الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 261
- بتاريخ: 04 - 07 - 1938
بين مصر والعراق
تجري أحكام القدر على أسباب خافية من حكمة الله لا يؤثر في منطقها مقتضيات السياسة، ولا مناسبات الظروف ولا مجاملات الصداقة. ولو كان لهوى النفوس ومشيئة العقول أثر في تدبير الأحداث وتغيير الأقضية لما اخْتُبل في ذلك الوقت هذا الطالب العراقي المسكين فأراق على ثرى دار الحقوق البغدادية نَفْس الدكتور سيف، ودم الدكتور عزمي، وهما يجاهدان غريبين في سبيل العلم، ويؤديان مخلصين للعراق فروض المودة. وأقول في (ذلك الوقت) لأن وقوع هذا القدر المروِّع في هذه الساعة التي تنعقد فيها أَوَاخي المصاهرة بين مصر وإيران أتاح لبعض النفوس الجاهلة أو المريضة أن توازن بين ما يفعل إخوان النسب وبين ما يعمل إخوان العقيدة. ومثل هذا الحادث المشئوم يقع في كل قوم وفي كل يوم، فلا تضطرم له القلوب، ولا تضطرب به الألسنة، ولا تهن منه العلائق، ولكن وقوعه ظلماً على الغريب النافع، من القريب المنتفع، أعطاه معنى التضحية وجعل له تأثير الشهادة. وابن الوطن إذا قتل في وطنه كان مصابه مصاب أسرته، وإذا قتل في وطن غيره كان مصابه مصاب أمته أضف إلى هذه الملابسات شائعات مكذوبة وتعليقات مشوبة استطار بها السماع فدلَّست على الناس وجوه الحكم، وآذت أصدقاء العراق وعارفيه فهبوا يصححون الخطأ في المجالس، ويعلنون الصواب في الصحف، رعاية لأسباب الإخاء، وإدامةً لتعاون الفكر، وضناً بأخلاق هذا الشعب النبيل على الأفواه القارضة.
شهد الله أني قضيت بالعراق ثلاثة أعوام لم ينلني فيها كلمة تؤذي ولا فَعلة تسوء؛ إنما كنت أتقلب في بغداد كما يتقلب الطفل على أحناء الصدر الحنون، لا أحس غربة، ولا أستشعر وحشة، ولا أجد في العيون ولا على الشفاه إلا العطف عليّ والإعجاب بمصر.
وربما وجد المصري في غير مصر تناكرا بين وجه ووجه، وتدابراً بين عاطفة وعاطفة، إلا في العراق، فإنه يجد وجهه في الوجوه وهواه في الأهواء؛ ويحس أن الأدب الذي درس، والتاريخ الذي قرأ، يتمثلان لباصرته وذاكرته في كل شخص وفي كل شيء؛ ويرى أن هؤلاء الناس الذين خُلقوا كما خُلق من النهر ذي الغرين الخصب، وعاشوا كما عاش على الأرض ذات الطلَّع والحب، لا يختلفون عنه في سَحنةٍ ولا خلق؛ والعراقيون من جهتهم يؤيدون حسبانه ووجدانه بالطلعة الأنيسة، والمروءة الجزْلة، والكرم المحض.
كانت مصر إذا ذكرها في المجلس ذاكر نزعت إليها قلوب القوم كما تنزع الأسْرة إلى
عَصَبتها النازحين إلى بلاد الذهب والأدب والجمال. وكان المصريين في بغداد على قلتهم منزلة ملحوظة بين الجاليات الأخرى لا تحوم حولها شبهة الارتزاق ولا سُبَّة التشرد، لأن العراقي وإن كان ضنيناً بخيره على الأجنبي الواغل، يعرف عن المصري ما يعرفه كل الناس من عزوفه عن النقلة من قرية إلى قرية، فكيف بالرحلة من وطن إلى وطن؟
وهذا الذي رأيته بعيني لا أزال أسمعه بأذني من الأساتذة المصريين الذين لا يزالون يسفرون بين الشعبين الشقيقين بالثقافة والمودة. فالأحاديث التي تندس اليوم إلى الأندية اندساس الفتنة لا ترجع إلى حق ولا تذهب إلى منفعة. وهذا الحادث على فظاعته ظاهرة من ظواهر المجتمع، يحدث في الأمم المدنية كما يحدث في الشعوب الهمجية؛ ويقع من القريب على القريب، كما يقع من المواطن على المواطن؛ وحقد النفس على النفس من طبائع الإنسان، وضلال العقل ووهن الأعصاب من آفات الحي، وما يستطيع غير الله أن يعلم خوافي الصدور وخوائن العين.
فماذا كانت تعمل حكومة العراق وأمة العراق لتدرأ ذلك العدوان الفردي المحتوم وقد تهيأت أسبابه خفية في نفس مضطربة وأعصاب موهونة ويأس مضل؟ إن الذين قَالوا إنما كان هناك وعيد كُتب، وتهديد قيل، لم يثبتوا أن الصديق الجليل عزمي قد عاج بهذا الوعيد، أو أخبر الحكومة بهذا التهديد. وإذن لا يبقى إلا نزق الشباب الذي لا طِبَّ له، وقدر الله الذب لا حيلة فيه.
إن العلاقة بين مصر والعراق طبيعية لم يفتعلها طمع الاقتصاد ولا طموح السياسة؛ إنما هي علاقة الدم واللغة والأدب والتاريخ والمجد والعقيدة؛ فإذا طاشت يد هناك، أو هفا لسان هنا، فلا ينبغي أن يقع ذلك من البلدين الأخوين إلا موقع العبث الضروري الذي لا تكون الحياة دنيا إلا لوقوعه فيها، ولا يكون الإنسان بشراً إلا لوقوعه منه.
هذه كلمة كنا نود ألا نقولها، فإن الحاجة إلى تقرير الود بين الصديقين مظنة لوقوع الشك فيه، ولكن قعائد البيوت وأحلاس المقاهي لا يحبون أن يزجُّوا فراغهم الثقيل إلا بزخرفة الأحاديث على حساب الحق، فلم يكن لنا ولهم بد من هذه الهمسة!
أحمد حسَن الزيات
الكبريت
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
(أشعل لي سيجارة)
وكنا نسير بسرعة، فيداي لا ترتفعان عن عجلة القيادة مخافة أن يؤدي أضأل انحراف في التوجيه إلى اصطدام بشيء. ثم إن فمها حلو، وشفتيها رقيقتان، وليس عليهما شيء من الأحمر، ولست أحب السيجارة المبتلة، ولكني قلت لنفسي إن رضابها لا بد أن يكون عذباً.
وكانت السجاير بيني وبينها على المقعد، فتناولتها، ثم جعلت تتلفت وتتحسس باحثة عن الكبريت فقلت:
(هو في جيبي -)
فدست يدها في الجيب، ثم ضحكت
قلت: (ماذا؟ أشركينا. . .)
قالت: (ثلاث علب كبريت. . .!؟ ما هذا؟)
فصحت، والتفت إليها برغمي، وأحسست وأنا أفعل ذلك أن يدي ترعش.
(بس؟)
قالت مستغربة: (بس؟ هل تريد أن تجتر بالكبريت؟)
قلت: (هذه سرقة. . . لا بد أني سُرقت. . . كان في هذا الجيب خمس علب، فأين ذهبت الاثنتان؟ هه؟ طارتا؟ لا يمكن! احترقتا؟ مستحيل! واضح جداً أنهما سُرقتا. . . فمن هو السارق يا ترى؟ هذه هي المسألة التي تتطلب الحل السريع. . . أهو أنت؟ من يدري؟)
قالت: (والله ما أخذت شيئاً، ولا كنت أعرف أن جيبك هذا فيه كبريت. . . بل لم أكن أدرك أن هنا جيباً. . . ثم ماذا أصنع بالكبريت وأنا لا أدخن عادة؟)
وكان في صوتها الفضي اللين من الجزع ما أضحكني فقلت:
(لا عليك يا فتاتي. . . كوني سارقة أو لا تكوني. . . فأنت على الحالين. . . ماذا؟ هه؟ قولي أنت. . .)
فابتسمتْ - أحسست أنها تبتسم، فقد كنت معنياً بالطريق الغاص بالناس والسيارات والغنم والحمير، والجمال. . . ولا سيما الجمال فإنها شر ما أخاف، فإن لها لفزعاً غريباً من
السيارات.
وصمتنا قليلاً، ثم فركت جبينها الصابح ببنانها وقالت كأنما تذكرت شيئاً:
(قلت إنه كان في هذا الجيب خنس علب، فهل تعني أن في جيوبك الأخرى كبريتاً؟)
قلت (لم يخب ضني فيك يا فتاتي. . . ذكية والله!)
وكنا قد بلغنا أول شبرا، فاستوقفني وزعمت أنها تريد أن تشرب، فوقفت، ونظرت إليها - حدقت في وجهها - متفرساً ثم قلت:
(علي بابا يا حميدة؟) وتناولت ذقني بيدي
قالت: (ماذا تعني؟)
قلت: (هل تريدين أن تشربي، أو تريدين أن تريْ ما في جيوبي من الكبريت؟ أنا أريحك، وأرضي فضولك. . خذي!)
وأخرجت من كل جيب بضع علب من الكبريت، وألقيت ذلك كله على المقعد بيننا فصار كوماً صغيراً
فقالت: (إحدى عشرة علبة! مدهش! ما حاجتك إلى كل هذا؟ لماذا تحشو به جيوبك، وفي واحدة منه الكفاية؟
قلت: (هذه أسئلة ليس لها عندي جواب. وما أضن بالجواب لو أني كنت أعرفه، وأحسب هذا مظهراً لبعض ما يخفي على المرء من نفسه، فما أبالي أن أخرج وليس معي فلوس، وليس يكربني أن أكون في مكان منقطع وليس معي سجاير، فإني أستطيع احتمال هذا الحرمان، ولكن لا أطيق أن أمشي إلا إذا كانت جيوبي مفعمة بالكبريت، وأشعر أن رأسي يدور، وأني كالضائع التائه إذا نقص الكبريت الذي معي عن حد الكفاية في رأيي وإحساسي. . . وحدُّها عندي أن تكون جيوبي ملأى. . . وأن أتحسس هذه الجيوب من الخارج فأشعر بالرضى والارتياح. . .
لا أدري لماذا ولكني هكذا. . . والآن أما زالت بك الحاجة إلى الماء تطفئين به ضمأك؟)
فضحكت وقالت (أهذا مظهر لشذوذ العبقرية؟)
قلت (لا تتهكمي. . . إن لكل منا ولعاً بشيء، وحرصاً على شيء. . . وفي وسعك أن تقولي إن لكل منا موضع ضعف، وأحسب أن مواضع الضعف عندي كثيرة، ولكن هذا من
أبرزها، وإن كان أخفاها على الناس، فإن من حسن الحظ أن الناس لا يبلغ من فضولهم في العادة أن يتحسس بعضهم جيوب بعض، وأظنهم يرون انتفاخ جيوبي فيظنون ما فيها ورقاً ولا يستغربون)
قالت (ولكني لا أفهم. . .)
قلت (ولا أنا. . ولا أعلم حتى متى بدأت هذه العادة. . . لقد اعتدت أشياء كثيرة أستطيع تعليلها. مثلاً في وسعي أن أكتب والمدافع حولي تطلق قذائفها، فلا أكاد أسمعها، والمحقق على كل حال، أني لا أتأثر بها، ولا أشغل عما أنا فيه. . . اعتدت ذلك لأن الضرورة قضت به وألزمتنيه. - ضرورة العمل في الصحف اليومية التي يتخذ الزوار من مكاتبها مقهى أو مصطبة أو ناديا. . . وأنا أستحي أن أحجب نفسي أو أرد زائرا، فلم يبق لي مفر من اعتياد العمل في هذا البيمارستان. . . ولكن الكبريت مسألة أخرى. . . لا أذكر متى بدأت احتفظ به وأحرص عليه. . . وأنت تسخرين وتقولين إن هذا مظهر لشذوذ العبقرية أو جنونها. . لا يا سيدتي. . . لا عبقرية ولا يحزنون. إنما هو عندي مظهر لنزعة نفسية خفية كان من الممكن - لو أتيحت لها فرصة. . أن تظهر في صورة أخرى، ولكن ما هي هذه النزعة؟؟ هذا ما لا أعرف. . . ولكن أتعبني كثرة الغوص في أعماق نفسي على الأصل في هذا الحرص على الكبريت، فنفضت يدي يائساً، وأسلمت أمري إلى الله، وللمتهكمين والمتهكمات من أمثال حضرتك. . . .)
فضحكت، فقلت (والآن هل نمضي؟)
وعدت بها إلى بيتها، وقلت لأمها وأنا أسلم عليها (قد رددت الأمانة فاستودعك الله)
فتعلقت بي حميدة وقالت: (حتى تسمع ماما حكاية الكبريت) وسمعت (ماما) حكاية الكبريت، واستغربت - كما كان لا بد أن تفعل - وأسدت إلي نصحاً كثيرا، لا شك أنه نفيس، وأكدت لي أنها تخشى علي الاحتراق، وأيدتها حميدة فزعمت أني كالبركان الذي لا يؤمن انفجاره في أية لحظة، وكانت النتيجة التي لا معدى عنها أن حميدة وماما أخلتا لي جيوبي من الكبريت. . .
وانحدرت إلى الشارع، وأنا أحس أني كما قال القائل (خالي الوفاض، بادي الأنفاض) وكان من المستحيل أن أعود إلى بيتي هكذا، وماذا عسى زوجتي تقول حين ترى أن جيوبي
فرغت من الكبريت؟؟ إنها تكون حكاية لا آخر لها، لهذا لم يسعني إلا أن أعرج على دكان وأشتري مقدارا كافيا من رضى النفس وراحة البال. . . .
إبراهيم عبد القادر المازني
التعليم الإلزامي في مصر
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري
مدير دار الآثار العراقية
قرأت في مجلة مصرية مقالة لأحد الأساتذة، يقول فيها:(إن تقارير مفتشي التعليم ومراقبيه) أظهرت في السنين الأخيرة شيئاً جديداً لم يكن ملحوظاً من قبل، وهو أن الأولاد الذين يمارسون الزراعة في الحقل أو الصناعة في المعمل أو التجارة في السوق من متخرجي المدارس الإلزامية، لا تكاد تمضي عليهم أربع سنوات أو خمس، حتى ينسوا القراءة والكتابة، وتمحى من ذاكرتهم البقية الباقية من الحروف الأبجدية، فيعودون بذلك إلى الأمية مرة أخرى. . .)
إنني لم أطلع على نصوص التقارير التي يشير إليها صاحب المقال، فلا أعرف تفاصيل ما لاحظه المفتشون في هذا الباب. ومع ذلك لم أجد في هذه النتيجة شيئاً يستوجب الاستغراب، نظراً إلى ما أعرفه عن الظروف المحيطة بالتعليم الإلزامي في مصر من جهة، وعن التجارب التي مرت على الأمم الغربية في هذه القضية من جهة أخرى. . .
إنني لا أشارك المحرر في الأسباب التي يعزو إليها هذه النتيجة، كما لا أوافقه على الوسائل التي يقترحها لمعالجة القضية. ومع هذا لا أرى لزوماً لمناقشة الآراء الواردة في المقال المشار إليه، بل أفضل أن أبحث عن القضية من (أساسها)، بقطع النظر عن آراء المحرر فيها.
- 1 -
يظن الكثيرون أن (تعليم القراءة من الأمور البسيطة) التي يستطيع أن يقوم بها كل من (يعرف القراءة والكتابة) وبالأحرى كل من يعلم شيئاً من (مبادئ أصول التدريس). في حين أن هذا التعليم من الأعمال الدقيقة المحفوفة بالمزالق الكثيرة التي لا يمكن تجنبها إلا بيقظة متواصلة وتمرين خاص. .
لأن (تعليم القراءة) لا يعني (تعويد الطالب على قراءة بعض الكتب المعينة)، بل يعني (إكساب الطالب المقدرة على قراءة أي كتاب كان).
ومع هذا، فكثيراً ما نجد أن المعلمين لا يقدرون خطورة هذا المبدأ حق التقدير؛ فيوجهون جهودهم إلى تعليم القراءة من الكتب المدرسية المخصصة لهذا الغرض، دون أن يمرنوا الطلاب على القراءة السريعة بوجه عام.
في حين أن الطلاب كثيراً ما يتعلمون قراءة تلك الكتب على طريقة الاستظهار، دون أن يجهدوا أنظارهم وأذهانهم في تتبع الكلمات المطبوعة في سطورها. وكثيراً ما ينخدع المعلمون بسرعة هذه القراءة، فلا ينتبهون إلى أن الطالب قد قرأ معظم ما قرأه عن ظهر الغيب، دون ملاحظة الكتاب. وهذه الحالة تتفشى بوجه خاص، عندما يكون الصف مزدحماً بالطلاب، وعند ما يتمشى المعلم في تدريسه على طريقة ميكانيكية، لا نصيب فيها لليقظة والاهتمام. يقرأ المعلم العبارة بنفسه بصوت جهوري، ثم يطلب قراءتها من أحد الطلاب، ثم من ثان، فثالث، فرابع؛ ويكرر هذه العملية عشرات المرات. . وكثيراً ما تنصرف أنظار القسم الأعظم من سائر الطلاب - خلال هذه القراءة والتكرار - عن أسطر الكتاب إلى أشياء أخرى؛ غير أن آذانهم تبقى مستهدفة لتأثير الألفاظ التي يلفظها المعلم ويكررها سائر الطلاب، بطبيعة الحال. وإذا ما تكررت قراءة العبارات عدة مرات، يكون هؤلاء الطلاب قد حفظوا الشيء الكثير منها عن طريق السمع؛ وإذا ما جاء دورهم في القراءة، أخذوا يقرءونها (قراءة ظاهرية) تكون حصة النظر فيها محدودة جداً، ويكون العامل الأصلي في سرعتها هو الحافظة السمعية وحدها. .
ولذلك كثيراً ما نرى بعض الطلاب (يقرءون دون أن ينظروا)؛ وإذا ما طلب إليهم أن يبدءوا القراءة من محل غير المحل المعتاد، يضطرون إلى التهجي، فيقرءون بتلعثم وتردد وبطء؛ غير أنهم إذا ما تمكنوا من قراءة الكلمة الأولى بعد هذا الجهد، فتذكروا الكلمة التي تليها، أخذوا يستعينون بذاكرتهم السمعية، فصاروا يقرءون ما بعدها بسرعة واسترسال. . . . وكثيراً ما لا ينتبه المعلمون إلى (حقيقة الأمر) في هذه القراءة الظاهرية وينخدعون بهذه السرعة، ويظنون أنهم نجحوا في تعليم القراءة. . شاهدت هذه الحالة في عدد غير قليل من المدارس في دروس مئات من المعلمين، وما أعرفه عن مدارس التعليم الإلزامي في مصر يخولني حق الجزم بأن هذه الحالة ليست من الأمور النادرة هناك أيضاً. . . .
وعندما تكون طريقة تدريس القراءة مشوبة بهذه الصورة بنواقص وشوائب كثيرة، فلا
حاجة للبيان بأن عدداً غير قليل من الطلاب عندما ينتهون من الدراسة الإلزامية، لا يكونون قد تعلموا القراءة بكل معنى الكلمة، بل يكونون قد تعلموا قراءة بعض الكتب قراءة ميكانيكية، لم تخرج من دور التهجي والتردد إلا بإعانة الذاكرة السمعية. . . فهل من مجال للاستغراب إذا ما فقد هؤلاء خلال بضع سنوات ما كانوا قد اكتسبوه من المقدرة السطحية في القراءة الميكانيكية فعادوا إلى الأمية بصورة تدريجية؟
فإذا أردنا أن ننجو من هذه المزلقة الأليمة، يجب علينا أن نهتم بإصلاح طرق تعليم القراءة، ونسعى إلى حمل الطلاب على قراءة كتب متنوعة، فنتجنب كل ما من شأنه أن يجعل القراءة ميكانيكية وظاهرية
- 2 -
مع هذا يجب عليّ أن أصرح بأن كل ذلك أيضاً لا يضمن معالجة المشكلة التي نبحث عنها معالجة قطعية.
لأن (مقدرة القراءة) في حد ذاتها ليست من الأمور التي ترسخ في النفس بمجرد اكتسابها، بل هي من القابليات التي لا تعيش وتنمو إلا بالعمل والتكرار والمران. . إنها من القابليات التي تضعف وتتلاشى شيئاً فشيئاً عندما تبقى (عاطلة) ولا تجد مجالاً للعمل بصورة متصلة. . .
افرضوا أن طالباً مجتهداً ونبيهاً، قد تعلم القراءة بصورة جيدة، فأصبح قادراً على قراءة الكتب بصورة مرضية. . ثم تصوروا أن هذا الطالب ترك القراءة بعد خروجه من المدرسة؛ فقد مضى عليه عدة سنوات دون أن يقرأ شيئاً، ودون أن يجد في بيئته دافعاً يدفعه إلى استعمال قابلية القراءة التي كان اكتسبها قبلاً. لا شك في أن القابلية المبحوث عنها سوف لا تحافظ على قوتها مدة طويلة من الزمن، بل ستكون عرضة للضعف بصورة تدريجية. . . وسيزداد هذا الضعف على ممر السنين فيعود صاحبها إلى دور القراءة (بالتهجي) كالمبتدئين؛ وإذا استمر الحال على هذا المنوال مدة أخرى، فسيفقد قابلية القراءة التي كان اكتسبها في المدرسة، وسيعود إلى الأمية مرة أخرى.
وهذا هو ما يحدث في الحياة الاعتيادية. في كثير من الأحيان ينتهي الطفل من التعليم الإلزامي فيترك المدرسة ويذهب إلى الحقل أو المعمل، للاشتغال مع والديه. . . ولا يجد
هناك فرصة لتغذية القابلية التي كان قد اكتسبها، ولا يشعر بدافع يدفعه إلى قراءة شيء يحرك ويجدد تلك القابلية، فينسى في حياته الجديدة، بصورة تدريجية كل ما كان اكتسبه في حياته المدرسية. . .
إن القول بأن (التعليم في الصغر كالنقش في الحجر) بصورة مطلقة، لا يتفق مع الحقائق الراهنة: فإن الدماغ ليس نوع من الأحجار الجامدة التي تحافظ على كل ما ينقش فيها؛ والقابليات التي يكتسبها الدماغ لا تشبه النقوش التي تحفر على الحجر بوجه من الوجوه؛ ولا سيما دماغ الطفل، فإنه يمتاز بمرونة كبيرة، يكتسب بسرعة، غير أنه قد يفقد أيضاً بسرعة
هذه حقيقة هامة يجب أن نضعها نصب أعيننا عندما نفكر في أمر التعليم الإلزامي ومكافحة الأمية: يجب علينا أن نهتم بتغذية قابلية القراءة وتقويتها - بعد المدرسة - بقدر ما نهتم بتوليدها وتنميتها في المدرسة. . . يجب علينا أن نتوسل بشتى الوسائل التي تدفع إلى القراءة - بعد الانتهاء من الدراسة الإلزامية - خلال مزاولة أعمال الحياة الاعتيادية. . .
وإلا، فيجب علينا ألا نستغرب إذا ما وجدنا (قابلية القراءة) التي بذلنا كل تلك الجهود في سبيلها قد أخذت تندثر وتتلاشى شيئاً فشيئاً. . . و (الأمية) التي قضينا كل تلك الأوقات في سبيل مكافحتها داخل المدرسة وفي سن الطفولة، عادت إلى الحكم بعد مدة، فاستولت على النفوس تدريجياً في ساحة الحياة، وفي سن الرشد والشباب. . .
- 3 -
إن تجارب الأمم الغربية - المسطورة في تواريخ معارفها - تؤيد الملاحظات النظرية التي سردناها آنفاً؛ فإن رجال معارف تلك الأمم أيضاً كانوا قد اصطدموا بالمشكلة التي بحثنا عنها، في بدء انكبابهم على تعميم التعليم ومكافحة الأمية؛ وهم أيضاً كانوا قد لاحظوا - عندئذ - أن معظم الطلاب الذين يتخرجون من المدارس الابتدائية ويدخلون معترك الحياة، ينسون بصورة تدريجية الكثير مما كانوا تعلموه في المدرسة خلال سني التعليم الإلزامي. وكثيراً ما يصل بهم الأمر إلى درجة (نسيان الأبجدية) والعودة إلى الأمية
إن هذه النتيجة مَثَلت للعيان، على وجه أخص، عندما أخذوا يفحصون معلومات الراشدين الذين يبلغون السن العسكرية فيدخلون الثكنات. . . فقد وجدوا بين هؤلاء الجنود عدداً غير
قليل من الذين لا يستطيعون أن يقرءوا شيئاً بالرغم من أنهم تعلموا القراءة والكتابة - في طفولتهم - في المدارس التي داوموا فيها.
ولذلك أخذوا يبذلون الجهود الكبيرة لمعالجة هذه المشكلة، ويتوسلون بوسائل شتى لتوقي هذه النتيجة
وكان من جملة الوسائل التي توسلوا بها إحداث دروس ومدارس تجمع الراشدين أيام الأحد، أو أحد ليالي الأسبوع طول السنة، أو خلال بعض الأشهر منها بقصد (تكرار) و (ترسيخ) المعلومات التي كانوا اكتسبوها خلال دراستهم الابتدائية. . .
إن الألمان الذين كانوا أسبق أمم الغرب إلى تطبيق نظام التعليم الإلزامي، أحدثوا مثل هذه الدروس منذ القرن الثامن عشر، وجعلوا المواظبة عليها من الأمور المحتمة على كل فرد، منذ انتهائه من الدراسة الابتدائية حتى دخوله الخدمة العسكرية. . .
إن كثيراً من الأمم الغربية حذت حذو الألمان في هذا الباب، في القرن التاسع عشر، وأحدثت مثل هذه الدروس والمدارس، تحت أشكال وأسماء مختلفة. . .
في الواقع أن الحاجة إلى التوسل بمثل هذه الوسائل قد زالت من الغرب، نظراً إلى انتشار القراءة والكتابة بين جميع الطبقات، وازدياد حاجة الناس إليها في كل البيئات وفي جميع نواحي الحياة، وانتشار الكتب التي تلذ الناس وتفيدهم مع ازدياد المكتبات التي أصبحت في متناول أيديهم. . . فإن كل ذلك لم يدع - في البلاد الغربية - حاجة إلى لإدامة الدروس والمدارس التي كانت تستهدف (التكرار) و (الترسيخ). . . ولذلك حدث تطور عظيم في أهداف الدروس والمدارس الخاصة بالراشدين. غير أن الأهداف الحالية والتطورات الأخيرة يجب ألا تنسينا الغرض الأصلي الذي كان استوجب إحداث مثل هذه الدروس والمدارس. ويجب أن نلاحظ على الدوام أن تلك الدروس والمدارس لعبت دوراً هاماً في ضمان نجاح التعليم الإلزامي، ومكافحة الأمية في عهودها الأولى
إنني أعتقد أن الملاحظات الآنفة الذكر تكفي لإظهار أنواع الواجبات التي تترتب على وزارات المعارف التي تهتم بأمر التعليم الإلزامي ومكافحة الأمية:
يجب عليها أن تسعى لتحسن طرق تدريس القراءة، وتدريب المعلمين للقيام بأعباء هذا التدريس
كما يجب عليها أن تتخذ التدابير اللازمة لإيجاد سلسلة كتب ونشرات ملائمة لحاجات الناس وميولهم، على اختلاف مهنهم وبيئاتهم. . .
ويجب عليها أن تتوسل بوسائل متنوعة لنشر تلك الكتب بين الناس، لتسهل تغذية رغبة المطالعة في نفوسهم. . . .
وأخيراً يجب عليها أن تتوسل ببعض الوسائل التي تضمن اجتماع الشبان في المدرسة من حين إلى حين - بعد انتهائهم من سني التعليم الإلزامي - لإدامة علاقتهم بالدرس والمطالعة بصورة منتظمة. . .
وإذا لم تفعل ذلك يجب أن تعلم جيداً أن الجهود التي تبذلها والنفقات التي تنفقها في سبيل نشر التعليم في الأرياف وبين جميع طبقات الناس، لا تثمر الثمرة الكافية، ولا يبعد أن يذهب معظمها هباء منثورا. . .
أنتهز هذه الفرصة لألفت أنظار وزارات المعارف في البلاد العربية - ولا سيما في مصر - إلى هذه الواجبات التي تترتب عليها لإتمام مهمتها في نشر التعليم ومكافحة الأمية بصورة فعلية
قلت: لا سيما في مصر. . . لأنها المملكة العربية الوحيدة التي استطاعت أن تسن قانوناً للتعليم الإلزامي، وأن تضع خطة عملية لتنفيذ أحكام ذلك القانون، وتحقيق نشر التعليم بين جميع طبقات الناس وفي جميع أنحاء البلاد. . . . فعليها - قبل غيرها - يترتب واجب الإسراع في اتخاذ التدابير التي سردناها آنفاً. . .
(بغداد)
ساطع الحصري
قصة الكلمة المترجمة
(القتل أنفى للقتل)
لأستاذ جليل
تتمة
انتشرت كلمة الشيخ عبد العزيز الأزهري (البلاغ 20 رجب 1352) فكتب الرافعي رحمه الله مقالة عنوانها (ليست الجاهلية) - البلاغ 22 رجب 1352 - قال فيها.
(أثبت الأستاذ عبد العزيز الأزهري فيما نشره في البلاغ أن هذه الكلمة عربية واحتج لذلك بحجج أقواها: زعمه (أنها وردت بين ثنايا عهد القضاء الذي بعث به سيدنا عمر إلى أبي موسى الأشعري) ولا ندري أين وجد الكاتب كلمة (القتل) فضلا عن (القتل أنفى للقتل) في ذلك العهد المشهور المحفوظ، وقد رواه الجاحظ في البيان والتبيين، وجاء به المبرد في الكامل ونقله ابن قتيبة في عيون الأخبار، وأورده ابن عبد ربه في العقد الفريد، وساقه القاضي الباقلاني في الاعجاز، وفي كل هذه الروايات لم تأت الكلمة في قول عمر، بل لا محل لها في سياقه، وإنما جاء قوله (فإن أحضر بينته أخذت له بحقه، وإلا وجهت عليه القضاء. فإن ذلك أنفى للشك) أما سائر حجج الكاتب فلا وزن لها في باب الرواية التاريخية وقد أصبح عاليها سافلها كما رأيت)
قلت: كتاب أحمد ابن عبد ربه اسمه (العقد) والفريد زيادة نسخ ومطبعة. قال ابن خلكان: (وصنف كتابه العقد وهو من الكتب الممتعة) وقال الفتح ابن خاقان: (وله التأليف المشهور الذي سماه بالعقد) والكتب التي سميت العقد الفريد هي (العقد الفريد في أحكام التقليد، العقد الفريد في أنساب بني اسيد، العقد الفريد في علم التجويد، العقد الفريد في علم التوحيد، العقد الفريد، للملك السعيد)
وقلت: جاء (القضاء) في البيان والتبيين، والعقد، وعيون الأخبار. ووردت (القضية) في الكامل، وإعجاز القرآن. وجاءت (استحللت) في هذين الكتابين. والقضاء والقضية مصدران، والاسم القضية فقط؛ و (القضية العصرية) لا تعرفها العربية. والعبارة في العهد أو الرسالة (فإن ذلك أنفى للشك) قول عربي متناسب، و (النفي) نازل فيه منزله. ورسالة
الفاروق إلى أبي موسى مشهورة، وقد رواها رواة وعزوها إليه. وذكر الجاحظ في البيان والتبيين كتابا من عمر إلى الأشعري رضي الله عنهما فيه تعليم وإرشاد وتذكير، والله اعلم.
وقال الأستاذ الرافعي رحمه الله.
(والذي آنا واثق منه أن الكلمة لم تعرف في العربية إلا في أواخر القرن الثالث من الهجرة. وهذا الإمام الجاحظ يقول في موضع من كتابه (البيان والتبيين) في شرح قول علي كرم الله وجهه: (بقية السيف أنمى عددا وأكثر ولدا) ما نصه: (ووجد الناس ذلك بالعيان الذي صار إليه ولده من نهك السيف وكثرة الذرء وكرم النجل. قال الله تبارك وتعالى: (ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب) وقال بعض الحكماء: قتل البعض حياة للجميع. ولم يزد الجاحظ على هذا. ولو كانت الكلمة معروفة يومئذ لما فاتته كما هو صنيعه في كتبه، وهذه العبارة الأخيرة (قتل البعض. . .) هي التي زعم الرازي في تفسيره أنها للعرب. . . فلا عبرة في هذا الباب بكلام المفسرين ولا المتأخرين من علماء البلاغة، وإنما الشأن للتحقيق التاريخي)
قلت: في النسخة المطبوعة: (قتل البعض أحياءٌ للجميع) ولم تجيء هذه العبارة والآية الكريمة قبلها قول علي رضي الله عنه - أن قصد أنهما جاءتا شرحا له، فالمقاصد مختلفة. وإيراد الجاحظ الآية والعبارة هو كعادته في إملاء ما يمليه في كتابه، وقد وردت قبل جملة وكلمةٍ للمهلب في معناها أقوالٌ متنوعة، وتلت الآية والعبارة مقطوعةٌ لهما الرقاشي، ثم تبع الشعر قولٌ لخارجية يشاكل الجملة العلوية، ثم خبر وشعر، ثم أحاديث متنوعة. وإن حسب الجاحظ أن الآية والعبارة تحكيان (بقية السيف. . .) فقد أخطأ حِسبانه
ثم روى الأستاذ الرافعي رحمه الله قولاً للجاحظ في (حجج النبوة) في القوم الذين كانوا يولدون الأخبار ويطعنون بها على (الكتاب) ثم قال: (وإن لم ينهض الدليل القاطع على أن تلك الكلمة مترجمة عن الفارسية بظهور أصلها في تلك اللغة! ورجوعه إلى ما قبل الإسلام فهي ولا ريب مما وضع على طريقة ابن الراوندي الذي كان في منتصف القرن الثالث)
قلت: الكلمة لم تظهر في مصنفات نعرفها في القرن الثاني أو الثالث فينسبها إلى أحد من العرب أو غيرهم ناسب أو يقصد بها مقصد ابن الراوندي وتلك الشرذمة شرْير. وما هي
إلا قول من جنس الأقوال الفارسية والإغريقية التي ترجمها النقلة وروى مثل الثعالبي وابن هند وطائفة منها.
ظهرت مقالة الأستاذ الرافعي رحمه الله فنشر البلاغ (25 رجب 1352) كلمة للشيخ عبد العزيز الأزهري عنوانها (القتل أنفى للقتل) قال فيها: (لأول مرة في حياتي الأدبية أقرأ للأستاذ البحاثة مصطفى الرافعي كلاماً يخترمه التناقض، وينسف آخره أوله. إن الأستاذ محق في أن نسبة الجملة الماضية إلى وثيقة القضاء التي بعث بها سيدنا عمر إلى أبي موسى الأشعري ليست حقيقية، ومما لا شك فيه أن الذي أوقع في حسبانها منها مشابهتها لعجز الجملة الآتية في الرسالة: (فانه أنفى للشك) وقليلون هم أولئك الذين يشبهون الأستاذ في قوة الذاكرة، ووفرة كتب المراجعة، وانفساح الوقت. و (ظروفي) المدرسية وأكداس الكراسات التي تنوء بالعصبة أولى القوة (أرغمتني) على أن لا أتصفح الجرائد إلى إلماماً مثل حَسْو الطير ماء الثماد، ففي اللحظة التي كنت أنتجع فيها الراحة وقع نظري على كلمة الأستاذ النشاشيبي وفيها يرى أن الجملة مترجمة لا جاهلية ولا مولدة، فكان ردي عليها أنها عربية، وبرهنت على ذلك بعدة أدلة، لهذا غشيتني الدهشة عندما حكم الأستاذ بأن الأدلة التي ذكرت أصبح عاليها سافلها لنقض بعضها، فهل عدم العثور عليها في عهد القضاء (يترتب عليه) ثم ذكرت ما يثبت عنده جاهلية تلك الكلمة مفصلا
1 -
عدم الحاجة إلى اقتراض هذه المعاني
2 -
خشونة الجملة
3 -
عنجهيتها البدوية
4 -
رنين لفظة القتل في المسامع
5 -
حالة العرب قبل البعثة أسالت على شباة ألسنتهم (يعني حكماءهم) أمثال هذه المعاني ثم قال: (ومما أعجزني فهمه ادعاء بحاثتنا الكبير أن الكلمة لم تعرف إلا في أواخر القرن الثالث الهجري) ثم قال: (الحق الذي لا مرية فيه أن القتل أنفى للقتل كلمة عربية لحماً ودماً وعصباً، وأن قلم الأستاذ خانه في هذه المرة فكان من نتائج شطحاته! أن (انزلق) به إلى هذا الحكم. فليتقبل مني الأستاذ الأديب هذا الرأي وليثق أنه لم يؤثر في منزلته في نفوسنا هذا الشطط! إلا بمقدار ما تنداح دائرة)
قلت: وجدت كلام الشيخ في الأستاذ الرافعي رحمه الله طرفة فرويته، والله يشهد أني ما قصدت بروايته تنقص قائله
ثم نشر البلاغ في اليوم الثاني (26 رجب 1352) كلمة عنوانها (ليست جاهلية ولا مترجمة!) للفاضل (أمين الحافظ شرف بنيابة طنطا) قال فيها: (عاد الأستاذ الأزهري إلى دعواه أن كلمة (القتل أنفى للقتل) جاهلية، ولم يضف إلى براهينه الأولى شيئاً يعتمد عليه في تأييد هذه الدعوى رغم اعترافه بأنها لم ترد في عهد القضاء من عمر إلى أبي موسى كما وهم أولا ونبهه إلى وهمه الأستاذ الرافعي، وكل ما جاء به ليبرهن على جاهليتها بعض استنتاجات فرضية لا تقوم عليها دعوى. أما وقد بّين الأستاذ مصطفى صادق الرافعي أن تلك الكلمة لم تعرف قبل القرن الثالث الهجري ولم يروها أحد إلى ذلك العهد على كثرة ما روى عن الجاهليين فلا محل للقول بأن هناك أدلة عقلية أو منطقية، فهي ليست جاهلية ولا مترجمة! إلا أن تؤيدها الرواية الصحيحة أو يعرف أصلها الأعجمي!)
قلت: قول السيد أمين (رغم اعترافه) عربيته: مع اعترافه أو على اعترافه) والمعروف الاعتراف بالذنب، يقال: اعترف بذنبه وفي (الكتاب): (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) وفي حديث عمر: (اطردوا المعترفين هم الذين يقرون على أنفسهم بما يجب عليهم فيه الحد والتعزيز، كأنه كره لهم ذلك، وأحب أن يشتروه على أنفسهم) كما ذكرت (النهاية) و (استنتاجات) في كلمة (الأمين) غريبة في العربيات.
ثم ظهرت في البلاغ (غرة شعبان 1352) كلمة عنوانها (أسئلة القتل أنفى للقتل) للأستاذ (أزهري، المنصورة) قال فيها: (الظاهرة أن الشيخ عبد العزيز الأزهري يريد أن تكون (القتل أنفى للقتل) جاهلية، فأن يتشبث برأيه ولا يرجع عنه يُطالبْ بجواب هذه الأسئلة:
المجمع عليه أن اللغة العربية هي لغة الرصانة والأحكام فلن تضع كلمة إلا موضعها، فهل يجوز أن تستعمل العربية (النفي) في تلك الجملة؟ وما معنى (القتل أنفى للقتل)؟ وهل توضح ألفاظ الجملة معناها؟ وما معنى (النفي) في اللغة؟ وهل استعملت مادة (ن ف ي) واللغة لغة والعرب عرب، في مثل هذا المقصد؟
فإذا أقام الشيخ عبد العزيز دهراً طويلاً يبحث فلا يجد للنفي في العربية مثل هذا الاستعمال، فهل تبقى (القتل أنفى للقتل) جاهلية أو عربية؟
قلت: النفي: التنحي، التنحية، الطرد الإبعاد عن البلد، التساقط: تساقط الشعر، التغريب الذي جاء في الحديث، الجحد (ومنه نفى الأب والابن يقال: ابن نَفيّ إذا نفاه أبوه) كما في التاج، الرد (نفيت الشيء إذا رددته، وكل ما رددته فقد نفيته)
ولو استُبدل (القتل) بـ (النفي) في العبارة الفارسية فقيل: القتل أقتل للقتل لصح اللفظ، ولكن تدهى الأذن والدماغ والعصب والجسم حينئذ داهية، وتجيء ثلاث (قافات خشنة كل قاف كجبل قاف) كما قال أحمد بن الحسين الهمذاني وتخالف العبارة قول المتنبي:
فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا
…
قلاقل عيس، كلهن قلاقل
قال الكعبري في (شرح التبيان): (عاب الصاحب إسماعيل ابن عباد أبا الطيب بهذا البيت وقال: (ماله - قلقل الله أحشاءه - وهذه القافات الباردة) قال أبو نصر بن المرزبان: ثلاثة من الشعراء رؤساء، شَلْشلَ أحدهم، وسلسل الثاني، وقلقل الثالث. فالذي شلشل الأعشى والذي سلسل مسلم وأما الذي قلقل فالمتنبي. قال الثعالبي: فقال لي أبو نصر: فبلبل أنت. قلت له: أخشى أن أكون رابع الشعراء. . . ثم قلت بعد مدة:
وإذا البلابل أفصحت بلغاتها
…
فأنف البلابل باحتساء بلابل
كان الخطأ مطبعي في الكلمة السابقة (أسئلة) فنشر الأستاذ (أزهري المنصورة) كلمة عنوانها (التطبيع) - البلاغ 8 شعبان - قال فيها: (بعثت إلى (البلاغ) والقوم يقتلون فيه (القتل أنفى للقتل) بحثاً - وقد قتلت، وقد رمست، وللأقوال كما للقائلين آجال - بكلمة فيها أسئلة، ولما جاءت إلىّ الجريدة وجدت وذكر الكاتب الخطأ المطبعي (لا الأخطاء كما يقول بعض الأدباء) ثم قال: فعجبت وما عجبت، وقلت هي المطبعة، وهي السرعة في العصر البراقيّ. وقد أردت أن أسمي مثل هذا فقلت: لما كانت الصحيفة والصحف والصحائف والقلم الكاتب قالوا: (التصحيف) فهل لنا - واليوم يوم المطبعة - أن نقول (التطبيع) وقل من يستعمل هذه اللفظة في هذا الزمان للمعنيين القديمين. والصحيفة الخطأ في الصحيفة مولدة، والتطبيع (الخطأ المطبعي) عصرية بنت العصر وفي بنات العصر كريمات)
ثم ظهرت في البلاغ 16 شهر رمضان 1352 كلمة عنوانها (القتل أنفى للقتل مولدة لا جاهلية) للأستاذ محمود محمد شاكر قال: (كانت هذه الكلمة سبباً في لجاج بعض الكتاب حين قال الأستاذ مصطفى الرافعي في مقاله الذي نشر في بلاغ السبت (15 رجب 1352
- 4 نوفمبر سنة 1933) بعنوان كلمة مؤمنة في رد كلمة كافرة): (أنا أقرر أن هذه الكلمة مولدة وضعت بعد نزول القرآن الكريم، وأخذت من الآية، والتوليد فيها بيّن، وأثر الصنعة ظاهر عليها) وقد قال بعض الكتاب بترجمتها عن اللغات وقد بحثت طويلاً عن أصلها وكنت أود أن أسوق الأدلة كلها على نفيها عن عرب الجاهلية، ولكن لا يتسع وقتي الآن لذلك، ثم وجدت أخيراً النص القاطع على أنها ليست من كلام الجاهلية في كتاب الإيجار والإعجاز لأبي منصور الثعالبي المطبوع بمطبعة الجوائب سنة 1301 مع رسائل أخرى (ثم نقل كلام الإمام الثعالبي وفيه (ويحكي عن أردشير الملك ما ترجمه بعض البلغاء أنه قال: القتل أنفى للقتل) وقد رُوِي النصُّ كله من قبل في كلمة الكوكب ثم قال الأستاذ محمود: (وهذا نص يؤيد ما ذهب إليه الرافعي ولا موضع للجدل بعده)
فنشر الأستاذ (أزهري المنصورة) بعد هذا القول كلمة عنوانها (الكلمة المترجمة، الأقوال الفارسية في العربية) - البلاغ 19 شهر رمضان 1352 - ومما قاله: (هذا النص بنفسه قد أورده الأستاذ النشاشيني في جريدة (كوكب الشرق في (12) رجب 1352 وكان قول الثعالبي من جملة الأدلة على أن تلك الكلمة مترجمة، ويظهر أن الأستاذ محمودا لم يقرأ المكتوب في الكوكب إذ لو رآه ما كان أتعب النفس في نقل ذلك النص. وكان قول الأستاذ الرافعي في تلك الكلمة المترجمة في (15) رجب 352 وقد طلب الأستاذ الأصل الفارسي، والظفر بالمطلوب في هذا الوقت مستحيل. ولولا ذلك لسألنا العالم الهمام الدكتور عبد الوهاب عزام الأستاذ في الجامعة المصرية أن يهدينا إلى مظنته.
الأقوال المنقولة عن الفارسية بعضها عزي إلى أهله فعرفناه، وبعضها جهل أصله فلم يدر أعربي هو أم فارسي. فهل للنابغة العالم بلغة العرب والأعاجم الدكتور عبد الوهاب عزام أن يطرف الناس بحثاً مستفاضا فيه عن الأقوال الفارسية في العربية.
آباء عزام كان (قِرَي الأضياف سّجيتهم، ونحر العشار دأبهم وهجيراهم) وقد جمع الأبناء بين القرَيَيْن: قري الضيفان بالجفان وقرى العقول والأذهان بالعلم والعرفان).
وفي (البلاغ 8 شوال 1352) ظهر قول عنوانه: (الكلمة المترجمة، الأقوال الفارسية في العربية) للدكتور عبد الوهاب عزام. وهذا هو القول: (نشر فاضل (أزهري) كلمة في البلاغ تحت العنوان المصدرة به هذه الأسطر، تناول فيه الكلام عن الأقوال الفارسية
المنقولة إلى العربية، وطلب مني أن أكتب ما أعرف في الموضوع، وأحسن الظن بي وبآبائي، فأثنى علينا بما شاء له خلقه الكريم وأدبه الرفيع.
وإني ليؤسفني أن فاتتني هذه الكلمة فلم أطلع عليها حتى تفضل أديب العرب الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي فأرسل إلي من فلسطين قطعة من البلاغ تتضمن كلمة الأديب (أزهري).
فالآن أبادر إلى شكر أستاذنا النشاشيبي والاعتذار إلى أديبنا (أزهري) وشكره، راجياً أن أشرّف بإجابة دعوته إلى الكتابة في هذا الموضوع حين يتيسر لي ما تصديت لمعرفته وجمعه من الكلمات في هذا الصدد)
قرأ الأستاذ (أزهري المنصورة) قول الدكتور عبد الوهاب عزام فنشر كلمة عنوانها (موهبة الله واهبها، الدكتور عبد الوهاب عزام) - البلاغ 19 شوال 1352 - قال فيها: (قال المحبي في (خلاصة الأثر): تعلم العلامة البوريني اللغة الفارسية حتى صار يتكلم بها كأنه أعجمي، وفي ذلك يقول:
تعلمت لفظ الأعجميْ وإنني
…
من العرب العرباء لا أتكتم
وما كان قصدي غير صون حديثكم
…
إذا صرت من شوقي به أترنم
وإن كنت بين المعجمين فمعرب
…
وإن كنت بين المعربين فمعجم
فأغدوا بأشواقي إليكم مترجماً
…
وسركم في خاطري ليس يعلم
وقد تعلم العلامة الأستاذ الكبير (عبد الوهاب عزام) اللغة الفارسية والتركية وغيرهما من لغات الأعاجم وحذقها، كما نبغ في العربية وأدبها ليستفيد نشء العرب - قل وشبانهم وشيبهم - من بحثه وتحقيقه، وتفتيشه وأدب درسه استفادتهم من سيرته وخلقه وأدب نفسه، وليهدي في المشكلات من يستهديه، وليظهر للناس ذلك الكنز العظيم الذي أثرت به العربية. والكنز المعنى هو (الشاهنامه). قال ضياء الدين بن الأثير:(كما فعل الفردوسي في نظم الكتاب المعروف بشاه نامه وهو ستون ألف بيت من الشعر يشتمل على تاريخ الفرس؛ وهو قرآن القوم، وقد أجمع فصحاؤهم على أن ليس في لغتهم أفصح منه)
إن الذي عند الدكتور عبد الوهاب عزام - قلت أو الدكتور موهوب عزام - هو موهبة، الله واهبها، والله (الوهاب) وهو في الفضل والعلم من أولى (العزم))
قلت: انتهت القصة
(الإسكندرية)
(* * *)
حواء
ديوان شعر طريف في الغزل العرفاني من نظم الأستاذ
الحوماني تحت الطبع، تحمل الرسالة منه إلى قرائها عدة
نماذج قبل صدوره.
اباعثتي
تَلَفتُّ أسأل ماضيَّ عما
…
وعيتُ فألفيتُه لا يعي
وأيقَنتُ أنَّ ربيع الشباب
…
تولىَّ ولم يكُ قلبي معي
كأنَّ أناشيده قبلما
…
خلقتُكِ لم تجرِفي مسمعي
ولا فتّق الصبح أكمامها
…
عن الحب ريانَ من أدمعي
أباعثتي قِبَلَ الأربعين
…
جديدَ الصِبا قلقَ المضجع
مشت بيَ أيامُكِ القهقري
…
من الأربعين إلى الأربع
فأبصرتُ والشمس عند المغ
…
يب، تباشيرَهاِ قبَلَ المطلع
وأنضرَ فوديَّ من ناضريكِ
…
شبابٌ تدفقّ في أضلعي
رأيتك. . .
يراكِ بعينيه مَن لا يرا
…
كِ في ظلمة اليأس فجرَ الأمل
يراكِ بنفسجة في الحضيض
…
وزنبقة في سماء الجبل
يراكِ ندي في جيوب النسيم
…
وبدراً تنقّل حتى اكتمل
فيا زهرة في رياض الربيع
…
وبدراً تكبّد قلب الحمل
حنانيك والزهر يجني عليه
…
ضحى الصيف والبدر يغشى الطفَل
رأيتكِ والعينُ لمّا تَسَعْ
…
كِ أُحجيَّة في ضمير الأزل
رأيتُكِ، والعينُ ملء الفؤا
…
دِ، ملء النهى عُقَداً لا تُحل
رأيتُكِ أنشودةَ العبقري
…
وأضحّية في فؤاد البطل
رأيتكِ بين يديْ ناظريَّ
…
فما أتلقّاه غضّ القُبَل
فماً وشَّعتْ بسماتُ الخلود
…
حواشيه باللثم حتى اشتعل
الحوماني
جورجياس أو البيان
لأفلاطون
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 2 -
(تنزل (جورجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف لأنها أجمل محاوراته وأكملها جميعاً بأن تكون (إنجيلا) للفلسفة)
(روبنوفيير)
الأشخاص والمحاورة
بينت لك في المقال السابق أهمية هذه المحاورة وموضوعها. وأقدم إليك اليوم أشخاصها، ثم أبدأ في ترجمتها وفي التعليق على ما يحتاج منها إلى تعليق:
1 -
الأشخاص
أولهم: (سقراط) بطل المحاورة كما قلنا. وسنرى أفلاطون متقمصاً إياه ومعلناً تلك الأفكار السامية المتعلقة بطبيعة (البيان) و (الأخلاق). وسنرمز له في الهامش بالحرف (ط)
وثانيهم: (جورجياس) وهو السفسطائي ومعلم البيان الذي يتخذ منه سقراط محوراً يدور حوله ويمطره وابلا من أسئلته البارعة ليثبت له أن فلسفته قائمة على المغالطة والجهل والغرور والكبرياء، وسنرمز له بالحرف (ج)
وثالثهم: (شيروفون) وهو صديق (سقراط) وتلميذه. وسنرمز له بالحرف (ش)
ورابعهم: (بولوس) وهو تلميذ (جورجياس) وصفيه، وسنرى أن (جورجياس) يتخذ منه محامياً يذود عن أفكاره أمام هجمات سقراط. وسنرمز له بالحرف (ب)
وخامسهم: (كالكليس) وهو من أهل (أثينا). ويتخذ أفلاطون منه ومن تلميذي سقراط وجورجياس الأنفين همزة وصل لإحكام الحوار. وسنرمز له بالحرف (ك)
2 -
المحاورة
وتبدأ المحاورة في منزل (كاليكليس) حيث يصل (سقراط) متأخراً وكان يريد أن يستمع
إلى حديث جورجياس السفسطائي فيقابله صاحب المنزل بقوله:
ك - أو هكذا تجيء (بعد المعركة) كما يقولون يا سقراط!؟
ط - وهل تأخرنا كثيراً عن (العيد) كما يقال؟
ك - نعم. نعم ولقد جئتم بعد عيد كامل البهجة والظرف!.
إذ الحق أن (جورجياس) كان يسمعنا منذ لحظة أشياء جميلة لا حصر لها!
ط - إن شيروفون - الموجود بيننا الآن - هو المسئول عن ذلك التأخير يا كاليكليس لأنه أرغمنا على الوقوف في الطريق
ش - ليس من ضير يا سقراط لأني سأصلح الأمر على أية حال. إن جورجياس صديقي، ولذلك سيكرر الآن إذا ما أردت نفس ما قد قال، أو هو سيرجئ الحديث إلى فرصة أخرى إذا فضلت
ك - ماذا يا شيروفون؟ أو بسقراط فضول لأن يسمع جورجياس؟
ش - لقد جئنا نقصد ذلك
ك - حسن! هيا معي إذاً فهو يقيم هنا. وسيبسط لكم الموضوع
ط - شكراً يا كاليكليس. ولكن أتراه يقبل التحدث معنا؟ إني لا أريد أن أعرف منه معرفة تامة خواص الفن الذي يمتهنه، وماذا يعد به وماذا يعلمه للناس، أما ما عدا ذلك فسوف يحدثنا عنه كما تقول في فرصة أخرى
ك - ليس أجدى من أن تسأله هو نفسه يا سقراط لأن هذه الناحية ليست بالدقة إلا جزءاً من الشرح الذي سيقدمه
- ليس أجمل من هذا. فعليك إذاً أن تسأله يا شيروفون!
ش - وماذا أطلب منه؟
ط - أي شيء هو!
ش - ماذا تريد أن تقول؟
ط - ألا تفهمني؟ إذا كانت مهنته - مثلاً - صناعة الأحذية فسيجيبك بأنه صانع أحذية!
ش - لقد فهمت وسأسأله قائلا: أخبرني يا جورجياس! أصحيح ما يقول كاليكليس من أنك تعد نفسك للإجابة على كل الأسئلة التي يستطيع أن يقدمها لك الإنسان؟
(يتقدم جورجياس)
ج - نعم يا شيروفون، فهو نفس ما قد أعلنت منذ لحظة وأضيف إليه الآن أنني لم أتلق من أحد منذ سنين كثيرة سؤالاً واحداً يعتبر جديداً على مثلي!
ش - وإذا فيجب أن تكون إجابتك يا جورجياس متناهية السهولة والسرعة!
ج - ليس عليك يا شيروفون إلا أن تجرب!
ب - نعم. ولكن سلني أنا إذا أردت يا شيروفون لأنه يبدو لي أن جورجياس خائر القوى بعد إذ تحدث في أشياء كثيرة.
ش - ماذا يا بولس؟ أتملق نفسك بادعائك أنك تستطيع أن تجيب بأحسن مما يجيب جورجياس؟
ب - وماذا يهمك إذا كنت سأجيبك إجابة تكفيك؟
ش - طبعا هذا لا يهم فأجب ما دمت تريد!
ب - سل
ش - ذلك ما سأفعل. إذا كان جورجياس ماهراً في نفس الفن الذي يحذقه أخوه هيروديكوس فأي الأسماء يصلح لأن نطلقه عليه إطلاقاً صحيحاً؟ أليس هو نفس الاسم الذي نطلقه على هيروديكوس؟
ب - من غير شك!
ش - وإذا أنكون محقين إذ أسميناه طبيباً؟
ب - بلا ريب.
ش - وإذا كان منهمكاً في نفس الفن الذي يشتغل به ايستوفون بن أجلاوفون أوفى فن أخيه فأي الأسماء نطلقها عليه؟
ب - واضح أنه اسم (المصور).
ش - حسن. ولكن في أي فن قد صار جورجياس عالماً، وأي اسم يصلح له فنطلقه عليه؟
ب - للناس يا شيروفون فنون كثيرة، والإنسان مدين في كشفها للتجربة لأن التجارب هي التي تجعل حياتنا متمشية مع قواعد الفن، بينما عدمها يجعلها تسير مع الصدفة العمياء. والناس يختلفون فيما بينهم، فالبعض ينهمك في ذلك الفن، والبعض ينهمك في فن آخر،
ولكن أفضل الفنون هي ما كانت نصيب أفضل الناس كجورجياس لأن الفن الذي يشتغل به أفضل الفنون جميعاً!!
ط - يلوح لي حقا يا بولوس أن جورجياس قد مهر جداً في الخطابة لأنه لا يواصل الحديث الذي وجهه إلى شيروفون!!
ج - وكيف هذا يا سقراط؟
ط - يبدو لي أنه لا يجيب عما يسأله الناس!
ج - سله بنفسك، إذ لتجدنه مستعداً!
ط - إذا كان يسرك أن تجيب، فإني أسألك بسرور أعظم إذ يلوح لي أن ما يقوله بولوس يدل على أنه قد حذق فن (البلاغة) أكثر من حذقه فن المناقشة والإقناع!
ب - وماذا يحملك على هذا القول يا سقراط؟
ط - ذلك لأنك - وقد سألك شيروفون عن الفن الذي مهر فيه جورجياس - رحت تمدح هذا الفن دون أن تخبرنا عن ماهيته كأن هناك من يحتقره ويحط من شأنه!!
ب - ألم أقل إنه أفضل الفنون جميعاً؟
ط - ليكن كما تريد! ولكن أحداً لم يسألك عن صفة هذا الفن وكيفيته. لقد سألناك فقط عن ماهيته، وعن أي اسم يجب أن نطلقه على جورجياس، ولقد دَلَّك شيروفون على الطريق بالأمثلة، فأجبته في المبدأ إجابة حسنة قليلة الكلمات
فقل لنا كذلك: أي الفنون يمارس جورجياس؟ وأي الأسماء يصلح له؟؟ أو - بالأحرى - قل لنا أنت يا جورجياس: أي الأسماء يجب أن نسميك به؟ وبأي الفنون تشتغل؟
ج - بالبيان يا سقراط!
ط - إذاً يجب أن نسميك معلم البيان؟
ج - نعم، ومن المعلمين المجيدين يا سقراط، إذا ما شئت أن تسميني بما أفخر به على حد تعبير هوميروس!
ط - ليكن ما تريد!
ج - حسن - سمني إذاً هكذا!
ط - أتقول إنك قادر على تعليم هذا الفن للغير؟
ج - هذا ما أمتهنه هنا وفي كل مكان!
ط - وهل تريد يا جورجياس أن تستمر آناً مسئولاً وآناً مجيباً كما نفعل الآن، مرجئاً هذه الخطب الطويلة - كتلك التي بدأ بولوس بإحداها - إلى وقت آخر؟ إن يكن فخذ فيما وعدتنا به، واجعل إجابتك على كل سؤال قصيرة
ج - هناك يا سقراط من الإجابات ما يحتاج بالضرورة إلى سعة وبسط، ولكني سأحاول مع ذلك أن لأجيب بكل اختصار لأن من بين الأشياء التي تعجبني من نفسي انه لا يوجد من ينطق بنفس الإجابة في أقل تعبير كما أفعل
ط - هذا ما يجب هنا يا جورجياس. فأرني إذا ذلك الاختصار الفريد ولتترك الأقوال المطولة إلى فرصة أخرى
ج - سأسرك. وسترى أنك لم تسمع شخصاً يشرح باخصر من قولي؟
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
بين مذهبين
للأستاذ محمد سعيد العريان
(لقد مات الرافعي - يرحمه الله - فانقطع بموته ما كان بينه وبين خصومه من عداوات. وما أريد أن أوقظ فتنة نائمة يتناولني لهيبها أولَ ما يتناول؛ فما لي طاقة على حمل العداوة، ولا اصطبار على عنت الخصومة، ولا احتمال على مشقة الجدال؛ وإنما هو تاريخ إنسانٍ له على العربية حق جحده الجاحدون فنهضت للوفاء به؛ فإن كنت أكتب عن أحد من خصومه أو أصحابه بما يؤلم أو يسيء، فما ذلك أردت، ولا إليه قصدت، ولا به رضيت؛ ولكنها أمانة أحملها كارهاً، واضطلع بعبئها مضطراً، لأؤديها إلى أهلها كما تأدَّت إليّ. وإني لأعلم أني بما أكتب من هذا التاريخ أضع نفسي بالموضع الذي أكره، وأتعرض بها لما لا أتوقع؛ ولكن حسبي خلوص النية، وبراءة الصدر، وشرف القصد، ولا عليّ بعد ذلك مما يكتب فلان، ولا مما يتوعد به فلان؛ فإن كان أحد يريد أن يصل بي ما كان بينه وبين الرافعي من عداوة فانقطعت، أو يربط بي رابطة كانت بينه وبين فلان فانفصمت، أو يتخذ من الاعتراض عليّ زلفى إلى صديق يلتمس ودَّه، أو يجعل مما يكون بيني وبينه سبيلاً إلى غرض يرجو النفاذ إليه، أو وسيلة إلى الهوى يسعى إليه - إن كان أحد يريد ذلك فلْيمضِ على إرادته، وإن لي نهجي الذي رسمتْ؛ فلتفترق بنا الطريق أو تلتقِ على سواء، فليس هذا أو ذاك بما نعي من المضيّ في سبيلي ومن الله التوفيق!
(وهذه خصومة أخرى من خصومات الرافعي، ومعركة جديدة من معاركه؛ وإني لأشعر حين أعرض لنبش الماضي فأذكر ما كان بين الرافعي والعقاد، أني كمن يدخل بين صديقين كان بينهما في سالف العمر شحناء ثم مسحت على قلبيهما الأيام فتصافيا، فانه ليذكِّر بما لا ينبغي أن يُذكر، والموت يحسم أسباب الخلاف بين كرام الناس؛ فإذا كان بين الرافعي والعقاد عداوة في سالف الأيام فقد انقطعت أسبابها ودواعيها، فإن بينهما اليوم لبرزخاً لا تجتازه الأرواح إلى أخراها إلا بعد أن تترك شهواتها وأحقادها وعواطفها البشرية. فهنا ناموس وهناك ناموس، ولكل عالم قوانينه وشريعته؛ فما تخلص ضوضاء الحياة إلى آذان من في القبر، ولا ينتهي إلى الأحياء من عواطف الموتى إلا ما خلفوا من الآثار في دنياهم. . . هنا رجل من الأحياء وهناك رجل في التاريخ، وشتان ما هنا وهناك؛
فما أتحدث اليوم عن خصومة قائمة، ولكني أتحدث عن ماض بعيد. والرافعي الذي يحيا بذكراه اليوم بيننا غير الرافعي الذي كان؛ فما ينبغي أن تجدد ذكراه ماضي البغضاء. . وهذا عذيري فيما أذكر من الحديث. . .)
. . . ذلك قول قلته منذ بضعة أشهر وقدمتُ به للحديث عما كان بين الرافعي والعقاد؛ وكأنما ألقيَ إليَّ من وراء الغيب أن كاتباً مثل الأستاذ سيد قطب سيحشر نفسه فيما لا يعنيه وما لا يصلح له، وما لا يُحسن أن يقول فيه، ليحاول أن يجعل التاريخ غير ما كان، مظاهرة لصديق، أو انتصاراً بالباطل. . .
ولقد كنت أكرم (صديقي) أن يكون هو الذي يحاول هذا العبث إسرافاً في حسن الظن بفهمه وأدبه وسمو نفسه، ثم كان ما لم أكن أتوقع. . .
وإني لأشعر الساعة - وقد خرجت من الصمت الذي فرضته على نفسي شهرين رعاية لحق الصديق وإبقاء عليه - بشيء من الألم يخزني في صدري ويجعل القلم يضطرب بين أناملي؛ فما سهلٌ على مثلي أن ينسلخ عن ماضيه وينكر صاحبه ليقول على ملأ من الناس: (يا هذا، لستُ منك ولست مني. . .!) ولكن سيد قطب قد قالها فما بدٌ لقائل أن يقول. . .
لقد كان بين الرافعي والعقاد عداوة وشحناء سارت مسير المثل بين أدباء الجيل، فهل كان من الحتم تبعاً لذلك أن يكون سعيد العريان وسيد قطب عدوين، لأن أولهما يؤرخ للرافعي والثاني يجري في غبار العقاد. . .؟
ولكن سيد قطب يرشح نفسه ليكون في غد شيئاً له في الأدب خطر ومقدار، وما يرى نفسه بالغاً هذه المنزلة إلا أن يجري على نهج صاحبه ويتأثر خطاه؛ فكان أول سعيه إلى غايته أنه احتقب كنانته وخرج إلى الطريق يرمي الناس باليمين والشمال لا يعنيه أين يصيب ولا من يصيب ولو كان أحرص الناس عليه وأرفأهم به. . .! وكان إلى سعيد العريان أول ما راش من سهامه يا صديقي الذي كان. . لقد أخطأت الهدف المؤمَّل. . .!
ما بي في هذا المقال أن أتحدث عن الرافعي ولا عن العقاد، ولكنّ مذهبين سماهما سيد قطب أريد أن أضرب لهما مثلين: أما أحدهما فقول سعيد العريان يعتب على صاحبه: (. . فإن كان هذا هو كل عذر الأستاذ سيد قطب من تمزيق أكفان الموتى بأظفاره فقد بَلغَ وأَبلغ. . .)
وأما ثانيهما فهو قول الأستاذ قطب نفسه يرّد على عتاب صاحبه: (. . . إن سيد قطب ليس هو الذي يمزق الكفان بالأظفار، والذي يمزّق بظفره (مخلوق آخر)، أكرم آدابي وآداب الناس أن أقول: إن الأستاذ (العريان) أو أحد زملائه من (فصيلته)! خشية أن نتدهور خطوة أو خطوتين بعده فيصبح من النقاش الأدبي المعترف به أن يقول الواحد للآخر:
(يا ابن الـ. . .) ويكون هذا من أساليب النقاد!)
تُرَى هل عرف القراء فرق ما بين المذهبين؟
نعم، ولكن لا بأس من زيادة البيان والايضاح، فقد يكون في القراء طائفة من أمثال الأستاذ سيد قطب، لا يقنعون بغير ما هو صريح الدلالة في موضعه وإن كانوا مثله (أخصائيين) في اللغة وفي أساليب البيان. . .
لقد ظل المرحوم الرافعي دائباً في تجديد الآداب العربية سبعاً وثلاثين سنة، يتردد أسمه في المحافل والنوادي ومجامع الأدب، فليس بين قراء العربية أحد لا يعرفه، وسيد قطب واحد من قرائها الأخصائيين في اللغة كما يعرف القراء، ولكنه مع ذلك لم يشرع قلمه ليجرَّد الرافعي من (النفس) ومن (الإنسانية) ومن (العقيدة) وليزيِّف أدبه ويكشف عيبه إلا حين غيَّبه التراب وآن أوان ذكراه. فهل يكون ذلك شيئاً غير تمزيق أكفان الموتى بأظفار. . .؟
ليس الأستاذ سيد قطب - ولا شك - كلباً، ولا ذئباً، ولا ثعلباً، ولا شيئاً من ذوات الظفر والناب؛ ولكنه مع ذلك - عندنا - يمزق أكفان الموتى بأظفار. . .
هذه هي عربيتنا نحن أنصار المذهب القديم، فبأيّ عربية فهمها الأديب الناقد المجدّد الأخصائي في اللغة وفي أساليب البيان الأستاذ سيد قطب؟. . . لقد فهم أننا نجرّده من إنسانيته وأننا نعني أنه. . . أنه. . . أنه ذو ظفر وناب. . .!
وأساء الظن بآدابنا وبنفسه. . . ورّد شتيمة بشتيمة، وزاد في الرّد عبارة يريد أن يجعلها من أساليب النقّاد. . . .
وعفا الله عنه؛ فما يملك أحدٌ يناله سيد قطب بالإساءة إلا أن يعفو عنه. . .!
. . . معذرة!
لقد فاتني أن أنوه بفضيلة من فضائل سيد قطب تتصل بهذين المَثَلين، وإنها لبسبيل من
مذهبه في أدب (النفس) وأدب (الطبع)، وإنها لتكتشف عن أسلوب من أسلوبه. . . إن سيد قطب لم يشتم، ولم يقل شيئاً يستحق العفو أو المؤاخذة. إنه يقول فيما يرد:(. . . إنني أُكرم آدابي وآداب الناس أن أقول. . .) أتراه قال شيئاً؟ لا، إنه ليُكرم آدابه وآداب الناس أن يقول؟ فمِن التجِّني عليه أن تزعم أنه قال. . . أيعرف سيد قطب شبيهاً بهذا الأسلوب فيما يتحدث الناس؟. . . أما أنا فأعرف: أعرف (مجدّدين) غيره من الصعاليك والسوقة يهمّ أحدهم أن يشتم خصمه فيقول له ما ترجمته في مثل لغة الأستاذ قطب: (إنني أكرم آدابي أن أقول. . .) ويكون بذلك عند العصبة المتجمهرين حولهما مؤدباً كريماً عفيف اللسان لأنه لم يقل شيئاً، ويكون بذلك مجدداً في أسلوب الشتم وإن لم يعترف سيد قطب بأن مثله من المدرسة الجديدة. . .
. . . ويبقى بعد ذلك قول الله تعالى: (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً؟) فيكون معناه على هذا القياس في مذهب الأستاذ قطب: (من منكم تهفو نفسه إلى أكلة شهية فيها مسلوق وقديد ومشويّ من لحم بني آدم؟) ويكون جواب هذا الاستفهام صوت (إنسان) يقول: (أنا. . .!) فيمسخه الله كلباً أو ذئباً أو ثعلباً أو شيئاً من ذوات الظفر والناب. . .
أليس هذا هو مدلول هذا الاستفهام عند من لا يؤمن بالكناية والاستعارة والمجاز في أساليب البيان والله أعلم بمراده. .!
أراني أطلت في شرح هذا المثال قبل أن اخلص إلى ما أريد، وما تثبت القاعدة بمثال واحد؛ فهذا مثال آخر: يقول سعيد العريان في وصف المرحوم الرافعي حين يهم أن يجمع خواطره لموضوعه قبل أن يكتبه: (. . فكان يرسل عينيه وراء كل منظر، ويمد أنه وراء كل حديث، ويرسل فكره وراء كل حادثة، ويُلقي باله إلى كل محاورة. . .)
فيقول سيد قطب: (. . . إن المرحوم الرافعي لم يكن يمد أذنه وراء كل حديث كما يعرف من يعرفه؛ ولم تكن هذه الحاسة من أدواته في التنبه والتأمل، فكان من (الصدق) ألا تذكر دون أن يضيره هذا أو يعيبه، إذ كان هذا مما لا يعاب. .)
فالأستاذ الأديب الناقد سيد قطب الأخصائي في اللغة، لا يفهم من كلمة (يمد أذنه وراء كل حديث) إلا معنى السماع بالأذن؛ وإذا كان الرافعي معطَّل الأذن لا يسمع فان هذا التعبير ليس من الصدق في الرواية. وذلك هو المذهب الجديد. . .
ويبقى بعد ذك قوله تعالى: (يد الله فوق أيديهم) فتكون دلالته عنده على معنى من معنيين: أن لله يداً، أو أن ذلك ليس من (الصدق) في تعبير القرآن. . . وأستغفر الله العظيم. .!
وقال لي قائل من صحابتي: (إنك لتتعسف في هذا التفسير وفي تطبيقه على المذهب (الجديد)؛ وإنك (لمعذور في هذا الجهل لأنك لم تختلط بالعقاد أولاً، ولأن نفسك لم تتفتح لأدب العقاد فتفهمه ثانياً. . .!) إن سيد قطب ليس من الجهل بحيث لا يفهم: (يمد أذنه وراء كل حديث) على وجهها؛ ولكنه يعيب عليك في التعبير أن تُعنَى بما سماه (استيفاء الأشكال) وتغض النظر في سبيل ذلك عن (الصدق) في العبارة. . .)
قلت لصاحبي: (لست أفهم ما يعنيه بقوله (استيفاء الأشكال) فما يكون الاصطلاح الجديد؟)
قال: (وأنت معذور في هذا أيضاً، لأنك لا تستطيع أن (تماشي الأستاذ قطب في سموقه) الفكري وفي مبتكراته العلمية التي اثمرتها دراساته الشاملة لكل ما نُقل إلى العربية من الآداب الإفرنجية ومن المباحث النفسية الحديثة ونظريات العقل الباطن والتحليل النفسي والمسلكية، ومن المباحث الاجتماعية والمذاهب القديمة والحديثة ومن مباحث علم الحياء ونظرية دارون ومباحث الضوء وتجارب الكيمياء ونظرية آينشتين والنسبية وتحطيم الذرة ووظائف الأعضاء وو وو)
قلت: (حسبك! إنما أريد أن أعرف معنى (استيفاء الأشكال) وما يقصد بها!)
قال: (ألا تعرف في (البديع) شيئاً يسمونه. . .؟)
قلت: (يسمونه ماذا؟)
قال: (أنظرني حتى أسأل سيد قطب فقد نسيت. . .!)
وحسب سيد قطب أنه جاء بجديد حين جاء بما سماه (استيفاء الأشكال)، ونسي ما سماه علماء البديع منذ كان ابن المعتز؛ ثم نسي ثانية فسماه عيباً لأنه سمع العقاد مرة يعيب شاعراً بالتزام محسَّنات البديع. .
ولكنه مع ذلك (أخصائي) في اللغة التي نعبر بها. . .!
أما بعد فهذا شيء من أشياء تفرق بين مذهبين سماهما الأستاذ قطب؛ وما كان لي أن أعنى بالحديث عنهما إلا لأنبهه إلى وجوب (استيفاء الوسائل) قبل أن ينتدب للنقد؛ وما كان لي
أن أعنى بتنبيهه إلى ذلك لولا علمي بأن ذلك يفيده ويجدي عليه، ويعينه على فهم ما يكتب أهل الأدب فلا يتورَّط فيما تورط من الحديث عن فصائل ذات الظفر والناب فيسيء إلى نفسه وإلى صحابته!
وليس يغنيه عن استيفاء هذه الوسائل أن يدعي ويستطيل ويبالغ في الإعجاب بنفسه ليكون أديباً وناقداً له مكان ملحوظ ومنزل مرموق
وإني على ما سائني من صديقي لأرجو أن يقبل نصحي خالصاً لله فيكف عما هو فيه؛ فلقد كشف بهذا الذي يكتب عن أشياء في نفسه لم يكن يعرفها إلا الخاصة من أصحابه. ولقد جلا على القراء كل ما يستطيع أن يجلو من ألفاظ (الطرافة والحيوية، والسموق، ولفتات الذهن، والاستغراق) مما يجعل وراء كل بيت فارغ يحاول أن ينثره من شعر العقاد ليثبت له ما ليس فيه؛ وقد نثر كل ما في كنانته من ألفاظ (الجمود، والاستغلاق، وضيق الفهم) مما يحاول أن يرمي به كل من يعرض له من مناظريه.
فإن سمع أراحنا وأراح نفسه، وإلا فقد علمتُ وعلم القراء ما يدفعه إلى هذه المحاولات؛ فما بي حاجة بعدُ إلى مناقشته والرد عليه؛ ولقد أكرمته من قبل فسكتّ عنه حفاظاً عليه وحرصاً على مودته، وإني لأكرمه وأكرم نفسي من بعدُ بالسكوت عنه حتى يفرغ؛ لعل في ذلك شفاء أو وفاء أو قضاء لحاجة نفسه
والسلام عليه
(شبرا)
محمد سعيد العريان
بين العقاد والرافعي
1 -
صرخة مفزوع
2 -
ابن الرومي حياته من شعره
للأستاذ سيد قطب
- 10 -
نحن نعتذر لأخينا صاحب (العصور) وناشر (على السفود) ونحس في أنفسنا استعداداً للعطف على صرخته في العدد الماضي من الرسالة!
نحن نعتذر فالظاهر أن الضربة التي ووجه بها كانت اعجل مما ينتظر وآلم مما يحتمل، لأنها خلعت عنه لحية الوقار المستعار وشعار العدالة المصطنع، وقد شاء أن يلوح بهما في عام 1938 فبدا للناس على حقيقته يحلل المر عاماً ويحرمه عاماً، ويدور في التحليل والتحريم حول الأشخاص في الوقت الذي يعيب فيه نصرة الأشخاص!
هذه هي المسألة يا صاحب العصور ونحن نعذرك في المهاترة التي أجبتنا بها، ونعذر أنفسنا إذا وقفنا لحظة على أول درجات السلم في هذه المهاترة، لنرتفع بعدها إلى مستوانا، ونأخذ في القضية الأولى التي تهم القراء
ونحن حين نعتذر إليك عن توجيه تلك الضربة، نعتذر لأنفسنا عن احترامنا لك إلى هذا الحد الذي أوجب البطر، ولو استطعنا من أول الأمر أن نهبط إلى المستوى الذي هبطت إليه في كلمتك الأخيرة لتغير وجه المسألة!
أنت يا سيدي - أولاً - لا تفهم الكلام، ومن هنا كان تفسيرك للجملة التي أقول فيها:
(وأننا من أخلص تلاميذ مدرسة هذا الكاتب لطريقته، وأشد الناس فهماً لها، واقتناعاً بها، ونسجاً على منوالها). ففهمت منها أن الذي يقول ذلك يكون (طبعة ثانية) للعقاد
وهنا كلام نقوله للناس، وكلام نقوله لك:
فأما كلمتنا لمن يفهمون فان الخلاص لطريقة في الأدب والاقتناع بمذهب خاص، والنسج على منوال مدرسة معينة، لا يعني تقليد شخص معين فقد ينشأ إمام وينشئ له مدرسة، ويكون لهذه المدرسة تلاميذ، ثم يكون لكل تلميذ من هؤلاء طابعه الشخصي ومميزاته
الذاتية، ولا سيما إذا كانت هذه المدرسة هي مدرسة العقاد التي تقوم في أساسها على الدعوة إلى أدب (الشخصية) وتنكر التقليد وتشتط في إنكاره. فمن يخلص لطريقة هذه المدرسة، فإنما يخلص للاستقلال و (الخصوص) والتفلت من القيود والتقليد
وأما كلمتنا لك، فنحن نسلم أننا (طبعة ثانية) من العقاد، فماذا تكون أنت؟. إننا نقول لك: كن أنت - إن استطعت - طبعة ثانية من العقاد أو أي فنان سواه، أو كن - على حد تعبيرك المؤدب - الطبعة التي تتركها في الرمل قدم العقاد تكن خيراً مما أنت الآن عشرات المرات!
وأنت يا سيدي - ثانياً - لا تحترم نفسك. فلقد كنت تقول يوم نشرت كتاب (على السفود) إنك تريد به (مثالا يحتذيه الذين يريدون أن يحرروا بالنقد عقولهم من عبادة الأشخاص ووثنية الصحافة في عهدها البائد). فكانت مسألة نصرة الأشخاص يوم ذاك - على ما تدعي - بعيدة عن غرضك، بل كنت ممن يقاومونها وينشرون هذه الكتب (الساقطة) لدفعها
ثم هاأنت ذا الآن تقول إنك كنت وقتها تناصر شخصاً وأنك تبت مما عملت: (سقت نقدي مساق من لا يبرئ نفسه مما تناول ذلك النقد من رأى أو اتجاه. فلم أخرج ذاتي من مجال النقد الذي سقت، معترفاً بان ذلك رجوع إلى الحق، واطمئنان إلى اتجاه جديد) وتعني بهذا أنك - إذن - ممن كانوا يناصرون الأشخاص على الأشخاص، بينما كنت يومها تبرأ من ذلك.
قلها يا مولانا كلمة صريحة أنت وأمثالك ممن لا يجدون في أنفسهم الشجاعة الكافية لمواجهة من يريدون مواجهته، فيلفون ويدورون، ويتخذون طرائق المرأة في الدفاع والهجوم. قل: أنه ما دامت الشتائم توجه إلى العقاد فهي حينئذ نصرة مذهب على مذهب؛ أما حين تكون مدافعةٌ وردٌّ لهذه الشتائم، فهي - إذن - نصرة أشخاص على أشخاص!
وقل يا مولانا: إنك تحقد على العقاد حقدا دفينا لا سبب له - إذ ليس بينكما منافسة على أدب ولا موهبة فنية - وأنك لهذا ترحب بشتائم الرافعي له وتطبعها وتروج لها وتسميها علوا عن الشخصيات. وأما حين يقوم (أديب) مثل (سيد قطب) ليكشف عن شنعة هذه الشتائم، وليشرح بعض نواحي أدب العقاد بالقدر الذي تتسع له مجلة، فانك تتألم وتثور حفيظتك فتسمي هذا الشرح وذلك الرد مناصرة للشخصيات؟
قلها يا مولانا واسترح. أراحك الله
قلها ولا تخش (صديقك) العقاد كما عبرت عن العلاقة بينكما قبل العدد الأخير، وأنت تتخاذل وتتضاءل وتدخل بعضك في بعضك، وتدعي صداقة الرجل الذي ثلبته وشتمته، ومهدت لشتمه بأحقر الوسائل.
قلها. ورزقك على الله!!!
أما سيد قطب. فسمه أديبا. سمه باسمه مجردا. فسيظل هو هو الذي أسقط عنك لحيتك المستعارة، وأثارك كل هذه الثورة وكشف للناس عن خبيئة نفسك، وحقيقة آرائك، ثم ها هو ذا الآن يمتحن رجولتك التي لا تثبت على رأي، ولا تواجه الخصوم و (الأصدقاء) بما يقابل به الرجال الرجال. أما أنك لم تفهم ما كتبت، فأبن الرومي يقول في هذا كلاماً أحيلك عليه إن كانت لك دراية به!
وقل بعد هذا ما تشاء، فلن اهبط مرة اخرى، ولن اجرف (الرسالة) ولا قراءها إلى حيث تابعناك قليلا في لغة الكلام
أما كلمتي اليوم عن العقاد، فعن كتابه (ابن الرومي. حياته من شعره) وإنما اخترت هذا الكتاب بالذات لأمور:
الأول: ما يدعيه خصوم العقاد من أن الصحافة تساعده، وتشهر مؤلفاته ولا تقبل نقالات النقد التي يكتبها نقاده.
والثاني: أن هذا الكتاب مظهر من مظاهر عبقرية العقاد الفنان والناقد. والبصير بالطبائع والفنون
والثالث: أن فيه تصحيحاً لكثير من النظرات الفنية وشرحاً لكثير مما نتحدث عن من (أدب الطبع)
فماذا كتب في الصحف عن هذا الكتاب الفريد؟
إنها بضع كلمات بين ثناء كالإعلان، أو نقد كالشتائم. وهي في مجموعها لا تساوي ما يكتب عن مؤلف صغير لأديب ناشئ
والحقيقة أن ذلك نصيب كتب العقاد كلها من الصحف، فإذا استثنينا (وحي الأربعين) والمعركة التي دارت حوله وجدنا ما يشبه التعمد في إدارات الصحف للسكوت عن كتب
العقاد.
وقد طالما سمعت أصدقاءه يشكون لأن مقالاتهم عنه دفنت في مكاتب رؤساء التحرير!
وتلك ضريبة العظمة التي يسددها العقاد!
وإنه لمن المفزع أن يعقد الإنسان موازنة بين كتاب ابن الرومي وصداه بقوله حتى ليحس إنما ألقى به في موماة تائهة لا حياة فيها ولا إحساس. لا تستطيع إلا العبقرية دون سواها من المواهب الإنسانية أن تخرج هذا المؤلف على هذا النحو.
ولكي نعرف معنى هذا المقال يجب أن نستعرض (ابن الرومي) قبل هذا الكتاب وبعده، ثم نستعرض فهم الأدب والحياة، وفهم الفنون والطبائع قبل صدوره وبعده
فماذا كان ابن الرومي قبل كتاب العقاد عنه؟
إنه كان بضعة أخبار متناثرة في ثنايا بعض كتب الأدب والتاريخ القديمة أغلبها عن طيرته وتشاؤمه، وأقلها عن حياته ومعاشه. بضعة أخبار ضئيلة هب كما قال عنها الكاتب العظيم:(ومثلنا في ذلك كمثل المنقبين في المحفورات، إذ يعترون ببعض العظام المهمشة من جسم مدثور فهم يقيسون المفقود على الموجود، ويصنون بما وجدوه على الضياع، ولو لم يكن به قوام)
وماذا صار بعد كتاب العقاد؟
إنه صار إنساناً حياً، نراه ونأنس به، وندرك خفايا ضميره وخوالج نفسه، ونعرف حركاته وسكناته، ومن ورائها أسبابها وبواعثها، ولم تعد تخفى علينا ملامحه بين الملامح الكثيرة
وليس هذا بالشيء القليل، ولا بالميسور لكل كاتب. ولكنه ليس الكسب الوحيد الذي تخرج به، فقد عرفنا شكل خلقته بمحاسنها وعيوبها، وعرفنا أخباره وسيرته في لبابها، وعشنا معه في داره، ورافقناه في غدواته وروحاته، وعلمنا أسفاره ورحلاته، وشاهدنا ما حدث له من خير وشر، وما لاقاه من نعيم وجحيم
ولم نعرف هذا وذاك وحدهما، فقد تصورنا في لمحات سريعة صورة العصر الذي كان يعيش فيه، بل عشنا في صميم هذا العصر بضع ساعات، ولقينا شخصيات هذا المجتمع، وفهمنا طباعهم الغالبة، وسيماهم الظاهرة والباطنة، وكدنا نكابد ما كانوا يكابدون من تقلب الصروف، وألاعيب السياسة، وأعاصير الانقلابات، وتيارات الدسائس. . إلى آخر ما
يعرفه المطلع البصير من مجتمع يعيش فيه فعلاً، ويدرج بين أهله وعشيرته
وما تستطيع غير العبقرية أن تنفخ الحياة في العظام النخرة بعد أن تكسوها لحماً وتملؤها دماً، وتنفث فيها من الخوالج والخواطر ما يفهمها حساً وفكراً. وما تستطيع غير العبقرية أن تنفخ في ميت العصور روحاً، وتبعث هوامد السنين حية تتحرك وتمر مرها في الفلك ودورات النجوم من جديد
ولكن هذه القدرة الخالقة، لم تقف عند هذا الحد، ولم يكن ابن الرومي ولا حياته، ولا فنونه ومزاياه، هي التي أفادت من هذه القدرة حياة. . بل لم يكن هذا إلا أقل ما في الكتاب من مزاياه
وإنما الميزة الكبرى - في نظرنا - هي البيان العجيب للفن والحياة والبائع الإنسانية، وشرح العبقرية الفنية وحدود النظر للأدب نظرة صحيحة، وتصحيح كثير من الأغلاط الشائعة في ذلك قديماً وحديثاً. بحيث تصلح فصوله أن تكون ديواناً للنقد البصير الحصيف في الأدب العربي، ومقوماً للطبائع والأذهان والافهام، لمن يجد في نفسه استعداداً للإفادة
اسمعه يتحدث عن (عبادة الحياة) في أدب ابن الرومي: (حب الحياة خليقة نادرة، وإن ظن أنها اعم شيء بين الناس وعامة الأحياء، فليس الحب - سواء حب حياة، أو حب شيء من أشيائها - سهلاً رخيصاً يطمع فيه كل من يريد. فمن الناس من يحب الحياة وكأنه مسوق إلى حبها، ومنهم من يحبها كأنه مأجور على عمله، ومنهم من يحبها كأنما يحب شيئاً غريباً عنه؛ ومنهم من يحبها كما (يحب) الحيوان الأعجم ما هو فيه؛ ومنهم من يحبها حب العاشق الذي يختار معشوقه، أو يستوي عنده الحب على القسر والحب على المشيئة، لأنه يريد ما يقسر عليه ويأبى أن يفرض للفراق وجوداً، أو يتوقع لهواه تغيرا، فهو سعيد بأن يحب، وان يسمح له بأن يحب؛ وهو يحب الحياة لأنه حي لا موت فيه، ولا عمل لكل حاسة في نفسه إلا أن تحس وتحيا، وتستجد إحساساً وحياة، ولا تشبع من الإحساس والحياة. وهكذا كان ابن الرومي يعبد الحياة عبادة لا يبتغي عليها أجراً غير ما يبتغيه خلص العابدين. فكان حياً كله لا مكان فيه للموت إلا الخوف منه والتفكير فيه)
وإنك لتقرأ هذا فتعجب لانتباه العقاد لكل ألوان (حب الحياة) وفهمه لأصحاب هذه الألوان وطبائعهم، وتعرف أن ذلك وليد إدمان اطلاع وملاحظة للنفوس والآداب، ولكنك خليق أن
تقدر وراء الاطلاع والملاحظة طبيعة فائقة مستعدة للنفاذ في اطلاعها وملاحظاتها، وفي تقييد ما تلاحظه، وطريقة تقييده كذلك
وما التفت العقاد إلى هذا كله إلا لأنه في خلة حب الحياة كابن الرومي مع الفرق بين طبيعته الصارمة، وطبيعة ابن الرومي المتماوجة. نعم هذا سر التفاته للحياة ومحبيها وطرائق حبهم وطبيعتها. ودواوينه فائضة بدلائل هذا الحب بل العبادة للحياة
ثم يتحدث عن (حب الطبيعة) بمناسبة حب الشاعر القديم لها:
(وصف الطبيعة شعراء كثيرون، ولم يمنحها الحياة إلا قليلون! أما الذين منحوها حياة نحبها وتحبنا، ونعطف عليها وتعطف علينا، ونناجيها وتناجينا، فأقل من هؤلاء القليلين.
وذاك أن الشاعر قد يؤخذ بأحمرها وأبيضها وأصفرها وأخضرها، ويفتن بما فيها من الزراكش والأفانين، ثم لا يعدو بذلك أن يمدح شيئاً قد يجد مثله في ألوان الحلي وأصباغ الطنافس ونقوش الجدران. أو نحن نخطو وراء ذلك خطوة فنقول: إنه لا يعدو بذلك أن ينظر إلى دمية فاتنة، يروقه منها وجه مليح، وقوام ممشوق وحسن مفاض على الجوارح والأوصال ولكنه لا يتطلع منها إلى عطفن ولا يفتش فيها عن طوية.
وقد يستريح الشاعر إلى الطبيعة لأنها ظل ظليل، ومهاد وثير وهواء بليل، وراحة من عناء البيت وضجة المدينة، فلا يعدو بذلك أن يستريح إليها كما تستريح كل بنية حية إلى الماء والظل والهواء. كذلك تهجع السائمة في المروج وكذلك تهتف الضفدع في الليلة القمراء.
وقد يمنحها الشاعر حياء من عنده، أو من عند الخرافات والأساطير، فإذا هي حياة بغيضة لا تصلح للتعاطف والمناجاة، ولا يصدر عنها إلا الفزع والإحجام، ولا تقوم بينه وبينها إلا الحواجز والعداوات.
أما الطبيعة التي تحب وتناجي، ويتم التعاطف بين الشاعر وبينها عن ثروة غزيرة من الشعر والشعور فهي طبيعة الحور الخافقات في الهواء، والعرائس السابحات بين الأمواج، والعذارى الراقصات في عيد الربيع، والجنيات الهامسات في رفرفة النسيم ورقرقة الغدير وحنين الصدى وحفيف الأغصان، وإن شئت فقل: إنها هي الطبيعة العامرة بما في البروق والرعود والسموات والأعماق من بطولة وعظمة ونضال جياش بالغضب الظافر والسطوة
المجيدة والخطر المثير والشجاعة التي تقدم ولا تحجم وترجو ولا تخاف، أو إن شئت فقل: إنها هي الطبيعة التي تبث الأغراء في كل شيء حتى ليحذر الملاح لجة البحار مخافة أن تستهويه بنات الماء من وراء زرقة الأمواج فيثب إلى أحضانها وكأنما يثب إلى أحضان عروس طال بها عهد الغياب
فعلى هذا النحو تتجلى الطبيعة للعبقرية التي تحبها وتمنحها الحياة فليست هي دمية ولا حلية، وليست هي مروحة للهواء ولا مجلسا للمنادمة، ولكنها قلب نابض وحياة شاملة ونفس تخف إليها وتأنس بها، وذات تساجلها العطف وتجاذبها المودة، ثم هي عماد لا خواء فيه، وأسرة لا تبرح منها في حضرة قريب يناجيك وتناجيه، ويعاطيك الإخلاص وتعاطيه
وقد كان ابن الرومي يحب الطبيعة على هذا النحو ويستروح من محاسنها نفساً تتصبى الناظر إليها وتتبرج له (تبرج الأنثى تصدت للذكر) ويرى وراء هذه الزينة التي تبدو على وجهها عاطفة من عواطف العشق تتعلق بها العفة والشهوة تعلقها بالعاطفة الإنسانية الشاعرة)
هكذا يتحدث العقاد عن (حب الطبيعة) بالطاقة التي تحدث بها عن (حب الحياة) وبالشرح الوافي الذي تجده هناك
وليس من المصادفات أن يكون العقاد نفسه من محبي الطبيعة فهو إن لم يكن من طراز ابن الرومي، فعلى طراز يتفق وإياه في الأساس، ويختلف حين يكون حب العقاد ممزوجاً بالفلسفة، والوعي الفني لما يخالط نفسه من هذا الحب، وهو في هذا يتفق مع طبيعته، ويسير مع اتجاهه الخاص في حياته وتفكيره
ثم اسمعه يتحدث عن (التشخيص والتصوير) في ابن الرومي: (القريحة المطبوعة على إعطاء الحياة، مطبوعة كذلك على إعطاء الشخوص، أو على ملكة التشخيص
ولكننا نحب أن نستثني هنا ذلك التشخيص الذي تلجأ إليه ضرورة اللغة وتسهيل التعبير، مع المتكلم بما في كلامه من المجاز والمفارقة، فقد يتكلم الشاعر أو غير الشاعر عن الشمس بضمير المؤنث وعن القمر بضمير المذكر،، وقد يسند إليهما أفعال الأحياء العاقلة وغير العاقلة، ولكنه بعد تعبير لفظي ليس وراءه تصور، وليس وراء التصور - إن كان - اثر من الشعور، ولا سيما الشعور المتبادل بين طرفين متعاطفين
وإنما المقصود بالتشخيص تلك الملكة الخالصة التي تستمد قدرتها من سعة الشعور حيناً أو من دقة الشعور حيناً آخر. فالشعور الواسع هو الذي يستوعب كل ما في الأرضين والسموات من الأجسام والمعاني فإذا هي حية كلها لأنها جزء من تلك الحياة المستوعبة الشاملة؛ والشعور الدقيق هو الذي يتأثر بكل مؤثر، ويهتز لكل هامس ولامسة، فيستعبد جد الاستبعاد أن تؤثر فيه الأشياء ذلك التأثير، وتوقظه تلك اليقظة، وهي هامدة جامدة صفر من العاطفة خلو من الإرادة. وهذا الشعور الدقيق هو شعور ابن الرومي بكل ما حوله وسبب ما عنده م قدرة الأحياء وقدرة التشخيص: قدرة التشخيص التي هي ملكة مقصودة تكون عند أناس ولا تكون عند آخرين، وليست قدرة التشخيص التي هي حلية لفظية تلجئنا إليها لوازم التعبير ويوحيها إلينا تداعي الفكر وتسلسل الخواطر)
وعلى هذا النحو البارع يمضي العقاد في تصوير ملكات ابن الرومي مستطرداً إلى بحث كامل في الملكات عامة، يبين صحيحها من زائفها، ويكشف عن وشائج هذا بذلك مستلخصاً الصحيح من النظرات، ممحظاً خالصاً
وبمثل هذه البراعة يحلل الأمثلة التي يستعرضها من شعر ابن الرومي، ويكشف عن نواحي القوة أو الضعف فيها؛ فإذا الرجل شاخص وراء هذا التحليل، تطالعك نفسه كالصفحة المبسوطة تحت المجهر الدقيق
هذه ومضات عن ذلك الكتاب الذي ظن أحد الكتاب عندنا أنه يمنحه أقصى حقوقه حينما قال عنه: (لو تقدم به صاحبه إلى أية جامعة لمنحته الدكتوراه!)
هه! الدكتوراه!
ومن يكون الأساتذة الذين يناقشون هذه الرسالة إذن ولمن يمنح (كرسي الأدب) في أية جامعة من جامعات الدنيا إذ ذاك؟
(حلوان)
سيد قطب
بين الرافعي والعقاد
القديم والجديد
نقد وتحليل
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
- 1 -
لعل من أسوأ سيئات عصور الانتقال ظاهرة التمرد التي تغلب على الناشئين فيها، فقد كان الناس قبل أن يبتلوا بعصر الانتقال هذا يرجعون فيما يختلفون فيه إلى أصول مقررة تستند إلى ما يسلمون به جميعاً من دين، أو عرف مستمد من دين، أو إلى أدب عريق تحددت أحكامه وتبينت معاييره ورسخت أصوله على طوال القرون. فلم يكن صغير يخرج على كبير في تحديد ما ينبغي، ولم يكن ناشئ يتطاول على أستاذ فيما يعلم أنه ناشئ فيه وإنه حديث العهد به. فكان الصغير إذا خالف في سلوكه رأى الكبير يخالف وهو يعرف أنه مخطئ، ولم يكن ناشئ مبتدئ في الأدب أو غير مبتدئ يخطر بباله - إذا لم يقتنع برأي أستاذه أو من هو في منزلة أستاذه في اللغة أو في الأدب أو في الدين في مسألة بدا له فيها رأي خاص - أن يعيب أستاذه أو يثلبه أو يصغره أو يحاول أن يعرضه لسخرية الناس. وكان الكبار إذا اختلفوا يتحاكمون إلى ما أجمعوا على التسليم به من الأحكام والأصول. فلم يكن الخلاف في المقاييس ولكن في طريقة القياس؛ لم يكن في القواعد ولكن في التطبيق. فكانوا سرعان ما ينتهي خلافهم إلى اتفاق إن كانوا ممن يبتغون الحق للحق لا للشهوة، أما الذين تأخذهم العزة بالإثم فلا ينزلون على حكم الحق وإن وضح فأولئك في كل عصر هم مصدر الشقاق والفراق، سواء أكان العصر عصر استقرار في المعايير أم كان فيها عصر اضطراب يشبه الفوضى كعصرنا الذي نعيش فيه
كان الأمر كذلك وكان الناس في راحة من أجل ذلك. كان يكفي أن يحتج أحد المتناظرين لرأيه بآية كريمة أو حديث شريف أو رواية في اللغة ثابتة تشهد لأحد الرأيين حتى ينزل صاحب الرأي الآخر على رأي الأول من غير أن يجد في نفسه غضاضة، لأنه في قرارة نفسه يعرف انه نزل على حكم الآية أو الحديث أو الرواية الصادقة، وهذه عنده أحكام
يجب أن تطاع وأصول يجب أن تتبع، والغضاضة كانت عنده والهوان في مخالفة تلك الأحكام والأصول بعد أن وضح له وجه الحق منها، لا في مخالفتها نزولا على حكم الهوى والشهوة. وكان الأمر في ذلك كله مداره الدين وعلمُ المرء أن الله سائله عن الحق لَم لمْ يتبعه وقد وقر في نفسه، وعن الباطل كيف اتبعه ولبس به الحق رغم ضميره ورغم قلبه. فكان هذا الوازع الداخلي حاملاً على الحق صارفاً عن الباطل حق الضعف في الناس على الأخص بفشو هذا التجديد الذي يستمد كل قوته من جلال الغالب في نفس المغلوب
ومسألة القديم والجديد عمرها لا يكاد يزيد على ثلاثين عاما أثارها في الناس نفر تثقفوا ثقافة غربية من غير أن يكون لأكثرهم من الثقافة الإسلامية نصيب مذكور. والغرب والشرق على طرفي نقيض لا يلتقيان كما يقول رديارد كبلنج، وإن كان من الممكن أن يلتقيا في العلم الذي هو مفخرة الغرب والذي هو جزء من الإسلام الذي يدن به الشرق. لكن الذي أثاروا مسالة القديم والجديد لم يكونوا يعرفون، ولعل أنصارهم لا يزالون يجهلون أن العلم الذي ظهر به الغرب هو في الإسلام جزء من الدين، وأن المدنية الغربية ليس فيها ما يستحق أن يطلب ويؤخذ إلا ذلك العلم الطبيعي الذي اهتدى إليه الغرب بالعقل والتجربة، والذي يمثل فطرة الله التي فطر عليها الأشياء. أما فطرة الله التي فطر عليها الناس فتلك يمثلها الإسلام عن يقين فكأن الغرب والشرق قد اقتسما علم الفطرة: عَلِمها الغرب في الماديات بالعلم والتجربة وعلمها الشرق في الروحانيات والاجتماعيات بالدين والوحي. فكان الشرق مخطئا حين لا يأخذ بعلم الغرب، وكان الغرب ضالا حين يخالف الإسلام كما أنزله فاطر الفطرة على محمد عليه الصلاة والسلام. وكان سبيل الكمال لهما معا وللإنسانية أن يجتمعا على العلم والدين، علم الغرب الطبيعي ودين الشرق الإسلامي، فيجتمع لهما بذلك علم الفطرة ونظامها في المادة والروح. وكان هذا أيضاً هو سبيل التجديد الصحيح لمن يريد أن يكون مجدداً مصلحاً، يجدد للشرق شبابه ومجده من غير أن يعرضه لشر ما يهدد الغرب من أخطار. وهذا هو السبيل الذي دعا إليه جمال الدين الأفغاني وسار على آثره فيه محمد عبدة. لكن دعاة التجديد الذين جاءوا بعدهما ممن لم يكن لهم مثل علمهما ولا بصرهما بالإسلام ضلوا سبيل الدعوة وصدّقوا الغرب في ظنه الذي ظن بالإسلام من أنه كان سبب تأخير الشرق. ولما لم يطيقوا أن يهاجموا الإسلام مواجهة
فيدعوا الناس صراحة إلى نبذه، عمدوا إلى مهاجمته مداورة بدعوة الناس إلى قبول كل ما عليه الغرب إن كانوا يريدون أن يكون لهم ما للغربيين من قوة وحياة. وزعموا للناس أن المدينة الغربية كل لا يتجزأ، فأما أن تؤخذ كلها أو تترك كلها، إما أن تؤخذ باجتماعياتها وأدبياتها وعلمياتها وإما لا يؤخذ منها شيء. فوقع الناس بهم في مصيبة طامة وفتنة عامة لأن الناس يلمسون قوة الغرب ويريدون أن يكون لهم مثل قوة لينجوا مما هم فيه من رقه واستعباده. فإن كان حقاً ما يزعمه لهم دعاة التجديد الغربي من أن لا سبيل إلى ذلك إلا بأخذ المدينة الغربي بحذافيرها فليس لهم فيما يبدو مفر من ذلك ولو كان في ذلك خروج على الإسلام. ونجحت حركة الالتفات التي قام بها دعاة الغرب ضد سلطان الإسلام في نفوس من أصغى إليهم من الناس حين ألجئوهم إلى أن يميزوا أنفسهم ذلك التمييز بين الإسلام وبين القوة والحياة، من غير أن يتعرض أولئك الدعاة في سبيل ذلك الخطر الذي كانوا تعرضون له من غير شك لو أنهم دعوا الناس مباشرة إلى نبذ الإسلام. وأصبح الذين أصابتهم فتنة ذلك التجديد كمن أحاط به العدو لا بد له من الموت أو التسليم، أو كمن وجد نفسه مضطراً إلى الاختيار بين قتل ولده وبين الحياة. ولقد كان سهلاً على من وقف هذا الموقف من الناس أن يفك عن نفسه ذلك الحصار ويخرج من ذلك الاضطرار الوهمي لو أنه كان يعرف حقيقة دينه وتاريخه حتى صدر الخلافة الراشدة على الأقل، لكن أولياء أمور المسلمين عفا الله عنهم وتداركهم بهدايته وتسديده كانوا ولا يزالون يهملون تعريف المسلمين بدينهم، وتنشئ أبنائهم وبناتهم في الروح الإسلامي بالتربية الإسلامية. ومن هناك كان المسلمون عوناً لعدوهم على أنفسهم. ومن هناك كان كل ما أصاب أولئك (المجددون) من نجاح، وما يهدد الإسلام في بلاده وفي نفوس أهله من خطر. ومن هنا أيضاً هب لدرء هذا الخطر فريق من المجاهدين المحتسبين الذين آتاهم الله فقهاً في الدين وقوة في الجنان وبسطة في البيان، وفي طليعة هؤلاء كان الرافعي رحمة الله عليه فالمسألة بين القديم والجديد كما يسمونها ليست مسألة اختيار بين أدب وأدب وطريقة وطريقة، ولكنها في صميمها مسألة اختيار بين دين ودين. فالذين يسمون أنفسهم أنصار التجديد يؤمنون بالغرب كله ويريدون أن يحملوا الناس على دينهم هذا ولو خالف الإسلام في أكثره. والذين يسميهم هؤلاء أنصار القديم يؤمنون بالإسلام كله وبالقرآن كله ويأبون أن يؤمنوا ببعض ويكفروا
ببعض، أو أن يدينوا للغرب مؤمنين به من دون الله. وكل الخلاف بين أنصار (القديم) وأنصار (الجديد) منشؤه هذا ومرده إلى هذا. هؤلاء مثلاً يريدون متابعة الغرب في السفور والاختلاط لينعموا بالحب! كيفما شاءوا، وأولئك يرون السفور والاختلاط مفسدة أي مفسدة لأن الله وهو أعلم بخلقه نهى عنهما في الكتاب. هؤلاء يريدون متابعة الغرب في ألا يتزوج متزوج إلا واحدة، وأولئك يرون إباحة تعدد الزوجات لأن الله سبحانه أباحه في الكتاب. هؤلاء يريدون التسوية بين الذكر والأنثى في كل شيء ظناً منهم أن الغرب يسوي بينهما، وأولئك يرون غير ذلك فيما لم يسوّ الله بينهما فيه في الكتاب. هؤلاء يرون الإسلام ديناً عربياً أنزل للعرب ولا يلائم إلا العرب، وأولئك يعتقدونه دين الإنسانية الكامل أنزل للناس كافة بما يضمن صلاح الناس كافة غير متقيد بزمان ولا متخصص بمكان كما نص الله عليه في القرآن وكما يتجدد عليه في كل عصر البرهان
ثم أنصار (الجديد) يضيقون ذرعاً بالقيود الأخلاقية التي قيد الدين بها الناس فيما يعملون وفيما يقولون، ويريدون أن يتحللوا منها فيزعموا للناس أن هذه الأخلاق وقيودها إن هي إلا عرف وتقاليد، وإن التقيد بالعرف والتقاليد في الفن والأدب يعوق الفن ويحول دون ترقي الأدب، فيجب إذن إطلاق الفن وتحرير الأدب من تلك القيود. ومن هنا نشأ خلاف آخر بين الفريقين نقل العراك بينهما من ميدان الاجتماع إلى ميدان الأدب. فأنصار الجديد يدعون إلى الفن العاري والأدب المكشوف ويّدعون للفنان والأديب حرية في القول والفعل لم يأذن الله فيها لإنسان، وأنصار قديم الإسلام يدفعونهم عن هذا ويحدون حرية الفنان والأديب بما حد الله به حرية كل إنسان من قيود الدين والأخلاق وإلا عمت البلية بالأدب وصار شراً ووبالاً على الناس. وأتسع الخلاف وتشعب بين الفريقين. بمضي أنصار الجديد الغربي في توهين السد الإسلامي الذي يجدونه قائماً في وجوههم أينما تلفتوا فيزعمون للناس من طرف خفي أن القرآن من صنع عبقري لا من صنيع الله، وأنه آية فنية لكنه آية فنية إنسانية لا معجزة إلهية، وإذن فينبغي أن يخضع لما يخضع له كل عمل إنساني من النقد والفحص والبحث العلمي فيما يزعمون، ويهب لدرء هذا الإفك العظيم كل كريم نجد من رجال الأدب أو غير رجال الأدب من المسلمين، ويقاتلونهم على إعجاز القرآن وحرمته وتقديسه، ويدعونهم إلى خطة إنصاف ليس من إنصاف بعده: إما أن يتركوا
القرآن وشأنه لا يتعرضون له بشيء إن كانوا لا يؤمنون به، وإما أن يذكروه ويدرسوه إذا قدروا على دراسته، ولكن بنفس روح الاحترام والاحتياط والإجلال الذي يدرس به العلماء الشمس والنجم والبحر وما إليها من الظواهر الكونية الثابتة التي لا يد في خلقها للإنسان. وهي كما ترى كلمة سواء غاية في الإنصاف، لو كان لدى أنصار الجديد الروح الذي يقضي بقبولها لما كانت هنالك تلك المرارة في القتال التي جلبها عدم قبولهم شطر الكلمة الأول، ولاصطلح الفريقان وتحابا واجتمعا على التجديد الحق في الأدب وغير الأدب لو أن أولئك قبلوا شطر الكلمة الثاني. وإذن لما كان هناك أنصار جديد وأنصار قديم، ولكن فئة واحدة من المجددين المصلحين الذين يعملون بالحق للحق ضمن دائرتي العلم والدين اللتين يشملهما الإسلام جميعاً
إن من اشد ما يؤسف له أن تفترق قوة أولى القوة في الشرق هكذا فرقتين، إحداهما تهدم والأخرى تدفعها عن الهدم، فيشغل الفريقان جميعاً عن التجديد والبناء وعدوهما واقف لهما بالمرصاد. لكن التمني لا يجدي والواقع هو الواقع. فستستمر المعركة بين أنصار جديد الغرب وأنصار قديم الإسلام كأشد وأحمى ما تكون حتى يقضي الله بينهما حكمه. ومهما يكن من ذلك فالموقف بين الفريقين هو في صميمه كما صورنا. وعلى أساسه يمكن النقد في غير كبير عناء أن يضع الأمر بينهما في نصابه فيما كان وفيما يجد من خلاف. وسنضرب فيما نستقبل من الكلمات مثلاً لذلك بتبيين وجه الحق فيما احتدم حول أدب الرافعي رحمه الله من جدال.
محمد أحمد ألغمراوي
بين الرافعي والعقاد
على هامش المعركة
للأستاذ محمد رفيق اللبابيدي
سيدي الأستاذ محرر الرسالة
كتب الأخ الصديق الأستاذ الطنطاوي في معرض التعليق على ما يكتبه الأخ الصديق والزميل الأستاذ سيد قطب. وآثر أن يشتد فيما كتب وأن يسرف في سوء الظن فيما يكتبه الأستاذ قطب.
وبيني وبين الأستاذين الطنطاوي وقطب من الدالة ما يسمح لي أن أقول كلمة في الموضوع الذي بسطا القول فيه، ومن حقي كزميل للثاني عرفه حق المعرفة أن أرد على أخي الطنطاوي برفق قوله: إنه لا يعرفه وإنه الخ. . . فلقد سبق أن عرف الأستاذ الطنطاوي الأستاذ سيد قطب وزامله أيضاً حين كنا ثلاثتنا في فصل واحد وفي سنة واحدة من مدرسة دار العلوم العليا، على أني لست بسبيل تقرير هذه المعرفة فهي ليست بشيء في الموضوع الذي أريد أن أقول كلمتي فيه
كنت قبل أن يكتب الأخ الطنطاوي أوشك أن أكتب في موضوع الخلاف بين الأساتذة العريان وشاكر وقطب، وأنا أعرف رأي الأخ قطب في الرافعي من قبل، وأعرف أنه رأي (غير تقليدي، فلقد كنت في دار العلوم وكانت حلقة الأخوان تضم قطباً وكنا دائماً على طرفي نقيض، فجماعة منا مع الرافعي وأخرى عليه، وكان على ما أذكر الأخ قطب لسانها، فليس حقاً أن يتهم الأستاذ قطب في رأيه هذا، فهو رأي العقيدة - وإن كنا نخالفه فيها كل المخالفة - ثم أن الأخ قطباً من إخواننا النابهين المعروفين في البيئة الأدبية، وليس من العدل أن يجهل هذا الجهل ويرميبهذا النبز من القول الذي جاء في مقال الأخ طنطاوي.
وإذا كان خطأ مناظرك في الرأي مدعاة للتجهيل والوقوع فيه وفي فضله وفي علمه فلم يبق ثمة مجال للجدل والنقاش الأدبيين، وهنا اتهام صريح للرسالة ومحرر الرسالة في إفساح المجال لمن لا يعبأ بقوله أو رأيه. وأعتقد أن الأخ الطنطاوي على قدري إياه كل التقدير وإعجابي به كل الإعجاب قد تنكب أصول النقاش والنقد في الأدب في الوقت الذي يتهم
سواه بهذا الجنوح. . .
بعد هذا نحب أن نلج موضوع النقاش من بابه ولا نثب من النافذة، فالأستاذ سيد قطب على ما نعتقد ونرى وعلى ما يتسع له علمنا واطلاعنا لم يوفّق بعض التوفيق في رأيه في فقيد الأدب العربي المرحوم الرافعي، كما أنه لم يوفق ولا بعض التوفيق في نفاحه عن الأستاذ الكبير العقاد
وأصوله وقواعده التي اتجه إليها في كتابته في هذه الموازنة على تسامحنا بهذه التسمية ليست أصولَ الملمْ بأدب من وضعهما في كفتى الميزان الفني. فلا هو يستطيع أن يقول: إنه قرأ كتب العقاد جميعها - على ما يذهب إليه من وجوب اجتماع أكثر من ثقافة واحدة لفهم ما يكتب أو يقول الأستاذ العقاد - ولا هو يطيق أن يقول أيضاً: إنه قرأ الرافعي قراءة المستوفي المستكمل
والأخ الأستاذ سيد قطب معي في أن ما تناوله من أدب الرافعي غيض من فيض، ولعله جنحإلى ما يمكن أن يوقع فيه واختاره ليقول فيه قول الذي قال، وما يمكن أن يقال في مثل هذا من شعر الرافعي يقال في مثل هذه القصيدة التي أضعها بين يدي القراء من شعر العقاد، قال الأستاذ من قصيدة يعارض فيها ابن الرومي:
هل يعرف البيضُ أن الحسن جوهرة
…
لها الثراءُ ثراءُ النفس أثمانُ
يقنو نفائسه من لا يسوّمه
…
وقد يعز على الَّلآل قنيان
يا جوهراً بت أرعاه على أممٍٍ
…
رعى الشحيح ومالي فيه سلطانُ
ما في يدي منه لا عينٌ ولا أثرٌ
…
ولى عليه مغاليقُ وأعيانُ
قد نلت ما نلت من حظ به عرضاً
…
وقد تولى فحظي منه فقدان
إني على الرعي من عينيك مفتقرٌ
…
يا ضوء قلبي فان القلب مِدْجانُ
وحسبي أن أسأل الأستاذ قطباَ رأيه فيها دون أن يكون مني أي تعليق. . .
بعد هذا فالحق أن الأستاذ العريان كان منصفاً كل الإنصاف فيما يؤرخ به حياة الرافعي - رضوان الله عليه - وليس معنى هذا العصمة من كل خطأ، وأيُّ الكاتبين كامل؟؟
ومن الحق أن الأستاذ قطباً تقحم الموضوع على الأخ العريان وأراد أن يثير بين أنصار الرافعي وأنصار العقاد، والفريقان كثر، معركة أدبية لعل من الخير لو ثارت على غير هذا
اللون من البحث، والجدلُ البعيد عن الأثرة يفتق القرائح، وربما جاء بخير كثير وأفاد منه النشء والبيئة الأدبية، ولربما كشف عن مواهب كانت مستورة، وعلم كان خبيئاً، وفضل لم يكن يعرفه القراء
وقد قرأت ما كتبه الأستاذ قطب في نقده فوجدت ألمعية واستعداداً ذاتياً وقوة وبراعة واتساع أفق، ولكني لم أجد في تضاعيف هذا كله الحجة التي تقنع أو تمسح ما في نفسي مما قرأت لها من أدب الرافعي وأقرأها إياه الكاتبون في أدب الرافعي
والرافعي - أحسن الله للأستاذ الزيات - كان كنزاً مخبوءاً في نثره كشفته الرسالة لقراء العربية عامة بعد أن كان معروفاً عند الخاصة في كتبه وفي نتف من بيانه الذي كان يتناقله الأدباء من هنا وهنالك
وقد يجوز للأستاذ قطب أن ينكر ناحية من نواحي أدب الرافعي وأن يدلل على ذلك بقوة، ولكن لا يجوز في منطق سائغ أن ينكره أدبياً على الإطلاق
كما يجوز لي - على صغري وضيق أفقي - أن أنكر شاعرية العقاد إنكاراً أود لو يتسع لي المجال من فسحة هذا العمل الآلي لأبرهن عليه بما يسعني من حجة أو تدليل، على أن إنكاري هذا ليس بضائر فضل الأستاذ العقاد وهو في رأي الكاتب الناثر الجبار في عمق مادته وسعة اطلاعه وغزارة ثقافته
أما أن أثب وثباً منقطع النظير فأنكر العقاد أدبياً وأتجاهل رأي الكثرة الكاثرة من قرائه وأصحاب الرأي الحسن فيه فذلك مما لا يقفني موقف المسموع الرأي عند أهل البصر في الأدب
وقرأت للأخ قطب مقاله الأخير ومحاولته أن يجعل من قصيدة الأستاذ العقاد في الجيبون دائرة معارف ثقافية ففيها من كل علم ومن كل فكر، فهل لو صح هذا كان شعراً. والشعر من الوجدان وإلى الوجدان وماله وهذه اللفتات إلى ما هو عميق متكلف؟
وهل لو صح هذا الوزن لشعر الشراء واصطنعنا هذه المقاييس التي يتفضل بها الأستاذ قطب نكون قرّبنا الشعر من الطبيعة الصادقة والفطرة السليمة ولذوق الذي لا تشوبه شائبة النظريات العلمية القلقة. . .
اللهم لا، ثم لا. وللحديث رجع إن شاء الله
(حيفا - فلسطين)
محمد رفيق اللبابيدي
المدرس بمدرسة حيفا الثانوية الأميرية
الفروسة العربية
للأستاذ جميل قبعين
- 1 -
محاضرة قيمة ألقاها الميجر كلوب قائد قوة البادية في شرق
الأردن بتاريخ 25 تشرين ثاني سنة 1936 في الجمعية
الأسيوية الملكية في لندن ونشرتها مجلة الجمعية في عدد يناير
سنة 1937
تحمل كلمة الفروسية معاني مختلفة في إنكلترا وتوقظ في أذهان الكثيرين منا شعوراً مبهماً وانطباعاً خيالياً عن فرسان بأسلحتهم اللامعة وملابسهم الجميلة الجذابة، وقد نستعمل هذه الكلمة في كثير من الأحيان للدلالة على احترام المرأة، ولكن إذا ما رجعنا إلى الحقيقة وجدنا هذا الاتجاه في التفكير في الفروسية سطحيا وخيالياً لأن الفروسية نشأت وانتشرت كنظام خاص في الحياة عند بزوغ فجر المدينة. ولكي أوضح ما أقصد باستعمال كلمة الفروسية يجب أن أرجع بكم إلى العصور الخالية.
عندما كانت موارد الرزق تنحصر في الزراعة وتربية المواشي، وكان الإنسان في إنكلترا وأوربا على العموم يستطيع أن يجمع بين العملين معا لأن جو هذه البلاد الرطب كان يهيئ كثرة الكلأ وخصوبة المرعى، ولذلك كان بإمكان المزارع أن ينصرف إلى أعمال الحرث والحصاد، وفي نفس الوقت يقتني المواشي التي ترعى بالقرب من مزرعته لكثرة الأعشاب. ولكن تطبيق هذه الطريقة في تنظيم العمل كان متعذراً في القارات الأخرى وعلى الأخص آسيا وأفريقيا حيث تقل الأمطار وتعاني مساحات واسعة منها المحل والجفاف لقلة سقوط الأمطار وبطبيعة الحال تقل المراعي وتبعد المسافة بينها - ولذلك كان المزارع الذي لا يتمكن من ترك حقله غير واجد مرعى لأغنامه. وهكذا كان الجمع بين الزراعة والرعي غير ممكن. ولذلك بقى سكان تلك البلاد ألوف السنين منقسمين إلى قسمين متباينين الرعاة والمزارعين أو البدو والحضره وهكذا أوجدت طريقتا المعيشة بينها
تباينا في الأخلاق وتباعدا في المجتمع فتأصل العداء.
قد يستغرب الرجل الإنكليزي في هذه الأيام أن يجد عندما يزور البدو تشابها عظيما بين عاداتهم وبين عادات الفرسان الأوروبيين في العصر الإقطاعي، ولهذا ترون أنني استعملت كلمة (الفروسية) عنواناً لمحاضرتي.
وقد يكون غريباً أن تعلموا أنه لا توجد كلمة في اللغة العربية للدلالة على الفروسية كنظام خاص مع العلم بأننا نرى البدو يعيشون بروح فرسان القرون الوسطى، والسبب في ذلك أنهم لا ينظرون إلى نظام معيشتهم كنظام يمكن درسه بل كحياة طبيعية ولما كانوا لا يعرفون القراءة لم يتمكنوا من درس أنظمة غيرهم من الأمم، ولهذا لم يجدوا ضرورة لإيجاد اسم خاص لطريقتهم. في الحياة. ولو وصفت الصفات المميزة للفروسية لمزارع أو حضري من سكان هذه البلاد لأجابك على الفور أنك تتكلم عن حياة البدو. وعليه فإني أرجو من حضراتكم أن تبعدوا المعنى الخيالي الذي يتصل بكلمتي الفروسية والفرسان لأني أعني باستعمال هذه الكلمة عادات البدو أي نظام الحياة اليومي ونظام الحكم الديمقراطي بينهم.
حياة البدو والمزارع
يمكننا عند دراسة أخلاق وطباع البدوي والمزارع أن نبدأ بدراسة وجهة نظر كل منهم نحو الحرب. تنحصر كل ثروة المزارع في مسكنه وحقوله وأشجاره فإذا ما سلم أملاكه إلى عدو يصبح على الفور جائعاً متشرداً، وهذه النتيجة المنتظرة تجبره على الاستماتة في الدفاع إذا ما هوجم، وفي نفس الوقت نرى أن الزراعة عمل مستمر يستوعب كل أوقات الفصول الأربعة بحيث لا يبقى له وقت يقضيه بالسفر والتنقل بحثاً عن المغامرة، ولذلك تجده يدافع دفاع المستميت دون الاهتمام بقواعد الحرب أو بتطلب المجد الشخصي، وحالة المزارع هذه تقوده إلى أن ينظر إلى الحرب نظرة الكراهية، فإذا ما هوجم ترى أن همه الأول أن ينتصر بأسرع ما يمكن بطرق شريفة أو غير شريفة، وبما أن غرضه الأسمى هو الدفاع لا المجد، وبما أنه يقطن في القرى نراه يفرض على كل شخص في المجتمع أن يشترك في الدفاع لكي يضمن السلامة والفوز. وهكذا يمكننا حصر نظرة المزارع إلى الحرب فيما يلي:
1 -
الدفاع المستميت
2 -
كره المغامرات الحربية
3 -
التصميم على الفوز بطرق مشروعة أو غير مشروعة
4 -
فكرة خدمة المجتمع
أما نظرة البدوي للحرب فهي على العكس تماماً وذلك لأن ثروة البدوي هي الخيل والجمال والغنم وليست من الأملاك الثابتة كالبيوت والحقول والبساتين، لذلك نراه غير مضطر لمقاتلة عدو إلى الرمق الأخير بل على العكس قد يتمكن من إنقاذ كل أمواله بتقهقر منظم سريع. وعلاوة على ذلك فإن المواشي شيء مزعج في الحرب إذ أنها قد تتشتت أو تذبح ولو كان صاحبها منتصراً في الحرب. كل هذه الاعتبارات تشير إلى حقيقة واحدة وهي أن طريقة البدوي في الدفاع ضد عدو قوي هي التقهقر السريع وليست الاستماتة في الدفاع كما يفعل القروي
وهنا لا يسعني إلا أن أتحول قليلاً من البحث عن الحرب إلى السياسة. إن الفلاح يدافع عن بلدته ويقاتل قتال المستميت دونها ولكنه إذا غلب على أمره خضع واستسلم إلى العدو تمسكاً بقطعة أرض يتركها له غالبوه، وإذا ما سمح له بالبقاء يدفع الضرائب الفادحة صاغراً ويتحمل أنواع الذل والإهانة. أما البدوي فإذا وجد نفسه محاطاً بعدو قوي استكان دون مقاومة وتظاهر بتقديم الخضوع إلى كبير الفريق الغالب حتى إذا ما رأي من عدوه غفلة رحل بسرعة إلى مكان قصي أمين حيث يصبح حراً طليقاً. وهكذا نرى أن البدوي رغم ضعفه في الدفاع ذو نفسية استقلالية تصبو إلى الحرية وهو أوسع حيلة وأعز نفساً واعظم كبرياء من القروي
وفي الهجوم أيضاً تجد البون شاسعاً بين البدوي والمزارع فإن هذا الأخير مرتبط بأرضه وبأعماله المستمرة، أما البدوي فقليل المشاغل كثير الفراغ وهو بسائق فطرته وطريقة معيشته معتاد ركوب الخيل والجمال وتحمل الأسفار البعيدة الشاقة ولذلك كانت المغامرات الحربية موضوع فخر وتسلية له وكانت الشهرة والمجد مطمعه في الحياة، لأن نظرة البدوي إلى الحرب لا تتجه لخدمة المجتمع نراه يتطلب في حروبه المجد والفخر والقيام بالأعمال العظيمة التي تنيله الشهرة، فالمجد والشهرة هما غايته من الحرب لا سلامة
المجتمع.
إن أساليب الحرب في نظر البدوي أهم بكثير من النصر وكسب المعركة، والمجد بالتسابق بأعمال البطولة على أساليب الشرف هدفه الأسمى في القتال. وقد نشأ عن ذلك أساليب وعادات معقدة ورثنا بعضها فيما نسميه الروح الرياضية. فالبدوي لا يجد من الشرف أن يهاجم رجلاً نائماً أو أقل منه سلاحاً، وهكذا ظهرت تقاليد أهم صفاتها تطلب المجد والشهرة وإثارة روح التقدير والإعجاب في الآخرين بإتباع أساليب الشرف. ولا يجدي البدوي غضاضة في الاعتراف ببطولة العدو إذا كانت أساليب الشرف والاستقامة رائد هذا العدو في الحرب. كما أنه ينظر بازدراء للقروي الذي يحارب بقصد النصر دون التمسك بأساليب الشرف.
توجد ناحية غير مستحبة في طباع البدو الحربية وهي الأنانية والحسد، فالمحاربون البدو يحاربون لإظهار فروسيتهم ورجوليتهم وشجاعتهم الفردية بقدر الإمكان، وقد لا يشعر أحدهم بكراهية نحو عدو بعيد ولكنه ينفجر حاقداً إذا ما نافسه أحد رجال قبيلته بأعمال البطولة وسبقه بالشهرة. قد نرى نحن الأوربيين أن هذا أمر غير مستحب، ولكن الحقيقة أن هذه الصفة كانت من أهم الصفات الظاهرة لدى النبلاء الأوربيين في العصر الإقطاعي ومع أنها صفة غير جذابة ولكنها إحدى صفات الفروسية.
معاملة المرأة
إن الشيء الثاني الذي يميز حياة الفروسية أو حياة البدو هو طريقتهم في معاملة المرأة، فالمزارع مرتبط بعمله المنهك فلا ينتظر منه أن يشجع زوجته على التجمل والراحة في البيت بينما هو يقضي 12 - 13 ساعة يوميّاً في أعماله الزراعية، ولذلك تجد أن نساء المزارعين كن دائماً خشنات المظهر لاشتراكهن في الأعمال الشاقة خارج البيت. ولربما أوجدت حياة المزارع الجافة فيه عقلية خاملة خالية من الجو الخيالي البهيج
ولكن نظرة البدوي إلى المرأة تختلف تماماً عن نظرة المزارع إليها لما ذكر فيما سبق من أن البدوي قليل المشاغل وغايته القصوى في الحياة المجد وإثارة الإعجاب. ومن الطبيعي أن الإنسان عندما يتطلب ميزة خاصة على غيره يتطلب ان تعترف له المرأة بتلك الميزة، وأن إعفاء المرأة البدوية من الأعمال الجسيمة الشاقة المنهكة جعلها تحتفظ بنعومتها
ورشاقتها، ومن الممكن أن فراغ وقتها أعطاها الفرصة الكافية للتزين والتجمل، ولذلك بقيت جميلة مشتهاة أكثر من زميلتها القروية الخشنة.
ينظر القروي إلى المرأة كوسيلة للخدمة والولادة وواسطة للربح. أما البدوي فيرى فيها مخلوقاً يجب العطف عليه والتغني به ويتخذها البدوي حكماً لتقدير أعماله. ومن المفيد أن نذكر أن المرأة البدوية بالرغم من كونها تعامل معاملة أحسن من زميلتها القروية، فإنها لم تكن مساوية للرجل، وأن التقدير والإعجاب اللذين كانا محيطين بها راجعان إلى اختلافهما في التكوين والخلقة عن الرجل - فالرجل كان المحارب والحاكم، والمرأة هي الجمال. إن الفروسية لا تعترف بمساواة الجنسين لأنهما مخلوقان مختلفان والمرأة لم تحاول أن تشارك الرجل في الحكم يوماً. وفكرة مثل هذه كانت غير مستحسنة من الطرفين
مزايا البدو الأخرى
إن طلاب المجد وحب الشهرة خلقا في البدوي مزايا أخرى أهمها الكرم والسخاء. يعتمد البدوي في حياته على قطعانه، وهي بطبيعة الحال عرضة للسلب والفقدان في كل لحظة، وهذه الحال قد تجعل الرجل الغني الوفير الخيرات في القبيلة يصبح فقيراً معدماً في اليوم التالي - وفي نفس الوقت قد يسترجع ما فقد بغزوة ثانية موفقة يقوم بها، ولذلك فإن البدوي يشبه الأموال بالأوساخ العالقة باليد تأتي اليوم وتذهب غداً. إن حياة التنقل المستمر جعلت من الصعب على البدوي أن يحتفظ بكثير من ضروريات الحياة، كما أن حبه للظهور وتعطشه للمجد كان لهما أثر كبير في أعماله القريبة من الخيال؛ فهو مستعد دائماً لأن يبذل كل ما يملك أو يمنح بسخاء جميع ما غنمه في غزوة شاقة خطرة لكي يظهر بمظهر شائق. أما القروي فهو بعكس ذلك تماماً لأن حياة الشقاء التي يعيشها واستقراره وتمكنه من التوفير أسباب كافية لجعله مقتراً
إن إحدى النتائج التي أجدها الكرم هو حسن الضيافة. وإني لأجد ضرورة لأن أقول بأن كل بدوي يملك بيتاً مفتوحاً أو بالأصح خيمة مفتوحة للضيوف في جميع ساعات الليل والنهار، وتكون الخيمة مقسمة إلى قسمين أحدهما للعائلة والآخر للضيوف. ولقد جرت العادة أن يضيف البدوي ضيفه ثلاثة أيام قبل أن يسائله من أين أتى وما هي مهمته
وهذا الكرم يصل إلى الفقراء من القبيلة، إذ أن من عادات البدو ألا يهملوا شيخاً ولا فقيراً،
ولا يمكن لإنسان يعيش بين البدو أن يموت جوعاً. وكثيراً ما نرى شيخ القبيلة يوزع بعد عيد أو وليمة اللحم والأرز بنفسه أو يرسله إلى بيوت المسنين والأرامل. ويمكننا تلخيص صفات البدو فيما يلي:
1 -
السعي وراء الشهرة في الحرب بالقيام بأعمال البطولة والمغامرات الفردية دون الاهتمام بربح المعركة
2 -
تقدير المرأة واحترامها لأنوثتها واتخاذها وسيلة للتسلية والتمجيد وإن كان لا ينظر إليها كمساوية للرجل
3 -
وجود دافع في البدوي يدفعه إلى القيام بأعمال البطولة والكرم حتى تكون أعماله هذه أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة في أكثر الأحيان
4 -
الكرم وحسن الضيافة الحاتميان ويرجع سببهما أولاً إلى عدم الاطمئنان إلى بقاء الممتلكات بصورة مستمرة، وثانياً إلى حب التفوق والمجد اللذين يسعى البدوي إلى تحقيقهما في الحرب أيضاً
ولكي أشرح هذه الصفات الأربع سأستشهد ببعض قصص تصف لنا الفروسية العربية. والقصص التي من هذا النوع أكثر من أن تحصى. وقد أشاد بذكرها الشعراء وامتلأت بأخبارها كتب الأدب وتغنى بها العشاق والمطربون. ولقد كان هذا شأن التروبادور في القرون الوسطى في أوربا، واسمهم هذا مشتق من فعل طرب العربي. وقد كانوا يتجولون في البلاد مثيرين الحماسة برواية قصص الأبطال والأحاديث الغرامية
وسأقتصر على بعض القصص والحكايات كما أني سأذكر تجاربي الخاصة.
يتبع
جميل قبعين
ماضي القرويين وحاضرها
للأستاذ عبد الله كنون الحسني
- 1 -
كتب الأستاذ على الطنطاوي في العدد (236) من (الرسالة) بمناسبة إظلال العيد الألفي للجامع الأزهر يقترح على أبناء جامع القرويين والزيتونة والنجف أن يتحدثوا لقراء (الرسالة) عن شيء من تاريخ هذه المعاهد وما ساهمت به في خدمة الثقافة الإسلامية وفنون المعارف الأخرى، كما سيتحدث أبناء الأزهر في ذلك العيد القريب عن أزهرهم ويقومون بإحياء ذكراه الخالدة المحفوظة في ضمير الزمان ما بقي من يراعي الجميل من بني الإنسان. وذلك لأن كثيراً من الناس يتشوقون إلى معرفة أحوال هذه المعاهد والأطوار التي اجتازتها منذ تأسيسها إلى الآن، وسيبلون عطشهم بالنسبة إلى الأزهر؛ أما بالنسبة إليها فسيبقون أعطش مما كانوا، لأن الذكرى تبعث الذكرى. فلا أقل من أن يحظوا ببلالة من العلم في كلمة أو كلمتين عن تلك الجامعات التي غيرت هي والأزهر مدى أجيال تشع على العالم أنوار العلم والمعرفة وتتدرج بالفكر الإنساني في مدارج النمو والارتقاء.
وقد استحسنا اقتراح الأستاذ ولبثنا مدة ننتظر من يستجيب له ويمتعنا بالحديث عن أي جامع كان من تلك الجوامع فما ظفرنا إلا بالخيبة والملل، وأخيراً تكلم بعض أفاضل النجف عن جامعه وهو ثالث الثلاثة الأحق ببسط الكلام فيه والتوسع في الحديث عنه، ولكن ذلك الفاضل اقتضب القول فيه اقتضاباً ووعد بالتبسط مرة أخرى وإنا لوعده لمنتظرون. وقد حبب إلينا لما بقي الميدان خالياً بل رأينا من الواجب أن نتقدم بكليمات عن جامعنا القروي العامر يتعرف بها الجمهور العربي من قراء (الرسالة) عظمة تاريخ ذلك المعهد وما قام به من خدمات جلى للعلم والمعرفة طوق بها المدنية الغربية في فجر نهضتها بأياد بيضاء:
فأولى الميزات التي تبعث على الفخر والازدهار، وهي مما أختص به هذا الجامع، أن مؤسسه امرأة، وامرأة من صميم الشعب، لا ملكة ولا أميرة. وفي هذا ما يكفي لرد ما يتقوله المتقولون على المرأة المسلمة ويصمونها به من الجهل والتأخر عن مجاراة سنن الحياة؛ إذ ما عهدنا في تاريخ أمة من الأمم وفي العصر الحاضر أن يكون مؤسسو الجامعات العلمية العالمية من النساء. ولكن الإسلام الذي رفع من شأن المرأة وأعلى من
قدرها إلى ما لم تبلغه في أية شريعة أخرى سواء كانت سماوية أو وضعية هو الذي سما بنفس السيدة أم البنين فاطمة بنت محمد الفهري - إلى هذا المقصد النبيل وبعث فيها الرغبة الملحة إلى بناء جامع القرويين بمالها الحلال الذي ورثته من أبيها وزوجها، لم تنفق فيه سواه احتياطياً منها وتحرجاً من الشبهة؛ وذلك عام (245) وكانت لم تزل صائمة منذ شرعت في بنائه إلى أن تم وصلت فيه شكراً لله تعالى الذي وفقها لذلك العمل المبرور.
وهذا التاريخ الذي بنى فيه جامع القرويين لا شك أنه أقدم من تاريخ بناء الأزهر الذي كان سنة (359). فقول الأستاذ فريد وجدي في دائرة المعارف: (إنه أقدم مدرسة في العالم بعد مدرسة بولونيا بإيطاليا فقد تقدمته بأكثر من أربعة قرون) غير صحيح، لا بالنسبة للقرويين كما رأيت، ولا بالنسبة إلى كلية بولونيا المذكورة لأن تأسيسها إنما كان سنة (1119م) أي بعد الأزهر بنحو قرن ونصف. إذ أن مقابل تاريخ بنائه من الميلادي يكون حوالي (970) وحينئذ فترتيب هذه الجامعات في القدم يكون هكذا: القرويين فالأزهر فجامعة بولونيا
ومن المعلوم أن القرويين لأول بنائها لم تكن على ما هي عليه اليوم من السعة والفخامة، فقد زيد فيها كثير، وجدد بناؤها مراراً، وأولى الزيادات كانت في أيام دولة زناتة سنة (307)، ثم في أيام عبد الرحمن الناصر الأموي خليفة الأندلس الذي دانت له البلاد ردحاً من الزمن. وقع تجديد لبناء القرويين وزيادة أخرى فيه وذلك سنة (345)، ثم كان إصلاح جديد في أيام المنصور ابن أبي عامر حاكم الأندلس وحاجب الخليفة هشام بن الحكم سنة (388). ثم في دولة لمتونة في أيام أمير المسلمين علي بن يوسف ابن تاشفين نقض المسجد كله وزيدت فيه زيادة مهمة من جميع جهاته واحتفل في بنائه وزخرفته إلى الغاية وكمل ذلك سنة (538) أي بعد وفاة أمير المسلمين علي بن يوسف بسنة.
ولما ملك الموحدون فاس سنة (540) خاف فقهاء المدينة وأشياخها أن ينتقد عليهم الموحدون النقش والزخرفة التي فوق المحراب لقيامهم بالتقشف والتقلل، وقيل لهم إن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي يدخل غداً المدينة مع أشياخ الموحدين بقصد صلاة الجمعة بالقرويين، فأتى الحمامون الجامع تلك الليلة وغطوا على ذلك النقش والتذهيب الذي فوق لمحراب وحوله بالورق ولبسوا عليه بالجص ودهن بالبياض فاختفى أثر ذلك ولم يبق ظاهراً إلا البياض
ونلاحظ هنا أن فقهاء المدينة وأشياخها إنما خافوا انتقاد الموحين عليهم لما كانوا هم المباشرين لبناء المسجد وزخرفته ولم يكن ذلك من عمل المرابطين الذين قام عليهم الموحدون؛ وكذلك كان هذا المسجد منذ تأسيسه من الشعب وإليه. فمعظم هذه الزيادات - إن لم نقل كلها - كانت مما قام به أفراد من الشعب فقهاء وأئمة وغيرهم، بعد استئذان الحاكم طبعاً. ولشد ما كانوا يتحرون في المال الذي ينفق على ذلك، بل في الآجر والماء والتراب الذي كان يدخل في البناء فلا يصرفون فيه إلا ما كان من أصل طيب؛ وربما اشتبه عليهم مال أحدهم فأدى الأيمان الغليظة على أنه من الحلال الخالص الموروث عن آبائه الذين صار إليهم من عمل شريف إلى غير ذلك مما تراه مفصلاً عند ابن أبي زرع في القرطاس والجزنائي في زهرة الآس وابن القاضي في جذور الاقتباس
هنا كان قد بلغ الجامع كماله فأتى دور المصالح والمنافع والمرافق الملحقة به من فسقيات وميضآت ومستودعات وخزانات ومقاصير ومدارس وما إليها. وأهم ذلك خزانة الكتب التي أسسها به السلطان أبو عنان فارس المريني وأودعها كما يقول الجزنائي: (من الكتب المحتوية على أنواع من علوم الأبدان والأديان واللسان والأذهان وغير ذلك من العلوم على اختلافها وتنوع ضروبها وأجناسها ووقفها ابتغاء الزلفي ورجاء ثواب الله الأوفى، وعين لها قيما لضبطها ومناولة ما فيها وتوصيلها لمن له رغبة. وأجرى له على ذلك جراية مؤبدة تكرمة وعناية وذلك في جمادى الأولى سنة 750)
وأسس أبو عنان كذلك مصاحف احتفل في بناها وتشييدها بما لم يسبق إليه، وأعد فيها جملة كثيرة من المصاحف الحسنة الخطوط وكلف بها من يتولى أمرها على أحسن الشروط. ثم لم تزل الملوك والسوقة تقف الكتب على خزانة القرويين بعد ذلك حتى اجتمع بها من المجلدات العلمية والأدبية والدينية ما لا يدخل تحت حصر ولا يستوفيه عد ولا حساب
وأما المدارس وهي بيوت الطلبة الملحقة بالقرويين، فإن من أقدم ما بني منها مدرسة الصابرين التي أسسها أمير المسلمين ابن تاشفين حوالي منتصف القرن الخامس الهجري (450) والمرينيون هم سباق هذه الحلبة الذين خلفوا لنا أكبر عدد من المدارس المتقنة الصنع المحكمة الوضع، لا حول القرويين فقط بل في جميع أنحاء المغرب ولما كان كلامنا
هنا إنما يساق إلى القرويين فلنذكر بالخصوص مدرسة العطارين التي بناها السلطان أبو سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق. ومدرسة أبي عنان اللتين تعدان قطعتين خالدتين من فن العمارة والنقش والتخريم والتزويق المغربي. وقد تلحق بهما مدرسة الشراطين التي بناها مولاي رشيد من ملوك دولتنا العلوية العلية. أما غير هذه المدارس فإنها وإن لم تكن مثلها في بداعة الشكل وجمال الصنعة إلا أنها لا تقل عنها فخامة بناء ورحابة فناء
هذه العناية الفائقة بالقرويين والاهتمام البالغ النهاية بأمره من الشعب ثم من الحكومة في كل عصر وفي كل دولة - تدلنا على ما كان له من مكانة سامية في النفوس منذ عهد تأسيسه وما كان يخص به من الاحتفال والاهتمام دون بقية المساجد الأخرى. وإلا فأخوه وشقيقه جامع الأندلس الذي بنته السيدة مريم أخت أم البنين وشقيقتها لم يظفر بعشر مما ظفر به هو من ذلك، بل إنه ما لبث أن غطى على جامع الأشراف الذي أسسه المولى إدريس ثاني ملوك الدولة الإدريسية ومختط فاس وبانيها سنة (192) فنقلت خطبة العدوة القروية من مسجد الأشراف المذكور إلى القرويين وأصبح هو المسجد الجامع في تلك العدوة كلها
وأبتدأ نجم القرويين يلمع في سماء العلم منذ أواخر القرن الثالث وأوائل الرابع، وما كاد القرن الرابع يبلغ النصف حتى كان مثل عبد الله بن أبي زيد القيرواني صاحب الرسالة والنوادر والذي يعرف بمالك الصغير يشد الرحلة إلى أحد رجاله وهو دراس بن إسماعيل المتوفى سنة 357هـ وفي هذا العهد كان أيضاً أبو جيدة ابن أحمد وهو فقيه فاس ومحررها من سطوة عامل المنصور بن أبي عامر. ولا شك انه كان أحد أساطين هذه الكلية وممن عملوا على رفعة شأنها وعلو قدرها
وتتوالى حلقات السلسلة حتى تصل إلى العصر الحاضر مؤلفة من رجال وقفوا حياتهم على خدمة التشريع الإسلامي تحت راية مالك وأصحابه فبلغوا به الغاية التي ما بعدها غاية في الكمال، وطارت لهم شهرة مطبقة في أرجاء العالمين الشرقي والغربي. فما منهم إلا إمام فتوى ومجتهد مذهب مثل الفقيه ابن عمران الفاسي المتوفى سنة 430 والفقيه ابن محمد صالح المتوفى سنة 631 والفقيه راشد الفاسي المتوفى سنة 675 والفقيه أبي الحسن الصغير المتوفى سنة 719 والفقيه أبي عمران العبدوسي المتوفى سنة 776 والفقيه
القوري المتوفى سنة 872 والفقيه المشارك أبي عبد لله بن غازي المتوفى سنة 917 والفقيه أبي علي بن رحال المتوفى سنة 1140 والفقيه الرهوني المتوفى سنة 1230 وغيرهم
وفي الحقيقة إن اكثر الجهود في الكلية في كل عصر كانت موجهة إلى هذه الناحية من التعليم، ومعظم إنتاج رجالها كان في هذا العلم: علم الفقه وما إليه على مذهب مالك رحمه الله حتى ليصح القول إن أهل كل بلاد لم يخدموا مذهبهم بقدر ما خدمه أهل المغرب، وإن المذهب المالكي لم يصل إلى ما وصل إليه من الخصب والنماء والنضوج - حتى أن أتباع غيره من المذاهب ربما اضطروا إلى الأخذ عنه والاقتباس منه كما في بعض قوانين المحاكم الشرعية بمصر - إلا بفضل القرويين وما أبدوه من الهمة الصادقة في هذا السبيل.
(يتبع)
(طنجة)
عبد الله كنون الحسني
رِسَالة الشعِر
في حادث العراق
جناية الأقدار
للأستاذ محمود غنيم
كلمة أوحى بها إلى حادث العراق الأليم على أثر ما قرأته من حملات بعض غير المنصفين من كتابنا المصريين وعلى الأخص في جريدة الأهرام
أمر به سَبَق القضاءُ الجاري
…
ما حيلةُ الإِنسان في الأقدارِ
لا تأخذوا بالذنب غيرَ جُناتِه
…
إن الصوابَ تلمُّسُ الأعذارِ
الرُّزءُ يذهب بالعقول جلاُله
…
فحذَارِ من شَطَطِ المقالِ حذارِ
إن تسرفوا في الاتِّهام جَنَيْتُمُو
…
أتتم على القُطر الشقيق الجارِ
هي أمةٌ وَزِرَ امرؤٌ من أهلها
…
أفتثقلون الكلَّ بالأوزارِ؟
اللهُ يعلم أنَهم ما أضمروا
…
للنيل غيرَ الحبِّ والإكبارِ
أوَ لم يُصُبْ (سعدٌ) بأيدي أمةٍ
…
تَفدِْيه بالأسماع والأبصارِ
إن الذين أصاب (سيفاً) سهمُهُمْ
…
مِنْ دمعهم غسلوه في أنهارِ
ولو استطاعوا لافتَدُوُه من الحِما
…
مِ بألف سيفٍ منهمو بتَّارِ
قالوا: العراقُ ومصرُ قُلنا: بل هما
…
مِصْرَانِ بل مصرٌ من الأمصارِ
هذا أبٌ أودى به نَزَقُ ابنه
…
ماذا تقول لِصِبْيَةٍ أَغْرَارِ؟
ماذا تقولُ لنائبٍ عن رُشده
…
يَجْني جنايتَه وليس بدارِ؟
ما حاد عن سَنَن العدالة آخذٌ
…
لغريمه من نفسه بالثارِ
عُذْرٌ الشبيبة طيشُها والخِطْءُ ما
…
فعلوه عن عَمْدٍ وعن إصْرَارِ
لا كان مخترع (الرصاص) فإنه
…
باع المنونَ رخيصةَ الأسعارِ
بغدادُ عذراً للكنانة إن قست
…
في عَتْبها والعَتَبُ للأحرارِ
أو ما نظرت إلى الكنانةِ أعيناَ
…
تَهْمي وأفئدةً بغير قرارِ؟
إنا لنرخصُ في سبيل الوُدِّيا
…
بغدادُ ما يغلو من الأعمارِ
وهو الودادُ إذا عُراه توَثَّقَتْ
…
أَضْفَى على الآثام كلَّ ستارِ
إحسانُ من عاديتَ كلُّ إساءةٍ
…
وكبارُ من صافيتَ غيرُ كبارِ
هذا شهيد العلم عزَّزْنَا به
…
مَنْ راح من شهدائنا الأبرارِ
خلِقَ الجهادُ لنا سواءٌ عندنا
…
مَنْ بالحديد يموت أو بالنار
والعلمُ مختلِفُ الضحايا كم طوى
…
من سابحٍ وقضى على طيَّارِ
يا رُبَّ مخترعٍ يروح ضحيةً
…
للكشف عن سر من الأسرارِ
ومعلِّم قد راح يبذلُ نفسه
…
بذلَ الكرام لناشئينَ صِغارِ
تمتَصُّ أفواهُ الشبيبة رُوحَهُ
…
مثلَ امتصاص النحل للأزهارِ
(عزمي) إذا التأمتْ جراحُك في غدٍ
…
وبرِئتِ فاشكُر للطيف الباري
أنت ابتدأتَ رسالةً فأَتمَّها
…
واهزَأ بما تَلْقَى من الأخطارِ
املأْ مكانك في العراقِ وقل له
…
لا يعرف الجبنَ الأشَمُّ الضاري
محمود غنيم
أنت دير الهوى وشعري صلاة
للأستاذ محمود إسماعيل
(إلى غمامتي الشاردة. . . أهدي هذه الصلاة)
أَقبِلي كالصَّلاة رَقْرَقها النُّسْ
…
كُ بمحرابِ عابدٍ مُتَبَتِّلْ
أقبلي آيةً من الله عُلْيا
…
زَفَّها للفُنون وَحْيٌ مُنزَّلْ
أَقبلي فالجِراحُ ظمآى! وكأس اْلحُ
…
بِّ ثكلَى! والشِّعرُ نايٌ معَّطل
أنْتِ لحنٌ على فمي عبقريٌ
…
وأنا في حدائق الله بُلْبُلْ
أقبلي. . . قبل أَنْ تَمِيِلَ بنا الرِّي
…
حُ! وَيهوى بنا الفناءُ المعجَّل
زَوْرقي في الوجود حَيرانُ شاكٍ
…
مثْقَلٌ بالأَسى، شريدٌ مُضَلَّلْ
أَزعَجَتْهُ الرِّياحُ، واغتالَهُ اللي
…
ل بجنُح من الدياجير مُسبَلْ
فَهْوَ في ثَوْرَةِ الخضَمِّ غريبٌ
…
خلَطَ النَّوْحَ بالمنى وتنقَّلْ
أقبلي يا غرامَ رُوحِي فالشَّطُ (م)
…
- بعيدٌ! والرَّوح باليأس مُثقَلْ
وَغمامُ الحياةِ أَعْشَى سواديَّ (م)
…
ونورُ المنى بقلبي ترحَّلْ
أنا مَيْتٌ تغافَلَ الْقبرُ عنِّي
…
وهْوَ إنْ يَدْرِ شِقْوتي ما تَمَهَّلْ
فاسكُبي لي السَّناَ وطوفي بنَعشي
…
يُنْعش الرُّوحَ سِحْرُكِ المتَهَلِّلْ
أَنتِ نَبعي، وأيْكتيِ، وظِلالي
…
وَخِمِيلي، وجَدْوَلي المُتَسَلْسلْ
أَنْتِ ليِ وَاحةٌ أفِيء إليهاَ
…
وَهَجيرُ الأَسىَ بجنبَيَّ مُشْعَلْ
أَنتِ تَرْنيمَةَ الهدُوء بشِعري
…
وأنا الشاعر الَحزينُ المبَلْبَلْ
أنتِ تَهويدَةُ الخيَال لاحزَا
…
ني بأَطْيَافِ نورِها أَتَعَلَّلْ
أنتِ كأسِي وَكَرْمَتي وَمُدَامِي
…
والطِّلَا من يدَيْكِ سُكَرٌ مُحَلَّلْ
أنتِ فَجْرِي على الحقُولِ، حياةٌ
…
وصَلاةٌ، وَنَشْوَةٌ، وَتَهَلُّلْ
أنتِ تَغْرِيدَةُ الخُلود بأَلْحا
…
ني. . وشٍعْرُ الحَياةِ لَغْوٌ مهَلْهَلْ
أنتِ طَيفُ الغُيْوب رَفرَفَ بالرَّح
…
مةَ والطهْر وَاْلهُدَى والتَّبَتلْ
أنتِ لي توبَةٌ إذا زَلَّ عُمرِي
…
وصَحا الإثْمُ في دمي وتَمَلْمَلْ
أنتِ لي رَحْمَةٌ بَراها شُعاعٌ
…
هَلَّ من أعْيُن السمًّا وَتَنزَّلْ
أنتِ لي زَهْرَةٌ عَلَى شاَطئ الأَحْ
…
لام تُرْوَى بمُهْجَتي وتُظَلَّلْ
أنتِ شِعْرَ الانساَم وَسَوْسَتِ الفُجُّ
…
رَ، وذابَتْ عَلىَ حَفِيف السُّنْبل
أنْتِ سِحْرُ الغُرُوُب، بل مَوْجَةُ الإِش
…
راقِ عن سِحْرِهاَ جَنَاني يُسْألْ
أنتِ صَفوُ الظَّلالِ تَسْبَحُ في النه
…
ر وَتلهوُ عَلَى ضفاف الجدْوَلْ
أنتِ عيدُ الأطْيَار فوْق الروابي
…
أقبِلي! فالرَّبيعُ للطير أَقْبَلْ. . .
أنتِ هَولْي وَحَيْرَتي وجنوني
…
يومَ للحُسنِ زهوةٌ وَتدَللْ
أنتِ دَيْرُ الهوَى وَشِعْرِي صَلاةٌ
…
لكِ طابت ضَراعَتِي والتذلّلْ
أنتِ نَبْعٌ من الَحْناَنِ، عليه
…
أطرَقَ الفَنُّ ضاَرعاً يتوسَّلْ
أعيُنٌ للخشوع تُغري، فَخَلَّي
…
هاعلى لوْعَتي تُغَضُّ وتُسْبَلْ
واتُرِكيها وسِحْرَهَا يتمادى
…
عَلَّماَ (بابلٌ) بنجواه تُشغَلْ
هو فنِّي، ومُلْهمِي. . . فابعثيِهِ
…
فهْو من زَهْوِه شَحيحٌ مُبَخَّلْ
يَتَغَافى عل الجُفون، فإن رُحْ
…
تُ أناجيه لَجَّ في الكَرى وتَوَغَّل
وانتشى من سَنَاك وانساب في لْح
…
ظِكِ يحسو الضّياََء منه وينْهلْ
وَانْبرَى من جُفُونك الْبِيض كالأق
…
دار يُرْدِى كما يشاءُ ويقتُلْ
لَيْتَ لي من صراعِهِ كلَّ يومٍ
…
غزوةً في سكون قلبي تجَلْجِلْ
وَلَكِ الصوتُ ناغما عادَهُ الشَّوْ
…
قُ فأَضحْى حَنينُهُ يترسَّلْ
نَبَراتٌ كأنَّهَا شَجَنُ الأَو
…
تارِ في عودِ عَاشِقٍ مُتَرَحِّلْ
أو حَفيفُ الأَذَانِ في مِسْمع الفَجْ
…
ر نَدِيُّ الصَّدَى، شِذَيُّ، المنْهلْ
أو غِنَاءٌ الظِّلالِ في خَاطر الغُدْ
…
ر انِ شعْرٌ في الصَّمْتِ عانٍ مكَبلْ
أو نَشيدٌ أَذابَهُ الأفُقُ النَّا
…
ئي، وَغَنَّاهُ خاطِري المُتأمِّلْ!
ولكِ البَسْمَةُ الوديعةُ. . طُهْرٌ
…
وصفاءٌ، وصَبْوَةٌ، وتعزُّلْ
لذةُ الهمْسِ في دَمِي تَنقُلُ الرو
…
حَ لِوَادٍ بِصَفْو عُمْري مُظَلَّلْ
فاسكبيها على جَناني، وخَلِّى
…
سِحرَها في مشاعري يتَهدَّلْ!
ولكِ الهدْأَةُ التي تغمُرُ اْلحِ_سَّ فيرْوَي من السَّكون وَيَثْمَلْ
وَاحةٌ للْجمال، قَلْبِيَ فيها
…
من أَسى الدهرِ ناسِكٌ مُتعزِّلْ
علمتني ظلالُها كيف أَنْسي
…
صَخَبَ الهم وهو عَصْفٌ مُزَلزِلْ
وَلكِ العِفَّةُ التي عاد منها
…
(مريَميُّ) السُّتُور فوقَكِ مُسْبَلْ
فتعاَليْ نَغيبُ عن ضَجَّة الدُّن
…
يا، وَنمْضي عن الوجود ونرْحَلْ
وَإلَى عُشْنا الجميلِ. . . فَفيهِ
…
هَزَجٌ للْهوَى، وظِلٌّ، وسَلْسَلْ
وعَصافيرُ لْلمُنى تتَغَنَّى
…
بالتَّرانيم بين عُشْبٍ وَجدْوَلْ
وَغرامٌ مُقَدَّسٌ، كاد يَضْوِي
…
نوُرُهُ العَذْبُ في سَمانا وَيشْعَلْ
وَوَفاءُ يكاد يَسْطَعُ للدُّن
…
يا بِشَرْعٍ إلى المحبِّينَ مُرْسَلْ
عادَ لْلعُشِّ كلُّ طَيْرٍ، ولم يَب
…
قَ سِوى طائرٍ شَريد مخَبَّلْ. .
هو قَلْبي الذي تناسَيتِ بَلْوَا
…
هُ فأَضْحَى على الجِراح يُوَلْوِلْ!
أَقْبِلي. . قبلَ أن تميلَ به الري
…
حُ، ويَهوِى به الفَنَاءُ المُعَجَّلْ
(أَقْبِلي. . . فالجراحُ ظمأى! وَكَأسُ الْ
…
حُبِّ ثَكْلىَ! والشِّعْرُ نايٌ مُعَطَّلْ!)
(المجمع اللغوي الملكي بمصر)
محمود حسن إسماعيل
-
البَريدُ الأدَبيّ
مؤتمر دولي للقوانين ودعوة الأزهر للاشتراك فيه
تلقى صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر كتاباً من جامعة جوهانبرج يقول إن فريقاً من علماء القانون ومن أعضاء مؤتمر القوانين الذي عقد في السنة الماضية في هولندا واشترك فيه الأزهر فكروا في إقامة مؤتمر عالمي للقوانين يشترك فيه جميع الهيئات والجامعات التي فيها دراسات قانونية ويشترك فيه كذلك كبار علماء القانون والتشريع في العالم كله
ثم جاء في كتاب الجامعة أنها ترجو أن يستطيع الأزهر المساهمة في العمل لنجاح هذا المؤتمر بإبداء الملاحظات والاقتراحات التي يرى إبداءها على فكرته وموضوعاته وأن يساهم بقسط من المعاونة الأدبية فيه
ثم قال إن أبحاث المؤتمر ستشمل جميع القوانين والتشريعات والمبادئ التي تؤدي إلى تقدم البشرية وتقارب قوانينها ومن التشريعات التي تضمنت قسطاً كبيراً من المبادئ القانونية السامية في الشريعة الإسلامية
أندريه موردا في الخالدين
من أنباء باريس الأخيرة أن الكاتب الفرنسي أندريه موروا انتخب عضوا في الأكاديمية الفرنسية في المقعد الذي خلا بوفاة (رينيه دوميك) رئيس تحرير مجلة العالمين والذي كان سكرتيراً دائما للأكاديمية
وأندريه موردا ابن صاحب مصانع كبرى للنسيج في مدينة (روان) وهو اليوم يتولاها أيضا فتدور المصانع على خير وجه يدر المال، وتدور المطابع في باريس بكتبه فتدر المال والمجد
لفت اندريه موروا الأنظار بقصة (صمت الكولونيل برمبل) إذ نجد فيها خلاصة تجاربه واتصاله بالإنكليز في أثناء الحرب عندما كان ضابط اتصال نظرا لتضلعه في اللغة الإنكليزية، هذا التضلع الذي ما لبث أن ظهر أثره في كل كتبه بعد ذلك إذ جعل أكثرها لتاريخ حياة أبطال الإنكليز في الأدب والسياسة مثل بيرون وشللي ودزرائبلي كما كتب حياة تورجنيف والماريشال ليوتي، فضلاً عن (محاورات في القيادة) و (صور إنكليزية) و
(مطالعات في ديكنز) ثم محاظراته في جامعة اكسفورد التي لفتت إليه جميع الأنظار.
هذا وقصص موروا من أروج القصص الأدبية والجمهور يتهافت عليها في كافة أنحاء المعمورة. ومن خير ما وصفه به صديقه أندريه بيلي قوله: إنه الذكاء، وطيبة القلب، والحساسية، والاستعداد الدائم للفهم والعطف. . . ليس فيه من التعالي أو التغالي شيء. وكان نجاحه العظيم السريع جاء مفاجئاً بحيث لم يتبينه هو ذاته ولم يقدره قدره!)
وأندريه موروا صديق عزيز لمصر، زارها أكثر من مرة ويحمل لها كل مودة، وفي نيته أن يخصص كتاباً من كتبه.
العربية الفصحى في تدريس المواد
أذاعت وزارة المعارف على حضرات المراقبين والمفتشين ونظار المدارس الكتاب التالي: -
كثرت الشكوى من ضعف التلاميذ في اللغة العربية الصحيحة في تدريس المواد، ولهذا توجه وزارة المعارف نظر حضرات المفتشين ونظار المدارس إلى مراقبة تدريس المواد التي تلقى باللغة العربية سواء أكانت علمية أم أدبية، ووجوب إلقائها بلغة عربية سليمة، والبعد عن استعمال العامية حتى تتمكن في نفوس التلاميذ ملكة اللغة الفصحى ويسهل عليهم الحديث والكتابة بها. وفي مكنة الأساتذة أن يبسطوا أسلوب اللغة الفصحى حتى تكون في متناول جميع التلاميذ على اختلاف أعمارهم وثقافتهم
الثقافة الإسلامية في المدارس الثانوية
يهتم وزارة المعارف بتعزيز برامج التعليم في المدارس الثانوية ببرنامج مفصل عن الثقافة الإسلامية، يدرس في السنتين الرابعة والخامسة، وقد عهد معالي الوزير إلى لجنة مؤلفة من بعض مفتشي اللغة العربية بالوزارة وكبار رجال التعليم وضع هذا البرنامج بحيث يمكن البدء بتنفيذ في السنة الدراسية القادمة
وسيشمل هذا البرنامج بحوثاً مهمة تدور حول التاريخ الإسلامي في أزهى عصوره، والبطولة الإسلامية والسيرة المحمدية الشريفة
حول نظرية التطور
عرض الأستاذ علي الطنطاوي في نقده لشعر الأستاذ العقاد في الجيبون لنظرية التطور وذكر أنها لم يؤيدها العلم، وكنا نود لو يرشدنا الأستاذ الفاضل إلى عالم يحترم علمه يدحض هذه النظرية التي غزت جميع المعارف البشرية وبها سهل تعليل كل نظم الحياة. أما إذا كان اعتماد الأستاذ على ما ينشر في الصحف الرخيصة من أخبار مشعوذي العلم الذين يعارضون النظرية ظناً منهم أنها تعارض الدين، فهذا تملق رخيص لعقلية جمهور القراء لأن خصومها لا يعدون بعض جهلة القساوسة الذين يرون فيها الخطر الداهم على مذاهبهم، في حين أن الطبقة المستنيرة من رجال الدين في إنجلترا يرون فيها ما يؤيد دعواهم الدينية، لذلك نرى المطران انج أبرز شخصية في الكنيسة الإنجليزية يعترف بها، ويعظ بها في كنيسته، والنظرية ليست حديثة كما ذكر الأستاذ طنطاوي فقد بصر بها فلاسفة الإغريق والعرب حتى جاء دارون وجمع شتات الأدلة العلمية ونشر كتابه أصل الأنواع 1858، فكان أول بحث مؤيد بالأسانيد العلمية في هذا الموضوع تلاه أبحاث كثيرة من علماء آخرين أيدوا وجهة نظر دارون، مثل هكسلي وولاس وهيكل والثير ارثر كيث. ومن المفيد أن أذكر أن ابن خلدون كان مغرقاً في إيمانه بالتطور فقد قال إن الجماد يتحول إلى نبات والنبات إلى حيوان والحيوان إلى إنسان
أما اعتراض الأستاذ على معالجة فنون العلم شعراً فهو اعتراض ليس له وجاهة لأن نظرية التطور علم وفلسفة، فهي رغم حقائقها العلمية لها جانب فلسفي يبعث على التأمل، وقد عاش في القرن الماضي بإنجلترا شاعر لا يحضرني اسمه الآن أطلق عليه شاعر التطور لأنه عالج فلسفة التطور شعراً. وقد نظم المرحوم الزهاوي شعرا عن التطور أعجب به كل من قرأه
والدليل على أن لها فلسفة أن سبنسر بنى فلسفته على نظريات التطور فأطلق عليه فيلسوف التطور. وما يقال عن نظرية التطور يقال عن كل علم من أن له جانباً فلسفياً، وعلى ذلك لا يمنع أن يعالج الدكتور ناجي نواحي الطب شعراً. وقد قرأت للعلامة ماكنزي كتاباً في الفسيولوجيا ختمه ببحث فلسفي بديع عن الموت لو وضع في قوالب الشعر لكان تحفة فنية رائعة. وقد نشرت مجلة طبية فرنسية بباريس تدعى فيلسفون منذ أعوام شعراً لطائفة من أطباء فرنسا عن تأملاتهم في الحياة من الوجهة العلمية يعد بحق نوعاً جديداً في
الأدب الفرنسي. وقس على ذلك المهندس والرياضي، ما دام وراء كل علم جانب فلسفي للتأمل. وبديهي أنني لا أقصد أن توضع حقائق العلم في قوالب الشعر كما وضعت قواعد النحو في ألفيه ابن مالك، لأن هذا ليس من الشعر في شيء
كامل نصيف
عضو بالمعهد الفلسفي البريطاني بلندن
الحلاج
جاء في (قصة الكلمة المترجمة) في الجزء الماضي: (لكنه قاله في (الرسالة) قبل ذلك: (وكذلك قوله الكل (أي قول ابن القارح) إدخاله الألف واللام مكروه) (قاله) صوابه قال - أعني أبا العلاء - وقولي ابن القارح خطأ، صوابه الحلاج. وقد وردت (الكل) في أبيات له رويت من قبل في (رسالة الغفران) قال الحلاج:
ياسرَّ سرٍ يدق حتى
…
يجلّ عن وصف كل حيْ
وظاهرا باطنا تبدي
…
من كل شيء لكل شيْ
يا جملة الكل لستَ غيري
…
فما اعتذاري إذن إليْ
قال أبو العلاء: (قولهإلىْ) عاهة في الأبيات، إن قيْدَ فإلتقييه
لمثل هذا الوزن لا يجوز عند بعض الناس، وأن كَسَر الياء
من (إلىْ) فذلك رديء قبيح. وأصحاب العربية مجمعون على
قراءة حمزة: (وأنت بمصرخيِّ) بكسر الياء، وقد رُوى أن أبا
عمرو بن العلاء سئل عن ذلك فقال إنه لحسن تارة إلى فوق
وتارة إلى أسفل، يعني فتح الياء في مصرخي وكسرها،
والذين نقلوا هذه الحكاية يحتجون بها لحمزة ويذهبون إلى أن
أبا عمرو أجاز الكسر لالتقاء الساكنين، وان صحت الحكاية
عنه فما قالها إلا متهزئا على معنى العكس، وهذا كما يقول
الرجل لولده إذا رآه فعل فعلا قبيحاً: ما أحسن هذا!: وهو يريد
ضد الحسن)
الإسكندرية
(* * *)
سؤال إلى الأستاذ سيد قطب
تقول في العدد (259) من الرسالة، إن العقاد (يعني بالحياة النابضة في ضمائر الأشياء، قبل الحياة الظاهرة على سطوحها، ويعني بالحياتين معاً قبل العناية بأشكالها وصورها، ويلتفت للخوالج النفسية قبل أن يلتفت إلى الصور الذهنية، ويعني بهاتين قبل العناية ببهارج الأسلوب وزخارف الطلاوة)
1 -
فهل هناك حياة نابضة في ضمائر الأشياء غير الحياة الظاهرة على سطوحها؟ أو ليست الحياة واحدة في الضمائر والسطوح، وفي الأفئدة والقلوب، وفي الجوارح والأعضاء؟ وإذا كان للحي الواحد حياتان كما تقول، فما حدّ كل واحدة منهما، وما هو وصفها الذي تختلف به عن أختها؟
2 -
وهل الحياة الظاهرة على سطوح الأشياء - على حد تعبيرك أنت - غير أشكال الحياة وصورها؟ وما هو الفرق بينهما وكيف تكون العناية بهذه قبل تلك؟
3 -
وما هو الفرق (العلمي) بين الخوالج النفسية والصور الذهنية؟ وهل تعني بالصور الذهنية المحاكمات العقلية أم تعني بها ما يسمى بتداعي الأفكار، والخيال المرجع، في علم النفس؟ وما معنى قولك: أدب ذهن، وأدب نفس؟
4 -
وهل تريد من قولك أن العقاد يعني بهذا قبل عنايته بالأسلوب والطلاوة - أن من كانت له هذه العناية بالحياة النابضة، والخوالج النفسية، كان شاعراً ولو جاء بأسلوب ركيك، ولغة مرذولة، وعيّ فاضح؟
هذا ما نحب أن تبينه لنا، فما فهمنا والله ما تريد منه. وإن في كل فقرة لك لمجالاً لمثل هذه الأسئلة حين تتكلم فلا نفهم عنك، وتأتي بألفاظ لا نعرف لها مدلولاً، وأنت بين شيئين: إما أنك تذهب بنفسك علواً حتى ما يتعلق بك قارئ، وإما أنك لا تدري بالضبط) معاني ما تقول. . .
(دمشق)
ع. . .
بين الرافعي والعقاد
جاء في بحث الأستاذ سيد قطب عن العقاد والرافعي في (الرسالة رقم 260) ما اعتبره الأستاذ تناقضاً بين تلخيص الرافعي لرأي الفيلسوف شوبنهور في الجمال وبين رأي الفيلسوف الحقيقي
وبرجوع القارئ إلى ذلك البحث وتدبِّره لا يذهب مع الكاتب فيما ذهب إليه من وجود ذلك التناقض. ولعل الأستاذ قطب يقرنا على ذلك
فقد قال شوبنهور ما نصّه: (إن الأشياء (تسرنا) كلما قربت من عالم الفكرة وابتعدت عن عالم الإرادة) وقال الرافعي فيما اعتقده رأياً للفيلسوف (إن الأشياء (تحزننا) كلما ابتعدت عن عالم الفكرة واقتربت من عالم الإرادة)، ثم قال (وإنها (تفرحنا) كلما ابتعدت عن عالم الإرادة واقتربت من عالم الفكرة)
فإنه واضح من مراجعة الكلام بأنه لا تناقض بين قولي الرافعي الأول والثاني فهما رأي واحد لا تناقض في مضمونه. ولعل الأستاذ قطب قد اعتبر عكس الألفاظ في شقي القول أساساً للتناقض وقد غاب عن خاطره أن (تحزننا) عكس (تفرحنا).
ثم نحن لا نجد (مسخا) لرأي الفيلسوف لأن الرافعي لا يناقض في أي من قوليه رأي الفيلسوف (وهما ينطبقان عليه تمام الانطباق)
ونحن إن أخذنا على الأستاذ قطب عدم تدبره في الحكم في هذه الحالة فنحن نأخذ على الأستاذ الرافعي، رحمه الله، عدم وثوقه بترجمة الأستاذ العقاد مع أنه انتهى في تلخيص رأي الفيلسوف إلى ما ترجمه العقاد
وليسمح لنا القارئ إن نحن طالبنا الكاتبين عن أدب الرافعي والعقاد ألا يتخذوا من عبارات وألفاظ مستهجنة (جاءت معبرة عن حالة عاطفية) أساساً يدعمون به حكمهم على كل من الأديبين الكبيرين. ونحن ندعوهم إلى بحث شخصيتهما الأدبية في مخلفاتهم التي تركاها وهم أكثر ما يكونان سكونا وهدوءاً فيجيء حكمهم نزيهاً معتبراً في نظر القراء ويسلمون من كثير من المهاترات التي تصيبهم بين الحين والحين
فلسطين
علي كمال
الكُتُبْ
إلهام
قصة مصرية
تأليف الأستاذ نقولا يوسف
هذه قصة دفعها إليْ صديق من أصدقاء المؤلف، ورجاني أن أقرأها وأرى رأيي فيها؛ وما سهلٌ على كاتب من الكتاب أن يتحدث عن كتاب هو مرجُوٌّ أن يتحدث عنه ويري رأيه فيه، فإن ذلك خليق أن يصبغ الرأي بلون من ألوان الهوى تختفي وراءه بعض الحقيقة؛ ولكني مع ذلك سأحاول أن أكتب، وسأحرص في هذه المحاولة أن أكون ناقداً وحسب. . .؛ ولن يفوت القارئ بعد ما قدّمتُ أن يعرف الرأي في هذا الكتاب على حقيقته، وأن يستخلصه مما قد يكون عالقاً به مما تزيفه النفس على صاحبها لتخدعه عن رأيه. . .
وبعد فهذه قصة مصرية ألفها مؤلفها منذ إحدى عشرة سنة، ولم ينشرها إلا منذ أشهر، وكان مؤلفها يوم ألفها شاباً في الثالثة والعشرين؛ وما بُّد لمن يؤلف مثل هذه القصة في مثل هذه السن أن ينظر إلى ما يحيط به؛ وهذا شئ لا ينكره المؤلف ولا يعترف به كل الاعتراف؛ فهو يقول في تقدمة هذه القصة:
(أعددت قصة إلهام للطبع في سنة 1927. . . . . .؛ ثم أرغمني كثير من ظروف الحياة على أن أهمل أمرها عشر سنوات، وفي هذه السنة أعدت قراءتها، وكنت في أثناء تلك القراءة كمن يسير بين قبور عزيزة تضم رفاتاً مقدساً وذكريات تثير الأشجان
ومع أن هذه القصة لا تصور حياة المؤلف إلا أن فيها بعضاً من نفسه وتجاريبه ومشاهداته. . .)
أما الغاية التي يقصد إليها المؤلف من قصته فإنه يقول عنها: (. . . وسترى أنها قصة مصرية لا تدور حول غاية معينة من أنواع الإصلاح، يغلب عليها ذلك النوع التصويري الذي يصور المناظر والشخصيات والميول والخواطر، لا سيما ما ينساب منها أحياناً في الرأس بلا ترتيب. . . .)
وهذه القول الذي يقوله هو حق إلى حد ما؛ فهو لم ينشئها ناظراً إلى غاية معينة من غايات
الإصلاح وإن كان فيها كثير من الدعوة إلى الإصلاح مبثوث في تضاعيف القصة وفي أثناء الفصول بلا ترتيب ولا نظام، وتجد أكثره فيما جعل من الحوار على ألسنة أبطال القصة؛ بل لقد كان حرصه على أن يثبت رأيه ودعوته إلى الإصلاح داعياً له إلى أن يقحم كثيراً من القول في أساليب المحاورة لغير وقته، فكانت بعض المحاورات تطول أحياناً طولاً يدعو إلى الملالة ويبعد بموضوع المحاورة عن أصله وداعيه. والمحاورة كما يعرف كل من عالج القصة أو درس فنها - ليست موضوعاً ملائماً للدعوة إلى الإصلاح وبيان أوجه الرأي فيه، ولكنها وسيلة من البيان في أوجز عبارة تصل بين رأي ورأي أو حادثة وحادثة مما يفيض به موضوع القصة؛ ولن يكون الحوار أبداً وسيلة إلى بث فكرة أو دعوة إلى إصلاح إلا بقدر غير ملحوظ ولا مُدرَكْ في جملته. إنما يكون ذلك في الحادثة لا في الحديث، وفيما يُحكى لا فيما ينطق به. . .
على أننا وقد وافقنا المؤلف على أنه لم يكن له غاية من قصته في الدعوة إلى نوع من الإصلاح، نقول إن (ذلك النوع التصويري الذي يصور المناظر الشخصيات والميول والخواطر) هو في نفسه غاية من الغايات الرفيعة يقصد إليها كثير من أهل الفن؛ وقد بلغ المؤلف في ذلك وأجاد وانتهى إلى غاية. ولقد كنت أقرأ بعض ما كتب المؤلف من الفصول التصويرية في هذه القصة فأشعر بكثير من اللذة والإعجاب؛ وأجمل ما قرأت من هذه الفصول وصفه في الفصل الأول عيد (شم النسيم) كما يحتفل به كثير من طوائف المصريين في الريف والحضر؛ وفي الفصل الرابع وصف حياة الشاب العزب تترامى الآمال حوله في الزواج والمصاهرة، وتعترك حوله أماني الأهل والأصدقاء؛ وفصول أخرى لا تقل عن هذين الفصلين جمالاً وروعة
أما عناية المؤلف بالفن ومقدار توفيقه فيه، فما أريد أن أسهب في الحديث عنه؛ فإن من الظلم أن تكلف فتى في الثالثة والعشرين أن يكون له من السيطرة على نفسه وعلى وجدانه ما يساعده على حبك قصة طويلة كهذه القصة على ما يقتضي فن الرواية على وجهه؛ إذ كان كل هم الشباب في مثل هذه السن أن يحشد كل خواطره وأماني نفسه ومصورات خياله فيما يكتب؛ فأنه ليصعب عليه أن يغفل معنى أو فكرة أو حادثة تلُحّ على نفسه؛ ومن هنا جاءت قصته - كما قرأتها - وكأنها في نفسي قصتان لا رابطة بينهما إلا فيما تبدأ
القصة وفيما تنتهي؛ أما في العرض وفي تسلسل الرواية فإن القارئ يكاد يحسّ في أكثر من موضع أنه انتقل من قصة إلى قصة فلا يشعر أنه فيما كان فيه إلا حين يوشك أن يبلغ نهاية الفصل. وذلك شيء حقيق بالنظر والتدبر عن من يريد أن يكون قاصّاً موفقاً؛ فإن أول شرط القصة هي أن تتسلسل بحوادثها تحت عيني القارئ حتى تبلغ بذلك أن تنقله من جو إلى جو فيسير في قراءتها وكأنه يعيش بين أبطالها وعلى مقربة من زمانها ومكانها؛ وما أنكر أن المؤلف قد بلغ إلى ذلك في بعض الفصول ولكنه لم يبلغ إليه في جملة القصة؛ على أن هذا التنافر في موضوع الرواية لا يستمر إلى نهايتها؛ فما هو إلا أن ينتهي القارئ إلى حد ما ثم تسير القصة إلى خاتمتها طبيعية لا تكلف فيها ولا اصطناع، حتى تنتهي إلى نهايتها في حيلة موفقة
على أن هذه القصة - وهي مصرية المغزى والموضوع في جملتها - تبتعد كثيراً في بعض فصولها وحوادثها عن المألوف من عاداتنا وما نعرف، فهي لا تصوّر صورة مصرية عامة يراها كل أحد؛ ولكنها صورة خاصة قامت في نفس كاتبها في يوم ما فرآها على التعميم حقيقة بالتسجيل في قصة يريد أن يجعل بها صورة لبعض ما في مصر؛ ولقد كنت أريد أن ألخص موضوعها في هذا الفصل لأعرضها عرضاً جلياً لمن يريد أن يعرف، ولكني أوثر أن يكون تعريفي بها من بعيد حتى لا أقطع الطريق على من يريد أن يقرأها بقلم مؤلفها ليعرفها العرفان الحق
أما أسلوب المؤلف في الأداء فهو الأسلوب السهل الطبيعي، لا تكلف فيه ولا صناعة؛ وفيه إلى ذلك روح وعاطفة وقلب نابض؛ تقرؤه فتعرف نفس كاتبه بما تجيش به من أماني والآم تراها مصوَّرة أدق تصوير وأبرعه، فكأن وراء كل عبارة قلباً ينبض، وكأن وراء الظلال من كل فصل نفسية سامية تؤمن بالمثل الأعلى إيمان الرأي والعقيدة، وتقف جهدها على تحقيق المعنى الإنساني العام في كل نفس وفي كل إنسان؛ فهو أسلوب قصة، وهو صرخات نفس حانقة، وهو غيظ حبيس يتفجر نثراً وكتابة، وهو أماني وأحلام، وهموم وأحزان؛ وهو غبطة ورضا، وسخط وألم. وإن فيه لمعاني جديدة وفكراً جديداً. . .
ولكن ذلك كله لا يحمل الناقد المنصف على تجاهل ما في أسلوب المؤلف من غلطات في اللغة والنحو وفي استعمال الكلمات كان حرياً أن يتنزه عنها؛ ولو أنها غلطات تعد لما كان
من حقي أن أشير إليها هذه الإشارة، ولكنها غلطات عامة ومتكررة بحيث لا تكاد تخلو صفحة من غلطة. . . وإني وقد قرأت للمؤلف وتذوقت فنه وأدبه لأجد من الخيانة أن أغض النظر عن هذه الغلطات؛ فإن كاتباً مثل مؤلف هذه القصة حقيق بأن يكون في غد من أصحاب القلم والفكر في هذا البلد لو كان أحرص من ذلك على لغته وعبارته؛ وإن ذلك الأمل في مستقبله الأدبي ليحملني على أن ألفته إلى ذلك ليستكمل أدواته ويمهد لمستقبله
أما بعد فإنها قصة مصرية وما تزال القصة الطويلة في العربية شيئاً نحاوله فلم نبلغ فيه حد الكمال أو ما يقرب منه؛ وإنه لفن رفيع يستحق العناية من أدبائنا ليسدوا نقص العربية في هذا الباب؛ فما يغيب عني وقد ذكرت ذلك أن أثني على المؤلف الفاضل لهذه المحاولة؛ وما يغيب عني مع كل أولئك أنها قصة ألفها مؤلفها منذ إحدى عشرة سنة وما يزال يومئذ شاباً حدثاً يخطو خطاه الأولى إلى هذا المعترك الأدبي؛ فإذا كنت اليوم أرى فيها ما يستحق الملاحظة والتعليق، فإنها ملاحظات على الأديب الناشئ نقولا يوسف الذي ألف قصة (إلهام) سنة 1927 وهو في الثالثة والعشرين من عمره؛ وهو عندي غير الأديب الفاضل (الأستاذ) نقولا يوسف في سنة 1938، الذي عرفه القراء فيما أنشأ بعد ذلك من مؤلفات لها خطر ومقدار وهو مع ذلك غير الأستاذ نقولا يوسف الذي نرجو أن يكون في غد. . .
(س)