الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 263
- بتاريخ: 18 - 07 - 1938
من الذكريات الجميلة
على ذكر الجدال في الشرق والغرب
عرفت في باريس عام 1925 الآنسة (فرناند) ابنة أحد القضاة في محكمة (ديجون). كانت طالبة بالسنة الأخيرة من كلية الحقوق، وكان لها بالمستشرق المرحوم (ب. كازانوفا) أستاذ الأدب العربي في الكوليج دي فرانس صلة قرابة أو صداقة، فعرفني إليها لتكون لي في مدينة النور ما كانت (بياتْرِكْس) لدانتي في جنة الفردوس
وكانت هذه الفتاة آية في الجمال والذكاء والظَّرف؛ وكان أعجب ما فيها أنها تؤلف في نفسها بين المتناقضات فلا يكاد النظر العادي يلحظ ما بينها من التنافي! فهي منطقية الفكر حرة العقيدة؛ وهي خيالية الذهن شاعرية العواطف؛ تؤمن بنيتشه كما تؤمن بالمسيح، وتقدس جمهورية الثورة كما تقدس مَلَكية البربون، وتُشيد بفتح العرب للأَندلس كما تشيد بغزو الصليبين للقدس، وتعجب بروحية الشرق كما تعجب بمادية الغرب، وتحدثك في ذلك كله حديث المطلع المقتنع الفاهم؛ فإذا أخذت عليها شذوذاً في قياس القضية، أو نشوزاً في سياق الحديث، عمدت إلى المزاح البارع أو التهكم اللاذع أو الأسلوب الخطابي فتميت على لسانك البيان، وتُطير من عقلك الدليل
أدهشني منها إلمامها بأدب العرب وحكمة الإِسلام وفلسفة الشرق. فلما عرفت اتصال سببها بالأستاذ كازانوفا وهو الذي جعل فنَّه أساطير الشرق وأدب القرآن، عزوت إليه هذا الميل وذلك العلم؛ وعرفت منها بعدئذ أنها كانت تستمع إلى محاضراته في التفسير ومسامراته في الآداب، وأنه أهدى إليها (حديقة الزهور) لصاحب المعالي الأستاذ واصف غالي، وأعارها ترجمة ألف ليلة وليلة لماردروس، فكان أكثر حديثها عن بغداد ودورها التي تفيض بالنعيم والسحر، وتنفح بالبخور والعطر، وتمرح بالقيان والغزل؛ وعن دمشق باب الجزيرة إلى الفردوس، وطريق البادية إلى الحضارة، وملتقى القبائل والقوافل في الخانات المملوءة بالسماسرة والتجار، والأسواق المحفوفة بالمغامرات والأسرار، والغوطة الفياضة بالجمال والحب؛ ثم عن مصر التي خلقت المدنية، وأنشأت الفن، وشرعت الدين، وولدت موسى، وآوت عيسى، وتوجت الملوك بالشمس، وكفنتهم بالخلود، ودفنتهم في الذهب. ثم كانت تتحرق شوقاً إلى النيل وأيامه المشمسة التي يضحك فيها القطن، ولياليه المقمرة التي يحلم
بها النخيل. فكنت أقرن شوقها إلى مصر بالدعاء إلى الله أن يهيئ لهذا المحيا الفاتن أن يتفتح نظيراً في جوها الإِضحيان الطليق
أدينا الامتحان معاً؛ ثم أرسلت نفسي الحشيمة على هواها ومناها، فزرنا معابد الطبيعة في فنسين وسان كلو وفنتينبلو، وحججنا محاريب الفن في اللوفر والأوبرا وفرساي. وكنت يومئذ أترجم (رفائيل) فكان ما أقرأ وما أكتب وما أسمع وما أرى نَسَقاً عجيباً من الجمال والجلال والفن والشعر والحب والتأمل والاستغراق، لا يدع للخيال الوثاب مَسْبحاً، ولا للنفس الطماحة رغبة. ثم أحَمَّ الفراق فرجعتُ إلى مصر ولحقت هي بأهلها في مدينة (رويَّان)
وكان بيني وبينها رسائل مسكية المداد، وردية الورق، تؤلف كتاباً من شعر القلب والعقل تناول فيما تناول الفروق الناشئة بين الشرق والغرب من اختلاف وجهة نظريهما إلى الحياة، إذْ هي في نظر الشرقي دار ممر، وفي نظر الغربي دار إقامة
وفي فبراير من عام 1928 زارت مصر هي وزوجها، وهو ضابط فرنسي كان في طريقه إلى عمله في جيش سورية؛ فكنت لهما ترجماناً ودليلاً مدى أسبوعين إلى مخلفات الفراعين، وطلول الفسطاط، وقطائع ابن طولون، وقاهرة المعز. وسنحت الفرصة المرجوة فاجتمع القلبان والذوقان على فتون الشرق الحبيب. ورأيت من (مدام روجيه) عزوفاً قوياً عن الشوارع الأوربية في مصر الحديثة، وولوعاً شديداً بالتجوال في الغورية والنحاسين والجمالية وخان الخليلي، وشوقاً ملحاً إلى استطلاع المجهول، واستكناه الغامض، واستخبار الناس، واستحضار الماضي. وكانت كلما أوغلت في هذه الأحياء، واستبطنت دخائل هذه الأشياء، شعرت بالحاجة إلى زيادة الإِيغال وإطالة النظر وإدامة التقصي، كأنما كانت تبحث عن شيء تعتقد وجوده ولا تراه، ثم قالت ذات مساء وهي على شرفة القلعة تشاهد مغرب الشمس من وراء الأهرام:
رباه!! إن من وراء هذه الآثار التي أجهدها الدهر، وهذه المآثر التي شوهها الجهل، وهؤلاء الناس الذين مسخهم الفقر، لروحاً خفية تبعث من خلال هذه الأغشية الكثيفة هذا الشعاع اللطيف الذي يشرق في هذه الوجوه الشقية المحرومة فيبدد عنها كُرَب العيش
هذه هي روح الشرق الإِلهية المجهولة، فمن زعم أنه يحكم عليها من وراء هذه الأخلاق
المنحلة، والنظم المعتلة، والمشاهد الزرية، كان كالذي لم ير الشمس ثم يحكم عليها من وراء الغمام والقتام والبعد! اجلوا عن هذا الروح العظيم هذه الغشاوة، واكشفوا عن هذا الجوهر الكريم هذا الرغام، ثم اجعلوه إلى جانب الغرب الخلاق بالعلم، البراق بالصنعة، واحكموا بينهما فلعلكم بذلك تكونون أدنى إلى السداد
أحمد حَسن الزياتْ
بين الشرق والغرب
رد على رد
للأستاذ فليكس فارس
كتبت مقالي في العددين (257 و 258) من الرسالة تحت عنوان الشرق والغرب فأوردت فيه بعض مباحث دارت بيني وبين الدكتور إسماعيل أدهم، فإذا به يأتي في عدديْ (259 و 260) بما يعتقده مؤيداً لرأيه، وهو المبدأ الذي حاول تعزيزه في مناظرة (20 مارس سنة 1938) يثبت أن من الخير لمصر أن تأخذ بالحضارة الغربية. وقد أحسن الدكتور أدهم بإيراده ملخص أقواله إذ عرض بذلك على المفكرين ما يتمم البحث بإيضاح النظرية الإيجابية في قضية تشغل كل محب لأوطانه في هذا الشرق العربي الذي آن له أن يعين اتجاهه ويتطلع إلى مصير أبنائه وأحفاده
هذا ولا بد لي في هذا المقام أن أكرر على قراء الرسالة ما قلته لمن غصَّ بهم رحب قاعة المناظرة حين دافع الدكتور عن نظريته، ولمحت شيئاً من الأشياء لموقفه على وجوه الشبيبة العربية. قلت: إن صديقي الدكتور أدهم فيلسوف غربي لا يسلم تفكيره في الاجتماع من نزعات فطرته، كما لا يسلم تفكيرنا نحن من نزعات فطرتنا. فالمسألة مسألة اجتماعية يدور بها الشيء الكثير من حوافز الذوق الموروث، لذلك أرى موقف صديقي مهاجماً أحرج من موقفي مجارياً، فأشكره على صراحته معتقداً بحسن نيته وبأن حبه للشرق ولمصر هو ما يحفزه إلى محاولة إقناعنا بأفضلية الحضارة الغربية؛ ليس عدوَّا من ناقشك ودعاك إلى الأخذ بم يعتقده حقَّاَ لأنه يتمنى لك ما ارتضاه لنفسه
والآن لأرسلن نظرة عجلى في ما كتبه الدكتور أدهم في الرسالة متناولا ما يستوقفني فيه مما لم أتناوله في مقالي السابق متجنباً التكرار متوخياً حصر الموضوع في دائرة محدودة نصل منها إلى نتيجة، لأن اقتحام الجدل من أجل الجدل لا يؤدي في الغالب إلا إلى الانتقال لفروع القضية بالتغاضي عن أصلها
1 -
إن مُناظري يعترف بأن لمصر ثقافة تقليدية لا يمكنها أن تخرج عنها ما لم يهتز المجتمع في صميمه، ولكنه يعود بهذه الثقافة إلى أصل فرعوني راسخ سواء في طرق المعيشة أو في الدين؛ ودليله على استقرار مصر على حضارة فرعونية جلباب الريفي
الأزرق وطرق الري، وبرهانه على استقرارها على دين الفراعنة تطرق تقاليده إلى الدين الإسلامي، وبتعبير أصح إلى حياة المسلمين
أما أن يعد المناظر طريقة استغلال الأرض فطرة فذلك مما لا يوافقه أحد عليه، لأن المسألة هنا تتعلق بتطور في أساليب الصناعة، ولا شأن للفطرة فيها. ولو كان الأمر كما يقول المناظر لكان كل مرتَدٍ لغير القميص الأزرق، وكل حارث بآلة حديثة، وكل مستبدل (شادوفاً)(بطلمبة)، فاقداً للفرعونية التي يريد المناظر بعثها أساساً لحضارة مصر. . .
أما أن تكون التقاليد التي احتفظ بها السكان من الحضارة المنقرضة دليلاً على بقاء الدين فرعونياً في مصر فذلك ما لا يقره عليه أحد، لأن ما تبقى من العادات يعد بدعاً لا يزال الدين يعمل على اقتلاعها من المجتمع لخيره وسلامة إيمانه
إن مصر لن تكون فرعونية في القرن العشرين إلا إذا تراجع الزمان القهقري طاوياً معه كلمة الله التي جعلت قوم فرعون حديثاً في تاريخ الشعوب
2 -
إن مناظري يستبعد سائر البلاد العربية عن البحث مدعياً أن ثقافة مصر مستقلة تجاه الحضارة العربية، لأن لها طابعاً خاصاً، ولأن لغتها العربية استمدت من الثقافة الفرعونية قدرتها على صوغ المعاني بما يتكافأ ومحيط مصر، فاللغة العامية في هذا الوادي إنما هي - بحسب رأي الدكتور أدهم - فرعونية آخذة بأسباب التعرب. . .
أما أن تكون مصر ذات ثقافة خاصة تتميز بها عن سائر الأقطار العربية فذلك ما ننكره على المناظر، لأن لشعوب سائر الأقطار العربية كلها جدوداً عاصروا الفرعونيين وتركوا في التاريخ ذكرى حضارات لم يبق منها سوى أعمدة محطمة وهياكل متداعية
إن في كل من الأقطار العربية من المميزات الإقليمية ما لا ينكره أحد؛ وقد تجد مثل هذه المميزات في أحياء مدينة واحدة، ولكنها أضعف من أن تسلخُ هذه الشعوب عن ثقافة عامة شاملة لها في اللغة والموسيقى ونظام الأسرة وروح التشريع. وهذه المميزات العامة هي ما تقوم الحضارة الأدبية عليه في كل الأمم
أما أن تكون اللغة العامية في مصر عبارة عن لغة فرعونية في أصلها فذلك مما نقف عنده متسائلين عما إذا كان الدكتور أدهم لا يقصد هزلاً به. . .
ليست اللغة العامية في مصر إلا كسائر اللغات العامية في الأقطار العربية، لغة أفسدتها
عصور الانحطاط، فانك لو أغضيت عن اللهجات في كيفية الإلقاء، وهذا مما يصعب توحيده في أقاليم أية أمة، فإنك لا تجد إلا كلمات معدودات يختلف النطق بها بين مصر وسوريا وبغداد مثلاً؛ غير أنها كلمات عربية شوهها الاختصار، ولكنه استبقى على أصلها. فأين (دلوقتي)(وإزيك) من لغة الفراعنة؟ وأين (شو بدَّكْ) من لغة أبناء فينيقيه؟
3 -
أراد مناظري أن يجعل العلم والثقافة شيئاً واحداً، فهو يقول بانبثاق الثقافة من العلوم الأصلية، ونحن لا نعلم ما هي العلاقة بين علم طبقات الأرض مثلاً والمبادئ الأدبية التي يقوم المجتمع عليها. وقد أوردنا في مقالنا السابق ما يغنينا عن التكرار في هذا الموضوع
يرى المناظر أن اليابان أصبحت عالة على أوربا لأنها أخذت العلم الوضعي عنها ولم تأخذ بحضاراتها في آن واحد. فحضرته يميز إذن بين العلم والحضارة. . . في حين أنه يقول بصدور الحضارة عن العلم
ثم هو يقول إن أوربا تعمل بحضارتها للتحرر من استعباد الآلة. ونحن نرى أن أوربا لن تخلص من هذا الاستعباد إذا هي لم تخرج على مبادئ حضارتها
4 -
يعود المناظر إلى التمسك بقوله إن الشرق يقيم الحياة على أساس غيبي لتنظيم الصلات بين البشر؛ ونحن لا ننكر على الشرق هذه الفضيلة، ونود لو اتخذها الغرب أساساً لحضارته؛ لأن كل تنظيم لعلاقات البشر في المجتمع لا يرسو على الإيمان باستمرار الحياة بعد الموت، لا يجد مرتكزاً له في غير مبدأ الحق للقوة سواء أكان ذلك بين الأفراد أم بين الأمم
5 -
نشكر للمناظر اعترافه بأن المنطق مشاع بين الأمم، بعد أن كان في مناظرته ينكره على الشرق. ولعله يذكر كما يذكر من حضر المناظرة إصراره على القول بأن الإقليم والبيئة في الشرق يجنحان بأهله إلى الخيال دون التفكير والاستقراء مما دعانا إلى الرد عليه بقولنا:
6 -
إذن، لماذا تدعونا إلى ما لا قبل لنا به ولا إمكان لاقتباسه ما لم نهجر أوطاننا ونذهب إلى الغرب نتوطن فيه أجيالاً نستبدل بأدمغتنا الشرقية أدمغة غربية. إذا كان لا يسعنا أن نملك المنطق إلا بهذه التضحية فعلى المنطق العفاء. . . غير أننا كنا عندما أنشأنا حضارتنا على أرض هذه الشرق وتحت سمائه أسياد المنطق في العالم
أما وقد أعلن المناظر أخيراً اعتقاده بأن المنطق مشاع بين الأمم وأنه يضعف إذا أهمل، فقد أصبحت دعوته للشرق للأخذ بمنطق الغرب دعوة لا مبرر لها، بل قد أصبحت ولها معنى واحد وهو الاهابة بالشرق للنهوض وللعمل على استعادة مجده بالرجوع إلى تفكيره وشعوره
7 -
يقول المناظر إن الفلسفة الإسلامية روحها يونانية ومنطقها يوناني، لأن الفارابي وابن سينا وسواهما علقوا إرادة الخالق بقوانين الكون. ولا نعلم ماذا يقصد الدكتور بهذا. إن فلسفة المفكرين ليست إسلامية ولا مسيحية؛ إن هي إلا آراء في الخلق لا تمتُّ إلى الدين بسبب. إن الإيمان لا يقبل جعل الخالق أسيراً لما خلق. فإن كان الله جل جلاله قد وضع لهذا الكون نظاماً أفيعجز عن تبديله حين يشاء؟ إنها لفلسفة غريبة هذه الفلسفة التي تذهب متحرشة بإرادة المبدع قاصدة تحليلها لتعلم ما إذا كان بوسعه أن يحكِّم إرادته فيما أبدع
إننا نسلّم للدكتور بل نرجوه أن يقتنع بأن هذه الفلسفة منحدرة من ذهنية يونانية تعودت خلق سيئات الآلهة واختراع الأساطير عنهم وتحليل إرادتهم وغضبهم وغشهم وجنونهم وسكرهم
8 -
يقول المناظر في ردّه على الأستاذ توفيق الحكيم إن علينا أن نعمل لدنيانا كأننا نعيش أبداً، ثم يقف فلا يورد الشق الثاني من هذه الآية العربية وهو (واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً) غير أنه عليّ أن ألفت مناظري إلى أن الملحد لا يمكنه دون أن ينقض مبدأه أن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبداً لأنه يعلم أنه صائر إلى العدم وأن أبناءه مولودون لدود القبور فهو مطالب بالتنعم في يومه ما استطاع. إن من لا أبدية له لا غد له. . .
9 -
إن المناظر يجد قصوراً في عدم مجاراة العرب لليونان في آدابهم التي جالت على قوله في رحاب الموضوعية خارجة من رحاب الذات، ويذهب بهذا إلى القول بأن التحليل ليس من مكنة الذهنية العربية
لا يا مناظري، إن الأديب العربي قد استوعب في ذهنيته كل ما جال في خاطره وفي الآفاق حوله، فما كان عليه أن يصوّر حياة اليونان أو يتذوق أساطيرهم وخرافاتهم فيحذو حذوهم، لأن فطرته لم تكن تستنيم لثقافة غريبة عنه. وهل لنا أن نلوم الألماني مثلاً لأنه لا يأتينا بما أتى به موسيه، أو نلوم هوجو لأنه لم يكتب كنيتشه؟. . .
إن الآداب صورة لثقافة الشعب وحياته، وقد أخذ أجدادنا العلوم عن اليونان لأن العلم مشاع كما سلمت. فهل كانت حضارتنا الأدبية يونانية لتكون آدابنا يونانية؟
10 -
إن المناظر يرى في انتصار شارل مارتل إنقاذاً للعقلية الغربية من طغيان روح النسك الآسيوية. وهو يعترف في الوقت نفسه بأن العقلية الغربية كانت رازحة تحت كاهل اللاهوت الكنسي الذي قام في روما رقيباً على النفوس والعقول محملاً بكل سيئات النسك الآسيوية
أفليس من الغريب أن يرى الدكتور أدهم في انتصار مارتل إنقاذاً للغرب من روح النسك الآسيوية في حين أن الإسلام لم يكن فيه شيء من هذه الروح التي سادت بها روما باسم المسيحية؟ فإذا كان مارتل أراد إنقاذ الغرب من النسك، أفما كان عليه أن يتحول من نهر اللوار إلى روما بخيله ورجله؟
بقي علي أن ألقي نظرتي الأخيرة على أول كلمة توَّج بها مناظري ردَّه. وهي كلمة (هابل آدم) التي أوردها آية يدعونا بها إلى الأخذ بعقلية الغرب لنصلح حياتنا حتى إذا انتقلنا إلى الحياة الأخرى فهنالك نتبع العقلية الشرقية الملائمة للحياة الباقية (كذا. . .)
مرحى لهابل آدم. . . أفيلسوف اجتماعي من يقول بمثل هذا؟
ليذهب أشباه (هابل) في هذه الحياة بعقليتهم المنكرة لكل عقاب وثواب. ليسحق الأقوياء الضعفاء سحقاً سواء أكانوا أفراداً أم شعوباً، وليدوسوا على الحق بالقوة الغاشمة وبالقوة المتحيلة، حتى إذا اجتاز الكافرون معبر الموت حقّ لهم أن يعملوا بذهنية الشرق وأن يقفوا أمام الديان هاتفين: ربنا إننا نتوب إليك فاحشرنا مع المؤمنين الصالحين.
(البقية في العدد القادم)
فليكس فارس
شوقي
توارد الخواطر
لأستاذ جليل
قصد شاعرنا (أحمد شوقي) وهو تلميذ باريس يطلب (علم الفقه) فيها على علمائها ليرجع إلى مصر قاضياً أو مِدْرها (محامياً) وقد فطره الله شجاع الجنان جبان اللسان مثل الرضيّ (الموسويّ)(محمد بن الطاهر) القائل:
جناني شجاع إن (شعرت) وإنما
…
لساني إن سيم النشيدَ جبان
وفخر الفتى بالقول لا بنشيده
…
ويروي فلان مرة وفلان
وفي باريس الفاتنة الساحرة هذه قال شوقي قصيدة (خدعوها) وفيها هذان البيتان:
يوم كنا (ولا تسل كيف كنا)
…
نتهادى من الهوى ما نشاء
وعلينا من العفاف رقيب
…
تعبت في مراسه الأهواء
وقد قال شاعر قديم الأبيات الآتية وهي في الجزء الرابع من (طبقات الشافعية الكبرى) غير منسوبة إلى أحد:
ما على عاشق رأى الحِبّ مختا
…
لا كغصن الأراك يحمل بدرا
فدنا نحوه يقبل خدي
…
هـ غراماً به ويلثم ثغرا
وعليه من العفاف رقيب
…
لا يُداني في سنة الحب غدرا
وهذه الأبيات لم تُر في ذاك الوقت في غير (الطبقات) ولم تكن المطبعة - وشوقي ناشئ أو شاب - قد أظهرت ذلك الكتاب. فهل قرأها شوقي في الطبقات المخطوطة؟ وهل كان يطالع مثل هذه المصنفات في حداثة سنه أو رآها في كتاب مطبوع غير الطبقات أم هذا من توارد الخواطر؟
أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري يقول في كتاب الصناعتين: (قد يقع للمتأخر معنى سبقه إليه المتقدم من غير أن يُلم به، ولكن كما وقع للأول وقع للآخر. وهذا أمر عرفته من نفسي فلست أمتري فيه، وذلك أني عملت شيئاً في صفة النساء: سفرن بدوراً وانتقبن أهلة، وظننت أني سبقت إلى جمع هذين التشبيهين في نصف بيت إلى أن وجدته بعينه لبعض البغداديين فكثر تعجبي، وعزمت على ألا أحكم على المتأخر بالسرق من المتقدم حكماً حتماً
قلت: والبغدادي هذا هو أبو القاسم الزاهي وقد روى الثعالبي له في (خاص الخاص) و (الإيجاز والإعجاز) هذين البيتين، وقال: (أمير طرائفه وأحسن شعره قوله في النسيب:
سفرن بدورا، وانتقبن أهلة
…
ومِسن غصوناً، والتفتن جآذرا
وأطلعن في الأجياد بالدر أنجما
…
جُعلن لحبات القلوب ضرائرا)
وفي شرح المقامات للشريشي: (سئل المتنبي عن اتفاقات الخواطر، فقال: الشعر ميدان، والشعراء فرسان، فربما اتفق توارد الخواطر، كما قد يقع الحافر على الحافر)
ولقد صدق المتنبي وما كذب، فهناك حقاً توارد الخواطر وهناك - وعلم هذا عند أبي الطيب - غارات الشاعر. . . وقد قال الإمام المرزباني في (الموشح):(كان الأخطل يقول: نحن معاشر الشعراء أسرق من الصاغة. . .)
الياء في مثل هذا الاسم (شوقيّ) هي للنسبة أو الإضافة - كما يسميها صاحب (الكتاب) - وهي هدية أو بلية تركية. ومثل شوقيّ، عدليّ، رشديّ، صدقيّ، حلميّ، حقيّ، حمديّ، حسنيّ، سريّ، سعديّ، فتحيّ، شكريّ، فهميّ، فوزيّ، فخريّ، فكريّ، وصفيّ
والترك اللذين أتحفوا العربية بمثل هذه البلية هم (جيل من الناس) كما قال الصحاح والجمع أتراك، قال الإمام محمود جار الله الزمخشري في كتابه (أساس البلاغة):(وتقول: تراكِ تراك صحبة الأتراك)
ومن مشهوري الترك وأبطالهم ورجال القتال فيهم: جنكزخان، هولاكو، تمرلنك، أتاتورك
فيحق على كل ناطق بـ (الضاد) في كل إقليم أن يرفض هاتيك (الياء)، وإن الأسماء الجميلة الكيّسة في اللسان المبين لسان القرآن لأكثر عدداً من رمال الدهناء ومن نجوم السماء
(الإسكندرية)
(* * *)
جورجياس أو البيان
لأفلاطون
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 4 -
(تنزل (جوريجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف، لأنها
أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلا)
للفلسفة!)
(رينوفييه)
(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة دائماً وتنتصر لأنها أقوى وأقدر
من جميع الهادمين!)
(جورجياس: أفلاطون)
الأشخاص
1 -
سقراط: بطل المحاورة: (ط)
2 -
شيروفون: صديق سقراط: (س)
3 -
جورجياس: السفسطائي: (ج)
4 -
بولوس: تلميذ جورجياس: (ب)
5 -
كاليلكس: أثيني: (ك)
ط - (تابع ما قبله) وإذا قال لي بعد ذلك مدرب الألعاب الرياضية: (إني لجد دهش يا سقراط لأن جورجياس يريد أن يريك أن الخير الذي ينتج عن فنه أعظم من الخير الذي ينتج عن فني): فإني سأقول له: ومن أنت وما مهنتك يا صديقي؟ وطبعاً سيجيب بأنه مدرب ألعاب، وبأن مهنته هي تجميل الجسم وتقويته! ثم إذا أتى رجل الأعمال بدوره واحتقر جميع المهن الأخرى وقال فيما أظن: (أحكم بنفسك يا سقراط إذا كان جورجياس أو
غيره يستطيع أن يأتي بخير أعظم من الثروة؟) فإنا سنقول له: ماذا؟ وأي شيء تمتهن؟؟ وسيجيب مؤكداً ما قال!! وهنا سنسأل: ومن أنت إذاً؟ وسيقول: إنه رجل أعمال! ومن ثم سنقول له: عجباً! أتعتبر الثروة أعظم الخيرات جميعاً؟ وسيكون جوابه: نعم بكل تأكيد!)
فترى هل أتبع يا جورجياس من يدعي أن فنه ينتج خيراً أعظم من الخير الذي ينتجه فنك؟ واضح أنه سيسأل بعد ذلك عن هذا الخير الأكبر الذي تقول به يا جورجياس! فتصور إذاً أن نفس السؤال قد وجه إليك منهم ومني، وأخبرني من أي شيء يتركب ذلك الذي تسميه أعظم خيرات الإنسان، والذي تفخر بأنك تجلبه للناس؟
ج - إنه في الحقيقة يا سقراط أكبر الخيرات وأعظمها! بل إنه ما ينسب إليه الناس دفعة واحدة استقلالهم، وما يمد كل فرد في مدينته بالوسيلة التي يسود بها على الآخرين!
ط - ولكني مازلت أسأل ما هو؟
ج - إنه - فيما أرى - أن يكون المرء قادراً على أن يقنع بالخطاب القضاة في محاكمهم، والشيوخ في مجالسهم، والجماهير في جمعياتهم، أو هو - في كلمة - إقناع من يكونون كل نوع من أنواع الاجتماع السياسي؛ وبهذه القدرة يترامى الطبيب ومدرب الألعاب على قدميك، بل وبها ترى أن رجل الأعمال لا يثرى من أجل نفسه، بل من أجل شخص آخر هو أنت يا من تمتلك فن الكلام وكسب روح الجماعات!
ط - يلوح أخيراً يا جورجياس أنك قد أريتني بكل ما تستطيع من تقريب أي فن هو البيان في رأيك. وإذا كنت قد فهمت حسناً فإنك تقول إنه (عامل الإقناع)، وإن الإقناع غاية كل عملياته، وإنه - بالاختصار - ينتهي إليه.، فهل تستطيع حقيقة أن تبرهن لي على أن قدرة البيان تذهب إلى أبعد من توليد الإقناع في نفوس المستمعين؟؟
ج - أبدا يا سقراط! وأرى أنك قد عرفته تعريفا حسنا لأنه إنما يرد إلى ذلك حقا.
ط - أصغ إليّ يا جورجياس! إذا كان هناك من يتحدث إلى غيره ويرغب في نهم أن يعرف تماماً موضوع الحديث، فكن واثقا أني أملق نفسي بأني من هذا النوع، بل وأحسب أنك منه أيضاً.
ج - وإلى أي شيء يتجه يا سقراط؟
ط - يتجه إلى هذا. سأقول لك إني لا أتبين بوضوح طبيعة ذلك الإقناع الذي تنسبه إلى
البيان، ولا من ناحية أي الأعمال يأخذ ذلك الإقناع مكانه!، وليس هذا لأني لا أشك فيما تريد أن تقول فحسب، بل لأني سأطلب منك أيضاً أي إقناع يولده البيان، وحول أي المواضيع يدور ذلك الإقناع. ولتعلم أني إذا سألتك بدلا من أن أشركك معي في أوهامي وظنوني، فإني لا أبغي بسؤالي شخصك، وإنما أبغي به أن يتقدم بنا الحديث على نحو يحدد لنا موضوع السؤال بالوضوح المستطاع. فاحكم بنفسك هل أنا مصيب في سؤالي إذا سألتك: من أي أنواع المصورين وإذا أجبتني بأنه مصور حيوان، ألا يكون لي الحق في أن أطلب منك فضلا عن ذلك: أي الحيوانات يصورها؟ ومن أية ناحية؟؟
ج - بلا شك.
ط - أو ليس الأمر كذلك لأن هناك مصورين كثيرين يصورون حيوانات أخرى كثيرة؟
ج - بلى.
ط - بينما لو كان هو المصور الوحيد للحيوانات فعندئذ تكون إجابتك حسنة.
ج - بالتأكيد.
ط - فأخبرني إذا فيما يتعلق بالبيان، أيلوح لك أنه الوحيد الذي ينتج الإقناع، أو أن هناك فنونا أخرى تستعمل الإقناع بمقدار ما؟ أريد أن أقول أيقنع كل من يُعلمُ شيئا ما ذلك الذي يعلمه أم لا يقنعه!
ج - إنه يقنعه تماما من غير ما تنقض يا سقراط.
ط - ولكيما نعود إلى نفس الفنون التي أشرنا إليها من قبل، ألا يعلمنا الحساب ورجاله كل ما يتعلق بالأعداد؟
ج - بلى.
ط - أو لا يُقنعون بها في نفس الوقت؟
ج - نعم.
ط - فالحساب إذا عامل إقناع كذلك!
ج - يلوح هذا.
ط - فإذا سأل سائل: أي إقناع ومن أية ناحية؟، فالجواب هو الإقناع الذي موضوعه كمية العدد فردا كانت أم زوجا وكذلك نستطيع أن نبين إزاء الفنون الأخرى التي نتكلم عنها أنها
تنتج الإقناع وأن نميز فيها النوع والموضوع. أليس ذلك صحيحاً؟
ج - بلى.
ط - إذا ليس البيان وحده هو الفن الذي موضوعه الإقناع!؟
ج - إنك تقول حقاً.
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
دراسات للمستشرقين
قيمة التراجم الأعجمية الموجودة للقرآن
للعلامة الأستاذ الدكتور أ. فيشر
حين أبدأ بنشر تعريب بعض آثار المستشرقين أرى أن أذكر أني طالما ترددت في أن أنقل إلى العربية دراسة من دراسات هؤلاء العلماء لتكون ضمن مواد (الرسالة)، وما ذلك إلا لأنه (أولاً) ليس من السهل أن يقع الاختيار على بحث قائم بذاته ليس له ارتباط بدراسة أخرى سابقة له أو لاحقة تستكمله أو تنقض شيئاً منه، ثم هو إلى ذلك مما يستهوي قراء الرسالة. و (ثانياً) لأن أبحاث المستشرقين النابهين هي دراسات علمية أجمع على صحتها، ويستسيغ من تابع دراسة الاستشراق دراسة منظمة فهم تلك الأبحاث وإدراك كنهها. وكنت أخشى أن يصطدم بعض حضرات القراء بهذه العقبة، ولكني وجدت في دراسة العلامة الأستاذ الدكتور أ. فيشر لقيمة التراجم الأعجمية الموجودة للقرآن ما يغنيني عن الأخذ بهذه التقديرات. وأرى قبل أن أسوق إلى إخواني في اللغة بحثه معرباً - وكان قد نشره باللغة الألمانية في أواخر سنة 1937 - أن آتي بشيء من سيرته؛ أما التبسط فيها فله مجال آخر. وهأنذا أستعير كلمات المغفور له ج. برجستراسر الأستاذ السابق بالجامعة المصرية لنتعرف منها على مكانة الأستاذ العلامة أ. فيشر، فقد وصفه (بالمعلم الأكبر) في الحفلة التكريمية التي أقامها له العلماء المستشرقون من ألمان وإنجليز وفرنسيين وروسيين وغيرهم في جامعة ليبزج بمناسبة بلوغه الستين من عمره، وكان ذلك في اليوم الرابع عشر من شهر فبراير سنة 1925. وقد أسس معهد اللغات السامية في ليبزج منذ سبع وثلاثين سنة. وتفرغ للغة العربية الفصحى لعصرها الذهبي (حتى صار حجتها ومرجعها)، (جامعاً بين علوم اللغة وآدابها، متفرداً في دراسة الشعر)، (محيطاً بتاريخ الشعوب الإسلامية والعربية والسامية)(واقفاً على دقائق الحياة الفكرية فيها). ثم هو إلى ذلك (يسيطر على كل اللغات السامية التي لها بالعربية صلة قريبة أو بعيدة). وهو في كل بحث له يتعقب مسائله مسألة مسألة إلى أقصى حدودها) لذلك كانت (دراساته التي ينشرها قطعاً من ذهب جاء بها من كنزه الذي لا يفنى). أما معجمه اللغوي التاريخي الذي أخذ منذ سنين يضحي من أجله جل وقته وجهده، ثم أهداه إلى مجمع اللغة العربية الملكي الذي يسّر له
متابعة العمل فيه لنشره فسيكون كما قال برجستراسر (ذخيرة للأجيال المقبلة يستفيد منه أبناء العربية وعلماؤها)
وإني أكتفي بهذا القدر من التوطئة والتعريف بمكانة أستاذي العلامة أَ. فيشر ليطلع القارئ الكريم على بحثه فيما يلي:
توجد للقرآن عدة تراجم إلى اللغات الأعجمية. ولقد تعرفت البلاد الغربية القرآن لأول مرة عن طريق الترجمة اللاتينية التي أوصى ببترفون كلوجني المعروف باسم بطرس فنرابيليس ذي النظر الثاقب، كلا الراهبين روبرتس رتننسيس والأرجح أنه كاسترنسيس أي المنسوب إلى شستر والراهب هرمانوس والماتا بوضعها، وكان ذلك حول منتصف القرن الثاني عشر. غير أن هذه الترجمة لم تظهر إلا عام 1543 ميلادية عن تيودور ببلياندر من مدينة يال ثم اتخذت هذه الترجمة تكأة لأقدم التراجم التي نعرفها في اللغات الإيطالية والألمانية والهولاندية. وتعد ترجمة لدفيكو مراتشي التي تم طبعها في مدينة بادوا عام 1698 ميلادية، وقد حولت الأصل العربي والترجمة اللاتينية والتخطئة أحسن ترجمة للقرآن ظهرت في ذلك العصر. ومن ذلك العهد لم تنقطع قط سلسلة تراجم القرآن إلى اللغات الغربية. ويجدر بنا أن نذكر أن المسلمين من غير العرب ممن لا يفقهون العربية شعروا منذ أمد بعيد بحاجتهم هم كذلك إلى ترجمة القرآن للغاتهم القومية، فكان أن ظهرت تراجم للقرآن إلى اللغات الفارسية والتركية والهندستانية والجودشراتية والبنجانية والسندية والبنغالية والتأميلية ولغة الباشتو ولغة أهل الملايا (وكذلك أيضاً اللغة الصينية؟)، كما أنه ظهرت تراجم ببعض اللغات الأفريقية. ويعد قيام المسلمين في العصر الحالي بترجمة القرآن إلى مختلف اللغات الأوربية أمر له خطورته العظمى. والمرجو عندئذ أن تتوارى التراجم التي قام بها غير المسلمين والتي قد تحمل في طياتها نزعات معادية للإسلام. كذلك يرجى لهذه التراجم المنتظرة أن تكون بمثابة دعاية حسنة للإسلام بين المسيحيين. وهذا الدافع الأخير له أثر كبير في نشاط الأحمدية في هذا الميدان. والأحمدية هي فئة ظهرت حديثاً في لاهور بالهند ابتدعت مذهباً جديداً في الإسلام ونزولا على اقتراح بهذا الشأن لشيخ الجامع الأزهر حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي المعروف بنزعته العصرية، ذلك الاقتراح الذي عضده فيه
جماعة كبار علماء الأزهر الشريف بفتوى منهم، أخذت الآن وزارة المعارف العمومية المصرية في درس الموضوع وتألفت لذلك عدة هيئات من العلماء ليروا هل يحسن أن يترجم القرآن ترجمة أمينة يعتمد عليها، أم يكتفي بترجمة معاني القرآن إلى اللغات الحديثة الحية، فيترجم أولاً إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية، وما ذلك إلا لأن ترجمة كلام الله الكريم في كتابه العزيز أمر مستحيل. كذلك تألفت في حيدر آباد (الدِّكن) هيئة جمعت عددا من أجلاء الهند بغيتها نشر ترجمة للقرآن الكريم بمختلف اللغات الحية مبتدئة باللغة الإنكليزية تتفق ومذهب أهل السنة.
وإذاً ما هي قيمة جميع التراجم الموجودة للقرآن؟
(للبحث بقية)
إبراهيم إبراهيم يوسف
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي 1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 31 -
مقالاته للرسالة (2)
كان أكثر جلساء الرافعي في هذه الفترة هم الأصدقاء (س. ا. ع)، فكان لهم سره ونجواه، وإلى موعدهم مغداه ومراحه؛ وكان حديثهم إليه وحديثه إليهم هو عنده مادة الفكر وموضوع الكتابة؛ وكان لكل واحد من الثلاثة الأصدقاء في هذه الفترة مشكلة تملأ فراغ رأسه، فهي له في الليل مشغلة وفي النهار مشغلة. . .
أما (س) فكان على نية الزواج، وقد ترامتْ أمانيه إلى واحدة من أهله، ولكن (التقاليد) وقفت بينها وبينه موقفاً ما، أورثه ضجراً وملالة وسخطاً على الناس وتبرُّماً بالحياة وخروجاً على ما تواضع الناس عليه من التقاليد في شئون الزواج. . .
وأما (ا) فكان في عهد بين عهدين من حياته: قد ودَّع ماضيه بما فيه من عبث ومَجَانة، وطلَّق شهواته ونزواته إلى عهد يستشرف إلى ما فيه من المتاع الحلال في ظلّ الزوجة المحبوبة المحبّة؛ فسمّى زوجته وعقدَ عقْدَه، ثم وقف ينتظر اليوم الذي يبني فيه بأهله قلقاً عجلان، واليوم الموعود لا يحين لأن التقاليد تبعد به كلما دنا موعده. . .
وأما (ع) فشاب قد انفرد في الحياة من أهله: فَقَد أمه وهو غلام، فما كاد يستوي شبابه حتى مضى يلتمس ما فقد منذ طفولته من حنان الأنثى، فتزوج، ثم فقد زوجه؛ ثم تزوج، فما بقيتْ الثانية إلا بمقدار ما بقيت الأولى، ولكنها خلَّفتْ بضعة منها بين يديه مصوَّرة في طفلة سلبتها القدرةُ أمَّها يوم منحتها الحياة!
. . . هو أب ولا زوج له، وهو عزَبٌ وكانت له زوجتان، وهو فتى يؤمن بالله ويلحد في القدر، وهو شخصيتان منفصلتان تعرف إحداهما في المسجد وتعرف الثانية في الشارع، وله عين عفة وعين فاجرة؛ وله في الحياة تجربة ورأي، وله إلى الهوى والملذات مثلُ اندفاع الشاب الذي لم يذق ولم يجرب بعد!
ثلاثة نفر لكل منهم رأيه في الحياة ومذهبه، ولكنهم قد التقوا في مجلس الرافعي على هوى واحد، فأحلوه من أنفسهم وأحلهم من نفسه؛ فكان له من أحاديثهم شعور الشباب ولهم من حديثه حكمة الشيخ، وللأدب من كل مجلس يجمعهم وإياه موضوع حي مما كتب الرافعي لقراء الرسالة. . .
ومن هذه الموضوعات (قصة أب)
ذلك هو الصديق (ع) كان الله له. . .!
جلس مجلسه يوماً إلى الرافعي يشكو بثه وهمه والدموع تترقرق في عينيه؛ واستمع الرافعي إلى شكاته متألماً حزيناً؛ فما فرغ (الأب) من قصته حتى جمع الرافعي (قصاصات) الحديث فجعلها في جيبه وجلس يتفكر. . . ثم كانت (قصة أب)
وفي الأسبوع التالي كان زفاف أبنته إلى ابن أخيه في حفل أهلي خاص وصفه الرافعي في مقاله (عرش الورد)؛ وهو العرش الذي نظمه بيده الأستاذ سامي الرافعي لمجلس العروسين، وجعل فيه فنِّه وعاطفته نحو أخته وابن عمه وقدَّمه إليهما هدية عرس
ولما جلس العروسان ذراعاً إلى ذراع في عرش الورد، بارك لهما الرافعي ودعا؛ ثم خرج ليمضي ساعات في القهوة. ولقيني هناك وحدي، فانتحينا ناحية على حيْد الشارع لا يترامى إليها من أضواء القمر إلا شعاع حائل؛ وكان الرافعي يؤثر دائماً أن يجعل مجلسه على ذلك الرصيف في جانب من القهوة، ويسميه (بلاج طنطا) إذ كان انفساح الشارع أمامه، وما يتعاقب عليه في الليل والنهار من ألوان الجمال في الطبيعة والناس - مما يحبِّب إلى العين أن تنظر، وإلى النفس أن تنبسط، وإلى الفكر أن يبدع فيما يخلق من ألوان الجمال. . .
وكان الليل نائما يحلم، والطبيعة ساجية لا يُسمع من صوتها إلا همسٌ خافت، وفي الجو شعر يهزج في سِرار النسيم وفي حفيف الشجر، وعرائس الخيال تُطيف راقصة تنفح بالعطر وترفُّ بالنور. . ولكن الرافعي جلس مجلسه صامتاً لا يتحدث، إلا كلمات إلى النادل يطلب كوب ماء ليشرب أو جمرات للكركرة. . . واحترمتُ صمته فسكتُّ عنه. . .
ومضت ساعة، ثم رفع عينيه إليّ وهو يقول:(الليلةُ عرس ابنتي. . .!)
ولم يسمع جوابي، لأن دمعة كانت تترقرق في عينيه وهو يتحدث حبستني عن الجواب. . .!
دمعة لم أترجم معناها إلا بعد سنتين، يوم جاءني يقول والدمع يلمع تحت أهدابه:(إن وهيبة مسافرة إلى زوجها في أمريكا؛ ليس من الحق أن تبقى هنا وهو هناك!)
ثم يومَ جاءني بعدها يقول وفي يده صحيفة أمريكية. (انظر هذه الصورة، إنهم يسمونه هناك: أصغر سائح مصري في أمريكا. . إنه حفيدي الصغير. . .!)
لقد كان الرافعي يحب أولاده حباً لا أعرف مثله فيمن أعرف؛ ووهيبة كبرى أولاده، ذكرها في (الديوان)، وغنى لها في (النظرات) وأرَّخ زواجها في (عرش الورد)
وكانت المقالة التالية هي (الإنسانية العليا)
وهي باب من القول في الأدب الديني تنتظم مع (وحي الهجرة) و (الإشراق الإلهي) و (سموّ الفقر) تحت باب واحد. . .
. . . كان يعتاد الرافعي كما يعتاد كلَّ إنسانٌ، نوباتٌ من الضيق والهم تقعد به وتصرفه عما يحاول من عمل؛ ولم يكن له علاج من هذا الضيق الذي يعتاده إلا أن يقرأ قرآناً أو ينظر في كتاب من كتب السيرة النبوية، فينفرج همه ويزول ما به، ويهون عليه ما يلقى من دنياه. . .
في نوبة من هذه النوبات التي تضيق بها الدنيا على إنسان، تناول الرافعي كتابا من كتب الشمائل يسرِّي به عن نفسه، فاتفق له رأي. . . وخرج من مطالعته بمقالة (الإنسانية العليا)
. . . وكان للرسائل التي ترد للرافعي في البريد من قراء الرسالة أثر يوحي إليه في أحيان كثيرة بما يكتب لقرائه، فهي منهم وإليهم؛ فمنذ بدأ الرافعي يكتب في الرسالة أخذت رسائل القراء ترد إليه كثيرة متتابعة في موضوعات شتى ولمناسبات متعددة، حتى كان يبلغ ما يصل إليه أحياناً في اليوم الواحد ثلاثين رسالة؛ وكان يقرؤها جميعاً ويحفظها في درج خاص من مكتبه؛ وسأتحدث عن هذه الرسائل في باب خاص له موعده، إنما يعنيني اليوم أن أتحدث عن الموضوعات التي استملاها من رسائله. ومن هذه الموضوعات مقالة (تربية لؤلؤية)
كانت تصدر في القاهرة في ذلك الوقت مجلة (الأسبوع) وقد فتحت صدرها لطائفة من شباب الجنسين يكتبون فيها وحي عقولهم وقلوبهم و. . . وغرائزهم، وكانت صفحاتها
لهؤلاء الشبان والشابات أوسع من صدر الحليم، فلم تلبث بهذه السماحة أن صارت - كما يقول العامة - بطن حمار! وأصبحت ميداناً للغزل البريء وغير البريء، وموعداً من مواعد التلاقي والوداع
وفي صبيحة يوم، حمل البريد إلى الرفعي رسالة من سيدة كريمة، تلفته إلى محاورة داعرة تعترك فيها أقلام طائفة من الشبان في مجلة الأسبوع. وبعث الرافعي في طلب أعداد المجلة فجيء بها؛ فما قرأها حتى تناول القلم وأملى على مقالة (تربية لؤلؤية)
في هذه المقالة، خلاصة رأي الرافعي في حرية المرأة وحقها في المساواة؛ وترى لهذا الرأي بقية فيما نشر من مقالات الزواج والطائشة، والجمال البائس، وغيرها؛ وهو يزعم أنه بهذا الرأي من أنصار المرأة عند من يعرف أين يكون انتصار المرأة. وللرافعي حين يتحدث في هذا الموضوع حجة قوية وبرهان ماض، إلى روح رفافة شعر ساحر. ولست واجداً أحداً يرد عليه في ذلك على قلة من تجد من أنصاره، وقد جلست مرة إلى المربي الكبير الأستاذ محمد عبد الواحد خلاف نداول الرأي في أدب الرافعي ومذهبه الاجتماعي لمناسبةٍ ما فيما كتب الرافعي للرسالة، فقال لي (إنك لن تجد أحداً من أنصار الجديد يرضى هذا المذهب، ولكنك لن تجد أحداً - أيضاً - يستطيع أن يصاول الرافعي في هذا الميدان بمثل حجته وقوة إقناعه. . .!)
. . . وأرضى الرافعي بهذا المقال السيدةَ الكريمة التي كتبت إليه، ولكنه أغضب مئات من القارئات وعشرات من القارئين؛ فانثالت عليه الرسائل من هؤلاء وهؤلاء غاضبة مستنكرة، إلا بضع رسائل. . .
ولما كتب مقالة (تربية لؤلؤة) وأرسل بها، ركب قطار البحر إلى الإسكندرية ليستريح يوماً هناك، يتزود فيه لفنه وأدبه من عرائس الشاطئ. . . كان قد كتب مقالة السالف وأرسل به، ولكن معانيه بقيت في نفسه؛ فلما ذهب إلى الشاطئ وجد تمام موضوعه، فعاد ليملي عليّ مقالة (لحوم البحر) وهي قصيدة مترجمة عن الشيطان على نسق من النثر الشعري فاق فيه الرافعيُّ وغلَب. . .
كان للرافعي عادةٌ حين يعجبه موضوع مما كَتب أن يسأل عنه كلّ من يلقى من أصحابه. . . (هل قرأت مقالتي الأخيرة. . .؟ وما رأيك فيها. . .؟ هل يملك أحد أن يعرض لرأيٍ
فيها بالنقد. . .؟
وكان يعتدّ كثيراً بمقالة (تربية لؤلؤة)، وفي ذات مساء بعد نشر تلك المقالة، قصد إلى القهوة ليريح أعصابه؛ فصادف الأصدقاء (س. ا. ع)؛ فما كاد يستقر به المجلس بينهم حتى أخذ يسأل كل واحد:(هل قرأت. . .؟ ما رأيك. . .؟ هل يملك أحد. . .؟)
كان للرافعي في كل واحد من أصدقائه الثلاثة رأي، وكان لكل واحد في نفسه حقيقة، ولهم في الحياة نظرات تغترب وتقترب؛ وكلهم قد حُرِموا المرأةَ لوناً من ألوان الحرمان؛ ولكل منهم في المرأة رأي؛ مما تخيّلها، أو مما كابدها، أو مما شقي بها. . .
والرافعي رجل قد فارق الشباب وخلعه فيما خلع من ماضيه؛ وإنه لزوج وأب ويوشك أن يكونَ جدَّا؛ فلا قدرة له على أن يعود القهقري إلى ماضي شبابه يستوحيه خواطر الفتيان وأحلام الشباب في المرأة والحب والزواج؛ وهؤلاء الأصدقاء - على ما قدّمتُ من نُعوتهم في أول هذا الفصل - تجمعهم صفة العزوبة على اختلاف ألوانها؛ وما يزالون في باكر الشباب وفي يقظات الحُلم؛ وكلهم قد مارس المرأة نوعاً من المراس: في وهمه أو في حياته. . .
فما كاد الحديث يبدأ بين الرافعي وأصدقائه حتى أخذ يتشعب فنوناً، وساقهم الرافعي بحسن احتياله إلى هدف يرمي إليه. . . فما انفض المجلس حتى كان ثلاثتهم على ميعاد مع الرافعي ليجيبوه كتابةً عن أسئلة ثلاث وجهها إلى كل منهم، على أن يلتزم الصدق، وبجانب الحياء، ويخلص في الإجابة؛ وكانت الأسئلة هي:
(ا) كيف ترى المرأة في وهمك؟ وأين مكانها من حياتك؟ وماذا مارست من شأنها وعرفت من خبرها؟
(ب) لماذا لم تتزوج؟
(ج) صف ما تحب من أخلاق زوجتك المستقبلة؟
وجاء الميعاد المضروب، وسعى الأصدقاء الثلاثة إلى الرافعي بأجوبتهم؛ فمنها كانت مقالة الرافعي (س. ا. ع) وهي أولى مقالاته في الزواج؛ ثم تتابعت مقالاته في هذا الموضوع، فخطا بها إلى قلوب الشباب خطوات، وكان بينهم وبينه من قبلُ سد منيع
قبل أن يكتب الرافعي هذه المقالة بأيام، جاءه رسالة من بعض الأدباء يسأله أن يكتب إليه
في أسباب أزمة الزواج؛ استيفاء لبحث يهم أن يصدره في كتاب. . . وأحسب أن هذا السؤال كان الحافز الأول للرافعي إلى الكتابة في هذا الموضوع. وقد بعث الرافعي إلى السائل بجواب سؤاله؛ وكان جواباً فيه كثير من الدقة والتحديد والعمق، ولم أقرأه منشوراً منذ أرسله إلى طالبه
بدأ كثير من الشبان يهتمون بما يكتب الرافعي؛ إذ كان بهذا الموضوع يعالج مشكلة كل شاب عَزَب، وتضاعفتْ رسائل القراء إليه، وطال الجدل في موضوعه بين طواف من الشباب في مجالسهم الخاصة. . .
فلما كانت أيام بعد مقالة (س. ا. ع) جاء إلى مجلسنا في القهوة شاب من أصدقائنا المتأدبين، هو الأستاذ إسماعيل خ، وهو محام ناشئ له ولوع بالأدب وشهوة في الجدل، وفيه إلى ذلك لين في الخلق وشذوذ في الطبع؛ وكان الرافعي يعرفه عرفاننا فما رآه حتى وجد فيه عنوان مقالة. . . فما عليه يسأله ضاحكا. . . وأجاب الأستاذ إسماعيل:(الزواج! وما يحملني على هذا العنت؟ أتريدني على أن أبيع حريتي من أجل امرأة؟. . .) ومضى يؤيد دعواه بالبراهين والأمثال. . .
وتم للرافعي موضوعه، فأملى عليّ في اليوم التالي مقالة (استنوق الجمل)
في هذه المقالة يجد القراء سبباً آخر لانصراف الشباب عن الزواج غير ما قدّم س. ا. ع في المقالة السابقة؛ فهي الحلقة الثانية من هذه السلسلة. . .
وأحس الرافعي بالتعب، فانصرف عن الكتابة أسبوعاً ليستجم، ولمْ من هنا ومن هناك طائفة من منثور القول فأرسله إلى الرسالة بعنوان كلمة وكليمة. وهي عبارات قصيرة من جوامع الكلم، ليس بينها رابطة في الفكر ولا في الموضوع، وكل كلمة منها موضوع بتمامه
وقد قدَّمت القول عن هذه الكلمات القصار التي كان الرافعي ينشرها بعنوان (كلمة وكليمة)؛ فحسبي هنا أن أشير إلى موضوع هذه الكليمات ودوافعها:
في هذه الكلمات التي نشرها بالعدد 65 سنة 1934 كلمات عن المرأة والحب؛ وهذه من فضلات المعاني التي اجتمعت له في مقالات المرأة والزواج ولم يجد لها موضعاً مما كتب. . . وفي هذه الكلمات رسائل إلى (فلانة) من تلك الرسائل التي قدّمت الإشارة إليها عند الحديث عن حب الرافعي. وفيها كلمات عن السياسة المصرية يعرف دوافعها من يذكر
الحال السياسة التي كانت في مصر لذلك العهد وحكومة صدقي باشا تحتضر. . .
فمن هذه العناصر الثلاثة اجتمع له هذا القدر من كلمة وكليمة
(طنطا)
محمد سعيد العريان
تعليم أبناء الفقراء في إنجلترا
للآنسة الفاضلة أسماء فهمي
درجة شرف في التاريخ ودرجة الأستاذية من إنجلترا
وأستاذة بمعهد التربية
استأثرت الطبقات الغنية في إنجلترا بما كان يعد أرقى أنواع التعليم والثقافة إلى ما بعد منتصف القرن التاسع عشر. وكان يتلقى أبناء تلك الطبقات العلم في المدارس الخصوصية وفي جامعتي اكسفورد وكمبردج، ذات النفقات الباهظة والنزعة الأرستقراطية البحثة، تلك المعاهد التي استحالت بالتدريج إلى معاهد خاصة بذوي اليسر والجاه وأن لم تنشأ في أول الأمر من أجل هذه الطبقة بالذات
أما أبناء الطبقات الفقيرة فكانوا يتلقون قشور العلم في مدارس أولية متواضعة تشبه الكتاتيب في مصر في أكثر نظمها وأساليبها. وكان يقوم بتأسيس هذه المدارس الجمعيات الخيرية وأهل البر والإحسان؛ أما الحكومة فلم تتدخل في أول الأمر تدخلاً مباشراً في شئون التعليم بل اكتفت بتقديم الإعانات المالية للجمعيات ابتداء من سنة 1833، وبتكوين اللجان من حين إلى حين لدرس حالة التعليم وتقديم الاقتراحات والتقارير للقائمين بشأنه، مما كان له أثر يذكر في النهوض بالتعليم وتوجيهه التوجيه الصالح
ولقد كانت نظرة الحكومة والمتطوعين لنشر التعليم بين الفقراء قاصرة مبتورة، إذ كان الغرض مجرد القضاء على الأمية وتعليم الأطفال بعض الأعمال اليدوية التي قد تساعدهم على كسب الرزق. وعلى ذلك كان منهج الدراسة الأولية عبارة عن مبادئ القراءة والكتابة والحساب والدين ذلك الذي كان يمزج بتلقين الطاعة للرئيس والقناعة بنصيب المرء في هذه الحياة الدنيا. والواقع أن التعليم كان مبنياً على أساس الاحتفاظ بنظام الطبقات العتيق وخضوع الفقراء للأغنياء، فكان يخشى أن يؤدي التوسع في تعليم الفقراء إلى عدم رضائهم بحظهم من الحياة. ولقد تجلت تلك النظرة المحدودة في تقرير اللجنة المعروفة بلجنة عهد إليها بدراسة حالة تعليم أبناء الشعب فأصدرت تقريراً وافياً عام 1860 أعلنت فيه رضاءها عن حالة تعليم أبناء الفقراء إذ ذكرت بشيء من الدهشة أن في مكنة ثلاثة أخماس
التلاميذ المدونة أسماؤهم في سجلات المدارس الأولية أن يتعلموا القراءة والكتابة دون صعوبة ظاهرة، وأن يقوموا بإجراء العمليات الحسابية البسيطة التي تتصل بحياتهم اليومية كما يتلقون مبادئ الدين الأساسية وما يتصل بها من التعاليم الخلقية. . . أما مواد الثقافة العامة كالتاريخ والجغرافيا التي كانت قد بدأت تشق لنفسها طريقاً في المنهج فلم تعرها اللجنة التفاتاً إذ لم تكن معتبرة من المواد الأساسية
على أن تلك النظرة الضيقة إلى تعليم أبناء الفقراء أخذت تتغير تغيراً كبيراً في الثلاثين سنة الأخيرة من القرن التاسع عشر تحت تأثير عوامل مختلفة أهمها انتشار الأفكار الحرة ونمو حركة العمال واتساع نطاق الحقوق الانتخابية التي شملت طبقة العمال سنة 1867، فأصبحت تلك الطبقة تلعب دوراً هاماً في مصير الأمة وتكييف شئونها. وسرعان ما شعرت الطبقة الحاكمة بأهمية هذا الانتقال الذي أوجب تعليم الطبقات الفقيرة بما أنها ضمت إلى زمرة السادة والحكام نتيجة تعديل نظام الانتخاب. وعلى ذلك نجد الحكومة الإنجليزية تتدخل تدخلا جدياً في شئون التعليم وتسن القوانين لتعميم التعليم الأولى ففي سنة 1870 صدر قانون بتكوين مجالس للتعليم الأولى في المناطق المختلفة التي تقل فيها أو تنعدم المدارس التي كان يقوم بإنشائها الجمعيات الخيرية للقيام بسد النقص وتوفير التعليم لجميع أبناء الشعب، كما جعل من اختصاصها الإشراف على التعليم في المدارس الأولية المختلفة بينما جعلت مدة الدراسة الأولية خمس سنوات من سن الخامسة إلى العاشرة. على أن التعليم لم يصبح إجبارياً يعاقب القانون على تركه إلا في سنة 1880. ومنذ ذلك الانتقال الهام أدخلت مواد جديدة في برامج التعليم الأولى في حين منحت إعانات مالية لكثير من التلاميذ الفقراء النجباء لمساعدتهم على دخول المدارس القانونية والفنية والجامعات. وهكذا نجد أن اتساع دائرة الحقوق النيابية في إنجلترا يقابلها اتساع وإصلاح في دائرة تعليم الفقراء، وفي ذلك بلا نزاع لب الحكمة، إذ أن الخطر كل الخطر في وضع القوة السياسية أو الحقوق الانتخابية في يد قوم جهلاء يقضون على الديمقراطية باسم الديمقراطية
وفي القرن العشرين خطا تعليم أبناء الفقراء خطوات واسعة حوالي سنة 1900، فمدت الدراسة الأولية إلى سن الرابعة عشرة، وأنشئت الخدمة الطبية للمدارس سنة 1907
للاهتمام بصحة فقراء التلاميذ. وكان للحرب الأوربية الكبرى أعظم الأثر في تدعيم مبادئ الديمقراطية والمساواة ظهر أثره بجلاء في ميدان التعليم والعناية بأمر الأطفال دون تمييز بين الطبقات. ويشير الأرل بلدوين رئيس الوزارة الإنجليزية السابقة إلى تلك النزعة الحديثة عندما يقول: (إن وجود نوع واحد من الثقافة من أقوى عوامل الوحدة والائتلاف بين أفراد الشعب، وإن إنجلترا لم تربح في الماضي بسبب عدم اهتمامها بتكوين التفاهم والارتباط العقلي بين طبقات الأمة. فلقد كانت مدارسنا مقسمة بحسب الطبقات لا بحسب الفروق العلمية. . . ولكن قد بزغ فجر عهد جديد الآن، فان بناء المدرسة الأولية الهرم قد أقيم أخيراً على أنقاضه بناء جديد. . .)
والواقع أن هذا القرن يمتاز بالرغبة والعمل على القضاء على آثار الفروق المادية والاجتماعية من ميدان التعليم، تلك الفروق التي لم تكن تؤدي إلى الاختلاف في أنواع الثقافة والتربية بين أبناء الشعب فحسب، وإنما كانت تحول في أغلب الأحايين دون ظهور نبوغ أبناء الفقراء لسبب إهمال تنمية مواهبهم مما ينتج عنه بطبيعة الحال إقلال عدد النابغين في الأمة خصوصاً إذا راعينا أن الطبقة الفقيرة لا يقل عدد أفرادها عن أربعة أمثال عدد أفراد الطبقة الغنية والمتوسطة معاً، وأن عدد النابغين فيها إن لم يزد على عدد الموهوبين في الطبقتين المذكورتين لا يمكن أن يقل؛ وهكذا يضيع نصف نبوغ الأمة سدى إذ يقصر على تأدية الأعمال الوضيعة التي لا تستغل ولا تنمي المواهب العالية
ولتحقيق أغراض التربية الحديثة يبدأ الاهتمام بأمر الأطفال الفقراء في سن مبكرة؛ فمن سن الثانية إلى الخامسة يرسل الأطفال - إذا أرادت الأم - إلى مدارس الحضانة التي توجد عادة في الأحياء الصناعية الفقيرة المكتظة بالسكان حيث تضطر الأمهات في أغلب الأحيان إلى مغادرة منازلهن في الصباح الباكر للعمل مع أزواجهن في المصانع؛ فتقوم هذه المدارس بتعهد الأطفال للعب في أمكنة معرضة لأشعة الشمس والهواء، وتزود بكل أنواع اللعب المعدة للتسلية والحركة والابتكار؛ ويقضي الأطفال اليوم في اللعب والغناء والحركات التوقيعية وسماع القصص المصورة كما يعودون على القيام ببعض الأعمال التعاونية كالاشتراك في إعداد مائدة الطعام وتنسيق الأزهار وترتيب الحجرة، كما يعودون على آداب المائدة والترتيب والنظافة واحترام رغبات الغير
ويبدأ التعليم الإلزامي من سن الخامسة إلى الرابعة أو الخامسة عشرة. وتقسم مرحلة التعليم الإلزامي الآن إلى ثلاث مراحل؛ فالمرحلة الأولى من سن 5 - 7، وفي هذه المرحلة تسير الدراسة وفق برنامج رياض الأطفال في مصر فيهتم بالألعاب والقصص والرسم والأناشيد والرقص، ويبدأ تعليم القراءة والكتابة عن طريق اللعب. والمرحلة الثانية من سن 7 - 11. وفي هذه المرحلة يدرس الأطفال ما يدرسه تلاميذ المدرسة الابتدائية المصرية ماعدا اللغات الأجنبية في أكثر المدارس. ويهتم في هذه المدارس اهتماما كبير بالأعمال اليدوية والموسيقى. أما المرحلة الثالثة فتبدأ من سن 11 - 14 أو 15 وهذه المرحلة تعرف بمرحلة التعليم الثانوي. وعند بدء هذا الدور يعقد امتحان عام للتلاميذ الذين يبلغون الحادية عشرة، وبمقتضى نتيجة هذا الامتحان يقسم التلاميذ إلى ثلاثة أقسام، فالتلاميذ المتفوقون يرسلون إلى المدارس الثانوية التي تعد للجامعات والوظائف الفنية؛ والذين يكونون في المرتبة الثانية يذهبون إلى نوع آخر من المدارس الثانوية تسمى المدارس المركزية تختلف عن المدارس الثانوية العادية في كونها تتجه في السنتين الأخيرتين اتجاها عمليا، فترتبط مواد الدراسة بالبيئة كأن تشمل مادة الجغرافيا دراسة حالة البلد الاقتصادية وأسواقها التجارية وصناعاتها وعلاقاتها بالأمم الأخرى الخ، وكأن تكون اللغة الأجنبية التي تدرس لغة حية يكون الغرض من دراستها التفاهم بخصوص الشئون التي تتصل بحياة الطالب وعمله ودائرة تفكيره لا أن تكون أكاديمية بمعنى أنها تهتم بخواص الأجرومية أو المعاني والمصطلحات التي قلما يحتاج إليها في الحياة العملية. أما تلاميذ المرتبة الثالثة فيرسلون إلى مدارس ابتدائية راقية تتمشى برامجها إلى حد ما مع برامج المدارس الثانوية من ناحية الاهتمام بالثقافة العام بينما توجه عناية كبيرة إلى إعداد الطالب لبيئته الخاصة فتهتم مثلا بالعلوم الزراعية إذا كان الطالب يعيش في بيئة زراعية، أو بالمواد التجارية إذا كان الطالب يعيش في منطقة تجارية. وبالجملة يراعى في هذا التقسيم التمشي مع مقدرة الطالب العقلية ثم الاهتمام بالناحية الثقافية وتوسيع دائرة اهتمام الطالب بالروابط الإنسانية ونواحي الحضارة المختلفة. ولا يقصد بهذا التقسيم التوجيه المهني بالذات أو إعداد الطالب لكسب العيش بطريقة مباشرة، وإنما الغرض الأول من الدراسة الإلزامية في مراحلها الثلاث أي من سن الخامسة إلى الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة هو إعداد الطفل لأن
يكون إنساناً مهذب الخلق والإحساس ذا قسط من الثقافة قبل أن يعد لأن يكون تاجراً أو صانعاً
ولا يقصر الاهتمام في هذا الدور من التعليم على التربية العقلية والخلقية، وإنما يولي أولو الشأن عناية كبرى إلى صحة التلاميذ الفقراء. فلقد جعل لهم عيادات طبية يشرف عليها أطباء وممرضات تعطي العلاج والدواء مجاناً للتلاميذ، وتقوم الممرضات بعيادة منازل الأطفال لتوجيه النصح والإرشاد للأمهات كما توجد مستشفيات ودور نقاهة خاصة بهؤلاء الأطفال. كذلك تعمل المدارس على علاج ضعاف الأجسام من فقراء التلاميذ بتقديم اللبن لهم مجاناً حتى في أيام المسامحات لمن تظهر عليهم علامات الضعف بسبب رداءة التغذية. ومما يستحق الذكر في هذا المقام أن الأموال التي جمعت لعمل تذكار للملك جورج الخامس خصصت لشراء أراض واسعة تستعمل ملاعب للأطفال الفقراء
ولقد كان من نتائج زيادة الاهتمام بالتعليم الإلزامي وتعديل مناهجه مضاعفة الاهتمام بالمدرسين وإعدادهم إعداداً يتمشى مع تلك النزعة الديمقراطية الحرة؛ وعلى ذلك نجد الاتجاه الآن أن يكون المدرسون ممن حصلوا على تعليم جامعي أو ما يعادله حتى تتوفر لديهم الثقافة الواسعة والتهذيب العقلي والعاطفي الذي يحتاج إليه مربي النشء من بيئة ديمقراطية
ولا تقف مطامع المشتغلين بالتربية في إنجلترا وأنصار مبادئ الديمقراطية والمساواة عند هذا الحد إذ هم لا يكتفون بتعليم أبناء الفقراء حتى سن الخامسة عشرة بل يطالبون بإطالة مدة تعليمهم على نفقة الدولة حتى سن الثامنة عشرة، إذ يرون أن الولد الذي يبدأ حياته العملية في سن الخامسة عشرة لا يكون مزوداً بالمعرفة الكافية، ولا بالإعداد الذي يعينه على اقتحام معركة الحياة بنجاح. وإن الدلائل كلها لتدل على احتمال تحقيق هذا الرأي إما عاجلاً وإما آجلاً
مما ذكر يتبين لنا التغيير الهام الذي طرأ على الأفكار بخصوص تعليم أبناء الفقراء في بحر قرن تقريباً. ففي أوائل القرن الماضي كان يتساءل أعضاء البرلمان الإنجليزي عما إذا كان تعليم الطبقات الفقيرة أمراً مرغوباً فيه؛ واليوم يقولون جميعاً في إيمان إن التعليم الشامل الصحيح الذي يعم جميع الطبقات والذي يبرز النبوغ وينمي الاستعداد ويكون الخلق
ويهذب العقل والقلب ويبين السمين من الغث هو حق ضروري لكل طفل بغض النظر عن العوامل المادية. وعلى ذلك لا يكتفي الآن بتعليم القراءة والكتابة ومبادئ الدين والحساب لأن هذا التعليم المحدود لم يعد يلائم حاجات الديمقراطية ولا المبادئ الإنسانية التي لحسن الحظ قد أثمرت أينع الثمر في ميدان التعليم.
أسماء فهمي
درجة شرف في التاريخ
ودرجة الأستاذية في التربية في إنجلترا
ذكرى مدام كوري
للكاتب العظيم اميل لودفيج
لا أظن سيدة ذات عبقرية كانت أقل هيمنة على أفئدة الرجال، وفي الوقت نفسه لها من السلطان في نفوسهم ما ليس لغانية من غواني باريس، كمدام كوري
من وقت لآخر كان يفد إلى العالم الفرنسي الكبير بول بانلفية بعض ذوي العبقريات الفرنسيين ويجلسون للسمر لديه في بهوه المتواضع الذي تراه أشبه بالأماكن العامة منه بمجلس عظيم من عظماء فرنسا وكبير من وزرائها، شأن العجوز الأرمل، بل شأن العالم الكبير الذي نفذت بصيرته إلى جمال الحقيقة والعلم فتسلى به عن زخرف الأرائك والطنافس
قصدت ذات يوم هذا البهو وقد سبقني إليه نفر من رجال العلم والسياسة. وكان رب الدار ملازماً لفراشه لانحراف ألم به، فصافحه كل منا على حدة في مرقده، بينما كانت شقيقته تسبغ علينا التحية في مجلس الضيافة. وكنت أشعر بأن عدم وجود بانلفيه بيننا قد جعل رابطة الجماعة مفقودة ومعين سمرها ناضباً
وكذلك كان المجلس فاتراً كأن برودة الطقس قد شابته وأثرت عليه، وبدلاً من إذكاء الحماسة فيه بفنجان من الشاي فقد أُعدت مائدة طعام على الطراز القديم المنمق ثم دعينا إليها بعبارات ملؤها التبجيل والاحترام
وقد أعجبت بانلفيه أن يقدمني إلى ثلاثة من ضيوفه وأهل طبقته من رجالات العلم والسياسة، وهم بيران ولانجفان وأميل بوريل، فأخذتني الرهبة أمام هذه الرؤوس الكبيرة والجباه العريضة لرجال عظماء في أبسط ما يكون من المظاهر، تلك البساطة التي هي زينة العلماء الفرنسيين والتي كانت في العصر الغابر شيمة العلماء الألمان. نعم أخذتني الرهبة أمام هؤلاء الرجال الذين يتعذر على مثلي أن يقدر أعمالهم من تلقاء نفسه وبطريق مباشر. ولما كان من العسير عليّ فهم ما يتخلل أحاديثهم من المباحث العلمية جعلت أتفرس في أدمغتهم الكبيرة وقوالبها المختلفة وما تحمل من علم وثقافة
وبينما نحن كذلك نقطع الوقت بين حديث متكلف تارة وسكوت عميق تارة أخرى، إذ دخلت علينا سيدة عجوز لا تمت إلى الجمال بصلة. كانت ترتدي معطفاً أزرق وعلى عينيها
نظارة كبيرة تزيد وجهها عبوساً، وكان من الطبيعي قيام المجتمعين لتحيتها، ولكن هيئة قيامهم، وهيئة انتظارهم مصافحتها إياهم جعلتني أعتقد أنها سيدة المجلس وأميرة المجتمعين، تلك هي مدام كوري التي وقف الجميع لها وقفة الجنود أمام القائد، كما وقفت منعزلاً أفكر في هذه الجماعة المنسجمة من العلماء
ثم انتهت هذه الضيافة وانصرف كل إلى سبيله. وما أصبح اليوم التالي حتى كنت عند مدام كوري في معملها الخاص ومعهد أبحاثها، فوجدتها بين الأجهزة والمعدات المختلفة أهدأ بالاً مما كانت بالأمس حيث لا يرهقها التكلف الذي تضطر إليه بحضرة الرجال. ثم حادثتني قليلاً وقضينا الوقت في التفرج على ما في المعمل من أجهزة وأدوات
كانت تلك السيدة البولونية ذات عيون سوداء قلقة، لامعة كالنجوم، وجميع ملامح وجهها مشربة بالحدة التي في عينها، وعلى الرغم من خشونة مظاهرها، تلك الخشونة التي هي سمة العلماء، فقد ظهرت شيئاً فشيئاً بلين الجانب ووداعة النفس حتى لقد لاحظت ابتسامة خاطفة تشرق من شفتيها في بعض الأحايين. . .
وكانت صورة زوجها التي تعلو رأسها رمزاً ناطقاً لما كان بين هذين الزوجين من تعاون وتعاضد في العمل، فقد كان يجمع إلى صفات الرجل الواسع الخيال، ذي القريحة الوقادة، ما تمتاز به المرأة من تطلع للخلق والابتداع، بينما كانت هي على الضد من ذلك أقرب إلى صفات الرجولة منها إلى الأنوثة، أو بعبارة أخرى كانت تتمثل فيها العلوم الطبيعية بأسرها
وسواء هي في حياة زوجها أم بعد موته فقد كانت تحكم عواطفها وتسيطر على احساساتها بحيث لا ينم حديثها الحازم الدقيق عما يعتلج في صدرها من عواطف واحساسات
ولم يكن المجتمع مديناً لهذين الزوجين باختراعهما السحري الذي أنقذ الملايين من الهلاك، وبصغيرتهما الأنيقة في حسن الذوق فحسب، بل إنه مدين لهما أيضاً بفتاة أخرى هي أولى ثمار حياتهما الزوجية التي ترسمت خطاهما في العمل
وبينما كنت أتحدث مع والدتها في المعمل إذ دخلت علينا بخطى الشباب وألقت نحوي نظرة استفسار وتقصٍ. وعلى الرغم من أنها رشيقة القوام لدنة الغصن فقد كان يبدو عليها الامتعاض من أن أجنبيا يزور المعمل فيعكر عليهما صفاءه التام
وقد رأيتها على جانب عظيم من طهارة الملائكة الذين أجاد سكان فلورانس الأقدمون
تصويرهم على شاكلة الشباب، ووجدتها سالكة نهج أبويها لا من ناحية العلم فقط بل كذلك من جانب نوع الحياة الذي اختارته لنفسها حيث لم ترض زوجا لها إلا أحد الطلاب المنتسبين إلى (معهد أبيها بيير كوري)
هكذا رأيت تلك الشجرة المباركة والعائلة الجميلة، سلالة بيير كوري، ولمست بنفسي أساليبها في المحافظة على أصلها والعناية بموهبتها وعنوان فخارها، مما جعلني أتساءل عما لو كان مبدأ المحافظة على السلالة مرعيا لدى الملوك رعايته عند عائلة بيير كوري!
ثم أخذت مدام كوري تذكر لي شيئا عن ابنتها قائلة:
- إن لهما بنتا صغيرة!
وكأنها بذلك تريد أن تذكر لي أن في هذا البيت شيئاً آخر غير الراديوم، ثم قالت:
- وإنها أيضاً تشتغل جيدا، ومما يؤسف له جد الأسف أن والدها لم يكن بين الأحياء فينعم خاطره بعمل ابنته!
وبينما نحن عند السلم نريد اجتيازه إلى معمل آخر رأيتها تلقي نظرة كلها عطف وحنان على ابنتها هذه التي سلخت ثلاثين ربيعا والتي أخذت ترشدني إلى مادة لامعة في ضوء حجرتها الضئيل، ولكني بدلا من الإصغاء جعلت أتأمل بريق شعرها المجعد. وبعد هنيهة عادت مدام كوري للحديث:
- عجب كلها الحياة! معلمة بولونية فقيرة، تجذب طبيبا فرنسيا، فقيرا أيضاً، فيميل إليها قلبه ثم يفهمها وتفهمه!!!
ثم قالت بعد ذلك بصوت الفرح الظافر السعيد بحاضره:
- لم يكن لنا سوى حجرتين في سطح البيت مما يعد لسكنى الخدم!
هكذا يتحدث كل ظافر في معركة الحياة فيذكر أيام بؤسه وشقائه وقد تمكنت فكرة السعادة في نفسه فظل ينشدها حتى اقتنصها وظفر بها. وهكذا بيير كوري وزوجه، فبينما هما في العزلة بغرفتيهما المتواضعتين إذ طلع نجم سعدهما فاهتديا إلى الراديوم وعرفا خواصه الخارقة العجيبة، وسرعان ما تمت الشهرة وذاع الصيت في أنحاء المعمورة ثم نعما بالخير والسعادة، بالسرور والابتهاج، بالنصر والظفر
علمت الدولة بأمرهما فانتشلتهما من وكرهما بسطح البيت وشيدت لهما معهداً فخماً وأغدقت
عليهما الأموال ليتسر لهما العبء ويسهل عليهما البحث
على أن هذه السعادة لم تغيرهما ولم تبدل شيئاً من حياة البحث التي اعتاداها، بل واصلا العمل في ظل معيشتهما الهادئة، وربيا طفليهما على حب المثل الأعلى الذي رسماه لأنفسهما. وهكذا كان عماد حياتهما وقوام سعادتهما حجراً ذا سر خفي اهتديا إليه فأرسل عليهما ضياءه، وأسبغ عليهما نعماءه، إلى ما تلا ذلك من نفع عام إذ سلمت به الإنسانية من العطب ونجت به من الهلاك
وما زال بيير كوري وزوجه جادّين في عملهما النافع حتى دهمهما القضاء بغتة، على نمط مفاجأته لهما بالثورة، فقضى على الرجل العظيم واختطفه من أحضان زوجه وكريمتيه، ولكن هذا القضاء لم يفل من عزيمة مدام كوري فقامت وحدها تفكر في عملهما وفي بنتيهما، ثم شمرت عن ساعدها، ومازالت تخطو إلى الأمام حتى اهتدت إلى خاصة أخرى كانت لها مجداً ثانياً وفخراً أبدياً في العالم أجمع
وهاهو ذا رئيس جمهورية الولايات المتحدة قد أهدى إليها قطعة عظيمة من الراديوم تقدر بالملايين، بينما كان الملوك السابقون يهدون إلى العالم مسعطا (علبة نشوق) مزخرفاً بالجواهر. وكم من فرق بين مسعط لا خطر له وقطعة من الراديوم تعتبر تحفة نادرة وتجلب السعادة للملايين من الناس!
والحق يقال إن مدام كوري قد عانت آلاماً كثيرة وقاست هموماً عديدة، ولم تكن مسرات الحياة لتسرِّي عنها إلا في النادر من الأيام، ولكنها مع ذلك إذا دخلت مجلساً فإن عظماء الفرنسيين وكبار علمائهم يقومون لتحيتها وإجلالها، ذلك أن القدر قد رفع هذه المعلمة البولونية الفقيرة، ووضعها فوق رؤوس الملكات والأميرات في العالم كله
ترجمة سيد سليم درويش
بين العقاد والرافعي
1 -
الدين والأدب
2 -
سارة وغزل العقاد
للأستاذ سيد قطب
- 12 -
. . . وهذا أيضاً واحد!
وقد عرفت الآن نظام فريق الرافعي! ففي كل أسبوعين أو ثلاثة، يتقدم (عضو منتدب) فيقول كلاماً؛ ثم يدركه الإعياء، وتفرغ جعبة الكلام عن (سيد قطب) بالذات، فيجلس (ليأخذ نفسه ويبلع ريقه) كما يقولون؛ ويتبعه آخر فيعيد الكلام الأول في صورة جديدة أو في الصورة الأولى نفسها مع لف وتطويل شديد!
هكذا قال الأستاذ (شاكر)، وهكذا قال الأستاذ (الطنطاوي)، وهكذا قال الأستاذ (سعيد العريان)، وهكذا أخيراً قام يقول (الغمراوي)
ولست أدري لم يطيل هؤلاء الناس هكذا في الحديث، ولم يمطون الأساليب مطَّا، وكل ما قالوه حتى اليوم يمكن تلخيصه في صفحة واحدة من هذه الصفحات الكثيرة التي شغلوها من (الرسالة)، ولاسيما (المنتدب) الأخير، وإني لأشفق والله عليهم من هذا الكد الطويل!
ولكن من الإنصاف أن نعترف لهذا الأخير، أنه أتى بما لم يستطعه الأوائل، فقد - والله - أخافنا وأفزعنا، وهو يجعل المسألة (ديناً ولا دين) ويلخص المعركة بين المدرستين القديمة والجديدة، في أنها المعركة بين أهل الجنة وأهل النار!
نعم هكذا مرة واحدة؟ ومن لم يكن قد عرف الخوف فليعرفه الآن. فهاهو ذا رجل يمسك بيده ميزان الحسنات والسيئات: فأما من كان مع الرافعي فقد أزلفت له الجنة، وأما من كان مع العقاد فقد فغرت له جهنم أفواهها. وليكن من شاء كيف شاء، فهو وحده الملوم!
فما قولكم. دام فضلكم!
الدين. الدين. . . هذه صيحة الواهن الضعيف، يحتمي بها كلما جرفه التيار، وهو لا يملك من أدوات السباحة ولا وسائلها شيئاً
وأشد الجناة على الدين، وأشد المشوهين له والمشككين فيه أولئك الذين يضعونه مقابلا للعلم تارة، وللفن تارة، ثم يحكمون أيهما أصح وأولى بالاتباع!
وللدين مهمة قام بها وأداها خير أداء في إصلاح نفس الفرد للمجتمع، وفي تهيئة هذا المجتمع لحياة الفرد، بالنصح تارة وبالتخويف تارة، وبالتشريع تارة، وبكل الوسائل التي تكفل هذه الغاية الكبيرة، على مدى الأجيال
ولم يأت الدين ليخوض في المسائل العلمية البحتة، ولم يأت ليكون منهاجاً فنياً. فكل زج به إلى الميادين التي لم يأت لها، ظلم له، وتعريض به، وعمل كعمل الدبة التي تحدث عنها صاحبنا الحديث المحفوظ
يقوم الدين على الإقناع الوجداني، وعلى البحث العقلي، بينما يقوم العلم - معظم العلم - على المشاهدات والملموسات، والتجارب المحسوسة، فليس من الحكمة وضع هذا مقابلا لذاك جهلا باتجاه الدين وغايته، لأن كثيرا من النفوس يضطر لتصديق المحسوس المشاهد، متى أرغم على الاختيار بين الطريقتين!
وليس من الحكمة كذلك وضع الدين مقابلا للفنون، فهذه خاصة بالترجمة عن النفس الإنسانية وأحاسيسها وآمالها، وليس هذا من اتجاهات الدين، إلا في الدائرة التي تهمه لإصلاح نفس الفرد للمجتمع، والمجتمع للفرد، على طريقته الخاصة. ومن الناس من يستعز بالخوالج والخواطر والآمال التي تجلوها الفنون، لأنها تلمس كل عنصر حي فيه، وليس من الحكمة أن نسوم هذا الفريق الاختيار بين طريق الفن وطريق الدين، في حين لا يعني الدين ذلك، ولا يرصد نفسه له، وإنما هي الدبة التي تلقي الأحجار على وجوه الأصدقاء!
الدين. الدين. . . قولوها مائة مرة، فلسنا والحمد لله ممن تخيفهم هذه الصيحات الفارغة، ونحن أكثر منكم دراسة وفهماً للدين
ثم ما هذا الرجل (الغمراوي) الذي يفهم أن (السن) هي الحكم في المبادئ والآراء، فمادام (سيد قطب) لم يولد إلا بعد أن كان للرافعي أدب، فلا يحق له أن يكون له رأي في هذا الأدب، ولا يجوز أن يسقطه إن كان يستحق السقوط
ما هذا الفيض الغزير في (القواعد العلمية للنقد)؟ وما يكون الشأن مع أدباء الجيل الماضي
الذين ماتوا قبل أن نولد، وما يكون الشأن مع شعراء الجاهلية؟ لنتناولنهم بالتقديس، أو لنبعدهم كالآلهة! أليسوا قد سبق بهم التاريخ؟!
والآن فلندع (اللت والعجن) الذي ليس معه إلا إرخاص الوقت، واحتقار المناقشة الأدبية، وامتهان المعارف الإنسانية
لندع هذا إلى عالم آخر. لنتحدث عن (سارة) قصة العقاد قصة الحب، ترجمة لحياة قلب، فإذا كان هذا القلب قلب العقاد أو قلباً صاغه العقاد، فهي إذن ترجمة حياة ممتازة. وهذه هي (سارة)، التي كان نصيبها من الصحافة المصرية (الصحافة التي تحابي العقاد)! بضع كلمات، لم تصل واحدة منها أن تكون فهماً كاملا لهذه الترجمة الممتازة، ولم تصل الحياة الأدبية في مصر أن تكون لهذه القصة شروح وفقرات تربى على حجمها الأصلي مرات. وهو الذي كان يجب أن يكون!
حين نقول عن هذه القصة: إنها تصوير صادق للحب في النفس الإنسانية، لا نكون قد فهمنا شيئاً كثيراً منها، ولكنا حين نقول: إنها (فيلم) فني يستعرض قلباً وعقلا ممتازين أو (طبيعة فنية ممتازة) في حب امرأة خاصة بكل معاني الخصوص نكون قد وضعنا شيئاً من الرموز لهذه القصة الفريدة
ليس في القصة حوادث (في الخارج) ولكنها حافلة بالصور النفسية الباطنية، والخلجات القلبية المضمرة. وليست مصوغ على مثال من أنواع القصص، ولكنها مصبوبة في القالب الوحيد الذي يناسبها، ويناسب طبيعة العقاد في آن
ما الحب؟
سؤال له عشرات الأجوبة؛ ولكن أي نوع من أنواع الحب هو المراد بالسؤال؟
إن للحب (أنواعا) شتى، فلكل نفس حب، وللنفس الواحدة صنوف منه شتى. فأي (صنف) منه كان حب (همام لسارة) في قصة العقاد؟
إنه حب الرجل الفنان الناضج ذي الطبيعة الممتازة، للمرأة الممتازة في نفسها وجسمها وطبيعتها
وإذا قلنا (الرجل) فقد عنينا الصحة والسلامة في هذا الحب؛ وعلمنا أنه قائم على أسسه الطبيعية الخالدة، التي رسمتها الطبيعة للحياة يوم خلقتها، ومهدت لها وسائل الدوام والخلود
وإذ قلنا (الفنان) فقد عنينا الإشراق والجمال في هذا الحب وعلمنا أنه متطلع إلى غاية من غايات الحياة الكبرى، وأمل من آمالها المذخورة لكل قلبين تلمح فيهما فسحة التطلع والرجاء
وإذا قلنا (الناضج) فقد عنينا الفهم والمعرفة في هذا الحب، وعلمنا أنه يعلم منشأه وغايته، ويعرف ما يأخذ وما يدع، ويحسن الانتفاع بكل قوة مذخورة فيه في أقصر مدى، وبأيسر المجهود
وإذا قلنا (الطبيعة الممتازة) فقد عنينا الامتياز في نوع هذا الحب، وعرفنا أنه ليس حب كل يوم وكل ساعة، ولكنه المثال الذي تبدعه الطبيعة بعد مجهود لتقيس عليه وتبرز خصائصه ويهمها من أمره ما لا يهمها من آلاف الأنواع الرخيصة المألوفة
فإذا تقابلت هذه المميزات مع امرأة (خاصة) في طبيعتها، فقد تم لهذا الحب كل عناصر الامتياز والتفرد، وكان جديراً بعرضه في سجل الحياة الممتاز، الذي لا يحوي إلا بضع صور منتقاة في عمر الحياة الطويل
وهكذا كانت (سارة) بقلم العقاد
وحين نريد أن نقوم بالشرح الفني لقصة (سارة) نحتاج إلى مؤلف في حجمها عشر مرات، كما تخفف الشراب المركز بإضافة أضعاف حجمه إليه من الماء ليصبح في متناول الجميع، شراباً تهضمه المعدات. وإذا كان هذا ليس مستطاعاً فإننا سنحاول استعراض شيء من نواحي الامتياز في القصة، بقدر المستطاع
يبدو في بطل القصة، الالتفات إلى كل ذرة في نفس حبيبته، وكل لحظة من لحظات حبه، وكل مظهر وكل لفتة وحركة في الواقع أو الخيال، ومن شأن هذا الالتفات أن يضاعف الشعور بالحب، وأن يجعل منه عالما كاملا يموج بشتى الأطياف، وشتى (الحيوات) ويخلق من هذه المرأة الواحدة، عشرات (المرآت) الخواص الممتازات. وليس الرجل الذي يحب المرأة حباً مبهماً، مندفعا في تيار الغريزة أو تيار الخيال الجامح، كالرجل يحبها وهو متيقظ لكل ما يحب فيها وكل ما يجتنب، وكل ما يرجى فيها وكل ما يخاف. وهو متنبه لخوالجها وحركاتها، متحفز لتلقي معانيها وإشاراتها، ملاحظ لأدق خصائصها، وأدق خصائص نفسه معها؛ فكل هذا معمق للحب، مضاعف لما فيه من لذة واستمتاع.
وإنه ليبلغ في ذلك ألا تفوته منها دلالة الملابس التي ترتديها، ودلالة الزينة التي تبدو فيها، وإنه ليتعمق في دراسة طبيعة جسمها والزمن الكافي لشفاء جروحها، ويجري كل هذه الملاحظات حيث تجري في تيار حبه، ومتعته بهذا الحب، في كل لحظة وكل حالة!
والقصة مليئة بمثل هذه الالتفاتات نختار واحدة منها:
(وسارة كانت من ذوات الملامح والوجوه اللواتي لا يطالعنك بمنظر واحد في محضرين متواليين: تراها مرة فأنت مع طفلة لاهية، تفتح عينيها البريئتين في دهشة الطفولة وسذاجة الفطرة بغير كلفة ولا رياء؛ وتراها بعد حين - وقد تراها في يومها - فأنت مع عجوز ماكرة أفنت حياتها في مراس كيد النساء ودهاء الرجال. وتضحك ضحكة فتعرض لك وجها لا يصلح لغير الشهوات، وضحكة أخرى - وقد تكون على أثر الأولى - فذاك عقل يضحك ولب يسخر، كما تسخر عقول الفلاسفة وألباب الشيوخ المحنكين.
(هي تارة أم رؤوم تفيض بحنان الأمهات حتى ليوشك أن تسع به أطفال العالمين. وحسبك أن ترسمها هكذا ولا تضع في أحضانها طفلا يرضع ولا إلى جانبها طفلا يدرج، لتستحق الصورة عنوان الأمومة
(وهي تارة أخرى شريدة بوهيمية لم تستقر قط في دار ولا وطن، وما استقرت قط مع عشيق
(لها صورة إلى جانب سرير، لو نحيت عنها السرير جانباً لمثلت لك راهبة خاشعة تهم بالصلاة، أو ضحية من ضحايا الآلهة تساق إلى محراب القربان
(ولها صورة على سفح الهرم لو أخفيت منها الهرم لخلتها حورية مخمورة في أرض يونان القديمة تهم بالرقص في كروم باخوس.
(وكان همام يراقب هذه الشخوص ويتصفح هذه الوجوه وهو مغتبط تارة، ومشفق تارة أخرى) ويعزو تقلبها واطرادها إلى الفتوة الحية التي لم تحبس في محابس الأفكار والعادات والتقاليد، فهي أبداً في أيدي العواطف والنوازع، كعجينة الخلق المهيأة للصوغ والتركيب في كل ساعة)
ونقول نحن بعد قول العقاد: (وكان همام يتمتع بكل هذه الشخوص في حب واحد، كما قالت سارة له في فكاهة بارعة صادقة: احمد ربك. عندك من سارة المظلومة حريم كامل، فلا
تشكر نفسك كثيراً على الوفاء)
وصحيح أن سارة صاحبة الفضل لأنها صاحبة هذه الشخوص، ولكن (هماما) صاحب الفضل الأول في الفطنة لها، والاستمتاع بها. أو قل: هو العقاد صاحب الفضل ومنشئ سارة وهمام!
ويكمل هذا ذلك الحوار البارع الطريف، الذي عقده العقاد، بين شخوص سارة المختلفات ما بين صفحة (116) وصفحة (119) من الكتاب
ويلفت النظر في هذه القصة، ذلك المزيج الغريب بين متعة الروح ومتعة الجسد، بحيث لا تفترقان ولا تتميزان، فأنت تجد (هماماً) يحب في (سارة) روحها وعقلها وجسمها، ولكن هذه كلها مزاج واحد، وقد ارتفع بلذة الحس فيها إلى الروحانية الصافية، ولكنها ليست روحانية الخيال الغرير، بل روحانية البحر الذي يطهر كل ما فيه ويجلوه ويحيه
وإنك لتقرأ رسالة همام إليها فتدرك منها كل شيء. وإليك بعضها وهو يحاول استنقاذها من السقوط الجسدي الرخيص
(اذكري نوبات الحيرة وتبكيت الضمير التي كانت تساورك حين تحضرين إلي، واذكري كيف كنا نفترق وقد هدأت نفسك بعض الهدوء واسترح ضميرك بعض الراحة. . . كان اهتمامي بك حتى بالغضب عليك يفرج شيئاً من الضيق الذي يسد عليك منافذ الأمل لأنه يعطيك فكرة عالية في نفسك، فيعزيك ويقويك ويرفع عنك ذلك الصغار الذي يسمم كل شعور وينغص كل نعيم
(اذكري كيف كان وجهك يشرق بالبشاشة من عهد قريب، وكيف ظهر ذلك على صحتك وملامحك، فسألتني في يوم من الأيام بين الجد والمزاح: أصحيح: أصحيح أن وجهي يمتلئ ويحلو؟ كان ذلك وأنت تشعرين إلى جانبك بنفس إنسانية تحنو عليك وتفكر فيك، وتجتهد في عذرك ما استطاعت، وترعاك في الغيبة والحضور. وهذا أحوج ما تحتاج إليه المرأة خاصة في هذه الحياة
(فكل امرأة - بلا استثناء - في وسعها أن تجد رجلاً يأخذها جسداً، ويطرحها سائماً بعد حين، بلا أسف ولا شكر ولا احترام
(ولكن ليست كل امرأة واجدة تلك النفس العطوف التي تفهم الدنيا وتفهمها، وتحب لها
الخير لغير غاية، وتهتم بها وحدها بين جميع الناس وتراها أهلاً للرضى والغضب والشكر والملام)
وأنت خليق أن تدرك أكثر مما تشير إليه هذه الرسالة متى علمت أن (سارة) أو شبيهتها في موقفها هي المعنية بهذه الأبيات:
تريدين أن أرضى بك اليوم للهوى
…
وأرتاد فيك اللهو بعد التعبد
وألقاك جسماً مستباحاً وطالما
…
لقيتك جم الخوف جم التردد
رويدك إني لا أراك مليئة
…
بلذة جثمان ولا طبيب مشهد
جمالك سم في الضلوع وعثرة
…
ترد مهاد الصفو غير ممهد
إذا لم يكن بد من الحان والطلا
…
ففي غير بيت كان بالأمس مسجدي
فتدهش حين ترى المتاع الحسي بامرأة، لا يخلع عنها روعة المسجد، ولا يجعل صاحبها يرتاد فيها اللهو بين الحان والطلا، بعد التعبد والتردد
وما من شك أن هذا إحساس فريد جدير بالتسجيل والبروز لأنه من النماذج التي لا تجود بها الطبيعة إلا وهي شحيحة ضنينة، وما تختص بها إلا نفس فنان عظيم، تتطهر فيها الأرجاس وتشرق وتشع المواد المتكتلة، فإذا هي أشعة وظلال
ومن الأحاسيس الفريدة في (سارة) موقف (همام) مع حبيبته يوم جاءت تعترف له بأنها خانته فعلاً، فلم يجد في هذا الاعتراف ما يستوجب قطع صلاته بها، لأنه كان يحس أن هناك ذخيرة موفورة له في نفسها، وفيضاً غزيراً لها في نفسه. وهو يقول في هذا:
(لم يشعر ذلك اليوم وهو ينتظرها بخداع ولا استغفال ولا احتقار. ولكنه شعر بخسارة وأسف، وانتظرها كما ينتظر الطبيب مريضاً يلجأ إليه، واستقبلها عاطفاً عليها متطلعاً إلى ما وراء حديثها، مستعداً للتسامح في الإصغاء إليها)
وبينما يتلقى اعترافها هذا بالقبول، ويستأنف بعد صلاته بها، وإذا به يقاطعها بعد ذلك لمجرد الوسواس والظنون، لماذا؟ لأن الذخيرة النفسية بينهما قد نضبت، فلم يكونا في حاجة بعد ذلك إلى دليل حاسم، ولا اعتراف مكشوف
وهو يصف الفرق بين الحالتين، ذلك الوصف الفريد:
(في تلك الأيام كانت كل هنيهة لها شعورها المحبوب المتجدد البهيج. إذا انفتح الباب للقاء،
فذلك شعور القائد الذي يفتح باب حصنه، ليلتقي نجدة الأمان والاطمئنان إلى زمن طويل، وليطرد المخاوف من وراء ذلك الباب إلى مهرب سحيق؛ وإذا انفتح الباب للوداع، فذلك شعور الشارب الذي استوفى نصيبه من العقار، وبقي له نصيبه من النشوة والتذكار، ونصيبه من الشوق في الغد إلى مثل هذا اللقاء، ومثل هذا الوداع، ومثل هذا الانتظار؛ وبين لقاء كل يوم ووداعه ألف لقاء وألف انتقال من حال إلى حال، وألف سكينة وألف ابتدار
(تلك أيام!
(ثم جاءت بعدها أيام
(وشتان أيام وأيام
(نعم شتان حقيقة وتمثيل. . . وأي تمثيل؟! تمثيل اللاعب الذي يساق إلى دوره سوقاً لأنه يخشى الفشل، لا لأنه يأمل النجاح
(واستمرت المواعيد، واستمر اللقاء، واستمرت السآمة واستمر الشقاق، واستمرت مع كل ذلك محاولات عقيمة مستميتة أن يعود ما لا سبيل إلى أن يعود
(وكانت هي تقلد نفسها في أيام الصفاء، فتمد يدها إلى جيبه بعد عاصفة من اللوم الجارح، والملاحاة الموجعة، كما كانت تمد يدها إلى جيبه بعد ساعات الرضا والدلال، لتخرج منه المفكرة المعهودة، وتكتب فيها أسطراً أو كلمات تسجل بها ما كان في ذلك اليوم، فكتبت يوماً بعد مقابلة لم يسمع فيها إلا جدال ومحال، أو سكوت هو أثقل من الجدال والمحال: (نزهة رسمية في عربة، ثم مناقشة جدية، ثم مصافحة وتقبيل، ولا عجب في ذلك. . . فإن الحب يسهر!)
(نعم يسهر من الأرق لا من العناية!
(وسهر الحب إلى اليوم التالي فالتقيا وتراضيا، وتناولت هي المفكرة وكتبت فيها خمس كلمات: (سامحت من غير سبب. أحبك)
ولكنها كانت آخر ما كتبت في مفكرة ذلك العام. وفيما بعده من أعوام)
بهذا التصوير البارع يسجل الفرق بين الحالتين: فليس بدعا أن يعفو في الأولى مع الاعتراف، وأن يجفو في الثانية لمجرد الشكوك
ولو كان - غير العقاد - واحد من السطحيين، أو الذهنيين لجعل القطيعة في الأولى أمرا مقضيا بعد الاعتراف، أو لجعل القطيعة في الثانية أبعد الاحتمالات!
أليس هذا هو منطق الذهن؟ قد يكون ذلك! ولكن للنفس وللفطرة الصادقة منطقا آخر، هو الذي صوره العقاد في نفس (همام)
وهذا ما نعنيه بأدب الطبع، وما نعنيه بفسحة النفس، وما نعنيه بامتياز الإحساس
وبعد ففي (سارة) حديث آخر، وفي غزل العقاد حديث أبقيهما إلى الأسبوع القادم. فإلى اللقاء
الإسكندرية
سيد قطب
حول أدب الرافعي
بين القديم والجديد
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
- 3 -
لو كان الرافعي حياً وعدا عليه عاد في نفسه وأدبه كما عدا سيد قطب ما تحرك بالدفاع قلم غير قلم الرافعي. وما أظن سيد قطب كان يتحرك إذ ذاك بثلب للرافعي أو تنقص لأدبه. أما وقد مات الرافعي فقد ظن سيد قطب أنه يستطيع أن يعدو على الرافعي ويسخر من أدبه باسم النقد، وهو آمن أن يوقعه ذلك في ورطة مهلكة كالتي كان يقع فيها لو أنه تناول أدب الرافعي في حياته، بمثل القلم الذي تناوله بعد مماته، لكن الأدب الكبير الحق، ككل شيء حق كبير في الحياة، يدفع عن نفسه بنفسه عدوان العادين حتى بعد موت صاحبه. ودفاع الحق عن نفسه له مظهران: مظهر إيجابي تقف فيه عناصر الصواب والصدق والخير تجادل عن نفسها عند كل ذي عقل وقلب، وتجعل منه حكماً يحكم لصاحبها ولو بين نفسه ونفسه؛ ومظهر سلبي لعله أعجب المظهرين وأخصهما بطبيعة الحق، يتجلى في تورط مخاصم الحق في أغلاط ومزالق ومهاو يتردى فيها من حيث يحذر ومن حيث لا يحذر، فيكون مخاصم الحق بذلك هو نفسه الذي ينتقم للحق من نفسه بما يكشف من عوارها ويبدي من مقاتلها
والأغلاط التي تورط فيها سيد قطب بالعدوان على الرافعي في نفسه وأدبه كثيرة لم يكن ما بيناه في المقال السابق إلا لأقلها. ويؤذن النقدً بها في أول ما يطالع من تلك الكلمات تطرف صاحبها البالغ في الرأي. والتطرف هو دائماً دليل الهوى وفقدان الاتزان في الحكم إن أغتفر للعامة فلا يعذر فيه الخاصة. فالعقاد عند الكاتب أديب الطبع القوي والقلب، ولا طبع ولا قلب للرافعي. والعقاد عنده لا يليق به لقب أمير الشعراء لأن المسافة بينه وبين شعراء عصره أكبر من المسافة بين الأمراء والسوقة؛ ومعنى هذا أن الرافعي الشاعر لا يبلغ أن يكون في السوقة حين يكون العقاد في الأمراء
ويزداد شطط الكاتب كلما تقدم به الشوط. فالعقاد يكتب عن عقيدة في الأدب والرافعي
يكتب عن غير عقيدة. والعقاد يخلق حتى المبادئ الخلقية، والرافعي لا يستطيع أن يخلق شيئاً. ونحن نظن أن الرافعي رحمه الله لم يكن يسره أن تبلغ به المقدرة حد خلق المبادئ الخلقية، لكن كان يسره من غير شك أن يكون له على خلق غير المبادئ الخلقية شيء من المقدرة
والعقاد بعد ذلك هو أديب الذهن المشرق (مقال 6) والطبيعة الممتازة والنفس الرحبة والمواهب التي تنتفع بالثقافة وتعلو على حدود الثقافات! أما الرافعي فهو أديب الذهن المريض الخابي المغلق غير ذي النفس ولا الثقافة. ثم العقاد فوق ذلك وقبل ذلك هو الكاتب الجبار الذي بقي (وتضعضع خصومه ووراءهم قوة العدد وقوة الحكم وقوة المال وقوة الماضي الوطني وكل قوة مأمولة في الوجود)! أما الرافعي فهو أحد خصوم العقاد الذين لم يغن عنهم حيال جبورته التجاؤهم إلى الدين وهو أقوى أثراً من السياسة وأكثر اتباعاً، فكانوا رغم استعانتهم بالدين في محاربة العقاد من المغلوبين. فصاحبنا كما ترى لا يتشكك في أن العقاد هو هزم الوفد وهو هزم غير الوفد ممن استعان في خصومته بسلطان السياسة أو الدين. وتقوم غاشية الهوى دون عقل صاحبنا فلا يبصر العوامل المتعددة القوية التي كان مجموعها أقوى من سلطان الوفد فانهزم، ولا يذكر أن المعركة التي انهزم الوفد فيها كان أمضى سلاحها سلاحاً دينياً، وكان من أكثر الناس استعمالا له حين جد الجد العقاد
إلى هذا الحد من الإسراف والغفلة بلغ بصاحبنا هواه. وجدير لمن يتصدى للحكم بين اثنين هذا مبلغ إسرافه فيهما على نفسه أن يغفل حسنات أحدهما ولا يبصر سيئات الآخر، وأن يخرج النقد من قلمه شيئاً آخر أو أقل خلقاً آخر ينكره الحق ولا ينكره الباطل لغلبة الهوى عليه وقلة أثر العقل فيه
لكن صاحبنا لا يعجبه أن ينبه منبه إلى ما في إسرافه ذلك من خطر عليه هو: على نزاهة حكمه وحرية رأيه واستقلال فكره وحيوية نفسه وسلامة طبعه، فيرد على من نبهه رد المغيظ المحنق رامياً إياه بتكلف التورع والتنطس تارة، وبعدم التفريق بين الكيف والكم ولا بين الصدق و (النخع) تارة أخرى، زاعماً أنه فيما قال إنما يتبع البرهان والدليل! وإلى الخطر الذي يحيط ببرهانه هذا ودليله أريد تنبيهه، فلم يزد على أن جاء بدليل آخر على إسرافه في التشيع حين لم يتنبه إلى احتمال وقوع الخلل في رأيه ومنطقة من جراء غلوه،
وحين زعم زعم لنفسه وللناس أن رأيه ذلك إنما بناه على البرهان والدليل
إن الناقد الحق كالقاضي العدل، من أظهر صفاته وأوضح إماراته أن يطبق قانونه تطبيقاً واحداً على المتخاصمين. قد يكون للقانون الذي يطبقه القاضي معيباً في ذاته، لكن القاضي لا يسأل في العادة عن ذلك وإنما يسأل عن التطبيق. وقد يخطئ القاضي في التطبيق لكنه على أي حال يجب ألا يخطئ الروح روح الإنصاف والتسوية بين الناس عند تطبيق القانون. والناقد كالقاضي في هذا الشرط شرط وجوب التزام روح الإنصاف والتسوية بين الخصوم عند تطبيق معايير النقد، إلا أن الناقد له على القاضي مزية التمتع بقسط غير قليل من الحرية في اختيار معاييره ومقاييسه في حين أن القاضي لا يملك شيئاً من الحرية في اختيار القانون الذي يحكم به بين الناس. فالناقد والقاضي متساويان في تبعة الروح الذي به يطبقان ما بيدهما من أصول وقواعد، لكن تبعة اختيار هذه الأصول والقواعد إذا أعفي منها القاضي فلا يمكن أن يعفي منها الناقد كل الإعفاء، بل ولا بعض الإعفاء عند التحقيق
والقواعد التي جرى عليها الكاتب في المفاضلة بين الرافعي والعقاد وفي محاجة المنتصرين للرافعي ممكن استنباطها في سهولة من تضاعيف كلامه، لكنا لا نريد الآن أن نحاسبه على قواعده ومعاييره ومبلغها من الصحة والدقة، ولكن نحاسبه الآن على الحد الأدنى من تبعة الناقد وهو القدر المشترك بين الناقد والقاضي من تبعة التسوية بين الخصوم في تطبيق الأصول والقواعد مهما تكن تلك القواعد والأصول
لكنا لا نكاد نشرع في قياس كفايته في النقد ونزاهته في الحكم بهذا الحد الأدنى الضروري حتى يتضاءل وينزوي عنه سجل النقاد كما يتضاءل القاضي وينزوي إذا حاكم الخصمين في المسألة الواحدة إلى غير قاعدة أو مادة واحدة وغلب ذلك عليه في قضائه بين الخصوم
فناقدنا لم يقترف في نقده جرماً أقل من كيله بمكيالين وتفكيره بمنطقين في حكومته بين الطرفين في الموضوع الواحد والنقطة الواحدة، فله ولصاحبه منطق ومكيال، ولخصومها في نفس الموقف ونفس الموضوع منطق آخر ومكيال آخر. والقاعدة في ذلك - على ما يظهر - أن يكون الحكم دائماً لمن يحب على من يبغض. وإليك من ذلك أمثلة في غير إطالة ولا استقصاء
يرى الكاتب أن العريان أساء تقدير العقاد لأنه لم يختلط بالعقاد أولاً ولم تنفتح نفسه لأدب
العقاد فيفهمه ثانياً. والكاتب يقر بأنه لم يختلط بالرافعي وبأنه يكره أدبه. ولا يخطر بباله مع ذلك أنه أساء تقدير الرافعي لنفس السبب الذي من أجله رأى أن العريان أساء تقدير العقاد
ويرى الكاتب أنه ينبغي في تحديد معنى السب والشتم أن يطبق علم النفس وعلم الأخلاق على العالم الأدبي فلا ينظر إلى الألفاظ ولكن إلى أسبابها وملابساتها. ولا يلتمس للرافعي عذراً من هذا الباب الذي فتحه لالتماس العذر للعقاد
ويعذر العقاد في قسوته على الرافعي لأنه يصور على الأقل ما يعتقد هو أنه حقيقة، ولا يعذر الرافعي بمثل هذا العذر في قسوته على العقاد
ويعتذر عن العقاد فيما أتى إلى مخلوف باعتقاد العقاد عظم الفرق بين نفسه وبين مخلوف، وحنقه أن يجترئ مثل مخلوف على نقده. وقطب نفسه مستعد للثورة والحنق إذا تناول أدبه متناول بمثل ضيق الفهم واستغلاق الشعور اللذين تناول بهما مخلوف أدب العقاد. أي يعتذر عن نفسه وصاحبه في غضبهما لأدبهما بحسن رأيهما في نفسهما وسوئه في غيرهما، وهو باب من العذر يسع كل الناس لكنه لا يتسع للرافعي ومن معه وإن كان الرافعي أجدر أن يثور لإنكار العقاد إعجاز القرآن كما حكاه العريان
ويعتب على العريان في صدد ما كتب عن تلقيب العقاد بأمير الشعراء أنه سمح لصداقته للرافعي أن تعدو على التقدير الصحيح للعقاد، ولا يعتب على نفسه هو أن سمح لصداقته أو محبته للعقاد أن تعدو على التقدير الصحيح للرافعي. وبعبارة أخصر، يتهم العريان في تقديره العقاد لصداقته للرافعي، ولا يتهم نفسه في تقديره الرافعي مع ما يعلم من بغضه الرافعي ومحبته العقاد
ويعيب على الرافعي إتيانه في شعره بالمعاني المألوفة المأنوسة التي سبق إليها الشعراء مثل:
إن يقض دين ذوي الهوى
…
فأنا الذي بقيت ديونه
ومثل:
تضني المحب كأنما أجفانها
…
ألقت عليه فتورها وملالها
يرى ذلك من ناحيته تقليداً من الرافعي لشعراء الدول المتتابعة والمماليك في مصر وشعراء
أواخر العهد العباسي! ويراها من ناحية أخرى معاني مطروقة (يباع كل عشرة منها بقرش في هذه الأيام). حتى إذا قال الرافعي:
يا من على الحب ينسانا ونذكره
…
لسوف تذكرنا يوماً وننساكا
وهو كما ترى معنى على أفواه الناس سبق إليه القصص القديم ولابد أن يكون سبق إليه كثيرون من شعراء الدول المتتابعة أو شعراء غير الدول المتتابعة - حتى إذا قال الرافعي هذا لم يعبه عليه ولم يتنقصه من هذه الناحية! وهل تدري لماذا؟ لأنه يعتقد أن الرافعي أخذ البيت عن العقاد
ويعيب على محمود شاكر توسعه في تبيين مذهب المقتدرين من شعراء العربية في العصور المختلفة في الغرض الذي كان بصدده، يعد ذلك منه جرياً (على النسق الخالي من كتب النقد لقدامة وأبي هلال العسكري ومن ينقلان عنهما من تتبع المعنى تتبعاً زمنياً، وحسبان كل شاعر متأخر أخذ هذا المعنى عن شاعر متقدم. . .) وهو مذهب يظن الكاتب به (القصور والجمود) ومع ذلك فظنه هذا لم يمنعه من حسبان الرافعي قد أخذ بيته المذكور آنفاً عن العقاد كما رأيت. ولعل عذره في ذلك أن الرافعي والعقاد كانا متعاصرين حين قيل ذلك البيت فلا سابق منهما ظاهراً في الزمن ولا مسبوق
ثم يرى ناقدنا أن (الحكم على النيات عمل عسير لا يصح الاستخفاف به) إذا كان الأمر متصلاً بالعقاد ونية طه حسين في تلقيبه إياه بأمير الشعراء، أما إذا كان الأمر متصلاً بنية الرافعي في خصومته للعقاد فعندئذ يزول العسر ويجوز الاستخفاف وتتدخل نظرية فرويد والتحليل النفسي في الموضوع فتجعل كوامن الإنسان تظهر من فلتات اللسان، وتكشف قلم الرافعي في رسائل الأحزان عن الرافعي في أعماقه، وتنبئ ناقدنا ذا التعليل والتحليل أن (أهم أسباب الحقد في نظر الرافعي وأظهر دوافعه) هو (فوقان؟ إنسان على إنسان في النتاج الأدبي) وتجعله يصيح:(وهكذا كان الرافعي مع العقاد)!
هذه ثمانية مواقف في الخصومة القائمة حول أدب الرافعي والتي أثار غبارها سيد قطب وجعل نفسه فيها ناقداً وحكما ليس لأحد الطرفين في موقف منها كلام إلا ويصح أن يقوله الطرف الآخر، ولا يمكن أن يستند في الحكم لأحدهما على مبدأ أو أصل أو قاعدة إلا ويمكن الاستناد على نفس هذا المبدأ أو الأصل أو القاعدة في الحكم للآخر لما بين الطرفين
في كل موقف من تمام التشابه. لكن صاحبنا واسع الحيلة في النقد، يستطيع أن يفرق بين المتشابهات في الخصومة وأن يطبق المبادئ والأصول والقواعد بحيث تأتي الأحكام كما يريد، فيخرج أحد الخصمين دائماً ظافراً والآخر خاسراً وليس بيد أحدهما من الحجة ما ليس بيد الآخر إلا أن الظافر محبوب والخاسر مكروه لدى ناقدنا المجدد الذي لا يعجبه في النقد مذاهب القدماء
ترى كيف أمكن لهذا الناقد أن يخطئ في تطبيق مبادئه هذا الخطأ ويفرق بين الخصمين في المواقف المتشابهة هذا التفريق إن لم تكن عاطفته قد جمحت به وجعلته يجنح عن صراط النقد السوي والتفكير الحر المتزن ذلك الجنوح الكبير؟
إننا قد بدأنا نشفق على هذا الناقد الناشئ من هول ما جنى على نفسه بتسخيره عقله لهواه في أمر كبير كالذي تصدى له. ولو علمنا أن هذا القدر يكفيه ليفئ إلى أمر الله لوقفنا عند هذا الحد رفقا به وإبقاء عليه فإن فيه عناصر ذات قوة لا يحول بينها وبين النفع والخير إلا أنها تحاول أن تشق لنفسها مجرى غريبا آخر تضيع به حتما بدلا من أن تنضم إلى النهر نهر العربية الكريم الواسع الذي أجراه الله لها بالقرآن.
إن هناك في تاريخ العربية، جداول ضلت الطريق إلى هذا النهر فضاع ضعيفها وكوّن قويها مناقع الأدب العربي ومآسنه ودمنه الخضراء الوخيمة. وأدب الرافعي رحمة الله عليه لم يخطئ منه مجرى هذا النهر القرآني إلا القليل، وإلى هذا القليل نبه الأستاذ العريان فيما أرخ للرافعي وإنْ بأسلوب آخر. وعيب الأديب قطب أنه لم يعرف هذا القليل ولا ذلك الكثير على وجهه، ويحاول أن يتوصل بكل سبيل إلى هدم الرافعي الشاعر الكاتب المجاهد في سبيل الله والعربية والقرآن؛ لكن الذي يحاول هدم الحق ينهدم به وإن تحفظ، ونحن نشفق على أخينا سيد قطب من عاقبة معاداة الحق ومجافاة طريق القرآن. فهل له في أن يفئ إلى الحق وإلى أمر الله؟ إننا نكون أول المغتبطين له وبه إن فعل ونستغفر الله إليه مما يسوءه في هذه الكلمات
(بور سعيد)
محمد أحمد الغمراوي
من كتاب البحث عن الغد
لروم لاندو
للأستاذ علي حيدر الركابي
(أحببت أن أعقب على بحث الأستاذ العقاد بترجمة بعض
المقاطع التي تناول فيها المؤلف لبنان وسورية والعراق
وفلسطين وشرقي الأردن لما تضمنته من تحليل دقيق وآراء
صريحة ومعلومات قيمة)
1 -
الجمهورية اللبنانية
لبنان
إن الصلة بين لبنان (هو قطر يسود فيه النصارى) وفرنسا قديمة ترجع إلى عهد الحروب الصليبية ولكنها ازدادت توثقاً سنة 1860 عندما تدخلت الدول الغربية وأجبرت الحكومة العثمانية على منح لبنان شيئاً من الاستقلال المحلي. ومنذ ذلك العهد توسعت المصالح الفرنسية في البلاد وتهيأت نفسية الشعب للحكم الفرنسي بفضل المدارس الفرنسية والكلية اليسوعية في بيروت والرهبان اللبنانيين الذين تلقوا علومهم في فرنسا والكهنة اليسوعيين الفرنسيين. ومع أن دمشق هي عاصمة سوريا الحقيقية إلا أن المندوب السامي يقيم دائماً في بيروت لأن لبنان بسواحله الممتدة يهم فرنسا أكثر من سوريا ذات الحدود الواسعة التي يصعب الدفاع عنها وذات الصحراء المترامية الأطراف
ومع أن فرنسا قد خلقت في سورية عدداً من الدويلات المستقلة كاللاذقية وجبل الدروز وسنجق الاسكندرونة إلا أن سورية ولبنان هما الدولتان الرئيسيتان من الناحيتين السياسية والقومية. وأهمية هاتين الجمهوريتين أعظم بكثير من حجمهما، فمساحتهما لا تزيد على (60. 000 م. م.) وسكانهما لا يزيدون على (3. 500. 000 نسمة). والفضل في هذه الأهمية عائد إلى الوضع الجغرافي والنهضة الفكرية والاتصال الدائم بالغرب. وقد اتحدت
كل هذه العوامل مع التنبيه القومي العظيم فجعلت للدولتين أهمية روحية في العالم العربي تكاد تضاهي أهمية مصر. وقد لعب السوريون دوراً رئيسياً في أكثر الثورات والحركات الفكرية والسياسية التي حدثت في الشرق الأدنى منذ عام 1919
يمتاز لبنان على سائر الأقطار العربية بأن الأحزاب السياسية المتناقضة فيه هي المسيطرة على سير الحوادث. والحزبان الرئيسيان هما: أولاً حزب الحكومة المستند بالدرجة الأولى على تأييد النصارى أكثر من غيرهم والذي يرمي إلى أتباع سياسة إفرنسية. وثانياً: الحزب الذي يعارض الأول كل المعارضة ويؤيده أكثر المسلمين وبعض النصارى. وهناك فئة ثالثة ذات رأي معتدل تسعى إلى الابتعاد عن المنازعات الطائفية، أعضاؤها من اللبنانيين المتعلمين والأجانب الذين تمكنوا - بشكل من الأشكال - من أن يلعبوا دوراً هاماً في حياة البلاد
رئيس الجمهورية
لقد دعاني المسيو أميل اده رئيس جمهورية لبنان لتناول طعام الغداء في بيته، وبهذا أتاح لي الفرصة للوقوف على وجهة نظر الحكومة من مصدر عال
يقعُ مكتب المسيو إده الرسمي في السراي الصغيرة في ميدان بيروت الرئيسي، وهي دار الحكومة؛ أما بيته الخاص فهو في الطابق الثاني من عمارة حديثة ذات طوابق متعددة وعلى مدخلها ألواح تشير إلى وجود طبيب وأشخاص من مهن مختلفة بين سكانها. ومع ذلك فإن (الدركيّ) الواقف على الباب والعلم الفرنسي ذا الأرزة في زاويته المرفوع على السطح والعلم الآخر الصغير الموضوع في مكان بارز على السيارة الفخمة الواقفة خارج البناء، كلها دلائل على مكانة أحد سكان العمارة الرفيعة. أما البيت نفسه فهو كبير ومؤثث بفرش حديثة عادية وعلى جدرانه رسوم ليست حديثة تماماً.
إن المسيو اده نصراني لبناني، ولابد في لبنان من ذكر دين الشخص لمعرفة مكانته الرسمية. وقد استقبلني بصحبة زوجه وولدهما. أما منظره فيدل على ذكاء، وهو قصير القامة ويرتدي الملابس الضيقة وقد وضع في صدره شارة جوقة الشرف لجيون دُونير. وكانت كل كلمة أو حركة منه تدل على حيوية لم يسع صاحبها إلى كتمها أو ضبطها. ولو قيل لمن ينظر إليه إنه نائب في مجلس النواب الفرنسي عن مقاطعة في جنوبي فرنسا لما
تعجب من ذلك. وهو محام لعب دوراً خطيراً في السياسة اللبنانية منذ الحرب العظمى. وقد تدرج في النيابة إلى رياسة مجلس النواب، إلى عضوية مجلس الشيوخ، إلى رئاسة الوزارة حتى تبوأ أخيراً أعظم مقام رسمي في البلاد.
وكان طعام الغداء لذيذ جداً قدمه لنا خادمان يرتدي كل منهما سترة بيضاء وقفازاً أبيض من القطن. وكان الحديث مثيراً شأن كل حديثُ يتبادل أثناء تناول الطعام في صحبة أشخاص فرنسيين مثقفين، وكان كرم المائدة أعظم ما يواجه الإنسان عادة في بيت مماثل في فرنسا، ولكني مع ذلك كنت أشعر كل الوقت بأني بين جماعة من الفرنسيين حتى أن مظهر زوج الرئيس الجذابة (هي مصرية المولد) وابنته الجميلة وابنه الشاب (الذي يمتهن المحاماة وينظر إلى نفسه والحياة عامة نظرة جدية) كان فرنسياً إلى درجة شعرت معها بأني في باريس نفسها لا في وسط الأسرة الأولى في شعب يفتخر بأنه من نسل الفينيقين.
وبعد الغداء أخذني المسيو إده إلى غرفة صغيرة حيث جلسنا نتحدث، وقد سرني منه أنه كان يستمتع ببسط وجهة نظره أمامي بدرجة استمتاعي بسماعها. قال:
- (إن الفكرة القومية هي الأساس الطبيعي الذي تبنى عليه حياة بلاد فتية، ومعنى هذه القومية في نظرنا هو استقلال لبنان التام باعتبار أنه يشكل وحدة جغرافية وسياسية، وتحالفه المؤبد مع فرنسا. إن بعض المسلمين يتكلمون عن الاتحاد مع سورية إلا أن هذا الاتحاد مخالف لجميع مصالحنا. إننا كنصارى نشكل أكثرية في لبنان، فإذا اتحدنا مع سورية ابتلعنا الأكثرية الإسلامية. وهناك أسباب أخرى تجعلنا معارضين لهذا الاتحاد:
(إن شعبنا - من جهة - يختلف اختلافاً كلياً عن الشعب السوري، إذ أن تقاليدهم غير تقاليدنا وطرز معيشتهم غير طرزنا. أنظر إلى بيروت، هل هي مدينة شرقية؟ إن دمشق شرقية تماماً، ولكن مدينتنا لا تختلف عن أية مدينة في جنوبي فرنسا. أنظر إلى بيوتنا وملابسنا وسياراتنا التي تكاد تبعدنا مئات الأميال عن دمشق. تذكر ليس فقط أن أولادنا قد تعلموا في جامعات أوربية بل أيضاً أن آباءنا قد تربوا تربية غربية، وأن الكثيرين منهم قد تثقفوا في الخارج. أما السوريون فهم ليسوا سوى عرب مسلمين ليس فيهم شيء غربي البتة.
(ثم لنبحث في الناحية الاقتصادية: إن السوريين متشوقون كثيراً إلى مشاركتنا في واردات
الكمارك مع أن أكثر هذه الواردات تستوفى من ضريبة مفروضة على بضائع نشتريها نحن لا هم، إذ أن احتياجاتنا أكثر من احتياجاتهم ووسائل الراحة التي نتطلبها أكثر من وسائلهم. نريد أن نكون أصدقائهم ولكن (وهنا أشار المسيو إده بيديه إشارة قوية تدل على التأكيد) يجب أن نعارض دائماً فكرة الاتحاد معهم)
فقلت: (إذاً فإنكم تفضلون يا حضرة الرئيس التحالف مع فرنسا على التحالف مع سورية؟)
فأجاب: (إن هذا التحالف (أي مع فرنسا) هو نتيجة طبيعية للوضع الذي وجدنا أنفسنا فيه. فإن فرنسا قد ساعدتنا في الماضي وأكثرنا يتكلم لغتها. خذني مثالاً لذلك: إني فرنسي أكثر من أن أكون عربياً؛ وقد تربيت تربية نصرانية وجميع تصرفاتي مشابهة تماماً لتصرفات الفرنسيين). وقد شعرت برنة فخر في صوته عندما تفوه بهذه العبارة
وسألته (ولكن ما الحكمة في تحالف أبدي مع فرنسا؟)
فأجاب (لأننا إذا لم تحمنا دولة أجنبية قوية ابتلعنا جيراننا. وأضيف إلى ذلك أننا نحمل رسالة مقدسة يجب تأديتها في الشرق الأدنى: ذلك لأننا الجزيرة النصرانية الوحيدة في بحر من البلاد الإسلامية)
- (إذاً فأنتم معارضون للوحدة العربية؟)
- (إن الوحدة العربية هي ضد مصلحتنا. فإذا اعتنق هذه الفكرة بعض المسلمين عندنا فإن كل النصارى يكرهونها)
- (لقد أشرتم قبل لحظة إلى رسالتكم المسيحية مع أن النصرانية ليست دين الدولة الرسمي في لبنان)
- كلا! فلعل جمهورية لبنان هي الدولة الوحيدة في الشرق الأدنى التي ليس لها دين رسمي. والسبب يعود إلى وجود عدد كبير من الطوائف الدينية عندنا. ومن سوء الحظ أن الدور الفعال الذي يلعبه دائماً رجال الدين التابعون إلى هذه الطوائف المختلفة قد تجاوز الحد وأصبح مضراً بمصلحة البلاد. ولما كانوا يخلطون بين الدين والسياسة فلا نريد أن نعقد الأمور بإدخال الدين رسمياً في المعمعة بشكل من الأشكال، إذ لو فعلنا ذلك لوقعنا في ورطة عظيمة ولضعنا بين الأكثرية المارونية والروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك واللاتين والسنة والشيعة والدروز والأرمن والبروتستانت واليهود!) وهنا ظهرت على
وجهه لأول مرة إمارات القلق الشديد وتوقف عن الحديث هنيهة ثم استرسل قائلاً:
- (إن للطوائف المسيحية المختلفة نفوذاً سياسياً قوياً بفضل رجال الدين. ولو أردنا أن نحول دون نشاطهم السياسي لعجزنا عن ذلك؛ ولهذا رأينا المصلحة تقضي بترك هذه المسألة.
ومع ذلك فان تعيين جديد في الحكومة يسبب تذمراً لدى طائفة من الطوائف الدينية. آه لو كنا أحراراً - أحراراً نعمل كما يجب أن نعمل - أحراراً نعين الناس بالنظر إلى مؤهلاتهم لا بالنظر إلى أديانهم. . .)
- (لعل دكتاتوراً يستطيع تسهيل أمرا الحكم في لبنان؟) فرفع يديه وكأنه مشمئز وقال:
(أنا ضد كل دكتاتورية، أنا أؤيد الديمقراطية) وهنا توقف قليلا ثم عاد إلى الكلام بلهجة مختلفة:
(حبذا لو كان بإمكاننا تطبيق النظام الديمقراطي كما تعرفونه في إنكلترا حيث لم يفرض فرضاً غير طبيعي على شعب غير مهيأ له بل كان نتيجة طبيعية للتربية السياسية وفكرة راسخة عند المواطنين الإنكليز. آه ما أسعدكم في إنكلترا وأعظم بها من بلاد!)
وقد رافقت هذه الكلمات أنة شديدة دلت بجلاء على صدق عاطفته
(بغداد - دار المعلمين الريفية)
علي حيدر الركابي
حواء
. . . ديوان شعر طريف في الغزل العرفاني يصدره الأستاذ
الحوماني تحت هذا الاسم وستقدم الرسالة لقرائها نماذج منه
في أعدادها التالية ريثما ينتهي طبع الديوان
كيف أشقى؟؟
خَبِّريني كيف أَشقى وعلى
…
فيكِ من روحيَ هذي البَسَماتُ؟
كيف أشقى، وعلى خديكِ من
…
كبدي لونٌ، ومن لثمي شِياتُ؟
وعلى عينيكِ من لون الضحى
…
حَوَرٌ تطفو عليه القُبَلات
أَوَ أَشقى، والهوى ملءُ فمي
…
عَسَلاً تَنْهَلُ منه الوجناتُ؟؟
وبكفيَّ ثمارٌ أنضجتْ
…
طَلعَها مني شفاهٌ قَلقِات
ما السعاداتُ التي يَنشدها
…
شاعرٌ حَصّتْ جناحَيْه الحياة؟
أَهيَ غيرُ الحبِ، ترعى روضَه
…
من قوافيهِ مهاةٌ فمهاة؟؟
خفقتْ روحُكِ في آفاقهِ
…
فبدا صبحٌ وهبتْ نَسَماتُ
وطغت في الكون أمواج السنا
…
فسرت روحٌ وخفت حركات
أنت لحني
سلِمتْ عيناكِ لي، إنهما
…
كانتا رمزَ حياتي وخلودي
أَستشِفُّ الروحَ في ظلهما
…
فأرى بينهما سرَّ وجودي
كلما اهتزَّ على سلكهما
…
ناظري مارستُ فني من جديد
وتولّتْ شفتي تدوينه
…
بدمي فوْق شفاهٍ ونهود
وإذا الفن طغى خفَّتْ إلى
…
رسمهِ بين عيون وخدود
كلما مرّت بها أُنشودةٌ
…
كنتِ من أبياتها بيتَ القصيد
كنتِ في مطلعها زهرَ فمٍ
…
وعلى مقطعها لفتة جِيد
أنتِ لحني كلما أنشدتُها
…
وإذا لحنتُها كنتِ نشيدي
الحوماني
التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . . . . .
- 18 -
وكان ابراهام في الحادية والخمسين من سني عمره بينما كانت تتأهب البلاد لانتخاب رئيس جديد للولايات إذ كان عام ستين وثمانمائة وألف هو نهاية مدة الرئيس القائم؛ وكان انتخاب رئيس الولايات أهم الحوادث السياسية التي تشهدها البلاد، وإنه لأعظم خطر اليوم وأبعد في مصير البلاد أثرا؛ ذلك أن الانتخاب إنما يقوم هذه المرة على ما يشغل الناس في أمر العبيد وفي أمر الوحدة، لهذا كان ذلك العام نقطة يبدأ منها تاريخ البلاد عهد جديدا ويتدرج في مسلك جديد. . .
وكان الحزب الجمهوري وهو الذي ينتمي إليه ابراهام ويعد من أبرز رجاله، أقوى الأحزاب نفوذا وأعزها نفرا،، إذ كانت مبادئه أقرب من غيرها إلى قلوب الناس في الشمال فهو يعمل على أن يحول دون انتشار العبيد وهو يكره نظام الاستعباد ولكنه يرعى جانب الدستور في كل ما يقول أو يعمل
أما الحزب الديمقراطي فقد هان على الناس أمره بانقسامه وتنازع رجاله؛ ففريق من أهل الجنوب يكرهون اليوم دوجلاس لما كان منه أيام مجادلاته مع لنكولن. . . أو لم يصرح إن لكل ولاية الحق كل الحق أن تقضي على نظام العبيد فيها متى شاءت ذلك، فوقع بتصريحه هذا في حبائل خصمه؟ ثم إن فريقا من الديمقراطيين في الشمال قد كرهوا منه معارضته الرئيس بيو كانون في دستور كنساس حتى لقد فكر بعض الجمهوريين في ضمه إلى حزبهم! وإنه اليوم ليجني ثمار غرسه. وهل كان له أن يجني من الشوك العنب؟. . . لذلك
فشل الديمقراطيون حينما عقدوا مؤتمراً لهم ليجمعوا أمرهم على رجل يعدونه للرياسة وانفض مؤتمرهم وقلوبهم شتى.
وأخذ الجمهوريون يستعدون للمعركة القادمة فامتلأت صحفهم بفيض أقلامهم، وماجت كبريات البلاد في الشمال بمظاهر نشاطهم ومعالم استعدادهم.
ففي ربيع ذلك العام الفذ عقد الجمهوريون في ألينواس مقاطعة لنكولن، مؤتمراً لينظروا في نشر الدعوة له في الولايات ليحظى ابراهام بترشيح الحزب إياه في مؤتمره العام ليكون رجله في انتخاب الرياسة! وفي ذلك المؤتمر التمهيدي الذي عقد في مدينة ديكاتور اشتدت حماسة المؤتمرين لابراهام فما تهتف الألسن إلا به وما تحنو الجوارح إلا عليه؛ ولا يقتصر الأمر على المؤتمرين فهاهو ذا جمع حاشد من الناس يهتف به في شوارع المدينة، وعلى رأس هذا الجمع ابن عم له كان يعمل معه في شق الأخشاب قبل ذلك بثلاثين سنة. . . أنظر إلى ابن عمه هذا يحمل العلم على قطعتين شوهاوين من الخشب، وهو ينبئ الناش في زهو أنهما من صنع أبراهام قطعتهما فأسه يوم كان يعمل في الغابة، فهو من الناس وللناس! ثم انظر إلى وجوه القوم كيف تتهلل بشراً، واستمع إلى ألسنتهم كيف تضيف إلى ألقاب ابراهام التي ألفوها لقباً جديداً، فهو أيب الأمين وهو أيب العجوز وهو أيب فالق الأشجار. . .
وانعقد في الصيف المؤتمر الجمهوري العام في شيكاغو، وتدارس المؤتمرون طويلاً ثم أعلنوا ما اتفقت عليهم كلمتهم من المبادئ، فلم تخرج عما أوضحه ابراهام في خطبه وأحاديثه، وقد احتشد في تلك المدينة عدد عظيم من أهلها ومن غير أهلها بلغ أربعين ألفا ليشهدوا هذا المؤتمر العظيم والتفت تلك الجموع حول مكان الاجتماع. . .
وجاء دور الانتخاب واجتمع ممثلو الولايات لاختيار رجل يمثل الحزب جميعا، وجرت في القاعة أسماء خمسة أشخاص يختار منهم واحد، من هؤلاء لنكولن من سبرنجفيلد وسيوارد من نيويورك. . . وكان سيوارد في نظر أهل الشمال الزعيم الحقيقي للحزب الجمهوري فهو رجل واسع الثقافة عظيم الخلق يحب بلاده ويكبرها وهو كابراهام يمقت نظام العبيد وقد ظل يحاربه زهاء ربع قرن في غير هوادة.
وظن الناس وشاع فيهم بادئ الأمر أن الأمر سيتم لسيوارد في هذا المؤتمر! وكذلك ظن
سيوارد فلم يكن يحس منافسة ابراهام إياه؛ أما ابراهام فكان فؤاده يحدثه أن النصر له هذه المرة فهو يحس في أعماق نفسه دون أن يدري لما يحس سببا أنه عند الناس أرجح كفة من صاحبه وأن شبه لهم غير ذلك
ولكن القلق يساوره أحياناً وهو جالس في سبرنجفيلد في قاعة أحد أصدقائه من رجال الصحافة أثناء انعقاد المؤتمر فهو يقول لهذا الصديق (إني أعتقد يا صديقي أني سأعود ثانية إلى مكتب المحاماة وأعمل عملي في القانون. . .) ثم يعاوده الأمن برهة ويخالجه الشك برهة كما يحدث عادة في مثل هذه الأحوال حينما ينتظره المرء عاقبة أمر يهمه؛ وأي أمر هذا الذي كان يتوقع إبراهام عاقبته؟ إنه اليوم في مفرق الطرق من حياته، فإما إلى رسالته وإما إلى حرفته. . .
لقد طال به الانتظار حتى كاد أن يسأم، ولم يأته نبأ عن المؤتمر فلينصرف إلى القراءة حيناً، وإنه لكتاب شعر لبيرنز، هذا الذي يقلب صفحاته، ويقرأ كما يقرأ المرء في مثل تلك اللحظات بعينيه أكثر منه بعقله؛ ولكنه يدع الكتاب ليفكر وليتنازع فؤاده الشك واليقين. . .
والمؤتمر منصرف إلى عمله في شيكاغو يفتتح في رواية البلاد فصلاً جديداً سوف يترتب عليه كل ما يليه من فصول. . . والناس من حوله يموج بعضهم في بعض، وهم يتساءلون لمن يكون النصر؟ فيؤكد هذا بأن النصر لسيوارد في إشارة حازمة ولهجة جازمة، فيقبل عليه جماعة منهم فرحين؛ ويصيح ذاك: كلا بل النصر لفالق الأخشاب. فيتهافت عليه كثيرون. . .
وتعلن نتيجة الدفعة الأولى للولايات فإذا سيوارد يزيد على إبراهام بسبعين صوتاً وصوت، فيهتف أنصار سيوارد ويكتئب أصحاب ابراهام. . . وتعلن الدفعة الثانية فإذا ابراهام لم يبق بينه وبين سيوارد سوى ثلاثة أصوات. . . ويسود الصمت في جنبات المؤتمر وقد علقت الأنفاس وشخصت الأبصار وخفقت القلوب وتأهب رجال الصحافة لتلقي النبأ الأخير. وما هي إلا لحظة حتى يرتفع صوت باسم لنكولن، فهبت في المكان عاصفة هائلة من الهتاف والتصفيق تجاوبها خارجه عاصفة أشد منها قوة وأطول أمدا إذ يظل الناس يتعانقون ويتصايحون ويقذفون بقبعاتهم في الهواء ويتواثبون ويرقصون زهاء ربع الساعة كأنما مسهم طائف من الجنون. . .
وابراهام في غرفة صاحبه في سبرنجفيلد يوجس خيفة في نفسه طوراً، ويثق في النصر طوراً، وحوله جماعة من أنصاره ينتظرون كما ينتظر، وإنهم كذلك إذ يقبل شاب من مكتب البرق يحمل رسالة ويطفر بها كما يطفر العصفور من المرح ويقبل على ابراهام فيحمل إليه النبأ السار، ثم يهيب بالحاضرين أن يهتفوا ثلاث مرات لأيب الأمين رئيس الولايات المقبل. . .
ويقبل على ابراهام صحابته وفي مآقيهم دموع الفرح وعلى ألسنتهم ما لا يفي بالتعبير عما في قلوبهم من معاني الابتهاج، وهو منشرح الصدر مثلج الفؤاد ولكنه واقف بينهم معقود اللسان لا يجد من الكلام ما يفصح عما في نفسه، وبعد برهة يقول لهم: (إن امرأة صغيرة قصيرة هنالك في بيتنا يسرها أن تعلم هذا النبأ. يقول ذلك ويمضي مسرعاً إلى ماري فيفضي إليها بأجمل وأبهج ما انفرجت عنه أمامها شفتاه. . .
ويأتي بعد ذلك وفد من قبل الحزب يعلن إليه رسمياً نتيجة الانتخاب فيلقاهم ابراهام في داره، فما يبرحونها إلا وقد ارتبطت قلوبهم بقلب ذلك الرجل العظيم. . . وهكذا يظفر ابراهام لنكولن فالق الأخشاب بتأييد أكبر حزب في البلاد. . . هكذا يظفر النجار ابن النجار فيصبح رجل الساعة ومناط الرجاء في قومه
ولبث ابراهام نحو أربعة أشهر في سبرنجفيلد حتى حان موعد الانتخاب للرياسة، لبث في المدينة هذه المدة فما عهد عليه أحد من أهلها أدنى تغير عما كان عليه، فهو في الناس فرد منهم وإن كان بسبيل أن يذهب عما قريب إلى البيت الأبيض. . . وهل كان مثله يتغير حتى بالذهاب إلى هذا البيت العتيد؟ وهل كانت عظمته إلا منبعثة من نفسه حتى يتكبر أو يظغي؟ إنما هو من الناس وللناس ولسوف يظل أول خادم لهم حتى تزهق روحه في سبيل مبدئه. . .
وظلت سبرنجفيلد أياما في ابتهاج ومرح وابراهام يلقى الوفود في داره خافضا لهم جناحه باذلاً لهم من وده وحبه أكثر مما يبذلون وهم معجبون برجلهم الذي استحق محبتهم وظفر بتأييد كبارهم وتعظيم صغارهم. . . يعجبون منه بكل شيء وخاصة ذلك التواضع الذي يبدو رائع الجلال باهر الجمال. . . لقد أحاطوا بداره ليلة مجيء الوفد وطلبوا إليه أن يخطبهم فأطل عليهم قائلاً (أي مواطني! توجد لحظات في حياة كل سياسي حينما يكون
خير ما يفعل أن يحتفظ بشفتيه مضمومتين؛ وإني أحسب أن مثل تلك اللحظات قد حانت الآن بالنسبة إلي)
ولما ضاقت بالوفود داره جعل لقاء الناس في قاعة من مقر الحكم للمدينة، ولا يرد عن مجلسه أحداً، ولا يأخذ الحيطة من أحد، فإذا سأله شخص عن أمر في السياسة ناقشه في هدوء أو أعطاه نسخة من مجموعة خطبه؛ وهو يذهب بنفسه إلى مكتب البريد فيحضر رسائله المتعددة التي تأتيه من كل فج فيفضها ويقرؤها ويرد على ما يتطلب الرد منها إما بيده أو بيد كاتب قد اتخذه له منذ قريب. . .
ولقد سخط الناس في الجنوب على اختيار رجال حزبه له؛ وأصابهم من ذلك كرب شديد وضيق، وراحت صحفهم تناله بفاحش الهجاء، فهو تارة الجمهوري الأسود، وآونة فالق الأخشاب الجاهل، وأحياناً الرجل الذي لا يحسن إلا النكات الخشنة المسفة، وطوراً الشبيه بالغوريلا؛ وهو يقابل ذلك كله بالصبر الجميل مترفعا ترفع الكرام عن جهل اللئام. . . ولم يحدث منذ تألف الاتحاد أن قامت العداوة والبغضاء بين أهل الجنوب وأهل الشمال مثلما قامت بينهم عقب اختيار الجمهوريين لنكولن
أما أنصاره فما فتئوا يثنون عليه في صحفهم وأحاديثهم ويدفعون عنه مكر أعدائه ويدحضون أباطيلهم؛ وضرب سيوارد للناس مثلا طيبا فكتب في إحدى صحف نيويورك يثني على ابراهام ويهنئ البلاد باختياره هذا ويتمنى له الفوز في المعركة الأخيرة. . .
وظل هو في سبرنجفيلد لا يتكلم عن نفسه ولا يأبه لما يتقول عليه أعداؤه؛ أما عن أنصاره فكان يرتاح إلى دفاعهم وإن كان ليتبرم بينه وبين نفسه بما يزجونه إليه من عبارات المديح والإطراء. وما فتئت الكتب تلقى إليه من أنحاء البلاد وهو يجيب عنها غير متخلف ولا مبطئ؛ ومن أجمل تلك الكتب وأغربها كتاب جاءه من بنت صغيره تستفهمه فيه عن أسرته وتطلب إليه أن يطلق لحيته. ولقد رد عليها بهذا الكتاب قال: (أي فتاتي الصغيرة العزيزة: تلقيت كتابك الجدير جداً بالقبول، المؤرخ في 15 من أكتوبر عام 1860، وإني آسف أن أراني مضطراً إلى إخبارك أنه ليس لي ابنة. . . إن لي ثلاثة بنين عمر الأول سبعة عشر عاما والثاني تسعة والثالث سبعة، ومن هؤلاء، وأمهم معهم تتألف أسرتي كلها. . . أما عن إطلاق لحيتي، أفلا ترين، ولم تكن لي من قبل لحية، أني إذا أطلقتها الآن إنما آتي بذلك ما
يعد ضربا من التكلف السخيف؟. . . هذا وإني لك الصديق الوفي المخلص. ا. لنكولن). . .
وهبت من الجنوب الشائعات بالنذر، فلقد ازدادت الدعوة إلى الانسحاب من الاتحاد، وإلى إعلان التمرد والعصيان إذا قدر أن ينتخب لنكولن رئيسا للولايات؛ ونمى إليه فيما نمى من الأنباء أن أهل الجنوب يطاردون بالقوة كل من يدعو إلى تحرير العبيد في ولاياتهم. على أن أعظم ما أزعجه يومئذ ما أفضى به إليه قائد من القواد من أنهم في الجنوب يعدون معدات القتال!. . . لقد ارتاع ابراهام لذلك وأحس بميل شديد إلى معرفة كل شيء ولكنه يشعر، ولم ينتخب للرياسة بعد، أن ليس له حق فيما هو فيه من الاستطلاع فيطلب إلى ذلك القائد أن يتبين قبل أن يزده علما بما يجري فإذا لم يكن في الإفضاء بما يعلم خيانة فليفض به وهو يترك الحكم في ذلك له. . .
(يتبع)
الخفبف
الفروسية العربية
للميجر كلوب
ترجمة الأستاذ جميل قبعين
- 3 -
ومن أشهر الحكايات ما جاء في التوراة عن سيدنا إبراهيم الخليل (بينما هو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار - رفع عينيه ونظر وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه، فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة وسجد على الأرض وقال يا سيد إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك. خذوا قليل ماء واغسلوا أرجلكم واتكئوا تحت الشجرة، وخذوا كسرة خبز لأنكم قد مررتم على عبدكم. فقالوا هكذا نفعل كما تكلمت. فأسرع إبراهيم إلى الخيمة إلى سارة وقال أسرعي بثلاث كيلات دقيق سميد اعجني واصنعي خبز ملة ثم ركض إبراهيم إلى البقر ثم أخذ عجلاً رخصاً وجيداً وأعطاه إلى الغلام فأسرع ليعمله. ثم أخذ زبداً ولبناً والعجل الذي عمله ووضعها قدامهم وإذ كان واقفاً لديهم تحت الشجرة أكلوا) وأرجو أن ألفت نظركم إلى أن سيدنا إبراهيم عندما دعا هؤلاء الجماعة لم يكن يعرف من هم وقد طلب منهم أن يتناولوا شيئاً من الخبز والماء قائلاً (إن وجدت نعمة في أعينكم) وهذا دليل على أنهم يرفعون من شأنه بتناولهم الطعام عنده، ونراهم جلوساً بانتظار الخبز والماء ولكن نراه يقدم لهم عجلا وزبداً ولبناً بدل الذي دعاهم إليه. ثم يقف بين أيديهم لخدمتهم. فالبدوي يقدم آخر شاة عنده طعاماً لضيف غريب، وهذه هي عادتهم التي ساروا عليها من قرون طويلة. وأظن أن أخبار حاتم الطائي معروفة لديكم إذ أنه بعد أن ذبح جميع ما يملك من ماشية وإبل لإطعام الفقراء من قبيلته في سنة محل ذبح لهم فرسه وهي آخر ما يملك. ومن المتبع أن يقف عبيد الشيوخ على باب الخيمة منادين على الطعام. وقد لقب الناس ابن مهبد أحد شيوخ عنزة (بالمنادي على الطعام) لأن عبيده كانت تنادي الناس يومياً إلى الطعام في سنة قحط
إن العيب كل العيب في نظر البدوي أن تعطي طعاماً يكفي لضيوفك فقط، وحتى في رمضان عندما تكون القبيلة بأجمعها صائمة ترى أنهم ينحرون ثلاثة أو أربعة خراف
لإطعام بضعة أشخاص مع علمهم بأن بقية الطعام ستذهب سدى. ولقد تعدى كرم البدوي الإنسان إلى الحيوان. ويروى أن عنترة نحر في يوم زفافه مئات الإبل ورماها في البراري لتشاركه الوحوش في فرحه. والبطل السوري مقري الوحوش كان يطلق في البرية كل ما يربحه من غزواته لأنه كان يطلب المجد لا الكسب. وأنا شخصياً أعرف شخصاً اسمه (معشي الذيب) كان يربط جدياً في البرية عندما يسمع ذئباً يعوي قائلاً: (لا يناديني ضيف في المساء دون أن يتناول الطعام). لقد دعوت أنا شخصياً منذ مدة سمو الأمير عبد الله أمير شرق الأردن إلى وليمة بقرب وادي موسى - بتراء، وقد حضر ما يقرب من 500 شخص من الفلاحين للسلام على سموه، ولم أكن أتوقع حضور مثل هذا العدد، ولكن رجالي وكلهم من البدو لم يكونوا مستعدين أن يعرضوا أنفسهم لألسنة الفلاحين الجارحة، ولذلك فإن الطعام الذي طهي كان فضلا عن كفايته لإطعام الخمسمائة شخص فقد قدموا رزاً مسلوقاً وزبدة إلى مطايا الزائرين
حماية الضعيف
وبالإضافة إلى الثلاث الخصال التي تتصف الفروسية بها يوجد طبع آخر في البدو يحمل نفس الطابع الخيالي الذي اتصفت به عاداتهم الثلاث (المجد في الحرب. احترام المرأة. الكرم) التي سبق أن ذكرناها - وهو حماية الضعيف. فعندما يلتجئ غريب أو أرملة أو يتيم إلى بدوي تراه يدافع عنه حتى ليقاتل أقاربه لأجله. فمثلاً حرب البسوس التي وقعت منذ ألف وثلاثمائة سنة عندما أطلق كليب وائل - كبير شيوخ معد - سهماً على ناقة لخالة جساس أخي جليلة زوجة كليب فقد ذهبت تلك العجوز إلى جساس وروت له الحادث، فما تمت رواية قصتها حتى قام ولبس ملابس الحرب وذهب وقتل كليباً. ويقال إن حرباً دامت أربعين سنة بين الفريقين المتحاربين كانت نتيجة لهذا الحادث. وقد وقع مثل هذا الحادث في قبيلة الرولا - إذ طلب شيخ من عجوز من قبيلة الشرارات وهي قبيلة تحتقرها بقية القبائل يتخذ رجالها صناعة النحاس مهنة لهم، فاستجارت العجوز بابن مشهور الشعلان الذي أنجدها حتى أطلق على نفسه في الحرب (أخو ربدة) اسم المرأة التي استجارت به زيادة في تمجيد عمله العظيم. ومن عادات البدوي نجدة من يلتجئ إلى الخيمة. وبهذه المناسبة أود أن أذكر حادثاً وقع معي شخصياً عندما ثار فيصل الدويش مع قبائل مطير
على ابن مسعود فحاربهم وانتصر عليهم وقد أرادوا الالتجاء إلى العراق عندما طاردتهم الجيوش السعودية، ولكن أوامر مشددة صدرت إلي بمنعهم من الالتجاء إلى العراق. وقد تمكنت من إيقافهم في موقع وبقيت في انتظار وصول الجيوش السعودية لسوقهم. وفي ذات يوم بينما أنا في خيمتي إذا برجل - وهو أحد زعماء العجمان - يدخل الخيمة ويصيح: أنا أطلب الحماية - وكان هذا الزعيم من المكروهين والمغضوب عليهم من ابن سعود - لقد كان موقفاً حرجاً ومحيراً إذ أن عادات البدوي تقضي بحماية الرجل، وأوامر حكومتي تقضي بعدم السماح لأحد من المرور إلى العراق. ولكني في النهاية قررت أن أتبع تقاليد البدو فأركبته جملا وأفهمته أن يتوجه إلى قبيلة عراقية ساكنة بالقرب منا. لقد كنت أظن أن هذا الحادث قد انتهى وأن ابن سعود لن يسمع به. ولكن راعني أن قدمت في صباح اليوم التالي أربع سيارات سعودية تحمل وفداً برياسة سكرتير ابن سعود الخاص للاحتجاج على عملي بتهريب الرجل. ولكني بلطف صرفت ذلك الوفد. وبعد فترة عاد الوفد يحمل كتابا شديد اللهجة حول تصرفي - لقد تحرج موقفي إذ أن أوامر حكومتي كانت صريحة ولكني صممت على أن أبقى أمينا على عهدي مع الرجل. لم أجد لي مخرجاً من هذا الأمر إلا بأن أفهمهم الحقيقة. وقد فعلت. طلب ابن سعود من الحكومة العراقية بعدئذ تسليم جميع اللاجئين ولكنه لم يشر بحرف إلى رجلي. إن العرب صلاب أشد الصلابة في المطالبة والمدافعة عن حقوقهم، ولكنك إذا التجأت إلى كرمهم فلن يخيبوا ظنك. وهذه قصة سمعتها من شاب ساكن مع بني صخر في شرق الأردن أصله من البلاد الواقعة قرب الخليج الفارسي - قال: قام الوهابيون وكنت معهم بهجوم على بني صخر فقتلنا منهم وقتل منا خلق كثير. وفي تلك الموقعة أصبت بجراح وأغمي علي حتى لم أفق إلا في صباح اليوم التالي أمام خيام بني صخر. قمت أتحامل على نفسي حتى قربت من بيت شَعر وإذا برجل ما كاد يراني حتى أطلق علي عيارين ناريين - وكان قد فقد أخاه في معركة الأمس - ولكن الغضب والحقد أعمياه فأخطأني. حينئذ أسرعت حتى دخلت الخيمة فما كان منه إلا أن رمى بندقيته وأقبل يغسل جراحي.
ومن عادات البدوي التمسك بالصداقة والاعتراف بالجميل. في يوم من الأيام اقتتل ابن علي وابن رشيد من شيوخ قبيلة شمر فطرد ابن علي ابن رشيد مع أخيه من القبيلة، ترك
الإخوان القبيلة ومعهما جمل واحد قاصدين البلد المعروف اليوم بشرق الأردن وفي طريقهما نزلا ضيفين على الخريشة فأكرم العبيد وفادتهما إذ كان الشيخ غائباً. وفي صباح اليوم التالي تهيآ للسفر فوجد أن جملهما قد نفق. فسارا على الأقدام، وفي الطريق قابلهما بدوي فسألهما عن حالهما فأخبراه بواقعة الحال، فنزل عن جمله وقدمه إليهما قائلاً: أنا الشيخ ولن يضيفني إنسان راكباً ويترك منزلي راجلا. وعندما عاد ابن رشيد إلى الحكم بقيت الخريشة صديقة معززة مكرمة. ومن الصفات التي يفتخر العرب بها الأمانة، وقصتنا هي حادثة السموأل الذي ضحى بولده على أن يسلم الدروع التي ائتمنه عليها امرؤ القيس. منذ سنين قليلة مضت أغار عودة أبو تاية حليف لورانس على عنزة وكانت الغلبة لعودة، وفي أثناء المعركة رمى شخص نفسه على عودة يطلب الأمان، فأمنه، ولكن الرجل طلب علامة يدرأ بها الخطر عن نفسه فأعطاه عودة كوفيته ونزل إلى المعركة حاسر الرأس. ومرت السنون وإذا برجل غريب يقدم نفسه إلى عودة قائلاً: إن لك عندي قطيعا من الماشية. فسأله عودة عن ذلك فقال: إنني الرجل الذي أعطيته كوفيتك في الموقعة الفلانية وقد بعتها واشتريت بها ماشية وتكاثرت وهأنذا أقدمها لك. إن عودة كان قد نسى ذلك الرجل وكان العداء لا يزال على أشده بين القبيلتين
(يتبع)
جميل قبعين
رسالة الشعر
وحي الشاعرية
نفسية
للأستاذ حسن القاياتي
ظمآنُ لو شئتَ وردْ
…
لولاك يا نيل اتقّدْ
برَدُ الحناَ رشفةُ
…
للنيل تستَلُّ الكمدْ
للنيلِ من حيث اغتدىَ
…
قلبي ومن حيث اعتمدْ
كم صفَّدُوه فاصطفَوْا
…
للنيل مُفْتَنَّ الصَّفَدْ
جنَّاتُ علمٍ رَوَّضَتْ
…
في مصر جنَّاتِ الرَّغَدْ
لَهفي لمصرٍ جَنَّةً
…
لَيْسَتْ تُناغَي بالرشَدّ!
البرّ فينا لمحةٌ
…
والغيُّ جياشُ المددْ
غَرّدتُ حتى شفنِي
…
منْ يرْتمي طير الغَردْ
عصرُ المرجَّى شد ما
…
يمشي إليه في الزَّرَدْ
شكواي وَثابُ الهوى
…
في النيلِ خَوَّارُ الجلدْ
تذل التباري يَعْتَلِى
…
بالغيِّ طَمَّاحَ الأمدْ!
غنيتُ بالعلم احْتَفَى
…
والتعتُ للجهل احتشدْ
إن يهذِ غِرٌ بالعُلَى
…
فالهزل رُؤيا من رَقد
بدعان منْ حليِ النُّهى
…
تَفْوِيفُ شعري والْغَيَدْ
نمقتُ جنَّاتِ النَّدَى
…
فاختالَ فيها من جَحَدْ
كم جفّ رفد بذلهُ
…
كاللثم لم يُثقلْ أَحَدْ
إن تَعلُ دُوني رَغوةٌ
…
فالنيل فياضُ الزَّبَدْ
صَليتِ حلو المجتَنَى
…
يا مصرُ حرَّ المُجْتَلَدْ
من لأبن علياء ابتَنَى
…
للوغد مجداً فاقْتَعَدْ؟؟
لم يَحْن فيما يَشْتَهي
…
من رأس أوّابٍ سجدْ
إن لم تَسدْ بي عِزَّةٌ
…
فالدرُ يخزي من زَهد
الندب يخفي حِليةً
…
كالروح يخفيه الجسدْ
عصرُ تَغنَّى فازدهىَ
…
بالجهل أزري إذ خَلَدْ
يَبْنون لَغْواً كم علا
…
كالنعش فاستلَّ الحسَدْ
النبل هَلاَّ يُفتَدىَ
…
والهون أَنَّى يُفْتَقَدْ؟؟
حَسبتُ التحدي يرتقي
…
للسيِّدِ البرِّ السَّنَدْ
ذَمَّ التجنِّي فانثنَى
…
بّرِّ التَّمَنِّي وانفردْ
أَسْوان لو كان اشتفَى
…
حَرَّانُ لو كان ابْتَرَدْ
لم يحلُ ظبيٌ أو مُنىً
…
إلاَّ تَهَاوتْ أو شَرَدْ
الذُّلُّ يغريه الهوَى
…
والعونُ يأباه الصَّيَدْ
الجورُ إِما نَاهِدٌ
…
في الجيش أو صدر نَهَدْ
مَلَّ التشكيِّ سيداً
…
مَلَّ التشكيِّ فاقتَصَدْ
كالحسن لو شاء استَبَى
…
كالعلم لو شاء انتقدْ
سُنَّ التسامي فانبرى
…
وانهلَّ رِفدٌ فابْتعدْ
ليت المزايا طَلقْةُ
…
من وَدَّ فتَّاناً وجَدْ
الحسن من شاَء انْتَقىَ
…
والرأي من شاء اعتقدْ
لو رق حسنُ لم يذُدْ
…
عن كل ظبي بأَسدْ!!
الحرُّ سَلهُ ما ارتأى
…
والغرُّ سَلةُ ما عَبَدْ؟؟
أهلاً بشورَى لا الهوىَ
…
أحييت ولا الشَّغْبُ اتَّعَدْ
الشعْبُ طفلاً قَلما
…
تنهاه شورى عن لَدَدْ
للرأي فانْهَدْ وحدَهُ
…
العزمُ عند المُعْتَقَدْ
لا حُرّ في أرض الفتَى
…
سموه بالفرد الصَّمد!!
حُرُ المساعي سيدُ
…
حُرُّ المنى حُرًُّ البَلَدْ
السكرية - دار القاياتي
حسن القاياتي
قصيدة القاياتي
وقع تحريف مطبعي في أبيات قليلة من قصيدة السيد حسن القاياتي (مصريات) المنشورة في العدد الماضي، نثبت صوابه فيما يأتي:
باسم الولاية كم شيخ مراشفه
…
على يَدَيْ كل (سبَّاك وسبكي)
أعمل حجاك فما أحرى بنيِّره
…
أن يُجْلِسَ الله في العرش الإلهي
ذم القديم فما أصفى بتكرمةٍ
…
سوى عقيد العُلى من كل عاديِّ
في معهد العصر أبناءُ أبوَّتُهم
…
في معهد الدين ألْغَوْا كل عصري
تلك الكؤوس عُقَاراً كيف يجرعها
…
من يرهن النيلَ في الدَّين العقاريّ
الأمر يبرم سِرّيّاً فتلهمه
…
منابتُ الغَيِّ من بادٍ وسرِّيِّ
نجوى القمر
للأستاذ فريد عين شوكة
لَمْلَم الضوء يا قمرْ
…
وامْضِ عن مصر في خفر
قلَّ في مصر من سعى
…
لك في الليل أو سهر!
إنما أنت في القرى
…
باعث الأنس والسمر
تضحك الدور إن بدا
…
نور عينيك وازدهر
وتُجلى بك الحقو
…
لُ ويزهو بها الزهر
وبنو الريف ساهرو
…
ن وما أطيب السهر
تخذوا ضوءك الأبا
…
ريق والكأس والوتر
فانتشوا منك بعدما
…
شربوا الضوء بالنظر
تسكر العين بالجما
…
لِ ويا ويل من سكر
هيه يا باعث الجوى
…
هل عن الريف من خبر؟
هل ترى مجلس الهوى
…
باقياً فيه أم دَثر؟
وحبيبي! أما يزا
…
لُ على العهد؟ أم غدر؟
هدى القلب بعدما
…
لُحْتَ للقلب فاستعر
ضوءُك الساحر الرُّؤُى
…
بين جفنيَّ كالشرر
حرَّك الماضيَ الدفي
…
ن وأغري بيَ الفِكَرْ
يوم كنا ويوم كا
…
نَ بك الريف يزدهر
أمسيات تناثرت
…
والصبا بعدها انتثر
وطغت موجة النوى
…
ودنت ساعة الخطر
فافترقنا وباعدت
…
بيننا ضربة القَدَر
فريد عين شوكة
البريدُ الأدبيّ
النهوض باللغة العربية
اجتمعت اللجنة التي ألفت للنظر في النهوض باللغة العربية بديوان الوزارة برياسة الأستاذ محمد عوض إبراهيم بك الوكيل المساعد وعضوية الأستاذ محمد أحمد جاد المولى بك وعلي الجارم بك ومحمد قاسم بك ومحمد عطية الابراشي أفندي ومحمود عبد اللطيف أفندي والشيخ عبد المجيد الشافعي
وبعد أن أطلعت اللجنة على التقارير التي كتبت في هذا الصدد وتبادلت الأفكار وناقشت المقترحات وافقت على ما يأتي:
أولا - إن الطلبة ليسوا ضعافاً في اللغة العربية إلا بمقدار ما يراد أن يكونوا عليه من تقدم يناسب ما عليه أبناء الأمم الأخرى ذات اللغات الحية، وإن الطلبة قد تقدموا تقدماً ظاهراً في الكتابة والخطابة لا يفضلهم فيه أسلافهم من الطلبة
ثانياً - لتنمية هذا التقدم ومجاراة روح العصر الحديث والنهضة باللغة العربية لتؤدي واجبها في هذا العصر ينبغي أن توجه إليها العناية من الطفولة في أوساط التربية والتعليم المختلفة لتكون لغة النطق والكتابة والتعليم ولهذا نظرات اللجنة في وضع قواعد عامة تتناول مراحل التعليم كلها وفي وضع قواعد خاصة لكل مرحلة من مراحل التعليم الأولي والابتدائي والثانوي. وتجمل اللجنة ذلك في ما يأتي:
القواعد العامة
ترى اللجنة أن نشر اللغة العربية وجعلها لغة التخاطب والتعليم بين الطبقات جميعاً لا يكون حقيقة واقعة إلا إذا تمت الواجبات الآتية:
1 -
محو الأمية بنشر التعليم الأولي بين الأميين الذين يبلغون أكثر من 80 % من أبناء الأمة لأن المشاهد أن التعليم كلما نهض نهضت معه اللغة الصحيحة وأقبل الناس على القراءة والاطلاع وهذا مما يقوم الألسنة
2 -
أن تكون كتب القراءة العربية مما يشوق التلاميذ ويحبب إليهم الاطلاع ومداومة النظر وأن تكون من الكثرة وحسن الاختيار بحيث تغذي التلاميذ وتصرفهم عن غيرها مما يحسن ألا يتناولوه إلا في ظروف خاصة
3 -
أن يكلف المدرسون النطق باللغة الصحيحة سواء في هذا مدرسو اللغة العربية ومدرسو المواد الأخرى التي تدرس بها وأن يحاسب هؤلاء جميعاً على كل تقصير حتى يشب التلاميذ في بيئة مدرسية صالحة تعوضهم مما يفقدونه في البيئات الخارجية
4 -
أن تزداد حصص اللغة العربية في مراحل التعليم
5 -
أن يؤخر تعلم اللغات الأجنبية إلى ما بعد السنة الثانية من التعليم الابتدائي ليكون للأطفال وقت كاف لدراسة اللغة العربية واستعداد لتلقي غيرها معها. وقد أجمع علماء التربية على أن دراسة لغتين في وقت واحد وفي سن مبكرة مما ينتهي بالضعف فيهما جميعاً. ويجب أن يكون بين دراسة لغة وأخرى فترة كافية من الوقت وأن يبدأ الأولاد دراسة لغتهم الوطنية وإجادتها أولاً وقبل كل شيء
6 -
ألا يقبل بالرياض من كانت سنه أقل من خمس سنوات ولا يقبل بالتعليم الابتدائي إلا من كانت سنه ثماني سنوات ليكون الأطفال أقدر على التعليم والانتفاع بالدراسة والاستعداد لها مع صحة أجسادهم ونمو أفكارهم
7 -
أن يعرض ما يقرر من الكتب قبل طبعه على لجان من أساتذة اللغة العربية لإقراره ونفي ما تراه من الألفاظ العامية والأعجمية التي تشوه اللغة وتفسد النطق وتنشر الخطأ
8 -
ومما يدعو إلى مضاعفة العناية ما تشعر به اللجنة من أن مكتبة التلميذ العربية فقيرة أشد الفقر ليس فيها ما يحبب إليه المطالعة والأدب وأنها إذا قيست بمكتبة الأطفال في الأمم الحية لم تكن شيئاً مذكوراً. ومن الواجب المبادرة من الآن بإمداد المكتبات المدرسية حتى تنهض وتقوم بقسطها في الحياة المدرسية
مشروع وزارة المعارف العراقية لتعزيز تعليم العربية
رأت وزارة المعارف العراقية أن تأخذ بمشروع مهم لتعزيز تعليم اللغة العربية في المدارس. ولما كان أساس الموضوع يتصل بالمعلمين فقد اختطت الخطة الآتية:
1 -
ستختار أكابر الأساتذة الاختصاصيين في تعليم اللغة العربية وآدابها للتعليم في دار المعلمين العليا في بغداد، وهؤلاء الأساتذة يستخدمون من خارج العراق
2 -
ستختار أساتذة ضليعين في اللغة وآدابها وتعليمها الدار المعلمين من الخارج أيضاً
3 -
ستستخدم جماعة من الأساتذة القديرين لتعليم العربية وآدابها في المدارس الثانوية
الكاملة في أنحاء القطر العراقي بالاستعانة بأساتذة الأقطار الأخرى
4 -
سيؤسس فرع خاص في دور المعلمين الابتدائية للغة العربية وآدابها يختار لها الطلاب ذوو المواهب الأدبية ويدرسون اللغة وآدابها بمنهج خاص (بجانب دراساتهم مواد دور المعلمين) ويرسم لهم اختصاصات معينة ليصبحوا بعد تخرجهم أساتذة مختصين لتدريس العربية وآدابها.
وبمقتضى هذا المشروع ستحتاج وزارة المعارف العراقية هذه السنة لاستخدام جماعة من أساتذة العربية وآدابها من الأقطار الأخرى ولاسيما مصر حيث يتوفر فيها وجود مثل هؤلاء المدرسين المطلوبين
محاضرة عن مصر القديمة في لندن
ألقى المستر امري العالم الأثري الذي اكتشف ضريح السلالة الفرعونية الأولى في سقارة محاضرة أمام الجمعية الآسيوية في لندن قال فيها: (من المحتمل أن تنقضي أعوام عديدة في الدرس والتحليل والمقارنة قبل أن نصل إلى إدراك نهائي لمعاني الرسوم الهيرغليفية المنقوشة على سبعمائة إناء صغير وجدت في هذا الضريح. فإذا أمكننا قراءتها وإيضاحها أرسلت شعاعاً نيراً مهماً على أحوال السلالة الأولى التي قل ما نعرفه عنها. أما حفر مقبرة سقارة فتم في أقل من عشر سنوات
ثم أشار المحاضر إلى احتمال العثور على اكتشافات أهم من هذه في المكان عينه. وقال: (أكاد أكون على ثقة بأننا سنجد ضريحاً ملكياً كبيراً. ونحن لم نكشف حتى الآن إلا جزءاً صغيراً من تلك المنطقة)
الإمام الاسفرايني وأبو حيان التوحيدي
ذكر في الجزء السابق من (الرسالة) الغراء أبو حامد أحمد ابن طاهر الأسفرايني، وروي له قول في الجدل. وفي الرواية شيء رأيت التنبيه عليه:
راوي المقالة هو أبو نصر عبد الوهاب السبكي صاحب (طبقات الشافعية الكبرى) وقد قال فيها في سيرة الإمام الأسفرايني (قال أبو حيان التوحيدي سمعت أبا حامد يقول الخ) فإن كان السبكي يقصد أبا حيان التوحيدي صاحب المقابسات والصداقة والصديق والإمتاع
والمؤانسة فقد وهم فيما حكى؛ واليقين أن صاحب أبي حيان هو أبو حامد أحمد بن عامر المروروذيّ وقد ذكر السبكي نفسه في طبقاته أن (أبا حيان تفقه على القاضي أبي حامد المروروذي) وفي (بغية الوعاة) للأسيوطي: (قرأ أبو حيان على أبي حامد المروروذي) وقال ابن خلكان في (الوفيات) في سيرة أبي حامد هذا: (قال أبو حيان التوحيدي سمعت أبا حامد المروروذي يقول: ليس ينبغي أن يحمد الإنسان على شرف الأب ولا يذم عليه كما لا يحمد الطويل على طوله ولا يذم القبيح على قبحه) وإنما ورط السبكي في روايته التقاء الكنيتين والاسمين واتحاد المذهبين فكلاهما فقيه شافعي، وكلاهما إمام وهما في عصر واحد وإن سبق أحدهما إلى الدار الأخرى صاحبه، فوفاة المروروذي سنة (362) ووفاة الاسفرايني سنة (406)
وإذا ثبت أن مقالة الجدل للاسفرايني كان أبو حيان التوحيدي غيرَ ذاك الخبيث الشيطان صاحب (مثالب الوزيرين): ابن العميد والصاحب (وقد تلتقي الأسماء في الناس والكنى كثيراً) كما قال الفرزدق
وأقول مادمت في التنبيه والإصلاح: جاء في (قصة الكلمة المترجمة) في الجزء (260): (وقد ذكر ابن القطقطي في كتابه الآداب السلطانية والدول الإسلامية) صوابه ابن الطقطقي، الطاء قبل القاف
(ق)
كتاب جديد عن فلسطين
ظهر كتاب جديد عن فلسطين بعنوان (سرج فارس فقير) لمؤلفه دوجلاس دف وقد نشرته دار هربرت جنكنز
ولعل أهم ما يستوقف الأنظار فيه الاقتراح الذي يقترحه المؤلف لحل مشكلات الأرض المقدسة. فهو يقترح أن يتخلى اليهود عما يملكونه في الشمال من بئر سبع وأن ينتقلوا كتلة واحدة إلى (النجب)، ففي هذه المنطقة أربعة آلاف وخمسمائة ميل مربع من الأرض الصالحة للحرث حتى تسترد خصبها القديم المشهور. واليهود بما عرف عنهم من القدرة على استصلاح الأراضي ونشاطهم في تحويل الغامر عامراً خير من يقوم بهذا العمل
ويشترط في هذا طبعاً أن يكونوا مستعدين لتحمل المشاق والمصاعب التي تعرضوا لها في بدء استعمارهم الحديث لفلسطين وأن يكون العرب الذين يقطنون في منطقة النجب مستعدين أن يغادروها لينزلوا الأراضي التي أصلحها اليهود في الشمال
وعند المؤلف أنه إذا صح هذا كان فاتحة عهد جديد في فلسطين. ومما يتصوره ويتوقعه إنشاء ميناء من الدرجة الأولى في العقبة في حالة نجاح هذا المشروع وشق طرق صالحة للمواصلات تؤدي إلى الأسواق المصرية وإنشاء مطارات كثيرة
ومؤلف الكتاب كان من رجال البوليس بفلسطين ويعرف البلاد وسكانها معرفة دقيقة، ولكن بعده عن فلسطين قطع ما بينه وبين تحول شؤونها في السنوات الأخيرة
على أن ذلك لم يحل دون نقده لليهود وانقسامهم ونقده للعرب وانقسامهم كذلك
وقد كتب السر متاجيو برتون توطئة للكتاب أشار فيها إلى خطة له من شأنها في رأيه أن تحل بعض مشكلات فلسطين، وقاعدة هذه الخطة منح العرب جميع الأراضي التي قررتها لهم لجنة بيل ماعدا يافا والنجب وتحويل الباقي إلى مستعمرة من مستعمرات التاج. ويكون هذا النظام تجربة. فإذا رؤى في سنة 1950 أن في الوسع استئناف الشركة العربية اليهودية فعندئذ تمنح البلاد كلها مقام دمنيون. وإذا تعذر استئناف الشركة بين العرب واليهود وظهر أن تجربة المستعمرة أصابت نجاحاً فعندئذ تمنح البلاد ماعدا الأراضي التي استولى عليها العرب مقام دومنيون وتستبقي بريطانيا حقوقاً دائمة في مرفأ حيفا وأنابيب النفط والمطارات
والكتاب في ماعدا ما تقدم تلذ مطالعته وإن غلبت عليه مسحة التشاؤم، لأن الكاتب وقد رأى بعينه حدة النضال بين فريقي العرب واليهود، قلما تلوح له بارقة أمل في إمكان الصلح بينهما
الكتب
المعجم القضائي
تأليف الأستاذ خليل شيبوب
هذا سفر آخر ينضاف إلى (معجم النبات) للدكتور أحمد عيسى و (معجم العلوم الطبيعية) للدكتور شرف و (معجم الحيوان) للدكتور الفريق أمين المعلوف ليهيئ اللغة العربية إلى مجاراة الحضارة الثقافية لهذا العهد
إن اضطراب شأن المصطلحات في لغتنا أمر معروف. ولو أخذنا نرقب أعمال مجمع اللغة العربية في سبيل تقويمه لنفد الصبر قبل أن تنقع الغلة. فنهوض أفراد من العلماء والأدباء إلى تصنيف المعجمات المختلفة - وإن انطوت هنا وهناك على مغامز - أمر واجب وحقيق بالتنويه
فهذا الجزء الأول من (المعجم القضائي) لصاحبه الأستاذ خليل شيبوب الأديب الإسكندري والشاعر الابتداعي المعروف. وميزة هذا المعجم أنه يترسم المنهج العلمي للمصادر والمراجع القديمة والحديثة التي يقوم عليها، نحو (أحكام القرآن) للجصاص و (رد المحتار) لابن عابدين و (بدائع الصنائع) للكاساني و (تنوير الحوالك) للسيوطي و (كتاب الموافقات) للشاطبي ثم (كتاب الفقه على المذاهب الأربعة) لعبد الرحمن الجزيري و (القانون الدولي العام) لسامي جنينة ومؤلفات أخرى أمثال نجيب الهلالي والسنهوري وعبد السلام ذهني
وقد استعان المؤلف - فوق هذا - بكتب أدبية، نحو (المخصص) لابن سيدة و (صبح الأعشى) و (نهاية الأرب) فأحسن، وهنا فات المؤلف أن يرجع إلى (مقدمة) ابن خلدون و (الأحكام السلطانية) ثم إلى المعجمات المقصورة على الاصطلاحات، مثل (التعريفات) للجرجاني و (الكليات) لأبي البقاء و (كشاف اصطلاحات الفنون) للتهانوي، فضلا عن أنه أهمل تصانيف المستشرقين ولاسيما مباحثهم المنشورة في دائرة المعارف الإسلامية
ومن ينظر في هذا المعجم يطمئن إلى الطريقة التي أجرى عليها لما يلازم الفصول والفقر من البحث المطرد والتقصي والتفصيل. غير أن المؤلف قليلاً ما يثبت المظانّ، فيجهل القارئ آللفظة مما استعمله القدماء أم هي من وضع المحدثين
هذا ومما يحسن التنبيه إليه، على سبيل الإشارة، أن المؤلف - في تضاعيف معجمه -
يقول:
(أ) ص88 - (جيش الاستعمار). والمراد (جيش المستعمرات)(لأن جيش الاستعمار) هو الذي يُجهَّز لفتح البلد المطلوب استعماره. وأما (جيش المستعمرات) فهو الذي يُعبأ من أهل البلاد المستعمرة. والعبارة الفرنسية تنظر إلى المعنى الأخير
(ب) ص231 - (طائفة) والمراد (ملّة) بمعنى جماعة دينية (ودليل ذلك (كتاب الملل والنحل) للشهرستاني و (المجلس المللي) عندنا في مصر. وأما لفظة (طائفة) بهذا المعنى فمستحدثة على ما أظن)
(ج) ص301 - (العرف. العادة) للمبادئ القانونية (المستمدة من التقاليد والعادات) والوجه أن لفظة (العرف) وحدها تفيد المعنى المقصود. وأما لفظة (العادة) فلها مدلول آخر معروف وإن جاور مدلول لفظة (العرف)
وبعد، فالمعجم في جملته نفيس لا سبيل عنه لمن يشتغل بالقضاء والمحاماة واللغة
ب. ف
علم النفس في الحياة
تأليف ماندر
ترجمة الأديب نظمي خليل
طبع بمطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر
يعتبر علم النفس من العلوم الحديثة التي أخذت تهم جمهور الباحثين ولاسيما بعد أن انفصل من الفلسفة وأصبح له طابع العلم الصحيح. فبعد أن كان الباحث يحاول أن يقف على خصائص الروح ومواطن العقل وعلاقته بالجسم وغيرهما من المسائل الدقيقة الفهم، البعيدة المنال، أصبح الآن يفسّر جميع مظاهر سلوك الإنسان ويعالج مشاكله النفسية والاجتماعية بالطرق العلمية المعروفة وهي الملاحظة والتجربة
ولقد تقدم البحث في علم النفس في الخمسين سنة الأخيرة تقدماً كبيراً حتى تغلغل في سائر العلوم الأخرى كالطب والتربية والاقتصاد والقانون، كما نشطت حركة التأليف في علم
النفس الاجتماعي ومحاولة تفسير جميع علاقات الإنسان في ضوء النظريات السيكولوجية الحديثة مما كان له أكبر الأثر في رقي المجتمع وسعادة الأسرة
ومن بين الكتب الحديثة التي عالجت هذا الموضوع، هذا الكتاب الذي عنيت بنشره لجنة (التأليف والترجمة والنشر) والذي ترجمه إلى اللغة العربية الأستاذ نظمي خليل ترجمة صحيحة تتوافر فيها دقة التركيب وجودة اللفظ وسلاسة الأسلوب
أما موضوع الكتاب فقد شرحه الدكتور (عبد العزيز القوصي) في مقدمته إذ قال: يبدأ الكتاب بالتحدث عن الأسس الأولية التي تتكون منها الشخصية ثم طريقة هذا التكوين ثم يعرض إلى وسائل تنمية العادات الطيبة واستئصال العادات الضارة، ويتخلل هذا الكثير من التفسيرات الصحيحة لغرائب السلوك عند الكبار والصغار، فهو يفسر لنا سلوك من نقابل من أخواتنا وأطفالنا وأصدقائنا وتلاميذنا وأزواجنا ورؤسائنا ومرءوسينا كما يفسر لنا الكثير من سلوكنا الخاص، وما يدخل في هذا السلوك من القوى والدوافع شعورية كانت أو لاشعورية، فطرية أو مكتسبة. ولا ريب أن هذا النوع من المعرفة يجعلنا أقدر على التعامل مع غيرنا ويجعل حياتنا أكثر احتمالا، وسعادتنا أقرب منالا)
فنحن نرحب بهذا النوع من التأليف العلمي الذي سيتيح لقراء العربية الوقوف على بعض تلك الموضوعات الشائقة والمسائل الدقيقة
(* * *)