المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 262 - بتاريخ: 11 - 07 - 1938 - مجلة الرسالة - جـ ٢٦٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 262

- بتاريخ: 11 - 07 - 1938

ص: -1

‌أسباب ما نعمل

للأستاذ عباس محمود العقاد

السيدة الأرمنية العجوز التي تسكن معنا في الدور الأرضي من المنزل أزمعت النقل إلى منزل آخر على مقربة من الحي، وهي واقفة على الباب تراقب الحمالين وهم ينقلون الأثاث ويرتبونه. ولابد من كلمة تحية ومجاملة في الطريق. فوقفت وسألتها:

إلى أين يا سيدة؟ وما الذي أغضبك من منزلنا؟

قالت: قسمة!

قلت: ألعلك وجدت مسكناً خيراً منه في هذا القيظ؟

قالت: لا. بل هي آخر قسمتنا فيه، وإنما هي كما تقولون أعتاب وأيام!

(سبب امرأة)

نعم. فقد تعودنا حين نسمع أمثال هذه الأسباب التي لا تعليل فيها أن نبتسم ونصرف الحديث قائلين: سبب امرأة، أو هو سبب من الأسباب التي لا يقنع بها غير النساء

والمتفق عليه بيننا معشر الرجال أن أسباب النساء هي الأسباب التي لا تعطيك تفسيراً ولا تزيدك علماً بعلة ما يصنعن وما يتركن، فإذا سألت امرأة: لم صنعت هذا؟ أو لم لم تصنعيه؟ فأغلب ما يكون الجواب: هكذا! أو هل تراني عارفة؟

هذا أو تعطيك جوابين نقيضين لتعليل العمل الواحد. فقد رووا أن رجلا صحب زوجته إلى متجر الملابس لينتقيا حلة تعجبها. فاختار لها لونا من الحرير عرضه عليها، فصاحت به: ما هذا؟ إن جميع الناس يلبسون منه. . . واختار لها لوناً آخر فصاحت به الصيحة الأولى: ما هذا؟ إني ما رأيت قط أحداً يلبسه!

فكان السببان النقيضان عندها صالحين لتعليل العمل الواحد وهو الإحجام عن شراء الحلة المعروضة عليها

لكن جهل الأسباب في الواقع غير مقصور على النساء، وكذلك هذا النمط العجيب من التسبيب

سعيد وإبراهيم وإسماعيل ثلاثة اخوة صغار يلعبون أمام المنزل في معظم الأحيان، أكبرهم في التاسعة وأصغرهم في نحو الخامسة؛ فهو لا يذهب إلى المدرسة أو لا يريد أن يذهب

ص: 1

إليها.

لقيته يوماً يلعب مع غير أخوته فسألته:

ماذا تصنع يا إسماعيل؟

قال: لا أصنع شيئاً.

قلت: لكني أراك تلعب، فأين ذهب أخواك؟

قال: إلى المدرسة؟

قلت: ولم لم تذهب أنت معهما؟

قال: هكذا!!

قلت: هكذا؟ هكذا كيف؟

فأعادها مرة أخرى، وأدركه طفل أكبر منه بالجواب، فقال: إنه صغير! وهو على كل حال جواب يحسن السكوت عليه.

قد يقال: وأسباب الأطفال أيضاً هي أسباب النساء. .!

لكن الواقع أن جهل الأسباب على هذا النمط غير مقصور على النساء والأطفال، وأن أناساً كثيرين بعضهم متعلمون وبعضهم غير متعلمين يجهلون أسباب ما يعملون وأسباب مالا يعملون، وتسألهم عن أمر من الأمور التي تقوم عليها الحياة وتتصل بها الأرزاق، فلا يعطونك سبباً، أو يعطونك سبباً قلما يغنيك عن التعليل.

أعرف أسرة من الأذكياء المتعلمين ينتقلون من منزل إلى منزل كل ستة شهور أو كل سنة على أبعد أجل، ويحيل أحدهم على الآخر في بيان أسباب الانتقال، فهذا المنزل كرهه فلان، وهذا المنزل انتقاه فلان، وآخر ما يقال في تهوين هذه المشقة وتهوين ما يتبعها من خسارة ونفقة:

وما الفرق بين بيت مستأجر وبيت مملوك إن كان الإنسان لا يتنقل بين البيوت؟

ومن الواضح أن الإنسان لا يزعج نفسه وأسرته بالانتقال وتحطيم بعض الأثاث وتجديد بعضه على حسب تنظيم المسكن الجديد لغير شيء إلا أن يجد الفرق بين البيت المستأجر والبيت المملوك، أو أن ينفس على شخص واحد أن يتقاضاه الأجر زمناً طويلا فيفرقه بين أشخاص متعددين.

ص: 2

فلا بد من سبب ولا بد من باعث، ولكننا نحن الآدميين جميعاً نعمل ولا نكلف عقولنا تبيين أسبابها، وإن كنا نبالغ في سؤال الآخرين عن الأسباب

وقد يسهل على الأكثرين أن يعرفوا أسباب ما يعملون إذا استقصوا هذه الأسباب. أما الذي يصعب على الأكثرين فهو عرفانهم أسباب مالا يعملون، كأنما يحسبون أن الإنسان يترك جميع الأعمال لغير سبب، أو أنه لا يحتاج إلى الأسباب إلا عندما يعمل شيئاً أو يشرع في عمل شيء، فأما أن يكف عن العمل أو عن الشروع فيه فذلك طبيعة لا تحتاج إلى سؤال

هذه حالة إذا أفرطت من إحدى جهتيها انتهت إلى الإباحية التي تتساوى عندها جميع البواعث والدواعي، أو إلى الإباحية التي وصفها ابن المعتز في قوله:

قليل هموم القلب إلا للذة

ينعّم نفسا آذنت بالتنقل

يعب ويسقي أو يسقى مدامة

كمثل سراج لاح في الليل مشعل

ولست تراه سائلا عن خليفة

ولا قائلا من يعزلون ومن بلى

ولا صائحا كالعير في يوم لذة

يناظر في تفضيل عثمان أو علي

وهي حالة قريبة مما نراه من قلة المبالاة أو قلة التمحيص أو قلة (التدقيق) على حد تعبير أبناء البلد - عند أناس كثيرين في العصر الحاضر يعملون وينظرون إلى غيرهم يعمل ثم لا يسألون ولا يفكرون. . . وهذا إن كانوا يعملون وينظرون.

أما إذا أفرطت هذه الحالة من جهتها الأخرى فنهايتها إلى الوسواس والمراجعة في كل شيء والمحاسبة على أهون الأمور، والتردد بين الخواطر حتى لا إقدام ولا إحجام ولا فائدة من الإقدام والأحجام.

إنما الحد القوام بين هذا وذاك أن يكون المرء قادرا على تعليل عمله والنفاذ إلى باطن مشيئته، لأنه متى قدر على ذلك استولى على زمام نفسه، وقبض على سكان سفينته في زعازع هذه الحياة. فمن عرف لماذا يعمل عرف كيف يجتنب العمل إذا وجب عليه اجتنابه

وعرف كيف يقنع به غيره إذا حسن عنده إقناعه

وعرف كيف يصنع على مثال أجمل وأكمل إذا لاحظ تقصيرا فيه

وكذلك من عرف لماذا لا يعمل شيئا من الأشياء، فانه خليق أن يروض نفسه على عمله متى عرف سهولة المانع أو عرف ما فيه من مؤاخذة ونقيصة. وخليق أن يفهم دواعي

ص: 3

الأحجام عنده فيعالجها بما يصلحها أو يقربها إلى الصلاح

بعض علماء النفس ينصحون طلاب الرياضة النفسية بتسجيل المذكرات اليومية، لإثبات أعمالهم وقياس الفارق بين أمسهم ويومهم

والذي نراه أن تسجيل المذكرات اليومية لا يجدي جدواه ما لم ينته إلى مساءلة النفس عن بواعثها ودواعيها. فليجرب من شاء أن يختار حادثة من حوادث الحياة كل يوم يسأل عن سببها ويستقصي دخائلها ويصمد على ذلك شهرا واحدا ثم ينظر في نتيجة هذه الرياضة، فإنه واجد لا محالة أنه يتقدم في طريق القدرة على النفس والقدرة على الحياة، وأنه يصبح يوما بعد يوم سيد نفسه ومالك قياده، وتلك بغية الرجل الكامل في الثقافة وفي الرياضة وفي الآداب والأخلاق

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌فأصبحتم بنعمته إخوانا

لأستاذ جليل

إلى حضرة الدكتور محمد حسن البرازي

الأستاذ في الجامعة السورية

يا سيدي، إن قولي:(المرء بفضله وفصله، لا بزخرفه وأصله، والأمة إنما هي بلغتها وأدبها وعقيدتها ومصلحتها) وتمثّلي بحديث الهمذاني وجميع ما رقمتُه في تلك القطعة من (الكلمة) - هو إعلان حقيقة قالوها، وليس في شاهدي من كلام (البديع) إزراء بأصلٍ ما، أو استصغار قبيل إن ظن أحد إن ذلك فيه

ولم أنعَ في (كلمتي) - كما لاح لأخي الدكتور - علي مُعْتز إلى الفرنسية نخوته حين قال: (أنا فرنسي، أنا فرنسي، أنا ابن الغول) إنّ له أنْ يقول وينتخي كما يقول الإيطالي والجرماني والبريطاني وغيرهم مزهوين. والمكتوب هناك هو شرح حال. وأرى أن أذكر في هذا المقام أن الأمة الألمانية في تلفيقها وتأليفها إنما هي مثل الفرنسيس وغيرهم من الأمم، وكان صاحب مجلة جرمانية قد اعتزم قبل (الحرب الكبرى) على أن يبحث عن عناصر الجرمان بحث العلماء المحققين فمنعته وزارة الحرب من ذلك

ألمانية نقية صافية خالصة مروَّقة مصفَّقة ما كانت ولن تكون

والسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب (خرَّيج الملك نور الدين محمود بن الشهيد رضي الله عنهم أجمعين) وسادتنا الأيوبيون ملوك العرب لا أعدهم - ونحن في هذا الشكل من البحث - أكراداً، بل هم عرب، بل هم أعرب من يَعْرُب ابن قحطان. وقولي في البرازيين الكرام، في بلاد الشام مثل قولي في الأيوبيين، ولا أقصد بما أقول تفضيل عربية على كردية، أو تفضيل كردية على عربية، فلست في حديثي هذا من (المفضلة).

وبعد فنحن نتلهى في غيبة السلطان الأعظم (أعني الإسلامية) بهذه المسماة (جنسية وقومية ووطنية) ومشابهما من الفتن الأوربية، فإذا جاء القرآن، إذا جاء محمد، إذا جاء الإسلام، الإسلام الصحيح خرست العربية المصرية، وخرست الأعرابية الجزَرية، وخرست الكردية، وخرست الشامية والعراقية، وخرست البربرية والمغربية والغربية، وخرست

ص: 5

الهندية والفارسية والصينية والحاوية والتترية

(إنما المؤمنونَ اخوة)

(واعتصموا بحبل الله جميعاً، ولا َتفرَقوا، وذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألَّف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخوانا، وكنتم على شَفا حُفرةٍ من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون)

قل: نار الضلال والتعادي، نار الجنسيات والقوميات والوطنيات والعصبيات والطبقات

قال الدكتور البرازي في (مقاله): (دين الإسلام عالمي) وهذا أظهر من الشمس، وهذا واضح بّين مثل ضياء القرآن المضيء الباهر

(إنْ هو إلاّ ذِكرٌ للعالمين)

(قُلْ: يا أيها الناسُ إني رسول اللهِ إليكم جميعاً)

ومن الأفاكيه التي تُروى للإطراف والتفكيه قول (طائفة من اليهود يقال لهم: العيسوية - وهم أتباع عيسى الأصفهاني - إن محمداً رسول الله صادق مبعوث إلى العرب وغير مبعوث إلى بني إسرائيل) وقد ذكر ابن حزم هذه الطائفة ومقالتها في كتابه (الِفصَل في الملل والأهواء والنحل) قال: (العيسوية هم أصحاب أبي عيسى الأصبهاني كان باصبهان، وبلغني أن اسمه كان محمد بن عيسى، وهم يقولون بنبوة عيسى ابن مريم ومحمد صلى الله عليه وسلم ويقولون إن عيسى بعثه الله عز وجل إلى بني إسرائيل على ما جاء في الإنجيل وإنه أحد أنبياء بني إسرائيل وإن محمداً نبي أرسله الله بشرائع القرآن إلى بني إسماعيل وإلى سائر العرب كما كان أيوب نبياً في بني عيص، وكما كان بلعام نبياً في بني مواب بإقرار من جميع فرق اليهود، ولقد لقيت ' من ينحو إلى هذا المذهب من خواص اليهود كثيراً)

وفي (الفرق بين الفرق) للبغدادي: (وقوم من شاذ كانية اليهود حكوا عن زعيمهم المعروف بشاذ كان أنه قال: إن محمداً رسول الله إلى العرب وإلى سائر الناس ما خلا اليهود. وأنه قال: إن القرآن حق، وإن الأذان وإقامة الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وحج الكعبة - كل ذلك حق، غير أنه مشروع للمسلمين دون اليهود)

قلت: إن الله عز وجل يقول:

ص: 6

(وأرسلناك للناس رسولا)

(وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين)

فهل ترى هذه الطائفة أو تري يَهودُ أنهم ليسوا من الناس. . . وليسوا من العالمين. . .؟؟

الإسكندرية

(* * *)

ص: 7

‌جورجياس أو البيان

لأفلاطون

للأستاذ محمد حسن ظاظا

- 3 -

تنزل (جورجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف، لأنها

أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلاً)

للفلسفة!)

(رينوفيير)

(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة دائماً وتنتصر لأنها أقوى وأقدر

من جميع الهادمين!)

(جورجياس: أفلاطون)

الأشخاص

1 -

سقراط: بطل المحاورة: (ط)

2 -

شيروفون: صديق سقراط: (س)

3 -

جورجياس: السفسطائي: (ج)

4 -

بولوس: تلميذ جورجياس: (ب)

5 -

كاليلكس: أثيني: (ك)

ط - حسن! ومادمت تُعجب بمهارتك في فن البيان، وبقدرتك على تعليمه للغير، فأخبرني ما هو موضوع ذلك الفن. إن لفن النسج مثلاً موضوعاً هو صنع الأقمشة. أليس كذلك؟

ج - بلى

ط - وموضوع الموسيقى هو تأليف الألحان؟

ج - نعم

ص: 8

ط - يالجينون! إني لمعجب جداً بإجاباتك يا جورجياس! إذ لا يستطيع أحد أن يجيب بأقصر من ذلك!

ج - وأنا أغبط نفسي لنجاحي التام في هذه الناحية!

ط - الحق أنك غير مخدوع في ذلك قط! فأرجو أن تجيبني بالمثل عن علم البيان وأن تخبرني عن موضوعه!

ج - موضوعه الخطب والأحاديث

ط - أية خطب يا جورجياس؟ أتلك التي تشرح للمرضى قانون الغذاء الذي يجب أن يتبعوه كما يتم لهم الشفاء؟

ج - كلا

ط - إذا لا يشمل موضوع البيان كل أنواع الخطب؟

ج - من غير شك

ط - ولكنه يعلم الناس - مع ذلك - الكلام؟

ج - نعم

ط - وهو يعلم أيضاً التفكير في سبب تعليمه الكلام؟

ج - نعم دون ما تناقض

ط - ولكن ألا يبحث فن الطب - الذي اتخذناه مثلاً - ويتكلم في الأمراض؟

ج - بالضرورة

ط - وإذاً أيكون الكلام من موضوعات الطب كما يبدو؟

ج - نعم

ط - أو بالأحرى الكلام الذي يتعلق بالأمراض على الأقل؟!

ج - تماماً!

ط - وبالمثل، ألا يكون موضوع (الرياضة البدنية) هو الكلام في حسن استعداد الجسد أو سوئه؟

ج - هذا صحيح

ط - وهل الأمر بالمثل في الفنون الأخرى يا جورجياس؟ هل موضوع كل منها هو الكلام

ص: 9

المتعلق بما تعالجه من شئون؟

ج - يلوح ذلك

ط - ولم لا تطلق إذاً اسم (البيان) على تلك الفنون الأخرى التي موضوعها (الكلام) ما دمت تطلق هذا الاسم (إطلاقاً) على فن موضوعه الكلام؟

ج - يرجع السبب في ذلك يا سقراط إلى أن الفنون الأخرى تكاد تتعلق فقط بأعمال اليد أو بما يشبه هذه الأعمال من إنتاج. أما البيان فلا ينتج أي عمل يدوي. ولا يقوم كل أثره ونفوذه إلاّ في الكلام فحسب. وهذا ما يجعلني أصرح بأن موضوع البيان هو الكلام، وما يجعلني أدعى أن قولي هذا صحيح!

ط - أعتقد أني فهمت ما تريد أن تعنيه بذلك الفن. ولكني أريد أن يزداد الأمر وضوحاً فأجبني: أليست عندنا فنون كثيرة؟

ج - بلى!

ط - ومن هذه الفنون - كما أظن - ما يقوم في أساسه على العمل دون أن يحتاج لغير أقل قدر من الكلام، أو دون أن يحتاج إلى كلام قط؛ فيتم عمله في صمت تام كالحفر والتصوير وفنون كثيرة أخرى مما قد قلت عنها - فيما يتراءى لي - أنها لا تتصل بالبيان قط؟ أصحيح هذا؟

ج - إنك لتمسك بفكرتي تماماً يا سقراط

ط - هذا بينا توجد على النقيض فنون أخرى تعتمد تقريباً على الكلام ولا تحتاج إطلاقاً إلى أي عمل كالحساب والإحصاء والهندسة ولعب الشطرنج وفنون أخرى كثيرة، إذ بين هذه ما يتطلب من الكلام أكثر مما يتطلب من العمل، بل إن أغلبها يتطلب بالفعل (كلاماً) أكثر. ولذلك تقوم كل قوتها وأثرها في الكلام فحسب. فترى هل البيان من ذلك النوع الذي ذكرت كما يبدو؟

ج - إنك تقول حقاً

ط - ومع ذلك فقصدك - كما أظن - ليس إطلاق اسم البيان على أحد هذه الفنون، لأنه ما إن نقول عامدين إن البيان فن تقوم كل قوته في الكلام حتى يتعلق بعضهم بالألفاظ ويخرج منها قائلا:(إنك إذاً تطلق البيان على الحساب يا جورجياس!). ولا أحسب أنك تسمي

ص: 10

الحساب أو الهندسة بهذا الاسم

ج - إنك مصيب يا سقراط وقد فهمت قولي كما يجب أن يفهم!

ط - إذاً أتمم إجابتك على سؤالي. ما دام البيان أحد هذه الفنون التي تعتمد الكلام اعتماداً أساسياً، وما دامت هناك فنون مثله في ذلك الاعتماد، فأخبرني من أية ناحية يعتمد البيان على الكلام؟ إذ لو سألني مثلا أحدهم عن موضوع فن من الفنون التي أسميها بأسمائها وقال ما هو الحساب يا سقراط؟ فإني أجيبه - كما أجيب الآن - بأنه أحد الفنون التي تعتمد تماماً على الكلام. فإذا سألني ثانياً: من أية ناحية ذلك الاعتماد؟ أجبته: من ناحية الزوج والفرد كيما ندرك عدد الوحدات في هذا وفي ذاك. . . وهو إذا سألني بالمثل عن الإحصاء قلت له أيضاً إنه أحد الفنون التي كل قوتها في الكلام. فإذا طلب: من أية ناحية ذلك؟ قلت: - كما يفعل جامعو الأصوات في الجمعية - إن الإحصاء يقوم للفنون الأخرى مقام الحساب لأن موضوعهما واحد: أي معرفة الزوج والفرد. وهناك فقط هذا الفارق: وهو أن الإحصاء يبحث في كمية الزوج والفرد لا إطلاقاً فحسب، ولكن أيضاً في علاقات هذه الكمية ونِسبها. وكذلك إذا سألني أحدهم ثانياً عن الفلك وأضاف بعد قولي له إنه فن يعبر بالكلام عما هو في دائرة اختصاصه - أضاف: على أي شيء ينطبق القول في الفلك؟ أجبته بأنه ينطبق على حركة الكواكب والشمس والقمر كما يمتد فيتناول علاقات سرعتها بعضها ببعض

ج - حسن جداً يا سقراط

ط - إذاً أجبني بالمثل يا جورجياس! أليس لبيان أحد هذه الفنون التي تعالج كل شيء وتنجزه بالكلام؟

ج - هذا صحيح!

ط - ولكن أخبرني من أية ناحية هذا؟ وما هو الموضوع الذي يتصل به ذلك الكلام الذي يستعمله البيان؟

ج - إنه يا سقراط أعظم أعمال الإنسانية وأرفعها!

ط - لم يزل ما تقول يا سقراط موضع شك وغموض! ويبدو لي أنك قد سمعت في الولائم تلك الأغنية التي يعدد فيها الندماء خيرات الحياة ويقولون إن أول هذه الخيرات هو الملبس الحسن، وثانيها الجمال الرائع، وثالثها الغنى الحلال كما يقول مؤلف هذه الأغنية؟

ص: 11

ج - لقد سمعتها حقاً ولكن لم تذكرها؟

ط - ذلك أن أصحاب هذه الخيرات التي يتغنى بها الشاعر كالطبيب، ومدرب الرياضة البدنية، ورجل الأعمال، سيقفون في الحال إلى جانبك، وسيبدأ الطبيب فيقول لي إن جورجياس يخدعك يا سقراط لأن موضوع فنه ليس من خيرات الإنسانية الكبرى في شيء، بينا موضوع فني أنا هو الذي يتصل بهذه الخيرات! فإذا سألته: وما مهنتك أنت يا من ترسل هذا القول فإنه سيقول (إنني طبيب!) وإذا ما سألته: ماذا؟ أتدعي أن أعظم خيرات الإنسانية هو ما ينتج من فنك؟ أفلا يحتمل أن يقول لي متسائلاً: وهل يستطيع أحد أن يجحد ذلك ما دامت (الصحة) هي ثمرة هذه الفن؟ وهل هناك خير يفضل الصحة لدى الناس؟

(يتبع)

محمد حسن ظاظا

ص: 12

‌حواء

. . . ديوان شعر طريف في الغزل العرفاني يصدره الأستاذ الحوماني تحت هذا الاسم وستقدم الرسالة لقرائها نماذج منه في أعدادها التالية ريثما ينتهي طبع الديوان

عبقر الفنان

الأمانيُّ أَعْلَقَتْ بِيَ عيني

كِ وعيناكِ رمز هذي الأماني

كيف لا أرصد النجوم لعيني

كِ طَوالَ الدجى ولي عينان؟

أَفما جالتا - وقد خفق الحا

لم - من وجنتيكِ في بستانِ؟

تملأ النفسَ منه بالأمل الغضّ

رُؤى عبقرية الألوان

لا عيون الرائي تفوز بما تُب

صر منها ولا أكفُ الجاني

إنما هن في السما مُثُلُ الفنِّ

وفي الأرض عبقر الفنان

ص: 13

‌روح الله

مبدعَ الفن! أيُّ كفيكَ خطَّت

عجب الفن تحت هذه الجباهِ!

في صدور تموج تحت صدور

وشفاهٍ تهتز فوق شفاهِ؟

إن في الابتسام والدمع سِرًّا

هو غير العيون والأَفواهِ

أهوَ الحبُّ خلفهن؟ وما الحبُّ؟

هل الحب غير روح الله؟

آمنت فيكَ هذه الناس ساهي

نَ وآمنتُ فيك غير السَاهي

قد تحسست ذات قدسك لا في النا

ر مسجورة ولا الأَمواهِ

إنما الحب دمعة وابتسام

وهما أنت في الحقيقة لا هي

الحوماني

ص: 14

‌أحمد الإسكندري بك

بمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاته

1875 -

1938

بقلم تلميذه وصهره الأستاذ محمد أحمد برانق

أتصل بي كثيرين من الأدباء الذين يقدرون المغفور له الأستاذ أحمد الإسكندري قدره، ويقرون له بالفضل (وبخاصة أدباء لبنان وفلسطين وغيرهما من الأقطار الشقيقة)، وطلبوا إلى أن أقدم لهم كلمة في تاريخ حياته، موجزاً عن آثاره العلمية والأدبية، ليكون نواة لما يقال عنه في حفلة تأبين يقيمها أدباء بيروت، ولما يلقى من محطة الإذاعة في فلسطين، ولكن شدة وقع المصيبة كاد يصرفني عن كل شيء حتى هذا، إلا أني غالبت ذلك الضيق الذي أحس مرارته في نفسي، واستطعت أن أكتب ما أرجو أن يكون فيه بعض الغناء إلى حين، حتى إذا أمكنتني الفرصة من وضع يدي على آثاره الأدبية المخطوطة، جلوتها للأدباء، وفاء له، واعترافاً بفضله.

نشأته:

صدر العلماء، وغرة الأدباء، وباقعة عصره - أحمد بن علي عمر الإسكندري، ولد في مدينة الإسكندرية في 26 فبراير سنة1875، تعهده أبوه بالتعليم، وبعد أن حفظ القرآن وأجاده التحق بالمعهد الديني بالإسكندرية المعروف بجامع الشيخ. وأكب على التحصيل، ولكن مناهج التدريس لم تشبعه، فكان يقرأ الكتب التي تقع تحت يده، ومنها قصص عنترة، وأبي زيد، وسيف بن ذي يزن وألف ليلة وليلة، ونحوها، فأولع بالأدب، وقرض الشعر يافعاً، وعرفه بعض أبناء الأعيان المتأدبين، ولكن الأفق العلمي في الإسكندرية أصبح محدوداً أمامه، فرغب في النزوح إلى القاهرة حيث الأفق أوسع، ولكن والده لم يوافقه؛ إلا أن الهمة البعيدة الموهوبة، تفك القيود، وتحطم الأغلال، وتحتال لتقهر كل صعب، فصمم الغلام أحمد الإسكندري على الرحلة إلى القاهرة، وجمع كتبه وحزمها، وخرج في غفلة من أهل الدار، وليس في جيبه إلا دريهمات كان قد ادخرها، وصحبه في سفره اثنان لا أذكر اسميهما، أما أحدهما فإنه تخلف في حدود الإسكندرية، وأما الآخر فأنه صحب أحمد وركبا

ص: 15

مركباً يسير في ترعة المحمودية حتى وصلا إلى مدينة كفر الزيات. وهنا نفذ زادهما ودريهماتهما، فعاد الرفيق إلى الإسكندرية، أما هو فأن عزمه حديد لا يفل؛ فقد حمل كتبه على ظهره، ومشى على قدميه من مدينة كفر الزيات حتى وصل إلى القاهرة وهو حدث.

والتحق بالأزهر ليتلقى علوم اللغة والدين. وفي سنة 1894 التحق بمدرسة دار العلوم، وكان أصغر زملائه سناً، وأنبههم ذكراً، وأوسعهم معرفة. وكان من عادة المدرسة حينئذ أن تعقد في أول كل سنة دراسية اختباراً عاماً لطلبة المدرسة في كتب تعينها لهم، ثم في المعلومات العامة، فكان الإسكندري في كل عام فارس الحلبة الذي لا يدرك، فتخصه المدرسة بجوائزها

وكان أيام الطلب مبرزاً في مادة الإنشاء بديع الصنعة، مليح الصيغة. كتب أول أمره على الطريقة الشائعة إذ ذاك، وهي طريقة السجع، وله موضوعات كانت موضع إعجاب أساتذة الإنشاء في عصره، فأطروها ونشروها منسوبة إليه في كتب لهم؛ ولعل من هؤلاء الشيخ مفتاحاً - إن لم تكن الذاكرة قد خانتني - فإنه نشر له موضوعاً في وصف قنطرة قصر النيل (الخديوي إسماعيل الآن) في كتاب له

تخرج في دار العلوم سنة 1898، واشتغل بالتدريس في المدارس الأميرية، ثم كان ناظراً لمدرسة المعلمين في الفيوم والمنصورة؛ وفي هذه الأثناء ظل على نشاطه الفكري، فأخذ من محاسن الآداب بأوفر حظ.

في دار العلوم

في سنة 1907 انتقل إلى دار العلوم لتدريس مادتي الإنشاء والأدب العربي وظل يزاول ذلك العمل بتلك المدرسة زهاء سبعة وعشرين عاماً، ألف في أثنائها كتاباً عن الأدب العربي في العصر العباسي، أجمع الأدباء على أنه كان المعين الذي استقى منه جميع من بحثوا في تاريخ الأدب من بعده. وضع لطلبته مذكرات في العصور الأخرى، كانت وما تزال عدة الطلبة، يجدون فيها طلبتهم فيستعينون بها على تهيئة أنفسهم لأن يكونوا أدباء باحثين لما تحتويه من الحقائق العلمية والفنية الخالية من الزخرفة والتهويل، ولأنها ترسم لهم طريق البحث في أحدث صورة. وكان منهج تاريخ الأدب في دار العلوم يحتوي فوق النظريات العامة تراجم كثيرة لعدد كثير من الكتاب والشعراء والخطباء والعلماء وغيرهم؛

ص: 16

فكانوا يضطرون إلى وضع مختصرات تشبه المتون؛ وهذا لا يعلم الطلبة، ولا يربي فيهم ملكة البحث فاقترح رحمه الله أن يكتفي بدراسة بضع تراجم بحيث يدرس المترجم دراسة تفصيلية تحليلية وافيه، يرى فيها الطلاب نبراساً يهتدون به إذا حاولوا مزاولة البحث أو تصدوا لاستقصاء أي عمل علمي؛ وحمل هو هذا العبء بادئاً ونهض به. وكان من حسن حظي أن كنت من أول من تتلمذوا عليه حين زاول هذا العمل، فاستفدنا منه أجل فائدة، وهو أول من اقترح تدريس فقه اللغة في مدرسة دار العلوم، وكان غير معروف من قبل في المدارس المصرية. وتقدم لعمل المنهج، وحمل عبء تدريسه، فقسمه قسمين: قسم فلسفي نظري يتعلق بنشأة اللغات والاشتقاق والنحت واختلاف اللهجات وغير ذلك؛ وقسم نظري يتعلق بوضع الألفاظ اللغوية للمسميات، وكان مجدداً في ذلك، فوفقه الله كل التوفيق، وجاء من بعده فاهتدوا بهديه، وساروا في نهجه.

وفي سنة 1922 عرض عليه موظف كبير كان بوزارة المعارف أن يزج بنفسه في المعترك السياسي، وأن يحرر مقالات ينشرها في الصحف اليومية، يؤيد بها حزباً معيناً، فأبت عليه نفسه أن يفعل، محتجاً بأن العلماء أحرى بهم ألا يكونوا ساسة، وأن ما يتطلبه العلم من الأخلاق غير ما تتطلبه السياسة.

وجميع من تخرجوا في دار العلوم من سنة 1907 إلى سنة 1934 تتلمذوا عليه ما عدا فرقتين اثنتين.

في الجامعة

وفي سنة 1933 اختير أستاذاً للأدب العربي بقسم اللغة العربية بكلية الآداب، فاضطلع بذلك العمل على أكمل وجه وأتمه، فأحبه تلاميذه، وأقبلوا عليه، وأفادوا منه.

في المكتب الفني

وفي سنة 1935 كتب إليه وزير المعارف إذ ذاك خطاباً يخبره فيه أنه يريد أن ينتفع بعلمه الواسع وتجاربه الطويلة في المكتب الفني في وزارة المعارف، فكان فيه عضواً عاملاً؛ وكانت له مشاركة تامة في وضع مناهج اللغة العربية للمدارس الابتدائية والثانوية، وفي مراجعة الكتب العربية لهذه المدارس.

ص: 17

في المجمع اللغوي

عندما أنشئ المجمع اللغوي الملكي في 13 ديسمبر 1932 وقع عليه الاختيار ليكون عضواً من أعضائه. وإن من يراجع محاضر جلسات المجمع في سنواته الخمس، يجد أنه كان المحور الذي تدور حوله المقترحات والمناقشات، فكان بحق كما وصفه بعض العارفين:(مخ المجمع). ولما تكونت اللجان الفرعية ساهم في أكثرها، فكان عضواً في لجنة الرياضات، ولجنة العلوم الطبيعية والكيمائية، ولجنة علوم الحياة والطب، ولجنة المجلة، ولجنة خزانة الكتب، ولجنة الميزانية، ولجنة الأصول العامة، فكان عضواً في سبع لجان من إحدى عشرة لجنة.

تعصبه للغة العربية

كان يحب اللغة العربية ويتعصب لها تعصباً جعله يصف من يتهاون في أمر من أمورها بالزندقة والإلحاد. وكان يعتبر التساهل وفتح الباب للغات الأجنبية، لغزو اللغة العربية، جريمة شنيعة ومن يرجع إلى محاضر جلسات السنة الأولى للمجمع اللغوي يجد أنه جاهد جهاداً شديداً حتى جعل المجمع يوافق على عدم اللجوء إلى التعريب إلا لضرورة قصوى. وكان يعجب من القوم الذين يعيبون على المجمع استعمال ألفاظ غريبة لمسميات جديدة، لأنه كان يرى أن هذه الألفاظ وإن بدت غريبة الآن فإنها بالاستعمال والمران تسهل على السمع وتجرى على اللسان، وهي أصون للغة من الدخيل. وله في مسألة التعريب مواقف مشهودة وقفها في نادي دار العلوم القديم الذي كان يرأسه المرحوم عاطف بركات باشا، وفي المجمعين اللغويين الأهليين القديمين اللذين رأسهما المغفور له العلامة الشيخ سليم البشري ولطفي السيد باشا؛ ومبدؤه هذا كان يبثه في تلاميذه، ويحضهم على الاستمساك به، حتى لتجد جمهرتهم إن لم يكن كلهم من رأيه ومبدئه.

مؤلفاته

أول كتبه كتاب تاريخ الأدب العربي في العصر العباسي، ثم ألف كتاباً عن اللهجات العامة، قدمه لمؤتمر المستشرقين سنة 1911، ورأيته عنده مخطوطاً ولم يقع نظري عليه منذ سنتين. ثم ألف كتاباً للمطالعة للمدارس الثانوية في عدة أجزاء، وسماه (نزهة القارئ) طبع

ص: 18

منه جزءين نفدت منهما طبعات، قررته وزارة المعارف سنة 1934، ولكن أموراً شكلية تتعلق بشروط قائمة بينه وبين (مكملان) حالت دون التنفيذ

وألف كتاباً عاماً في الأدب العربي في جميع عصوره، يقع في بضعة آلاف صفحة، وكان في نيته أن يطبعه، واشتغل في السنة الأخيرة من حياته بوضع مقدمة له وصفها هو بأنها: تقع من تاريخ الأدب موقع ابن خلدون من التاريخ؛ وأعد العدة لذلك، ولكن عاجلته المنية، فاقتطعه دون الأمنية

وله بعد ذلك مؤلفات في فقه اللغة كان يضعها لتلاميذه؛ لكنه لم يجعلها كتاباً عاماً لاعتقاده أن هذا من شئون الخواص. واشترك مع غيره في وضع كتب مدرسية في التاريخ العام وتاريخ الأدب والنصوص الأدبية أكثرها يدرس اليوم. وليس مقام البحث في هذه الكتب ودراستها، ولكنه مجرد سرد موجز لما عمله.

أخلاقه وصفاته وعلمه:

كان هيناً، ليناً، صريحاً، أبياً، عذب الحديث، بارع الجد، حلو الفكاهة، سريع الخاطر، حاضر النكتة، ظريف التفصيل والجملة، ميالا إلى العزلة، فكان يقضي في بيته أياماً لا يبرحه. وكان كثير القراءة، تمر به أيام يقرأ فيها خمس عشرة ساعة أو أكثر في اليوم. وكان سريع التعليق، ويقتني مكتبة عظيمة، وليس فيها كتاب لم يقرأه ولم يعلق عليه.

وكان أهم ما يعني به في قراءته بعد أن استوعب الكتب القديمة مطبوعة وخطية - هو الكتب المترجمة، وكان أول ما يقرأ في الصحف برقياتها الخارجية

أما معلوماته العامة فواسعة المدى، فهو سياسي مع الساسة، وأثري مع علماء الآثار، ومصور مع علماء التصوير، واجتماعي مع رجال الاجتماع، وهو كذلك رياضي وطبيعي وكيميائي ومؤرخ. وكانت له في كل هذه العلوم مشاركة تامة تدل على استبحاره. والموضوعات التي عالجها في كتابة نزهة القارئ، والكلمات التي وضعها في مجلة المجمع، ورسالته الأخيرة التي قدمها للمؤتمر الطبي العربي ببغداد - كل هذا يشهد بأنه كان ذا نشاط جم، وعقل جبار

ومجالسه مع أصدقائه تشهد بما كان له بينهم من جليل القدر وعظيم الأثر. حدثني أحد الفضلاء أنه شكا إليه يوماً تخبط الإنجليزية واضطرابها في شرح نظرية دارون، وأنه

ص: 19

تعب كثيرا في التقصي والبحث إلا أنها لم تصر جلية في ذهنه كما يجب، فأفاض الشيخ في شرح هذه النظرية ببيانه المعروف عنه، وتوضيحه وتذليله وتصويره للحقائق في أيسر صورها، حتى ترك صاحبه ومن كانوا معه يقولون: كأن دارون لم يفض بحقيقة نظريته إلا له، فاختصه الله القدرة على تفهيمنا.

وحدث صديق له قال: صحبته وبعض خلصائه يوماً إلى دار الخيالة؛ وما كدنا نصل إليها حتى أبدى أحدنا غرابة مما وصل إليه العلم من عرض الصور الصغيرة وتكبيرها؛ ثم تسجيل الصوت؛ فما كاد يسمع منه ذلك حتى أنطلق يشرح لهم نظريات عن فن التصوير والعدسات وأنواعها وكيفية استعمالها، ثم عن التقاط الأصوات في (الاستوديوهات) وما يعانيه الممثلون والممثلات. والتفت حوله جمع من الناس وأقبلوا عليه بمجامعهم، يستمعون منه، معجبين به، بل ود بعضهم لو أبطل صاحب الخيالة خيالته ليتم له حديثه.

من ذلك تعلم أنه تبوأ مكانه بجدارة بين علماء عصره. وكان ركناً عظيما تعتمد عليه وزارة المعارف والمجمع اللغوي والهيئات العلمية والأدبية.

وكان إذا أراد أن يعالج موضوعاً عالجه غيره من المحدثين لا يطلع على ما كتبه ذلك الغير إلا بعد أن يكتب. وكان في كبره لا يهاجم من يخطئون كما كان يفعل أيام شبابه، ولكنه كان يرد عليهم في أثناء بحثه من غير إشارة إليهم ومن غير أن يمسهم من قرب أو من بعد.

وكان موضع الثقة من كثير من العلماء الأعلام، يراسلونه ويستفتونه في كثير من المسائل التي يشتبه عليهم الأمر فيها، أو لا يهتدون إلى مصادرها، ومن هؤلاء الفضلاء الأب أنسطاس ماري الكرملي؛ فإن رسالاته لم تنقطع عنه حتى في أيام مرضه الأخير. وكان الأب على جلالة قدره يعترف له بالفضل والأستاذية، كما كان يعترف غيره. كتب إليه يوماً يقول:(. . . جاءني كتابك وفيه من سبحات النور ما جعلني أدعو الله أن يزيدك فضلاً وعلماً للمستجيرين بك واللائذين إلى بحر عرفانك الجم. ولو كان في الإسلام في عصرنا هذا عشرة مثلك في مصر. لانتقل الحنفاء جميعهم إلى هذه الديار المباركة للاقتباس من فيض نورك المتدفق. . . الخ).

وكان في جلسات المجمع الأصلية والفرعية إذا أشكل أمر أو أظلمت مسألة خرج هو على الأعضاء بما يزيل اللبس ويكشف الغموض والإبهام. وكانوا جميعاً يعترفون له بالسبق،

ص: 20

ويعتبرونه جهيزة تقطع قول كل خطيب. قال الدكتور منصور فهمي بك عضو المجمع اللغوي في معرض رثائه: (. . . إنا أمس الأول - حين جمعتني وبعض زملائك حلقة من حلقات المجمع اللغوي - كنا نقول فيما كنا نتذاكر فيه: انتظروا السكندري، وأرجئوا المسألة فعند السكندري علم ما أشكل علينا، ولديه حل ما استعصى علينا، والآن يموت حلال المشكلات، والمرتجى في اللغة للمستعصيات. . . الخ).

وعندما سافر سنة 1911 إلى مؤتمر المستشرقين في بلاد اليونان بصحبة المغفور لهم: الأمير فؤاد (جلالة الملك فؤاد)، وأمير الشعراء أحمد شوقي بك وأحمد زكي باشا، وحفني ناصف بك، وغيرهم، خطب في موضوع اللغة العربية الفصحى، وقلة انتشارها بين الغالبية العظمى من أهل الممالك الإسلامية المختلفة، وعرض على جماعة المستشرقين استفتاء في رأى المرحوم يعقوب أرتين باشا وكيل وزارة المعارف إذ ذاك، في:(هل يجوز أن تحل في كل بلد لغة أهله العامية - وهي لغة السواد الأعظم - محل اللغة الفصحى في الكتابة، وتستعمل في المخاطبة؟) وذكر لغات البلاد العامية ولهجاتها المختلفة، وأدب كل لغة في نثرها ونظمها، وقرأ ذلك من كتاب له غير مطبوع. . . قال إن يعقوب باشا كلفه بوضعه عن لغات هذه الشعوب الإسلامية العامية، فقضى في بحث هذه اللغات واللهجات بضع سنين، واقتبس منها ما دونه في كتابه المذكور، وهي لغات العامة في بلاد العرب والشام والعراق ومصر وتونس والجزائر ومراكش وغيرها من البلاد التي يتكلم أهلها اللغة العربية بلهجتها العامية الخاصة بها. وقد اهتم المستشرقون بهذا البحث وناقشوه فيه، وقضوا وقتاً طويلاً في مباحثته ومساجلته، ثم انتهوا من ذلك إلى قرار صريح بأن:(اللغة العربية الفصحى هي اللغة التي تصلح للبلاد الإسلامية العربية للتخاطب والكتابة والتأليف؛ وأن من واجب حكومات هذه البلاد أن تعني بنشرها بين الطبقات الشعبية لتقضى على اللهجات العامية التي لا تصلح كلغة أساسية لأمم تجمعها جامعة الدين والعادات والأخلاق). وكان هذا القرار فوزاً بالغاً له سر به المجمع، لأنه كان تعزيزاً لرأيه ضد رأي أرتين باشا، وهو نصير اللغة العامية، وإحلالها محل اللغة العربية الفصحى.

وفاته

وفي منتصف الساعة الخامسة من مساء الثلاثاء 18 من صفر سنة 1357 - 19 من

ص: 21

إبريل سنة 1938: لحق بالرفيق الأعلى، على أثر مرض ألزمه الفراش أسبوعين ولم يجد دواء الطبيب، فلكل أجل كتاب:

دخل الدنيا أناس قبلنا

رحلوا عنها وخلوها لنا

فنزلناها كما قد نزلوا

ونخليها لقوم بعدنا

محمد أحمد برانق

ص: 22

‌الإسلام في فارس

للأديب حسن حبشي

لعل أبلغ معجزة للإسلام هي تلك السرعة التي وسِم بها انتشاره في رحاب المعمورة، حتى لقد خفق لواؤه في مدي قرن من الزمان على كثير من بلدان آسيا وإفريقيَّة، وتغلغلت شريعته وحبه والإيمان به في نفوس قوم درجوا على الشرك، وكانوا لا يألون جهداً - هم وأسلافهم من قبل - في صدِّ كل عادية عنه. ومن مظاهر هذه المعجزة إسلام التتر بعد أن كاد الإسلام أن يحتضر من خطبهم وتدميرهم، فلقد كانوا (المصيبة الكبرى التي عقّتِ الأيام والليالي عن مثلها، فأن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها) فإذا هم - بعد اعتناقهم إياه - من أكبر الذَّابين عن حياضه، المدافعين عن بيضته. ويذهب السير توماس أرنولد في تعليله لهذا الانتشار والسبق الذي اختُص به الإسلام دون غيره إلى ما أتَّسَمَت به العقيدة الإسلامية من بساطة لا تعقيد فيها، وإلى وحدانية الله، وإلى أن محمداً عبده ورسوله

لقد درج الإسلام في بلاد الحجاز، ثم ما لبث أن اتسعت رقعته وامتدت فتوحه شرقاً وغرباً فأصبحت العراق وفارس ومصر والشام وفلسطين وبلاد الخزر وإفريقية والنوبة والهند إمارات إسلامية قد انتقلت من الشرك والاضطهاد والنضوب الفكري إلى وحدانية مشرقة، وعدل أظل الجميع بفيئه، ونهضة اجتماعية وذهنية غيرت معالم الحياة بأسرها. ولا غرو فالإسلام في جوهره دين عقلي بأوسع ما تدل عليه هذه الكلمة من معنى

وتاريخ الإسلام في مبدئه هو تاريخ تلك الأقطار المفتوحة، وحسبنا في هذا البحث الموجز أن نرى مدى انتشاره في إيران وإن ذهب أهلها شيعاً وتباينوا عقائد

ويرتبط تاريخ إيران الإسلامية أيما ارتباط بهذه الجماعات التي كانت تفد عليها متاجرة أو مهاجرة من جهة، ومن جهة أخرى بتاريخ اللملوك والخانات الذين كان لبعضهم فضل الجهاد في سبيل نشر الدين، وإن وجدوا في كثير من الأحيان إقبالاً من الشعب نفسه يرجع في جرثومته إلى أسباب عدة ليس هذا مجال بحثها. كما أن بعض القواد لم يدخر وسعاً في سبيل نشر الإسلام فكان ابن القاسم فاتح بلاد الهند داعيةً من دعاته، وأحد الحريصين على بث مبادئه العاملين على بسط نفوذه، فلقد عرض على أمراء الهنود اعتناقه، ولم يكن الطمع في الغنيمة فحسب هو الدافع للجند العرب المسلمين على الاستبسال ولاستماتة في هذه

ص: 23

الفتوح العظيمة؛ تلك الروح التي تتمثل في قول خالد ابن الوليد حين لاقاه أهل الحيرة فقال لهم (أدعوكم إلى الإسلام فإن أنتم فعلتم فلكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم، وإن أبيتم فأعطوا الجزية، فان أبيتم فقد أتيتكم بقوم هم أحرص على الموت منكم على الحياة)

لقد كان فتح العرب لبلاد فارس حادثا جديدا في تاريخ الإسلام من الناحتين الفكرية والاجتماعية، كما كان له أثره القوي فيما بعد - في الناحية السياسية والدينية لِما ظهر عند أهله من هوى عنيف للمذهب الشيعي، وإن أرجع بعض المستشرقين هذا الميل إلى زواج الحسين بن عليّ (بشاه بانو) إحدى بنات يزدجر الثالث آخر ملوك آل ساسان، ومن زعماء هذا الرأي الأستاذ جولد تسيهر.

دخل المسلمون هذه البلاد الغريبة عنهم في حضارتها وتاريخها ونظمها السياسية وتفكيرها، فكان ثمة احتكاك تولدت عنه نزعات جديدة في كل هذه الأمور، ولعبت العصبية القومية دورا خطيراً على مسرح الحياة العامة فكانت دعامة الدعائم في قيام الدولة العباسية التي اتخذت عاصمتها في بلدٍ ينزع أهله إلى تأييدها

كانت بلاد الفرس وقت أن دخلها العرب مللاً متباينة، ونحلا مختلفة متنازعة، فهناك الصابئة والمجوس وأتباع ماني وزرادشت، وهناك أهل الكتاب من يهود ونصارى، فكان القوم بين مشرك ووثني وموحِّد ومثلث، فلم يكن الاضطراب سياسيا فحسب، بل كان دينيا كذلك. فوجد العرب هذه البلاد على حال من الفوضى السياسية والاجتماعية والدينية، فكان العبء عليهم ثقيلا، وكانت التركة بين أيديهم تتطلب منهم سياسة حكيمة ماهرة، حتى يستطيعوا أن يهيئوها لغد يزهو على الأمس، ويجعلوا من أهلها دعاة للحنيفية السمحاء

لقد مرت القرون تنري والقوم مقيمون على الشرك وعبادة النار والنجوم، فما أهل الإسلام عليهم بنوره حتى تسارعوا زمراً لاعتناقه والدفاع عنه، فكان أئمة الدين وجلة علمائه من أهل فارس حتى لقد لاحظ ذلك ابن خلدون فقال:(من الغريب الواقع أن حملَة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم، لا من العلوم الشرعية، ولا من العلوم العقلية إلا في القليل النادر وإن كان منهم العربي في نسبته فهو عجمي في لغته ومرباه ومشيخته مع أن الملة عربية وصاحب شريعتها عربي) وكان أشد المدافعين عن الدين وعن العرب من رجال الفرس حتى في الأوقات التي ظهرت فيها العصبية القومية بأجلى معانيها، وفي الوقت

ص: 24

الذي أطلت فيه الشعوبية تزعم ما تزعم من جحود ونكران للواقع، وكأن هذا الميل القوي للإسلام لم يرق في نظر البعض فذهب إلى أن مرجع اعتناق الفرس للإسلام أنهم أَلْفَوا في القرآن الأركان الأساسية لديانتهم القديمة وإن اختلفت قليلاً، فلم يكن من العسير على الفارسي أن يقبل على عبادة اهرمزدا واهريمان إلهي الخير والشر حيث استترا وراء كلمتي الله وإبليس في الديانة الجديدة، كما يقول إن الإسلام اتفق والوثنية الفارسية القديمة في القول بخلق الإنسان ووجود الملائكة والبعث يوم القيامة وعودة الروح والجسم ثانية وفي فكرة الجحيم والجنة، فالتقت العقيدة القديمة والدين الجديد في هذه النواحي. وغرض دوزي من ذلك الطعن في إسلام الجماعة الأولى من أهل فارس، وتجاهل هذه الروح الكريمة التي امتاز الإسلام والتي لا زال يغزو بها القلوب حتى في عصر المادة فلا كبرياء ولا أرستقراطية مستهجنة)

لم يقصر فضل الإسلام على الناحية السياسية وانتشال البلاد من التدهور الاجتماعي، بل تعداها إلى الناحية الدينية بين القوم وغيرهم من أهل الكتاب من النصارى واليهود، فعامل الجميع معاملة حببت الجماعة فيه، ولم يرغمهم على التصديق به والإيمان برسالته وإنما حاجَّهم فإن أبوا فليس إلا الجزية، إذ (هي واجبة على جميع أهل الذمة من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والسامرة)

ولم تكن هذه الجزية دينية بحتة، وإنما كانت كذلك للقيام بالمحافظة على دافعيها وضمان سلامتهم، في ظل هذا النظام الجديد الذي لم يألفوه من قبل أيام دولة الأكاسرة التي استبدت وبطشت بالمسيحيين وعصفت بهم ولم تحترم شعورهم، بل كانت شديدة الوطأة عليهم فلاقى من عنتها اليعقوبيون والنسطوريون ألواناً من العذاب والتنكيل واضطربت أمورهم في أيامها. أما المجوس فقد اكتفى العرب منهم بالجزية، فلقد قال أبو يوسف إنه (ذكر لعمر بن الخطاب رضى الله عنه قوم يعبدون النار ليسوا يهودا ولا نصارى ولا أهل كتاب (يعني المجوس) فقال عمر ما أدري ما أصنع بهؤلاء؟ فقام عبد الرحمن بن عوف فقال أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) وذكر أنه (كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوي أن من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم، له ذمة الله وذمة رسوله فمن أحب ذلك من المجوس فهو

ص: 25

آمن ومن أبى فعليه الجزية)

يقول الأمير كايتاني (لقد كان الاضطراب المعنوي الذي ملأ أذهان المسيحيين يسير جنباً إلى جنب مع الفوضى السياسية في الدولة، وإذ شغلهم توالي نزول هذه الكوارث والتدهور الخلقي الذي حاق بهم من جراء هذا الصراع العنيف بين المذاهب المتنافرة الموجودة بينهم فلقد مالوا إلى هذا النمط الذهبي العجيب الذي يسهل على العقيدة الجديدة أن تتمكن فيه. ولقد كان أهل فارس - وخاصة الأجناس السامية - في نفس هذه الحال الذهنية مما جعلهم يرحَّبون بالثورة الإسلامية التي سرعان ما أزالت من طريقها فساد الماضي، وساعدها على ذلك ما امتازت به العقيدة الجديدة من بساطة خالصة، هيأت النفوس لعهد جديد فائض بالآمال وخلصت القوم من الرق). . . لقد شهد بذلك كيتاني وهو من هو في دراسته للتاريخ الإسلامي والعقلية الإسلامية

وكان دخول الإسلام بلاد فارس مؤذناً بعصر جديد من التحررالفكري، كما رأى فيه المسيحيون مخلصاً لهم - كما يقول أرنولد - من استبداد ملوك آل ساسان، ولم يركن المسلمون إلى الشدة والعنف في سبيل بث مبادئ دينهم هناك، وما كان إسلام القوم - من مجوس وصابئة ومانوية - عن طريق السيف إذ (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) وما كان الإسلام وهو دين العقل ليحاول أن يخرج عما رسمه من حدود النقاش. وحسبه أن يعرض للأمر من جميع نواحيه فلا يزال يدعمه بالحجة والبرهان الصادقين في منطق مستقيم حتى يأخذ به من اتبع العقل ولم يُكابر في الحق. وإذا كانت هناك بعثات تبشيرية فإنها لم تكن تسير على خطة دبرها البعض، وإنما هيأتها الظروف والملابسات وطبيعة الحياة كما كانت مدفوعة بإيمانها الصادق. وكان أغلب هذه الجماعات التي قامت بالتبشير في فارس والهند وبلاد آسيا الوسطى وبلاد ما وراء النهر من التجار الذين كانوا حلقة اتصال بين الوثنيين وبين الإسلام أو بين ماض مشترك ومستقبل لا يقر إلا بالوحدانية (قل هو الله أحد الله الصمد) ترفع عن الماديات (لم يلد ولم يولد) وجلَّ عن كل ما يخاله الذهن البشري القاصر عن إدراك ذاته (ولم يكن له كفواً أحد)؛ فالعامل الأساسي في تاريخ الفتوح الإسلامية كما يقول الأستاذ جب إنما هو هذا التبادل الدائم بين أهلي الأقطار المفتوحة وبين العرب

ص: 26

حسن حبشي

ص: 27

‌للأدب والتاريخ

مصطفى صادق الرافعي

1880 -

1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 30 -

(أنا لا أعبأ بالمظاهر والأغراض التي يأتي بها وينسخها يوم آخر، والقبلة التي أتجه إليها في الأدب إنما هي النفس الشرقية في دينها وفضائلها، فلا أكتب إلا ما يبعثها حية ويزيد في حياتها وسمو غايتها ويمكن لفضائلها وخصائصها في الحياة؛ ولذا لا أمس من الآداب كلها إلا نواحيها العليا، ثم إنه يخيل إليّ دائماً أني رسول لغوي بعثت للدفاع عن القرآن ولغته وبيانه. . .)

الرافعي

مقالاته للرسالة

سأحاول في هذا الفصل أن أتحدث عن كل مقالة من المقالات التي أملاها على الرافعي في الفترة التي صحبته فيها منذ بدأ العمل في الرسالة حتى صيف سنة 1935؛ وما يجهل القراء أن كل مقالة يكتبها كاتب لها ظروفها وملابساتها ودوافعها، وما يجهلون أن لكل كاتب عند كل مقالة يكتبها حالة نفسية خاصة يظهر أثرها فيما يكتبه، وإني لأعلم أن هذا التاريخ لا يتم تمامه في نفسي ولا يتأدَّى مُؤدَّاه إلى قارئه على وجهه إلا أن أثبت بعض ما أذكر من دوافع الرافعي إلى كل مقال مما أملاه عليَّ؛ وإني بهذا الفصل لأحاول جديداً في فن الترجمة؛ فما أعرف كاتباً من كتاب التراجم في العربية حفل بهذا الباب في تاريخ الأدباء، على أن له أثراً أي أثر في دراسة أدب المترجم يعين على فهمه وتصويب الحكم عليه؛ فمن ذلك كانت عنايتي بهذا الباب، وإني لأرجو أن تعينني الذاكرة على تمامه حتى أبلغ منه إلى ما أريد. . .

لم يكن بين الرافعي والزيات صلةٌ ما قبل صدور الرسالة، إلا صلة الأديب بالأديب، وما أحسبهما التقيا قبلها قط إلا في كتبهما ورسائلهما. ثم صدرت الرسالة فكانت بريد الأدباء

ص: 28

عامة إلى الأدباء عامة؛ وكانت بريد الزيات إلى الرافعي، فتعارفا وأتلفا وإن لم يلتقيا وجهاً لوجه. . . ومضت أشهُر. . .

وتصفَّحتُ الرسالة ذات مساء من صيف سنة 1933؛ فإذا فيها كلمة عن (أوراق الورد) للزيات، يجيب فيها فتاة سألته أن يرشدها إلى شيء مما كتب أدباء العربية في رسائل الحب. ومضت فترة وكتبت الفتاة (عفيفة السيد. . .) رأيها في أوراق الورد فعابتْه ونزلت به منزلة. وكان الرافعي في هذه الأثناء بعيداً عن طنطا يصطاف في (سيدي بشر)، وكان عليَّ في هذه الفترة، والرافعي بعيد عن ميدان الأدب في مصطافه، أن أجمع له كل ما يهمه أن يقرأ مما كتبت الصحف؛ فلما قرأت ما كتب الزيات وما ردَّت به الفتاة، قصصته من صحيفته وبعثت به إليه في سيدي بشر ومعه رسالة مني. . . وقرأ الرافعي ما بعثت إليه، فانتضى قلمه وكتب كلمة للرسالة يردَّ بها رأي الفتاة. وكانت كلمة قاسية لم يجدها الزيات إلا فصلاً من (على السفود) لا تقوى على لذعاته الفتاة الناعمة. . . فطوى الزيات كلمة الرافعي ونشر كلمة في الرسالة يعتذر بها إليه وإلى القراء، ويرجوه بهذه المناسبة أن يكتب للرسالة شيئاً من منثور أوراق الورد. . . ولم يجب الرافعي هذه الدعوة إلا بعد بضعة أشهر

كانت كلمة الرافعي إلى (عفيفة السيد) عن أوراق الورد هي أول ما أنشأ للرسالة من مقالاته، ولم تنتشر. ثم سعى إليه يوماً شاب من المرتزقين بمراسلة الصحف اسمه (يوسف. . .) وكان الرافعي يعطف عليه ويعينه على العيش بما يحسن إليه؛ وإذ كان الرافعي لا يملك ما يحسن إليه بالمال - والمال في يده قليل - فأنه كان يحسن إليه بما يملي عليه من رسائل الأدب، ليأخذها فيبيعها إلى بعض المجلات فيستعين بما تدفع إليه من ثمنها على حاجات الحياة، وهو ضرب من الإحسان على قدر طاقة الرافعي!

. . . جاءه هذا الشاب يسأله ويطلب منه الجواب: (لماذا لا تعالج القصة؟)

وأملى عليه الرافعي جوابه، فذهب فنشره في الرسالة بعنوان (فلسفة القصة). وكانت أول ما نشر للرافعي في الرسالة

ثم كان عيد الهجرة بعد ذلك بقليل، فطلبت الرسالة إلى الرافعي أن يكتب فصلاً للعدد الممتاز؛ فأنشأ مقالة (وحي الهجرة في نفسي)؛ وهو فصل كان يعتز به الرافعي اعتزازاً

ص: 29

كبيراً ويتمنى لو أتيحت له الفرصة ليتم الحديث عن (فلسفة) حياة محمد صلى الله عليه وسلم على هذا النهج، ليكون كتاباً بتمامه عن السيرة النبوية على نسق غير النسق الذي جرى عليه (القصَّاص) ممن كتبوا عن حياة محمد. . . ومضى شهر، وأهدى إليه الشاعر محمود أبو الوفا (ديوان الأعشاب) وكان مرجوَّاً أن يكتب عنه؛ إذ كان المقصود من طبع هذا الديوان - وطابعه غير صاحبه - أن يكون إعانة مادية لناظمه توسِّع عليه ما ضاق من دنياه. . .!

وقرأ الرافعي ديوان الأعشاب ثم. . . ثم هزَّته أريحيته إلى أن يكتب عنه، تحقيقا لرجاء الراجين فيه، وبرَّاً بصاحبه. وأبت كبرياؤه أن يكتبه مقالاً يُعَنْونه بعنوانه ويذيله باسمه؛ فدعاني إليه واصطنع حديثا بيني وبينه فأملاه عليَّ لينشر في الرسالة مذيَّلا باسمي؛ وما كان بيني وبينه حديث في شيء، ولكنها مقالة تواضعت من كبرياء فسماها حديثاً. . . وأرضى كبرياءه وعاطفته الرحيمة في وقت معا.

كان الرافعي في حرج وهو يملي عليَّ هذا الحديث؛ إذ كان يخشى أن يناقض نفسه في الرأي وهو يكتب عن هذا الشعر رعاية لصديق، ولكنه خرج من هذا الحرج بحسن احتياله، فجعل أكثر مقالة عن الشعر بمعناه العام ورأيه فيه ومذهبه منه؛ ثم خص الديوان بكلمات في خاتمة الحديث كانت هي خلاصة الرأي فيه؛ وبذلك بريء من الإسراف في المدح ومن الإيلام من النقد، وخرج من الأمرين معاً إلى تحديد معنى الشعر ووسائله وغايته. فأجاد وأفاد في باب من القول له منزلة ومقدار.

ومن كلماته في هذا الحديث:

(متى ذهبت لتحتج لزيغ الشعر من قِبَل الفلسفة، وتدفع عن ضعفه بحجة العلم، وتعتل لتصحيح فساده بالفن؛ فذلك عينه هو دليلنا نحن على أن هذا الشعر. . . لم يستوفي تركيبه، ولم يأت على طبعه، ولم يخرج في صورته؛ وما يكون الدليل على الشعر من رأى ناظمه وافتتانه به ودفاعه عنه؛ ولكن من إحساس قارئه واهتزازه له وتأثره به. . .)

ونشر هذا الحديث في الرسالة، ومضى شهر آخر. . . ثم جاء البريد ذات صباح إلى الرافعي بكتاب من الزيات، يعرض عليه أن يكون معه في تحرير الرسالة بمقالة ينشرها كل أسبوع أو كل أسبوعين، وقدر له أجرا. . . وقَبِل الرافعي، وما كان له بدٌّ من أن يقبل،

ص: 30

لبعض ما قدمت من الحديث عن شئونه الخاصة في هذه الفترة من حياته. وكانت مقالته الأولى بعد هذه الدعوة، هي مقالة (لا تجني الصحافة على الأدب ولكن على فَنِّيَّته)

وتوالت مقالات الرافعي بعد ذلك في الرسالة، فنشر في الأسبوع التالي مقالة (الإشراق الإلهي وفلسفة الإسلام) وأحسبه اختار هذا الموضوع - على انقطاع الصلة بينه وبين الموضوع السابق - احتفاء بالمولد النبوي؛ إذ كان هذا موسمه

ثم نشر (موت أم) وهي صورة حية نابضة لصبْية فقدوا أمهم وما يزال أكبرهم في الثامنة؛ وهي صورة حقيقية مرَّت أمام عينيه فانفعلت بها نفسه؛ أما هذه الأم فهي زوج صديقنا الأستاذ حسنين مخلوف، وأما هؤلاء الصِّبية فبنوها؛ اهتصرها الموت في ريعانها فمضت وخلَّفت وراءها أربعة، فبكاها الرافعي بكاء الوالد؛ وما أعلم أنه مشى في جنازة قبل جنازتها، ودفنت في مقبرة آل الرافعي بطنطا. ولما عاد الرافعي من الجنازة ليعزي الأستاذ مخلوفاً في داره، دعا بولده ليمسح على رأسه ويسرِّي عنه، فكان بين عينيه وعينيَّ الطفل حديث طويل؛ فما غادر مجلسه إلا ورأسه يفيض بشتى المعاني وقلبه يختلج بفيض غامر من الألم، وعيناه تترقرق فيهما الدموع!

وروَّح إلى داره فجلس إلى مكتبه يفكر. . . ومضى يوم ثم أرسل يدعوني إليه فأملى عليَّ (موت أم!)

وكان في الأسبوع التالي موعد امتحان الشهادة الابتدائية فكانت مقالته (حديث قطَّين) وإنها لتتحدث بنفسها عن مناسبتها. وإن فيها لشيئاً من خلق الرافعي لم يكن يعرفه إلا الخاصة من أصحابه، ذلك هو طبيعة (الرضا) بما هو كائن؛ فقد كان ذلك من ألزم صفاته له؛ فكان دائماً باسماً منبسط الوجه، يقنع نفسه في كل يوم بأنه في أسعد أيامه؛ فمن ذلك كان يحاول أن يجعل من كل ألم يناله لذةً يُشعر بها نفسه، ومن كل فادحة تنزل به خيراً يترقبه ويهيئ له. ولعل أحداً لا يعرف أن الرافعي لم يكن يرى في تلك العلة التي ذهبتْ بسمعه وما يزال غلاماً، إلا نعمةً هيأتْه لهذا النبوغ العقلي الذي أملى به في تاريخ الأدب فصلاً لم يُكتب مثُله في العربية منذ قرون! ولا شيء غير الإيمان بحكمة القدَر وقانونِ التعويض يجعل الإنسان أقوى على مكافحة أحداث الزمن فلا تأخذ منه النوازل بقدر ما تعطيه. . . وذلك بعض إيمان الرافعي!

ص: 31

هذا الخلُق هو المحور الذي كان يدور حوله الحديث الذي اصطنعه الرافعي على لسان القِطَّين؛ وهو الذي حمله من بعد على إنشاء مقالتي (سمو الفقر) في العدديين التاليين من الرسالة؛ والشيء يُذكر بالشيء؛ فلولا ما جاء في امتحان الشهادة الابتدائية لذلك العام ما أنشأ الرافعي حديث قطين، ولولا ما ألهمه حديث القطين من المعاني في فلسفة الرضا ما أنشأ مقالتي سموَّ الفقر؛ ففي هذه المقالات الثلاث موضوع واحد اختلف عنوانه واتحدت غايته وكانت مناسبتُه ما قدَّمْت. . .

ثم أنشأ مقالة (أحلام في الشارع) وقصتها أنني كنت أساهر الرافعي أحياناً في قهوة (المنوس) بطنطا أو في السينما؛ فإذا ما انتهت السهرة صحبته إلى قريب من داره ثم أروح وحدي، وكنا نمر في طريقنا كل ليلة بدار (بنك مصر)، ففي ليلة ما كنا عائدين من السينما وقد انتصف الليل؛ فلما صرنا قبالة (البنك) وقف الرافعي هنيهة ليشهد منظراً استرعى انتباهه: طفل وطفلة من أبناء الشوارع نائمان على عتبة البنك، وقد توسَّدت الفتاة ذراعاً وألقت ذراعاً على أخيها. . . ووقف الرافعي ووقفْت. . . ورأى الشرطيُّ ما رأينا فأسرع إلى الطفلين. . .

وفي الغد أملى عليَّ الرافعي مقالة (أحلام في الشارع!). . . وكانت المقالة التالية (في اللهب ولا تحترق!)

وهي الممثلة الراقصة المغنية ف. . . وكانت تعمل في فرقة من الفرق التمثيلية المتنقلة بين الحواضر، حلت مع فرقتها في طنطا في صيف سنة 1934، ولسبب ما لم يذهب الرافعي إلى مصيفه في سيدي بشر هذا العام، واستغنى عن البحر والمصيف بما قد يكون في طنطا من أسباب الملذات والرياضة؛ وإن فيها لَغَناء وعوضاً. . .

وكنا ثلاثة من أصدقاء الرافعي نسمر معه كل مساء (س، ا، ع) وجلسنا حوله ذات ليلة، وكان متعبا مكدوداً يشعر بحاجته إلى لون من ألوان الرياضة يرد إليه نشاطه وانبساطه؛ قال:(أين تقترحون أن نقضي الليلة؟)

قال ا: (إن في متنزه البلدية فرقة تمثيلية، هبطت المدينة منذ أيام، وإن فيها لمغنية راقصة، أحسبها خليقةً أن توحي إليك بفصل جديد من أوراق الورد!)

فمط الرافعي شفتيه ولم يعجبه الاقتراح. وأحسب أن الصديقين اوع كانا على رغبة

ص: 32

مشتركة في هذه السهرة، فما أحسَّا رفض الرافعي حتى قال ع:(. . . ولكنها راقصة ليست كالراقصات: إنها صوَّامةٌ قوَّامة، تصوم الشهر وستة أيام بعده، وتقوم الليل إلا أقلَّه، وتصلي الخمس في مواعيد الخمس؛ وما أحسب رقصها وغنْاءها إلا تسبيحاً وعبادة. . . إنها. . .!)

مغنية وراقصة، ولكنها صوامة قوامة. . . يا عجباً وهل في الراقصات كهذه التي يصفها الصديق العابث ع؟. . . ولكن الرافعي صدَّق، وعرف الصديق طريق الإقناع إلى قلب الرافعي. واتفقنا على الرأي. . .

(هذه هي الراقصة التي أعنى. . .) هكذا قال الصديق (ع) فاشرأب الرافعي ينظر من وراء الصفوف. لقد رآها، ولكنها لم تكن أمام عينيه كما هي في أعين هؤلاء الناس. . . كانت تحت عينيه إنسانة أخرى لها طهر وقداسة واحترام. . .

هذا الصدر الناهد، وهذه الساق اللفاء، وذلك القوام الأهيف، وهاتان العينان الحالمتان، وهذا الخد الناضر، وهذه الشفة الباسمة، وذلك الشعر اللامع. . . هذه كلها سحر وفتنة، تعترك حولها شهوات الرجال، وتترامى إليها أماني الشباب؛ ولكن رجلاً واحداً بين النظارة لم يكن يبصر شيئاً من ذلك: رجلاً لم يكن أحد فيمن أعرف أضعفَ منه بازاء سحر المرأة، ولكنه الليلة شخص غير من أعرف؛ ولكن هذه الراقصة بازائه غيرها بازاء الناس. . . هي في عين الجميع (أنثى) فاتنة، ولكنها بعينيه هو قديسةٌ تستحق التبجيل والاحترام. . .

كانت على عين الجميع راقصة تغني، وكانت بعينيه عابدة تسِّبح وتصلي. . . كان الناس ينظرون إلى الراقصة وهي تفتنُّ في إغراء الرجال بالنغمة والحركة والرَّنْوَة الفاتنة، وكان الرافعي ينظر في أعماق نفسه إلى صورة أخرى رسمها من خياله فقامت حياله تريه مالا يراه الناس!

وانفض السامرون إلا قليلا تحَّلقوا حول الموائد يقرعون كأساً بكأس، ونهض الرافعي فيمن نهض. . .

ومضى يومان، ثم دعاني ليملي عليَّ مقالة (في اللهب ولا تحترق!)

ولما فرغ الرافعي من شأن هذه المقالة، دعا إليه بصديقه (ع) يستزيده من خبر هذه الياقوتة الكريمة، ويسأله الوسيلة لقائها إن كان بينهما سبب، لعل اجتماعاً بينها وبين الرافعي يفتق ذهنه عن موضوع جديد يكتبه لقراء الرسالة؛ فابتسم الصديق (ع) وقد دبر في نفسه حيلة

ص: 33

تجمع بينها وبينه؛ وهل يعجزه هو - وهو مَن هو - أن يجد وسيلة لمثل هذا اللقاء ليمضي في مَزْحَته إلى النهاية؟

وذهب (ع) يسأل عن الراقصة ويستقصي خبرها فعرف. . .

لقد فرَّت (الياقوتة) مع موسيقيَّ الفرقة، ومضى زوجها في أثرهما، فانحلت الفرقة وغادرت المدينة

وجاء النبأ إلى الرافعي؛ فما عرف إلا من بَعد أنها كانت مزحة من الصديق ع فأسرَّها في نفسه. . .

وعاد الرافعي إلى المقال يقرؤه منشوراً في الرسالة وهو يضحك ويقول: (أهذا ممكن؟ أهذا مما يكون؟ أتكون في اللهب ولا تحترق؟)

فرد الصديق (ع) قائلاً: (لقد احترقت!)

وكانت كذبة، ولكنها أنشأت مقالة لم يُنشأ مثلها فيما قرأت من روائع الأدب!

(شبرا)

محمد سعيد العريان

ص: 34

‌بين العقاد والرافعي

مناقشات وشروح

للأستاذ سيد قطب

- 11 -

عتب علي كثير من الإخوان، وكثير من القراء، انشغالي في بعض الأحيان بالردود على بعض من كتبوا في الرسالة - عن الموضوع الأصيل الذي اخترت الحديث فيه، وعن شرح الآراء العامة التي أدليت بها في أدب العقاد وأدب الرافعي، وسوق الأمثلة وتقرير الحقائق

وعند هؤلاء الإخوان أن آخذ بسبيلي في الموضوع الأصيل غير ملتفت إلى شيء مما يقال - لأنه لم يقل شيء يستحق العناية به - وهذا كان رأيي الذي صرحت به مرة ومرة

وبودي لو أطعت هؤلاء الراغبين في الاستفادة، ولم ألق بالي إلى شيء مما يقال، ولكنني في الواقع أرى هناك ارتباطاً وثيقاً بين الموضوع ذاته وبين المناقشات التي تدور حوله، لا في موضوعها وقيمتها، ولكن في شكلها وبواعثها

وأفسر هذا فأقول: إن المدرسة العقادية تعني بتصحيح المقاييس الأدبية عنيتها بتصحيح المقاييس النفسية، وقد أوردت من هذا نماذج في شعر العقاد، عن (عدل الموازين. والعبوسة والبشاشة. ودرجات الفضائل. . . الخ) فإذا ما عنيت بمناقشة الأستاذ العريان، والأستاذ مظهر، أو سواهما، فإنما أوجه عنايتي إلى (كشف) العوامل النفسية التي تبعثهما على الكتابة، وإلى (فضح) الظواهر المصطنعة التي تبدو فيها الأحكام، وإلى (تشخيص) العنت و (العدالة الزائفة) في إصدارها

وهذا كله يعني المدرسة الحديثة عنايتها بالآراء الأدبية ذاتها، فما تقصد هذه المدرسة إلى تصحيح معايير الآداب والفنون، إلا وهي تعني من ذلك تصحيح الأمزجة والنفوس. وهي لا تقصد بهذا الدعوة إلى المبادئ الخلقية التي يحترمها الناس بقوة العرف والاستمرار، ولكن تريد إن تصح النفوس فتكون هذه المبادئ أثراً لتفاعلها مع الحياة، أو جزءاً من غذائها اليومي الذي يدخل في كيانها، لا أن تكون كالثوب تلبسه وتخلعه حسب المناسبات!

ص: 35

ومن هنا كشفت عن (العدالة الفريدة) التي تصف رد العقاد على الرافعي بأنه (سباب وشتائم) وتصف نقد الرافعي بأنه (منزه عن العيوب) وكان هذا الكشف بالأمثلة التي لا تدع قولاً لقائل!

ومن هنا كذلك كشفت عن (النزاهة العجيبة) في وصف الدفاع عن العقاد ومدرسته بالشذوذ ومناصرة شخص على شخص ووصف (على السفود) بأنه (مثال يحتذيه الذين يريدون أن يحرروا بالنقد عقولهم من عبادة الأشخاص) وجئت كذلك بما استطعت أن أنقله عن الرافعي من أسلوب في شتم العقاد!

وأنا أعتبر هذا جزءاً من تصحيح أساليب الأدب - باعتباره وسيلة لتصحيح النفوس - ولا أدرى أنني عدوت الموضوع الذي أتحدث فيه على هذا الاعتبار.

فأما الواقع فإنني أعجب لهذه الكثرة التي كتبت ترد عليّ دون أن تقول شيئاً في (الموضوع) مع مطالبتها لي أن أترك (الذاتية) وأتناول (الموضوعية) في أدب العقاد وأدب الرافعي!

وهاأنذا أراجع كل ما قيل. فماذا أرى؟

كل ما كتبه أنصار الرافعي، إنما هو شتائم شخصية، لسيد قطب، أكثرها في أدبه وخلقه ونفسه - وهو خارج نهائياً على الموضوع - وأقلها في تفكيره واستعداده واطلاعه - وهو قد يتصل بالموضوع - ولكن بدون دليل، إلا إشارات البكم، وتعبيرات العوام عن المسائل المبهمة في نفوسهم، التي لا يحسنون التعبير عنها ولا يقدمون الدليل.

أفيعنيكم - يا هؤلاء جميعاً - أن تشتموا كاتب هذه الكلمات؟ لئن كان الأمر هكذا فأنا معكم أعاونكم في شتمه إذا عجزتم، وأصرح لكم عنه بما يمنعكم خوف تقاليد الأخلاق - لا حياء نفوسكم - من التصريح به!

ولكن ماذا يعني هذا، وأي شيء يكون قد استوى لكم، أو للمتأدبين والقراء؟ إنه ليبقى وراء ذلك آراء أبديت في أدب الرجلين وأمثلة قدمت لهذه الآراء، وشروح تضمنت بعض النظريات في الأدب وفي الحياة؟ وكل هذا قد بقى سليما كما هو، لم تتناوله ردودكم ومناقشاتكم، لأن شتيمة كاتب معين شغلتكم عن كل ما عداه من الآراء والأمثال!

ولقد أظهرت هذه المعركة أنكم تمضون في الشتائم والتهم فينفسح لكم المجال، حتى إذا

ص: 36

قاربتم (الموضوع) وأردتم مناقشة الأمثلة، ظهر العجز الفاضح والقصور في الفهم والاطلاع. ليست كلمات الأستاذ (الطنطاوي) ببعيدة، وقد عجبت لاستطاعة الأستاذ (عبد الوهاب الأمين) أن يصبر على مناقشتها كما عجبت لصبر الأستاذ (كامل نصيف) في الرد عليها، في حين لم أجدني مستطيعا - على فرط المحاولة - أن أنظر إليها كشيء يستحق الالتفات!

وكيف يمكن أن تلتفت مثلا لرجل يكاد يفهم من قول العقاد عن الجيبون (يا عميد الفنون) أننا سنأتي غدا بقرد نجعله عميد (كلية الآداب) أو (الفنون الجميلة) فيفرَق لهذا الحدث الخارق من المجددين!. ثم ينتفض ذعرا من قوله (يا أبا العبقري والبهلوان) ويسأل الله السلامة من هذا (الاعتراف) الذي هو لحسن الحظ (حجة قاصرة)!

أو كيف يمكن أن تصبر على مناقشة رجل، يحلف لك بالطلاق أن كلمة (الجيبون) لا تدخل في شعر عربي، أو يستحلف سواه، ويفتي له بعدم طلاق امرأته! ويكون الحكم طبعا هو (مأذون الشرع) في قيمة الآداب!

وليته مع ذلك ابتكرها، فإنما هي بعينها قولة الرافعي في (على السفود) عن بعض الألفاظ في قصائد العقاد!

ووددت لو يحلف الأستاذ على هذا، فأفرق غداً بينه وبين زوجه - أن كان متزوجاً - لأن (ابن الرومي) وحده وهو شاعر عربي ذكر من مثل هذه الألفاظ العشرات في ألوان الطعام وأسماء الفواكه والخمر. كما ورد في أدب غيره!!

وبعد هذا تجد من يكتب فيقول لك: لم لا تناقش هذا الكلام؟ أناقشه؟ أكل من لاقاك في الطريق فقال كلاماً - أي كلام - تقف لتناقشه؟

على أنني وددت لو خفت حدة المناقشات، ولو عاد إليها هدوءها الذي بدأتها به في الكلمة الأولى. وهاأنذا أحاول الاهتمام ببعض مالا يصح الاهتمام به من الأقوال، وتناسي ما فيها من تعالم وتحفز، أو تفاهة وضآلة. ولعلني مفلح في تحويل هؤلاء الناس - كلهم - إلى معالجة الموضوع

وأبدأ بكلمة الأستاذ (رفيق اللبابيدي) وقد مهد لها بدالَّة الصداقة والزمالة، وساقها مساق من يورد رأيه - وليكن ما يكون - مما يشفع في تناولها بالتمحيص

ص: 37

أول ما يراه أنني لم أقرأ كتب العقاد - على مذهبي من ضرورة الثقافات المختلفة لقراءتها - ولم أقرأ كذلك كتب الرافعي كلها

فأما العقاد، فقد قلت: إنني فهمته بمقدار استعدادي واطلاعي، وإنني سأرتقي في فهمه كلما زدت ثقافة واتسعت جوانب نفسي. فكان تفسيري له في هذه الحدود الضيقة بالنسبة له، الواسعة جد اتساع، بالنسبة لمن ينصبون أنفسهم نقاداً له، فيخرجونه من عالم الشعراء، بل الأدباء، وهم جالسون في راحة غبية، و (طمطمة) بليدة!

وأما الرافعي فقد قرأت له معظم ما كتب، فلم أر في شيء منه دلائل على أن هناك استعداداً، لأن يخرج هذه الطبيعة شيئاً مما أطلبه، يحفزني لقراءة الباقي، على الأمل في وجود ذخيرة نفسية. وقد عنيت أن أقرأ له الكتب والمقالات، التي تفيض النفس الإنسانية فيها بالشعور الخاص - عادة - فإذا لم يكن في هذا المجال صاحب ذخيرة، فما هو بصاحب ذخيرة على الإطلاق

أما الأمثلة التي سقتها، فليست منتقاة على اعتبار أنها (مما يوقع فيه) ولكن لأنها أدل على تصوير طبيعة خاصة، ناضبة من الذخيرة الإنسانية، ومن دفعة الحياة والعقيدة (العقيدة في الأدب والحياة لا في القاموس!)

ولي رأي في الأمثلة لا بأس من إيراده هنا. فالأديب قد يخطئ وقد يهبط في كثير من المواضع، ولكنه يبقى بعد أديباً لا تسلبه أخطاؤه ولا يسلبه ضعفه، صفة (الإنسانية) في أدبه (لا الإنسانية التي تقابل الحيوانية في تكوينه كما فهم بعض من يفهمون!) ولا تسلبه صفة (الطبيعة الفنية) وقد يخطئ أديب آخر مرة واحدة، فتسلبه هذه المرة كل الصفات

ومرجع ذلك هو (نوع) الغلطة ومقدار دلالتها على فهم الرجل للحياة، وعلى نوع إحساسه بها. كالرجل الذي يحدثك عن زيارته لمدينة القاهرة، فيترك كثيراً مما فيها من المشاهدات ويخطئ في وصف الكثير، ولا يدل ذلك على كذبه في وقوع الزيارة؛ ولكنه لو قال مثلاً:(إنه كان من المشاهد التي رآها أسد يخترق الشوارع والطرقات) لحكمت من فورك بأنه كاذب في دعواه، وهي مع هذا غلطة واحدة لا غلطات!

فحين يقول الرافعي: إن الحبيبة لا تتعلق بقلب حبيبها بعد انتهاء الحب إلا بخيطين اثنين هما غيظها له، وغيظه لها. . . يدل على أنه لم يحس الحب يوماً ما، ولم يحسن ملاحظته

ص: 38

في غيره، بل لم يكن ذا طبيعة قابلة للحب، ولا مستعدة لتلقي دفعاته وانفساحه ولو كتب بعد ذلك عن الحب ألف كتاب

وحين يقول ما يفهم منه أنه يرى النهر الذي حافتاه من الذهب والفضة ومجراه من الدر واليواقيت، أجمل من النهر الذي حافتاه من العشب الأخضر، ومجراه من المدر والطين. . . يدل على أنه لم يحس الإحساس بجمال (الطبيعة)، بل على أنه لم يوهب الطبيعة التي تحس هذا الجمال

وهكذا كل مثال جئت به لمثل هذه الغاية، فهي غلطات:(الأسد الذي يخترق شوارع القاهرة) لا غلطات النسيان والضعف الطارئ، والخطأ العارض في التعبير، ولعل في هذا البيان كفاية

ولعل القسوة التي يتخيلها الأستاذ، ليست في الحكم الذي أصدرته؛ ولكنها في وضع الرافعي مقابلا للعقاد، والجمع بينهما في عنوان؛ فمن هنا بدأت مطالبة الرافعي بأدب الطبع، وأدب النفس، لأن المقابل له فياض بهذا النوع، مبرز فيه، بل هو ميزته ورمز فنه. وقد كان من جراء مطالبة الرافعي بهذا اللون الرفيع من الفن الأدبي، ظهور خوائه، وإنكار أدبه (إذ كان المطلوب نوعاً خاصاً منه يعلو على مجرد الأسلوب المتمايل، والجمل المنقوشة). فهذه هي القسوة. ومتى أعفينا الرافعي من أدب النفس والطبع، فقد نجده بعد ذلك شيئاً في التعبير، في الأخذ بطريق خاصة في هذا التعبير، ولكن ما قيمة ذلك في عالم الطبائع الفنية، وفي معرض التعبير عن النفس وتمثيل الحياة؟

ثم يسألني رأيي في أبيات اقتطعها من قصيدة للعقاد، وشعر العقاد وحدة لا بد من عرضها كاملة - ومع هذا فأي شيء؟ لعله يريد أن يقول: ها هو ذا العقاد يشبه الحسن بالجوهرة، ويذكر اللآلئ كما ذكرها الرافعي!

وهذه ملاحظة شكلية، فما قلت: إن كل من ذكر هذه الألفاظ يكون خواء من تقدير الجمال الروحي، ولكن الذي يقول كما قال الرافعي، ويبدئ ويعيد، ويراها أجمل من الطبيعة كما قال عن (النهر). . . يكون كذلك

فأما حين نقول: إن الحسن جوهرة، ثم لا يكمل البيت حتى نقول:(لها الثراء)(ثراء النفس أثمان) وحين نقول: إن هذا الحسن يناله من لا يعرف قيمته، ويحرمه الخبير بجماله

ص: 39

وسحره وطبيعته، كالجوهرة التي يحرمها اللآل ويقنو نفيسها من لا يسومها. . . الخ

حين نقول مثل هذا فنحن في صميم الشعور الروحي. والجوهرة واللآل هنا أدوات للتشبيه، وليست مقصودة لذاتها، ولا مغالي في قيمتها. (وثراء النفس) هو الملتفت إليه، والمقدر ثمنا لهذا الحسن الفريد

أما إنكار الأخ لشاعرية العقاد فليس لي فيه كلام. ووددت - والله - لو أنني أملك طبيعة فنية أخرى، أهبها للزميل. ولكني آسف معذور. وكذلك قولي في الحديث عن (الجيبون)!

أما أسئلة (ع. . . دمشق) فوددت لو خلت من هذا (الجفاف الناشز) في آخرها. ومع هذا فسأغض الطرف عنه، وأعتبرها أسئلة لمستفهم لا متعالم!

فمن السؤال الأول: أذكر أن في الأشياء حياة نابضة في ضمائرها، وهي أعمق وأولى بعناية الفنان من الحياة الظاهرة على سطوحها ولو اتصلتْ بها - فحياة الزهر الظاهرة تبدو في لونها ورائحتها وطراءتها. . . الخ. أما الحياة النابضة في ضميرها فهي المتصلة بتعبير الحياة المعنيَّ في هذه الزهرة، وقصد الطبيعة من إنشائها. وهي الحياة التي تستمد من نهر الحياة الكبير الجاري منذ بدء الخليقة إلى نهايتها، المتدافعة أمواجه في كل حي وجد أو سيوجد. وهي الحياة التي تكون حلقة في سلسلة الحياة الكبرى المتطورة من الخلية الواحدة إلى الإنسان. وهذا الالتفات الأخير هو الالتفات الفني لنظرية دارون، الصالح لأن يتناوله الفن والأدب، لأنه يتناول الحياة في معرض أطوارها ونماذجها المعَّبرة

وعن السؤال الثاني: أذكر أن السائل أخطأ في إرجاع الضمائر إلى ما تعود عليه في الجملة. فنشأ هذا اللبس، فأنا لم أقصد أن الحياة الظاهرة على سطوح الأشياء - غير أشكال (الحياة) وصورها. إنما أردت أنها غير أشكال (الأشياء) وصورها فلا داعي للسؤال. أما أن العناية بالحياة في الضمير والحياة في الظاهر أولى بالتفات الفنان من صور الأشياء وأشكالها، فهذا حق. والذي يقول:

وكأن محمر الشقي

ق إذا تصوب أو تصعد

أعلام ياقوت نشر

ن على رماح من زبرجد

لا يرى غير أشكال الأشياء وصورها، ولا يعني بحياة الشقيق في سطوحها ولا في أعماقها، فيكون قوله تافهاً وإن سومه عشاق التشبيهات النفيسة بسعر كبير!

ص: 40

وعن السؤال الثالث: أذكر أن الخوالج النفسية والصور الذهنية، وأدب الذهن، وأدب الطبع، تدل على ألوان من الأدب تكاد الآن تكون قد أخذت وضوح دلالة (العلم) على المسمى. وقد ضربت لها أمثلة - مع هذا - فمن لم يكن قد سمع شيئاً عن هذه الألوان من الأدب، ولم يكن قد أمكنه الانتفاع بالأمثلة التي سقتها، فليقرأ، ولينتظر حتى تنضج في نفسه هذه المعاني

أما السؤال الرابع فلا معنى له بعد ما قلت عن أسلوب العقاد ما قلت، وبعد ما وعدت بالإفاضة عن هذا الأسلوب. فليقرأ السائل كلماتي كاملة. وليراجع كلمة الأستاذ عبد الوهاب الأمين فهمي مفصحة عن هذه الناحية

وأما ملاحظة الفاضل (علي كمال. فلسطين) فنصفها في موضعه؛ وقد نشأ هذا من اضطراب في ترتيب بعض الجمل! وكثيراً ما يقع مثل هذا فنكتفي بفطنة القارئ. ولكن مع هذا بقي التناقض بين قول شوبنهور وتلخيص الرافعي واضحاً

فالرافعي يقول: (فإن محصل كلام هذا الفيلسوف أن ما تراه بسبب من إرادتك وغرضك وشهواتك، فجماله فيك أنت لا فيه لأنه في هذه الحالة صورة الاستجابة إلى ما فيك، فلو لم يكن معك أنت هذا الغرض، لم يكن معه هو ما خيَّل لك من الجمال. فهو على الحقيقة (باعتبار الفكرة المجردة لا جمال فيه)

وأول هذا الكلام لا صلة بينه وبين شوبنهور، ولا علاقة في منزع ولا اتجاه، وإنما هو رأي آخر في تعليل الجمال يعتبر رخيصاً جداً إذا قيس مستواه بمستى تفكير شوبنهور في رأيه وآخر هذا الكلام مناقض تماماً لرأي الفيلسوف (راجع ما بين القوسين الكبيرتين على كلام شوبنهور)

وبينما هو يقول - عن شوبنهور خطأ -: (فهو على الحقيقة باعتبار الفكرة المجردة لا جمال فيه) - وهو عكس رأي شوبنهور - يعود فيقول: (فالنتيجة من ذلك أن الأشياء تحزننا كلما ابتعدت من عالم الفكرة واقتربت من عالم الإرادة، وأنها تفرحنا كلما ابتعدت من عالم الإرادة واقتربت من عالم الفكرة) وهذا عكس ما نسبه الرافعي أولاً لشوبنهور، وإن كان حقيقته هو رأي الفيلسوف المسكين!

الشيء باعتبار الفكرة المجردة جميل في رأي الفيلسوف الصحيح. والشيء باعتبار الفكرة

ص: 41

المجردة لا جمال فيه، في الرأي الذي ينسبه الرافعي إليه. وهذا هو سوء الفهم والتخليط

وعلى كل فأنا شاكر لحضرة الأديب ملاحظته

أما الأستاذ سعيد العريان، فقد شغلنا عنه وعن كلامه الطويل بما هو لائق أن نتحدث فيه، فمعذرة يا أستاذ سعيد!

(حلوان)

سيد قطب

ص: 42

‌حول أدب الرافعي

بين القديم والجديد

للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

- 2 -

كتب سيد قطب مقالات عدة يجرح فيها الرافعي وأدبه. وسيد قطب ليس من تلاميذ الرافعي ولا يبلغ أن يكونه، فما أظنه ولد إلا بعد أن ولدت مسألة القديم والجديد، وعمرها كما نبهنا في الكلمة السابقة لا يزيد على ثلاثين عاماً، وإذن فعمره من يوم ولد إلى يوم كتب لا يمكن أن يبلغ عمر أدب الرافعي الذي بدأ يقول الشعر الجيد على رأس التسعمائة كما يدل عليه ما نشرت الرسالة من نماذج شعره في ذلك العهد (أنظر مثلا العددين 213و214 من الرسالة)، وإذا كان عمر أدب الرافعي رحمة الله عليه أكبر من عمر صاحب تلك المقالات فقد كان المعقول أن يكتب عن الرافعي وأدبه بغير تلك اللهجة وبغير ذلك القلم لولا أننا في عصر انتقال من أسوأ سيئاته تمرد الشباب على النظم ولو كانت فاضلة، وتطاول الصغير على الكبير في الإشارة والعبارة إذا كان بينهما خلاف

ونحن إذ نقول هذا لا نأخذ على صاحب تلك المقالات أن يكون له في الرافعي رأي يخالف رأي جمهرة الأدباء، ولكن نأخذ عليه ما أخذه غيرنا من طريقة إبداء هذا الرأي. فلو كان ندا للرافعي لما حسن فيما يبدي من رأي إلا أن يكون مهذب اللفظ مؤدب القلم، فكيف وهو ليس للرافعي بند ولا لبعض تلاميذ الرافعي؟ إن الأديب من غير شك يستطيع أن يعرب عن رأيه في مقام كهذا من غير خروج على أدب القول ومن غير أن يزيد الطين بلة بالتماسه إلى هذا الخروج العلل والمعاذير

على أن إسراف تلك المقالات فيما ذهبت إليه من سوء الرأي في الرافعي وأدبه لا يشك فيه أحد ممن له شيء من الاتزان في التفكير. فلو غير صاحب تلك المقالات خطر له في الرافعي مثل هذا الرأي المسرف من أن ليس للرلفعي إنسانية ولا طبع ولا نفس ولا قلب ولا ذوق ولا ذهن ولا حياة إلى آخر ما شاءت له بغضاؤه أن ينفي عن الرافعي - لو غيره خطر له هذا في الرافعي لوقف من هذا الخاطر موقف المتهم المتشكك على أقل تقدير، إذ

ص: 43

غير معقول أن يبلغ الرافعي رحمه الله ما بلغ من حسن السمعة وبعد الصيت في عالم الأدب العربي ثم لا يكون له من كل تلك الصفات حظ يفسر ما نال من صيت حسن وتقدير كبير عند جمهرة الأدباء رغم بعض العيوب البادية في بعض ما كتب من مثل (على السفود) ورغم ما في بعض كتاباته من صعوبة أو غموض. فالرافعي نال ما نال من حظوة ومكانة في عالم الأدب العربي رغم هذه العيوب، ثم نال ذلك غير مؤيد بمال ولا جاه ولا سياسة، وهذا معناه عند الناقد المتزن أن أدب الرافعي لابد عند التصفية أن تبقى منه بقية. كبيرة صالحة تكفي لتمجيده إن لم تكف لتخليده. وإذن يكون عمل النقد الأدبي أن يميز تلك البقية ويُجليها للناس تراثاً طيباً يضم إلى ما خلفت القرون من التراث العربي الأدبي الطيب. لكن مثل هذا الناقد يحتاج من قوة العقل، وسعة الاطلاع، ومحبة الحق والخير، ومجانبة العصبية والهوى، إلى ما لا تنبئ عنه تلك المقالات

إن أظهر ما تنبئ عنه تلك المقالات أنها نتاج العاطفة قبل أن تكون نتاج العقل. فالعاطفة الجامحة أوحت بكتابتها، والعاطفة الجامحة لونت الوقائع لقل صاحبها حين سخرته لحياكة ذلك النقد طبق وحيها. ومدار هذه العاطفة هو حب العقاد وبغض الرافعي: حب العقاد حب مفتون، وبغض الرافعي بغض مجنون. فلا مدح أكبر من أن يفيضه على العقاد، ولا ذم أوضع من أن يكيله للرافعي، وكأنه يعتذر في الحالين من التقصير. ولا عليه في حب العقاد أو غير العقاد أسرف في الحب أو اقتصد، بل لا عليه في بغض الرافعي أو غير الرافعي ما بقى بغضه سلبي الأثر؛ أما إذا حركه الحب أو البغض إلى العدوان على من يبغض في سبيل من يحب، فعندئذ تبدأ تبعته، وعندئذ تجب مراقبته ثم محاسبته على ما يكتب أو يقول خصوصاً إذا أراد أن يستتر بالنقد مبالغة في الكيد أو احتماء من القانون

لو كان للنقد الأدبي في مصر أو في العالم العربي قوامون يغارون عليه ويرعونه لتهيب اقتحامه من لا يحسنه، ولما أقدم على نقد مثل الرافعي من لا يعرف أو لا يراعي أوليات النقد. إن من أبسط أوليات النقد الإحاطة بالموضوع. وصاحبنا الذي لا يعجبه مذهب الأقدمين في النقد، ويريد أن يشق للناس طريقا جديدا، يقدم على نقد الرافعي فيما زعم من غير أن يحيط بأدب الرافعي أو يحاول أن يحيط به. وهو فيما يظهر لا يحس أنه اقترف بهذا جرما لأنه يعترف به في غير اعتذار ولا حياء. يقول في مقاله الثالث إنه كتب كلمته

ص: 44

الأولى على صدى مطالعته القديمة للرافعي، وكتب كلمته الثانية وليس بين يديه إلا وحي الأربعين. ثم ذهب إلى رسائل الأحزان يتلمس الأمثلة توضيحا لرأيه فاصطدم بالرافعي كما يقول من جديد؛ وعلى وقع هذا الاصطدام كتب عن الرافعي ثم كتب حتى أبلغ كلماته إلى ثمان. فعمدته في تقدير الرافعي على الأخص شيئان: صدى مطالعاته القديمة، ورسائل الأحزان. وصدى مطالعاته القديمة هو كما يقول (صدى غامض يدل على الجملة ولا يمد الناقد بالتفصيل). ومطالعاته القديمة لا تعدو (حديث القمر) وما كان يكره نفسه على قراءته بعد (حديث القمر). و (حديث القمر) كما أخبر في كلمته الأولى كان أول ما قرأ للرافعي وقد أحس بعده ببغض الرافعي بغضا جعله لا يقرأ للرافعي إلا كارها، فتزداد كراهيته بما يقرأه من غير أن يعرف لذلك تعليلا كما يقول. فصدى هذه المطالعات كان من غير شك صدى بغضاء وكراهية، ومع ذلك فقد ظفر الرافعي من صاحبنا في مقاله الأول بنصيب يكاد يعدل نصيب العقاد حين أراد صاحبنا أن يقسم المزايا الأدبية بين الاثنين. فالعقاد أديب الطبع، والرافعي أديب الذهن. (العقاد أديب الطبع القوي والفطرة السليمة، والرافعي أديب الذهن الوضاء والذكاء اللماع. والعقاد متفتح النفس ريان القلب، والرافعي مغلق من هذه الناحية متفتح العقل وحده للفتات والومضات) هكذا حكم سيد قطب بين الأديبين الكبيرين، وحكم لنفسه ضمنا بشيء كثير حين نصب نفسه حكما بينهما. وإذا تذكر أنصار الرافعي أن هذا الحكم فيما يتعلق بصاحبهم هو صدى غامض لمطالعات قديمة محفوفة بالكراهية والبغضاء كان لهم حقا أن يغتبطوا به. ولا عليهم من (مغلق)(ومتفتح العقل وحده للفتات والومضات) فان الحكم لا يعطي العقاد شيئا من التفتح العقلي ولو للفتات والومضات. فهو سوى بين الاثنين تسوية تكاد تكون تامة، أو بالأحرى جعل المزايا الأدبية قسمة بينهما على سواء تقريبا: أخرج العقاد من دائرة الذهن والعقل، كما أخرج الرافعي من دائرة النفس والقلب، وخص أحدهما بما نفى عن الآخر. فإذا شك أنصار العقاد في أن هذا مفهوم حكم صاحبهم على صاحبه ومنطوقه فليقرءوا مقدمة الحكم إذا شاءوا:

(وبعد فما كان يمكن أن يتفق العقاد والرافعي في شيء! فلكل منهما نهج لا يلتقي مع الآخر في شيء)

فهل لا يزال أنصار العقاد بعد هذا على شك من مفهوم حكم صاحبهم؟ إنهم ليس لهم أن

ص: 45

يشكوا بعد هذه المقدمة، إذ لو كان العقاد يشرك الرافعي في أدب الذهن لاتفق الاثنان في شيء، والتقى الأدبان على شيء! أما وهما لا يتفقان ولا يلتقيان في شيء في حكم هذا الحكم المجدد، فما أثبته للرافعي من أدب الذهن الوضاء والذكاء اللماع لا بد أن يكون نفاه عن العقاد إن كان يعرف ما المنطق وما التفكير. ليس عن ذلك محيص

لكن لا عليهم هم أيضاً من حكم صاحبهم فانه لا يعني ما يقول ولا ينظر في أعقاب الكلام ونتائج المقدمات. هو حسن النية يلقي الكلام دفاعاً عن صاحبه كما ألقت الدبة ذلك الحجر المعروف

على أنه كان لحكمه هذا قيمة فقد عاد فنقضه في مقاله الثالث. نقضه بالنسبة للرافعي من غير أن يصلحه بالنسبة للعقاد. ولو خطر بباله أن حكمه ينتج غير ما يريد بالنسبة لمن يحب لأصلحه، ولكن ذلك يخطر بباله فاكتفى بأن نفى عن الرافعي الدائرة التي كان أثبتها له، دائرة أدب الذهن، وترك العقاد في الدائرة التي كان أثبتها له، دائرة أدب القلب، من غير أن يثبت له الدائرة الأخرى التي كان قد نفى عنه. وليس لرجوعه عن حكمه للرافعي داع إلا أنه فيما زعم ذهب يتلمس في (رسائل الأحزان) الأمثلة التي تفصل مجمل ما دل عليه الصدى الغامض لمطالعاته الرافعية السابقة، فاصطدم بالرافعي (واختلف الصدى الغامض القديم عن الصوت الواضح الجديد) كما يقول. فهو حين ذهب إلى (رسائل الأحزان) لم يذهب ليستوثق من صحة دلالة الصدى القديم التي بنى عليها حكمه الأول، لأنه لم يكن يخالطه في صحتها شك، إذ (ما من شك أن الرافعي كان ذكيَّا قوي الذهن) كما يؤكد في كلمته الأولى حين كان يلتمس أن ينفي أن يكون أدب الرافعي أدب طبع عن طريق تبيين أنه (كثيراً ما يختلط أدب الذهن وأدب الطبع إذا كان مع ذكاء وقوة). لم يذهب إلى رسائل الأحزان إذن ليستوثق من صحة تلك الدلالة أو ذلك الحكم ولكن ليؤيدهما ويفصلهما بأمثلة. فلما اختلف الصوتان وتعارضت الدلالتان مال عن الدلالة القديمة الغامضة إلى الدلالة الجديدة الواضحة؛ وهو يظن أن هذا كاف للرجوع عن حكم حكمه ورأى أرتاه، ولا يرى في ذلك شيئاً من سطحية الحكم والنظر التي كثيراً ما يرمي بها خصومه من غيره مبرر. لكن النظر السطحي وحده هو الذي يبرر الرجوع عن ذلك الحكم بمثل هذه السهولة لمثل هذا السبب. إن الغموض الذي وصف به صدى مطالعاته القديمة قد

ص: 46

فسره هو وحده بأنه عدم إمداد الناقد بالتفصيل. فذلك الصدى إذن صحيح في جملته وإن لم يكن واضحاً في تفاصيله. والتفكير الصحيح كان يقضي ويتطلب أن يتفق الصديان أو الصوتان في الجملة إن كانا مما يبني عليهما حكم، فإن اختلفا لم يمكن بناء حكم على أيهما حتى يتبين وجه الحق فيهما ببينات جديدة. وكان المنتظر ممن جشم نفسه دراسة المباحث النفسية الجديدة ومباحث علم الأحياء ومباحث الضوء في الطبيعة إلى آخر ما حدث عن نفسه في مقالة السادس أنه قد درسه كي يرقى إلى محاولة استيعاب العقاد - كان المنتظر من مثل هذا أن يكون قد انتفع أيضاً بتلك الدراسات العلمية إلى حد الرقي إلى تذوق الروح العلمية وتفهم الطريقة العلمية في النظر، فهذا أنفع له وأجدى عليه من كل ما عرف من مفردات الوقائع والحقائق والنظريات. فلو كان رقي إلى الروح أو الطريقة العلمية في النظر والاستدلال، ووجد في البحث الذي كان بصدده أن رسائل الأحزان تخالف في دلالتها حديث القمر، وما تبعه من مطالعات للرافعي وأن قلَّت، إذن لوقف موقف العالم الذي يجد نفسه حيال فرضين كل منهما يفسر شطراً من الوقائع التي لديه من غير أن يفسر الشطر الآخر، فينبذ الفرضين جميعاً ويسعى للوصول إلى فرض جديد يفسر الوقائع جميعاً. فإن كانت الوقائع قليلة، كما هي في حالة صاحبنا حين أراد أن يحكم على الرافعي من كتابين اثنين - سعى العالم إلى تكثير الحقائق قبل أن يطمئن إلى فرض يفسرها، كما كان يجب على صاحبنا أن يقرأ كل ما كتب الرافعي قبل أن يطمئن إلى حكم يحكمه، لا أن يقرأ كتابين على فترة طويلة من الزمن حتى إذا اختلف صداهما عنده حكم لأحدهما على الثاني من غير قرينة ولا مرجح. وإذا كان الرأي الذي حكم له أقرب إلى ميله واتجاه عاطفته - كما هو الواقع - لم يبق شك في أن صاحبنا الناقد المجدد مسير بعاطفته لا بعقله: يتبع العقل ما اتفق وعاطفته، فإذا اختلفا ترك عقله واتبع هواه

ومن عجيب أمر كاتبنا الناقد أنه أصدر في أمر الرافعي أحكاماً ثلاثة في كلمتيه الأولى والثالثة من غيره أن يكون لأحد هذه الأحكام أساس معقول. قرأ حديث القمر وما إليه فازداد كراهية لذلك اللون من الأدب من غير أن يجد لذلك تعليلا، غير أنه كان يزعم لإخوانه أن الرافعي خواء من (النفس) وأن ذلك سبب كراهيته له. هذا حكمه الأول أبداه على تردد وكأنه يعتذر منه فكان بذلك أقرب إلى المعقول

ص: 47

ثم كتب صديق الرافعي الحميم فصوله الممتعة في تاريخ الرافعي وضمنها تاريخ حب الرافعي في الأعداد 226 إلى 232 من الرسالة بدأها أول نوفمبر وانتهى منها حوالي منتصف ديسمبر سنة 1937 فاغتبط ناقدنا كما يقول لأنه وجد للرافعي حبا له مظاهر وخطوات وأخذ يعلل اغتباطه ذلك بقوله: (إن خيالي المنبعث من قراءة الرافعي لم يكن يطوع لي أن ألمح إمكان وجود هذه العاطفة في حياته، فالحب يتطلب قلباً وكنت أزعم أن ليس للرجل قلب، والحب يقتضي (إنسانية) وكنت أفتقدها فيه). حسن. ها هو ذا قد عرف أن خياله المنبعث من قراءته الرافعي كان مخطئاً، فهل تراه غير رأيه في الرافعي وأثبت له ما كان ينفيه عنه من قبل من أخص خصائص الإنسان بله الأديب؟. لا. واسمع له يتم لك بقية حديثه فانه حديث عجب:

(لقد ظللت هكذا) - أي قاسياً على الرافعي ينفي الإنسانية والقلب عنه - (حتى استطعت أن أكون ناقداً لا يكتفي بالتذوق والاستحسان والاستهجان ولكن يعلل ما يحس ويحلله فماذا كانت النتيجة؟ لقد عدلت حكمي قليلاً، وخفت حدته ولم أعد أستشعر البغض والكراهية للرجل وأدبه ولكن بقي الأساس سليما

كنت أنكر عليه (الإنسانية) فأصبحت أنكر عليه (الطبع)؛ وكنت لا أجد عنده (الأدب الفني) فأصبحت لا أجد عنده (الأدب النفسي)

كلام مرصوص قد ينخدع به مثل كاتبه، إن جاز على أصحاب (الأدب النفسي) فلا يجوز على أصحاب (الأدب الذهني) تأمل هذا الكلام قليلا، تأمل أوله ثم تأمل آخره. لقد ظل ينكر على الرافعي الإنسانية والقلب حتى أصبح ناقداً يعلل ويحلل. وقد رأيت من كلامه قبل ذلك أنه كان على هذا الإنكار حتى حدثه العريان بحديث حب الرافعي في أواخر سنة 37. إذن فاستطاعته أن يكون ناقداً لا يمكن أن تكون سبقت هذا التاريخ، وإن حدثنا في مقاله الخامس عن محاضرة له في وحي الأربعين ألقاها سنة 34. فتلك المحاضرة إذن كتبها قبل أن يستطيع نقداً أو تعليلاً أو تحليلاً إن كان يعني كلامه السابق، ويكون كلامه السابق هدما لما في تلك المحاضرة من نقد وتحليل يحيل عليه في مقاله الخامس. أما إذا كان لا يعني كلامه السابق وكانت محاضرته تلك تحتوي على نقد نفيس فان هناك تفسيراً واحداً لهذا التناقض هو أن صاحبنا الكاتب الأديب لا يحسن التعبير عما يريد باللغة التي هو أخصائي

ص: 48

فيها

عد عن هذا وسلم له استطاعته النقد حين قرأ حديث حب الرافعي، بصرف النظر عن مبدأ هذه الاستطاعة؛ وانظر في النتيجة التي رتبها عليها. لقد عدل حكمه قليلاً. لماذا هذا التعديل القليل أو الكثير؟ وما علاقته باستطاعة صاحبه النقد والتعليل والتحليل؟ إنه لم يقرأ للرافعي شيئاً جديدا ينقده، ولم يرجع إلى ما قرأ قديما فيعيد قرأته ليحلله أثره في نفسه. إن المقروء القديم هو: حديث القمر وأكره نفسه عليه. ولو كان قرأه ثانيا من جديد ما كان صداه ذلك الصدى الغامض الذي يدل على الجملة ولا يمد بالتفصيل. إذن فماذا نقد وماذا حلل ولماذا عدَّل؟ هل نستطيع لهذا جوابا؟ هل يستطيع هو لهذا جوابا لا مراوغة فيه ولا (لعب على حبل)؟ إن أحاديث العريان عن حب الرافعي يجب أن تؤخذ كلها أو تترك كلها لأنها من قبيل الأخبار. فان أخذت كلها لزم الكاتب الناقد إثبات (الإنسانية) و (القلب) للرافعي من غير قيد ولا شرط. وإن تركت كلها لزمه الوقوف عند رأيه الأول من غير تعديل كثير أو قليل. فلماذا إذن ذلك التعديل القليل وما علاقته باستطاعة صاحب المقلات النقد والتعليل والتحليل؟ أم هي كلمات ترص ليس تحتها معنى مقصود محدود؟ أم هي العاطفة تسير صاحبها في حكمه وإن قام على خطئها الدليل؟

على أننا سنغض الطرف عن هذا كله ونفرض أن استطاعته النقد مكنته بطريقة ما من تعديل الحكم تعديلا قليلا. فهل تراه عدله تعديلا ما! لقد كان يزعم قبل أن يعرف للرافعي حبا أن الرافعي خواء من (النفس) والآن وقد عرف للرافعي حبا كثيرا أصبح لا يجد عند الرافعي (الأدب النفسي) بعد إن كان لا يجد عنده (الأدب الفني)! أتجد فرقا بين خلو الرافعي من (النفس) وخلو أدبه من (الأدب النفسي) الذي لا يصدر إلا عن (نفس) على حد تعبيره؟ ما نرى صاحبنا إلا وقد سلب الرافعي باليمين ذلك القليل الذي أعطاه بالشمال، وقد صرح بهذا السلب في صدر مقاله الثالث وإن زعم في مقاله الأول أنه اغتبط لما حدثه به العريان من حديث حب عدَّل حكمه من أجله بعض التعديل.

بقيت واقعة صغرى ليست بذات بال في نفسها وإن كان لها دلالتها النفسية على تعبير صاحب تلك المقالات. إنه حين أحس بالغضاضة في التراجع عن حكمه الأول بين الرافعي والعقاد إلى حكمه الأخير الذي بناه على رسائل الأحزان، أراد أن يمهد لذلك التراجع لدى

ص: 49

القارئ في مواربة وجمجمة، فهل تدري ماذا صنع؟ إنه زعم أنه أخطأ في عدم تحديد (الذهن) الذي قال إن الرافعي يصدر عنه في أدبه في مقاله الأول، فإن من الأذهان ما هو مشرق أو خاب وما هو متفتح أو مغلق إلى آخر ما قال. لكن رجعة إلى صيغة حكمه الذي نقلناه لك في هذا المقال تبين لك حظ هذا الزعم من الصراحة والصدق. إنه لم يخطئ في عدم (تحديد) الذهن لأنه حدده بأوضح الألفاظ في ذلك الحكم. وقد كان يستطيع أن ينكر ويتراجع في صدق وصراحة من غير لف أو اختداع للقارئ. ولا عليه من شيء قاله أو يقوله من مدح أو ذم، من إطراء أو هجاء، فان المدح والذم يستويان عند (ذوي المواهب الذهنية) إذا صدرا عن (ناقد) تسخَّر عقله العاطفة، كما بينا في هذا المقال، وكما نرجو أن نزيده إن شاء الله بياناً فيما يأتي من الكلام

محمد أحمد الغمراوي

ص: 50

‌محمد إقبال

للدكتور عبد الوهاب عزام

منذ شهرين خفت صوت كان يقصف في أجواء الشرق ليوقظه، وخبا برق كان يتلألأ في الظُلَم المتراكمة يضيئها، وطفئ مصباح كان نوراً للسالكين في هذه الغياهب، وهدى للحائرين في هذه الفتن، وسكن قلب كان يحاول أن يزلزل الأرض بخفقانه، وينشئ الناس نشأة أخرى بإيمانه، وهمدت نفس حرة كانت تكبر على حدود الأوطان والحدثان، والزمان والمكان

منذ شهرين فقد الناس عامة، والمسلمون خاصة شاعراً مفلقاً، ومفكراً مُبدعاً، وفيلسوفاً حرّاً؛ وافتقد شباب المسلمين في الهند وغيرها حامل اللواء الذي كان يدعو إلى السمَّو فوق كل عقبة، والسير وراء كل غاية، ويناديهم صباح مساء

آه للعشق الذي قد ذهبا

ملأ الأرض ضياء وخبا

رُزق الميلاد في أرض الحرم

وأتاه الموت في بيت الصنم

كلا. ما خفت الصوت، ولا خبا البرق، ولا طفئ المصباح، ولا سكن القلب الكبير، ولا همدت النفس الحرة، فكل أولئك خالد في آثار إقبال

- 2 -

كان محمد إقبال عقلا كبيراً، وقلباً عظيما؛ درس ووعى مدنية الإسلام ومدنية أوربا ثم قام ناقداً لا مقلداً، وحرّاً لا عبداً؛ فكان من عظم عقله، ووقدة ذكائه، وكبر نفسه، وسموَّ قلبه، ومن العلم الواسع والإلهام الإلهي هذه الآثار الخالدات

وهب إقبال فكره وقلبه للمسلمين يوقظهم ويعلمهم، ويصف داءهم ودواءهم، ويُشيد بماضيهم، ويبشر بمستقبلهم، ويصوغ وحي عقله وعاطفة فؤاده شعراً يوقظ النفوس الهاجدة، ويشعل الهمم الخامدة بل يكاد يبعث الأموات، ويحيى الموات، تنسم فيه نفحات صوفية، وتنير في جوانبه لمعات الاهية. وقد صدق شاعر الإسلام محمد عاكف بك رحمه الله إذ قال: لو أن جلال الدين الرومي صاحب المثنوي بعث في هذا العصر لكان محمداً إقبالا

- 3 -

ص: 51

نظم إقبال عشر منظومات نشرت على هذا النسق:

1 -

أسرار خودي (أسرار الذاتية)

2 -

رموز بي خودي (رموز اللاذاتية)

3 -

بانك درا (صوت الجرس)

4 -

بيام مشرق (رسالة المشرق)

5 -

زبور عجم (زبور العجم)

6 -

جاويد نامه (كتاب جاويد سماه باسم أحد أبنائه)

7 -

مسافر

8 -

منظومة نظمها أثناء الحرب الحبشية وجعل عنوانها (وبعد فما العمل يا أمم الشرق)

9 -

ضرب كليم

10 -

بال جبريل (جناح جبريل)

ومات وهو ينظم أهنك حجاز (لحن الحجاز)

ومن هذه المنظومات التسع ثلاث بالأوردية والأخريات بالفارسية

وله مؤلفان باللغة الإنكليزية: الأول (تطور ما وراء الطبيعة في إيران) والثاني محاضرات أراد فيها أن يبني العقائد الإسلامية على أسس جديدة وسماها (إصلاح الأفكار الدينية في الإسلام)

ولا يتسع الوقت للكلام عن هذه المنظومات وما ضمنت من شعر رائع وفلسفة عالية، فحسبي أن أشير إلى كتابيه أسرار خودي ورموز بي خودي، فقد شرح فيهما فلسفة في الذاتية واللاذاتية، وبين أن العالم قائم على الذاتية وأن على الإنسان أن يقويها ما استطاع، ثم بّين كيف تلتئم الذاتيات القوية في الجماعة واتخذ من تاريخ المسلمين رجالهم وجماعتهم مُثُلا لتطبيق هذه الآراء

وكذلك أشيرُ إلى كتابه (بيام مشرق) الذي جعله جواباً للشاعر الألماني جوته صاحب (ديوان الغرب) وفيه صوَر من الشعر والفلسفة يفخر بها الشرق على الغرب، وفيه نقد لكثير من مذاهب أوربا وفلاسفتها

ثم أشير كتابه جاويد نامه الذي قصَّ فيه رحلته في الأفلاك ولقاءه عظماء المسلمين في

ص: 52

العصور القريبة والبعيدة. وكان دليله في هذه الرحلة جلال الدين الرومي، ولهذا الرجل العظيم على إقبال تأثير عظيم

- 4 -

منظومات إقبال فيها سعة النفس العظيمة التي لا تحد؛ ولكن يستطيع قارئها أن يتبين أصولا خمسة يدور حولها كثير من شعره:

1 -

الحياة هي الجهاد الدائم وتسخير قوى العالَم

(ما الحياة؟ هي أن تأسر نفسُك هذا العالم. فكيف تجعل نفسك لهذا العالم أسيرة؟)

2 -

وإنما يصلح الإنسان للجهاد بتقوية نفسه، واستخراج كل ما فيها من قوى. وقد بنى على هذا مذهبه في الذاتية وشرحه في كتاب (أسرار خودي). . .

ومن كلامه في بيام مشرق: (أخرج النغمة التي هي أساس فطرتك. أيها الضالَّ عن نفسه! خل نفسك من نغمات غيرك.) ويقول على لسان البراعة والحباحب: (لست كالفراشة اصطلي بنار غيري. ولكني أشتعل بنفسي ولا أحمل لأحد منَّة؛ إذا صار الليل أحلك من عين الظبي أنرت بنفسي لنفسي الطريق)

وتقتضي هذه الذاتية الحرية، وحرَّية إقبال ألا يحدَّ النفس شيء حتى الزمان والمكان

هو بالأمس خبير بغدِ

وهو اليوم نجيُّ الأبد

وقد بين في أسرار خودي الفرق بين العبد والحر في قوله:

(العبد ضال في ليله ونهاره، والحر يضل في قلبه زمانه. العبد يخيط الليل والنهار على نفسه، وينسج من الأيام كفنه، والحر ينسج على الزمان عزائمه - العبد طائر في شبكة الصباح والمساء، حرمت روحه السبح في الهواء، وصدر الحر الهمام، قفص لطائر الأيام. فطرة العبد تحصيل الحاصل، وخواطره تكرار قاتل. ومقامه من الجمود واحد؛ وصوته بالليل والنهار راكد. والحرَّ كلَّ حين خلاق يسكب نغمات جديدة في الآفاق، فطرته لا تحتمل التكرار، وليست طريقه حلقة البر كار، العبد في سلاسل من زمانه، والقضاء والقدر ورد لسانه. وهمة الحرَّ مشيرة على القضاء، تصوَّر يده الحادثات كما تشاء)

4 -

العلم وحده حجاب دون الحقائق وعقبة في سبيل الحياة - كما يقول ناحت صنم وبائع صنم وعابد صنم لا بد مع العلم من العشق. وهو يذهب في هذا مذهب الصوفية كفريد

ص: 53

الدين العطار في الكلام على العلم والعشق، وهم يعنون بالعشق الوجدان اليقظ وهذه الحرقة التي تسمو بالإنسان عن السفاسف إلى العظائم وتدفعه إلى الحق والخير، وتوجهه إلى الله. وقد ضرب في ذلك مثلاً ابن سينا وجلال الدين الرومي؛ قال: ضل أبو عليَّ في غبار الناقة ونالت يد جلال الدين ستر الهودج، هذا دار مع الفتاة على وجه الماء وذاك غاص في اللجة فظفر باللآلئ

5 -

هذه الأصول في فلسفة إقبال لها مُثل لا تحصى في مقاصد الإسلام وسننه وتاريخه. وهو يكره النزعات الوطنية الضيقة ويشيد بالأخوة الإسلامية العامة. وقد بدأ نشيده الذائع في الهند والذي يسمى النشيد الملي بقوله: وحين وعرب هماراً هندوستان همارا مسلم هين هم، وطي هم ساراجهان همارا (الصين والعرب لنا والهند لنا، نحن المسلمون وطننا كل هذا العالم)

وقال في بيام مشرق: إن الناس لاموا طارق بن زياد حينما أحرق السفن وقالوا هذا بعيد من الشرع والحزم. فسل سيفه وقال الأرض كلها ملكنا لأنها ملك ربنا)

- 5 -

كان إقبال واثقاً بنفسه، معتداً بآرائه يتدفق في شعره تدفق البحر لا يعرف خوفاً ولا تردداً. وكان يرى أحياناً أنه بشير المستقبل، وأنه صوت شاعر الغد، وأن العصر الحاضر لا يدرك معانيه، والجيل القائم ليس كفء كلامه

يقول:

(أنا شمس حديثة الميلاد، لا تعرف رسوم هذا الفلك، كما يغمر النجوم ضياؤها ويرقص على صفحات البحار شعاعها. . . أنا نغمة لا تبالي بالمضراب، أنا صوت شاعر الغد. . . إن عصري لا يفهم الأسرار. . أنا يائس من الأصحاب القدماء، وإن طوري يشتعل ليظفر بكليم، بحر أصحابي كالقطرة لا تزخر، وقطري كالبحر فيها طوفان مضمر. نغمتي من عالم آخر وجرسي لغير هذه القافلة. . . كم مرت بهذه الصحراء قوافل تمشي الهوينى كما تسير الناقة ولكني عاشق الصياح إيماني وضوضاء الحشر طليعتي أنا نغمة ولكنها أكبر من الوتر، ولست أشفق على هذا العود أن ينكسر

كم شاعر ولد بعد الموت أغمض عينيه ليفتح عيوننا وبدا من وراء الموت كما تنبت

ص: 54

الأزهار في تربته.

ذلكم الرجل الذي فقدناه أمس، والذي يدرك عارفوه ماذا فقد المسلمون منه.

كان إقبال يتمنى أن يموت في الحجاز فإن تكن فاتته هذه المُنية فله بعض العزاء في أن يستمع العالم الحديث عنه من البيت المقدس، من المسجد الأقصى من قبلة المسلمين الأولى

عبد الوهاب عزام

ص: 55

‌تيسير قواعد الإعراب

لأستاذ فاضل

- 1 -

ألفت وزارة المعارف جماعة لتيسير قواعد تدريس اللغة العربية من حضرات الأساتذة طه حسين عميد كلية الآداب، وأحمد أمين وإبراهيم مصطفى الأستاذين بهذه الكلية، وعلي الجارم بك مفتش اللغة العربية الأول، ومحمد أبي بكر إبراهيم المفتش بوزارة المعارف، وعبد المجيد الشافعي الأستاذ بدار العلوم

وكان على وزارة المعارف أن تراعي مكان الأزهر في هذا العمل الذي أرادته، فتضيف إلى رجالها الذين اختارتهم من كلية الآداب ودار العلوم أستاذين أو أكثر من رجال الأزهر، حتى يأتي هذا العمل الذي أرادته باتفاق معاهد العلم في مصر، فيكون له مكانته واحترامه، لأن التغيير الذي عملته تلك الجماعة لا يقتصر على تيسير قواعد تدريس اللغة العربية، بل يتعدى هذا إلى إحداث تغييرات خطيرة في نفس تلك القواعد، فكان من الواجب أن يختار لذلك جماعة من هذه المعاهد المختلفة في بيئتها وثقافتها، ليتم الأمر فيه بعد تجاذب العقول المختلفة، والمشارب المتباينة، وبعد دراسته دراسة متزنة تقوى على النقد، وتقبلها هذه البيئات المختلفة

ولقد ظهر عمل هذه اللجنة فظهرت حركة يراد منها القضاء على كل ما عملته بجملته وتفصيله، ولا يهمها بعد هذا أمر تيسير تلك القواعد التي ألفت هذه الجماعة من أجله، وهو أمر لا بد لنا منه في هذا العصر الذي تزاحم فيه العربية مزاحمة شديدة يخشى منها عليها، وتأخذ نفوس كثير من أبنائها إلى الانصراف عنها لما تجده من تعقيد في بعض قواعدها، فلا بد لنل من تذليل هذه القواعد المعقدة وتيسيرها، ولا بد من حذف ما فيها من حشو يمكننا الاستغناء عنه، ويجب إذا ظهر أمامنا عمل في هذا السبيل أن نعمل على الاستفادة منه، وأن يكون رائدنا البحث في تهذيبه وتكميله، ولا يصح أن يكون رائدنا هدمه وتقويضه لا غير، فكم جنى هذا على محاولات الإصلاح فينا، وكم نشر فينا من عوامل اليأس في إصلاح حالنا. وسيكون نظرنا في عمل هذه اللجنة قائماً على أساس التهذيب والتكميل، ونرجو أن يكون هذا رائد كل محب للغته، حتى يتم لنا النهوض بها، ولا يكون حظنا في

ص: 56

هذه المحاولة الإصلاحية كحظنا في غيرها من محاولات الإصلاح، معركة من التنابذ والتخاصم تفسد ولا تصلح، وتهدم ولا تبني، ويعمل فيها سوء الظن بكل جديد عمله في توسيع مسافة الخلف، وعدم الوصول إلى شيء يصح الاتفاق عليه. ولولا هذا الظن السيئ بكل جديد لأمكننا أن نصل إلى هذه الغاية التي تقضي على أسباب الخلاف بيننا، وتعمل على توحيد كلمتنا، وتجعل التعاون على الإصلاح رائدنا في كل أعمالنا

باب الإعراب

ترى اللجنة وجوب الاستغناء عن الإعراب التقديري والإعراب المحلي، لأن مثل - الفتى - يعرب بحركات مقدرة على آخره منع من ظهورها التعذر، ومثل - القاضي - تقدر فيه حركتا الرفع والجر لأجل الثقل، ومثل - غلامي - تقدر فيه الحركات الثلاث لأجل المناسبة، وفي تقدير الحركات وفي الإشارة إلى سبب التقدير مشقة يكلفها التلميذ من غير فائدة يجنيها في ضبط كلمة، أو في تصحيح إعراب. كذلك الإعراب المحلي، فمثل (هذا هُدىً) هذا يبنى على السكون في محل رفع، ومثل (يا هذا) مبني على ضم مقدر منع منه سكون البناء الأصلي في محل نصب، وكذلك (يا سيبويه) مبني على ضم مقدر منع من ظهوره حركة البناء الأصلي في محل نصب. وهذا عناء مضاعف وجهد يبذل لغير شيء، فيجب الاستغناء عن الإعراب التقديري وعن الإعراب المحلي في المفردات وفي الجمل، ويوفر على التلميذ والمعلم والعلم هذا العناء

وعندنا أن الذي يمكن في هذا إدماج الإعراب المحلي في الإعراب التقديري، فيستغنى بهذا عن باب البناء كله، ويوفر على التلميذ والمعلم والعلم ما يبذل من الجهود في هذا الباب، وما يجب أن يراعى في التطبيقات من الفروق بين الإعراب والبناء، بأن يقال إن هذا مبني وذاك معرب، وبأن يقال في المبني إن محله كذا من الرفع أو النصب أو الجر، ولا يخفى ما يذكر في علة البناء من تكلفات لا داعي إلى ذكرها هنا

فلغة العرب تمتاز على غيرها من اللغات بأنها معربة، أي بأن أواخر كلماتها لا تلازم حالة واحدة، وهذا الحكم عام في أسمائها وأفعالها وحروفها، لأن حروف العربية منها ما هو مفتوح الآخر مثل رُبَّ، ومنها ما هو مضموم الآخر مثل مُنْذُ، ومنها ما هو مكسور الآخر مثل جَيْرِ، ومنها ما هو ساكن الآخر مثل عن، فمثل - رب - يقال في إعرابها إنها

ص: 57

منصوبة بالفتح الظاهر، ومثل - منذ - يقال في إعرابها إنها مرفوعة بالضم الظاهر، ومثل - جير - يقال في إعرابها إنها مجرورة بالكسر الظاهر، ومثل - عن - يقال في إعرابها إنها مجزومة بالكسر الظاهر

وكذلك أفعال العربية وأسماؤها، فأفعالها منها ما هو مفتوح أو مضموم أو ساكن، مثل الماضي في - نام - ناموا - نمت - ومنها ما هو مضموم أو مفتوح أو ساكن، مثل المضارع في - يفهم - لن يفهم - ليفهمنَّ - لم يفهم - يفهمن - ومنها ما هو ساكن أو مفتوح مثل الأمر في - افهم - افهمنّ

وهذا كله فيما يتعلق بحركات الإعراب الأصلية، أما العلامات التي تنوب عنها فسيأتي الكلام عليها في العلامات الأصلية والفرعية

وأما أسماؤها فمنها ما هو مضموم مثل المبتدأ والخبر في قولك (الباب مفتوح) ومنها ما هو مفتوح مثل اسم إن في قولك (إن العدل محمود) ومنها ما هو مكسور مثل المضاف إليه في قولك (غلام زيد). ويمتاز الإعراب في الأسماء بأنه يجري على حسب أنواعها لا على حسب مفرداتها، فكل مبتدأ فيها مضموم وهكذا، وكل مفعول فيها مفتوح وهكذا، وكل مضاف إليه فيها مجرور وهكذا، ومثلها الأفعال في ذلك إلى حد ما

والإعراب التقديري يأتي في الكلمة العربية بأن يكون لها حكم في الإعراب باعتبار نوعها، ولكنها تكون في ذاتها متحركة بحركة تخالف حكم نوعها في إعرابه، فمثل (جاء الفتى) الفتى فيه فاعل حكمه الضم، فيكون ضمه تقديرياً، ومثل (جاء سيبويه) سيبويه فيه فاعل مضموم، فيكون ضمه تقديرياً أيضاً

ولا بد من تقدير هذا الإعراب لأنه إذا كان لا يظهر في صاحبه فانه يظهر في تابعه، فتقول (جاء هذا الفاضل)، (ورأيت هذا الفاضل)؛ (وسررت بهذا الفاضل) ولا شك أن وجود هذا الإعراب في التابع يدل على وجوده في متبوعه

وعلى هذا يكون إعراب - جاء سيبويه - مثل إعراب - جاء الفتى - كل منهما فاعل مرفوع بضم مقدر، ولا داعي إلى ذكر سبب التقدير في كل منهما، لأن هذه فلسفة لا طائل تحتها، والاشتغال بها حشو في النحو لا فائدة فيه

ويكون الإعراب التقديري في ثلاثة أقسام من أنواع الكلام: أولها الكلمة المقصورة مثل -

ص: 58

عصى - يخشى - الفتى - وثانيها الكلمة المنقوصة مثل - يرمي - القاضي - وثالثها الاسم اللازم، وهو اصطلاح جديد نطلقه على الاسم المبني بعد أن ألغينا ذكر هذا الاصطلاح في النحو، ويدخل في هذا القسم كل اسم لا يتغير آخره في حالات إعرابه من الضمائر والموصولات وأسماء الإشارة ونحوها، فإذا اتفقت الحركة التي يلازمها مع حركة إعرابه كان إعرابه ظاهرا لا مقدراً، مثل - نحن نفهم - فنحن مبتدأ مرفوع بضم ظاهر في آخره، ويكون حاله في هذا قريبا من حالة القسم الثاني وهو المنقوص، إذ يقدر إعرابه في حالتي الرفع والجر، ويظهر في حالة النصب، ولا يقدر إعرابه في جميع حالاته كما يقدر إعراب المقصور

(للكلام بقية)

أزهري

ص: 59

‌الفروسية العربية

للميجر كلوب

ترجمة الأستاذ جميل قبعين

- 2 -

الحرب

لا تتجه نظرة البدوي في الحرب إلى ربح المعركة كما قلت سابقاً. وإنك لا تجد فرقاً بين القرون الوسطى في أسبانيا أو مغامرات ريكاردوس قلب الأسد في حروبه عندما يصطف الفرسان ويتبارز الفارس والفارس وبين حروب البدو، وقد انقرضت هذه العادة منذ عشرين سنة فقط. إن حب المفاخرة وتطلب الشهرة واحترام تقاليد أساليب الحرب مع عدم وجود الكراهية الشخصية بين الفريقين المتحاربين هي الروح التي تسيطر على المعارك. وإن البدوي يجد في الهجوم ليلاً على مخيم العدو نذالة بل جبنا؛ وإن معاونة الجرحى وعدم التعرض للنساء في الحرب أمر عادي لديه. ومن تقاليد البدو وعاداتهم إذا ما التقطوا جريحاً أو أخذوا أسيراً أن يعاملوه باحترام ويقدموا إليه طعاماً وشراباً ومأوى إلى أن يشفى، ومن ثم يزودونه بالمؤونة وببعير ليذهب إلى قبيلته بسلام. إن العقيدة أو الفكرة التي نخرج بها من كل هذه التقاليد والاعتبارات هي أن البدوي يهتم أن يحارب بشرف قبل أن يهتم بربح المعركة

والمرأة هي التي تثير حماسة الرجال في الحرب، وكما قلت تحكم على بطولتهم، وقد جرت العادة أن تحضر النساء الموقعة راكبة فوق الجمال في كتبان مزينة، وكثيراً ما تبرز المرأة من الهودج محلولة الشعر كاشفة الصدر وهي تتغنى بأعمال البطولة راوية أعمال الأبطال السابقين، وكثيراً ما تنادي الفرسان بأسمائهم؛ ولا أرى ضرورة لأن أذكر أن الطرفين كانوا يعفون عن النساء أو لا يقربونهن

ومن جهة أخرى فان الإبل كانت تلعب دوراً هاماً في الحرب. إن الإبل من أهم الضروريات للبدوي، ومن المعتاد أن اغتنام قطيع الإبل دليل على انتصار الفريق الغانم على الآخر، ولما كانت الإبل هي ثمرة الحرب فقد كان شيوخ البدو يحرصون عليها

ص: 60

ويتوارثونها جيلاً بعد جيل، وقد جرت العادة أن يسمي الشيخ قطيعه باسم خاص. إن هتاف فرسان البدو في الحرب ينحصر في اسم حبيبة الفارس أو باسم أخته أو باسم قطيع جماله. فيهتف مثلاً (أنا أخو جوزا - فيصل) أو (لعيون حميده) أو (خيال العليا - النوري) والعليا قطيع من الإبل

ومن الحكايات التي تروى عن سلطان بن سويط، وقد كان شيخاً لعشيرة الظفير منذ ثلاثة أو أربعة أجيال، أن جماعة نهبت أموال فتاة على حدود الحجاز؛ ولما كان سلطان مشهوراً بشجاعته وفروسيته فقد هتفت الفتاة:(أين أنت يا سلطان لتدافع عن فتاة) وقد تناقل العرب هذه الحكاية حتى وصلت إلى سلطان فأقسم لينتقمن لها، وكيف لا وقد استغاثت به ولو على بعد مئات الأميال

وسأروي لكم حكاية حقيقية وقعت منذ جيلين فقط: - اشتهرت في الجنوب قبيلتا عتيبة وقحطان بعدائهما الشديد وكثرة غارات بعضهما على بعض، وقد كان لابن هادي شيخ قحطان ابنة صارت مضرب المثل عند العرب في الجمال - وقد رفضت كل الذين تقدموا لخطبتها. وكان ابن حميد اشتهر بشجاعته وفروسيته وكثرة غزواته الموفقة التي شنها على قحطان حتى أقسم شيوخ قحطان يوماً أنهم سينحرون إبلهم في اليوم الذي يأسرون به ابن حميد. وقد حدث أن تقدم رجل لخطبة ابنة هادي، فلما راجعها والدها بهذا الشأن أجابته قائلة: إنني لن أتزوج إلا أشجع فرسان العرب وأكرمهم وأجملهم. وقد كان رجل صليبي يسترق السمع فسمع ما دار من الحديث بين الوالد وابنته، وعندما خرج والدها دخل عليها خدرها وقال إن هذه الصفات لم تجتمع يا مولاتي إلا لابن حميد. فأجابته: ليتني أراه ولو مرة واحدة. فنقل الصليبي هذا الحديث لابن حميد. وقد كانت شهرة بنت هادي وصيت جمالها قد سبقا وصول خبرها إلى ابن حميد فكتم هذا الحديث في نفسه حتى إذا جن الليل غادر منازل عشيرته ذاهبا إلى منازل قحطان وتسلل بين البيوت حتى دخل خيمة الفتاة وأيقظها بلطف وعرفها بنفسه ففرحت به، ولكن لم تكد تهدأ أعصابها بعد فرحها بلقائه حتى جزعت عليه لهذه المغامرة فطمأنها. وظلا يتسامران حتى مطلع الفجر. وكانت العادة أن يجتمع البدو عند شيخ القبيلة صباحا لشرب القهوة وللتداول في شئون العشيرة. فلما اجتمع الشيوخ خرجت الفتاة إلى والدها قائلة: يا أبت أطلب أمنية فهل تعدني بإجابتي إليها؟

ص: 61

فأجابها: إن أمنيتك مستجابة قبل أن تطلبيها. عندئذ قالت اشهدوا يا شيوخ قحطان على قول والدي. فأجابوها: نحن شهود على قوله. فقالت: حينئذ أريد أن تُبقي على بن حميد. فأجابها والدها لا تكوني سخيفة! هذا عدو قبيلتنا؛ وعلى كل حال بيننا وبينه مائتا ميل على الأقل. فأجابته: كلا إنه في هذه الخيمة. فقام والدها يريد الرجل لينتقم منه فاستوقفته منادية شيوخ قحطان الذين تدخلوا في الأمر وذكروه بوعده، فخضع للأمر الواقع، وهنا خرج ابن حميد ليتزوج حبيبته بينما نحر شيوخ قحطان إبلهم لا لأسر ابن حميد بل احتفاء بزواجه من فتاتهم.

هذه الحكاية ترينا بجلاء أن غاية البدوي الفخر والمجد لا النصر، والحرب وسيلة المجد وليست وسيلة الكسب. وأمثال هذه الحكاية كثيرة لا تحصى.

لا يكون حديثنا عن الفروسية تاما دون التحدث عن صلاح الدين. في الحقيقة أن صلاح الدين كردي، وقد قاتل لأجل الدين لا لأجل المجد والشرف، ولكن روح الفروسية ظهرت بجلاء في كثير من أعماله. حينما حاصر صلاح الدين قلعة الكرك لأول مرة كان أميرها همفري أوف تورن يعقد قرانه على اليزابث أخت ملك القدس. ولما علم صلاح الدين بالأمر منع جنوده عن رمي السهام على القلعة، كما أن صاحبها أرسل إلى القائد المسلم الخبز والخمر واللحم من وليمة العرس. ولما خرج ريكاردوس قلب الأسد للدفاع عن يافا بالبركان كان راكبا دابة استعارها من أحد السكان، ولكن صلاح الدين الشهم أرسل إليه فورا جوادين مع خادم ليركبهما البطل العربي في المعركة

ومثل آخر من أمثلة الفروسية ما فعله القائد الفرنسي الباسل في فونتانتوني إذ دعا الحامية الإنكليزية إلى إطلاق النار أولا.

إننا في وقتنا الحاضر قد نزدري مثل هذه الأعمال ولكن يجب علينا ألا ننسى أن عقيدة البدوي في الفروسية هي القيام بالأعمال التي تنيل المجد والفخر لا كسب المعركة.

الكرم

يحمل الكثيرون من الأوربيين - كنتيجة لزيارتهم للشرق - فكرة سيئة عن العرب لكثرة المتسولين، ولكني أصرح بأن الذين يتسولون هم الطبقة الدنيا من العرب؛ أما الطبقات الأخرى حتى التي يكثر فيها الفقراء فهم لا يتدانون لمثل هذا العمل، وإذا ما أخذ البدوي

ص: 62

دراهم (بخشيشا) فأنه يأخذها ليكرم بها. لأن البدوي كما قلت لا يهتم لمتاع هذا العالم - وهو لا يتردد أبدا في نحر آخر ما يملكه من الإبل لإطعام ضيف يمر به ولو كان هذا الضيف غريبا.

توجد قبيلة من البدو قاطنة في شمال الحجاز فقيرة معوزة حتى أن أفرادها لا يملكون خيماً يأوون إليها وهم يقطنون الكهوف، ولكنهم إذا ما رأوا ماراً بالطريق ركضوا نحوه وأحضروه ونحروا له ما يملكون من المواشي

(يتبع)

جميل قبعين

ص: 63

‌رسَالَة الشِّعر

وحي الشاعرية

مصريات

للأستاذ حسن القاياتي

الجمود العلمي - مشيخة الإسلام - أمنية الإصلاح - مناجاة

الشرق خلال العصر - النيل والحرية - الرياء والذلة -

الانتخابات الزائفة - إلى المنبت

من الملائك في زيِّ الأَناسيِّ

تبارك اللهُ يا مصر الأَمانِيِّ

النيل مجتمع الحسنى كما احتشدت

ملاحةُ الروض في خَدِّ الأقاحيِّ

علمٌ وجنَّاتُ نبت مصر بينهما

أحظى من النحل بالشهد النباتيِّ

العلم حلية عصر نحن شارته

صوغَ الهلال على العام الهلاليِّ

من يحك عَنَّا يردِّد كلَّ ساحرةٍ

كالعود ترجم للصوت الغنائيِّ

أدل بالغرْب جيلٌ أوّليتُهُ

لم تشهد الحسنَ لغربيَّ

كُنا وكانوا فتلك الشمس مخبرةً

أن ليس في الغرب نُورٌ غير شرقيَّ

في عين شمسٍ لنا أو أرض أندلُس

وَادٍ من العلم صخَّابُ الاوَاذِيِّ

لنا البديعُ كأَن الشمس قد نُثِرتْ

صبغاً على كل حالٍ منه شمسيِّ

سحر اليراعة فنَّ كم نساجله

بكل صنَّاعةٍ للسحرِ فنيِّ

ما أرسلت مصرُ بالتبيان ساحرةً

إلاّ وقد حاسنته بالقباطيَّ

عطفاً على لغة التنزيل إن لها

في ندوة الحيَّ شأناً غير منسي

صونوا البيان فللدولات ناهضةً

شَأوُ في وقع الرُّدَيْنيِّ

مصرٌ على قِلِةٍ في مصر مكثرةٌ

عَدَّ الأماجيد كالرقم الحسابي

نمشي إلى جنة العلياء نسلُبها

برد الجوانح من ظلٍّ ومن رِيّ

الجدُّ يعليك فيمن لا تشابُههُ

كالأَرض تخطر في ركب الدَّرارِيّ

ص: 64

النيل بالأزهر الوضاح نهضته

كالبيت قام على الركن اليماني

ما أنبل الأزهر الديني يقبسه

عهدُ الصقليَّ من عهد التِّهاميِّ

لله شيعيّة صَلّتْ بقبلته

فَراح أزهر سُنيِّ وشِيِعيَّ

ما أجدر العلم أن يحيا بموثقه

وُدُّ الشتيتين مشدود الأواخيَّ

بيتٌ وبيتٌ أقام الرشدُ مدرسةً

بالقاهريّ وصلَّى بالحجازيَّ

واهاً له أزهراً لو أن عالمه

مشى إلى الدين في الرأي الأمامي

العلم يَفْتَنُّ وَضَّاحاً فنطلبُهُ

بالأزهريِّ مُقيماً في الأحَاجيِّ

غفرانك الله إن العصر مُدَّخِرٌ

للأزهريين ذكراً غير مطويِّ

يا أزهر العلم دُمْ للشرق مدرسةً

عَزَّ العراقيُّ فيها بالشاميِّ

حيَّ الجديد فما يرضَى معارضهُ

حتى لدى الموت قبراً غير عصريِّ

لا نضرَّ الله للتثقيف آونةً

أنحت على الوحي بالشرح الخرافيِّ

عَهْدٌ تزار به الموتى لخشيتها

وربك الحيُّ فيه غير مخشيِّ

إن الكتاب الذي صَلَّى بسورته

محمدٌ بَاتَ صَوْتاً في الأغانيِّ

غنت به (أم كلثومٌ) فجاوبها

من (آل رفعت) أَشْبَاهُ القْمَاريِّ

دين الحنيفيِّ لا يُجْزَى بأزهره

خيراً ويجزاه للدين السِّيَاسِيِّ

الشرع في القوم يبنيه ويهدمه

غاوٍ تأنق في الحلم المَناميِّ

أزرى على العلم والدنيا مثقّفةٌ

علامةُ النَّاسِ بالعلم اللَّدُنِّيِّ

قطب من الرشد أدنى ما يؤُمُّ له

من السماحة في القطب الشماليِّ

إذا تشكيت للمنَّاع لاِعِجَةً

سقيت رِيًّا من الماءِ السَّرَابي

زين للشيوخ حَرِيٌّ أَنْ يُسَدِّدَهُ

هُدَى الكتاب إلى الجواد الفراتي

لا أظلم الجودَ كم سحتوت أرملة

لدى (الإمامين) والقبر (الحسيني)

يعطي لدى كل قبر كل مكتنز

باب الزكاة لديه عير مرضِيّ

بنو الحياة حُلاها كيف نطلبها

بكل غادٍ على الموتى قرافي؟؟

لله علامة بالدين يعصمه

إن بات عالم دين غير ديني

مِلْءُ العيون سنا والشرق محمدة

مِلْءُ النفوسِ هدى مِلْءُ الأماني

ص: 65

إن دام للأزهر الوَضَّاءِ حاضِرُهُ

فالأحمديُّ به فوقَ المراغي

تبا لمشيخة الإسلام يفرضها

مَنْ ينزل الوحي بالأمر الوزاري

شيخ ومن أين للإسلام مشيخة

لولا تكذّبُ داعٍ أو حواري؟

معليك يا دين إن شابتك زائفةٌ

فَلَّ الزجاجَ برأي منه ماسِيِّ

باسم الولاية كم شيخ مراشفه

على يدَيْ كل (شَبَّاك وسُبْكيِّ)

الغرب يضحك والإِسلام يخجله

من شيخه قبلة في كفِّ سُوقيِّ

بعضُ العمائم يطويه على سخَفٍ

دين العفيفيِّ عن وحي السباعي

صاد الرفاعيُّ ثعباناً فأَلَّهَهُ

يا آيَ موسى هنيئاً بالرفاعيِّ

هيهات لن يؤمن الأشياخ أو يصلوا

دون الأَناسيّ خلاَّق الأَناسيِّ

يا مصلح الأزهر المصدوق آمله

حياك باريه بالروح السَّماَويّ

طبعت للنفع طبع الشمس منتحياً

إلى الهُدى سنة النور الصباحيّ

للدين ندعوك، للإصلاح يؤنسُهً

مجدُ القُدَامىَ، وللنبت العصاميّ

أقبل كوصفك نوراً أَيَّ مشترك

لا خير في شيمة العلم الأَنانيّ

الدين إن لم تَصُلْ بالعلم حجته

فاز الخرافيُّ منه باليقينيّ

أعمل حجاك فما أحرى بنيِّره

أن يجلي الله في العرش الإلهيّ

ذمّ القديمُ فما أصفى بتكرمة

سوى عتيد العلى من كل عاديّ

أُفٍّ لنفسي فما ترضى بصالحة

ليس العصاميُّ فيها بالعظاميّ

جهل الأبوة بين النشء مقتلة

ماذا يحب من الداء الوراثيّ

في معهد أبناءٌ أبُوَّتُهُمْ

في معهد الدين ألْفَوْا كل عصريّ

إن الحنيفيّة الغراء يشغفها

لُبُّ الثقافيّ في هدْى الحنيفيّ

يا رُبّ دمع الإسلام متَّهم

كما تسمَّعتَ للنوح الحماميّ

خافوا على الدين من علم وفلسفة

ما أنت يا دين بالصرح الزجاجيّ

عداوة العلم والإسلام يعشقه

سجية الإِفن في اللُّبّ الثقافيّ

العلم أجمع فيه الخير أجمعه

كالنحل ماذية رفَّتْ بماذِيّ

مهلاُ بني العصر قد جنت شمائله

إن الهداة حمام عند بازيّ

ص: 66

لا السَّرحُ يحميه من أودت بعصمته

دُنيا الفُتُونِ ولا الراعي بمحميّ

مَنْ نصطفيه لدى الإصلاح ترجمةً

لآية الرشد في العصر الإباحيّ؟

يا آسي الشرق إن الشرق محتشداً

يجزيك نعماءِ هادٍ عند مَهدِيّ

واهاً لوصفك مسكيًّا ننافحه

بكل ذاكٍ من الأَمداحِ مِسْكِيّ

خُذْنَا إلى النور لذاعاً بميسمه

فلن تضئَ بنورٍ غير ناريّ

الجدُّ من بغية الإصلاح أنجبه

خلِط الحريريّ منه بالحديديّ

السائسُ البرُّ جبارٌ يصرفه

لُبُّ الدراسيّ في عزم الحماسيّ

بدِّدْ من الجهل ليلاً أنت غُرَّته

إن الصَّباح من الليل الغُدافيّ

يا حلكة الجهل فضّاحاً بسبَّته

متى تجليك بالضوءِ النَّهاريّ؟؟

لا أكذب العصر إن العصر مختلفٌ

مجد الرشيد وأكوابُ النواسيِّ!

بنا ظِماَءٌ إلى الساقي على يده

كأس تدفق بالٍسَّمّ الشَّرَابي

ويحي على النيل إن ردت مشارعه

رِيَّ القلوب من العذب الزلَاليّ

تلك الكؤوس ملاءً كيف يجرعها

من يرهن النيل في الدين العقاري

نقضي من الدين ما نخزي بمطلبه

وللكرامة دين غيرُ مقضِيّ!

لُؤمُ التصرُّف إذ نودي بنافعةٍ

قد لَفّ حَاجِيهَّا ثوبُ الكماليّ

إنَّا لنحمل بالآداب زائفةً

عبء الخدود من الورد الصِّناعي

كم في الشمائل مطليٌّ نخادعه

بكل خدٍّ صنيع الحسن مَطْلِيّ

نُنُحي على الحسن إغواءً وتحليةً

كالشعر يحنو على السحر الخياليّ

ما أعدل الحسن تجزينا لواحظه

على تصبّيه سحريًّا بسحريّ

يا ربُّ، يا ربُّ خُذْ للنيل من فئةٍ

ألقَتْ على مصر عاراً غير مصريّ

خافوا علي زيفهم من كل منتقدٍ

يا ليث رحماك للدَّلّ الكناسيّ

لو أُرَّخَ الفتحُ لم يعدل مُؤَرّخُهُ

(بيوم بدر) سوى (يوم البداري)

يوم البداريّ فوز ليس يعدله

للنيل فوزٌ سوى النصر العرابيّ

لله درُّ فلان لست أغمزهُ

ولا رثى الله للعّهد الفُلَانِيّ

عهد بكينا له إبَّان مولده

شرَّ العهود وولَّى عيرَ مبكيّ

ص: 67

أنحى على الفكر نفسيًّا فوا كبدي

هل أنبت السعد فكرٌ غير نفسيّ

إن كان صاحبُ لُبٍّ ليس يعمله

فأين حدثتَ بالُّلبّ الجمادي؟

خُلْفُ الطوائف للأصلاح منقبة

شمائل الرشد في الرأي الخلافيّ

لا يملك الشائنُ الفَضَّاحُ منزلةً

بين الأبيين من ناهٍ ومنهيّ

الْحُرُّ للخطة العلياء غضبته

وغضبة الوغد للرأي العدائيّ

عُبَّاد كل رئيس لمة ضربت

في مصرفي مصنع الضرب الحكومِّي

هَمَتْ براعاتهم بالحق منصلتاً

وَيْحَ الحديديّ من وقع الحريري!

وا حر قلباه كم نفضي إلى شرسٍ

من الأَناسِيّ في صولات جِنِّيّ

الأمر يبرم سِرّيًّا فَتُلهَمُهُ

منابتُ الغيّ من بادٍ وسريي

وعدُ المحبين مأْتِيٌّ فإنْ ظفرت

به العُداة فوعدٌ غيرُ مَأْتِيّ

قيل انتخاب فعاذوا في نيابتهم

بكل ذئب حديد النَّاب وحشيّ

ما أقتل العدل في الشورى إن التفتت

عن كل محتفل بالرأي شورى

ضحوا بكل أبيٍّ ليس يفجعهم

أن رَدَّ دُستورهم بعض الأضاحيّ

ويح الكراسيّ للنُّواب كم حملت

أشلاء جَلْدٍ على سلبِ الكراسيّ

إن الدساتير إن خطت معطلةً

قتل الأمانيّ بالُّلؤْم الكتابيّ

ما أعدل الله فرداً في حكومته

وأعدل الحكم شورى عير فرديّ

للرفق إلمامةٌ بالنبت واعظةٌ

مثل الجفون ألَمَّتْ بالأناسيّ

يا نبتة النيل يا أذكى صحائفه

حييتما بين فَدَّاءٍ ومَفْدِيّ

ألنَّبْتُ للنيل فلينْهَدْ لعزته

بالجد بالعلم، بالسحر البيانيّ

السكرية - دار القاياتي

حسن القاياتي

ص: 68

‌البريد الأدبي

بين العراق ومصر

سيدي الأستاذ الجليل صاحب الرسالة

لكم تألمت حين قرأت في (الأهرام) وغير الأهرام وسمعت من إخواننا

المصريين ما كتبوا وقالوا في تأويل حادث الدكتور الشهيد سيف رحمه

الله. وكم وددت أن أكتب كلمة في الموضوع أبعث بها إلى الرسالة أدفع

فيها عن العراق وأبين عن وجه الحق، ثم ظننت أن الرسالة تضيق

عن مثل ذلك صفحاتها فترددت، حتى طلعت علينا يا سيدي بمقالتك

البليغة التي قطعت قول كل كاتب وخطيب، فسرني منها ما يسرني من

كنز أقع عليه، أو أمل أصل إليه، وشكرتها لك أنا وأصحابي، شكر الله

لك سعيك وجزاك خيراً، فلقد ذدت والله عن الحق حين ذدت عن

العراق، ولقد شهدت شهادة الحق بما رأيت في العراق

وهذه شهادة أخرى، أشهدها بالله ولله، أن قد عشت في العراق سنة، كنت فيها مع التلاميذ أخاً بين إخوان، لا مدرساً بين تلاميذ، فما رأيت إلا كرماً ووداً، ووفاء وتقديراً، ورقة في الطبع وسموًّا في النفس. ولقد كنت على أن أكتب ذلك من أمد طويل، فكان يمنعني أن الناس يظنون بكل صاحب ثناء رهبة أو رغبة، وما بي رغبة ولا رهبة، وإنما بي حب العراق وإجلاله كحبي لمصر وإجلالي إياها

وأشهد لقد عرفت هذا الطالب في العام الماضي طالباً في صف البكالوريا فعرفت فيه الفتى المهذب الوديع، فلما سمعت بفعلته التي فعل، بلغ مني العجب، ولم أرد ماذا حاق به بعدي؛ ثم سألت وتحسست الأخبار فعلمت أنها صدمة (الرسوب) طارت بلبه ولم يطق عليها صبراً (والصبر عند الصدمة الأولى) وتملكته حال لو رأى معها أباه لقتله، فعزم وأمضى عزمه في لحظة واحدة فهل يلام في شرع أو عرف من ذهب اليأس بلبه فمضى يفعل فعله من غير لب؟ وهل تؤخذ بجريرته هذه الأمة الحبيبة الوفية المسلمة العربية، وهل تنسى

ص: 69

حسناتها كلها لشبه إساءة؟

لئن يكن الفعل الذي ساء واحداً

فأفعالها اللائى سررن ألوف

وهل لنا (نحن معشر العرب المسلمين) إلا العراق ومصر؟ هناك العروبة منشورة اللواء، وهنا الإسلام رفاف العلم، بل هنا وهناك العروبة والإسلام. لقد أسمعتنا هذه الأمة الطيبة، وهذه الحكومة العربية المسلمة، صوت الإسلام يخرج (في أسبوع المولد) من (محطة) بغداد فتتجارب به أرجاء هذه الكرة، ولقد سمعنا الكلمة من كل مصري في مصر. أفتفصم عرى هذه الأخوَّة التي عقدتها يد الله من فوق سبع سماوات فعلة شاب يائس؟ هل يمكن أن يفرق شيء بين الأمتين المسلمتين الحبيبتين، أمة الملك الصالح فاروق زين شباب المسلمين، والملك الماجد غازي فخر شباب العرب؟

لا والله، إلا أن تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟

فرحمة الله على الدكتور سيف البطل الشهيد، وعلى الطالب القاتل البريء، وعزّى الأمتين الشقيقتين، بل عزّى الأمة المسلمة (الواحدة) على ضفاف النيل وشواطئ الرافدين، وزادها عزَّا ومجداً و (اتحاداً)

(دمشق)

علي الطنطاوي

نجاح الفنانين المصريين

تلقت إدارة الفنون الجميلة بوزارة المعارف من مدير الجناح المصري بمعرض (بيينال) الدولي للفنون الجميلة المقام الآن بمدينة البندقية والذي اشتركت مصر فيه لأول مرة هذا العام - كتاباً يشير فيه إلى نجاح القسم المصري بهذا المعرض نجاحاً حمل بعض الشخصيات الأوربية على إبداء الرغبة في اقتناء بعض معروضات الفنانين المصرين المشتركين في المعرض. وطلب المدير تحقيقاً لهذه الرغبة أن يخفض الفنانون المصرين أثمان معروضاتهم حتى يتمكن من تسهيل نشر الفن المصري بين الأوساط الأوربية الراقية

ولا شك أن نجاح القسم المصري في معرض دولي يعد من أكبر معارض الفن بأوربا لمما يدعو إلى التفاؤل بمستقبل الفنانين المصريين بفضل الجهود التي تبذلها مراقبة الفنون

ص: 70

الجميلة بوزارة المعارف

آثار حملة نابليون بونابرت

سيفتتح قريباً في قصر (التويليري) بباريس معرض لآثار حملة نابليون بونابرت على مصر. وسيضم هذا المعرض مجموعة قيمة من الوثائق الخاصة بإعداد هذه الحملة؛ وهي تدل على أن نابليون - الذي عرف كيف يجمع حوله العلماء - كان قد فكر في جميع التفاصيل المادية. ومن أمثال ذلك أنه حمل معه مطبعة لإعداد مجموعة من البيانات العلمية

وسيتضمن هذا المعرض أيضاً مجموعة من الصور تمثل القواد الشبان الذين اشتركوا في حملة مصر

ولا شك في أن التحفة النادرة في المعرض ستكون الجمل المحنط الذي حمل نابليون في مصر ولا سيما في معركة الأهرام

ومع أن نابليون كان يشعر بمثل دوار البحر عندما يمتطي جمله فقد تعلق به وعهد إلى أحسن علماء الطبيعيات في المتحف بحشوه بالقش بعد أن نفق

وقد مر أمام هذا الجمل مئات من الزوار في متحف باريس أو في متحف نابليون في ايكس

وقد عاد هذا الجمل التاريخي الآن إلى باريس حيث يظهر في المعرض وعليه رحل مزخرف بالذهب والفضة

ويحتمل أن ينقل الجمل - بعد انتهاء المعرض - إلى قصر ماليزون بجوار باريس حيث يبقى إلى جانب السرير الصغير الذي كان ينام عليه بونابرت في منفاه بجزيرة القديسة هيلانة

وفاة أديب إنجليزي

توفي المستر برسي هويت الصحفي الروائي في السادسة والثمانين من عمره، وقد تولى رياسة تحرير جريدة (الرأي العام) ببلك أوبنيون عشر سنوات، واشتغل محاضراً في آداب اللغة الإنجليزية بالجامعة المصرية من سنة 1911 إلى سنة 1924

مكتبة عصبة الأمم ودراسة نظامها

وافقت وزارة المعارف على إيفاد الأستاذ أحمد رامي إلى جنيف لزيارة عصبة الأمم

ص: 71

ودراسة نظام العمل في مكتبتها توطئة لاقتباس هذا النظام وإدخاله على دار الكتب المصرية

مقالة في الجدل للإمام الاسفراييني

للإمام أبي حامد الاسفراييني مقالة في الجدل مبينة، وللعلامة أبي نصر السبكي تعليقة عليها لطيفة. وقد رأيت أن أروي التعليقة والمقالة، وإنهما لحقيقتان بالرواية في (الرسالة):

(قال أبو حيان التوحيدي: سمعت الشيخ أبا حامد (الاسْفَرَايني) يقول لطاهر العبَّاداني: لا تعلق كثيراً لما تسمع مني في مجالس الجدل؛ فإن الكلام يجري فيها على ختل الخصم ومغالطته ودفعه ومغالبته، فلسنا نتكلم لوجه الله خلصاً، ولو أردنا ذلك لكان خطونا إلى الصمت أسرع من تطاولنا في الكلام، وإن كنا في كثير من هذا نبوء بغضب الله (تعالى) فإنا مع ذلك نطمع في سعة رحمة الله)

قال أبو نصر السبكي: (قلت: وهو طمع قريب، فإن ما يقع من المغالطات والمغالبات في مجالس النظر يحصل به من تعليم إقامة الحجة، ونشر العلم، وبعث الهمم على طلبه - ما يعظم في نظر أهل الحق، ويقل عنده قلة الخلوص، وتعود بركة فائدته وانتشارها على عدم الخلوص، فقرب من الإخلاص إن شاء الله)

(القارئ)

من آفات المناظرة

من آفات المناظرة في بلادنا (دون بلاد الله كلها) أن جمهرة القراء تنظر إليها نظرها إلى شكل من أشكال الصراع أو القتال لا ترى بينها وبين الملاكمة فرقاً ظاهراً. فليس الظافر من جاء بالحجة الظاهرة والدليل القاهر، ولكن الظافر من كان أكثر كلاماً، وأطول لسناً، وأدنى إلى التعريض والتسميع بخصمه وأقدر على النيل منه، ومن كان في الجدال؛ بل إن كثيراً، من القراء يرون الظافر من كان صاحب الكلمة الأخيرة، أي أنهم يقرءون لهذا فيميلون معه، ثم يقرءون لذلك فيميلون إليه حتى يسكت أحد الخصمين فيحكموا عليه. أما الموازنة بين الحجج والمفاضلة بين الدلائل، والحكم حكم المنصف العادل والناقد البصير، فشيء لا يكاد ينصرف إليه أحد. ثم إن القراء لا يعجبون بأحد ما يعجبون بكاتب يدافع

ص: 72

وحده ويقابل جماعة من الناس، ولو كان مبطلاً يقول الواحد نصف الثلاثة، ولو كانوا محقين يقولون الواحد ثلثها، ولو كان مغالطاً وكانوا أصحاب الدليل، ولو كان ضعيفاً في نفسه، وكان كل واحد منهم أقوى منه؛ والقراء بعد ذلك يريدون من المناظر أن يجيب كل قائل، ولو لم يفرق بين كلمة العقيدة مثلاً تراجع اللسان، وبين العقيدة ذاتها تدرس في كتاب الآراء والمعتقدات، ويحسبون من العجز أن يعرض المرء عن بعض القائلين ولو نالوا منه ولا يجدهم للجواب أهلاً. هذا إذا لم يكن القارئ صاحب هوى يميل حيث يميل به الهوى، ويستقر حيث تطرحه صداقة أو عداوة، فلا يفيد مما يقال شيئاً. . .

. . . فأي فائدة للمناظرة مع هذه الآفات؟

(دمشق)

(ع. . .)

تحية إلى الأستاذ العقاد

عزيزي الأستاذ الزيات صاحب (الرسالة) الغراء

أطلعني (بعضهم) على كلمات هزيلة درجت في جريدة (الإصلاح) السورية تستفتيني الحكم النزيه في أدب الأستاذين العقاد والمرحوم الرافعي، وتدعوني إلى أن أخوض المعمعة الأدبية التي أثارها تلاميذ الكاتبين العظيمين؛ ثم ينقل المحرر عني حديثاً ملفقاً مختلفاً يثبت فيه أني من أنصار الأستاذ المرحوم الرافعي؛ ودليله على ذلك (طبعاً) الحفلة التأبينية الكبرى التي كنت قد عزمت على إقامتها في مدينة ابن الوليد إجلالاً للكاتب العربي الكبير وتقديراً لمنافحته عن الإسلام والعروبة. ثم حالت الظروف القاهرة من دون تنفيذها وإخراجها إلى حيز الواقع والوجود. . .

وليت المحرر الفاضل وقف عند هذا الحد فلا يغش القراء ولا يظلم الحقيقة، بل هو يأبى إلا أن ينحلني مقالة مذيلة بإمضائي مؤداها أني ثائر على أدب العقاد، منكر عليه شعره وفنه، ناعٍ عليه ضيق أفقه وغباوة فهمه لمعنى الأدب الصحيح. . .!

وأنا - الذي أصرح الآن على صفحات الرسالة الغراء بأني من أشد الناس تعصباً لأدبه وعبقريته - لا يسعني إلا أن أحيي الأستاذ الكبير العقاد وأقول باختصار: إن كان كل ما

ص: 73

يرويه المحرر الفاضل من هذا القبيل فويل للحقيقة منه وويل له من الحقيقة. . .

(حمص)

عبد القادر جنيدي

أسرار أبي الهول

أنجز الأستاذ سليم بك حسن وكيل مصلحة الآثار كتاباً جديداً نفيساً باللغة الإنكليزية في (أبي الهول وأسراره) وهو في نحو أربعمائة صفحة ومائة وثمانين صورة، والمنتظر أن يقدم للطبع في إنكلترا قريباً

والكتاب أربعة فصول أولها يحتوي على بحث الحفائر حول أبي الهول من عهد الملك خفرع إلى سنة 1938، والثاني بحث في الملوك الذين زاروا أبا الهول من عهد الأسرة الثامنة عشرة المصرية إلى عهد الرومان، والثالث أصل أبي الهول وتحوله شكلاً ورمزاً في الأمم التي أخذته عن مصر، والرابع في المعنى الديني لأبي الهول ووجود مستعمرة كنعانية أو إسرائيلية في جواره والعثور على البلد المفقود اسمه والذي كان هؤلاء القوم يقطنون فيه

وفي هذا الفصل الأخيرة ولا سيما الكلام الخاص بالمستعمرة الكنعانية أمور كثيرة جديدة خطيرة الشأن كشفها الأستاذ سليم بك حسن وأفضت إلى فهم كثير من الأسرار التي كانت ولا تزال مقترنة باسم (أبي الهول)

نشأة الصحافة المصرية اليومية وتطورها

قدم الدكتور كمال الدين جلال رسالة عن (نشأة الصحافة اليومية المصرية وتطورها) إلى جامعة برلين نال بها إجازة الدكتوراه في علوم الصحافة فنال بها أعلى درجة جامعية، وأرسلت الجامعة إلى الجهات المصرية الرسمية في برلين تقريراً تثني فيه على جهود الدكتور جلال وتمتدح رسالته

ولا شك أن أسرة الصحافة المصرية التي يخدمها الزميل جلال خدماته الجليلة المعروفة منذ سنوات يهمها الوقوف على ما تحويه هذه الرسالة النفيسة التي جمعت لأول مرة تاريخ الصحافة في مصر منذ نشأتها الأولى حتى اليوم والتي سيكون لها بعد طبعها قريباً قيمتها

ص: 74

العلمية المنتظرة

تعد الرسالة خير دعاية لجهود الصحافة المصرية وكفاحها في سبيل الشعب المصري حتى أصبحت عونه الأول والأخير في نضاله وتقدمه الاجتماعي

قسم المؤلف رسالته - وتقع في نحو 350 صفحة - إلى أقسام يختص كل قسم بعصر سياسي تاريخي في مصر، وقد بدأ الرسالة ببحث ليس بالقصير يقع في فصلين، أولهما عن طريق النشر عند قدماء المصريين (وقد نال هذا الفصل تقديراً وثناء من الأستاذ جرابو أستاذ علم الآثار المصرية في جامعة برلين) وثانيهما عن طرق النشر في مصر تحت الحكم العربي، ثم تطرق الدكتور جلال إلى موضوع رسالته الأصلي فقسمها إلى:

1 -

الحملة الفرنسية وأثرها في نشأة الصحافة في مصر

2 -

نشأة (الوقائع) في عهد محمد علي

3 -

الصحافة المصرية في عصر إسماعيل

4 -

الصحافة في عصر توفيق إلى مبدأ الثورة العرابية

5 -

الثورة العرابية وأثرها في الصحافة المصرية

6 -

الصحافة في عهد الاحتلال إلى أول نشوب الحرب الكبرى

7 -

الصحافة أثناء الحرب الكبرى

8 -

الصحافة في الثورة الاستقلالية

9 -

الصحافة من إعلان الدستور حتى اليوم

هذه هي أبواب الرسالة الرئيسية قسم المؤلف كلا منها إلى ثلاثة فصول: درس في الفصل الأول العصر من الوجهة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وذكر في الثاني الصحف التي نشأت في العصر فتحدث عن كل صحيفة بالتفصيل ثم ترجم لمؤسسيها والمشتغلين بها، وتكلم في الفصل الثالث عن عوامل العصر السياسية والاجتماعية التي أثرت في تطور الصحافة. وقد قارن الدكتور جلال في كثير من العصور صحافة مصر بصحافة البلاد الشرقية المجاورة

أتت هذه الرسالة على جل ما يتعلق بصحافة مصر العربية، فكانت سفراً علمياً جامعاً سد به المؤلف فراغاً في تاريخ النهضة المصرية الحديثة

ص: 75

ولقد أحسن الزميل إذ ذكر في مقدمة رسالته أنه يهدي ثمرة جهوده هذه إلى صحافي مصر الذين اتخذوا الصحافة مهنة لهم يخدمون بها وطنهم مصر والذين لم يبالوا بما أصابهم ولن يعبئوا بما يصيبهم في سبيل القيام بهذا الواجب المقدس

فالشباب المصري يفتخر بجهود هذا الصحفي الشاب الذي جمع بين العلم والصحافة وجعلها سلاحه في خدمة بلاده والدعاية لها، ونحن نهنئه من قلوب تنبض سعيدة مستبشرة كلما شعرت بجهود ناجحة في سبيل الواجب

مراد كامل

دكتور في اللغات السامية

ص: 76

‌الكُتبُ

الباب المرصود

تأليف الأستاذ عمر فاخوري

من مطبوعات دار (المكشوف) - بيروت

للأستاذ محمد سعيد العريان

دأبت دار (المكشوف) على أن تنشر لقراء العربية خير ما يؤلفه أدباء لبنان في الآداب والفنون

والمكشوف كما قد يعرف قراء العربية في مصر هو جريدة أدبية يقوم على شئونها طائفة من خير أدباء لبنان، وهي لسان الجيل الجديد من أدبائه وكتابه وشعرائه

أما كتاب اليوم فهو سلسلة مقالات أنشأها منشئها الفاضل في مناسبات عدة، فلما بلغت عَّدتها أن تكون كتاباً أخرجته دار المكشوف لقراء العربية

أما الأستاذ عمر فاخوري مؤلف هذه الفصول فأديب من أدباء لبنان لا نجد ما نعرِّفه به إلى القراء إلا من قوله في بعض رسائل هذا الكتاب

(إني كثير المطالعة قليل الكتابة. وقد أوتيتُ بسطة من العيش وكثيراً من الفراغ يسَّر إلى الانصراف إلى كتبي ودفاتري، أقرأ وأقيَّد ما يعن لبالي، وقلما أغفل شاردة أو واردة لاعتقادي أنها تفيد يوماً من الأيام. ولو شئت الآن أن أعيد النظر في حياتي الماضية وأحصى ما مرَّ عليَّ من حوادث جديرة بالذكر، كي أكتب سيرتي بنفسي، لاستطعت دون عناء اختصارها في هذه الجملة الجامعة (مطالعات في زاوية بيت) فان الكتب التي طالعتها هي أعظم حوادث حياتي!)

ويبدو لي أن هذا الذي يقوله المؤلف عن نفسه هو حق؛ فإن أثر مطالعاته الشاملة المنوعة من أدب الشرق وأدب الغرب، واضح كل الوضوح فيما أنشأ من فصول هذا الكتاب، سواء في الرأي والفكرة والاتجاه العقلي، أو في أسلوب الكتابة

أما موضوع الكتاب فقد أسلفت الإشارة إليه، فهو فصول عدة كتبها كاتبها في مناسبات مختلفة بين سنتي 1926، 1937، ولكنها على طول العهد بين أجزائها تجمعها رابطة

ص: 77

واحدة يصح أن نسميها (نظرات في الشعر من بعض نواحيه)

ويتحدث المؤلف في الفصل الأول من هذا الكتاب عن (الشاعر وأبنائه) ويعني بأبنائه: مؤلفاته، أو بنات أفكاره على ما نسميها أحياناً؛ أما الباب الثاني فيتحدث عن الباب المرصود: الباب الذي يخال الإنسان أن وراءه السعادة التي يدأب في السعي إليها

وهو في الفصل الثالث يتحدث عن (كنوز الفقراء)، الكنوز التي يتعزَّون منها بوهم الأماني في الحكايات والخرافات وأساطير الأولين. وله في هذا الفصل فكر وروح شاعرة؛ ولكن له فيه إلى ذلك حديثاً عن النبوة والأنبياء كنا نؤثر ألا ينزلق إليه، وإن كنت أومن في نفسي أنه لم يقصد إلى معنى من المعاني التي تتبادر إلى ذهن قارئه. ولكنا نحب ألا نتناول الحديث عن النبوة والأنبياء إلا بالعبارة الصريحة التي تؤدي إلى نفس قارئها غير معنى واحد

وفي حديثه عن الشعر القومي وعن صديقه الشاعر (عمر الزعني) تقرأ له رأياً في العامية والفصحى أحسب أن لا أحد من أصدقاء الوحدة العربية يوافقه عليه

وله فصل بعنوان (المرأة المجلوة والمرآة الصدئة) جمع فيه إلى رأيه آراء، وتحدث عن الصلة بين الأخلاق والفن، وعن الأسلوب والمعنى، وعن الموضوعات التي ينبغي أن يتناولها الأديب، وهو موضوع له خطره تناوله الكاتب بروح الشاب الثائر يحكم فيه الحكم (المبرم) قبل أن تجتمع له مقدماته؛ فما ينبغي أن نتحدث عن صلة الأدب والفن بالأخلاق قبل أن نتفق على الرأي في الغاية من الأدب وفي رسالة الأديب وما يعود منهما على الإنسانية. ومهما يكن الرأي في ذلك فلا جدال في أن الأمة العربية في حالها الواقع لم تنضج بعد النضج الأدبي أو الخلقي الذي يبيح لنا أن ندعو إلى ما يسمونه الأدب المكشوف، على ما قد يكون فيه - كما يقول دُعاتُه - من السمو بالآداب والفنون!

وفي الكتاب غير ذلك فصول ممتعة، خليقة بأن يجد فيها القارئ لذة وفكراً ومعرفة؛ وحسبي أن أذكر منها: العمود الهادئ، والأحلام، والشاعر في السوق. فأنها فصول جديدة في موضوعها، وقد وفِّق الكاتب في تناولها توفيقاً يدعو إلى الإعجاب. . .

أما بعد فهذا كتاب من منشورات إخواننا العرب في لبنان وما أقل ما نعرف عن أدباء لبنان وغيرها من الأقطار العربية؛ وأقل منه ما نقرأ من مؤلفاتهم ومنشوراتهم؛ على حين يعرف

ص: 78

إخواننا في الشرق العربي من أدبائنا ويقرءون من مطبوعاتنا في مصر أكثر مما تعرف مصر نفسها عن أدبائها ومؤلفيها. وما نذكر ذلك لمعنى نفاضل به بيننا وبينهم في الأدب، ولكن لنذكر إخواننا في مصر بأن عليهم واجباً في الوفاء لإخواننا في البلاد العربية عرفوه ونسيناه، وإني لأشير إليه في هذه الكلمة اعترافاً بالحق وعرفاناً بالجميل

وإني لأشعر بكثير من السرور إذ أقدم هذا المؤلَّف إلى من يريد أن يقرأه من أدباء مصر، وإذ أعرفهم بأديب من جيراننا ينبغي أن يعرفوه ويقرءوا له؛ ولعلي بهذا أكون قد اعتذرت لإخواننا مما يظنون بنا وقمت بشيء مما علينا لإخواننا من الوفاء وعرفان الجميل

محمد سعيد العريان

ص: 79