الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 265
- بتاريخ: 01 - 08 - 1938
يا لله لفلسطين!
يا لله لفلسطين مشرق الهدى والسلام، ومهبط الوحي والإِلهام، ومجتَلى عين موسى، ومسرح قلب عيسى، ومسرى روح محمد، وقدس الأديان الثلاثة، وقبلة الإِسلام الأولى، ومهد الأنبياء، ومقبرة الرسل، ومعبد الشرق والغرب، ومجرى العسل واللبن!!
يا لله لفلسطين! ماذا فعلت بها الأحداث وجرَّت عليها المطامع؟ أبعد أن رفع الإسلام عنها آصار العبودية وأوزار اليهودية تعود بها المقادير السود إلى استعمار (طيطوس) القاهر، واستثمار (يهوذا) الجشع، فيعود إليها الفساد والفوضى والقهر والفقر والموت؟!
أبعد أن استخلصها للعروبة (عمرو الداهية) من (أرطبون)، وسجل استقلالها العالمي (صلاح الدين) على ناصية (جودفروا) يستبيح ذمارها طرائد البشرية وفي صدورهم تِراث الأمم وحزازات القرون، فينزلونها نزول الوباء، ويحلونها حلول الفتنة، ويمتصونها امتصاص العلق؟!
لقد قال المسيح لذلك اليهودي الذي منعه ظل جداره وهو مجهود، وقرى داره وهو جائع:
(ستظل تائهاً في الأرض حتى أعود. . .)
فهل عاد المسيح في ثوب (بلفور) أم كذبت نبوءة (السيد)؟ إن لعنة الله ودعوة المسيح لا تزالان تحرقان قدمي إسرائيل، فهو لا يثبت له قدم في أرض، ولا تطمئن له نفس في وطن؛ وكان من أثر ضلاله البعيد في الآفاق أن اكتسب خلائق النَّوَر: فهو يلصُّ ليعيش، ويخدع ليغلب، ويستوحش ليأمن، ويتعصب ليدافع، حتى انقطعت بينه وبين الناس وشائج النوع، فأصبح خَلْقاً آخر لا يألف ولا يؤلف. فمحاولة إسكانه مع غير أهله وفي غير أرضه تكذيب لكلمة الله وتزوير على قانون الطبيعة!
ليس بصددي اليوم أن أفند هذه السياسة المريضة فحسبها منطق الحوادث وأدلة الواقع؛ إنما أريد بهذه الكلمة أن أصور فلسطين العربية بين بحر يرشُّها باليهود والحرب، وقفر يحصبُها بالمرض والجدب، وأخواتها في العروبة وفي الإسلام مطمئنات على ضفاف الأنهر النضاحة بالنعيم، وعلى رياض السهول الفواحة بالنعمة، ينظرن إليها نظر الغرير الأبله وهي تمشي في النار، وتخوض في الدم، وتطلب القوت فلا تجده، وتنشد الأمن فلا تناله. أريد أن أصور حال هؤلاء الكماة الأُباة الذين يغاديهم الفزع، ويراوحهم الموت، وهم يدافعون عن حقهم في الحياة، وينافحون عن مرقدهم من الأرض، ويقولون للواغل الثقيل
وللحامي الدخيل: إنها موتة لا مناص منها. ولأَنْ تُنثر أشلاؤنا على أديم الوطن، وتقبر أجسادنا في ثرى الأجداد، أحب إلينا من أن نعيش عيش اليهود شرداء في كل طريق، طرداء في كل بلد!
لقد شن يهود الأرض على عرب فلسطين الحربَ في صراحة ووقاحة؛ وأعلنوا الجهاد الديني والقومي بالتطوع والتبرع، وسلحوا ذؤبانهم بالمنايا والمنى، ودفعوهم في وجه الحق والعدل والشرف ومن ورائهم مصارف اليهود تمدهم بالذهب، ومصانع الإنكليز تمدهم بالحديد؛ فانطلقوا يخرِّبون المدن، ويحرِّقون الحقول، ويقطعون السبل، ويحصرون المؤمنين الآمنين في أجواف الدور، وفي شعاف الجبال، لا يجدون منصرَفاً إلى الزرع، ولا سبيلاً إلى القوت. وقد شغلهم الدفاع المقدس عن الحمى والنفس عمن وراءهم من الشيوخ والأطفال والنسوة، فتركوهم يتضاغون من الجوع، ويرتعدون من الخوف، ويكابدون رُحاء الهموم على وطن يستبيحه الغريب، وشعب يتخطفه الموت، وحق يتحيفه الباطل، ومستقبل يتكنفه الظلام، وحال من البؤس تقطع الرجاء وتوهي الجَلَد لولا إيمان المسلم وبسالة العربي واستماتة المظلوم
فلسطين العربية كلها اليوم بين منفى يلوذ بكنف الأعداء، وضعيف يتباهى بالدعاء والبكاء، ومدافع يقتات بالعشب ويعتصم بالصحراء؛ وليس للمنفى شفيع إلا الأمل، ولا للضعيف عائل إلا الصبر، ولا للمدافع منجد إلا الأيمان.
أما إخوان النسب وإخوان العقيدة فكأنهم لا يملكون لمأساة فلسطين الدامية إلا عزاء المجامل، ورثاء الشاعر، ودعاء العاجز، وبكاء المرأة.
أيها المسلمون! إذا ذهبت عصبية الجنس فهل تذهب نخوة الرجولة؟ وإذا ضعفت حمية الدين فهل تضعف مروءة الإنسان؟ إنا لا نقول لكم تطوعوا، ولكننا نقول تبرعوا. وليس في التبرع للجريح بالدواء، وللجائع بالغذاء، نقض لمعاهدة ولا غدر بصداقة. وأقل ما يجب للقريب على القريب، وللجار على الجار، يدٌ تواسي في الشدة، وقلب يخفق في المصيبة، ولسان يحتج في المظلمة. فهل يزكو بعربيتكم والجود غريزة في كيانها، وبإسلاميتكم والمواساة ركن من أركانها، أن تقفوا في فلسطين موقف الخلي المتفرج، يسمع الأنين فلا يعوج، ويبصر الدمع فلا يكترث!
إن فلسطين تقاتل للحياة لا للمجد، وتناضل عن القوت لا عن العزة؛ وخليق بمن يدفع عن نفسه أن يُعان، وبمن يذود عن رزقه أن يُعذر
إن فلسطين من البلاد العربية بمكان القلب، ومن الأمم الإسلامية بموضع الإحساس؛ وسيعلم الغافلون أن محنتها سبيل المسلمين إلى التعاطف، وصرختها نداء العرب إلى الوحدة. . .
أحمد حسن الزيات
-
سخرية الأقدار
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كنت في يوم من الأيام جالساً إلى مكتبي أترقب أن يحمل إلي ساعي البريد (حوالة) مالية. وكنت عاكفاً على الكتابة ولكني كنت أحصى الأبواب والوجوه التي أنفق فيها المبلغ المرقوب. وللذهن قدرة على الاشتغال بأكثر من موضوع واحد في لحظة واحدة. فبينما كنت أجري القلم بوصف ما تعاني فلسطين، وأعرب عما جاشت به نفسي من العواطف من جراء هذه القنابل التي تلقى على باب المسجد الأقصى وفي الأسواق العامرة الغاصة، فتقتل النساء والأطفال والرجال، وتطير أشلاء الإنسان والحيوان وتخلطها بالخضر والفاكهة، واللحم والسمن والعسل، والأنقاض التي تهاوت، والقُفَف التي تبعثر ما فيها؛ وأقول إني أعرف حكومة فلسطين نسفت بيوتاً عدة للعرب، وفرضت غرامات متفاوتة على قراهم الفقيرة، ولا أعرفها هدمت بيت يهودي واحد، أو غرمَّت حياً من أحيائهم أو مستعمرة من مستعمراتهم - أقول بينما كان القلم يسحُّ بهذا كنت أتخيل الثياب الجديدة التي سأشتريها، والأثاث الحديث الذي أحب أن يحل محل القديم في بيتي، والسيارة الجديدة التي سأستبدلها بسيارتي وإن كان عمرها عاماً، وأسأل نفسي هل أستشير المرأة الصالحة التي لا تعترض لي طريقاً، ولا تأخذ عليَّ مُتوَجَّهاً، ولا تنكر من فعلي أو قولي شيئاً، ولا أراها في أي حال إلا راضية، ولا أعرف أن غيرها في هذه الدنيا يمكن أن يطيقني ويحتمل عبثي وسخافاتي وحماقاتي؟
في هذا كله أيضاً كان تفكيري. وكنت أتصور الألوان والثيات والأشكال، وأحاور نفسي وأجادلها، وأتلقى الاعتراضات وأردها، والقلم مع ذلك لا يتوقف ولا يكف عن المضي، وجاءني الخادم بإيصال رسالة بريدية مسجلة لأوقعها، فاستبشرت وقلت:(الحمد لله جاءنا الخير المرتقب. . . خذ يا شاطر فتح الله عليك، ولك. . . (ومددت له يدي بالإيصال) وأسرع. . . عجل، ولك الحلاوة)
وخرج الخادم، وهو يبتسم، وراح هو أيضاً ولا شك يتخيل ما سينعم به في يومه السعيد (بعد أن أعطيته الحلاوة) الموعودة. ومضيت أنا في الكتابة، مغتبطاً، وإن كان القلم يقطر بالنقمة على رؤوس المستعمرين، ورأيتني أدندن، وأنا أجري القلم، ولم لا؟ ألست مسروراً
منشرح الصدر، ولا نكران أني كنت ساخطاً ناقماً، ومغيظاً محنقاً، وثائراً فائراً، ولكن هذا جانب، وذاك جانب، فأنا - في الجانب المشرق الوضاء من نفسي - أشعر بالاغتباط والمرح، فأدندن، ولكن هناك جانباً آخر حالك السواد لا يضيئه إلا ما يتهاوى فيه من صواعق الغضب، والجانبان لا يختلطان، ولا يتداخلان، ولا يعدو واحد منهما على صاحبه؛ فالسواد هنا لا يعصف بالبشر المتألق، والسرور هناك لا يمتد نوره إلى الظلمة الطاخية. . .
وعاد الغلام الخفيف الحالم بالحلاوة، ودفع إلي الرسالة المسجلة فنظرت إليها وأنا أتناولها منه، وعرفت ممن جاءتني قبل أن أفض غلافها. ولم يكن هذا لأني ذكي ألمعي أرى بأول الظن آخر الأمر من وراء الغيب، بل لأن الاسم مطبوع على الظرف
وابتسمت وأنا آخذ الرسالة، وأضعها على المكتب كما هي، وأنقدت الغلام المسكين قرشين، وأكببت على الورق أكتب. . وماذا عسى أن أصنع غير ذلك؟ لم تجئ الحوالة المالية المرتقبة، ولا ضير من هذا، ما كانت بي حاجة ملحة إليها، وهي خير إذا جاء فأنعم به وأكرم، وإذا لم يجئ فلا بأس، وستجيء على كل حال غداً إذا لم تجئ اليوم أو بعد شهر أو أكثر، ولو اقتصر الأمر على حرمان ما نعمت نصف ساعة بتخيله لهان، ولكن المضحك. . . نعم المضحك. . . أن يجيئني بالبريد المسجل في هذه اللحظة على الخصوص إنذار من محام بتنفيذ حكم صدر خطأ في غيابي، وعندي المستندات التي تثبت أني أبرأت ذمتي، ولكني لسوء حظي مهمل وشديد النسيان، فلست أذكر أين وضعت هذه الأوراق، وقد كلفني هذا النسيان ما لا يعلمه إلا الله، وبدا لي - لسذاجتي - أن من السهل أن أقنع الخصم بمراجعة أوراقه وحسابه ليتبين أني أديت إليه حقه. وخطر لي أن هذا أسهل من عثوري أنا على مستنداتي التي لا أدري ماذا صنع بها الإهمال، وكان الخصم يضحك مني ويقول للحاضرين (اسمعوا. . . هذا جديد. . . يريد مني أن أقدم أنا له ما يثبت براءة ذمته!! فلماذا لا يعد هو مستنداته؟) فأقول له محتجاً (يا أخي إن المسألة ليست مسألة خصومة وعناد، وإنما هي مسألة ذمة وحق، وعندك دفاتر مسجلة تقيد فيها مالك وما عليك وأوراقي لا أدري أين هي، والبحث عنها يضيع وقتي، ويطير عقلي، ولا صبر لي على هذا على كل حال؛ ولأهون على أن أؤدي إليك المال مرة أخرى من أن أنفق عمري وأطير صوابي
في البحث عن هذه الأوراق، فلماذا لا تؤثر العدل والحق فتعاونني؟ إنك ناس، والموكل بهذا الحساب قد ترك عمله عندك، والمراجعة لا تجشمك عناء، فمر واحداً من عمالك أن يقوم بها)
وقد ضاعت سنتان من عمري وعمره في هذه المراجعة التي لم تخل من بعض الفائدة، فقد اهتدينا إلى مبالغ ثبت أني أديتها فتزعزعت ثقته بعامله الذي أكد له أني ما زلت مديناً، ولكن دفاتره كانت على حال من الفوضى كالتي عليها أوراقي في بيتي. ويظهر أنه سئم أو تبلد فلم يعد وخز الضمير يؤلمه أو يزعجه، فقال أنفذ الحكم عليه بما لم نجد دليلاً على أدائه وأريح نفسي، وعليه هو - لا علي أنا - أن يبرئ نفسه بإبراز ما عنده!
وهكذا تلقيت إنذاره
وأتممت المقال ثم فضضت الظرف وقرأت ما في الكتاب وضحكت. لقد كنت أنتظر فرجاً أوسع به على نفسي، فإذا بي أطالب بأداء دين مرة ثانية!؟ فماذا أصنع؟ قلت لنفسي - وكان اليوم الخميس - هذا موقف ممتع. وخير ما أصنع هو أن أركب سيارتي وأستصحب بعض الرفاق، ونمضي جميعاً إلى الإسكندرية فنقضي على ساحل البحر أياماً وليالي ننسى فيها سخرية الأقدار وتهكم الأيام. . .
وقد كان. قمنا إلى الإسكندرية قبل الغروب بساعة، فلقينا في رحلتنا ما هو أعجب وأغرب مما سأقصه على القراء في المقال التالي
إبراهيم عبد القادر المازني
صحيفة وصف وأخلاق
النادي
للأستاذ حسن القاياتي
بكَّرتُ إلى ضاحية نضرة موْنقة ألفت أن أزور نادياً فيها يتألفني بشفوف حسنه الصامت، ويقر بعيني أن أبادله أنفاسي الحرار ببرد نسيمه الذي يأذن له فيتلعب بغلائل زائراته من الغانيات بأرفق من تلعب العيون بالقلوب، ويطيب لي أن أشهد سكونه المعجب لا يحس فيه غير نبض الجوانح بالحب، أو سُرى العيون بنظرة مدلهة
كم خلوت في هذا النادي بنجوى الأمانيَّ الحسان كأنما أتناولها من رقعته النضرة الغضة، وللأمانيَّ في الجو الطلق رفيف كرفيف نسمته يندَى على الكبد
أمانيُّ من ليلى حسان كأنما
…
سقتنا بها ليلى على ظمأ بَرْدا
مُنىً إن تكن حقاً تكن أحسن المُنَى
…
وإلا فقد عشنا بها زمناً رغداً
المتنزه أو النادي جنة معطار بالنسيم، يتيامن قليلا عن الطريق الشارع حيث المدينة، ويتياسر شيئاً عن المزرعة حيث الريف، فهو بينهما قائم يشرف على رقعة نضرة، كأنه الحد بين مصنوع الحسن ومطبوعه، وتلك من أكبر ما يغريني به فقد طبعت علىَّ خلال من حب الوحدة إلى غاية من التبرُّم
أما النادي في صورته فبناء مؤلف من طبقتيه السفلى والعليا، بيد أن عليا الطبقتين خلاء من كل ناحية، سقف على عمد، هل رأيت مظلة في يد؟
تشافهه ذكاء شارقة غاربة، فتطالعه في مشرقها بوجه وضاح متهلل يعيره في المشتى أنفاساً حِرارا كأنفاس الصبابة، وصفرة في أصائل المصيف كصفرة المحب، فاترة اللمح والحرارة، فناهيك من مصيف ومشتى
الخضرة حول المتنزه سائدة، ربما أربق عليها عسجد الشمس فهي بساط رائع، كأنما التقت عليه الخضرة والصفرة في سدى ولحُمة، تؤلف نقوشه من زهرات ترفات لم أر أملح من الفراش يتنقل عليهن تنقل النظر في خدود الأوانس المتوردات
وقد استدارت حوله شجرات قديمات قامت هنالك عطلاً من الثمر والنَّور، كأنها نصفات من الغيد ودعن عهد الشبيبة والذل، فهن سليبات من الحلي وإن كن لا يعدمن مسحة من
الحسن. على أن تلك الشجرات ربما أجنت عصفورا لبِقا بالصفير يخرج رأسه في الفينات من حفافي ورق نضر كما تطل مغنية من شباك فيضرب الفتن مرات بجانبي منقاره كما تمسح القلم مرات يمنة ويسرة، أو كما يصلح المغني عوده، ثم يتكلم العصفور بصوت ساحر
وقد يشرف الجالس فيه على ضروب من الغراس حديثة العهد بماء ضحضاح إذا تمايلت فيه وصفها مترجحة كالراقصات أمام المرآة، ذلك حسن منثور فيه، أينما تلفت رأيته كالمحيا الفاتن تجيل طرفك فيه بين فنون من الروعة، فتنقله من خد إلى جيد، ومن طرف إلى خد
تلك حلية النادي في يومه الساحر الوضاح، أما هو في ليله فذلك الحسن كله والسحر، يقبل عليه الليل بقطعاته الجهمات فتتشابه سماؤه وأرضه: السماء روض زهراته الكواكب، والروض سماء كواكبه الزهرات، وتأخذ لألأة الكواكب بالبصر حتى يحسبها الناظر شقوقاً في ثوب الليل، فيرده عن وهمه أن ثوب الليل تشيب، وأنه بعد في مقتبل. أما القمر في ليالي القمر، فأن له على تلك الساحة طغياناً ساحراً كما تدفق النهر في الحديقة؛ وطالما رف بلبل في جوه فرجع ترجيعات مليحات آنقت الأسماع حتى ما يمارى أحد في أن تغريد الطيور من ألحان الطبيعة، وإن كان لا يحسن أن يقول: من أية نغمة هو، وإن تعرَّف حسنه بما أودعه النفس من حرارة الشغف
إن الناظر ليجيل طرفه فيرى على مدى بصره القطار الأبيض في جيئته وذهوبه يتدفع بين تلك الأنحاء السندسية، فيحسبه قناة ماء مسجور يتدفق بين الرياض، ويخيل إليه أن زمجرته هدير القناة، أو يحسبه وهو يمرق ليلاً في غشاء من ضوئه نيزكاً سابحاً يجرر ذيلاً من النور
أجل؛ إن الحياة المريرة النكداء أبخل من أن تخليَ منظراً طريفاً كمنظر هذا النادي من منظر قاس مرٍّ يشق على النفس والبصر. هذه مقبرة قديمة جثمت على قيد خطوات من النادي البديع إذا تلفت الجالس تعثر بها طرفه وشجته كما يشرق الشارب بالماء العذب، هذه المأساة بذلك الجذل سنة الحياة
ألفت غشيان هذا النادي في الأصايل وليلات القمر أسراب من غانيات الأسر فيهن
المصرية والغربية، تغرب الشمس فيشرقن فيه يتفرجن من يوميات البيت الجاهدة، ويستسلمن إلى سمر حار ممتع يرسل نفوسهن على السجية؛ وتارة هو ملتقى صفيين يخلوان إلى نجوى الشوق في غفلة من الوشاة
إن الوجوه لتتقابل هناك متعارفة مؤتلفة لكثرة ما تلتقي لديه، حتى لقد ترعى بين زائريه حدود الآداب فيعرف أحدهم لجليسه كرسيه ومجلسه، وكأنما أجد لهم طول الإِلف ضرباً من التفاهم يلفهم فيه أسرة واحدة يرمون المحدث فيهم بالنظر الشزر. أنا جالس في ندينا الساعة حيث أكتب هذا، والدولة لليل، وقد نبض سلك الثريات بالنور فأضاءت، وحوالي خفرات من الأوانس محجبات وسوافر يبسمن لذويهن فيذبن الأسى، تحلل الظلمة تحت الثريات، ويفاوحن الروض بعرف زكي كأنما يرود لهن القلوب، والعَرف من بَريد الحب
شدَّ ما يسترسل الأوانس هناك في تبذلٍ ومجانة يتجاوزن بهما حد الرشاقة والدل إلى الخلاعة، كأنهن حين شهدن تبرج الطبيعة تشهَّين أن يسايرن حسنها السافر فساقطن عن حر الوجوه براقع شفافة كأنها أغشية البلور، وأخذن في مرح بحت يعملن فيه الرشاقة والدل
تلك التي انتبذت ناحية طفلة ناهدُ في سنِّ البدر وحسنه، أحسبها تفلتت الساعة من المدرسة لما يلوح عليها من غرة بالتلفف
جلست الفتاة تتنظر خديناً لها فهي تتلفت متململة تلفُّت الطائر على الغدير، حتى أقبل طلقاً وضاح الأسارير فسلم ثم عدل بها إلى مكان يجور عن مساقط النور ومواقع النظرات، ألف العشاق أن ينزلوه، يسرهم أن يجمعوا بين كحل ظلمته وبين العيون فما ينيره غير جبين وضاح
جلسا معاً هناك، وجه إلى وجه، وساق على ساق، في أمن من سرى الأبصار والظنون:
أقول وجنح الدجى مُلْبِدُ
…
ولليل في كل فج يدُ!!
ونحن ضجيعان في مِجْسَدٍ
…
فلَّله ما ضمن المجسَدُ!
أيا ليلة الوصل لا تنفدي
…
كما ليلة الهجر لا تنفدُ
ويا غَدُ إن كنت بي راحماً
…
فلا تدْن من ليلتي يا غدُ
يتناجيان حينا بحرِّ الصبابة فيضرِّج الحياء خدها الرقيق:
راض بحكمك فاعدلي أو جوري
…
ولك المكانة فاهجري أو زوري
ناجيت فاتنتي فأشرق خدُّها
…
بالحسن وقْعَ النور في البلور!
وربما سكتا عن حديث البشاشة فتكلمت العيون!
متحابان غاب عن يومهما العَذَل فدعهما حيث شاء لهما الحب ونجواه
وتلك عقيلة نَصَف على أنها مستتمة الملاحة لبقة بالغزل والتصبي، ذات وليد مرضع تحمله وصيفة زنجية متلففة. أقبلت العقيلة تمشي إلى رجل رزين الجلسة هو قرينها فيما يخيل إلى ناظره، أفنى هزيعاً من الليل في توقعها، فالآن حيث أقبلت تخطر حتى جلست إليه في غير تحية ولا كلفة. وإني لأشهدها الساعة تتململ حائرة النفس، وتتخبط برجلها تخبط الظبي في حبالته لترى الجلوس ساقها الضخمة الملتفة كأنها لفائف البللور، وتسارق جاراً لهم النظرات تنتحل لها العلات حذراً من يتقظ الريبة في نفس القرين، وتكثر أن تكشف جيب الثوب عن ناهد رخص مستدير تعلل به الوليد، وجل ما تعتمده أن ترى النظارة وبخاصة ذلك الجار أنها تحمل غض الرمان:
بنفسي من لو مرّ برْدُ بنانهِ
…
على كبدي كانت شفاء أنامله
ومن هابني في كلّ أمر وِهبته
…
فلا هو يعطيني ولا أنا سائله
وهذه فتاة أخرى تتردد بين الصبيحة والدميمة، على نصيب من رشاقة الدل واللباقة، ولكنها طياشة لا يحتويها مكان، تغرق في هذر وضحكات خليعة تستثير بهما هوى الجالسين كما يطارد الصائد الظبي إلى الحبالة فإذا هو أخيذ:
فرقت إني رجلٌ فروق
…
من ضحكة آخرها شهيق
تجربات عدة صادقة أفدت منها أن العفاف لون من ألوان المرأة لا جوهر، وأن المرأة لا يسلم لها شرفها الرفيع كائنة من كانت إلا محرزة مكنونة، أو يراق على جوانبه الدم، وإنها إذا استشرفت للريبة استبيحت فلم تعتصم
ذلك رأيي في المرأة جد سديد، وإلا فما هذه النظرات الخائنة التي تخترق الصدور إلى الأفئدة؟ والتفلت من كل عقد اجتماعي أدبي؟
إن المرأة لتحسب أن من وحي الفطرة الزهادة في الأليف الفرد، وذهاب الحسن طلقاً مع الهوى كأنما تخشى عطلة الغزل، وتنفس بالحسن على التملك فيما يقول الإعرابي الغر
يقولون: تزويج وأشهد إنما
…
هو البيع إلا أنَّ من شاء يكذب
وكأنما تقول:
إن المرأة مخلوقة من جو هذا الكون ونسيمه، فأخلق بها أن تروح في حرية ذلك الجو الطَّلق
يعز علي أن يكون رأيي في المرأة هذا الحكم الجافي، ولو آثرت العاطفة دون العدل لم يكن أحد آثر من المرأة بالترفق
إن اليد التي تصرف القلم بالعاطفة لا تحسن إلا حمل الدف أو العود
هذا كله وأكثر منه في طبقة النادي العليا، أما طبقته السفلى فأن لها شأنا غير تلك نصفه على أنه أعف وأنزه. هذا قس رزين مثر من القساوسة خلفاء المسيح صلوات الله عليه، يحمله إلى النادي مركب سريٌّ، وله ضيعة فخمة، كلٌّ ما يلوح عليه من سمات الدين لحيته وطيلسانه، ومسبحة يديرها آونة، لا يكاد يساجل جليسه إلا حديث الضيعة وقصر يبتنيه؛ ولكنه غر كريم بكل ما يشهده حوله من هذه الحياة الماجنة، يصف الهداية كما تصفك المرآة وكأنه في هذا النادي المستهتر بقية الهدى في فؤاد المفتون!
حبيب إلى نفوسنا أن يتنزل رجال الدين من علياء مجدهم وتدينهم إلى حيث الطبقة المتحضرة اغتباطاً بدنوِّ الدين المصلح الرشيد من المدنية الفاتنة المسترسلة، وأنى يكون ذلك؟
تريدين كيما تجمعيني ومالكاً
…
وهل يجمع السيفان ويحك في غمد؟؟
وذلك رومي يجلس على مقربة مني لا ينفك فمه يختلج بهمس تتحرك له شفتاه كأنه ممرور أو موسوس، وكأنما يعد شيئاً يعقد له أنامله. وماذا عسى يعد هذا المنكود إلا أيام عشيق هاجر كأنه يتبرم بالحب؟ وهل لأحد على حبه خيار؟ ذلك طماح شديد
دعي عد الذنوب إذا التقينا
…
تعالي لا أعُدُّ ولا تعدَّي
أما تلك الفتاة اللعوب الشرهة النظرات التي تتصدر في حفل لها فيه عشيق، فقد ألبس علينا أمرها، أمستباحة هي أم حَصان مخبأة؟ فإنا لفي هدأة من ليل ساج يكاد أحدنا يحبس فيه نبضه خشية أن يقطع سكونه، ويترفق بالنفس خيفة أن يضرمه بحرقته، إذ خلصت إلينا مع النسيم نغمة فاتنة ساحرة، يحملها حمل النفحة مجهولة المهب، على أنها حلوة الخطرة
تمسك الحشاشة:
يا ساقيَّ أخمر في كؤوسكما
…
أم في كؤوسكما هم وتسهيد؟
أصخر أنا؟ مالي لا تحركني
…
هذي المدام ولا تلك الأغاريد؟
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبُهُ
…
أني بما أنا باكٍ منه محسود
واطربا لك أيها الشادي! وحر قلبي عليك! لقد أحسنت وأربيت. من أنت جعلت فداك؟ ومن أية النواحي مَسرَى الموت؟
تلفتت العيون بعد أن تلفتت القلوب تطلب مغدي الصوت فإذا فتاتنا اللعوب هي التي ترسله حاراً كزفرة المحب، وإذا هي مطربة نابهة من المعروفات كأنما تناست مجلسها من الحفل وخيل إليها المرح أنها جالسة بين زملائها على (التخت) فانفرجت شفتاها بتلك الأغنية ثم بدا لها أن تقني الحياء فأمسكت ولم تبرح إلا مكرمة مفداة
بينما نصغي بأسماعنا إلى غناء الآنسة الأخاذ دخل إلى النادي رجل عسكري عظيم في (رتبة اللواء) ألف طروقه يتحدث فيه إلى أستاذ مدرس من المعممين فيزأران بالحديث حتى يستحيل النادي بصوتهما كلية للفنون أو معئرك حرب، يزخر مرة بالبحث والتحليل، ويفهق أخرى بالصليل
يلقى المنية في أمثال عدتها
…
كالسيل يقذف جلموداً بجلمود!
ولعهدي لهذا الصوت الصاخب ينشد شعراً مرة، فليت شعري من راض ذلك الطبع العصيَّ على رقة الأدب، وتناشد الأشعار؟ أجل، إن الراضة يأخذون الليث الهصور بالرياضة والتأنيس حتى يصبح أنيساً طيعاً. هذا كلب صاحب الناديقد شهدت من يلقي له قطعات السكر فيأكلها التهاماً، فلما سمعت الشعر يمتضغه العسكري العظيم، قلت: ما أشبه الشعر في فم الرجل الجاف الخشن بالسكر في فم الكلب الشره! وإن من الشعر لحكمة:
وهذا الرومي صاحب النادي يأبى كل الأباء أن يعد النرد للاعبين في الطبقة العليا من ناديه إغلاء بهدوء الزائرين، أفلا تكون للضابط العظيم شمائل ذلك الرومي الجافي فيعفينا بل يعفي زائراته الرقيقات من الصخب، كما أعفانا صاحبه من (النرد) بل ليت لنا من يقول له: رفقاً أيها الأسد بالظبيات أو القوارير
ليس فيما يقطع السكوت في الخلوات أشهى إلى المستريض المبعد مسه السغب من نداء
الباعة على الطعام الشهي اللذّ، والطعام كله على تلك الحالة لذ شهي، بل هو أهنأ الطعام وأمرؤه، وإن فيمن يضمه نادينا الحفيل رجالاً لهم شارة تشهد بغضارة ونعمة. ذلك السيد السري المتصدر واحد منهم، لا تبرح تحت طاعته سيارة وسائق فاره، وهو إذا عاد إلى مثواه عائد لا محالة إلى قصر مشيد وخدم، وبَدِيه إن له طاهياً محسناً لا يصنع طعامه المعجب فحسب، بل يصنع معه الشهية لآكله. وها هو بحيث أراه مكب على قطعتي جبن وخبز ينحى عليهما بأنيابه إنحاء الجائع المقرور!
لقد سوت المسغبة ونزوح ساعة عن المدينة بين السيد الشريف والبائس الذي يتبلغ بالخبز القفار. وتلك حسنة للخلوات تقرّب بين الطبقات بالتسوية فتتركهم سواسية كما هم في رأي الفطرة، سيان الشريف والدون. معدلة من الطبيعة ونصفة؛ على حين تقضي سنة المجتمع ونظمه بتفرقة جارمة
مخلسنا في النادي تحت كرمة عنب فينانة تظل ناحية منه، وتتدلى علينا بأوعية المدام أو العناقيد كأنها ثريات النور
تحملي أوعية المدام كأنما
…
يحملنها بأكارع النغران
أذكرتني الكرمة بالراح، وإن كنت لا أشربها والحمد لله الذي يحمد على المحبوب والمكروه، كما تذكر النتيجة بالمقدمات، فذكرت كذلك أن النادي معطش منها، تعطل فيه الأكواب، وأن صاحبه الخبيث يتحرق لهفة لأنه استجدى الأذن ممن يملكه بأن يديرها فيه فلم ينعم له بحمد الله. وخيل إلي أنني تعرفت من وقوع الطير على العناقيد ونقره حبات العنب، لأية علة كانت عربدة العصافير والتغريد. ولو أتيح للخمار الداهية أن تحتث عنده كؤوس الشراب لروعنا بعربدة العيون الساحرة النشوى، فصرنا إلى ناد طروب تعربد سماؤه وأرضه وتُغرد طيوره وغيده!
لا تسقنيه فأني أيها الساقي
…
أخاف يوم التفاف الساق بالساق
إن الشراب تهيج الشر نشوتُه
…
فميز الشر منه واسقني الباقي
فضيت من الرياضة كل حاجة، وتزودت لرئتيَّ من النسيم العليل، فتشهيت العودة وأخذت سمتي إلى بيتنا الصغير، فإني لجالس فيه صبيحة تلك الليلة جلسة المتعب المكدود أتمثل ما مر بي بالأمس، إذ دخل علينا آنستان فاتنتان كأنهما صورة الحسن، فلما سمعتهما تسألان
عني قلت: لبيكما، أنا ذاك. فأقبلتا فجلستا في تخفر واستحياء متصنعين؛ بيد أنهما تخبآن السحر في العيون ثم تحدثتا إلي بأنهما أقبلتا من مدرسة فلان في طلب المسعدة ليتامى قسمها المجاني ويتيماته - فيما زعمتا - ودفعتا إلي بصحيفة أعدتاها للمتبرعين يثبتون فيها الأعطيات، ثم التوقيعات، فتسمحت نفسي بقليل نذر يتذمم الجواد المفضل منه، ثم وقعت في الصحيفة (صانع خير!) ومن يبخل عند الأوانس؟ فانصرفتا في امتنان وحمد. ويمين لا عاهر ولا حانث، ما أعرف أصانع خير أنا أم صانع شر؟ ولكني أعرف أن هذه أساليب هذا العصر، أو هذا البلد، وطرازه الطريف في الاستجداء الكاذب المخزي لمعونة العلم والبر، وأين العلم والبر؟
في الناس من يقتني نفعاً بمُندِيةٍ
…
كما جرت قبلة (في سوق إحسان)
وا حر قلباه! حتى البيوت فيها أوانس المجتمعات العابثات؟
لمحة دالة من صفة نادينا الذي يتألفنا بجماله، وهو على ما فيه من هنات إنما يصف المجتمع ونفسياته، كما تصفه كل منتدياتنا، وخلف ما ذكر ما لم يذكر استحياء من الأدب والفضيلة
إن الأندية مرآة صقيلة للشعب تصفه على ما هو عليه من دمامة في صورته الخلقية أو وسامة
(السكرية - دار القاياتي)
حسن القاياتي
حواء
. . . عَلَم على ديوان شعر طريف في الغزل العرفاني من نظم الأستاذ الحوماني تحت الطبع تحمل الرسالة نماذج منه إلى قرائها في عالم الفن
وحي القمر
قرأتكِ في الأفق حتى جرت
…
سبائكه في جيوب السحرْ
وحتى تدفّقَ من جانبيه
…
ضبابٌ على الأرض غطى الشجر
وأوقَدَ في ذرواتِ الغصون
…
قناديلَ يزلق عنها البصر
تنوّعَ فيهن لونُ الحياة
…
أفانينَ تحمل شتى الصور
تلمستُ روحكِ في أفقها
…
وروحُكِ في الأفق وحي القمر
فكانت من الزهر هذا العبير
…
ومن ذِروة الغصن ذاك الثمر
في فم الشاعر
لروحكِ في مُلتقى خافقيَّ
…
خيالٌ يُرفِّه عن ناظري
أراه بعينيَّ في يقظتي
…
وإن نمتُ وأشرق في خاطري
تمرُّ به نسمات العشيَّ
…
على صفحة القمر الحائر
وتندى به نسمات الصباح
…
فتلفظه في فم الشاعر
وكم صفَّقت جنبات الغدير
…
على رقصه في فم الطائر
خيالُكِ مرآة قلبي، يُطلَّ
…
على الكون من فمها الساخر
تدور بها في سماء الخلو
…
دِ أرحيةُ الفلكِ الدائر
الحوماني
في مصر الإسلامية
السيادة المصرية في صدر الإسلام
للدكتور حسن إبراهيم حسن
أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب
كان الخراج في الدولة الإسلامية من أهم موارد بيت المال، فلما فتح العرب مصر وجبا عمرو بن العاص خراجها لم يرْض عمر بمقدار الخراج، وظن في عمرو الظنون، فأرسل إليه ابن مَسلمة ليقاسمه ماله، ثم عزله سنة 23هـ قبيل وفاته بقليل عن ولاية الصعيد وأسندها إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح. فلما ولي عثمان الخلافة عزل عمراً وولى ابن أبي سرح مصر كلها، فكان ذلك سبب الجفاء والعداوة بين عمرو وعثمان حتى قيل إن عمراً أخذ يؤلب الناس على عثمان وعلى سياسته وإن له ضلعاً في مقتله
على أن ابن أبي سرح لم يكد يستقر في ولاية مصر حتى انتفض الرومان وكتب أهل الإسكندرية إلى قسطنطين بن هرقل إمبراطور الروم يصفون له ما هم عليه من الذلة والهوان ويهونون عليه فتح الإسكندرية لقلة من بها من حامية المسلمين، فأنفذ قسطنطين قائده الأرمني الإسكندرية على رأس جيش كثيف فاستولى عليها وأخذ جنده يعيثون في الأرض فساداً حتى وصلوا إلى مدينة نقيوس
ولم يكن قبط مصر يرحبون برجوع بلادهم إلى حوزة الرومان خوف أن يسوموهم الخسف والهوان لما قاموا به من مظاهرة العرب ورضائهم بحكمهم من جهة، ولما كان بينهم وبين الرومان من الخلاف المذهبي الذي كان مصدر شقائهم ومصائبهم في عهد الرومان من جهة أخرى. فكأن عودة مصر إلى حوزة الروم معناه زوال تلك الراحة والطمأنينة اللتين تمتع بهما المصريون في ظل الحكم الإسلامي
لهذا كتب قبط مصر إلى عثمان يلحون في إسناد حرب الرومان إلى عمرو بن العاص لما أحرزه في حروبه معهم من الخبرة الناشئة عن طول المراس، ولأنهم أنسوا فيه الدراية والكفاية على رد غارات الأعداء بخلاف ما كانوا يعرفون عن واليهم الجديد، فولى عثمان عمرا الإسكندرية على أن يتولى حرب الرومان وإخراجهم من مصر
وفي مدينة (نفيوس) دار القتال بين جند عمرو وجند مانويل في البر وفي النهر، وكثر الترامي بالنشاب حتى وقع فرس عمرو من تحته. ثم طلب المسلمون المبارزة بين فارس منهم وفارس من الرومان فكانت الغلبة لفارس المسلمين فثارت حميتهم وشدوا على العدو وانتصروا عليه وقتلوا قائده، ثم تعقبوه إلى الإسكندرية وأعملوا السيف في رقابهم. وهنا أمر عمرو بإيقاف رحى الحرب، وأن يبني في الموضع الذي رفع فيه السيف مسجد أطلق عليه فيما بعد (مسجد الرحمة) وهدم عمرو سور الإسكندرية، وبهذا ثبتت أقدام العرب في مصر سنة 25هـ
أقام والي مصر الجديد في الفسطاط يراقب الأمور عن كثب وينتظر ما تلده تلك الحرب الناشبة بين العرب والروم في مصر. ولا شك أن انتصار عمرو ثبت قدم ابن أبي سرح في ولايته. فحذا حذو سلفه في الإصلاح الداخلي وفي الفتوحالخارجية، أما الإصلاح الداخلي فلم يترك له عمرو شيئاً جديداً اللهم إلا ما كان في زيادة الخراج في ولايته حتى بلغ أربعة عشر مليوناً (إن صح أن يسمى هذا إصلاحاً)
أما من ناحية الفتوح الخارجية فإن ابن العاص كان قد أمّن حدود مصر من جهة الغرب بفتح برقة عام 21هـ صلحاً، وبفتح طرابلس سنة 24هـ عنوة. ثم بعث نافع بن القيس الفهري (وكان أخا العاص بن وائل لأمه) إلى بلاد النوبة فقاتله أهلها قتالاً شديداً فانصرفوا، فلما ولي مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح غزا أفريقية سنة 27هـ وقتل ملكها وغنم المسلمون الغنائم الوفيرة حتى قيل أن سهم الفارس بلغ ثلاثة آلاف دينار والراجل ألف دينار
ثم وجه ابن أبي سرح همه إلى الجنوب فغزا بلاد النوبة من جديد، وبلغ دنقلة في سنة 31هـ وقاتل أهلها قتالا شديدا، ومع ذلك فإن النصر لم يتم لابن أبي سرح، فلجأ إلى مهادنة النوبيين وعقد معهم صلحاً رواه من المؤرخين البلاذري والكندي والمقريزي وترجمه لين بول في (تاريخ مصر في العصور الوسطى) (ص 20 - 21) وهو أشبه بمعاهدة اقتصادية بين مصر والنوبة: هذه تمدهم بشيء من الحبوب والعدس، وتلك ترسل إليهم الرقيق
كذلك تولى ابن أبي سرح قيادة معركة بحرية نشبت سنة 31هـ بين العرب والبيزنطيين
تحت قيادة ملكهم قسطنطين بن هرقل، وكان النصر للعرب على الروم في هذه الموقعة التي عرفت باسم موقعة (السواري) أو (ذات السواري) لكثرة سواري المراكب التي اشتركت في القتال
أما مثير هذه الحرب فهو قسطنطين بن هرقل فلقد دبَّ في نفسه دبيب السخط فعمل على الأخذ بالثأر لما أصاب المسلمون من أملاكه في غرب مصر، فخرج في عدد من المراكب يتراوح بين خمسمائة وألف على ما ذهب إليه المؤرخون على اختلافهم، وخرج ابن أبي سرح بمائة مركب، واشتبك القتال بالغرب من الساحل الأفريقي في الفرضة المسماة بفرضة زيواره
حسن إبراهيم حسن
حظي بالشيء.
. .
لأستاذ جليل
الرافعي، المجمع اللغوي، أزهري المنصورة، اليازجي. . . .
. . . . .
- 2 -
طالع الأستاذ الرافعي رحمه الله كلمة المجمع اللغوي (البلاغ 17 شوال 1352) فنشر مقالة عنوانها (أول الغلط من المجمع اللغوي، رد على رد) - البلاغ 18 شوال 1352 - أطنب فيها في أمر البرقية ثم قال: (وانتهى الأستاذ (أي مدره المجمع الشيخ حسين والي) إلى مادة اللغة فلم يأتنا بكلام من الفصيح جاء فيه مثل استعمال (يحظى بتشريف) بل سكت عن هذا مع أنه هو كل ما نريد. ثم قال: إنه يجوز استعمال الباء مع حظي واستدل بقول الزمخشري في الأساس (حظي بالمال وأحظاه الله بالبنين) وها هنا أردنا أن يبحث أعضاء المجمع في وجه استعمال حظي بالمال وحظي بالبنين، فأنهم إن اهتدوا إليه فسيرونه رداً عليهم. ولا نزال نطلب إليهم أن يأتونا بالتاريخ الاجتماعي لهذا الفعل (حظي) لينكشف لهم الخطأ في استعماله. ثم قال فضيلته:(إنهم استعملوا التشريف بمعناها الأصلي لا بمعنى الحضور، ومعموله مفهوم أي تشريف جلالته إياه) قال هذا وسكت عن الباقي، والباقي هو قولهم (تشريف جلالته إياه لافتتاحه) فإذا لم تكن هذه اللام في (افتتاحه) نصاً في تقييد معنى التشريف بالحضور فما موضعها هنا؟ إن المجمع على كل حال قد حظي بتشريف جلالته إياه) إذا أريد من التشريف معناه الأصلي، فإن هذا المجمع إنما هو عناية سامية من جلالة مولانا الملك وأثر من آثار فضله وبركة من بركات يمنه وكل هذا تشريف، فعلى تأويل حضرة العضو يكون كلامهم لغواً لا محل له، وإلا فرده هو لغو لا محل له)
الأستاذ الرافعي وأزهري المنصورة
في 19 من شوال سنة 1352 ظهرت في (البلاغ) كلمة عنوانها (حظي بالشيء والأديب الصغير) للأستاذ أزهري المنصورة. ومما قاله: (قال (ديوان الحماسة):
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته
…
ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
وقال (الأساس): (وحظي بالمال، وتقول: ما حِليَ بطائل، ولا حظي بنائل)
وديوان الحماسة هو الذي اختاره أبو تمام، قالوا:(لم يجمع في المقطعات مثل ما جمع أبو تمام) وأبو تمام حجة، فما قولك فيما رواه من شعر العرب. قال (الكشاف):(وهو وإن كان محدثاً لا يستشهد بشعره في اللغة فهو من علماء العربية، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه. ألا ترى إلى قول العلماء: (الدليل عليه بيت الحماسة) فيقتنعون بذلك لوثوقهم بروايته وإتقانه)
والأساس هو (أساس البلاغة) لأستاذ الدنيا جار الله (ومن خصائصه - كما قال أبو القاسم - تخيّرُ ما وقع في عبارات المبدعين، وانطوى تحت استعمالات المفلقين)
فالأديب الصغير لم يحض بالصواب حين خطّأ (حظي بالشيء) في قول حضرة أعضاء المجمع اللغوي لا (حضرات أعضاء المجمع) كما قالت حضرته، لأن الأعضاء كلهم أجمعين حضرة واحدة، ومن المستحيل أن يكونوا حضرتين أو ثلاث حضرات أو أكثر من ذلك
أجلْ، إن أعضاء المجمع اللغوي محظوظون كل المحظوظين لكنهم ما أخطئوا في فعل (الحظوة) كما قال (الأديب الصغير) اليوم، وأديب كبير من قبل
رد الأستاذ الرافعي رحمه الله في (البلاغ 21 شوال 1352) على الأستاذ أزهري المنصورة بمقالة عنوانها (حظي بالشيء) ومن هذا الردّ:
جاءنا حضرة أزهري المنصورة بالحجة القاطعة والشهادة القائمة على أن (حظي بالشيء) هي من كلام العرب، فكان كل ما قاله في هذا هو هذا:(قال ديوان الحماسة (وأورد البيت) وقال الأساس (وذكر قوله)
نحن نشير في كلامنا في انتقاد (العشرين حضرة) إلى مغامز دقيقة لا نستطيع أن نكشفها، ولذا طالبناهم أن يأتونا بالتاريخ الاجتماعي لفعل (حظي) إن كانوا علماء لغة وفلاسفة لغة، وسألناهم عن الكلام الفصيح الذي جاء فيه مثل قولهم (حظي بتشريف) وما نجهل ما قاله الأساس ولا بيت الحماسة، ولو سأل (أزهري) حضرة الأستاذ صاحب البلاغ لبيّن له أنا كتبنا هذا البيت في كلمتنا الثانية في الرد على فضيلة الأستاذ الشيخ والي ثم ضربنا عليه وأسقطناه من الكلام إذ ليس من عملنا نحن أن نأتي بالأدلة الفاسدة ثم نزيفها، ونبين فسادها
البيت لمحمد بن بشير الخارجي وهو من شواهد النحاة المشهورة ولا مطعن عليه. لكن الشاعر لا يريد الحظوة بل أراد معنى آخر فضاق باللفظ، ولم يوفق إلى غرضه فاضطر أن يضمن (حظي) معنى (ظفر) ونقل الفعل عن أصله، وحوله عن دلالته فلم تبق الكلمة حظي بل ظفر وسقطت حجة أزهري
وقد نص النحاة في شرح البيت على ما ذكرناه من معنى التضمين، ويدل عليه أن بشار بن برد لما أراد هذا المعنى وأطلق العبارة لم يستعمل حظي بل قال:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته
…
وفاز بالطيبات الفانك اللهج
أما قول صاحب أساس البلاغة فلا دليل فيه لأعضاء المجمع بل هو من دليلنا نحن، لأننا ننكر الاستعمال ونستهجنه مقيداً باعتبارين: الأول أنه من أعضاء مجمع اللغة، والثاني أنه في كلمتهم المرفوعة إلى جلالة الملك
وبعد هذا نقول (لأزهري): إن سجعة الزمخشري التي استدل بها هي كأكثر سجع الرجل في كتابه من الكلام الغث البارد الذي لا وزن له، وقد سمّي الرجل كتابه أساس البلاغة ولم يسمه أساس اللغة)
قلت: قال الأستاذ الرافعي رحمه الله: وهو (أي بيت محمد بن بشير) من شواهد النحاة المشهورة
والشاهد فيه حذفه حرف الجر من (مدمن) ومثل ذلك جائز. ويحذف هذا الحرف في المعطوف على ما تضمن مثل المحذوف وإن انفصل عنه بلا كقوله - وهو من شواهدهم -
ما لمحب جَلَدٌ أن يهجرا
…
ولا حبيب رأفة فيجبرا
ولبيت بشار المذكور في (الرد) حكاية لطيفة رواها أبو الفرج وابن الخطيب:
غضب بشار على سَلم الخاسر، وكان من تلامذته ورواته فاستشفع عليه بجماعة من إخوانه، فجاءوه في أمره، فقالوا: جئناك في حاجة، فقال: كل حاجة لكم مقضية إلا سلماً. قالوا: ما جئناك إلا في سلم، ولا بد من أن ترضى عنه لنا، فقال: أين هو الخبيث؟ قالوا: هاهو ذا. فقام إليه سلم فقبّل رأسه، ومثل بين يديه وقال: يا أبا معاذ، خريجك وأديبك. فقال: يا سلم من الذي يقول:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته
…
وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
فقال: أنت يا أبا معاذ، جعلني الله فداءك! قال: فمن الذي يقول:
من راقب الناس مات غمَّا
…
وفاز باللذة الجسور
قال: خريجك يقول ذلك. قال: أفتأخذ معانيّ التي قد عنيت بها وتعبت في استنباطها فتكسوها ألفاظاً أخف من ألفاظي حتى يروى ما تقول ويذهب شعري؟ لا أرضى عنك أبداً. فما زال يتضرع إليه ويشفع له القوم حتى رضي عنه)
ولقد تجرأت فذكرت قول الأستاذ الرافعي رحمه الله: (إن سجعة الزمخشري التي. . .) أجل أن أبين أن الكبير قد يحل على شئ غضبه في بعض الأحايين فيقول. والشاهد في (الأساس) هو (وحظي بالمال) والسجعة إنما هي مثال
وإني لموقن حق موقن أن ليس في هذا العصر من يسبق الأستاذ الرافعي في إجلال إمام الأئمة وعرفان مقداره
وإذا استنزل بعض سجعات في (الأساس) مستنزل ففي (الكشاف) ما (تنقطع عليه أعناق العتاق السبّق، وتني عنه خطا الجياد القرح) وثغث عنده أقول بليغة، قائلوها بلغاء من الطراز الأول
أجاب الأستاذ أزهري المنصورة في (البلاغ 26 شوال 1352) الأستاذ الرافعي رحمه الله وعنوان الجواب (أئمة اللغة، حظي بالشئ، الشيخ إبراهيم اليازجي) ومما قال:
(1 - أوردنا بيت (الحماسة) وفيه أن (يحظى بحاجته)، وقد شرح هذا الديوان أئمة كثيرون، وجمع الإمام التبريزي شروحهم، ولم يعترض على قائل ذلك البيت معترض
2 -
وجئنا بكلام (الأساس) والزمخشري هو صاحب الكشاف عن حقائق التنزيل
3 -
وجاء في (نهج البلاغة): (وحظوا من الدنيا بما حظي به المترفون، وأخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبرون)
وقد فسر العلامة (ابن أبي الحديد) العهد الذي فيه هذه اللفظة ولم ينقدها، وشارح النهج من أئمة العلم والأدب
وإذا قيل: هو النهج، وقد قالوا فيه ما قالوه - قلنا: حال (النهج) كخال الأقوال لوفود العرب على كسرى ووفود قريش على سيف بن ذي يزن وأمثالها، وقد اطمأنت الأئمة إلى عربيتها
والنهج معظمه ظهر حين افتعال تلك الأقوال. والقرن الثاني والثالث أوله ومنتصفه أقرب إلى العربية الأولى من آخره ومن جميع الرابع. وقد أملى ابن دريد في زمانه (ووفاته سنة 321) تلك الروايات والأساطير، وأصبحت لغتها في كتاب (الأمالي) حجة المحتج
4 -
وجاء في المقامات لابن الحريري (وهو من أئمة اللغة) في المقامة الأربعين: (نهضا وقد حظيا بدينارين) وللعلامة ابن الخشاب البغدادي رسالة في تخطئة الحريري، وقد غلطه في ألفاظ كثيرة في مقاماته ولم يخطئه في (حظيا بدينارين)
قد يكون هذا الفعل (حظي بكذا) نشأ في الزمن الإسلامي أو الأموي نشوء ألوف مثله لا قبل ذلك، لكن هذا لا يضير، وقد نجمت ألفاظ في القرن الخامس في (الجزيرة) ولما جاء الإمام الزمخشري وسمعها استجادها وأودعها كتبه
كيف كانت الحال لو لم يجئ الإسلامي والمولد والمعرب؟ وهل كانت ألفاظ (الجزيرة) في الجاهلية تجزئ في تلك المدينة الزاخرة؟)
قلت: أشار الأستاذ (أزهري المنصورة) إلى ناشئات القرن الخامس أو (نواشئه) وإيداع الزمخشري بعضها كتبه. وهذه نتفة منها في (أساسه):
(أهل الحجاز يسمون الزرع والطعام (عيشاً)
سماعي من فتيات مكة: الصوفية (اللوفية): لاف الطعام لوفاً وهو اللوك والمضغ الشديد
سمعتهم يقولون في كل شئ لا يحسن الإنسان عمله: قد (محقه)!
اكتريت من إعرابي فقال لي أعطني من (سطاتهن) أراد من خيار الدنانير
سمعت خادماً من اليمامة يقول - وقد وكف السق -: يا سيدي هل (أهب) عليه التراب بمعنى هل أجعله عليه، وهو من الهبة لأن معنى وهب له الشيء جعله له
رأيت العرب يسمون الكزبرة (الدقة) وسمعت باعة مكة ينادون عليها بهذا الاسم
سمعت بمكة من يقول لحامل الجُوالق (استشق به) أي حرفه على أحد شقيه حتى ينفذ الباب
سمعت بعضهم يقول: (عكشتك) بمعنى سبقتك من قوله عليه السلام: (سبقك إليها عُكّاشة (وهو عكاشة بن محسن الأنصاري)
ومما أورده الإمام الزمخشري في (كشافه): (مما طنَّ على أذني من ملح العرب أنهم يسمون مركباً من مراكبهم بالشُّقْدف وهو مركب خفيف ليس في ثقل محامل العراق، فقلت في
طريق الطائف لرجل منهم: ما اسم هذا المحمل، أردت المحمل العراقي، فقال: أليس ذاك اسمه الشقدف؟ قلت: بلى، فقال: هذا اسمه (الشقنداف) فزاد في بناء الاسم لزيادة المسمي)
ومن كلمة الأستاذ أزهري المنصورة (لم يقل أحد شيئاً في الفعل (حظي بالشيء) إلا العلامة الشيخ إبراهيم اليازجي وكان هذا الرجل قد جاء مصر وأنشأ فيها مجلة (البيان) ثم مجلة (الضياء) وعلق ينقد ويغلّط. وكان يغلط كثيراً في تغليطه ونقده. ومن هفواته التي أذكرها زمن الطلب في الأزهر تخطئته الأديب الكبير (حافظاً) في قول في كتاب (البائسين) وقد لاقاه بعد هذا النقد حجة الإسلام (السيد محمد رشيد رضا) فقال له - وقد سمعنا قوله -: (يا شيخ، يا شيخ، إن الذي خطأته في كلام حافظ إبراهيم هو في أول صحيح البخاري) فبهت الشيخ إبراهيم، وترك السيد وهو كاسف البال. وكان وقوف الشيخ اليازجي على المعجمات وكتب الآلات أكثر من اطلاعه على كلام العرب، ومن هنا ومن فرط ميله إلى القياس هوى فيما هوى فيه)
الإسكندرية
(* * *)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 -
1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 33 -
(سقط من المقالة الثانية والثلاثين المنشورة بالعدد الماضي من الرسالة، بعض عبارات خفي فيها بعض المعنى؛ كما وقع بها بضعة أغلاط مطبعية ابتعدت بها قليلاً عن النهج؛ فنعتذر من هذا وذاك إلى قرائنا، راجين ألا تلزمنا الضرورة مرة أخرى أن نعود إلى مثل هذا الاعتذار)
سعيد العريان
مقالاته للرسالة (4)
كان فيما تحدث به صديقنا المهندس الأديب محمد؟ إلى الرافعي من أسباب عزوبته أن الزواج عنده حظ مخبوء، فإنه ليخشى أن يحمل نفسه على ما لا تحتمل من العنت والمشقة في سبيل إعداد ما يلزم للزواج، ثم تكون آخرة ذلك أن يجلوا عليه فتاة دميمة لا يجد في نفسه طاقة على معايشتها ما بقي من حياته، أو فتاة فاسدة التربية لا يدخل بها على زوجته ولكن على معركة. . .
وقد ظل هذا القول عالقاً بذهن الرافعي يلتمس الوسيلة إلى تفنيده والرد عليه، حتى وقع على قصة أحمد بن أيمن (كاتب ابن طولون) فأنشأ مقالة (قبيحٌ جميل) وهي القصة الثانية مما أنشأ الرافعي لقراء الرسالة؛ وهي الحلقة الخامسة من سلسلة مقالاته في الزواج، وفيها توجيه معتبر للحديث الشريف:(سوداءُ ولودٌ خير من حسناء لا تلد!) يسلك هذه المقالة في باب (الأدب الدينيّ) الذي أشرتُ إليه في بعض ما سبق من الحديث.
ثم كانت الحلقة السادسة هي قصة (رؤيا في السماء)، وتتصل بما سبق من المقالات بأسباب، على أنها تتحدث عن الزواج بمعناه الأسمى، وتدعو إليه الدعوةَ الإنسانية التي
تعتبر الزواج باباً من الجهاد لسعادة البشرية كلها. . .
في هذه المقالة؛ لا أعرف سببا خاصا من مثل ما قدمت ' دعاه إلى إنشائها، ولكنها جملة الرأي وخلاصة الفكر وأثر اشتغال الواعية الباطنة قرابة شهرين بموضوع الزواج؛ فهي من الموضوع كالهامش والتعليق، أو الحكم بعد المداولة، أو هي الصفوةُ الصريحة بعد ما يذهب الزَّبد وتنطفئ الرغوة. . .
وقد ترجم هذه القصة إلى الفرنسية الأديب الباحث الأستاذ فليكس فارس؛ وكانت هي أول الصلة بينه وبين المرحوم الرافعي ثم اتصل بينهما الود.
لما أنشأ الرافعي (قصة زواج) تحدث بها الأدباء في مجالسهم وتضاعفت رسائلهم إليه معجبين مستزيدين؛ وتضاعف إعجابه هو أيضاً بنفسه. . فاستزاد واستعاد، والتزم الكتابة على أسلوب القصة، فكان على هذا النهج أكثر رسائله من بعد
وجلست إليه ذات مساء نتحدث حديثنا، فقال وهو يدفع إلي طائفة من رسائل القراء: (اقرأ يا شيخ سعيد. . . أرأيت مثل هذا؟ أيحق لأحد أن يزعم لنفسه القدرة على خير مما أكتب في موضوعه؟ أيملك كاتب أن يردَّ عليّ رأياً من الرأي؟. . . ومضى في طرائق من مثل هذا القول عن نفسه وعن طائفة من خصومه؛ فعرفت أنه في لحظة من تلك اللحظات التي تتنبه فيها النفس البشرية إلى طبيعتها، فتؤمن بنفسها من دون كل شئ مما خلق الله، إيماناً هو بعض الضعف الإنساني في طبيعتنا البشرية وهو بعض أسباب القوة في النابغين من أهل الآداب والفنون! ذلك الإيمان الذي نسميه أحياناً صلفاً وعنجهية وكبرياء؛ ونسميه في النابهين والعظماء ثقة بالنفس وشعوراً بالقوة!
وكان يلذني في أحيان كثيرة أن أشهد الرافعي في مثل هذه الساعة من ساعات الزهو والإعجاب بالنفس، وأجد في ذلك متاعاً لنفسي وغذاء لروحي؛ لأن الرافعي بما كان فيه من طبيعة الرضا والاستسلام للواقع كان رفيقاً متواضعاً؛ فلا تشهده في مثل هذه الحال إلا نادرة بعد نادرة؛ فإذا شهدته كذلك مرة فقد شهدت لوناً طريفاً من ألوانه، يوحي إلى النفس بفيض من المعاني وكأنما هو يعدي سامعه من حالته، فيحس في نفسه قوة فوق قوته، وكأن شخصاً جديداً حلَّ فيه. . .
. . . وسرني أن أجد الرافعي كذلك في تلك الليلة، فأصغيت إليه ومضى في حديثه؛ فلما
انفض المجلس ومضيت إلى داري، وسوس إلي الشيطان أن أعابثه بشيء. . . فكتبت إليه رسالة بإمضاء (آنسة س) أرد عليه رأيه في قصة سعيد بن المسيب وأعيب ما صنع الرجل بابنته، وعمدت في كتابة هذه الرسالة إلى تقليد أسلوب من أسلوب الدكتور طه، يعرفه قراء الرسالة ويعرفه الرافعي. . .
وبلغته الرسالة فقرأها، فنبهته إلى ما كان فيه من أمسه؛ ووقع في نفسه أن مرسلها إليه هو تلميذ أو تلميذة من تلاميذ طه موحَى إليه بما كتب فتحمس للرّد، وأنشأ (ذيل القصة وفلسفة المهر) وجعل أول مقاله رسالة (الآنسة س) وراح يسخر منها ومن صاحب رأيها سخرية لاذعة؛ ثم عاد إلى موضوع فلسفة المهر. . .
وقرأ الزيات المقالة فرأى فيها تعريضاً بصاحبه لم يرض عنه، فكتب إلى الرافعي يطلب إليه أن يوافق على حذف مقدمة المقالة، حرصاً على ما بين الرسالة وصاحبه من صلات الود. . . وكان له ما طلب، فنشرت المقالة في موعدها خالية من هذا الجزء ولكنها لم تخل من إشارات مبهمة إلى أشياء غير واضحة الدلالة وكذلك نشرت من بعد في وحي القلم. . .
ثم كانت قصة (بنت الباشا) وهي السابعة من مقالاته في الزواج، وقد ألهمه موضوعها صديقه (الزبال الفيلسوف) الذي تحدث عنه في هامش هذه المقالة. وهذه المقالة فيما ترمي إليه تعتبر متممة لموضوع (قصة زواج) فهي دعوة اجتماعية لآباء الفتيات إلى الانطلاق من أسر التقاليد في شئون الزواج، وفيها إلى ذلك شئ من الحديث عن (فلسفة الرضا) التي أسلفت القول عنها في (حديث قطين)
أما هذا الزبال الذي نوه به الرافعي في أكثر من مقالة، فهو من عمال قسم النظافة في (بلدية طنطا)، وكان عمله قريباً من دار الرافعي في الشارعين اللذين يكتنفانها، وكان إذا فرغ من عمله في الكنس والتنظيف اتخذ له مستراحاً على حيد الشارع تجاه مكتب الوجيه محمد سعيد الرافعي (المقاول)، فيقضي هناك أكثر أوقات فراغه، نائماً أو محتبياً ينظر الرائحين والغادين من أهل الثراء والنعمة، أو شادياً يصدح بأغانيه؛ فإذا جاع بسط منديله على الأرض فيأكل مما فيه، ثم يشعل دخينة ويعود إلى حبوته يتأمل. .
كان هذا الزبال صديق الرافعي، بينهما من علائق الود وصفاء المحبة ما بين الصديقين؛ وكان الرافعي يسميه (أرسطو الجديد). وأول هذه الصلة التي بينهما أن الرافعي كان يلذه
أحياناً أن يجلس على كرسي في الشارع أمام مكتب أخيه، حيث اتخذ الزبال (محله المختار) فكان يوافقه في مجلسه ذلك على ما قدمت من وصفه، فيرفع يده إلى رأسه بالتحية وهو يبتسم، ثم يجلس؛ فكان يحادثه أحياناً في بعض شئونه يلتمس بعض أنواع المعرفة. . . ويكرمه ويبره. وأنس إليه الزبال، فكان يسأل عنه إذا غاب، وينهض لتحيته إذا حضر؛ وصار من بعض عادات الرافعي من بعد، أن يسأل عن الزبال حين يغيب، وأن يشتري له كلما لقيه دخائن بنصف قرش، مبالغة في إكرامه. . .
وكان الرجل أمياً ولكن الرافعي كان يفهم عنه من حركات شفتيه، وأحياناً يستدعي بينهما من يترجم له حديث الزبال مكتوباً في ورقة، وقد كنت الترجمان بينهما مرة. وكان الرافعي يحرص على هذه الورقات بعد نهاية الحديث كما يحرص الباحث على مطالعة أفكار من غبر عالَمه!
ومما كان يدور بين الرافعي وصديقه هذا من الحديث، عرف الرافعي طائفة من ألفاظ اللغة العامية كان يجهلها، وطائفة من الأمثال ونبهه ذلك من بعد ' إلى العناية بجميع أمثال العامة، فاجتمع له منها بضع مئات بمصادرها ومواردها، وأحسبها ما تزال محفوظة بين أوراقه. كما أفاد الرافعي من صداقة هذا (الفيلسوف الطبيعي) معاني وأفكاراً جديدة في فلسفة الرضا لم تلهمه بها طبيعته.
ولهذا الزبال صنع الرافعي أكثر من أغنية، أعرف منها الأغنية التي نشرها لقراء الرسالة في العدد 71 سنة 1934 وأغنية أخرى دفعها إلى الآنسة ماري قدسي معلمة الموسيقى بوزارة المعارف لتضع لها لحناً يناسبها.
وقد كان في نفس الرافعي أن يكتب مقالة عن هذا الزبال يتحدث فيها عن فلسفته الطبيعية العملية، وكان محتفلاً بهذه المقالة احتفالا كبيراً، حتى إنه همّ بموضوعها أكثر من مرة ثم عداها إلى غيرها حتى تنضج؛ وقد هيأ لها ورقة خاصة كان يجمع فيها كل ما يتهيأ له من الخواطر في موضوعها ليستعين به عند كتابتها، ولكن الموت أعجله عن تمامها، وأحسب أن هذه الورقة ما تزال بين ما خلف من الأوراق.
سيدي بشر
محمد سعيد العريان
دراسات للمستشرقين
قيمة التراجم الأعجمية الموجودة للقرآن
للعلامة الأستاذ الدكتور أ. فيشر
- 3 -
وإذا كان الأمر كذلك فليس للإنسان بالطبع أن يطلب اعتبار كل ما حوته تراجم المترجمين الغربيين منَّزهاً عن كل شك. ولكن يمكن مؤاخذة هؤلاء المترجمين - إن قليلاً أو كثيراّ كل حسب عمله - على الأمور الآتية: -
(1)
أنهم لم يحاولوا فهم القرآن قبل كل شئ من نصه أولاً، كما يقضي بذلك قانون علم التفسير، بل إنهم انزلقوا دون تريث في البحث وتثبت في الاستقصاء إلى الخرافات القصصية التي ذكرها العرب، وإلى شروح المفسرين المتأخرين التي جارت الافتراض المذهبي التأملي، والتي مر ذكرها
(2)
وأنهم كانوا على العكس من ذلك، قليلي الاهتمام بالبيانات اللغوية التي أوردها المفسرون العرب
(3)
وأنهم لم يعنوا إلا قليلاً بمختلف قراءات القرآن التي عرفت لعهدهم
(4)
وأنهم كانوا يبحثون دائماً عن عناصر يهودية ونصرانية في القرآن، ناسين أن الرسول (صلعم) نشأ في أيام الجاهلية وأنه لذلك تأثر بادئ ذي بدء بعادات ذلك العصر وبالاتجاهات والأسلوب واللغة لشعر ذلك العهد، إذ كان للشعر أهمية عظمى في الحياة الثقافية للعرب الجاهليين
(5)
وأنهم لم يكونوا من المسيطرين على دقائق علم النحو القديم ولا هم من المتمكنين من المجاز والاستعارة والمعاني الاصطلاحية في اللغة العربية الفصحى لعهدها المتقدم
(6)
أن تراجمهم كانت حرة أكثر مما يحب، وأنهم لم يفقهوا الكثير من المواضع العويصة المبهمة الواردة في القرآن، ولذلك كثيراً ما يحصل القارئ على معنى لا ينطبق بحال على ما حواه النص الصحيح
ولأبرهن على أن حججي التي أوردتها مسبّبة ومدّعمة آني بمثل مجسم هو معالجة ما
صارت إليه ترجمة الصورة الحادية عشر بعد المئة في مختلف التراجم الموجودة
ونص هذه الصورة الصغيرة الشهيرة هي:
(1)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهبِ وَتَبَّ
(2)
مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ
(3)
سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهبٍ
(4)
وَاُمْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ
(5)
في جِيدَهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدِ
كذا في المصحف الشريف طبع المطبعة الأميرية وكذلك في المصحف طبع فلوغل. وسيأتي الكلام عن بعض الرسوم الهامة التي وردت بها هذه السورة. وإلى جانب هذا نذكر ما يلي:
في الآية الأولى: وردت أَبُو بدل أَبي؛ أنظر الشواذ لابن خالويه صحيفة 182، والكشاف للبيضاوي، وغيرهما، ووردت لَهْبٍ بدلاً من لَهَبٍ؛ أنظر التيسير للداني صحيفة 225، والكشاف، والإملاء للعكبري، وتفسير غريب القرآن للنيسابوري (حاشية تفسير الطبري، الطبعة الأولى) الجزء الثلاثين
وأورد أُبَي بن كعب بين الآية الأولى والثانية الآية التالية:
حَالَفَ البَيْتَ الوَضِيعَ عَلَى البَيْتِ الرَّفيعِ فَشُغِلَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ شُغِلَ
راجع:
، ' 1973) ، 180.
وفي الآية الثانية: وردت اكْتَسَبَ بدلاً من كَسَبَ (ابن مسعود)، أنظر 112 وابن خالويه صحيفة 182
والرأي عندي أن الذين ترجموا القرآن حتى الآن لم يترجموا من هذه الآيات الخمس الصغيرة سوى الآية الثالثة ترجمة صادقة، أما الآيات الأربع الأخر فقد أساء الجميع دون استثناء فهمها
الآية الأولى والثانية: الفعل الماضي تَبَّتْ وَتَبَّ الوارد في الآية الأولى من السورة، وكذلك الفعل ما أَغنَى الدال على نفي أو على استفهام في معنى الإنكار الوارد في الآية الثانية
ترجمها أغلب المترجمين بما يدل على تَمَنٍ - أي دعاء بالشر؛ أو أنهم ترجموها - بما لا يختلف عن ذلك كثيراً - بما يدل على معنى الاستقبال؛ ويندر من ترجمها بما يدل على معنى الحال. والتمني سواء كان للخير أو للشر يكون في اللغة العربية الفصحى، كما هو معروف، بواسطة المفعول المطلق - انظر من تراجم القرآن مثلاً: سال (غالباً لندن طبعة سنة 1734، والنسخة التي لدى طبعة لندن سنة 1850؛ ويري
' ، 1882 - 86 ، ، 293)
ثم أورد الأستاذ أَ. فيشر نص ترجمة سال الإنجليزية. وكذلك أنظر كازيمرسكي (ترجمة القرآن طبعة باريس سنة 1840 غالباً، والنسخة التي طبعت سنة1865) - ثم أورد الأستاذ أَ. فيشر نص ترجمة كازيمرسكي الفرنسية وكذلك انظر أُلمان (ترجمة القرآن طبع كريفلد سنة 1840، الطبعة التاسعة سنة 1896؛ والنسخة التي لدى الطبعة الثالثة سنة 1844) - ثم أورد الأستاذ أَ. فيشر نص ترجمة أُلمان الألمانية. وانظر كذلك سبرنجر في كتابه ، 1 ، 484)
ثم أورد الأستاذ أَ. فيشر نص ترجمة سبرنجر الألمانية. وانظر كذلك شنيري في كتابه: ، ، 1 ، 439)
ثم أورد الأستاذ أَ. فيشر نص ترجمة شنيري الإنجليزية. ويماثلهم رودول وبالمر وكلامروث وجريجل وهننج وبدرسن في:
`
كتاب للمطالعة في تاريخ الأديان لواضعه ليمان، الطبعة الأولى، صحيفة 138 وغوستاف فيل (في ترجمته للسيرة الجزء الأول صحيفة 174) وغيرهم. وكذلك عدد من المترجمين الحديثين أمثال: محمد علي (أحمدية إينوماني أشاءاتي إسلام، لاهور الطبعة الثانية سنة 1920) - ثم أورد الأستاذ أ. فيشر نص ترجمة محمد علي الإنكليزية وكذلك:
، ، 1923 ، 25
جِريمة، - وأورد الأستاذ أ. فيشر نص ترجمة جِرُيمة الألماني وكذلك ورد في:
. . ، 1926
- ثم أورد الأستاذ أ. فيشر نص ترجمة ماردرو الفرنسية؛ وكذلك بونللي 1929) - ثم
أورد الأستاذ أ. نص ترجمة بونللي الإيطالية. وكذلك بوول في هـ. شيدر، طبع ليبزج سنة 1930 صحيفة 168، - ثم أورد الأستاذ أ. فيشر نص ترجمته الألمانية. وكذلك بكتهول. طبع لندن سنة 1930، - ثم أورد الأستاذ أ. فيشر نص ترجمته الإنجليزية. وكذلك:
- ،)
لاي - ميش وابن داود، - ثم أورد الأستاذ أ. فيشر نص ترجمتها للفرنسية. وكذلك جميل سعيد استانبول سنة 1924
ثم أورد الأستاذ أ. فيشر نص الترجمة التركية. ولا تختلف كثيراً عن هذه حقي، الطبعة الثانية استانبول سنة 1932
ثم أورد الأستاذ أ. فيشر نصها التركي. وكذلك نيكل (أنظر فيما يلي) وغير هؤلاء
(للبحث بقية)
إبراهيم إبراهيم يوسف
جورجياس
أو البيان
لأفلاطون
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 6 -
(تنزل (جورجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف، لأنها
أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلا)
للفلسفة!)
(رينو فييه)
(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة دائما وتنتصر لأنها أقوى وأقدر
من جميع الهادمين!)
(جورجياس: أفلاطون)
الأشخاص
1 -
سقراط: بطل المحاورة: (ط)
2 -
جورجياس: السفسطائي: (ج)
3 -
شيريفين: صديق سقراط: (س)
4 -
بولوس: تلميذ جورجياس: (ب)
5 -
كاليكليس: الأثيني: (ك)
(تابع ما قبله)
ج - وأضيف إلى هذا أنه إذا دخل طبيب وخطيب مدينة ما، ثم احتاج الأمر إلى المفاضلة
بينهما أمام الجمهور المجتمع أو أمام أية هيئة أخرى، فأنه لن ينتبه أحد إلى الطبيب: وسنفضّل من هو قادر على الكلام إذا كان بالفعل كذلك. وقل بالمثل إذا نافس الخطيب أي رجل من رجال المهن الأخرى،: إذ دائما ما يفضل الخطيب غيره مهما كان ذلك الغير. لأنه ليست هناك مادة ما إلا ويستطيع أن يتكلم فيها أمام الناس بطريقة أكثر إقناعا من طريقة أي صاحب مهنة أخرى مهما كان شأنه!، والحق أن للبيان ذلك المرمى وتلك الخاصة! ولكن يجب أن لا نستعمله مع ذلك يا سقراط إلا كما نستعمل التدريبات الأخرى، ذلك أنه ولو أن الإنسان يستطيع أن يتعلم بتلك التدريبات الملاكمة وطرق استعمال أسلحة الحرب الأخرى بطريقة تكفل له قهر الأصدقاء والأعداء على السواء، فأنه لا يجوز له أن يستعملها من أجل ذلك ضد الجميع، أو أن يضرب بها أصدقاءه ويطعنهم ويقتلهم! ولا يجوز لذلك الذي أكثر من التدريب في الملاعب، وكوّن فيها جسما قويا، وأصبح بين جدرانها مصارعا مجيدا، لا يجوز له أن يضرب أمه أو أباه أو أحدا من أقرباء والديه وأصدقاءه، وأن يعادي ويكره مدربي الرياضة والسيف فيطردهم من المدن! إذ الحق أن هؤلاء المدربين لم يروضوا تلاميذهم بهذه التدريبات إلا بقصد أن يحسنوا استعمالها ضد الأعداء والأشرار، وفي الدفاع لا الهجوم! فإذا وجه التلاميذ بعد ذلك قوتهم وحيلتهم إلى الشر على غير قصد أساتذتهم، فلا ينتج عن هذا أن أساتذتهم أشرار وأن فنهم شرير، لأن الخطأ قائم فقط - كما أرى - فيمن يسيئون استعمال الفن؟.
وهكذا نستطيع يا سقراط أن نصدر نفس الحكم على البيان: إذ الحق أن الخطيب يستطيع أن يتكلم ضد الجميع وعن كل شيء لأنه أجدر الناس بإقناع الجماهير بما يريد، ولكن ما كان هذا ليساعده قط على تشويه اسم الأطباء وغيرهم من رجال المهن الأخرى لأن الأمر على نقيض ذلك تماما؛ وإذا فلا يجب أن نستعمل (البيان) إلا وفقا لقوانين العدالة كما هو الحال في التدريبات الأخرى. فلئن أساء أحدهم - ممن قد أعِّدوا له - استعماله كقوة وفن بقصد ارتكاب عمل ظالم، فلن يكون لنا الحق - فيما أظن - أن نعتمد على العمل وحده ونكره الأساتذة الذين لقنوا الفاعل ذلك الفن وننفيهم من المدن، لأنهم لم يلقوا بفنهم بين يديه إلا بقصد أن يستعمله في أغراض ولأسباب عادلة، فراح هو يستعمله استعمالاً يناقض قصدهم تمام التناقض؛ وإذا فالعدل هنا أن نكره التلميذ المسيء وأن نطارده ونقتله، وليس
العدل أن نفعل ذلك مع الأساتذة!!
ط - أظن يا جورجياس أنك قد اشتركت مثلي في مناقشات كثيرة، وأنك قد لاحظت فيها شيئا: هو أن الناس عندما يشرعون في المناقشة يجدون مشقة كبيرة في تحديد أفكارهم من سائر النواحي، وفي الوصول إلى موضوع المناقشة بتوضيحه لأنفسهم وتحقيقه على التبادل، وإذا ما نشأ بينهم بعض التناقض وادعى أحدهم أن الآخر لا يتكلم إلا بقليل من الوضوح والحق، فأنهم يغضبون ويظنون أن المقاطعة إنما توجه إليهم بباعث الحسد وأن المرء إنما يتكلم بعامل الخصومة دون أن يبغي توضيحا للقضية المعروضة. ولذلك ينتهي الأمر ببعضهم إلى تبادل الشتائم المقذعة ثم الانفصال بعد الاحتكاك بشخصيات بغيضة ممقوتة، كما ينتهي بالمشتركين إلى (المساعدين) في المناقشة إلى أن يستنكفوا من وجودهم في مثل تلك الأحوال
فهل تدري لم أخبرك بذلك؟ إنما أخبرك به لأنه يلوح لي أنك لا تتكلم الآن بنحو مجد وبطريق يلتئم تماما مع ما قررت من قبل عن البيان!؛ وأفهم أني إذا ما ناقضتك فسوف لا تقول إن قصدي هو أن أناقضك وأن أقوم في وجهك، وإنما ستقول إن قصدي هو أن يتضح لنا فقط موضوع الحديث!؛ فإذا كنت تنظر للأمر كما أنظر إليه فسأسائلك باغتباط؛ وإلا فلن أذهب معك إلى أكثر من ذلك، وهاك نظرتي: إنني من أولئك الذين يحبون أن يُناقَضوا عندما لا يقولون الحق، ولكنهم يحبون أيضاً أن يُناقِضوا غيرهم عندما يرونهم حائدين عنه، وليس سرورهم بعد هذا من مناقضة غيرهم لهم بأقل من سرورهم عندما يناقضون هم غيرهم! إذ الحق أني أعتبر المناقضة يا جورجياس خيراً عظيما، وأرى أن الأفضل لنا هو أن نخلص أنفسنا أولا من أسوأ الشرور بدلا من أن نخلص غيرنا منها؛ كما أني لم أعرف بعد وزراً يعدل وزر أن يكون لدينا أفكار خاطئة عن الموضوع الذي نعالجه؛ فإذا كان حقاً ما تدعي من أنك مثلي في النظر والاستعداد فلنعد للمناقشة، وإذا كنت ترى أنه يجب أن نتركها حيث وقفنا فليكن ما تريد ولينته الحديث
ج - إني لأفخر يا سقراط بأني من أولئك الذين صورتهم تصويراً، ومع هذا فأحسب أنه يجب أن نعنى كذلك بأولئك الذين يشتركون معنا في الحديث لأني قد شرحت لهم أشياء كثيرة قبل مجيئك بزمن طويل، وإذا نحن عدنا إلى المناقشة فيها ثانياً فسيذهب بنا القول
بعيداً جداً. ولهذا يحسن أن نفكر فيهم حتى لا يبقى منهم من يكون له عمل آخر يشتغل به أثناء الحديث
س - إنكما لتسمعان بنفسكما يا جورجياس وسقراط ذلك الصوت الذي يحدثه الحاضرون ليكون شاهداً على رغبتهم في الإنصات إليكما إذا واصلتما الحديث وأرى من ناحيتي أنه لا يرضي الآلهة أن يكون لدي من الأعمال الكثيرة الهامة ما يضطرني إلى ترك مناقشة كلها الفطنة والمنطق كيما أشتغل بما هو أكثر ضرورة منها!
ك - لقد أصبت وحق الآلهة جميعاً يا شيريفين! فأنا الآخر أشتغل بأعمال كثيرة ولكني لا أعرف منها أبداً عملا واحداً يسبب لي من اللذة بقدر ما تسبب لي هذه المناقشة. ولعل هذا هو السر في أنكما تطوقان جيدنا بالفضل (يا جورجياس وسقراط) إذا شئتما وتناقشتما هكذا طوال اليوم!
ط - لن تجد يا كاليكس أية عقبة من ناحيتي إذا وافق جورجياس على المناقشة.
ج - ليكونن عاراً على ألا أوافق بعد اليوم يا سقراط، خصوصاً وقد ادعيت لنفسي القدرة على إجابة جميع ما يوجه إلي من الأسئلة، فلنعد إلى الحديث ما دام في ذلك سرور للحاضرين واعرض علي ما تراه جديراً بالعرض
ط - فلنعرف إذا ما يدهشني من حديثك! - وقد يكون أنك لم تقل غير الحق وأنني قد أسأت الفهم! - إنك تدعي أنك تستطيع أن تجعل ممن يرغب في دروسك خطيباً!؟
ج - نعم
ط - ومعنى ذلك أنك تجعله قادراً على الكلام في كل موضوع بطريقة ساحرة أمام الجماهير بحيث يقنعهم دون أن يعلمهم!؟
ج - تماماً
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . . . . .
- 19 -
وجاء يوم الانتخاب ففاز لنكولن وأصبح رئيس الولايات المتحدة، أصبح فالق الأحشاب الخليفة الخامس عشر لوشنجطون العظيم بطل الاستقلال. فكأنما كان مجيئه يومئذ من تدبير الأقدار لقرن اسمه في تاريخ أمريكا باسم محررها الأول فعليه اليوم أن يمسك بنيانها أن يخر من القواعد
وكان نجاح ابراهام محققاً قبل يوم الفصل بما كان لحزبه من جاه ونفوذ في أهل الشمال وهم أكثر عدداً وأحكم سياسة من أهل الجنوب، وذلك فضلا عن اتحاد كلمة ذلك الحزب ونشاط أعضائه بينما كان يتنازع الديمقراطيون ويتنابذون وكأن بينهم عداوة
على أن خصوم ابراهام يعيرونه بهذا الفوز إذ كانوا لا يعدونه فوزاً، فهم يقولون أن ما ناله منافسوه من الأصوات يربو كثيراً على ما ظفر به، هذا إلى أن عدداً من الولايات الجنوبية لم يجد عليه أهلها بصوت واحد. . . ولكن أصحابه يعلنون أنه الغالب فأنه ليندر أن فاز قبله أحد بمثل ما فاز به من الأصوات وإن بينه وبين دوجلاس أقوى منافسيه وأقدرهم لفرقاً كبيراً يشهد بغلبته وعظم مكانته. . .
وكان على ابراهام أن يقضي أربعة أشهر أخر قبل أن يحتفل بتسلمه أزمة الحكم فقضاها في سبرنجفيلد بينما كان الرئيس بيو كالون يكمل مدته بقضاء تلك الأشهر في البيت الأبيض في وشنجطون
ولبث ابراهام في سبرنجنفيلد يلقى زائريه كل يوم ويمشي في الطرقات بين الناس لا يجعل
بينه وبينهم كلفة ولا يتخذ من دونهم حجابا، يحييهم فيدعوهم بأسمائهم ويردون فيدعونه بأحب أسمائه إليه، فمنهم من يناديه أيب الأمين ومنهم من يناديه أيب العجوز ومنهم من يقولها مجردة من النعوت
وتبدو (أيب العجوز) يومئذ أقرب النعوت منه وأعلقها به، فإن على محياه لكآبة هي من أثر ما يهجس في نفسه، وأنه اليوم لكثير التأمل والإطراق لا يسمع الناس من أقاصيصه ما كانوا قبل يسمعون، ولا يشهدون من عذوبة روحه ما كانوا يشهدون
أما امرأته فمرحة طروب، لا تملك نفسها من الزهو حينما تقف إلى جانب بعلها في شرفة الدار وهما يطلان على الجماهير الهاتفة وإن كانت لتكره وتتبرم منه بهذا الوجوم وهذا الصمت، وإن كانت لتنكر عليه ما يظهر فيه من ملابس وخاصة قبعته التي ألحت عليه وما تفتأ تلح أن يستبدل بها أخرى جديدة فلا يطيع!
وحق له أن يبتئس وأن يرتاع فما تزال تترامى إليه الشائعات والأنباء المزعجات، فهذه صحيفة من صحف الجنوب تعلن نبأ اختياره للرياسة تحت عنوان أخبار خارجية، وهذا حاكم كارولينا الجنوبية يتناول المعول فيهدم أول حجر من بناء الاتحاد. . . لقد استقال أعضاء الشيوخ لهذه الولاية وانسحبوا من وشنجطون، بينما أخذ الحاكم يعد ما استطاع من معدات الحرب وصحفه تذيع في صراحة أن قد صار الاتحاد أثراً بعد عين؛ وهو يسعى بالتفرقة ويحرض الولايات الجنوبية على الانسحاب بعد أن أعلن على لسان المجلس التشريعي في ولايته أن لا صلة لهذه الولاية بالاتحاد
وما كان ارتياعه عن خور حين آذنت العاصفة بالهبوب؛ ولعمري ما يكون الخوف كل آونة جبناً ولا الدم كل يوم حلالاً. ثم لعمري ما يكون الإقدام في كل موقف شجاعة، ولا الوثوب في كل مأزق بطولة؛ وإلا فما أضيع الحكمة، وما أتفه البصيرة، وما أسخف الأنات. . . وما كان يخاف ابراهام إلا أن تصيب بلاده فتنة تذهب بكل شيء
وإنه ليدور بعينيه في هذه المحنة يبحث عن الرجال الذين يشدون أزره فيرى - والأسى يرمض فؤاده - أن رجال حزبه أنفسهم لا يرون رأيه فهم يميلون إلى مصالحة أهل الجنوب وعلى رأس القائلين بذلك سيوارد. . . ولكن ابراهام يعلن إليهم في ثبات عجيب أن مصالحة أهل الجنوب معناها التهاون في المبادئ والتسليم بانتشار العبيد والاعتراف
بحقهم في اتباع القوة وفي الانسحاب من الاتحاد وهو لن يأمن أن يعودوا إلى ذلك في أي وقت؛ فيسمعون ذلك ولكنهم لا يعقلونه ويحملونه كل ما عساه أن يترتب على موقفه من مصائب
والنذر لا تني تأتي من الجنوب بما يقلق المضاجع ويزعج النفوس، فها هي ذي ست ولايات أخرى تنسحب من الاتحاد وتنضم إلى كارولينا الجنوبية فتؤلف من بينها اتحاداً جديداً تختار لرياسته جفرسون دافيس. . . وهكذا يصبح في البلاد حكومتان! وهكذا ينهار البناء حجراً بعد حجر والرئيس الجديد ما يزال في سبرنجفيلد يشهد ما تفعل العاصفة
ويحمل البريد إلى ابراهام كل يوم آلافا من الرسائل بينها نوع جديد تنفر منه نفسه، بينها نوع ملؤه الوعيد والسباب وتفصيل صور الموت التي تنتظره إن هو مضى فيما هو فيه وأصر على عناده؛ وهو يطوي تلك الرسائل ليلقي بها في النار مخافة أن تقع عين امرأته على صور الخناجر التي تتوج الكثير منها. . .
ويتطلع ابراهام في هذا المأزق الشديد إلى وشنجطون ليرى ما عسى أن يفعله بيو كالون الرئيس القائم؛ ولكن بيو كالون لا يتحرك فيزيد بتهاونه النار اشتعالا ثم يصرح بأنه إذا لم يكن للولاية حق الانسحاب من الاتحاد فليس لحكومة الاتحاد حق ردها إليه بالقوة إذا هي انسحبت فيكون بتصريحه هذا كمن يلقي الحطب على النار حين يجدر به أن يلقي عليها الماء. . .! وتشيع الخيانة في وزرائه فيرسلون الرجال والمال إلى الولايات الجنوبية ويستقيلون. . .
ويشتد عدوان أهل الجنوب وقد اتخذ الاتحاد الجديد هناك دستورا جديدا يقر نظام الاستعباد ويعلن أنه أمر مشروع من ناحيتي الدين والخلق ونظام الاجتماع. . . ويعظم هياج العاصفة ويشتد دويها. . .
وابراهام في سبرنجفيلد كالسنديانة العظيمة لا تهز العاصفة إلا فروعها، ولن يصيب الجذر مصيبة إلا أن تزلزل من تحته الأرض فتشقق فتميد. . . يخوفه سيوارد عاقبة الأمر فلا يحجم ولا يلين؛ ويسخط أهل الشمال أنفسهم على ابراهام ويظنون به الظنون، ولكنه يقول ذات مرة لرجل ممن يحاورونه (اذهب إلى شاطئ النهر وخذ معك غربالا متيناً فاملأه بالحصى؛ فسترى بعد هزات قوية أن الرمل وصغيرات الحصى تنفذ من الثقوب وتتوارى
عن الأعين إذ تضيع على الأرض، وتبقى في الغربال الحبيبات التي تزيد عنها حجما إذ أنها لا تنفذ من بين الخيوط. . . وبعد هزات أخرى متكررة يتبين لك أنه من بين القطع الباقية في الغربال تصل كبرياتها إلى القمة، وهكذا فأنه إذا لم يكن من الحرب بد وأن هذه الحرب سوف تهز البلاد من وسطها إلى جوانبها فإنك ستجد صغار الرجال يتوارون عن الأنظار في هزاتها، وبينما ترتكز الكتل على قواعد ثابتة ويرتقي أكابر الرجال إلى القمة؛ ومن هؤلاء يبرز أعظمهم فيكون منه قائد القوم في الصراع القائم. . .)
هذا هو العزم الذي لا يعرف التردد، ولكن من وراء هذا العزم نفساً شاعرة وقلباً يحب الخير وينأى بجانبه عن الشر وينفر بطبعه منه؛ وما كانت هموم نفسه إلا مما يريد أن يدفعه عن بلاده من شر وبيل فهو لا يهمه أن يذوق الموت بعد أن وطد على الجهاد عزمه ووهب إلى بلاده نفسه. . .
ها هو ذا قد وصل في بلاده إلى القمة فهل ابتغى من وراء ذلك جاهاً أو تلهى بالعرض عن الجوهر؟ هل تنفس الصعداء واستكان إلى الدعة وجعل من المنصب متعة وغرورا؟ كلا فها هو ذا يجعل من وصوله إلى هذه المرتبة مبدأ مرحلة جديدة في جهاده المرير. . . وإنه ليحس أنه هالك في هذا الجهاد ولا محالة ففي نفسه من المعاني ما يشير إلى ما سوف يلقاه من خطوب وويلات. . . تحدث هذا الصنديد الجلد إلى صديق له بعد فوزه بالرياسة بسنوات يصف ما كان يهجس في خاطره عقب ذلك الفوز فذكر أنه نظر يومئذ ذات مرة، وقد جلس متعباً على مقعد، إلى مرآة أمامه فرأى فيها لوجهه صورتين فهب من مكانه يستوثق من ذلك فامحت الرؤيا ولكنها عادت كما كانت حين عاد فجلس؛ وكانت إحدى الصورتين تخالف الأخرى في أنها تبدو مصفارة مخيفة. ولقد أوجس ابراهام خيفة في نفسه؛ ولم يكن خوفه مما رأى في ذاته بل لما انبعث منه في نفسه من المعاني. ولقد تكرر ذلك المنظر بعد أيام ثم انقطع على رغم محاولاته أمام المرآة. . . أما امرأته ففسرت ذلك أنه سيختار للرياسة مرة أخرى ثم يموت في تلك المرة! يا لله ما أعجب نبوءات هذه المرأة!
وكأنما كان صاحبنا يحس ما يخبئه له الغد من مكروه فهو يقدم في عمله على علم بما وراءه ولذلك لا يتهيب ولا ينكص، يحذر ويتدبر أن تصيب بلاده دائرة. . .
وظل يمني نفسه أن يثوب أهل الجنوب إلى رشدهم فتخشع للحق قلوبهم، ولكنهم في شطط من عنفهم وغرورهم. فهاهي ذي الأنباء تأتي بجديد من كيدهم، وبيان ذلك أنه كانت لحكومة الاتحاد حصون في الولايات الساحلية بها جند تحميها وكان من تلك الحصون في كارولينا حصنان أهمهما حصن سمتر، فأرادت كارولينا أن تستولي على الحصنين لتتم سيادتها فلم تفلح إلا في أحدهما، وكان ذلك عقب إعلان انفصالها
واحتمى الجند في حصن سمتر وأرسلوا إلى الرئيس بيو كالون أن يمدهم بالعون والذخيرة، فلم يستطع بيو كالون أن يصم أذنيه عن هذا الطلب وأرسل سفينة تحمل المؤونة والرجال ولكن أهل كارولينا أطلقوا عليها النار في ميناء شارلستون وأجبروها على الرحيل. . . وطلبت حكومة الاتحاد الجنوبي تسليم حصن سمتر فرفضت الحامية بقيادة القائد اندرسون أن تسلم، فضرب عليها الحصار. . . وبات في الواقع أهل الشمال وأهل الجنوب في حرب
وعاد سيوارد يلح على ابراهام أن يتفق أهل الشمال مع أهل الجنوب على شروط تخفف من غضبهم، فرفض ابراهام ذلك وأعلن أنه مصر على الرفض مهما يكن من الأمر. . . ولما يئس سيوارد من إقناعه عرض عليه أن يزحف على العاصمة في جيش من المتطوعين ويأخذ بيده زمام الأمور من بيو كالون قبل أن يستفحل الشر فرفض ابراهام أن يفعل ذلك لما فيه من خروج على الدستور. . .
وازداد الموقف خطورة حين ترامى إلى سمع لنكولن أن كثيراً من الناس يودون لو ينسحب ويدع تقرير الأمور إلى رئيس غيره من جديد. . . ولو أن رجلاً غيره في موقف مثل موقفه هذا لخارت عزيمته، وانكسرت نفسه، ولكنه ما وهن ولا استكان وما زادته الشدائد إلا صبراً وعزماً ولا المحن إلا رغبة في الجلاد والنضال. . .
وجلس يختار مجلس وزرائه فعظمت حيرته ووقع اختياره أول ما وقع على سيوارد وقد وقف إلى جانب ابراهام بعد أن رأى من ثباته ما لم يتعلق به من قبل وهمه، ورضى سيوارد بادئ الرأي أن يعمل معه في مركز يعادل مركز وزير الشؤون الخارجية في الحكومات الحالية مضافا إلى ذلك أنه كاتم سره ومستشاره وحامل أختامه. . وأخذ ابراهام يبحث عن غيره ممن يأنس فيهم الكفاية في مثل هاتيك الشدة. . .
وجال ابراهام جولة في البلاد التي قضى فيها صدر شبابه، وزار من لا يزال على قيد الحياة من أهلها، وحج إلى قبر والده وأوصى أن يعنى به، وبعد أن قضى أرب مشاعره ولبانة قلبه عاد إلى سبرنجفيلد ليودع أهلها قبل رحيله إلى وشنجطون. . .
ولما أزف يوم الرحيل لاحظ على وجهه أهل المدينة شيئاً مثل ذلك الذي يبدو على وجه من يوشك أن يرحل عن وطن اشتد حبه له وعظم تعلقه به، ولقد زاده هذا نحولا على نحوله وهماً على همه، وكذلك اشتد أسف الناس فهم لا يدرون كيف يصبرون على رحيله عن مدينتهم ولقد كان لصغارهم الأب العطوف الرؤوف ولكبارهم الصديق الوفي، والناصح الأمين. ولكنهم يتأسون على فراقه بما باتوا يأملونه من خير للبلاد جميعاً على يديه
(يتبع)
محمود الخفيف
بين العقاد والرافعي
غزل العقاد
للأستاذ سيد قطب
- 14 -
لا يزال صاحبنا (الغمراوي) ماضياً في طريقه، عند السفح من مدارج الإحساس والفن والحياة. وما يزال يظن المسألة ردوداً ومحالا. بينما نحن لم نرد إلا أن ينتفع هو وأمثاله ومن هم خير منهم كذلك بما نكتب، وأن يخرجوا قليلا من ذلك الطابق المغلق الذي ينزوون فيه، إلى عالم النور والطلاقة والفن الجميل، المتحرر من القيود والقشور، فيحسوا - ولو مرة - دفعة الحياة، وطلاقة الفن، وفسحة الشعور. ومن حسن الحظ أن يكون الحديث اليوم عن (غزل العقاد) فليحاولوا أن يثبوا ونحن نأخذ بيدهم إلى هذا (العالم) العبقري الفسيح. وإلا فليعذرونا إن نحن جاوزنا الجحور والمغاور، إلى المرج الواسع، أو العيلم المسجور!
الإحساس الساذج الفطري بالحب قريب في منبته من إحساس الجوع والظمأ، ومطلب قريب لا يعلو كثيراً على مطالب الجسد؛ والمتعة فيه غذاء من أغذية الدم واللحم، والحرمان نوع من الخمص والطوى، والآلام لون من وخز الجلد أو لذع النار، أو لفحة السموم. والتعبير عن كل ذلك شبيه بالضحكة والصرخة والآهة والأنين، من أنواع التعبير الفطري عن اللذة والألم
والشاعر حين يقف في إحساسه بالحب، أو التعبير عنه، عند هذا الحد لا يستحق منا لقب الشاعر - بله الشاعر الكبير - وهو لا يستحق هذا اللقب، حتى يكون له في حبه منحى خاص (ليكون شاعراً) وفلسفة شاملة تجعل من هذا الحب مجتمعاً للأحاسيس الفريدة بأعماق الحياة وأصولها وتتصل بوشائج الطبيعة الكبرى، وغاياتها البعيدة، وأنماطها الأصيلة (ليكون شاعراً كبيراً)
فليس الحب الفني، ولا التعبير عنه من السهولة كما يتصورها الكثيرون من ناشئة الشعراء، ومقلدي النقاد، إنما هما عمل عسير في الاستيعاب والتصوير، وما نقرأ لتسعين في المائة من الشعراء، إلا ضحكات وابتسامات أو صرخات وآهات، يحسبونها غاية الحب
وغاية التعبير!
لا تقل: إنني أحب؛ وإنني أستمتع بالحب، أو أتعذب وأتألم ثم تحسب نفسك شاعراً، حتى تقول لنا: إنني أحب على لون خاص، وأستمتع بالحب بطريقة خاصة، أو أتعذب وأتألم على لون من ألوان العذاب والآلام. ولا تقل:(أنا أطلب الجمال) وتسكت فلا بد أن تبين لنا ما نوع الجمال أو أنواعه التي تستهويك، وما المعاني التي يشعها فيك هذا الجمال، وماذا تفهم من الصلات بينه وبين غايات الحياة الكبرى، وماذا بينه من الوشائج وبين الطبيعة في كيانها ومراميها
والعقاد وحده في الشعر العربي كله هو الذي يقول لنا هذا في عمق ودقة وقصد، ويصوره بأوضح وأصح ما يستطاع. وأقول (في الشعر العربي كله) وأنا أعني ما أقول، فما يوجد شاعر واحد يجتمع له في شعره العربي ما اجتمع للعقاد، وتتوفر في نفسه هذه الأوتار المتعددة، التي يوقع عليها الحب هذه النغمات كلها، ويخرجها هكذا واضحة سليمة
نعم، يوجد بعض هذه الأوتار، متفرقاً في نفوس الشعراء ولكنها لا تجتمع هذا الاجتماع، ولا تلتئم هذا الالتئام في نفس واحدة، وما يوجد منها متفرقاً لا يبلغ في تفرده وخصوصه وطرافته هذا المبلغ عند أولئك الشعراء
فإذا خطر لأحد أولئك الذين يفغرون أفواههم لسماع هذا الكلام، ويستنكرون تقرير الحقائق وليس لهم من البرهان على إنكارهم إلا إشارات الصم والبكم، فليأتوا بنظائر لكل هذه الأوتار والنغمات لشاعر عربي واحد حتى الآن، أو لعشرة مجتمعين في جميع العصور
وقبل أن نعرف (ما الحب) عند العقاد، لا بد أن نعرف (ما الجمال) الذي يثير هذا الحب، ويدفعه إلى الغزل والتعبير
عرف القراء مما نقلناه عن رأي (شوبنهور) في الجمال، وتعليق (العقاد) عليه، أنه يرى الجمال في (الحرية) وفي العدد الفائت من الرسالة توضيح لهذا الرأي حين يقول:
(رأيي في الجسم الجميل إنه الجسم الذي لا فضول فيه، وأنه الجسم الذي تراه فيخيل إليك أن كل عضو فيه يحمل نفسه غير محمول على سواه
(من هنا جمال الرأس الطامح والجيد المشرئب، والصدر البارز، والخصر المرهف الممشوق، والردف المائل، والساق التي يبدو لك من خفتها وانطلاقها واستوائها، أنها لا
تحمل شيئاً من الأشياء ولا تنهض بعبء من الأعباء)
ويقول من الكلمة نفسها في وصف فتاة:
(على شاطئ الإسكندرية - والمصادفة من أجمل المصادفات - طيارة في الهواء، وفتاة على الأرض هي أولى بالطيران من تلك الحديدة الصاعدة، بل هي تطير ولا يتخيلها الناظر إلا طائرة، تفلت من لحظات العيون، وخطرات الأرواح
(لا تحس العين أنها أدركتها، لأنها إذا أدركتها تأملت فيها، وسرحت في معانيها، فإذا هي بعيد بعيد، أبعد من الفراش الذي يقع عليه الطفل، فإذا هو على الغصن، ويثب إليه في غصنه فإذا هو في الهواء)
وقد عثرت أخيراً في الديوان على امتداد لهذا الرأي، يريد أن تبلغ الحرية بالجمال ألا يشعرنا حين ننظره بتعلقنا وتقيدنا به، بل يطلقنا نسبح في الآفاق، ونسمو على الحدود والقيود
والجميل الحق ما يذهلنا
…
عنه، لا ما فيه للحس إسار
والجمال عوض عن شين كثير من النفوس في هذه الحياة، وتكفير منها عن هذا الشين، كما أنه رمز لآمال الحياة في مستقبلها الموموق، تشير به إلى ما يختلج في صدرها من الشوق للكمال:
أغلى جمالَك في النواظِر أنه
…
عوض لشين في النفوس كثير
وأنا لَهُ منّا المقادةَ أنه
…
في الأرض رمز كمالها المحظور
وفي الجمال غناء عن الدنيا كلها، وهو نعيم قريب كالنعيم المتخيل في الآخرة كذلك، فهو نعيم الدنيا حين يقول:
إن نفوْني اليوم من دنياهمو
…
وأباحوا لي من الزاد المرام
ثم قالوا ما تشأ منها فخذ
…
قلت: هذا. وعلى الدنيا السلام
قلت: هذا، وتطلعت إلى
…
هوة الغيب وفي الثغر ابتسام
كيف لا يبسم من قبلته
…
تنظم الأوطار طرا في نظام؟
وإذا قبلته مستضحكا
…
في تخوم الكون والكون سدام
فهو سخري بالذي ودعته
…
واغتباطي بمقامي حيث قام
وهو نعيم قريب كنعيم الآخرة البعيد حين يقول:
أيها الباحث عن كوثره
…
في السموات. لقد شط المزار
إنما الكوثر ثغر باسم
…
من حبيب لك مأمون النفار
والوجه الجميل، هو (الصدق) في هذه الحياة، الذي ينفي عن النفس الريب والشكوك فيها
لك وجه كأنه طابع الصد
…
ق على صفحة الزمان المئوف
إن يوماً يمر بي لا أراه
…
هو يوم أعده في الريوف
وهو كذلك داعية الرجاء في هذه الدنيا، ومنبع التفاؤل والقبول:
أرى لك أنت فلسفة صراحا
…
بلمح العين أقرؤها جميعا
أذم العيش في ألفي كتاب
…
وتَعرضُ لي فأمدحه سريعا!
والجمال هو الفضيلة، أو الفضيلة هي الجمال:
شرعك الحسن. فما لا يحسن
…
فهو لا يحلو وإن حل الحرام
ليس في الحق أثام بيّن
…
غير مسخ الحسن أو نقص التمام
ما عدا هذين مما يمكن
…
فاستبحه وعلى الدنيا السلام
ولهذا يحلل الجمال كل شئ، ويمنحه الفضيلة والعفة والثناء:
كل الثياب لمن يزي
…
نُ ثيابَه عفٌّ حميد!
والجمال حرم مقدس يحترمه الخصوم والأصدقاء ويلقون لديه السلاح حيث لا تصنع ذلك المعاهدات و (عصبة الأمم) والشرائع والقوانين:
حرم بميدان الحيا
…
ة وملجأ لا يعتسف
والجمال الإنساني يرقرق جمال الكون ويصفيه، ويظهره خلاصة نقية:
لا أرى الدنيا على نور الضحى
…
حبذا الدنيا على نور العيون
هي كالراووق للنور فلا
…
نور إلا صفوها العذب المصون
وهذا الجمال خلاصة جمال الدنيا، وخلاصة تجارب الحياة في مثل الكمال. وله في هذا قطعتان بارعتان: الأولى بعنوان (نشوء وارتقاء)، يتحدث فيها عن جميل كان مولده في الشتاء:
زانك الله بصفو
…
وسلام يا شتاء
طال بي فكر الليالي
…
أو ما فيك عزاء؟
قال لي: هاك فخذها
…
زهرة مني إليك
ذات حسن وحياء
…
ولها فضل لديك
وسمت بالفكر فاقبس
…
فكرة في راحتيك
قلت: حقَّا يا شتاء
…
هي حسن وحياء
غير أني وهي صمت
…
ليس لي فيها عزاء
قال: يرضيك إذن شا
…
دٍ من الطير مجيد
هو للجنة يدعى
…
وله منها نشيد
يعشق الليل وإن لم
…
يك فيه بوليد
قلت: حقَّا يا شتاء
…
هو حسن وغناء
غير أني وهو صوت
…
ليس لي فيه عزاء
قال: يرضيك إذن سا
…
رٍ من البرق بشير
يصدع الظلماء، يزجي
…
عارض الغيث، ينير
فيه من قلبك نبض
…
ومن اللمح سمير
قلت: دعني يا شتاء
…
من شعاع في فضاء
أئذا جاد بغيث
…
كان لي فيه عزاء؟
قال: والشمس فما ظن
…
ك بالشمس ذكاء؟
كلما عدت بها سبّ
…
ح عشاق السماء
قلت: حقَّا يا شتاء
…
هي نور ورجاء
غير أني وهي صبح
…
ما عزائي في المساء؟
قال لي: أنفدت كنزي
…
كله بين يديك
غير ذخر من بني الإنس
…
ان أبقيه عليك
فيه من صبح ومن لي
…
ل قصارى غايتيك
أتراه؟ قلت: حقَّا
…
هو في الدنيا العزاء
هو حب وحياة
…
وربيع يا شتاء!
من بني الإنسان في ذا
…
ت شتاء ولدا
زينة للعين والل
…
ب وللقلب بدا
طاهر كالمزنة البيضا
…
ء صاف كالندى
كنبات الروض مفت
…
ن الحلي جم الحياء
وارف كالظل مُحْيٍ
…
في شذاه كالهواء
يا شتائي فيم إخفا
…
ؤك هذا السر عني
أي روض أي برق
…
أي شمس فيك أعني
أنا مستغن به عن
…
ها فماذا عنه يغني؟
قد تعلمتَ وأيقن
…
ت أفانين السخاء
منذ عشرين وخمس
…
من سني الدهر سواء
تم عندي كل ما تع
…
طي إذا تم العطاء
وجميل كل بدء
…
ينتهي خير انتهاء
وجميل زهرك النا
…
مي على هذا النماء
صدق العلم وقال ال
…
حب حقَّا يا شتاء
سنة الزهر نشوء
…
في المعاني وارتقاء
هذه قطعة لا أجدني مضطراً لشرح ما فيها من الجدة والطرافة، فوق الدلالة على فكرتها المقصودة، وفوق تناسقها الفني مع طبيعة الشتاء التي لا تمنح ذخرها إلا ذرة ذرة على ظن وبخل. فمن لم يحس هذا كله بمجرد قراءتها، فخسارة ألف خسارة أن نضيع الوقت في أن نخلق له إحساساً وما نحن بقادرين. وأما الثانية فبعنوان (الثوب الأزرق) وهي كزميلتها في الطرافة البارعة:
الأزرق الساحر بالصفاء
…
تجربة في البحر والسماء
جرّبها (مُفصّل) الأشياء
…
لتلبسيه بعد في الأزياء
مجوّد الإتقان والرواء
…
ما ازدان بالأنجم والضياء
ولا بمحض الزبد الوضاء
…
زينته بالطلعة الغراء
ونضرة الخدّين والسيماء
…
ولمعة العينين في استحياء
إن فاتني تقبيله في الماء
…
وفي جمال القبة الزرقاء
فلي من الأزرق ذي البهاء
…
يخطر فيه زينة الأحياء
مُقَبّلٌ مبتسم الأضواء
…
مردّد الأنغام فالأصداء
وقبلة منه على رضاء
…
غني عن الأجواء والأرجاء
وعن شآبيب من الدأماء
…
وعنك يا دنيا بلا استثناء
وغير هاتين القصيدتين كثير من الحديث عن هذه الفكرة الصحيحة الطريفة مثل:
وكل ما في الكون من روعة
…
لها نظير فيك حيّ جديد
بل أنت دنيا غير هذي الدنا
…
وكل حب فيك كون وليد
ويقول عن القماريّ:
وللأناسي حسن لا أبوح به
…
هل تعرف الطير ما حسن الأناسي
غنت لزهر وسلسال ولو رشفت
…
ثغر المباسم جنت بالأغاني
لذلك فالكون حفي بهذا الجمال الإنساني فخور به:
فلو لم نولّ القلبَ شطرك لامنا
…
على الجهل كون بالجمال فخور
ويتضح هذا في قصيدة (عيد ميلاد)
تهيأ الكون من قديم
…
ليوم ميلادك السعيد
فعابد الكوكب العظيم
…
أحيي ببشراك يوم عيد
ومولد (السيد) الرحيم
…
وافقه المولد الجديد
يوم تهدَّي على المديح
…
وزفه الخلد بالثناء
فالدهر في عمره الفسيح
…
عوّده البشر والدعاء
والإله حفيٌّ كذلك بهذا الجمال، فقد تبارت الشفاه في مزاياها، وتقدم جبابرة العالمين يُدِلون بقوتهم ونادى العبقريون الملهمون بمزاياهم:
وأقبل سرب الظباء الملا
…
ح رخيم البغام مليح الكحل
فقال وفي قوله لثغة
…
كأنك ترشف منها العسل
لنا القول فيكم رجال الكلا
…
م لنا القول فيكم رجال العمل
لمسنا شفاها ففاضت سنى
…
وجرنا على جائر فاعتدل
ومنا تذوقون طعم الحيا
…
ة وهل طعمها غير طعم القبل
تسمونها قبلة واسمها
…
رحيق الخلود وريا الأمل
فماذا تظنه كان رأي الإله الذي جلس ليحكم في المباراة؟
فأطرق ربهمو لحظة
…
ونادى بأقربهم فامتثل
وقبّل مبسمه قبلة
…
تضرم منها مكان الخجل
وقال: أجل! تلك أغلى الشفا
…
هـ فأصغوا جميعاً وقالوا: أجل!
ومتى برز هذا الجمال الإنساني، فقد بطل كل جمال، حتى نظم الشعر الذي يستعز به العقاد، فهو يخاطب (جيرة البحر) بعد أن سماهن (المعاني الحية) وبعد أن قال لهن: إن الإله والبحر والشمس وهبوا لهن هبات وافرة:
ورأيت رفرفة النسي
…
م على الجسوم الطائرة
فالآن ماذا تنظرون
…
من النفوس الشاعرة
لم يبق في كنز الخيال
…
بقية من نادرة
برزت معاني الشعر في
…
ثوب الحياة الظاهرة
أنتم معانيه فما
…
تغني النفوس الحائرة
أنتم عرائسه وها
…
تيك المسارح عامرة
هيهات ما لممثل
…
أو شاعر من خاطرة
ما الترجمان وتلك أسْ
…
رار التراجم سافرة
فإذا بخلنا بالقصي
…
د فعاذر أو عاذره
ومتى كان ذلك شأن الجمال الإنساني البارع، فهو يخاطب جميلا:
يغنيك حسن أنت لابس تاجه
…
عن دولة السفاح والإسكندر
وما على الفنان إذن إلا أن يسمع نصيحته الشاعرة:
قسم حياتك بين حسن بارع
…
يذكي الحياة وحكمة تنميها
ما في سوى الحظين من أمنية
…
للمرء ينشدها ويستبقيها
وإنه ليعيش هكذا؛ وقد فهم الجمال، وعرف صنوفه، ولاحظه في كل جميل، وانتهى فيه إلى رأي، وعلم غاية الحياة منه وقصد الطبيعة فيه، على هدى وبصيرة
هذه أبيات متفرقة أو قصائد كاملة عرضناها عرضاً سريعاً وهي ليست كل شئ في ديوان العقاد عن مجرد (تعريف الجمال) عنده، وهي وحدها ذخيرة نفسية وغزلية، لو قالها شاعر وسكت، لكان شاعراً كبيراً ممتازاً، وهي مع ذلك نصف (المقدمة) للكلام عن (غزل العقاد)!
وما من شك أن الإحساس بالجمال هكذا، عمل متعب عسير، غير ميسور لكل الطبائع، وهو في حاجة إلى طبيعة عميقة، ونفس فسيحة، وشعور واغل في قلب الحياة، يسمع نبضاته، ويحس آماله، ويستشعر أشواقه، ويشاركه خفقه وهو ينبض بالجمال
وقد استغرق هذا حديث اليوم كله، فأما رأي العقاد في (الحب) فسأتناوله في حديث آخر، وحينئذ نخلص إلى (غزل العقاد) في هينة واطمئنان
(حلوان)
سيد قطب
حول أدب الرافعي
بين القديم والجديد
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
- 5 -
لقد أخذنا على كاتب مقالات (بين العقاد والرافعي) أنواعاً من الأغلاط ذكرنا لكل منها أمثلة عدة دون استقصاء. فهناك أغلاط اضطراب في التفكير كالتي ذكرنا في كلمتنا الثانية؛ وهناك أغلاط جور ومحاباة كالتي عددنا في كلمتنا الثالثة؛ ثم هناك أغلاط ضعف في الفهم أخطأ بها الكاتب لب الموضوع كالتي فصلنا في الكلمة الرابعة. وكلها تدل دلالة واضحة على أن كاتب تلك المقالات لم يكن فيها يفكر بعقله وإنما كان يفكر بهواه.
إلا أن أغلاط التفكير بالهوى ليست كلها في الدلالة أو في التبعة سواء. فان ذا الهوى المتعصب لمذهب أو لكاتب قد يتأثر عقله بعصبيته وهواه من حيث لا يدري، فيقع في الخطأ من حيث لا يقصد، وتكون آثار الهوى والعصبية ظاهرة في كتاباته وأحكامه لكل إنسان سواء هو ومن لف لفه. مثل هذا لا يزيد الهوى والعصبية على أن يفسد عليه تفكيره فتصبح أفكاره وآراؤه وأحكامه غير ذات قيمة، ولكن من غير أن يحمل في ذلك تبعة خلقية تذكر.
أما إذا تأثر ذو العصبية والهوى بعصبيته وهواه إلى الحد الذي يشعر بأثرهما في رأيه وحكمه ثم لا يقاومهما مقاومة مجدية ولكن يتابعهما ويطاوعهما فيما يوحيان إليه من إخفاء ما لا يوافقهما من الحق، وتحريف ما يخالفهما من الواقع، فأنه عندئذ يكون قد جمع على نفسه ضعفين: ضعف العقل وضعف الخلق؛ وتحمل في سبيل هواه تبعتين: تبعة الخطأ وتبعة سوء النية فيه.
وقد كان فيما نبهنا إليه بالفعل من أغلاط ذلك الكاتب غلطتان لا يمكن حملهما على مجرد الخطأ العقلي. وقع في أولاهما حين أراد أن يعتذر عن تغيير رأي كان أرتآه، فيه بعض مدح للرافعي، ووقع في أخراهما حين أراد أن يعتذر عن سوء فهم لبعض ما قال الرافعي نبهه إليه الفاضل الفلسطيني علي كمال. وقد اعتذر في كلا الموقفين بما يخالف الواقع:
اعتذر في الموقف الأول بأنه لم يكن حدد نوع الذهن حين قال إن الرافعي أديب الذهن، والواقع أنه كان حدده تحديداً واضحاً، وحدده بنفي بعض الأقسام التي قسم إليها الذهن عند اعتذاره ذلك. واعتذر في الموقف الثاني باضطراب وقع خطأ في ترتيب الجمل التي عبر بها عن رأيه، والواقع أنه لم يكن في ترتيب جمله تلك أي اضطراب، ولم يكن له عذر في مخالفته الواقع في ذينك الموقفين، لأنه كان يستطيع الاستيثاق مما قال أو كتب بالرجوع إلى ما كان قد خطه قلمه في موضعه من كلامه إن كان ضعف الذاكرة هو الذي جعله ينسى حقيقة ما كان قد كتب ولم يكن قد مضى عليه أكثر من أسبوعين. لكن الذي به ليس هو ضعف الذاكرة ولكن صعوبة أو استحالة يجدها في الاعتراف بحق إذا كان عليه، فاعتذر بما اعتذر به رغم مخالفة الواقع اعتماداً فيما نظن على أن القراء يقل فيهم من يكلف نفسه عناء مضاهاة ما زعم بما وقع منه بالفعل.
لكن هاتين السقطتين ليس لهما فوق دلالتهما النفسية أية أهمية ذاتية إذ هما منه وإليه. هو أخطأ وهو يجتهد في ستر خطئه عن الناس ولو بشيء من التوسع في تحديد الصدق. فإذا كان قد فارق الصدق بهذا فالضرر لاحق به هو لا بغيره. أما إذا كان ضرر ذلك يعود على غيره من قريب أو من بعيد فان وجه المسألة يتغير بقدر ذلك. ويصبح وجه المسألة أشد تغيراً إذا كان الذي يتناوله بالتحريف والتلفيق كلام غيره لا كلامه هو. أما إذا كان الكلام المحرف أو الملفق هو كلام شخص يكرهه قد تصدى هو لنقده وكان التحريف والتلفيق من شأنه أن يؤذي الشخص المنقود كما وقع للرافعي، فإننا عندئذ نصبح أمام مسألة جديدة تتعدى الإنصاف في النقد إلى الأمانة في النقل، وتتجاوز الخطأ في الرأي إلى التدليس العمد وإلى محاولة النيل من الخصم في النقد الأدبي عن طريق غير شريف.
ومقالات (بين العقاد والرافعي) لم تبرأ من هذا العيب. ولعلنا كنا نعفو فلا ننتبه إليه لولا غرور ومكابرة يبدوان فيما يكتب صاحبها، ولولا أن صاحبها جعل من الفروق الأساسية بين مدرستي (الرافعي والعقاد) امتياز الثانية على الأولى بما سماه (الصدق الجميل) من ناحية، وتصحيح الأمزجة والنفوس بالأدب وللأدب من ناحية أخرى. فنحن مضطرون إلى تبيين ظاهرة كالتي أشرنا إليها، لا لأنها من الواقع فحسب، ولكن وفاء بحق النقد واختباراً لتينك الميزتين أمتحققتان هما في الكاتب كنموذج للمدرسة التي ينتسب إليها أم غير
متحققتين
والزلات التي سقط بها الكاتب وجانب فيها الصدق يصح تقسيمها إلى قسمين: قسم يتعلق بتحريف ما كتب إخوان الرافعي عن الرافعي، وقسم يتعلق بما كتب الرافعي عن نفسه، وهو أهم الاثنين
ونحن إذ نتعرض لتحريف الكاتب بعض ما قال الأستاذان سعيد العريان ومحمود شاكر لا نريد بذلك أن ننصفهما، فهما قادران على الانتصاف حين يريدان، ولكن نريد أن ننصف الرافعي الذي استعان الكاتب على الإساءة إليه بتحريفه قول صديقيه، متخذاً من قولهما المحرف شاهداً عليه
وأول ما يلقي الناقد من هذا النوع من سقطات ذلك الكاتب تزُّيده فيما قال العريان في موضعين على الأقل في مقاله الأول: أولهما يتعلق برغبة الرافعي عن شراء (وحي الأربعين) وهي نقطة تافهة لولا أن صاحبنا المحلل النفسي مولع باستخراج الخطير من التافه. وثانيهما يتعلق بالبواعث التي دعت الرافعي لنقد (وحي الأربعين)
وقد قدم الكاتب بين يدي ما اقترف قوله: (إنما يعنيني اليوم ما كتبه الأستاذ سعيد العريان! ففيما كتبه وهو أخص أصدقاء الرافعي مصداق لكثير مما تخيلته فيه). ثم انتقل إلى تفصيل ما أجمل في هذه العبارة فقال:
(في إباء الرافعي أن يشتري كتاب وحي الأربعين مع حاجته لنقده ما يشير إلى ضيق الأفق النفسي الذي كان يعيش فيه، وتصوير للون من الحقد الصغير قلما يعيش في) نفس (رحبة الجوانب الخ)
فأنت ترى كيف أجدت مطالعاته في مباحث علم النفس الحديثة هذه المقدرة على استنتاج الخطير من التافه. وسنسلم له أن كل ما استنتج من ضيق الأفق النفسي والحقد الصغير أو الكبير ينتج من إباء الرافعي شراء كتاب وحي الأربعين مع حاجته لنقده. سنسلم له تلك النتيجة من هذه المقدمة! لكن بقى أن نثبت المقدمة حتى تصح النتيجة وإلا كان هذا الرجل يفتري على الناس مرتين: يفتري الشتم ويفتري الأسباب إليه. وقد اعتمد كما ترى في ثبوت هذه المقدمة على ما كتب أخص أصدقاء الرافعي، سعيد العريان. فإذا صح هذا فله بعد ذلك أن يستنتج منها ما شاء طبق وحي قراءته الحديثة في علم النفس. وواضح أن
مدار الاستشهاد في تلك المقدمة ليس هو إباء الرافعي أن يشتري كتاب العقاد - فما نحسب العقاد ولا قطباً يشتريان شيئاً من كتب الرافعي - ولكن موضع الاستشهاد هو إباء الرافعي شراء الكتاب (مع حاجته لنقده). فبعبارة (مع حاجته لنقده) هي مدار الاستشهاد في الواقع. وعمدة قطب في إثبات هذه الحاجة عند الرافعي هو سعيد العريان
لكن سعيد العريان لم يقل شيئاً من هذا بل أخبر بعكس هذا، أخبر في مقاله الخامس والعشرين (رسالة 240) أنه هو حرض الرافعي على نقده (وحي الأربعين) انتصافاً لمخازن ولدار العلوم، وأن الرافعي أبى أولاً ثم أجاب على شرط أن لا يكون هو مشتري الكتاب (لأن عليه قسما من قبل ألا يدفع قرشاً من جيبه في كتاب من كتب العقاد. . .!)
ولسنا ندري متى أقسم الرافعي ذلك القسم، وليس هذا بمهم الآن، إنما المهم أولاً أن الرافعي لم ير حتى في رغبته في إرضاء صديق ما يبرر نكثه بذلك القسم، وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أن الرافعي أقسم حين أقسم عن عقيدة، واستمسك بذلك القسم حين استمسك عن عقيدة، وهذا ضد ما ذهب إليه قطب في أن الرافعي كان يصدر في أدبه عن غير عقيدة. ثم المهم ثانياً أن الحاجة إلى نقد (وحي الأربعين) لم تكن بالرافعي، ولكن بسعيد العريان. العريان حرض الرافعي على النقد كما ذكرنا ولرغبته في رؤية الأديبين الكبيرين يتصاولان. لكن المسألة على هذا الوضع المتفق مع ما أخبر به صديق الرافعي، ليس فيها شيء يشهد لقطب في شيء مما يريد. فماذا يفعل سيد قطب وهو يريد أن يستشهد لنفسه بصديق الرافعي على الرافعي؟ ينقل حاجة العريان إلى نقد (وحي الأربعين) فينسبها إلى الرافعي، ويترك الخبر بعد تحريفه منسوباً إلى العريان كما كان، فيكون العريان بذلك هو الذي شهد على الرافعي، ويتم لقطب ما يريد من الاستشهاد ولا بأس في ذلك على ما يظهر عند المدرسة الجديدة التي يمثلها سيد قطب، والتي يميزها عن المدرسة القديمة مذهب (الصدق الجميل)
أما الموضع الثاني الذي تزيد فيه قطب ليستشهد بالعريان على الرافعي فقوله من نفس المقال:
(وفي البواعث التي تدعوه لنقد) وحي الأربعين (كما صورها صديقه ما يصور نظرة الرجل إلى النقد والأدب والغاية منهما ومدى نظرته العامة للحياة واتساع مداها في نفسه،
وهو لا يبعد كثيراً عن المدى الذي تصورته له) وليس في هذه العبارة شيء حتى تأتي إلى آخرها فتنقلب دلالتها عندك ويصبح الرافعي المسكين بين صديقه وعدوه قد اجتمعا في الجملة على تجريحه وذمه وكاتبها لا يكلف نفسه بها شيئاً، فهو يلقيها دعوى عريضة ثم يتحقق بعد ذلك من صحتها من شاء أو لينقضها من شاء! أما هو فلا يكلف نفسه من إثباتها شيئاً، ويكفيه أن ينتفع فيها بالإيحاء النفسي معتمداً على تصديق القارئ إياه فيما يلقي في روعه عن تصوير صديق الرافعي لبواعث الرافعي على نقد وحي الأربعين. وأكثر القراء حتى من أنصار الرافعي لا يجشمون أنفسهم اختبار صدق دعوى سيد قطب هذه بعرضها على ما قال العريان في موضعه من فصوله في تاريخ الرافعي، فيمر أكثرهم وقد وقر في نفوسهم شيء من هذا الاتفاق ولو في الجملة بين صديق الرافعي وعدوه على تجريح الرافعي.
إنك تقرأ تاريخ نقد الرافعي وحي الأربعين فيما قصه العريان في فصليه الخامس والعشرين والسادس والعشرين فلا ترى أساساً لهذا الذي يدعيه قطب، بل ترى شيئاً ينقض في صميمه دعواه هذه وينقض غيرها مما ادعاه. يعرض الرافعي على العريان ومخلوف أن يختارا أجود ما في الديوان لينظر فيه ثلاثتهم فما اتفقوا عليه فيه جعلوه حكمهم على الديوان كله. وليس وراء هذا في إنصاف خصم لخصمه في الأدب مذهب. فلما استبطأهما فيما انتدبهما له قال (أحسبكما لم تجدا ما تطلبان ولن تجدا. . . إذن فلنقرأ الديوان معاً من فاتحته فما أحسب الشاعر يختار فاتحة الديوان إلا من أجود شعره. . .!) وآخر قوله هذا مظهر آخر لنفس الرغبة في إنصاف العقاد وإن كان أولهما يدل على عقيدته في أدبه ويستشهد لها ضمناً بإبطاء أديبين في اتفاقهما على جيد في الديوان ينتقيانه، كأن الجيد الذي يتفق على جودته قليل في ذلك الديوان. سيقال طبعاً إن هذا ليس بحكم يعتد به على الديوان، فلو كان الأديبان الناظران فيه من المدرسة الجديدة لأسرع إليهما الاتفاق على جيد كثير. حسن. ولسنا نريد بما قلنا حكماً على الديوان ولكن نريد حكما على الروح التي نظر بها الرافعي وأخواه فيه، وهي روح إنصاف ورغبة في إنصاف من غير شك على نقيض الروح الذي نظر وينظر به سيد قطب ممثل المدرسة الحديثة في أدب عميد المدرسة التي يلقبها بالقديمة ولا يعجبه من أدبها ولا من روحها شيء.
نظر الرافعي وأخواه في ديوان العقاد معاً ساعات طووه بعدها، وأشار الرافعي على مخلوف فكتب، وهاج به العقاد ساخراً منه ومن دار العلوم، ولام مخلوفاً إخوانه على تهييج العقاد بدار العلوم، وألقى العريان تبعة ذلك اللوم على الرافعي يريد تحريكه لنقد الديوان؛ وتحرك الرافعي للنقد بعد تردد، ولكنه بعد إذ عزم مضى لا يبالي بما كان للعقاد يومئذ من سلطان مكنه له الأدب السياسي لدى القراء، ولا يعتبر إلا مذهبه في الأدب وطريقته، وسواء عنده أكان رأيه هو رأي الجماعة أم لا يكون ما دام ماضياً على طريقته ونهجه كما يصف العريان.
أي شيء في هذا يا ترى مما يمكن أن يؤخذ على الرافعي من قريب أو من بعيد؟ لا شيء! لا شيء يمكن أن يراه الناقد إلا ناقداً ينظر في أعمال الرافعي بمجهر البغضاء ثم لا يرى إلا ما يصوره الخيال. إنها حكاية واقعية غير عادية تصور الرافعي أستاذاً في مدرسته يلقي على تلميذين وزميلين له درساً عملياً في النقد وفي ما ينبغي للناقد من نزاهة في الحكم، وتحرز من الهوى عند الخصومة وشجاعة في المنازلة إذا لم يكن من المنازلة بد، وتضحية في سبيل الغاية، واستمساك بما يعرف أنه الحق. أما ما ارتآه العريان من تحفز كان بالرافعي لعراك العقاد فالعبرة فيه بأن ذلك لم يسرع بالرافعي إلى تحيف العقاد وظلمه في ديوانه أو هضمه. وفي رأينا أن هذا مظهر لفارق أساسي آخر بين المدرستين: مدرسة الأدب الأخلاقي، ومدرسة الأدب غير الأخلاقي اللتين تتنازعان توجيه الأدب الآن، وهو فارق نعرف أثره في كتابة المنتسبين إلى كل من المدرستين، نعرفه في نزوع شاكر والعريان إلى الإنصاف حتى من أنفسهما وصاحبهما، وقد يغلوان في ذلك أحياناً كما يشتد المدرس على ابنه التلميذ في فصله مبالغة في العدل بين طلبته، وتعرفه في نزوع سيد قطب إلى التزيد والتحريف والإسراف.
أما شاكر فأنه أيضاً لم يسلم مما أصاب العريان من تحريف لقوله في الرافعي. وقد مثل معه سيد قطب حكاية عمرو مع أبي موسى من جديد. لكن يكفينا الآن ما كتبنا في تبيين القسم الأول من مغالطات قطب وتحريفاتها لننتقل إلى تحريفه أقوال الرافعي وهو أهم القسمين.
إن آخر مثال ضربناه في المقال الماضي لسوء فهم قطب هو في الواقع أول مثال لتحريفه
كلام الرافعي ليستقيم له وجه الاستهزاء به والزراية عليه. فقد ضرب الرافعي بنهر الكوثر يجري بين شاطئين من ذهب على أرض من الدر والياقوت مثالاً للشعر الخالد المطرد بقوله المحب في حبيبته، فجاء قطب وقال إن الرافعي لا يتشكك في أن نهراً يجري بين شاطئين من ذهب على الدر والياقوت (أجمل) من نهر يجري بين شاطئين من العشب الأخضر على أرض من الرمل والطين. ومهما تكن نتيجة المفاضلة بين النهرين عند المدرسة الجديدة من ناحية الجمال، فان نتيجة المفاضلة بينهما من ناحية الخلود والاطراد ليست موضع شك عند أحد. ولو أخذ قطب الكلام على ظاهره لم يكن فيه مغمز يغمز الرافعي به، فلم يجد بأساً في أن يضع الجمال بدلاً من الخلود والاطراد في كلام الرافعي ليصل إلى ما يريد. ولو غير مدرس للغة العربية فعل هذا لالتمسنا له العذر عن طريق جهله بمعاني الكلمات على وضوحها وبساطتها في هذه الحالة، لكن سيد قطب أخصائي في اللغة العربية وأديب وشاعر فلا يمكن أن يلتمس له العذر من هذه الناحية، ولم يبق إلا أن يكون تعمد التحريف في كلام الرافعي ليصل إلى ما يريد. فإذا أصر على ما فعل، وعدها على الرافعي غلطة بغلطات كخبر (الأسدي الذي يخترق شوارع القاهرة) في مثل زائر القاهرة الذي ضربه ليخلص إلى أن الرافعي (لم يحس الإحساس بجمال (الطبيعة بل. . . لم يوهب الطبيعة التي تحس هذا الجمال) - إذا أصرَّ قطب على زلته إمعاناً في تشويه الرافعي عند القراء كما فعل في مقاله الحادي عشر زاد ذلك في شناعتها وسقط بها في هاوية مالها من قرار.
وإلى مثل هذا عمد قطب حين أراد أن يتكلم عن حب الرافعي ليثبت أنه لا يعرف ما الحب وأن ليس له قلب يقول الرافعي:
(نصيحتي لكل من أبغض من أحب ألا يحتفل بأن صاحبته (غاظته) وأن يكبر نفسه عن أن يغيظ امرأة. إنه متى أرخى هذين الطرفين سقطت هي بعيدا عن قلبه، فإنها معلقة إلى قلبه في هذين الخيطين من نفسه). وهي قطعة مقتبسة من كتاب (رسائل الأحزان) وهو تاريخ حب للرافعي انقلب إلى بغض كما بين ذلك سعيد العريان في فصوله لمن لم يكن قرأ ذلك الكتاب، فالقطعة تدور كلها وتتوقف استقامة معناها على كلمة (أبغض) الواردة في أولها. لكن سيد قطب لما لم يجد فيها كما هي موضعاً لتهكمه ولا دليلاً على مزاعمه عمد
إليها فحرف معناها بأن أسقط منها ما يؤدي معنى البغض وراح يصيح: (أرأيت؟ - إن الحبيبة (بعد انقطاع الحب) لا تتعلق بنفس من كان يحبها إلا بخيطين اثنين: غيظها له وغيظه لها! ولا شيء وراء ذلك!) ثم طفق يعلق على ذلك ما شاء له الحنق والبغض، وانتهى به الأمر في مقاله الحادي عشر إلى أن يقرر في غرور وتوكيد وإصرار:(فحين يقول الرافعي إن الحبيبة لا تتعلق بقلب حبيبها (بعد انتهاء الحب) إلا بخيطين اثنين هما غيظها له وغيظه لها. . . يدل على أنه لم يحس الحب يوماً ما ولم يحسن ملاحظته في غيره، بل لم يكن ذا طبيعة قابلة للحب، ولا مستعدة لتلقي دفعاته وانفساحه ولو كتب بعد ذلك عن الحب ألف كتاب). وتستطيع أن تتبين مبلغ إسرافه بهذا الكلام على الرافعي إذا وضعت فيه بدلا من (بعد انتهاء الحب) كلمات تؤدي معنى الرافعي مثل (بعد انقلاب الحب إلى بغض). هنالك يتضح مبلغ جناية هذا الرجل على الرافعي وعلى الحقيقة وعلى النقد بذلك التغيير الطفيف الذي أدخله على كلام الرافعي جرياً فيما يظهر على قاعدة (الصدق الجميل) الذي يفرق عند هذا الناقد الجديد بين مدرسة الرافعي ومدرسة العقاد. . .
بقى مثال واحد ثم نغلق هذا الباب. انتقد الرافعي بيت العقاد:
فيك مني ومن الناس ومن
…
كل موجود وموعود تؤام
بما انتقده به وأخذ على العقاد، وإن في لفظ شديد، أنه لم يحترس مما يدخل في عموم (كل موجود) مما لا يليق أن يكون في حبيبة محب ذي ذوق. وأراد قطب أن يسخف نقد الرافعي فزعم أن الرافعي قال إن (كل موجود هو البق والقمل والنمل. . . الخ) ولو نسب إليه أنه قال:(إن من كل موجود كذا وكذا. . . الخ) لكان كلاماً ظاهر الصدق ليس فيه موضع للتسخيف الذي يريده صاحبنا والذي لا يتأتى إلا إذا سقطت (من) الدالة على البعضية. فلم ير صاحبنا مانعاً من إسقاطها! وهل هي إلا حرف ذو حرفين يتحقق بإسقاطه شيء من تصحيح الأمزجة والنفوس؟
وقد رد أخونا محمود شاكر هذه الغلطة من سيد قطب إلى أنه لم يفهم الفرق بين (من) في كلام الرافعي و (من) في كلام العقاد. ووددنا لو أن الأمر كان كذلك فان عدم فهم الحرف أخف من تعمد إسقاطه، لكن سيد قطب خريج دار العلوم وأخصائي في اللغة العربية يعلم منها تلاميذه كل يوم مثل هذا الذي يعتذر عنه محمود شاكر بأنه يجهله. فلم يبق إلا
الاحتمال الآخر على ما فيه.
تلك ثلاثة أمثلة حرف فيها صاحبنا كلام الرافعي تحريف الحاذق الماهر: تحريفاً طفيفاً من حيث اللفظ عميقاً من حيث المعنى، ورتب على ذلك من النتائج الخطيرة ما لا ينتج من كلام الرافعي، فهو قد تجنى على الرافعي مرتين: مرة بذمه ذماً بالغاً باطلا، ومرة بتحريف كلامه لتبرير ذلك الندم. فصدّق بذلك وبأغلاطه الأخرى ما نبهنا إليه من قبل من انزلاق مخاصم الحق وتورطه في أغلاط ومهاو ما كان لولا معاداته الحق ليتردى فيها وينتقم بذلك من نفسه للحق أبلغ انتقام.
محمد أحمد الغمراوي
الفروسية العربية
للميجر كلوب
ترجمة الأستاذ جميل قبعين
(تتمة)
وقد روى لي سمو الأمير عبد الله الحادث التالي: عندما كان الملك الراحل الحسين شريفا على مكة: كانت السلطة على البدو بيده رغم حكم الأتراك؛ وفي يوم من الأيام بينما كان الشريف مع ولده الشريف عبد الله سائرين وقافلة في الصحراء أراد الشريف أن يسبق القافلة ليختار محلا لإقامة الخيام - فذهب معه ولده حتى وجدا محلا مناسبا تحت شجيرات، وكانت بجانبهم إبل ترعى بحماية ولد وأخته الصغيرة، وكعادة العرب ساءل الشريف الولد إلى أي قبيلة ينتمون، فأجاب الصبي من البقوم، فقال له الشريف (ألا تخاف أن ترعى على حدود بني عتيبة الذين قد يأخذون إبلكم) وكان الصبي منبطحا على ظهره يلوح بقدميه في الفضاء فأجاب (أيها الشيخ المجنون البارد، أنت لا تفهم) فأجاب الشريف: قد أكون مجنونا ولكني لم أعرف السبب بعد. فأجاب الولد قائلا (ألا تعلم أنه ما دام الحسين على السرج فنحن لا نخاف الغارات) وعند هذا الحد أقبلت القافلة فعرف الولد أن الذي كان يكلمه هو الشريف حسين، فخاف كثيراً ولكن الملك الراحل طمأنه وسر من هذه الشهادة غير المقصودة. وبقي كل سنة يطلب الولد وأخته إلى مكة ويعيدهما إلى أهلهما مع النقود والملابس.
لقد قلت إن إحدى صفات البدوي القيام بأعمال غريبة لإثارة الإعجاب - ومن ذلك عادة الجاهلية. يحدث أن يعتدي على شرف بدوي أو غير ذلك من الأمور التي تستلزم الترضية، ويرفض البدوي الترضية التي يقدمها المعتدي ويصر على الأخذ بالثأر - وعندها يجتمع شيوخ القبيلة في شبه وفد يذهب إلى بيت المعتدى عليه، وبطبيعة الحال يقدم لهم طعاماً يرفضون تناوله قبل أن يعد بإجابة سؤلهم فيعد بذلك وبعد انتهاء الطعام يشرحون فوائد الصلح إلى آخر ذلك فيتنازل البدوي عن حقه كاملا. فاتهام العرب بالطمع والجشع أمر تنقضه الحقائق، والقصص التي رويتها لكم قمينة بإعطائكم فكرة صحيحة عن
العرب والبدوي من هذه الناحية. إن إلحاح البدوي في طلب حقه غريب، ولكنك إذا ما التجأت إلى كرمه كقولك أعفني يا أخا فلانة - فأنه يتنازل عن دَينه. ولعلنا لم ننس قصة هيرودس مع ابنة شالوم التي طلبت أمنية أجابها إليها قبل أن يعرف ما هي تلك الأمنية، وقد كانت رأس يوحنا المعمدان وقد كان هيرودس في شرق الأردن.
الخلاصة
ولكي نجمع ما سبق نقول بأن الفروسية هي نظام حياة البدوي اليومي وأهم مميزاته:
1 -
تمجيد الحرب المبني على أساس طلب العلى والقيام بأعمال البطولة لا بكسب المعركة والحرب.
2 -
احترام يشوبه الغزل للمرأة المفروض فيها الأنوثة الكاملة والمتممة للرجل مع عدم مساواتها له. والنظر إليها كتسلية للرجل والحكم على أعماله.
3 -
الكرم ومساعدة الضعيف لأن هذه الصفات فرصة للقيام بأعمال غريبة تثير الإعجاب وتقرب من الخيال.
4 -
وكنتيجة لهذه الصفات نشأت عادة التنافس بين الفرسان حتى أدى ذلك إلى نزاع داخلي في القبيلة.
5 -
عدم الاهتمام بالمجتمع لتطلبهم المجد الشخصي.
6 -
الفقر الدائم مع احتقار حياة العمل الشاق والبخل وبعكس هذا تجد أن الصفات المميزة للحضر هي:
1 -
كره الحرب والدفاع بشدة إذا ما هوجم. همه الأول ربح المعركة دون الاهتمام بالطريقة، شريفة كانت أو غير شريفة.
2 -
تطبيق النظرية القائلة بعمل الكل لأجل المجتمع.
3 -
عدم الاهتمام بالمرأة وتكليفها بالأعمال الشاقة والنظر إليها كمصنع للأولاد ووسيلة للربح. وقد ترتفع منزلتها عند الحضر فتصبح مساوية للرجل ولكن ليست المتممة له
4 -
نظرة الإعجاب إلى العمل الشاق المتواصل والعطش الشديد إلى جمع الثروة. ولهذا أرى أن نبعد عن أذهاننا نحن الأوربيين المعنى الخيالي الغرامي الذي يصوره لنا خيالنا عن كلمة الفروسية، لأن الفروسية هي النظام الخاص لحياة البداوة الذي يميزها عن حياة
الحضر
نظرية
إن كل بحث عن الشعوب القديمة يكون ناقصاً مملاً مدرسياً ما لم تحاول أن تربطه بحياتنا اليومية الحاضرة. لا مراء في أن الحضارة الرومانية هي أولى الحضارات التي غزت أوربا وقد كانت حضارة زراعية، وتتكون نظريتهم عن الحرب في أن الفرد يجب أن يفنى في سبيل المجموع وأن الحرب خدعة. وفي القرن السابع ظهر الفتح الإسلامي حاملا معه روح الفروسية - روح الشرق - الروح التي تثير الإعجاب وتهيج النفوس. فغزت هذه الروح جميع البلدان التي اتصل العرب بها، وانتشرت بين سكانها. ولكن إذا نظرنا إلى الفاشستية اليوم نرى أنها احتفظت بالروح الرومانية القديمة بل تطرفت بها وهذه الروح تتنافى مع الروح العربية - روح الفروسية
غزا العرب أسبانيا وفرنسا حتى تور فانتشرت بالبلدين روح الفروسية، ومن فرنسا تسربت هذه الروح إلى إنكلترا ولكنها لم تتعداها - وقد يكون هذا هو السبب في مقاومتنا لروح الدولة الكلية المتطرفة والتي هي عماد الدولة في كل من روسيا وإيطاليا وألمانيا وهي البلدان التي لم تتصل بها ولم تنتشر فيها روح الفروسية. فان صح هذا ألا يكون مبدأ الحرية الفردية الذي نتمسك به وندافع عنه هو تراثنا من العرب؟ بالرغم عن التطورات الحديثة واتباعنا نظرية أن الحرب خدعة - فأننا ما زلنا نحافظ على روح الفروسية فيما نسميه اليوم (الألعاب الرياضية)
إننا نخطئ خطأً فاحشاً إذا ما ظننا أن العرب كلهم بدو، فأكثر العرب اليوم مقبلون إقبالا عظيما على درس الحضارة والمدنية الأوربية برغم نظام الفردية بينهم - وقد لا تمضي فترة قصيرة حتى نراهم يسيرون والأوربيين جنباً إلى جنب في ميدان الحضارة. إن تجاربي السياسية قليلة، ولكني قمت ببعض المهام الصغيرة مع الحكومة السعودية. ولقد كنت أظن أن التفاهم معهم صعب عسير ولكني سرعان ما غيرت هذا الظن إذ وجدت أنني أنا نفسي صرت أحسدهم. إذا صارحتهم - صارحوك. جرب دائما أن تكون معاملاتك مع العرب مبنية على الشرف والأمانة. ويجب ألا يعزب عن بالنا أننا ورثنا عنهم النظرية التي تهمنا نحن الإنكليز بنوع خاص وهي (إن لعب اللعبة أحسن من ربحها)
أسئلة بعد المحاضرة
سير رونالد ستروس - هل يتغنى البدو بالشعر الرمزي؟ وهل هناك قصائد جديدة؟
المحاضر - البدو يجهلون الشعر الرمزي ولكن القصائد تتلى في كل خيمة؟
سير برسي كوكز - ما الذي يمكن الإنسان عمله إذا أراد بدوي معدم أن يذبح شاة لإطعام ضيف؟
المحاضر - من الصعب معرفة ما يمكن عمله، ولكني أرى أنه يكون مضطراً إلى محاولة إقناعه بأن يتحول إلى فلاح (ضحك)
مستر ي رانكن - هل تجدون صعوبة في حفظ النظام مع الجنود الأغرار من البدو
المحاضر - ليت الوقت يسمح لي ببحث هذا السؤال. ولكني أقول إننا نجد صعوبات جمة في بادئ الأمر
والنظام مع البدوي يختلف طبعاً عما هو عليه مع الفلاح. لأن البدوي ديمقراطي بطبعه، فالضابط والجنود يأكلون من صحن واحد ويشربون القهوة معاً. والبدوي يفخر بانتمائه إلى القوة التي توافق هواه. وإرهابه بأخذ سلاحه أو بإخراجه من القوة يؤثر فيه أكثر من أي عقاب آخر. ولكن طلبهم المجد الشخصي يولد الحسد فيهم ويسبب بعض المتاعب
لورد ونترتون - أظن، سيداتي وسادتي، أنه لم يبق لي إلا أن أشكر المحاضر بلسان كل فرد منا على محاضرته القيمة النفيسة وأحب أن أقول إن نظريته حول الارتباط بين العرب والإنكليز توافق نظريتي تماماً. إذ أنني أرى أن هنالك مكانين يمكن الإنسان أن يعيش بهما سعيداً وهما البادية وهذه البلاد. ولكن للأسف يوجد فرق واحد: أن البدوي إذا هوجم يستطيع التقهقر إلى صحرائه حيث لا مطمع لأحد هناك، ولكننا إذا هوجمنا فقد يحتل العدو بلادنا. وفي هذا درس علينا أن نحفظه. هذه نظرية قد تشرح قول بعض الأوربيين عنا: إننا مجانين. ولماذا وكيف نصادق كثيراً من الشعوب الآسيوية.
المترجم
جميل قبعين
أنشودة
(ليتها تعيها إلى الربيع المقبل!)
للأستاذ صالح جودت
كان ميعادُكِ في هذا الربيعْ
…
ثم أخلفتِ، فكان الموتُ لي
ضاع عمري في غرام لن يضيعْ
…
فاذكريه في الربيع المقبلِ
الربيعُ الآن؟ مالي لا أرى
…
بعد إخلافكِ، ما كنتُ أراهْ؟
هاهو الرَّوضُ، أراه مُقْفِرَا
…
ما به من رَونق. . . إلا ثراهْ!
هاهي الدَّوْحاتُ صفراَء الذُّرَى
…
تتلوَّى بين أغصانٍ عُرَاهْ
هاهو الينبوعُ. . لكن. . ما جرى؟
…
خبريني يا غرامي، ما اعتراه؟
أهُو اليومَ كما نعهدهُ؟
…
ربما كان لغيري ينجلي
أنا مَنْ قد فاته موعدُهُ
…
فاذكريه في الربيع المقبل
كانت الزرقةُ ثوباً للسماءْ
…
كانت الخضرةُ ثوباً للأدِيمْ
كان في الروض أزاهيرٌ وماءْ
…
كان في الدَّوْح رجيِعٌ ونسيمْ
كان في الدنيا غرامٌ ووفاءْ
…
كان في قلبكِ لي حُبٌ مقيمْ
كل هذا شِمتُهُ قبل المساءْ
…
كل هذا ذقتُهُ قبل الجحيمْ
أُهْوَ باقٍ مثلما كان لنا
…
في لذاذات اللقاءِ الأول؟
إن يكن ما مات، فالميْتُ أنا
…
فاذكريني في الربيع المقبل
إلى (القصر) الغاشم.
. .!
(نفثة جريحة اهتز بها قلبي حيال قصر الملهمة!)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
لَوْ كُنْتَ تَسْمَعُ صَرْخَتي وشَكاتي
…
يا (قَصْرُ)! ما قَيَّدْتَ سِحْرَ حَياتي. .
جَجَّبْتَها عَذْرَاَء كادَ غَرامُها
…
يُذْكِي سَعيرَ الحُبِّ في الْغُرُفاتِ
وَلَو أنَّها مَلكَتْ جَناح حمامَةٍ
…
طارَتْ لعابدِها من الشُّرُفاتِ!
لمَحَتْهُ مِن ْخَلَل السُّتور مُشَرَّداً
…
حَيْرانَ مُرتَجِفاً على الطرُقاتِ
في جَفْنِهِ صَخَبٌ! وفي أنفاسِهِ
…
لهبٌ! وَسِرُّ المْوْتِ في النَّظَراتِ!
وعَلَى الشِّفاهِ قَصِيدَةٌ غَزَلِيَّةُ
…
مَخْنُوقَةُ الأَلْحانِ والنَّبَراتِ
صَرَخَتْ تُذيعُ غَرامَهُ. . . فَأَذَابهَا
…
هَوْلُ الأسَى في جاحِم الزَّفَراتِ
يَبْكي ويَضْرِبُ في الْفَضاءِ مُضَيَّعاً
…
كالتَّائهِ المْأخُوذِ في اْلفَلَواتِ. . .
قَلْبٌ عَلَى عَتَباتِكَ انْتَحَرتْ به
…
أحْلامُهُ يَوْمُ الْفِراق الْعَاتيِ
وأتاكَ مُنْتَفِضَ اْلحَنين، كأنَّهُ
…
ذِكْرَى مُجَرَّحَةٌ تَعودُ (فَتاتي)
يا (قَصْرُ) أَبْلِغْهُ الضِّفافَ. . . فَعِنْدها
…
أَمَلي، وصَفْوُ مَزاهِري، وَحَياتي!
الدمية الحسناء!
للأستاذ أحمد فتحي
فيك َمن رَوْعَة الجمال نَصِيبٌ
…
شاهدٌ أن للدُّمَى إغْراَء!
وقديماً أُضِلَّ قومٌ من الخلْ
…
قِ، فَضَلّوا ضلالةً عَمْياَء!
عبدوا الوَهْمَ والأساطيرَ حتى
…
قدَّسُوها حجارةً صَمَّاء!
وإذا شاءتِ المقاديرُ تَلْهُو
…
سَخَّرَتْ للجهالة الفُهَمَاء!
لستُ أَنْسَى يوم الْتَقَيْنَا وكانت
…
صفحةُ الرَّوْضِ، فتنةً تتراءى
الأزاهيرُ رائحاتٌ غوادٍ
…
تَتَثنَّى مع الصَّبا كيف شاء
والأمانيُّ باسماتٌ لِعَينْي
…
يتضاحَكْنَ غِبطةً وصفاء!
والأغاريدُ هاتفاتٌ على الدَّوْ
…
حِ نشيداً يُداعبُ الأفْياء
ولقد كنتَ في الخميلةِ تمثا
…
لاً من اْلحُسنِ رائعاً وضَّاء
لاح لي من لحاظِ عَيْنَيْكَ سِحْرٌ
…
بابِليٌّ، يستضعِفُ الأقوياء
ودعاني هواكَ فانْطَلَقَ القل
…
بُ على وجههِ يُلَبِّي النداء
فَرَّ من بين أَضْلُعي ينشُدُ الْحُب
…
بَ، كما ينْشدُ الظِّماءُ رَوَاَء
وأتاك المسكينُ حالاً من اللوْ
…
عةِ تشكو فصيحةً خَرْسَاَء!
ظَنَّ في صْمتِكَ الرِّضى عن غرامٍ
…
كان فيه، غِوايةً شَنْعَاَء
عادَ لي ضاحكاً، قريراً يغَنَّي
…
يملأ الأرض شَدْوُهُ والسَّماَء
فَتَوَهَّمتُ أنه رُزِقَ الخَي
…
رَ، وأَضْحَى يُسَاجِلُ السُّعَدَاَء
ثم بارَكْتُهُ غراماً عزيزاً. . .
…
قد كفاني الهمومَ وَالْبُرَحَاء
ما سَلَا القلبُ عنك إذ جَدَّ بيْنٌ
…
صَيَّرَ الصُبْحَ وَحْشَةً ظَلْمَاء
شَفْنِي الوَجْدُ والنحولُ وكابَدْ
…
تُ غرامي داءً دَوِيَّا عَيَاء
وَعفَا الصبرُ عن لِقاَئِكَ حتى
…
عَلّمَ العينَ أن تذوبَ بُكاَء
سلك الدَّمْعُ من مآقِيَّ سُبْلاً
…
كُنَّ من مَسْلَكِ الدُّموع خَلَاء
زهِدَتْ نفسي الصواحبَ طُرَّا
…
وَمَللْتُ الحياةَ وَالأحْياَء!
وَتمنَّيْتُ لو لقيتُكَ يوماً
…
وافتقدتُ المعاشرَ الْخُلَصاَء
عَلِمَ اللهُ كم سَهِدْتُ الليالي
…
أَتشهَّى الرُّقاَدَ والإِغْفاَء
يَقِظاً للخيالِ؛ إن طرَقَ الطَّي
…
فُ رآني بَقِيَّةً وَذِمَاء!
ولقد طالما تَعَللْتُ بالقَرْ
…
ب، فكانت عُلَالةً حمقاَء
كيف أنساكَ يومَ قيلَ مُوَافٍ
…
يحملُ البُرْء قُرْبُهُ والشِّفاَء؟!
قلتُ للنفسِ ها انْعَمِي بعد بُؤْسَي
…
جَرَّعَتْكِ النَّوَى صباحَ مساَء
والتقينا أشكو الذي صنَعَ الشَّوْ
…
قُ بقلبٍ تَنَفَّسَ الصُّعَدَاء
وترامتْ على يَدَيْكَ دُمُوعي. .
…
قَطَرَاتٍ كبيرةً حمرَاء!
وتوسَّلْتُ أن تُنَهْنِهَ مِنها
…
فإذا أنتَ لا تجيبُ الرَّجاء!
فَتَهاوَتْ مع المدامع آما
…
لٌ تُسَامِي صُرُوحُهَا الجوزاء!
وتناثَرْنَ، في الأعاصير نَقْعاً
…
حَمَلَتْهُ، قويَّةً، هَوْجاء!!
عاتَبَتْ نَفْسيَ الحزينَةُ قلبي
…
في هواكَ الذي أضَّرَ وساء
هَتَفَتْ، أيَّها المعَذَّبُ بالخَفْ
…
قِ، تَجَشَّمْ هزيمةً نكْرَاء
قد حَمَلْتَ الغرامَ زَيْفاً من الوهْ
…
م أضاعَ الشبابَ عُمْراً هَبَاء
خَدَعَتْك المَنى اللَّعُوبُ، وكانت
…
قِصَّةُ الحُبِّ، كِذْبَةً بَيْضاء
شَغَفَتْكَ الحياةُ بالحُسْن، حُبّاً
…
فَتَعَشَّقْتَ دُمْيَةً حَسْنَاَء!!
فرحة
للأديب محمد قطب
أحلى الأماني والمراح مراحُ حُب
قد فاض قلبي بالسعادة بعد جدب
وطفرت كالمرح اللعوبِ وأي لِعْب!
عاد الشبابُ إليّ بعد طويل شيب!
يا حب ليس سواك فكّ عِقال قلبي
أطلقتني حراً أشارف كل صوب
لا مَنْ يعوق خطاي عن جَرْي ووثب
هي ذي معي، وأنا أبوح بسر حُبي
ما أجمل الحب السعيد وأنتِ قربي
وجمال همس كالطيور أوانَ أوْب
همس الحياة تحيطني من كل جنب
وتحيطني وتحيط بالإعجاب حبِي
فرحانة هي بالغرام يضيء قلبي
إني أحبك يا سعاد وأي حب!
حب تسامى فوق كل هوى محب
حب يرفرف كالحنان المستحَب
حب فريد لن تريه بغير قلبي
إني أتيه على الغرام (بِنَوعِ) حبي!
وأنا سعيد أن أحب وأن تحبي
سترين إعجابي بمن أهوى وعجبي
وسترشفين خلاصة من كل ذوب
ذوب الغرام وذوب تفكيري وقلبي
ذوب الحياة ممحضاً من كل شوب
ذوب السعادة خالصاً من كل ريب
أعطيكِ ما قد شئت عذباً أي عذب
أعطيكِ حتى ترتوي حتى تعبّي
أعطيكِ. لست بآخذ أبداً. وحبي!
إلا الجمال فإنه هو وحي قلبي
هاتيه كيف أردت من دل وعجب
إني رضيت بما سآخذ دون غضب!
أفأنت راضية وحظك سوف يُربى؟
البريد الأدبي
باريس، أحمد حافظ عوض، أبو تمام
الأستاذ الكبير أحمد حافظ عوض بك اليوم في باريس. وهو يبعث منها برسائل أحمدية: ذات بساط أحمدي. . . وقد أخبر في الأولى التي عنوانها (ما بال باريس اليوم ليست باريس؟) أنه يمم حاضرة الفرنسيس من قبل وهو في الثلاثين ويجئ إليها اليوم أخا ستين - أخو ستين يا أبا الحفَّاظ، الله أدرى بالحقيقة - وأنه ما رآها وهو شيخ كما آنسها في الشباب في شبابه:
// لا يبعدنْ عصرُ الشبا
…
ب الناعم الغض الرطيب!
كان الشباب حبيبنا
…
كيف السبيل إلى الحبيب!؟
ومما سطره: (فماذا جرى يا ترى، أترى باريس تغيرتْ كما تغيرت، أم كبرتْ كما كبرت؟) ثم أفاض الأستاذ في المقال ثم قال في آخره: (فباريس ليست باريس لأنك أنت لست أنت) ولو تذكر صاحب (الكوكب) بعد هذا الكلام (حبيباً) لأعطاه هذه الأبيات العبقريات فجاءت في الختام من آيات التمثيل الباهرات. وهأنذا أرسل بها إليه في (الرسالة) لينشدها الأستاذ في كل صبح ومساء، ما أقام في باريس:
لا أنتَ أنتَ، ولا الديار ديارُ
…
خفّ الهوى، وتولت الأوطار!
كانت مجاورة (الربوع) وأهلها
…
زمناً عِذاب الوِرد، فهي بحار!
أيامَ تدمى عينَه تلك الدُّمى
…
فيها، وتقمر لُبه الأقمار!
إذ لا (صدوف) ولا (كنودُ) أسماهما
…
كالمعنيين، ولا (نَوارُ) نوارُ!
بيض فهن إذا رُمقن سوافراً
…
صور، وهن إذا رَمقن صُوار!
في حيث يُمتهن الحديثُ لذي الصِّبا
…
وتحصّن الأسرار والأسرار!
وصدر هذا البيت، فحواه أن هناك (اللقاء والحديث) فقط والشطر الثاني ظاهر، وأنا ما ذهبت إلى باريس فلست أعرف حالها، فهل يصدق (العجز) فيها؟ العلم عند الأحمدِين العارفين: أحمد شوقي، أحمد حافظ عوض، أحمد حسن الزيات، العلم عند العارفين. . .
(القارئ)
تكريم الدكتور زكي مبارك
أقام الفنان الأديب الأستاذ مدحت عاصم وكيل محطة الإذاعة المصرية شاياً موسيقياً للترحيب بمقدم الدكتور زكي مبارك من العراق دعا إليه نخبة من رجال الأدب والعلم والتعليم والصحافة وعلى رأسهم الأستاذ الجليل محمد بك العشماوي وكيل وزارة المعارف
وقد انتثر المدعوون في جوانب حديقة الدار يستمعون إلى نغمات الموسيقى، ثم انتقلوا إلى موائد الشاي فتناولوا الحلوى والمرطبات، ثم وقف الأستاذ مدحت عاصم وألقى كلمة حيا بها الدكتور مبارك وشكر فيها المدعوين على تلبيتهم الدعوة، وقال أنه ليس بعجيب أن يكرم الفنان أديباً، فالفن والأدب توأمان لا ينفصلان، والدكتور زكي مبارك أديب يقوم أسلوبه على قواعد موسيقية. . .
وبعد ذلك وقف صاحب العزة الأستاذ محمد العشماوي بك فارتجل كلمة رقيقة داعب فيها المحتفل به. وقال أنه لا يتكلم الآن باسم الوزير، ولا باسم الوزارة. ولكنه يتكلم معبراً عن رأيه الشخصي. واستطرد فقال:
أعرف الدكتور مبارك رجلاً مشاغباً! وكنت قرأت له حملات على الأدباء والشعراء، فأرى فيه معولا يحتاج إليه البلد في هدم القديم على أن ينشئ مكانه جديداً نافعاً
ولما عرضت فكرة إيفاد معلمين إلى العراق قلت أنها فرصة طيبة للتخلص من شغب الدكتور زكي!
لم يكن الدكتور زكي مبارك قبل سفره، قد عمل شيئاً في وزارة المعارف، فلما سافر إلى العراق عمل هناك أشياء كثيرة. وخلال زيارتي للعراق تحدثت إلى وزير معارفه عن عيوب الدكتور زكي مبارك فقال الوزير - وهو من رجال الأدب المعدودين - إننا راضون بالدكتور على عيبه!. . .
ثم وقف الدكتور مبارك فألقى كلمة بليغة سننشرها في العدد القادم
وفاة الأستاذ نللينو
نعت أخبار روما أستاذنا الجليل الدكتور نللينو الأستاذ بالجامعة المصرية والعضو في مجمع اللغة العربية، وإمام المستشرقين في تاريخ الآداب العربية وأصول اللغة الحميرية وأسرار الحضارة الإسلامية. اتصلت أسبابه بمصر زهاء ثلاثين سنة منذ اختاره المغفور
له الملك فؤاد لتدريس الأدب العربي في الجامعة المصرية القديمة يوم كان رئيسها وهو أمير فألقى الأستاذ بها أربعين محاضرة في الأصول المقررة في الأدب والنقد عند العرب فكانت الأساس الوطيد والمنهج السديد لدراسة الأدب العربي في مصر. ثم انقطع ما بينه وبين مصر حينا من الدهر حتى انتدب مرة ثانية للتدريس في الجامعة المصرية الجديدة وانتخب عضواً في مجمع اللغة العربية الملكي فغذى الجامعة والمجمع بأبحاثه القيمة وآرائه السديدة وخبرته الطويلة. وقد بلغ من حبه للغة العرب أن حبب إلى ابنته دراسة الآداب العربية، فهي اليوم من الفتيات الإيطاليات اللاتي يعرفن الشرق العربي معرفة صحيحة ويكتبن عن أدبه كتابة المطلع الفاهم؛ وقد أعانها على ذلك أنها زارت مصر معه مرارا، فلا جرم أن فقد الدكتور نللينو خسارة للأدب العربي وللاستشراق لا يسهل العوض منها، فإن الرغبة في دراسة الشرق القديم قد ضعفت في نفوس الأوربيين بعد أن استبانت معالم الشرق واتضحت السبل إلى استعماره
كتاب رسالة المنبر
تفضل صديقنا الأستاذ فليكس فارس فأهدى إلى مشتركي الرسالة مائة نسخة من كتابه رسالة المنبر. ومتى تسلمتها إدارة الرسالة فسترسلها إلى من يطلبها على شرط أن يكون من مشتركي الرسالة وأن يرسل أربعة قروش نفقة الإرسال
تنظيم دار العلوم
أصدر صاحب المعالي وزير المعارف قراراً باعتماد اللائحة الجديدة لتنظيم (دار العلوم) على منوال يكفل لها استقلالا شبيهاً بالاستقلال المكفول لكليات الجامعة، ويجعل الدراسة فيها تجري طبقاً للمبادئ الجامعية من حيث المحاضرات والبحوث
وتقضي هذه اللائحة بإنشاء قسم إعدادي مدة الدراسة فيه سنتان. ويلتحق به الطلبة الذين أتموا دراسة السنة الثالثة للمعاهد الدينية الثانوية على أن يكون ذلك بامتحان مسابقة بين المتقدمين مع اختبارهم شخصياً
وسيلحق هؤلاء الطلبة بالقسم الداخلي لتهيئة جو صالح لتكوينهم
وسيدرسون إلى جانب العلوم العربية والشرعية طائفة من مواد الثقافة المدنية وهي
الرياضة، وعلم الأحياء والعلوم، وإحدى اللغات الأجنبية، والتاريخ، والجغرافيا. فإذا انتهت مدة السنتين انتقلوا إلى (دار العلوم) فيقضون فيها خمس سنوات بدلا من أربع على أن تخصص السنة الخامسة لدراسة علوم التربية وما يتصل بها
وقد نظمت هيئة التدريس على مثال هيئة التدريس بالجامعة تماماً
وقضت اللائحة بإنشاء مجلس أساتذة له ما لمجالس الجامعة المصرية من اختصاصات
وكذلك أنشأ مجلس أعلى برياسة وكيل وزارة المعارف، وعضوية وكيل الوزارة المساعد، وأقدم مراقبي التعليم العام، وأحد أساتذة الأدب العربي بالجامعة، وعضو من أعضاء المجمع الملكي للغة العربية، وأستاذين من دار العلوم، وأثنين من خارج الوزارة والجامعة من المشتغلين بالأدب العربي، وقد منح هذا المجلس اختصاصات مماثلة لاختصاصات مجلس الجامعة، وتعرض قراراته على وزير المعارف مباشرة، وقد أطلق على ناظر الدار اسم (عميد دار العلوم) وأطلق على دبلومها اسم (إجازة دار العلوم) وستتخذ الوزارة الإجراءات لإذاعة نص اللائحة الجديدة وسيعمل بها ابتداء من العام الدراسي الجديد
كتاب حياة الرافعي
جاء في جريدة الأخبار البغدادية هذه الكلمة: جاءنا بتوقيع (أديب) ما يلي:
نظراً إلى أن الكثيرين من العراقيين يرغبون في اقتناء كتاب الرافعي تأليف الأستاذ محمد سعيد العريان، ولما كان ثمنه قبل الطبع مائة فلس في مصر فالرجاء إلى الأستاذ صاحب مجلة (الرسالة) الغراء أن يوعز إلى وكيل المجلة ببغداد بقبول الاشتراك في هذا الكتاب بزيادة عشرين فلساً أجرة البريد، وحبذا لو أجابت الرسالة الغراء هذا الطلب
(الرسالة): والرسالة تجيب عن رجاء الأديب بأن الاشتراك المخفض في هذا الكتاب يقبل من جميع أقطار العربية ولا يزيد على الاشتراك بمصر إلا أجرة البريد.
الكتب
معلومات مدنية
تأليف الأستاذ محمود العابدي
للسيد عبد اللطيف الصالح
مؤلف هذا الكتاب ناظر لإحدى المدارس الحكومية بفلسطين قد اتجه في دراساته الخاصة نحو التاريخ العام فغدا مؤرخاً معروفاً في فلسطين يقدم للنشء والمكتبة العربية ثمار بحوثه وغرس ثقافته، والأستاذ العابدي بمؤلفه (معلومات مدنية) أسدى لا للنشء فحسب بل للمعلم أيضاً خدمة جليلة، وقد قسم مؤلفه إلى ثلاثة أقسام، فجعل الأول لتاريخ المجتمع الإنساني وتنظيماته من العصور الحجرية إلى نشوء نظام السوفيت في روسيا ويدخل فيه تنظيمات اليونان والرومان والعرب والقرون الوسطى والحكومات الأوروبية الحديثة. كل ذلك بتفصيل كاف عن حركة العمال في العالم
والقسم الثاني منه جعله الأستاذ العابدي للمقابلة بين الحكومات في إنكلترا والولايات المتحدة وفرنسا وسويسرا والمستعمرات وجمعية الأمم ودوائرها، وألم بهذه المواضع إلماماً مناسباً بحيث يخرج القارئ من هذه الموضوعات ولديه فكرة تاريخية واضحة عن الاصطلاحات السياسية، فقد وفى ذلك. قال المؤلف في مقدمة الكتاب (وفي كل يوم ترد الصحافة تعابير وكلمات كلجنة الانتدابات الدائمة، ومجلس عصبة الأمم والحماية والانتداب وتقرير المصير والدستور والنقابات والسوفيت والبرلمان وحكومة الاتحاد والسكرتير العام والنائب العام، لا يعرف حقيقتها معرفة متوسطة. ومن النقص على شعب يعد نفسه للتقدم والنهوض أن تجهل أكثريته مثل هذه المعلومات الأساسية، وهذا أول دافع دفعني لوضع هذا الكتاب) وفي هذا القسم بحث مستفيض عن أهم إدارات الحكومة النافعة للشعب كالتعليم والصحة والبوليس وواجبات الفرد وحقوقه
والقسم الثالث من هذا الكتاب جعله الأستاذ العابدي لحكومة فلسطين فهو ضروري لكل فلسطيني يريد أن يعرف كيف تدار بلاده، بل إن الاطلاع عليه ضرورة لكل عربي يؤمن بفكرة العروبة وكل مسلم تهمه شئون الإسلام حتى يقف على حالة هذه البلاد التعسة التي
هي الآن في فورة دموية قد تجاهل صوتها قادة الرأي في الأقطار الإسلامية، واكتفى بعضهم بقوله:(إنا نعطف على عرب فلسطين ونتمنى لهم الخير) كأن مثل هذه الجملة كافية لردع الإنجليز عن هذه المذابح التي تغرق فيها بلاد هي مهبط الوحي الأمين ومهد الرسالة الربانية. نعم تناول المؤلف في هذا القسم حكومة فلسطين بحيث يخرج منه القارئ وعنده فكرة صادقة عن كيفية الإدارة في هذا الشعب المدافع.
ولقد ظهر لي أثر مجلة (الرسالة) الغراء واضحاً في هذا الكتاب فأستطيع أن أعده من ثمار غرس هذه المجلة العربية التي عم تناولها أبناء العروبة وانتشرت بين أبناء الضاد انتشاراً لا يدانيها في ذلك مجلة أخرى، ولقد أحسن المؤلف في اقتباسه عن أساتذة هم أعلام ثقافات وعلوم كالأساتذة أحمد أمين، وحافظ عفيفي باشا وساطع الحصري وأحمد سالم الخالدي وغيرهم، حتى جاء مؤلفه عصارة مركزة لأبحاثهم المتعلقة بموضوع كتابه
والذي يطالع كتاب (معلومات مدنية) يرى أنه يغلب على أسلوب الأستاذ العابدي الدقة في التعبير مع وضوح وإبانة للغرض الذي يريده، وقد يقرأ القارئ فيه صفحة واحدة فيخرج منها بعلم قد لا تستوعبه صفحات كبيرة، وهذا آت من تمكن الأستاذ العابدي من مادة التاريخ ومن سعة اطلاعه في نواحيها المختلفة. ولا شك أن اتجاه المؤلف نحو الناحية التاريخية في دراساته كان له أثر كبير في قيمة هذا المؤلف فهو دائرة معارف نافعة تغنى به المكتبة العربية كما تغنى بغيره من مؤلفات عربية ثقافية أو اجتماعية
عبد اللطيف صالح
مقاييس الكفاءة للاستقلال
تأليف الدكتور ولتر هولمز رتشر
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
نشرت جامعة بيروت الأميركية هذا الكتاب لمؤلفه الدكتور ولتر هولمز رتشر أستاذ العلوم السياسية في تلك الجامعة ولا شك أن هذا الكتاب مما يهم العالم العربي الإطلاع عليه، لأنه يبسط قضية سياسية هي قضية العالم العربي بأسره، فقد تكلم فيه مؤلفه الفاضل عن مقاييس الكفاءة للاستقلال في العراق وفي جزر الفليبين وفي الهند، ثم تكلم عن مقاييس الاعتراف بالدول الجديدة، ومقاييس الدخول في عصبة الأمم، ثم ختم البحث بخاتمة حافلة بالاستنتاجات والمقارنات، جمع فيها أطراف الموضوع جمعاً يحصره في ذهن القارئ، ويقربه من نفسه وإدراكه.
ولقد قدم المؤلف كتابه بمقدمة ضافية، أشار فيها إلى مقاييس الكفاءة للاستقلال كما كانت معتبرة في الماضي، ثم تكلم عن المادة الثانية والعشرين من ميثاق عصبة الأمم فقال بأنها لم تشر بتاتاً إلى المقاييس أو إلى الطرق التي يمكن أن تقدر بها كفاءة الأمم للاستقلال بشؤونها ثم خلص من ذلك إلى توضيح النهج الذي انتهجه.
ولقد جرى المؤلف في حدود المعالم التي رسمها لنفسه فأجاد وأفاد، وأحسن كثيراً في اختيار الأدلة التاريخية المتعلقة بالمقاييس الضرورية لإثبات الكفاءة للاستقلال، كما أحسن في اقتباس الشواهد من التقريرات التي وضعتها اللجان التي قامت بعد الحرب للبحث في حالة الأمم التي هي تحت الانتداب أو التي تطمع في الانتظام في عصبة الأمم.
أما المقاييس التي لاقت القبول العام، والتي يمكن اعتبارها مقاييس صحيحة لكفاءة الاستقلال في نظر المؤلف فهي ترجع أولاً إلى وجود حكومة مستقرة يبرهن على استقرارها بمقدرتها على تسيير الشؤون الجوهرية في الحكومة بصورة منظمة، وأن تكون قادرة على المحافظة على سلامة أراضيها وعلى الأمن العام في البلاد كلها، وأن تكون لديها موارد مالية تسد حاجاتها الاعتيادية، كما يجب أن تكون لها القوانين والأنظمة القضائية التي تضمن العدل المطرد للجميع، ثم لا بد من رأي عام متحد يؤيد طلب الاستقلال.
ثانيا النية الصريحة على إتمام المسؤوليات والواجبات التي تفرضها العضوية في عصبة
الأمم، وهذه الواجبات تشمل صيانة الأقليات العنصرية واللغوية والدينية، وحماية مصالح الأجانب القضائية والمدنية والجنائية، ومنح حرية الضمير والعبادة وممارسة الأعمال ضمن نطاق المحافظة على الأمن العام والأخلاق والإدارة ثم القيام بالعهود المالية المقطوعة باسمها ولمنفعتها بواسطة الدولة المنتدبة سابقاً واحترام كل نوع من الحقوق المكتسبة شرعياً في ظل الانتداب.
هذه هي المقاييس التي ارتضاها المؤلف والتي يجدها القارئ في كتابه مشروحة شرحاً وافياً في أسلوب سهل مرسل قد يقع فيه بعض الأخطاء اللغوية والنحوية، ولكنها لا تغض من قيمة الكتاب.
محمد فهمي عبد اللطيف