فوزي لقراء العربية؛ فانه لمما يؤسف قراء العربية أن يكون فيها مثل الدكتور حسين فوزي من الأدباء المجهولين لأنهم لا يخرجون ثمرات عقولهم إلى القراء. . .

ص: 79

محمد سعيد العريان

ص: 80