الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 266
- بتاريخ: 08 - 08 - 1938
بقية المذهب
للأستاذ عباس محمود العقاد
في مقالي السابق (قنطار ثمين) قلت رأيي في الجسم الجميل وهو (الجسم الذي لا فضول فيه، والجسم الذي تراه فيخيل إليك إن كل عضو فيه يحمل نفسه، غير محمول على سواه)
ومن الواجب في هذا المقال أن أذكر أن الجسم الجميل غير الجسم اللذيذ وغير الجسم الصحيح وغير الجسم القوي وغير الجسم النافع، لأن الجسم قد يكون نافعاً أو قوياً أو صحيحاً أو لذيذاً، وهو في كل ذلك غير جميل
قيل لبعض الحكماء: إن فلانة كبيرة البطن ضخمة الثدي فقال: (نعم، حتى تدفئ الضجيج وتروي الرضيع). . . فهذا وصف صادق للجسم النافع ولكنه لا يستلزم جمال الجسم الموصوف، كما يقال إن هذا الكساء يدفئ صاحبه و (يعيش) سنوات ولا يستلزم ذلك جماله فيما يكون به جمال الكساء
نعم ويجب أن نذكر للذين يخرجون من (درس الألفية) ليفصلوا في مذاهب الجمال أن المرجع في هذه الآراء لن يكون إلى أعرابي قضى حياته في بادية جرداء وفي جاهلية عمياء، وإنما يكون إلى أناس سلمت لهم محاسن الأذواق ودرسوا فلسفة الجمال وأصلحوا مئات من الأجسام الجميلة وفاقا لعلم الصحة وفن الرياضة البدنية وأساليب التحسين والتقويم المتخذة في معاهد التطرية والتنسيق، واستعانة بأصول التشريح وأصول التلوين والتظليل، وتجارب التاريخ التي عرضت عليهم صنوفاً من الشمائل الإنسانية في كل أمة خلقها الله
لقد وصف بعض الأعراب نساء (محبوبات) فاستملحوا الضخامة ومدحوا الكسل وبطء الحراك، وافتتن أميرهم بعذارى قال في وصفهن ما يقال في وصف الغيلان:
وظل العذارى يرتمين بلحمها
…
وشحم كهداب الدمقس المفتل
نعوذ بالله!
فإن كان هذا وأشباهه وصفاً لشيء فهو وصف للجسم الشهي أو الجسم اللذيذ، وليس بوصف للجسم الجميل على اعتبار الجمال معنى من المعاني التي تقاس بالإدراك، كما يقاس معنى البيت البليغ، ومعنى الصورة البارعة، ومعنى التمثال المتقن، ومعنى الخيال
المجرد، ومعنى الحلم البعيد
والرجال في تفضيل الجسم الشهي أو الجسم اللذيذ مذهبان مختلفان:
رجل عنده عادة الاستحسان كعادة التدخين، فهو يألف طرازاً واحداً من (المرأة) كما يألف المدخن لفيفته المعهودة، فلا يغيرها ولو كان الخلاف بينها وبين غيرها كالخلاف بين علامة (الجمل) في التبغ الأمريكي وعلامة (الخلطة السعيدة) وهما من أصل واحد
هذا الرجل إذا استحسن المرأة الطويلة لم تعجبه القصيرة ولو كانت لها ملاحة ونضارة ومتعة وحلاوة
وإذا استحسن السمراء لم تعجبه البيضاء، أو استحسن بنت العشرين لم تعجبه بنت الثلاثين، أو استحسن المصرية لم تعجبه الإنجليزية أو الروسية، وهما معجبتان
هذا مذهب
والمذهب الآخر مذهب رجل يستحسن النساء كما يستحسن الفاكهة، أو كما يستحسن صحاف الطعام، والمعول على صناعة الطاهي وغواية الأوان!
فالتفاح مقبول، والبرقوق كذلك مقبول، والتين لا يرفض، والجميز لا يعاف، والشواء مستطاب، والسمك المملح له وقت يجوز اشتهاؤه فيه
ومن المعقول أن يشتهي أعرابي من الأعراب امرأة سمينة موفورة الشحم واللحم قليلة الحركة نؤوم الضحى كما يقولون، فإنما عاش الأعراب في صحراء يسوّمون فيها الناقة بمقدار ما عليها من لحوم وشحوم، ويكبرون فيها الأغنياء بمقدار ما يأكلون من سمن ولبن ودهون، ويقال فيها إن فلاناً يملأ جوف امرأته بما يسمنها ويقعدها عن الحركة فيحسبون ذلك غاية العزة والفخار، وذروة النعمة واليسار
أما نحن في عصرنا هذا الذي تتحرك فيه المرأة لتلعب في ميدان الكرة والصولجان إن لم تتحرك لتخدم نفسها وذويها في بيتها، والذي تعددت فيه مظاهر الغنى فلا يحسب فيه امتلاء الجوف بالطعام عنوان وفر وثراء، ولا تحسب فيه الناقة ولا ألبانها (وحدة المعاملة) في الأسواق. . .
أما نحن في هذا العصر فما حاجتنا إلى اقتداء بذلك الأعرابي فيما استملح واستطاب، وما لنا ولغيلانه وعذاراه، أصلحه الله وأشبعه ورواه!
وما بالنا نقتدي به ولا نقتدي بإخوانه الذين عرفوا ملاحة الهيف والرشاقة وتجملوا تارة بجمال الفطرة، وتارة أخرى بجمال الحضارة؟
أذكر أنني نظمت قصيدة في شتاء أسوان يوم كانت تزدحم بالوافدين والوافدات من آفاق المغرب والمشرق، فشببت فيها بالعين الزرقاء والشعر الأصفر والوجه الأزهر. . . فعابها ناقدون يقرءون الألفية ويحكمون على الآداب والفنون ومذاهب الجمال، وقالوا: يا رعاك الله! متى كان الشعر الأصفر مما يستملح في القصائد العربية؟ ومتى كانت زرقة العينين مما يحمد فيه الغزل والتشبيه؟
وكنت أقول لهم يومئذ: إني إن زعمت أن حسان أوربا سود العيون والشعور كذبت على الحقيقة
وإن زعمت أنهن زرق العيون مذهبات الشعور ولكنهن دميمات مجتويات كذبت على نفسي وعلى الله. . . فكيف تريدوني أن أقول؟
صفعة على القفا، علمت الآن، أجدى في مناقضة أولئك (الآدميين) من كل ذلك النقاش والحوار
قال ابن أبي ربيعة:
ولما تفاوضنا الحديث وأسفرت
…
وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا
وقال المثل المصري: (من أعجبه جسمه عرَّاه، ومن أعجبه صوته علاَّه)
ورأينا نحن مصداق هذا وذاك على شاطئ الإسكندرية، ولا نزال نراه في كل معرض جمال
فهنا لا تلبس المرأة شيئاً ولا تخلع شيئاً إلا لتبدي حسناً وتستر عيباً، وهنا بحر زاخر لمن ينظرون على مذهب التدخين، ومن ينظرون على مذهب الفاكهة والطعام، ومن ينظرون على مذهب الجسم الجميل كما بيناه، رفيعاً جداً فوق مذهب المدخنين ومذهب الآكلين، ورفيعاً جداً فوق مذهب الجسم النافع والجسم اللذيذ.
عباس محمود العقاد
مائة صورة من الحياة
للأستاذ علي الطنطاوي
1 -
مجدد
لقيته في مكتبة كان من عادتي أني أرتادها كل يوم فألبث فيها ساعة أو نحوها كما يرتادها غيري من المشتغلين بالأدب والواغلين عليه، ومن أهل العلم والأدعياء فيه، فيقلبون المكتبة إلى ناد أدبي، أو قاعة للجدل والمناظرة، فلا يكون حظ صاحبها المسكين من تجارته إلا الكلام، تمتلئ به أذناه، وجيبه من المال خال. . . وهل عاش قط وراق على أديب؟ ومتى كان عند الأدباء مال حتى يشتروا؟ إن الناس بين رجلين: رجل يحب الكتب ولكنه لا يجد ما يشتريها به، ورجل عنده مال ولكنه لا يحب الكتب. فيا بؤس الوراقين بين هذين الرجلين!
لقيته ولم يكن لي شرف معرفته، فنسبوه إليّ وعرفوني به:(الأستاذ فلان) فقلت الكلمة التي يضطرني النفاق الاجتماعي إليها: (تشرفنا) كأننا كنا قبل لقائه على غير شرف. . . وانتظرت منه أن يتكلم لأضعه في منزلته؛ وقديماً قال من لست أدري من هو: (إنك لا تعرف منزلة الرجل حتى يتكلم، فإذا تكلم رفعته أو وضعته) أو ما هذا معناه فما احفظ الكلمة على أصلها. . . ولم يطل الرجل بحمد الله انتظاري، وراح يلقي كلاماً أقرّ على نفسي بأني لم أفهم منه حرفاً، اللهم إلا كلمات تتردد فيه لها في أفرادها معان، وليس لها في جملتها معنى، من أمثال:(الوعي الطبقي) و (التقدمية واللاتقدمية)، وطفق يسرد أسماء إفرنجية لها أول وليس لها آخر، ثم قفز قفزة إلى التاريخ، فعاب علينا أننا نكتب في التاريخ، ونؤلف الكتب عن أبي بكر وعمر، وساق في ذلك كلاماً على نحو كلامه الأول، ثم جاء بالطامة فقال بأن سورة (الناس) ليس فيها من بلاغة القول شئ، وزعم أن كاتباً من أبلغ كتاب العربية في هذا العصر (ذهب مغفوراً له) قال: لو أن تلميذاً كتبها لي في امتحانه لأعطيته الصفر. . .
فلم أعد أطيق على وقاحته وجهالته صبراً. وللمرء أن يتكلم في الأدب أو في النقد، ويطيل أو يقصر، ويعرض جهله أو علمه، وسفاهته أو تهذيبه، فالناس يميزون الخبيث من الطيب ويعرفون المحق من المبطل؛ وما كل من قال كلاماً كان بليغاً، ولا كل من أمسك بقلم ونشر
كلاماً في مجلة، كان ناقداً أو كاتباً. . . أما أن يتكلم أمرؤ في الدين بلا علم ولا هدى، وبغير بينة ولا دليل فلا. . . ثم لا!
تركته يوقد نار حماسته في كذبه، حتى إذا ظنها استحالت جمرة متقدة ألقيت عليها دلو ماء فقلت له:
- هل تسمح يا سيدي بسؤال: كيف عرفت أن سورة (الناس) ليس فيها من البلاغة شيء، مع أن علماء هذا الفن ومن هم المرجع فيه والحجة قالوا غير ما تقول؟
قال: لأن للبحتري شعراً لا شك (عندي) أنه أبلغ منها
قلت: أئن كان للبحتري شعر أبلغ من شعر المعري مثلا كان شعر المعري خالياً من البلاغة؟ ثم من قال لك إن شعر البحتري أبلغ من سورة الناس؟
قال: لأن البلاغة فيهِ أظهر!
قلت: ما هي البلاغة (عندك)؟
قال: هي أن يكون الكلام بليغاً. . .
فكان الضحك عاماً مجلجلاً!
ولقيت هذا المجدد كرة أخرى فلم يقل شيئاً، لأنه قال كل ما يحفظ في المرة الأولى، ثم لم ألقه بعد أبداً!
2 -
أوربي
فلان. . . من أسرة دمشقية أصيلة، ولكنه أقام في أوربة سنين عايش فيها القوم، فظن أنه حين أساغ في حلقه طعامهم، وأدار في فمه لسانهم، قد صب في عروقه دماً من دمائهم، ووضع في رأسه دماغاً من أدمغتهم، فاستقر في رأسه أنه أوربي ولكن النطفة أخطأت طريقها فكانت شرقية فلما عاد من أوربة ودخل علينا - وكنا يومئذ تلاميذ وكان هو أستاذنا - استقبلناه استقبال التلاميذ المخلصين أستاذهم الذي غاب عنهم سنين بعد ما اتصل حبله بحبالهم وأحبوه وأحبهم ورحبنا به فنظر إلينا نظر المنكر، وقلب شفتيه اشمئزازاً ولوح بيديه على طريقة أهل باريس، وقال لنا بالفرنسية (ما ترجمته بالحرف):
- ما هذا؟ أهكذا يكون الاستقبال؟ إنكم يا أهل الشرق لا تتمدنون أبداً. ولقد رأيت اليوم ما كنت أسمعه. . . فيا ليتني لم أسافر إلى الشرق!
(دمشق)
علي الطنطاوي
في مصر الإسلامية
سياسة العرب المالية في مصر
للدكتور حسن إبراهيم حسن
أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب
كان الوالي يُعَيّن من قبل الخليفة لينوب عنه في حكم البلاد، وهو الرئيس الأعلى للقضاء والصلاة والخراج والجند والشرطة وما إليها من مهام الدولة. وكان يستعين في إدارة البلاد بطائفة من كبار الموظفين وأهمهم ثلاثة: عامل الخراج أو صاحب بيت المال، والقاضي، والقائد أو صاحب الشرطة. وكانت وظيفة الخراج أهم هذه الوظائف الثلاث
وكان الوالي يحتفظ بها لنفسه؛ وربَّما أسندها الخليفة إلى رجل من قبله فيعمل هذا مع الوالي جنباً إلى جنب: هذا يدير دفة السياسة. وذاك يتولى أعمال الدولة المالية. فكان بمثابة الرقيب على أعمال الوالي، فكأنّ مصر إذ ذاك كان يحكمها واليان من قبل الخليفة مما أدى إلى تنازع السلطة والمنافسة بين الرجلين: وذلك مما يعلل قصر عهد الولاة وعمال الخراج، وبهذا خسرت مصر تحت حكمها أكثر مما كانت ترجوه من التقدم في سبيل الإصلاح.
كان القضاء والصلاة من الأمور الجوهرية التي تناولها هذا التغيير في النظم الإدارية في عهد الإسلام لارتباطها ارتباطاً وثيقاً بالدين، وهو مصدر الحكم في الإسلام.
أما عن الخراج فقد سار عمرو بن العاص مع المصريين بمقتضى شروط الصلح من حيث تقسيم الجباية ومراعاة حال النيل في النقصان والزيادة مما أضطره أحياناً إلى تأخير الخراج على الرغم مما اشتهر عن عمر بن الخطاب من التشدد في دفعه. ذلك أن عمرا حين جبى خراج مصر في السنة الأولى من ولايته عشرة ملايين دينار لم يعجب ذلك عُمر، بل ولم يعجبه أيضاً ما كان من نقصان الخراج إلى اثني عشر مليوناً في السنة التالية، وذلك لما بلغ الخليفة من أن الخراج وصل في عهد المقوقس إلى عشرين مليوناً وأكثر، وجعله بعض المؤرخين 24 ، 400 ، 000 دينار في عهد الفراعنة، وبالغ بعضهم فجعله في زمن الريان بن الوليد (وهو فرعون يوسف) 90 ، 000 ، 000 دينار، فلا غرابة إذا عجب عمر من أن البلاد لا تؤدي نصف ما كانت تؤديه إن صح أن مصر كانت
تؤدي هذا المقدار قبل الإسلام. على أن عُمر إنما أراد بتشدده وتمسكه أن يحلب البلاد حلباً ويقطع درها بخلاف ما كان يتوخاه عمرو بن العاص من مراعاة حال البلاد من شدة ورخاء.
وقد لغط المؤرخون في مقدار الخراج، وقصره بعضهم على جزية الرءوس التي كان مفروضاً أداؤها على أهل الذمة من القبط وغيرهم لأن الخراج في عهد الإسلام كان من ناحيتين (الأولى) الضرائب الشخصية المعروفة بالجزية أو جزية الرءوس (والثانية) ضرائب الأطيان، ومجموع هذين يعرف بالخراج.
على أن قصر بعض المؤرخين الخراج على جزية الرءوس مع خطئه يجعل الاهتداء إلى معرفة عدد سكان مصر وقت الفتح أمراً مستحيلاً، ناهيك ما هنالك من الاختلاف الكبير بين روايتي ابن عبد الحكم (267هـ=781م) وهو أقدم مؤرخي مصر الإسلامية والبلاذري (290هـ=892م) وهو من معاصري ابن عبد الحكم.
وقد ذكر ابن عبد الحكم أن عدد من ضربت عليهم الجزية من المصريين في عهد عمرو ثمانية ملايين عدا الصبيان والنساء والشيوخ، ولو بلغ عدد من ضربت عليهم الجزية رُبع سكان البلاد لكان أهل مصر طبقاً لهذا التقدير اثنين وثلاثين مليوناُ من النفوس. وهذا بعيد التصديق، إذ لو كان هذا العدد صحيحاً لبلغت جزية الرءوس وحدها ستة عشر مليون دينار وهو يخالف ما أجمع عليه المؤرخون من أن خراج مصر بنوعيه لم يزد في السنة الأولى من ولاية عمرو على عشرة ملايين، ولم يزد في السنة التالية على اثني عشر مليوناً. كذلك روى البلاذري أن عمرا فرض على كل مصري عدا النساء والصبيان والشيوخ دينارين فبلغ خراج مصر (بما فيه جزية الرءوس) مليوني دينار، فإذا خصصنا لجزية الرءوس مليوناً اقتضى أن يكون عدد من فرضت عليهم الجزية خمسمائة ألف نسمة، وعلى هذا القياس لا يزيد سكان مصر على مليوني نسمة.
هذا ولم يكن للخراج نظام ثابت، فكانت ضريبة الأطيان تقل وتكثر حسب الاهتمام بالتعمير وإصلاح الجسور والخلجان ونحوها، كما أن جزية الرءوس كانت تتناقص بالتوالي لدخول أهل مصر في الإسلام، إما رغبة في اعتناق هذا الدين، أو فراراً من دفع الجزية. وقد رأى بعض العمال عدم دفع الجزية عمن أسلم. يدلك على ذلك كتاب وإلى مصر إلى الخليفة
عمر بن عبد العزيز يشكو إليه من أن الإسلام أضرّ بالجزية ويسأله أن يأمر بفرضها على من أسلم، فما كان من عمر إلا أن كتب إليه كتابه المأثور، وفيه يقول (. . . فضع الجزية عمن أسلم - قبح الله رأيك - فان الله إنما بعث محمداً صلى الله عليه وسلم هادياً، ولم يبعثه جابياً. ولعمري لعمر أشقى من أن يدخل الناس كلهم في الإسلام على يديه)، وعلى الجملة فقد كانت سياسة الخلفاء ترمي إلى الإكثار من الخراج حتى أن بعضهم لم يأبه بما حلّ بالأهلين من شراهة العمال الذين عملوا على إرضاء الخليفة، الذي كان رضاؤه متوقفاً على تأدية الخراج، وعلى سدّ جشعهم في جمع الثروة الضخمة حتى لا تعوزهم الحاجة بعد عزلهم، الذي كانوا يترقبونه في كل وقت؛ مما أدى في كثير من الأحيان إلى انتقاض الأمة، وقيام الثورات في عهد بني أمية وبني العباس. وليس أدلّ على عناية الخلفاء بإكثار الخراج من أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما جبي خراج مصر وبلغ 14 ، 000 ، 000 دينار بعد أن جباه عمرو 12 ، 000 ، 000 دينار، عيّر عثمان بن عفان عمرا بقوله:(إن اللقاح بعدك درّت ألبانها) فأجابه عمرو (. . لأنكم أعجفتموها) مما يدلّ على أن سياسة الخلفاء نحو جباية الخراج كانت تميل إلى الشدّة، وعلى الأخص في عهد بني أمية وبني العباس، على أن خراج هذه البلاد أخذ يقلّ بعد عمرو وابن أبي سرح حتى أنه لم يبلغ زمن الأمويين والعباسيين ثلاثة ملايين إلا مرات معدودات حتى اضطر بعض الولاة إلى وضع الجزية على من أسلم.
حسن إبراهيم حسن
حظي بالشيء.
. .
لأستاذ جليل
الرافعي، المجمع اللغوي، أزهري، المنصورة، اليازجي. . .
. . . . . .
- 3 -
ردَّ الأستاذ الرافعي رحمه الله في (البلاغ 28 شوال 1352) على الأستاذ أزهري المنصورة (البلاغ 26 شوال 1352) فقال:
(عاد الفاضل أزهري المنصورة إلى هذا الفعل وجاءنا بدليلين آخرين من استعماله فتمت حججه أربعا أحصاها هو بقوله: (1) - أوردنا بيت الحماسة. . (2) - وجئنا بكلام الأساس. . (3) - وجاء في نهج البلاغة: (وحظوا من الدنيا بما حظي به المترفون)(4) - وجاء في مقامات الحريري: (نهضا وقد حظيا بدينارين)
وعجيب جداً أننا لم نجد أحداً يتنبه إلى مدار الحجة أو يفطن إلى وجه النقد. على أننا أومأنا إلى شيء، وعرضنا بشيء، وقلنا: أن لهذا الفعل (حظي) تاريخاً اجتماعياً وأن هذا التاريخ هو الذي يعين للكلمة ظاهرها الظاهر وباطنها الباطن. وكان في هذا كاف أن يدرك من يدرك أن في اللغة ألفاظاً أخذت من معنى بعينه، ولا يستعمل إلا فيما هو بسبب من هذا المعنى
أما بيت الحماسة فقد قلنا إن حظي فيه مضمنة معنى (ظفر) فهي هذه لا تلك وبطل الاستدلال بالبيت. ونقول مثل هذا في كلمة الحريري وإن كان الشريشي قد فسرها بمعنى (سعد) وهو المعنى العامي الذي شاع به الكلام في العصور المتأخرة. فيقولون: حظينا بلقاء فلان، وحظينا بتشريف فلان. وأكثر ما كان هذا الاستعمال في البلاد التي يعسفها الحكم التركي، ولهذا كانت فاشية في سوريا حتى لا عامي ولا خاصي هناك إلا وهي في لسانه وبخاصة الجرائد
وأما كلام صاحب الأساس فقد قلنا أنه من دليلنا لا من دليل المجمع ونحن على هذا الرأي
وأما عبارة نهج البلاغة فهي الآن محل القول، وسنرفع عليها مصباحاً من مصابيح علاء
الدين ليتبين الأزهري والمجمع بنوره الساطع كيف وقعت (حظي) من العبارة في أحسن مواقعها، وقامت في الكلام على رجليها لا على أصابعها!
يقول الإمام: (وحظوا من الدنيا بما حظي به المترفون) فالجملة الأولى مقيسة على الثانية في الاستعمال إذ الأصل هو ما حظي المترفون به ثم أخذت من حظوة الآخرين الذين أشبهوهم: فبماذا يحظى المترفون ومن هم؟ جواب هذا في قوله تعالى: (واتَّبَع الذين ظلموا ما أُتْرِفوا فيه) وقوله: (وأخذنا مُترفيهم بالعذاب) وقوله: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها، فحق عليها القول، فدمرناها تدميراً)
والآن فلنطفئ مصباح علاء الدين فان لم يكن المعنى الذي نرمي إليه قد انكشف ففي مقالة أخرى سنستعير مصباحاً كشافاً من الأسطول البريطاني)
قلت: في هذا التفسير تعمُّق، وهذه هي الجمل التي وردت قبل عبارة (الخطوة) وبعدها، وفيها البيان الكشاف:
(إن المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت، وأكلوها بأفضل ما أُكِلت، فحظوا من الدنيا بما حظي به المترفون، وأخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبرون، ثم انقلبوا عنها بالزاد المبلغ والمتجر الرابح، أصابوا لذة زهد الدنيا في دنياهم، وتيقنوا أنهم جيران الله غداً في آخرتهم).
وقال الأستاذ الرافعي رحمه الله: (ثم قال الأزهري: لم يقل أحد قولا في (حظي بالشيء) إلا العلامة الشيخ إبراهيم اليازجي في هذا الزمان، ثم ذكر انتقاد اليازجي استعمال شاعرنا حافظ إبراهيم في ترجمة البؤساء قال:(فلاقاه بعد أيام حجة الإسلام السيد رشيد رضا فقال له - وقد سمعنا قوله - يا شيخ يا شيخ إن الذي خطأته من كلام حافظ إبراهيم هو في أول صحيح البخاري قال: فبهت الشيخ وترك السيد وهو كاسف البال).
وترى ما الذي فهم القراء من هذا؟ وما هو الذي يُعد من كلام حافظ إبراهيم وفي صحيح البخاري في وقت معا؟.
لا بأس أن نفيد قراء (البلاغ) فائدة وأن نصحح لحضرة أزهري، فأن اليازجي لم ينتقد (حظي بالشيء) كما يزعم، وإنما انتقد استعمال المصدر قال: (ويقولون الحظوي وإنما هي
الحظوة) بالهاء ولم يزد على ذلك. ومما أخذ به حافظ في ترجمة البؤساء أنه يتكلف في الاستعمال وعد من ذلك قوله: (كأني أسمع صوتاً يقطر منه الدم) قال: وقطران الدم من الصوت مما لا تأنس به الأفهام. وهذه هي العبارة الواردة في البخاري ولكن حافظ رحمه الله لم يأخذها من البخاري وإنما سلخها من (الأغاني) وقد سار شيطانه بعد انتقال اليازجي، فلقى بعض أصدقائه فقال له بالحرف:(اليازجي غير مطلع في العربية).
قال الصديق: لماذا؟
قال: أنه عاب عليّ: (أسمع صوتاً يقطر منه الدم) مع أن العبارة في الأغاني
قال صديقه: يا حافظ، اتق الله، لأن يقول الشيخ: إن في العبارة مجازا بعيدا خير لك من أن يقول: أنك سرقتها من الأغاني. . .
أمّا هل أخطأ اليازجي أو حافظ فهذا كلام آخر)
قلت: ومما نقده الشيخ اليازجي في (البؤساء): (فخرجت ربة المنزل بالصمت عن لا ونعم أي لم تقل لا ولا نعم، ومن هذا القبيل: أحمل له ضبَّ الضغن. على أن الضب والضغن شيء واحد وكلاهما بمعنى الحقد)
ولم يحك لنا (صديق حافظ) قوله في نقد اليازجي هاتين العبارتين فحالهما كحال ذاك (الصوت) والقياس يدل أن هناك ثورة وسورة وقولا. . .
وقد غزا حافظ في الأولى بشارا:
لم يطل ليلي ولكن لم أنم
…
ونفى عني الكرى طيفٌ ألم
وإذا قلت لها: جودي لنا
…
خرجت بالصمت عن لا ونعم
وأغار في الثانية على ربيع بن مقروم:
وكم من حامل لي ضبّ ضغن
…
بعيد قلبه، حلو اللسان
قال التبريزي في (شرح الحماسة): (الضب الحقد. وأضافه إلى الضغن لأن الضغن العسر، فكأنه حقد عسر) وغزوات حافظ البريطانية الإيطالية الفرنسية. . . وغاراته التركية. . . في (بؤسائه ولياليه) تخبرنا أنه خليفة سعيد بن حميد في هذا العصر قال ابن النديم في (الفهرست): (سعيد بن حميد كاتب شاعر مترسل عذب الألفاظ، مقدم في صناعته، جيد التناول للسرقة كثير الإغارة. لو قيل لكلام سعيد وشعره: ارجع إلى أهلك لما بقي معه
شيء) ومن نقد (البؤساء) لليازجي: (استعماله (البرهة) للزمن القصير و (باهت اللون) بمعنى كمده و (تبقى عليه كذا) أي بقي و (ألم تعثر في طريقك أيها الراهب بغلام) والمنصوص عليه في هذا المعنى عثر عليه لا به، وبقيت (تقضقض) من البرد أي تقفقف، ولم يجيء قضقض بهذا المعنى).
قلت: قضقض الشيء فتقضقض كسره فتكسر، والقضقضة صوت كسر العظام، وفي شعر أبي تمام:
طلبُ المجد يورث المرء خبلا
…
وهموماً تقضقض الحيزوما
وفي حديث صفية بنت عبد المطلب: (فأطل علينا يهودي، فقمت إليه فضربت رأسه بالسيف، ثم رميت به عليهم، فتقضقضوا) أي انكسروا وتفرقوا كما في النهاية
وفي ذاك (النقد): (ولمحتُ بأحد فخذيك (فدعا) والفدع يكون في القدم لا في الفخذ، وهو أن يعوج الرسغ حتى تنقلب القدم إلى انسيها، وقيل: هو أن يمشي على ظهر القدم).
قلت: أكثر ما يكون الفدع في الرسغ من اليد والقدم، وفي (اللسان):(الفدع عوج وميل في المفاصل كلها خلقة أو داء كأن المفاصل قد زالت عن مواضعها، لا يستطاع بسطها معه).
ومن ذاك (النقد: (عولت على مغادرة ابنتي: أي أجمعت وصممت، وليس هذا معنى اللفظة، ولكن يقال. عوّل عليه بمعنى اتكل).
قلت: في (الجمهرة): عوّل عليّ بما شئت أي حملني ما شئت من ثقلك، وفي (الصحاح): عول علي بما شئت أي استعن بي ومثل هذا في (اللسان والأساس) وفي (الأساس): (ويقال: عول على السفر إذا وطَّن نفسه عليه) وقول حافظ يضارعه. وفي الرابعة والثلاثين من المقامات الحريرية: (قال: أتدري لمَ أعولت، وعلام عوّلت؟) وقد فسر بعض الشراح عول بمعنى عزم واعتمد، وهو مقصود ابن الحريري، ولم ينقد ابن الخشاب هذه اللفظة. وفسر الشريشي عول بمعنى اتكل، وعبارة المقامة لا تعني الاتكال.
ونقد اليازجي (النجمة للنجم).
قلت: النجمة ضرب من النبت كما في (الصحاح) والنجمة الكلمة، ولم أجد النجمة للنجم في المعجمات المعروفة المطبوعة. غير أني قرأت في (التاج) في مستدركه:(ونجمة الصبح فرس نجيب) ورأيت في (أقرب الموارد): (النجمة النجم وهي أخص منه) وقد جاء هذا بعد
تفسير: (علم النجوم، نجوم الأخذ، فلان ينظر في النجوم) فغير العارف يظن أن النجمة مثل النجم. والأصل لما فيه (أقرب الموارد) هو في (النهاية): (ومنه حديث جرير: بين نخلة وضالة ونجمة وأثلة. النجمة أخص من النجم وكأنها واحدته كنبتة ونبت) وروى (اللسان) هذا الكلام، فنقل صاحب (أقرب الموارد) منقوله، ورتبه كما رتّب ليظل من يطالع معجمه. والشيخ سعيد الشرتوني فاضل كبير، وله مصنفات حسنة، ومقالات متقنة، لكن معجمه (أقرب الموارد) لا يوثق به، فقد تكردست فيه الأغلاط تكردسا.
الإسكندرية
(* * *)
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 -
1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 34 -
مقالاته للرسالة (5)
لم تكن قصة (بنت الباشا) هي آخر حديثه عن الزواج، وإن كانت آخر ما أنشأ في هذا الموضوع بخصوصه؛ ثم بقي عنده طائفة من المعاني والخواطر في موضوع الزواج والمرأة جاءت مبعثرة في طائفة من المقالات من بعد؛ ومنها مقالة (احذري) وهي قصيدة من النثر الشعري مترجمة عن الملك، تقع منزلتها بازاء القصيدة المترجمة عن الشيطان في مقالة (لحوم البحر).
وكان الرافعي في هذه الفقرة قد اصطنع مودة بينه وبين طائفة من الشباب اللاهين، كانت تجمعهم قوة (لمنوس) في طنطا للعبث واللهو والمجانة؛ فتألفهم بالنادرة والفكاهة ليجمعهم إليه فيستمع إلى أحاديثهم في شئون المرأة والزواج؛ وقد قدَّمت القول في بعض ما سبق من هذه الفصول بأن ذهن الرافعي كان سريع الالتفات إلى معاني المرأة، وكانت أعصابه قوية الانفعال بحديث النساء، حتى لتراه وهو يستمع إلى محدِّثه إذ يتحدث عن الحب والمرأة كأنما يخيل إليه أنه يرى قصة ما يسمع، وأنه يشهد حادثة لا حديثا؛ ثم يزيِّن له خياله ما يزين فيضيف من وهمه إلى ما سمع ما لم يسمع؛ فتراه كما ترى الفتى المراهق: يجد حديث الغزل والحب حريقا في دمه وثورة في أعصابه لا حديثا في أذنيه. . . فيستزيد مما يسمع وهو صاغٍ ملذوذ؛ فيحمل محدثه بذلك على الإطناب والاسترسال حتى ينفض جملة ما في نفسه من رواية الواقع أو مبتدعات الخيال. . .!
وعلى شدة إحساس الرافعي بمعاني (الجنس) إلى هذا الحد، فانه بإيمانه وخلقه وتديُّنه واعتصامه بالوحدة، كان قليل الخبرة ضئيل المعارف في هذا الباب: فكان له علم جديد في كل ما يسمع من هؤلاء الفتيان من قصص ما بين الشبان والشابات من ناشئة هذا الجيل؛
وكان هذا العلم الجديد يسرع به إلى سوء الظن بكل فتى وكل فتاة، وكان من هذا الظن مذهبه الاجتماعي الذي يعرفه القراء.
من أحاديث هؤلاء الفتيان، كان إليه وحي المعاني في قصيدة (احذري)؛ كما كانت توحى إليه حوادث بعض الصحف وأحاديث بعض المجلات بكثير من المعاني وكثير من الموضاعات؛ إذ كان يحرص على أن يقرأ كل ما تنشره الصحف والمجلات من أحاديث الهوى والشباب ومصارع الأخلاق.
وكان الرافعي يختلف في طنطا إلى بيوت طائفة من مهاجرة لبنان كان بينه وبينهم صداقة ومودة؛ فكان يزورهم بين أهليهم، فيكرمونه ويتسعون له ويحفون به؛ والرافعي محدِّث لبق ظريف المسامرة؛ فكانت مجالسه هناك تطول ساعات يتحدث إليهم ويتحدثون إليه. وفي بيوت المتمصرين من أهل لبنان عادات غير ما نعرف في بيوتنا، فكان الرافعي يجد هنالك جواً يوحي إليه ويمده بعلم جديد. . .
وأنا لم أصحب الرافعي في طنطا إلى (زيارة مصرية) إلا فيما ندر، على أني كثيراً ما كنت أصحبه في تلك الزيارات. . .!
وأعترف بأن الرافعي لم يكن يقصد إلى زيارة أصدقائه هؤلاء لغرض مما يتزاور من أجله الأصدقاء، ولكنها كانت زيارات يقصد بها إلى معنى مما يتصل بفنه وأدبه؛ وأحسب أن كثيراً ممن كان يزورهم ويزورهن كن يعرفن له ذلك فيهيئن له أسبابه وكثير من نساء لبنان أحفل بالأدب من رجال في مصر.
وقد صحبته مرة إلى زيارة أسرة الآنسة ق، وهي فتاة ذكية من أهل الفن والأدب؛ وقد ألحَّ عليَّ يومئذ إلحاحاً شديداً أن أصحبه، ولم أكن أعلم ما يقصد إليه بهذه الزيارة إلا أن تكون تسلية بريئة ومتاعاً من متاع أهل الفن.
وكنت في ذلك اليوم صانعاً أغنية عامية في معنى من معاني الشباب تعبر عن حال من حالي في تلك الفترة، ودفعتها إلى الرافعي لينظر فيها؛ فلما قرأها طواها وجعلها في جيبه. . .
. . . وصحبت الرافعي إلى حيث يريد، فاستقبلتنا الفتاة وأمها وشاب من قرابتها، ثم لم يكد يستقر بنا المجلس، وأهل الدار حافون بنا يبالغون في إكرامنا، حتى أخرج الرافعي الورقة
من جيبه فدفعها إلى الفتاة. . .
وقرأت الفتاة الأغنية، ثم ردتها إلى الرافعي وهي تقول:(جميل. . . شعر عاشق!)
قال الرافعي وهو يشير إليَّ مبتسما: (إنها أغنيته!)
قالت: (إيه. . .! أعاشق هو!)
قال الرافعي: (نعم!. . . ومن أجلك صنع هذه الأغنية!)
ومضت فترة صمت، وصبغت حمرة الخجل وجه الفتاة، وتولتني الدهشة مما سمعت فما استطعت الكلام، ونظر الرافعي إليَّ نظرة طويلة لم أفهمها، وكان بي من الحياء أضعاف ما بالفتاة. . . وكانت دعابة غير مألوفة ولا منتظرة، أوقعتني في كثير من الحيرة والارتباك. . .
وقطعت الأم هذا الصمت الثقيل قائلة: (أغنية رقيقة!)
وردد الشاب صدى صوتها يقول: (. . . رقيقة!)
وثبتُّ في مكاني لا أتحرك، لا أرى أمامي غير تلك الابتسامة الغامضة على شفتي الرافعي. . .
ثم نهضت الفتاة إلى الغرفة الثانية وعادت بطبق الحلوى فقدمته إليَّ؛ ثم إلى الرافعي؛ واتخذت مجلسها إلى جانبي. . . وعاد الحديث ألواناً وأفانين بين الجماعة وأنا صامت في مجلسي لا أكاد أفهم ما يدور حولي من الحديث!
وجعلت أسائل نفسي وأكاد أنشق غيظاً: (ترى ماذا حمل الرافعي على هذا القول. . .؟)
فلما انفض المجلس وخرجنا إلى الطريق نظرت إلى الرافعي مغضباً أسأله جلاء السر، فضحك ملء فمه وهو يقول:(قصة طريفة. . .) لقد عقدنا العقدة فانظر في طريقة للحل. . . سيكون فصلا أدبياً ممتعا يا شيخ سعيد، تكون أنت مؤلفه وعليَّ أن أرويه؛ لقد سئمنا الخيال فالتمسناك وسيلة إلى الحقيقة. . .!)
وغاظني حديث الرافعي أكثر مما غاظني الذي كان منه فتمردت عليه، ولكن الرافعي عاد يضحك ويقول:(أتراك - إن أبيت - تستطيع أن تمنع نفسك الفكر فيها وأن تمنعها؟ لقد بدأت القصة فما بدٌّ من أن تكون لها خاتمة!)
وضقتُ بهذه الدعابة وثارت نفسي فأخشنتُ القول؛ فزاد به الضحك وهو يقول: (وهذه
الثورة أيضاً هي حادثة من فصول هذه الرواية. . .!)
واعداني مرح الرافعي وانبساطه فضحكت، ثم لم أجد للجدال فائدة فسكتُّ على غيظ ضاحك. ولقيتُ الفتاة بعدها مرتين فتناسيت ما كان ولم أسأل نفسي عن شيء من خبرها. . . ومضى زمان، ثم جاءني الرافعي يوماً يقول:(أن بينك وبين صديقنا الأديب ج لشيئاً؟) قلت: (ماذا؟)
قال: (أحسبه يغار منك على خطيبته الآنسة ق؛ فأنه ليعلم أن بينكما عاطفة. . .!)
وقال لي ع الذي صارت ابنته في داري من بعد: (أتراك كنت مع الرافعي أمس في زيارة فلانة؟) فتوجست من سؤاله شيئاً. . .
وكادت تكون قصة كما أراد الرافعي ولكني حسمت أسبابها فراراً بنفسي!
. . . من مثل هذه الحادثة كان يلتمس الرافعي موضوعاته ويبدع معانيه في المرأة والحب والزواج ومشاكل الأسرة؛ ومن هذه المجالس التي كان يصطنعها أو يسعى إليها ويهيئ أسبابها، كانت تنجلي له الفكرة ويومض الخاطر وتتشقق المعاني؛ ومن هذا الجوّ زخرت نفسه بالعواطف النابضة التي ألهمته من بعد أن ينشئ ما أنشأ من القصص لقراء الرسالة، ومنها كانت قصص الأجنبية، وسموّ الحب، والله أكبر، واليمامتان، وغيرها، وما أعني أن ذلك كان يملي عليه القصة والموضوع، إنما كان يمده بالمعاني والخواطر حتى يملأ نفسه ويوقظ حسه؛ فما تزال هذه الخواطر والأفكار مضمرة في الواعية تزبد وتتوالد وينضم شيء منها إلى شيء حتى يأتي وقتها؛ فإذا همّ بموضوع مما يتصل بهذه الخواطر المضمرة انثالت عليه المعاني انثيالا حتى يتم الموضوع تمامه على ما يريد.
ولما قص الرافعي قصة (الأجنبية) وحكى حكايتها على لسان ولده الدكتور محمد، أحس بالتعب والملل، وراجع ما كان من عمله في الأشهر الستة الماضية منذ بدأ يعمل في الرسالة، وما عاد عليه؛ فضاقت نفسه وبرمتْ به، وأحس في نفسه شعوراً جديداً ليس له به عهد، وقال لنفسه وقالت له، وثقل جسمه في الفراش بما يحمل في صدره من هم وما يضني جسده من علة؛ وخفت روحه إلى سماواتها، وتنازعته قوتان. . . وهم أن يكتب إلى الأستاذ صاحب الرسالة ليعفيه من الاستمرار في العمل. . . وطال الحديث بينه وبين نفسه فأرّقه ليلة. . .
وتركته وروّحت إلى داري وهو شاك متبرم ينكر موضعه من الحياة ومكانه بين أهل الأدب. فلما كان عصر اليوم التالي دعاني ليملي عليّ (قلت لنفسي. . . وقالت لي. . .)
من أراد أن يعرف الرافعي العرفان الحق، فليقرأ هذا الحديث يعرف نفسه الصريحة على فطرتها؛ ثم يعرف مذهبه في الأدب وهدفه في الحياة.
إن غاية ما ينشده الباحث عندما يهم بالبحث في حياة إنسان له أثر في تاريخ الحياة أو تاريخ الأدب، أن يعرف مضمر نفسه من ثنايا أعماله أو من حديث معاصريه؛ وإنه مع ذلك ليخطئ أو يصيب سبيل المعرفة، ولكن هاهنا إنساناً يتحدث عن نفسه وتتحدث نفسه إليه، حديثاً كله صدق لا اختراع فيه ولا تزوير ولا سبيل فيه إلى الخطأ
وأشهد أني رأيته قبل أن يملي عليّ الحديث وان في وجهه لمعانيه قبل أن يكون كلاماً؛ فما رأيته ورأيت حديثه من بعد إلا كما تصور معركة في حكاية وصف: هذه هي هذه، وكانت حركات صامتة فصارت عبارة ناطقة.
وأكثر معانيه في هذا الحديث قديم في نفسه؛ وقد نظم شيئاً منها قبل ذلك بسنتين أو ثلاث في قصيدة نشرها في مجلة المقتطف
. . . وكما تثوب إلى المحزون نفسه إذا صرح بشكاته إلى صاحب سره، هدأت نفس الرافعي بعد إملاء هذا المقال وثاب إلى الطمأنينة والرضى، وكأنما نفض همومه وأحزانه في هذه الكلمات وكانت تثقل رأسه؛ أو كأنما كان يستمع إلى مداولة الرأي في محكمة الضمير بين نفسه وهواه، فما هو إلا أن استوعب ما قال وقالت حتى اطمأنت نفسه إلى الحكم الأخير، وانتصرت الروح السامية على ما كان ينازعها من أهواء البشرية. . .
ثم كان هلال رمضان فأنشأ مقالة (شهر للثورة) وهي السابعة مما أنشأ من المقالات الدينية لقراء الرسالة
(سيدي بشر)
محمد سعيد العريان
جورجياس أو البيان
لأفلاطون
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 7 -
(تنزل (جورجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف، لأنها
أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلا)
للفلسفة!)
(رينو فييه)
(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة دائما وتنتصر لأنها أقوى وأقدر
من جميع الهادمين!)
(جورجياس: أفلاطون)
الأشخاص
1 -
سقراط: بطل المحاورة: (ط)
2 -
جورجياس: السفسطائي: (ج)
3 -
شيريفين: تلميذ سقراط: (س)
4 -
بولوس: تلميذ جورجياس: (ب)
5 -
كاليكليس: الأثيني: (ك)
ط - (مخاطباً جورجياس) وقد قلت زيادة على ذلك أن الخطيب يولد من الاعتقاد فينا ينفع الجسد أكثر مما يولد الطبيب!؟
ج - نعم. قلت هذا ولو أن عمل الخطيب يختص بالجمهور!
ط - وتقصد بالجمهور الجهلة من غير شك لأنه واضح أن الخطيب لا يفضُل الطبيب أمام
جمع من المتعلمين؟!
ج - إنك تقول حقاً!
ط - وما دام الخطيب أجدر بالإقناع من الطبيب فهو أجدر به أيضاً من العارف؟!
ج - بلا شك!
ط - حتى ولو كان هو في نفسه غير طبيب، أليس كذلك؟
ج - بلى
ط - ولكن واضح أن ذلك الذي هو ليس من الطبيب في شيء يجهل الأشياء التي يحذق علمها الطبيب؟!
ج - نعم - هذا واضح -
ط - وهكذا يصبح الجاهل أقدر من العالم على إقناع الجهلة في اللحظة التي يصبح فيها الخطيب أليق للإقناع من الطبيب؟ أليس ذلك معقولاً؟ أم ترى عندك شئ آخر؟
ج - كلا، فهذا هو الذي يحدث في هذه اللحظة
ط - وهذه الخاصة التي يمتاز بها الخطيب وفنه: أليست واحدة بالنسبة للفنون الأخرى؟ أعني ليس ضرورياً أن يعنى رجل البيان بطبيعة الأشياء، وحسبه أن يلتمس طريقة ما للإقناع بحيث يبدو في عين الجهلة من الناس كما لو كان أكثر علماً من أولئك الذين يجيدون هذه الفنون؟
ج - أليس جميلاً يا سقراط ألا نكون محتاجين إلى تعلم فن آخر غير ذلك الفن الذي لا ينبغي أن نتنازل عنه قط لأي محترف آخر؟
ط - سنبحث حالاً فيما إذا كان الخطيب يتنازل عنه من هذه الناحية للغير أو لا يتنازل حسبما يتطلب الموضوع. ولكن لننظر أولاً فيما إذا كان الخطيب يستطيع إزاء الحق والباطل، والجمال والقبح، والخير والشر: أن يكون كما يكون بالنسبة لما يجلب الصحة ولموضاعات الفنون الأخرى، بحيث يجهل ما هو الخير وما هو الشر، وما هو الجمال، وما هو القبح، وما هو الحق، وما هو الباطل، ولكنه يتخيل مع ذلك وسيلة للإقناع بهذه الموضاعات، ويبدو في عين الجهلة كما لو كان أكثر علماً من العلماء، بينما هو نفسه جاهل خاوي الوفاض! أو فلنر بالأحرى إذا كان لازماً وضرورياً لمن يريد أن يدرس البيان
أن يبحث عن كل هذا وبمهر فيه قبل أن يتلقى دروسك؛ أم أنك - وأنت أستاذ البيان - سوف لا تعلم شيئاً من كل هذه الأشياء إذا لم بك لديه معرفة بها لأن هذا ليس من شأنك؛ وأنك فقط ستسلك معه - في هذه الحال - سلوكاً يجعله يبدو كما لو كان عارفاً بها، وبخلع عليه الخير دون أن يكون رجل خير بالفعل! أم (لا هذا ولا ذاك) لأنك سوف لا تستطيع أن تعلمه البيان مطلقاً قبل أن يعرف الحقيقة المتصلة بهذه الموضوعات على الأقل؟ فماذا ترى في هذا يا جورجياس؟ وهل ترى - وحق جوبتير - أننا نتقدم في خواص البيان كما وعدت أنت منذ لحظة؟
ج - أرى يا سقراط أنه عندما لا يكون لديه شيء عن كل هذه الموضاعات فإنه يستطيع أن يتعلمه مني!
ط - أرجو أن تقف هنا فإن إجابتك حسنة للغاية! أليكما تستطيع أن تجعل من أحد الناس خطيباً يجب أن يكون (هذا الراغب في الخطابة) عارفاً بالظلم والعدل، سواء أتت هذه المعرفة قبل مجيئه إلى مدرستك، أم منك أنت؟
ج - لا تناقض في هذا!
ط - ولكن ماذا؟ أيكون هذا الذي تعلم (النجارة) نجاراً أم لا يكون؟
ج - يكون نجاراً
ط - وعندما يتعلم الإنسان الموسيقى، ألا يكون موسيقياً؟
ج - بلى
ط - وعندما يتعلم الطب، ألا يكون طبيباً؟ وبالاختصار فيما يتعلق بالفنون الأخرى - ألا يكون الإنسان كما ينبغي أن يكون تلميذ كل فن منها عندما يتعلم كل ما يتعلق بها؟
ج - أوافق على هذا
ط - ويكون - لنفس السبب - كل من تعلم ما يختص بالعدالة عادلاً!؟
ج - دون تناقض
ط - ولكن هل يؤدي الرجل العادل في مظهره أعمالاً عادلة؟
ج - نعم
ط - وإذاً يجب أن يكون الخطيب عادلاً، وأن يكون الرجل العادل راغباً في أداء الأفعال
العادلة!؟
ج - هذا ما يلوح - على الأقل -!
ط - ولا يرغب الرجل العادل أبداً في ارتكاب ظلامة ما؟!
ج - هذه نتيجة محتومة!
ط - ويجب بالأحرى أن يكون الخطيب بعد كل ما قيل رجلاً عادلاً؟!
ج - نعم
ط - وإذاً فلن يرغب الخطيب في ارتكاب ظلامة ما؟!
ج - يلوح أن لا
ط - وهل تذكر أنك قلت منذ قليل إنه لا يجوز أن نقف في وجه مدرب الألعاب وننفيه من المدينة لأن أحد المصارعين أساء استعمال الملاكمة وارتكب بها عملاً ظالماً، وإنه - لنفس السبب أيضاً - إذا أساء أحد الخطباء استعمال البيان يجب ألا نُرجع الخطأ لأستاذه وننفيه من المملكة، بل يجب أن نلقي المسئولية على الفاعل الذي لم يستعمل البيان كما ينبغي؟ أقلت هذا أم لم تقله؟؟
ج - قلتُه
ط - وهل ترى هذا الخطيب نفسه عاجزاً عن ارتكاب ظلامة ما أو سوف لا نراه؟
ج - سنراه!
ط - وقد قررنا من المبدأ يا جورجياس أن موضوع البيان هو الكلام الذي يعالج العدل والظلم لا الزوج والفرد، أليس هذا حقاً؟
ج - بلى
ط - عندما تكلمت بهذا النحو ظننت أن البيان لا يستطيع أن يكون أبداً شيئاً ظالماً لأن كلامه يدور دائماً حول العدالة. ولكن عندما سمعت بعد قليل أن الخطيب يستطيع أن يستخدم البيان استخداماً ظالماً عجبت واعتقدت أن قوليك متناقضان. وهذا ما جعلني أقول إنك إذا كنت ترى معي أن المعارضة خير فأننا نستطيع أن نواصل المناقشة، وإلا فلنتركها حيث وقفنا؛ فلما أن درسنا الموضوع فيما بعد رأيت بنفسك أننا قد اتفقنا على أن الخطيب لا يستطيع أن يستخدم البيان استخداماً ظالماً ولا أن يرغب بنفسه في ارتكاب ظلامة ما
وأرى - وحق الكلب - أن هذه ليست بمادة مناقشة يسيرة يا جورجياس، وإذاً فلنبحث في عمق ما يجب أن نراه في ذلك الشأن
ب - ماذا يا سقراط؟ أعندك حقيقة الفكرة التي قد ذكرتها عن البيان؟
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
غزل العقاد
للأستاذ سيد قطب
- 15 -
لقد جهد أخونا الغمراوي أن ينقض ما قلت عن الرافعي فجاء بمغالطات لم يعصمه منها ما يتشح به من دين وخلق محتكرين للرافعيين وأغاليط يعرفها طلاب المدارس الثانوية عن المعادن وخواصها! ثم لم يبلغ بعد الجهد والعرق المتصبب إلا كما يبلغ من تقول له: إن هذه المسألة ليست من الرياضيات العالية، فهي مسألة على (القواعد الأربع الأصلية) وحلها هو كذا. فيأتي لك بحل آخر، ويظن أن ذلك يخرجها من الحيز الضيق، حيز القواعد الأصلية، إلى مجال الرياضيات العالية
ذلك شأني وشأنه في تفسير كلام الرافعي، وربما كان ختام هذه المقالات، تفكها بتلك (الغمراويات) والأمر لله!
على حدود تعريفنا للشاعر الكبير، التقينا البارحة بالعقاد في حديثه عن الجمال، ونحن بالطبع لم نستقص ما قال، ولكنها نماذج تبين الوجهة، وتكشف عن المعدن، وسيأتي غيرها في (غزل العقاد)
وهانحن أولاء نلتقي به اليوم كذلك في حديثه عن (الحب) على هذه الحدود، بل نلمحه وراءها ببعيد، يهضب في خطواته الجبارة، وهو ما يكاد يلقي باله إلى الزواحف والفواحص حوله من المتظلعين على الطريق!
فما الحب عند شاعرنا الكبير؟
إنه لن يقف به عند اللهفة الظامئة، أو الفورة العارمة، ولا عند الحنين والدموع، أو الفرحة والاستمتاع. فللحب بعد هذا وذلك وشائج بالحياة الكبرى، ومسارب في الكون والطبيعة، ومدارج وملاعب في ساحة الخلود
وليس هو إحساساً في نفس فرد، ولكنه فورة وقوة في نفس كون، ودفعة ومضطرب في ضمير دنيا، وحياة وحركة في قلب وجود
وليس هو مصادفة عابرة، ولا فلتة غير مقصودة، ولكنه نظام وقصد، تهيئهما الأقدار لبلوغ مآرب وغايات، ولتحقيق آمال وخيالات
والنفس الكبيرة التي يحملها العقاد، والقلوب المنفسحة التي وهبت لأمثاله، إنما هي معارض يبدي فيها هذا الحب فنونه ويلعب أدواره ويقرب فيها من غاياته، ويحقق أحلامه في أنسب الظروف والأحوال!
فالحب تمهيد للخلود، ومران على حياة الخالدين، حتى لا يفاجأ القانون بهذه الحياة، على بعد النقلة والشقة بين الحياتين!
هذي الليالي الدنيوية نفحة
…
من عالم الملكوت والأعراف
لولا النعيم بها لما خطرت لنا
…
مُثلُ النعيم بجنة ألفاف
ولهذا يتيقظ المحبون، ويعافون النوم. أليس النوم راحة لأهل الفناء من المتاعب وتجديداً لقواهم المنخذلة في كد العيشة، فما شأنه في اللحظات المقبوسة من النعيم الخالد
يقظة الحب من خلود وماذا
…
يصنع النوم بين أهل الخلود؟
وإذا ذقت من موائد هذا الح
…
ب فالنوم من فتات العبيد
والحياة والأحياء، إنما كانوا ينزعون للخلود، ويبتغون الدوام، فلما عز عليهم المطلب، وأبت طبيعتهم ما يطلبون، عوضوا عنه بالحب، فكان عوضاً كاملاً شائقاً تمناه الخالدون!
ما الحب، ما الحب؟ إلا أنه بدل
…
من الخلود فما أغلاه من بدل
نزهي به حين يزهى الخالدون بما
…
نالوه من أبد باق ومن أزل
داموا فلما تقاضينا الدوام لنا
…
قالوا لنا: (حسبكم بالحب من أمل)
داموا وقد حسدونا في سعادتهم
…
على السعادة بين الموت والقبل
وفي هذا الإحساس الفريد، يلتقي الشاعر الكبير، بالعالم المفكر، بالفيلسوف العظيم، وتصح نظرة كل منهم في الحب، وغاية الطبيعة منه، وذلك حد العبقرية في الفنون
ويصح أن نتبع بما سبق قوله:
أتحلمين بشيء كامل أبداً
…
أتم من عالم في قلب حِببن؟
(فالكمال) المنشود في الحب صنو (الخلود) أو غايته أو وسيلته: فهو صنوه لأنه غرض مثله من أغراض الحياة؛ وهو غايته، لأن الحياة إنما تريد الدوام لتتهيأ به للكمال؛ وهو وسيلته، لأن الحياة لن تنال الخلود وهي ناقصة متحيفة الجوانب والأجزاء وهو هذا كله في حس الشاعر الملهم بما في ضمير الأكوان والآباد
ويكمل هذه النظرة ويشرحها حديثه في كتاب (مراجعات في الآداب والفنون) في فصل: (الزهر والحب):
(لقد تعودنا أن نحسب العلاقة بين الذكر والأنثى أصلاً الحب بجميع صنوفه وألوانه، ولكنا إذا واجهنا الحقيقة من وجهة أعم وأعمق، تبين لنا أن هذا الحب بين الذكر والأنثى هو فرع طارئ من أصل إلهي قديم شامل للموجودات، مستقر في طبيعة الوجود، هو حب الكمال والدوام، وليس الحب بين الذكر والأنثى غاية في ذاته، وإنما هو واسطة من وسائط هذا الحب الأصيل)
والحب قد احتضن الحياة وهي جنين، حتى إذا برزت للوجود أخذ بيدها وقادها في مسالك الطبيعة، وحاول أن يسمو بها عن منبتها وينزع بها إلى الخلد والسماء:
هي الحياة جنين الحب من قدم
…
لولا (التجاذب) ما ضمتك أكوان
والتجاذب بين (الإلكترون) و (البروتون) يقوم عليه بناء الذرة، فتبني على أساسها الأكوان. ولم يكن العقاد في حاجة للعلم بهذه النظرية التي أثبتها أخيراً (تحطيم الذرة) ليقول إن الحياة جنين الحب، ولكنها الشاعرية الكبيرة تنساح في تيارها العلوم والثقافات حتى تعود جزءاً منها لا ينماز عن طبيعتها وماهيتها
والحب يقود هذه الأرض، وينزع بها عن منشئها، ولهذا ينادي ربان الزورق النائم، وهو في سبحة من سبحات الحب:
نام رباننا وهمنا بعيداً
…
فامض يا فلك في يدي (كوبيد)
وأتّبعه فالكون أجمع يا فل
…
ك لَقي في يمين هذا الوليد
هو ربان هذه الأرض فأمن
…
هـ على ملكك الصغير الزهيد
وتعلم منه عبور السموا
…
ت فما دون سبحه من بعيد
وإذا كان الجمال كما قدمنا آنفاً هو خلاصة آمال الوجود وأشواقه، فحب هذا الجمال حب للوجود، ما كان منه ومن كان. والمعانق للجمال معانق للفضاء بأسره بما فيه من أنواع وأطماع. ومن يعش في بحبوبة الحب فإنما يعيش في الكون كله، فهو مدار العالم. يتضح كل ذلك في قصائد متفرقة:
إنا لمن معشر حب الجمال لهم
…
حب لما كان في الدنيا ومن كانوا
وأنا المعانق للفضاء بأسره
…
في جسم أغيد كالندى شفاف
نحن في بحبوحة الحب وهل
…
غير هذا الحب في الكون مدار؟
والحب رفعة للنفس؛ ونقلة إلى عالم النجوم، وعمق في الحيوية تطول به الأعمار، وإيغال في المجاهل والآباد والعهود والأزمان
كم علونا من دارة بعد أخرى
…
وطوينا العهود بعد العهود
والحب من يغش ركبه
…
يساير النجم كل حين
لحظة ترفع عمري
…
حقبا متصلات
ربّ عمر طال بالرف
…
عة لا بالسنوات
لحظة لا بل خلود
…
لاح بين اللحظات
كالسموات تراها
…
في شباك الحلقات
رب آباد تجلت
…
من كوى مختلفات
وقطيرات زمان
…
ملأت كأس حياة
وأنني لأكتفي في هذه النماذج، بما سقتها من أجله؛ وإلا فوراء هذا مجال واسع لبيان الطرافة في الحس والتعبير، في رؤية الخلود من خلال هذه اللحظات، كالآباد تتجلى من كوي مختلفات أو كالقطيرات التي تمتلئ بها الكأس، وهي قطيرات زمان فاضت بها كأس حياة. . .
والحب قدرة قادرة، تهب أصحابها مشابه من الألوهة، ومقابس من النبوة، وتنضح بالمعجزة. لا، بل إنها لتهب في بعض الأحيان ما لا تهبه الأقدار:
ليس مكان في السماء كلها
…
عن شاعر أو عاشق بناء
بجناحيه من الحب ومن
…
حسنك الخفاق ينجاب الفضاء
داوني داوني فقد كان عيسى
…
يبعث الداثرين بالأسماء
وكلا الحب والعبادة وحي
…
فوق ذرع الحجا وفوق الذكاء
أمسيت أنظر لا أرى أمنية
…
كبرت وما خلقي بالاستخفاف
تبسم ألا يرضيك أن ابتسامة
…
بثغرك أمضي من صنوف المقادر
والحب بهذه القدرة يجمّل الحياة ويجددها، ويخلق منها دنيا بعد دنيا، وكوناً وراء كون:
أنظر فهل تجد المروج كعهدها
…
من قبل في الحدقات والآناف
وهي السماء أم ارتقت أجوازها
…
في النور آلافاً على آلاف؟
ويقول في أبيات بعنوان (معنى جديد):
قد شهدتُ الزمان في كل وجه
…
وبلوتُ الحياة في كل معنى
وختمت الدنيا! فما من قديم
…
كان إلا يعاد وصفاً ولوناً
فإذا للحياة معنى جديد=لم نجده من قبل أو لم يجدنا
ذاك معناك أنت حين وهبت ال
…
قلب نوراً من طلعة الشمس أسنى
ومنحت الحب الإلهي حبَّا
…
وكسوت الحسن السماوي حسناً
وفي قصيدة بعنوان: (جمال يتجدد)
كما قلت لي الربيع جميل
…
قلت حقاً وزاد عندي جمالا
عجباً لي. بل العجيبة عندي
…
صور الكون كم يسعن كمالا
خلتني قد وعيتهن عيانا
…
وتتبعت من وَعوها خيالا
شاعراً عاشقاً وقارئ كتب
…
قرأ الكتب دارساً، فأطالا
فإذا نظرة بلحظك تبدى
…
صوراً ما طرقن عندي بالا
بعداد الأنوار في أعين الحُ
…
بِّ نعد الأكوان والأجيالا
وبعض هذا كان يمكن سوقه في معرض الحديث عن (الجمال) ولكن التفرقة بين حديث الحب وحديث الجمال في النفس الشاعرة ليس بمستطاع في كل الأحوال، وكلاهما مادة واحدة في الحس والخيال
ويحسن أن نتبع حديث الشعر بحديث النثر، وكلاهما يتساوق ويتكامل في فن العقاد. يقول في كتاب المراجعات من فصل بعنوان:(أصل الجمال في نظر العلم):
(ومما لا مراء فيه أن الحب يرينا من فتنة الحياة مالا نراه بغيره وأن جمال المرأة أغلى محاسن هذه الدنيا المشهودة. بيد أن الحب لا يخلق فتنة الحياة؛ وليس جمال المرأة هو كل ما في الدنيا من المحاسن، ولكنهما يصبغان الدنيا بهذه الصبغة لأنهما يوقظان القلب ويذكيان الشعور ويبعثان كوامن الوجدان فيفتح لما حوله، ويرى ما لم يكن يراه، ويستوعب ما كان يلمحه بطرف العين، ويستحسن ما كان في غفلته عن حسنه قبل أن تتراءى الدنيا لخواطره
في ثوبها الجديد. وكذلك تفعل الخمر حين تركض بالشعور وتلهب الدم فإنها تري النشوان من المحاسن ما لم يكن يراه في صحوه وتضاعف إحساسه وعطفه فيشعر بسرور هذا العطف في داخل نفسه ويشعر في الدنيا ببهجة تخفي على من حوله؛ ولذلك قيل إن الحب سكر أو أنه ضرب من الجنون)
والحب ملخص للأحاسيس الإنسانية في نفس الشاعر
غض عينيك قليلاً واستعد
…
خطوات العام في الأفق الوسيع
كم ترى من خفقة غنت بها
…
ساعة العمر التي بين الضلوع
كم ترى من قبلة رنت بها
…
تلكم الساعة؟ قل لو تستطيع
كم ترى من نشوة حامت بنا
…
حول عليين والعرش الرفيع
هو (حب) فإذا فرقته
…
فهو ما راع قديماً ويروع
ووراء دلالة هذه الأبيات على ما أوردناها له تلمح ملكة التشخيص والتصوير، وهي تعمل عملها في نفس الشاعر وتخلق له من لحظات حبه شخوصاً ماثلة في ضميره، يغمض عينيه عن الدنيا الظاهرة ليتملاها ويستمتع بها واحدة واحدة، ويعمق بهذا متعة الحب، ويجوف خطراته
ولا ننس وراء ذلك كله هذا الخيال الطريف الذي يصور (العام) وهو يخطو في الأفق الوسيع، مرموقاً باللحظ والانتباه والإعجاب!
والحب معلم، يهب الحس فطانة، والروح نفاذا، والفكر يقظة، وفيه مهرب من الحياة إذا ساءت إلى دنيا جديدة:
إذا ساءت الدنيا ففي الحب مهرب
…
وتحسن دنيا من أحاط به الحب
فبالحب تدري الحسن والقبح عندها
…
وفي الحب علم لا تعلمه الكتب
والحب هو الذي يعمر القلب ويحييه، وحين يخلو القلب منه ينتهي إلى عالم خراب، وجدب كجدب اليباب:
هو الحب الذي يع
…
مر هذا القلب لا المجد
حبك إن أخل منه يوماً
…
خلوت في عالم خراب
يمر بي اليوم لا أراك كما
…
يمر بالأرض عامها القاحل
وهو ليس دموعاً ولا آهات، وليس ابتسامات وتثنيات:
إنما الحب شراب عاصف
…
يسكر الراوين منه والظماء
لهذا كله فالكون والحياة حفيان بالحب، يستقبلانه بما فيهما من سرور وابتهاج، ويهيئان له من الطرافة والجدة كل ثمين مذخور، ويبذلان له من كنوزهما وأسرارهما ما لا يباح، ويعترفان بحقه عليهما وفضله:
وهو يقول من قصيدة عن يوم لقاء:
قال: سيوفي زائراً في غد
…
يا لغد! كيف غد يشرق
بالشمس؟ أم شمس غد وحده
…
مذخورة من أجله تخلق
كيما نرى الدنيا، وما شأنها
…
سربالها المبتذل المخلق
في حلة لا تتحلى بها
…
إلا لمن يَعشق أو يُعشق
وفي قصيدة بعنوان عروس الليالي:
عروس الليالي تهبط اليوم من عل
…
وتدنو على طول النوى والتدلل
سرت بين شرق من ضياء ومغرب
…
وبين جنوب من ضياء وشمأل
ولما سألته الحياة جواز المرور بها، لم يجد أحظى لديها من الحب يفتح منها المغاليق والستور:
قالت جوازك قلت هاك
…
حب أنال به رضاك
فدخلت في حذر الحيا
…
ة وراء ألفاف الشباك
هذا هو (الحب) عند العقاد: عالم مترامي الأطراف، وفن من أعجب فنون الحياة، ومجال للخيال والحس والتعبير على غير مثال
ونحن نعيدها مرة أخرى: لو أن شاعراً قال هذا وسكت لجاوز حد الشاعر الكبير
وعلى هدى من رأيه في الجمال، ورأيه في الحب، سنتحدث عن (غزل العقاد). وإن كان كثيرون سيتساءلون الآن: ماذا سيقول غير ما قال؟ وسنجيبهم بعد قليل: تلك أوليات المقال
(حلوان)
سيد قطب
حول أدب الرافعي
بين القديم والجديد
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
- 6 -
لعل من الخير أن ننظر نظرة في الأمور التي تشبه أن تكون أصولاً في النقد عند صاحب مقالات (بين العقاد والرافعي) والتي يمكن استنباطها من كلامه
ولعل من أبرز هذه الأصول ما يصح أن يسمى بالعلمية. ولسنا نريد بالعلمية هنا علمية التفكير، فقد وزناه من ناحية علمية التفكير فلم نجده منها في شيء؛ إنما نريد بها هنا علمية الأفكار. فصاحب تلك المقالات معجب جداً فيما يبدو بالعلم وبما يمكن أن يدخله الأديب في أدبه من النظريات والحقائق العلمية. تعرف ذلك من طبيعة أكثر الأمثلة التي ضربها لتفوق العقاد عنده على الرافعي، وتعرفه من تجشيمه نفسه قراءة ما قرأ من المباحث العلمية المنقولة إلى العربية كي يرقى كما يقول إلى محاولة استيعاب العقاد. وهذه النزعة إلى العلم تشكر فيه لولا ما يفسدها عليه في الموضوع الذي هو بصدده من تعصب للعقاد يجعله يتلقى كل ما يرد أو يتوهم أنه ورد على قلم العقاد من الأفكار العلمية كما يتلقى الوحي بالتسليم والإكبار المطلقين
والمثال الأول الذي ضربه لاحتياج الناظر في أدب العقاد إلى ألوان من الثقافة كالتي استمدها هو من قراءاته العلمية قطعة من (وحي الأربعين) عنوانها (سعادة في قمقم). وقد تساءل بعد أن ذكر أبياتها التسعة (هل فهم الرافعيون شيئاً من هذه القطعة مع وضوح كل لفظة فيها وكل عبارة؟). وما نظن الرافعيين أو غير الرافعيين يفهمون من مرماها شيئاً حتى يبلغوا البيت السادس منها
بسر على شفتي فاتن
…
يباح إلى شفتي مغرم
وهو بيت رقيق ليس في القطعة كلها مظهر للشاعرية غيره، إذا بلغه القارئ ظن أن القطعة كتبت في قبلة، لأن السر الذي يباح إلى شفتين لا يمكن أن يكون غيرها. حتى إذا بلغ القارئ البيت الثامن
وما أنا بالمشتهي قبلة
…
ولا بالحريص على مغنم
زال عنه كل شك في المراد من القطعة كلها، وإن بقي حيث كان من صعوبة توجيه القطعة إلى المعنى المراد كما يصعب أحياناً على قارئ اللغز حتى بعد عرفانه الحل أن يطبق لفظه على الشيء المقصود!
ولكي يشاركنا القارئ في تقدير القطعة نوردها له وإن شغلت مكاناً.
هنا قمقم سابح في الدم
…
أسائل عنه ولم أعلم
جهلت خباياه حتى أتى
…
عريف الطلاسم بالمعجم
ففيه كما قيل مسجونة
…
سعادة بعض بني آدم
تجن جنوناً بنور الضحى
…
وتذبل في حبسها المظلم
وقد زعموا أن إطلاقها
…
رهين بهمة ذاك الفم
إلى هنا لا نظن قارئاً مهما بلغت ثقافته من التنوع والعمق، وبلغ هو من الاستعداد الطبيعي، يستطيع أن يدرك من هذه الأبيات معنى واضحاً، أو أن يقول إن المقصود بها هو قبلة حتى يقرأ عقب ذلك:
بسر على شفتي فاتن
…
يباح إلى شفتي مفرم
فهل أنت مطلقها منعماً
…
فديتك أم لست بالمنعم؟
وما أنا بالمشتهي قبلة
…
ولا بالحريص على مغنم
ولكنما أنا أبكي أسى
…
لتلك الشهيدة في القمقم
فليس في القطعة كما ترى ما يدل على المراد منها غير البيتين اللذين ذكرنا. والآن وقد عرفت المراد هل تستطيع ولو بشيء من التعسف أن تطبق القطعة على القبلة المطلوبة؟ سيد قطب يقول إنك تستطيع بشرط أن تعرف نظرية فرويد في العقل الباطن، وأن تكون على استعداد لأن تحس (بأن النوازع والرغبات المكبوتة في النفس، والأشجان والبلابل والاضطرابات التي تعتريها إبان ضرام الحب، تظل تعتلج في النفس وتقلقها وتهزها هزا كمواد البركان المكتوم حتى ينفس عنها ويتاح لها التعبير فإذا هي سعادة وهدوء وراحة.)(وكيف يكون التعبير؟ يكون بقبلة على شفتي فاتن تبيح السر إلى شفتي مغرم، وعندئذ تنطلق تلك الشهيدة في القمقم التي يبكي لها أسى). فهل تستطيع الآن بعد هذا التفسير
الطويل المبني على نظرية فرويد في العقل الباطن أن تطبق أبيات القصيدة على القبلة المقصودة فتقول مثلاً ما هو ذلك القمقم السابح في الدم المسجونة فيه تلك الشهيدة؟ أما نحن فلا نحسب أحدا في حاجة إلى نظرية فرويد أو غير فرويد في العقل الباطن أو الظاهر ليعرف أن رغبات الحب التي يتلهف إليها تؤلمه قبل تحققها فإذا تحققت هدأ وارتاح وسعد زمنا ما، ولا نحسب معرفة ذلك تحتاج إلى استعداد خاص في أحد، فكل إنسان يدركه في نفسه، حتى الطفل لو نطق وأحسن التعبير لقال إن ذلك كذلك، وفي دموعه قبل تحقق كل رغبة شديدة وابتسامه أو ضحكه بعد تحققها ولما تجف دموعه ما يغني عن كل نطق وتعبير. لكن صاحبنا ذا الثقافات يزعم أنك لا تعرف ذلك إلا إذا كنت ذا استعداد خاص وتثقفت بنظرية فرويد!. ليكن ذلك. فكيف يمكن فهم تلك الأبيات إذن في ضوء نظرية فرويد؟
إن أقل ما يطلب في الشعر الجيد ذي المعاني العلمية المتراكبة أن يحتوي على إشارات واضحة تكون مفتاحاً إلى تلك المعاني لمن يعرفها، بحيث إذا توجه الذهن إليها بدأ يدرك المعنى العميق المقصود، ولا يزال ذلك المعنى يزداد وضوحاً وتفصيلاً بالإشارة بعد الإشارة، والقرينة جنب القرينة، حتى يرتفع كل شك فيه، ويلبسه الكلام كأنما كان مقدراً عليه. لكن هذه القطعة فيها إشارات تصرف الذهن عن معناها إذا كان معناها هو كل ما ذكر سيد قطب. وأول ما تلقى فيها من هذه الصوارف هو هذا القمقم السابح في الدم، فانك تحاول جهدك أن تجد له تفسيراً حتى بعد معرفتك مرمى القطعة فلا تستطيع.
ثم ليكن ذلك القمقم ما يكون، فعند أي طرفي الحب هو! إن كان عند المحب فهو لا شك يعرف رغبة نفسه ويعرف طريق التعبير الذي يريد، فلا حاجة إلى معجم عريف الطلاسم ليحل له اللغز. وإذا كان القمقم للحبيبة وكانت سعادته هو مسجونة فيه - كما هو الأقرب إلى المعقول - قام تفسير السيد قطب وتطبيقه نظرية فرويد حائلاً دون ذلك، إذ تصبح النوازع والرغبات المكبوتة هي نوازع الحبيبة ورغباتها، فكأنها هي التي تشتهي القبلة لا هو، والشعر صريح في أن عكس ذلك هو المقصود.
فالقطعة كما ترى متخاذلة متضاربة إن حاولت أن تطبق عليها كل علم سيد قطب، وأن تفهم منها بالعقل ما فهم هو منها بالوهم. أما إذا تركت النظرية العلمية جانباً وحاولت أن
تفهم من القطعة مرادها في بساطة بدليل البيتين اللذين ذكرنا لك، أصبح للقطعة معنى مفهوم على غموض فيه وعيوب فيها. فما دام المطلوب هو قبلة من الحبيبة فيها سعادة المحب، والحبيبة هي التي تملك منحها من فمها الشبيه إلى حد ما بالقمقم، أمكن توجيه القطعة وتبرير الشاعر إلى حد كبير في تخيله أن سعادته المتمثلة في قبلة من حبيبته محبوسة في فم تلك الحبيبة حتى تطلقها هي. أما وصف القمقم بأنه سابح في الدم فيجب حمله على ضرورة الشعر والقافية، أو على أنه وصف معيب لشدة احمرار الشفتين، أو على أن الشاعر أراد أن يلغز في قبلة فجاء بهذا الوصف وبغيره ليعمي على القارئ بعض التعمية.
فأنت ترى أن القطعة لا تحتاج إلى علم فرويد أو علم سيد قطب لحلها، بل هي تزداد تعقيداً وبعداً عن المعقول إن أنت حاولت إدخال العلم فيها. لكن العقاد لا يكون هو ما هو عند سيد قطب إلا إذا حشر العلم في شعره، وإلا فبم يمتاز العقاد على الرافعي ويمتاز هو عن مثل شاكر والعريان؟
هذا عن المثال الأول. أما المثال الثاني فقطعة مأخوذة عن (عابر سبيل) تحت عنوان (ابنا النور - الزهر يخاطب الجوهر) وهي في رأينا قطعة حسنة أوضح كثيراً من القطعة الأولى، لكنها لا تحتاج من العلم لفهمها أكثر مما يعرف الطالب الثانوي عن انعكاس الضوء وانكساره وامتصاصه، وعن التمثيل الخضري في النبات. وليس هناك بعد ذلك إلا خيال الشاعر في التصوير يجاريه خيال القارئ في التصور. وقد أحسن كل الإحسان حين لخص الموقف في طول عمر الجوهر الجماد وقصر حياة الزهر بقوله على لسان الزهر يخاطب الجوهر:
ومعدن النور فيك حي
…
وفيك معنى الحياة فان
فيا زماناً بلا حياة
…
إني حياة بلا زمان
وإن كنت تلمح شيئاً من تقصير اللفظ عن المعنى في قوله:
(وفيك معنى الحياة فان) فان (فانٍ) في الغالب لا تستعمل إلا للدلالة على الموت الذي سيكون بدلاً من الموت الواقع، لكن الشاعر المقيد بالقافية قلما يجتمع له في الشعر كل ما يريد. على أن المهم فيما نحن بصدده هو ما في تقدير سيد قطب للثقافة اللازمة لفهم القطعة
من الإسراف والتهويل
أما المثال الثالث فهو قول العقاد:
بك خف الجناح يا أيها الط
…
ير وما كنت بالجناح تخف
لطف روح أعار جنبيك ريشاً
…
فمن الروح لا من الريش لطف
وهما بيتان ليس فيهما معنى كبير، وليس فيهما من الصنعة أكثر من عكس الترتيب الطبيعي وهو كثير في الأدب العربي؛ لكن سيد قطب الذي لا بد أن يجد لكل قول للعقاد معنى علمياً ما أمكن ذلك، يتمثل في هذين البيتين نظرية علمية يحكيها في قوله (فعلم وظائف الأعضاء يقول إن الوظيفة تخلق العضو) ويطيق النظرية بقوله:(فوظيفة الطيران هي التي خلقت الريش وقبله الجناح!)، فجاء قوله هذا دليلاً واضحاً على أن الأديب إذا لم يترب تربية علمية، وجمع آراءه وأفكاره العلمية من الكتب والمجلات، يكون أميل إلى تصديق كل ما يساق إليه باسم العلم وإن خالف في ظاهرة المعقول. وإلا فكيف يمكن أن تخلق وظيفة الطيران الريش والجناح قبل أن توجد الوظيفة نفسها؟ إذ من الواضح أن لا طيران ولا وظيفة طيران في طائر قبل أن يوجد الريش والجناح. فلو قال قائل مثل هذا الكلام من غير أن ينسبه للعلم لكان موضعاً لتهكم صاحبنا واستهزائه. أما وقد نسب هذا الكلام إلى العلم فيما قرأ فهو يقبله من غير نظر ولا تمحيص.
إن المعقول ليس هو خلق الوظيفة العضو، ولكن تنميتها إياه. فالعضو لا بد أن يوجد لأداء الوظيفة، واستعماله فيها بعد ذلك ينميه ويقويه ويرقيه. أما سبب إيجاد العضو فليس العلم يعرفه وإن حاول بعض العلماء أن يفسره بمثل هذا الغرض الذي لا يفسر شيئاً، والذي لا يعبأ العلم به في الواقع لأنه لا يمكن أن يختبر صحته لا بالتجربة ولا بالمشاهدة. والفروض العلمية لا حرج على العلماء في فرضها. فليفرض منهم منها ما شاء ما دام ذلك يساعده على التفكير. لكن العلماء يعرفون أن لا قيمة لهذه الفروض ما لم تساعد على إجراء تجارب ومشاهدات لاختبارها، وما لم تؤيدها هذه التجارب والمشاهدات بعد إجرائها؛ لكن غير العلماء يكبرون كل ما ينسب إلى العلم وينزلونه من عقولهم منزلة واحدة، فلا يفرقون بين حقائقه ونظرياته وفروضه. وعندنا أن مسارعة المشتغل بالأدب إلى قبول مثل هذا الفرض الذي يخالف المعقول تنازل من ذلك الأديب عن حرية التفكير التي يحرص عليها
مثلاً ويغالي فيها إذا كان الموضوع لا يتصل بالعلم ولكن يتصل بالدين.
والمثال الرابع الذي ضربه سيد قطب لاتساع ثقافة العقاد وتفوقه بها على الرافعي يتصل بنظرية دروين، وهو مقطوعة (الجيبون) أو (أمام قفص الجيبون) وأحسن ما في هذه المقطوعة خيالها؛ أما اتصالها بالواقع وبحقيقة نظرية دروين فليست منه في شيء كبير. إنها تذكر النظرية كما يفهمها غير العلماء، فتجعل (الجيبون) أبا العبقري أي الإنسان، وتجعل الناس أبناء (الجيبون). والناس في العادة ينسبون هذا الرأي لدروين ودروين منه بريء، فان دروين لم يقل إن الإنسان أصله قرد كما يقول العقاد، وإن صح أن يفهم من نظريته في أصل الأنواع بالانتخاب الطبيعي أن القرد والإنسان يرجعان في سلسلة النشوء إلى أصل واحد بعيد ليس بقرد ولا إنسان، فترقي فرع عن هذا الأصل فصار إنساناً، وسار فرع آخر سيرة أخرى فصار قرداً. فقول العقاد للجيبون:
كيف يرضى لك البنون مقاماً
…
مزرياً في حديقة الحيوان
قول يدل على سوء فهم لنظرية دروين.
ثم إن النظرية لا تقول بأن الفرق بين الإنسان والقرد فرق زمني في صميمه، ولا أن الإنسان أقدم من القرد حتى يصح لأحد أن يظن أن القرد إذا استوفى زمنه ومرت عليه ملايين السنين صار إنساناً. إن القرد أقدم ظهوراً على الأرض من الإنسان في حكم العلم إلى الآن، فلو كان القرد يستطيع رقياً إلى الإنسانية لترقى. إن سنن الترقي قد حكمت حكمها بين الاثنين، فلن يصير القرد إنساناً مهما عاش، وإن جاز أن ينحط الإنسان فيصير قرداً أو شبه قرد إذا قصر في استعمال ما وهبه الله على الوجه الذي اختاره الله له حقبة كافية من الزمن؛ فان هناك سنة انحطاط بالترك والإهمال والمعصية، كما أن هناك سنة ارتقاء بالاستعمال والإحسان والطاعة.
والناس يعطون نظرية دروين فوق ما لها من قوة عند العلماء فيظنون أنها تفسر خلق الأنواع، ويضل منهم بهذا الظن من يضل إذ لم يبق عنده لوجود الإله من داع. لكن النظرية في حقيقتها لا تفسر إلا حفظ الأنواع، أما مجيء الأنواع وخلقها فان النظرية لا تفسره. هي - كما يقول دريتش في محاضرات جيفورد التذكارية - سلبية الأثر لا إيجابيته: تفسر كيف انعدم المنعدم من الأنواع، ولا تفسر كيف وجد الموجود.
على أن من المهم أن ننبه في هذا المقام أن سنة التطور لا يشك فيها الآن أحد من العلماء، لكن طريق التطور وعلمه وأسبابه هي موضع الأخذ والرد والبحث بينهم. فأخونا علي الطنطاوي كان على حق حين أنكر نظرية دروين كما يصورها العقاد في مقطوعته، والذي انتقده في الرسالة على حق في قوله: إن التطور يقول به كل العلماء المعتد برأيهم، وعلى باطل إذا كان قصده بهذا أن هؤلاء العلماء يفهمون من التطور ما فهمه ووصفه العقاد في مقطوعته.
فمقطوعة العقاد إذا أخذت بتفاصيلها العلمية مبنية على خطأ كبير، وهي من الناحية العلمية لا تساوي أكثر مما يعتقده الناس عادة في نظرية دروين؛ وإذا أخذت من الناحية الشعرية الخيالية وحمل خطؤها العلمي على أنه خيال شاعر كان لها شيء من القيمة، ولكن شتان بين قيمتها هذه وبين ما يدعيه لها سيد قطب بضعفه العلمي وافتتانه بالعقاد.
فالعلمية التي يقيس بها سيد قطب تفوق العقاد على الرافعي علمية ضعيفة ناقصة في بعض الأمثلة، ومهوَّلة هوّلها الوهم والافتتان في بعض الأمثلة الأخرى. وهي في الحالتين لا تزيد شيئاً عنها في الأمثلة التي جاء بها من كلام الرافعي واتخذ منها سبباً للزراية عليه، وإن سلمت أمثلة الرافعي من الخطأ الذي وقع في بعض أمثلة العقاد.
ومن أول ما تهكم به على الرافعي من هذا النوع قوله في حبيبته:
سيالة الأعطاف أين ترنحت
…
تطلق لكهربة الهوى سيالها
وقوله فيها أيضاً:
يا نجمة أنا في أفلاكها قمر
…
من جذبها لي قد أضللت أفلاكي
ولا يزيد قطب في نقد هذين البيتين على أن يقول مبالغة في الإيحاء بتهكمه إلى القارئ: (ولا شيء وراء هذا العبث الذي لا نريد له نقاشاً)!. ويظهر أن عيب هذين البيتين وأمثالهما عنده هو وضوح معناهما، فان الرافعي عنده (سهل جداً لا يكلف مجهوداً ولا عناء)، مع أننا لا نظنه يفهم كثيراً من (حديث القمر) لو أعاد قراءته الآن. فصعوبة الكلام على فهمه مزية يكبر بها الكلام عنده فيما يظهر، ويسميها في العقاد سموا وسموقا وإن كان يسميها في الرافعي مداحلة ومعاظلة! هذا هو القياس عنده في الواقع لا العلمية، وإلا فأي فرق في العلمية بين المعنى العلمي الواضح والمعنى العلمي الغامض لو كان يقيس قياساً
صحيحاً؟ بل الوضوح في المعاني العلمية أحق بالتقدير في الأدب من الغموض
إن السبيل في مثل هذا أن ينظر إلى دقة المعنى العلمي ودقة التطابق في الاستعارة بين الحقيقة وبين المجاز. وليس أصدق في التعبير عما يعتري المحب من هزة ورجفة إذا اقترب منه حبيبه من تشبيه ذلك بالهزة التي تعتري من يسري فيه سيال كهربائي. ولا يقدح في التعبير وحسنه ولا في البيت وصدقه أن المعنى العلمي المستعار معروف مألوف، فذلك مما يزيده حسناً عند من يريدون بالكلام الإفهام لا الإبهام. أما البيت الثاني فهو من باب الاستعارة التمثيلية النادرة. وهو بيت بقصيدة وحده. ثم معناه ليس بالشائع المبتذل، والقانون العلمي المشار إليه فيه أعم وأهم من نظرية دروين. فذلك البيت الفريد ليس فيه عيب ولكن السبب في ناقده الذي يكيل بمكيالين ويفكر بمنطقين
ومثل هذا البيت الثاني قول الرافعي لحبيبه الناسي له:
يا من على البعد ينسانا ونذكره
…
لسوف تذكرنا يوماً وننساكا
إن الظلام الذي يجلوك يا قمر
…
له صباح متى تدركه أخفاكا
وهذا البيت الثاني هو أيضاً من الاستعارة التمثيلية النادرة والمعنى المستعار ظاهرة طبيعية معروفة مألوفة، لكن المطابقة بين حال الرافعي في شقائه بحبه المنسي ورجائه الفرج بالنسيان، وبين ظلام الليل يجلو القمر فإذا جاء الصباح أخفاه - هذه المطابقة في الاستعارة مطابقة نادرة لا يكاد الإنسان يقضي حقها وحق أمثالها عجباً. لكن صاحبنا الذي يرمي الرافعي ومن معه بأنهم شكليون يخطئ جوهر الموضوع مرة أخرى فلا ترى من البيت إلا تمثيل الحب بالظلام، والحب عنده لا يكون ظلاماً أبداً فالرافعي لا يمكن أن يكون ذاق الحب أبداً، وليس يشفع للرافعي أن الحب الذي شبهه بالظلام هو حب شقي به لنسيان حبيبه إياه، فلا يصح في إنصاف ولا في أدب أن يقاس على حب آخر يسعد به صاحبه لاستجابة حبيبه له فيه. لا! الحب أياً كان لا يمكن أن يكون ظلاماً عند سيد قطب؛ فمن رآه ظلاماً فقد زل زلة بألف، ودل دلالة قاطعة على أنه شكلي لم يذق الحب قط! ليت شعر النقد - إن صح هذا - ماذا يكون الحكم فيمن شبه الحب بالجحيم وظلمتها؟ ومن هو؟ سيد قطب! هو سيد قطب في شعره الذي نشره بالرسالة (عدد 220) بعنوان (ريحانتي الأولى أو الحرمان)
وإليك بعضه إن كان لا بد أن نذكر لك منه مثالاً:
ريحانتي الأولى وروح شبابي
…
أئذا دعوت سمعت رجع جوابي
أنا في الجحيم ها وأنت بجنة
…
من روح إعجاب وريق شباب
أنا في الجحيم وأنت ناعمة المنى
…
خضراء ذات تطلع وطلاب
أنا لا أريدك ها هنا في عالمي
…
إني أعيذك من لظى وعذاب
ولكيلا تظن أن سيد قطب يتفلسف حين يقول هذا اقرأ له من مقطوعة أخرى من نفس الشعر:
عيني رعتك وأنت نابتة فلم
…
تغفل ولم تفتر ولم تتألم
حتى إذا أينعت وانطلق الشذى
…
ألفيت نفسي في صميم جهنم
ملقى هنالك لا أحس ولا أرى
…
إلا الشواظ وكل داج معتم
أفي نورٍ هذا من حبه يا ترى أم في جب من جهنم؟ هذا هو الذي لم يعجبه بيت الرافعي فتجنى عليه ما تجنى وأطال قلمه فيه بما أطال، وأنساه تجنيه وهواه الواقع وما خطت يمينه قبلها ببضعة أشهر ليكون كلامه حجة عليه يفضحه الله به، وليعلم الناس أجمعون أن مقالات (بين العقاد والرافعي) كتبها عابث يتجنى لا ناقد يتحقق، ولا أديب يبتغي وجه الأدب
محمد أحمد الغمراوي
2 - البحث عن غد
للكاتب الإنجليزي روم لاندو
للأستاذ علي حيدر الركابي
روم لاندو كاتب إنجليزي معروف، زار بلاد الشرق الأدبي زيارة المستطلع الباحث، ثم دون ما رأى وسمع في نشره بعنوان (البحث عن الغد) وقد نشرنا ما يتصل بمصر مترجما بقلم الأستاذ العقاد فلم يعترض على قوله أحد؛ ثم أخذنا ننشر ما كتب عن لبنان وسورية مترجما بقلم الأستاذ علي حيدر الركابي فلم يكد ينشر المقال الأول حتى ثارت النفوس في بيروت لهذا الحديث الغريب الذي نسبه الكاتب إلى رئيس الجمهورية اللبنانية، وعقدت الوزارة مدفوعة بهذه الثورة جلسة خاصة أبرقت على أثرها إلى الرئيس تسأله في عرض البحر عن هذا الحديث، فأجاب بأنه لم يعط حديث كهذا وطلب من الحكومة أن تكذبه فكذبته. إزاء هذا التكذيب الرسمي لم نشأ أن ننشر ما كتبناه وكتبه غيرنا تعليقا على هذا الحديث الطائش، ولكن بقي لنا أن نسأل: من الذي زور هذا الحديث على فخامة الرئيس؟ لا يمكن أن يكون أحد غير الكاتب الإنكليزي نفسه، لأن الحديث لم ينشر في صحيفة يجوز عليها الدس والغفلة، وإنما نشر في كتاب أصدره الكاتب تحت اسمه وعلى مسئوليته، وسمى فيها الأشخاص وذكر المكان والزمان والمناسبة، فلا مناص إذن من أن تتخذ الحكومية اللبنانية إجراء قضائياً أو دبلوماسيا نحو الكاتب (الكاذب) ليتسنى له هو أيضا أن يقول كلمته
(المحرر)
الجمهورية اللبنانية
وجهة نظر المعارضة
لقد تحدثت إلى أحد الوزراء كما تحدثت إلى بعض الوجهاء فلمست منهم تأييداً لوجهة النظر الرسمية التي بسطها رئيس الجمهورية، حتى إن بعضهم أكد لي بأن الوحدة العربية إنما هي الوحدة الإسلامية بعينها. ومع ذلك فان زعماء المسلمين الذين زرتهم قد نفوا لي هذه الفكرة. ومما يؤيد صحة نفيهم أن الشعور الديني لدى مسلمي لبنان سائر نحو الضعف
بصورة جلية تجعل المرء يعتقد أن ميلهم إلى الوحدة العربية لا بد أن يكون مبيناً على أسس غير الأسس الدينية. وهذا ما قاله لي عربي من كبار رجال التعليم في بيروت:
(لا بد لنا إذا أردنا الحياة من أن نتعاون في الأمور العسكرية والاقتصادية، ولا يتحقق هذا التعاون إلا بواسطة الوحدة العربية أو - في بادئ الأمر - الوحدة السورية. إن الناحية العنصرية لا تهمنا كثيراً، ولكن اشتراكنا في اللغة وتحملنا نفس المصاعب لما يدفعنا للسعي وراء نوع من أنواع الاتحاد. قد تختلف بلاد مصر ونجد والحجاز وشرقي الأردن وسورية والعراق الواحدة عن الأخرى، إلا أن أمام كل واحدة منها مشاكل متشابهة يجب حلها، منها تعليم الفلاحين والبدو وسكان الجبال، وتعميم الوسائل الحديثة لحفظ الصحة العامة، ورفع المستوى العام من الناحيتين الثقافية والاجتماعية. إن التعليم في مصر نفسها لا يتعدى طبقة محدودة راقية. وهناك رابطة التاريخ المشترك التي تعطينا الحق في أن نفتخر بماض زاهر، ونسعى لإحياء ذكرى هارون الرشيد. ولعلك تعتبر هذه الرابطة خيالية وعاطفية، ولكني أؤكد لك أننا نعتبرها دافعاً حقيقياً وقوياً لنا في نهضتنا. إن الماضي يمكن أن يصبح حاضراً مرة ثانية إذا اتحدنا مع سورية أولاً، ثم مع الأقطار العربية الأخرى)
قد يظن البعض أن العرب الذين يعتنقون فكرة الوحدة السورية غارقون في بحر من الأوهام. والواقع أن فكرتهم هذه بالرغم من غموضها لأجدر بالتقدير من فكرة الرجال الرسميين ذوي الخبرة الواسعة وأتباع الحقيقة دون الخيال الذين أتضح لي أن تفكيرهم محصور لا يتجاوز مراميهم القريبة. لقد وجدت أنصار الوحدة السورية من العرب عنيفين وغير منظمين، إلا أني واثق في نفس الوقت من أنهم أصحاب بصيرة، وأن نار إيمانهم بمثَلهم الأعلى لتتأجج تأجج النيران العظيمة في باطن الأرض
وقد اتضح لي - كما كنت أتوقع - أن كلا الفريقين: الرسمي والعربي كان متطرفاً قد خفي عليه جزء من الحقيقة. وهذا أمر طبيعي في بلاد أصبحت القومية فيها قوة ذات قيمة بالرغم من حداثة عهدها. والواقع أن ارتفاع مستوى المعيشة وزيادة الثروة قد ولدا في اللبنانيين ميلاً إلى احتراف السياسة سواء كانوا من السياسيين المسيحيين أم من المسلمين. وقد سلم بعض العرب في لبنان بالفكرة الفكرة القائلة بأن البلاد لا يمكن أن تستغني عن فرنسا، وأن الصواب يقضي بالاعتراف بالأمر الواقع ونبذ أحلام الوحدة العربية. وهذا
الشعور بالانخذال قد جعلهم أقل إيماناً بتحقيق المثل العليا في عرب سورية. ومن نتيجة ذلك - على ما يقال - أن الأغراض الشخصية تلعب في بيروت دوراً أعظم من الذي تلعبه في دمشق
النصرانية العملية
إن أعظم مشكلة معقدة يجابهها لبنان هي مشكلة الدين، فإننا نرى من جهة أن المزج بين السياسة والدين قد حشر الدين في أمور غريبة عنه في الأصل. ومن جهة أخرى فان الدين قد أصبح بعيداً كل البعد عن أسسه المشروعة
ليست حكومة لبنان حكومة حزبية ولا هي بالحكومة ذات الاختصاص الفني البعيدة عن الأحزاب، وإنما هي حكومة تتشكل من ائتلاف دائم يمثل الطوائف المختلفة. فان كلا من الوزير والموظف الإداري والمعلم وطبيب البلدية يعين بالنظر إلى طائفته لا بالنظر إلى مقدرته الفنية. وقد أدى تدخل الكنيسة في السياسة إلى إساءة الاستعمال كما أدى إلى انحطاط عام في الدين. وقد كاد جميع من تحدثت إليهم (وبينهم أستاذ الجامعة والسياسي والتاجر وصاحب العمل الحر والمسيحي والمسلم) يجمعون على الشكوى من أعمال الكنيسة السياسية، ومع ذلك فلم أجد لدى أحد ما الجرأة الكافية لمعالجة هذا الموضوع
إن الفرنسيين يفتخرون في بلادهم بفصل الدولة عن الكنيسة، ولكنهم في لبنان قد استعملوا الاكليروس الماروني منذ البدء لتحقيق غاياتهم السياسية. إن كليات اليسوعيين الفرنسيين ومدارسهم نفسها قد أصبحت مراكز للدعاية الفرنسية، حتى إن أكثر القسيسين الفرنسيين يعتبرون أنفسهم جنوداً يخدمون الراية المثلثة الألوان كما يخدمون الصليب. وقد شعر رجال الاكليروس من غير الموارنة أنهم لا يجوز أن يتأخروا عن إخوانهم في هذا المضمار فدخلوه بدورهم، وأخذوا يستعملون نفوذهم الديني لتحقيق الأغراض السياسية. أما المسلمون فان دينهم في الأصل لم يفرق بين القوانين الدينية والمدنية، ومع ذلك فقد كانت سلطة الأئمة والمفتين في الأمور غير الدينية لا تشمل غير الأفراد التابعين لهم. أما الآن فقد أصبحوا هم أيضاً يلعبون دوراً سياسياً
إن الدولة المنتدبة لم تعمل شيئاً للوقوف في وجه حركات رجال الدين السياسية، بل هي على العكس قد شجعتهم عليها لأنها أدركت أن أي خلاف ينشب بين فئات متباينة من أهل
البلاد من شأنه أن يقوي مركزها. إن روح الاستخفاف التي تنطوي عليها هذه السياسة قد بينتها جريدة الطان بجلاء، إذ أشارت في مقال لها في شهر يناير عام 1926 إلى مهمة المسيو دو جوفنيل المندوب السامي الجديد بهذه لعبارة:(إن وظيفة المسيو دو جوفنيل لواضحة تماماً: فهو يجب أن يفرق لكي يسود) على أن خطر هذه السياسة قد أخذ يتناول الفرنسيين أنفسهم، فالمارونيون شرقيون في الدرجة الأولى وإن كانوا نصارى؛ ولا رغبة لديهم في أن ينقادوا لفرنسا انقياداً أعمى. ومن المحتمل أن يجدوا أنفسهم في المستقبل في صف المسلمين
والإنصاف يقضي بأن نعترف بأن اشتغال رجال الدين بالسياسة لم يمح كل أثر للشعور الديني، فإننا نجد بين النصارى طائفة لا تزال شديدة التمسك بالدين، ألا وهي طائفة الأرمن، وكذلك الفلاحون في الجبال الذين يختلفون عن باقي فلاحي الشرق الأدنى بسمو أخلاقهم. أما الإسلام فهو منذ الحرب العظمى قد أخذ نفوذه يضعف. وأما الدروز فأنهم على الرغم من تمسكهم بدينهم كادوا يفقدون تأثيرهم في حياة المجتمع الروحية بسبب اعتصامهم وراء طقوس دينهم السرية
إن الكثيرين من مثقفي النصارى والمسلمين لا يفرقون بين الدين كما هو معروف في بلادهم وما تتطلبه الحزبية من دسائس وفساد. وهذا ما حمل بعضهم على الافتخار بأنه لا ديني؛ ففي بادئ الأمر كنت أستغرب قول بعض المتمسكين بتعاليم الدين لي بأنهم ضد الدين، ولكني ما لبثت أن أدركت أنهم يقصدون بذلك أنهم ضد رجال الدين
إن الحكومة اللبنانية تشعر بضعفها وهي لهذا لا تجرؤ على السعي للقضاء على نفوذ رجال الدين السياسي لكيلا تعرض نفسها لغضب قسم من رعاياها عليها
(يتبع)
علي حيدر الركابي
فتاوى شرعية
معضلات العصر
للأستاذ الجليل محمد بن الحسن الحجوي
وزير معارف الحكومة المغربية
- 1 -
إن أهم ما اهتم به النبيون والمرسلون صلوات الله عليهم أجمعين ثم الفلاسفة الأقدمون والمتأخرون؛ والعلماء المؤلفون، معضلات عصورهم التي تهم الفكر العام. وعليها يتوقف تحسين حال مجتمعهم وإن كان في غفلة أو إغفاءة عنها في بعض الأوقات.
ففي عصر نبينا العربي عليه صلوات الله وسلامه، كان أهم معضلة هي الوثنية وفساد المعتقد وتنوعه في جانب الله؛ وعن ذلك ينشأ تشتت الأفكار، وفداحة الجدل. ثم رداءة حال العرب بل العالم من حيث افتقاره إلى شريعة منظمة تكون رابطة متينة للمجتمع تذهب بها فوضى الحقوق والأخلاق، وتنتظم بها الأحوال وتتناسق الأعمال.
وهكذا النبيون قبله، ما من رسول إلا وقد جاء بحل أهم المعضلات، وأعقد المشكلات؛ وكذلك الفلاسفة اليونانيون وغيرهم ما كانت فلسفتهم إلا لحل مشكلات عصورهم، يعلم ذلك من يتتبع موضوعات مؤلفاتهم المتنوعة.
ثم كان علماء هذه الأمة الكريمة على ذلك، فتجد أكثرهم يؤلف في النوازل التي تنزل أو يتوقع نزولها بعد المعضلات. وبالنظر في كتب الفتاوى والأحكام يتبين ذلك، بل لا تجد كتاباً في فن إلا والقصد منه سد فراغ وكفاية حاجة من حاجات المجتمع في نظر مؤلفه.
بناء على هذه السنة جعلت هذه الأوراق أجوبة على أسئلة ثلاثة وردت عليّ من عالم نبيل من علماء أشقودرة (ألبانيا) يطلب مني الجواب عنها وهي:
1 -
لبس البرنيطة 2 - قبض مرتب بدون عمل 3 - مفتريات أهل الطريقة التجانية.
وهذا نص السؤال، ويليه الجواب:
(صاحب الفضيلة والسماحة والأيادي الجليلة، لا زالت أعماله مشكورة، وآثاره مبهورة، الأستاذ الكبير الإمام الشيخ محمد ابن الحسن الحجوي الثعالبي الجعبري وزير معارف
الحكومة المغربية. بعد إتحافكم درر التحيات السنية، وغرر التسليمات البهية، أعرض أن كثيراً ما يجول في عقولنا ويخطر ببالنا الترامي إلى أعتابكم الشريفة سائلين منها حل مسائل يكون الناس فيها ما بين كفر وضلال، وكثر فيها القيل والقال، حتى افترق الناس فريقين في أكثر البلاد خصوصاً في بلادنا الألبانية وأشقودرة، إلا أن الشواغل التي كثرت لديك من المسائل العلمية التي توجه إليك من جميع الأطراف قد منعتنا من السؤال عنها، لكن عندما اشتد الخلاف فيها الآن بحيث صار لا يمكن أن يدفعه أحد غيرك في اعتقادنا ما وجدنا مناصاً من أن نطلب ونرجو من فضيلتكم أن تضع هذه المسائل في مقدمة المسائل التي تعني بها عناية كبيرة لما لها من شأن عظيم وهي:
مسألة البرنيطة أو القبعة
كان ملك ألبانيا قد أصدر أمراً لكل رجل موظف له مرتب شهري أن يلبس البرنيطة وإلا يعزل عن الوظيفة والمأمورية؛ فهل يجوز لذاك المأمور الموظف أن يلبس البرنيطة تبعاً لأمر الملك أو يترك الوظيفة والمعاش ويقبل العزل؟ وكذلك قرر مجلس وزراء ألبانيا أن يلبسن البرنيطة جميع الصبيان الذين يداومون بالتحصيل في المدارس والمكاتب، فهل يجوز أيضاً لآباء وأولياء هؤلاء الصبيان أن يلبسوا البرنيطة الصبيان أم يقبلوا طردهم وإخراجهم من المدرسة ويتركوهم بدون تحصيل ولا تعليم خصوصاً في هذا الزمان؟ يعني هل يعد التحصيل والمعاش ضرورة للبس البرنيطة أم لا؟ وغير الموظفين والمأمورين من العوام قد تركهم الملك مخيرين إن شاءوا لبسوا لباس القوم الأرناءودي مع الطربوش الأبيض كما هي عادة أهالي أشقودرة وألبانيا. هؤلاء الذين تركهم الملك مخيرين هل يباح أو يكره أو يحرم عليهم لبس البرنيطة أو يكفر لابسها إن لبسها بالاختيار. ثم إن القلنسوة التي ذكرها الفقهاء في الكتب الفقهية بقولهم: من وضع قلنسوة المجوس على رأسه قيل يكفر وهو الصحيح، وقيل لا يكفر. ما المراد بهذه القلنسوة؟ أهي التي جعلوها علامة على خدمة دينية أو الدخول في الدين كطيلسان اليهود وجبة القسيس وما يلبسه صبيان النصارى وبناتهم حين الدخول في التكليف الديني، أم تشمل كذلك القلنسوة التي لم يقصد منها الدلالة على الدين، وإنما هي لباس أمة صادف أن كان كلها أو معظمها غير مسلمين بحيث يلبسها النصراني واليهودي ومن كان يولد من تلك الأمة، بها وكذا يلبسها المسلمون في هذا
الزمان، يعني ما الفرق بينهما؟
المسألة الثانية:
رجل ألباني أو بغدادي أو شامي مثلاً في دار يأخذ مرتباً شهرياً سياسة من الحكومات المتجاورة مثل إيطاليا أو فرنسا: أو فرَّ وخرج من دار سياسة أيضاً إلى دار أخرى ويأخذ من تلك الحكومة التي يقيم فيها هل يحل لذلك الرجل أن يأخذ فرنكات كثيرة من تلك الحكومة المجاورة أم لا؟
المسألة الثالثة:
وهي أن الطريقة التجانية المنتشرة في أكثر البلاد حتى البلاد الأرناؤودية ولا سيما بلدتنا أشقودرة هل المندمج فيها غير مناف للشريعة الغراء، ومنتسبو تلك الطريقة يدعون أفضلية قراءة (صلاة الفاتح) لما أغلق على تلاوة القرآن ستة آلاف مرة وهو أكبر الأذكار متأولين بأن ذلك بالنسبة لمن لم يتأدب بآداب القرآن كما فصله في (كتاب جواهر المعاني) المنسوب إلى التجانية، وأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بتلك الصلاة الخاصة إنما يترتب عليها الثواب إذا اعتقد أنها من كلام الله القديم من قوله عليه السلام: من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه عشراً. وإن تلك الصلاة مع فضيلتها بتلك المثابة لم يعلمها النبي عليه السلام لأحد إلا لمؤسس تلك الطريقة، وفي ذلك ما لا يخفي من لزوم الكتمان ومنافاته للتبليغ المأمور به عليه السلام؛ وإن مؤسس تلك الطريقة أفضل الأولياء، مع أن الإجماع هو أن الأفضل بعد نبينا محمد عليه السلام الخلفاء الأربعة على الترتيب المعلوم؛ وأن من انتسب إلى تلك الطريقة يدخل الجنة بلا حساب ولا عقاب ويغفر ذنوبه الصغار والكبار، حتى التبعات وغير ذلك مما هو مبسوط في الكتب التجانية.
فهنا نحن متعطشون لفتواكم فهي لنا بمثابة نور يسطع وسط الظلمات فيبددها حتى نكون بعد ذلك على طمأنينة، ولذلك نطلب ونرجو من فضيلتكم توضيح هذه المسائل المهمة بالبراهين القاطعة والأدلة المقنعة موقنين أنكم ممن يعملون بقوله تعالى (وأما السائل فلا تنهر) نسأل الله تعالى أن يفيض عليك من نعمه، ويمدك بوافر فضله وكرمه، وأن يقيك من جميع البلايا والآفات، في جميع الأزمان والأوقات، وتقبلوا فائق احترامي وجميل شكري.
أحد منتمي العلم في بلدة أشقودرة
حافظ إبراهيم ربيشطي
وأن تتفضل بإرسال الأجوبة الشافية بكتاب خاص بالعنوان بالحروف اللاتينية:
انتهت الأسئلة بحروفها
(يتبع)
محمد بن الحسن الحجوي
مصر والبلاد العربية
للدكتور زكي مبارك
أشكر لأدبكم وكرمكم التفضل بالحضور للتسليم على صديق كان قد اغترب مدة في سبيل خدمة العلم في العراق
وأعتذر عن كلمة (اغترب) واقترح حذفها من المعاجم فهي كلمة تفردت بها اللغة العربية، ولا يكاد يوجد لها نظير في اللغات الأجنبية، وعن لغة العرب نقلت إلى الفارسية والتركية وهي كلمة حزينة يتمثل سوادها في كلام من يقول:
وكل محبّ قد سلا غير أنني
…
غريب الهوى يا ويح كل غريب
وفي كلام من يقول:
أنا في الغربة أبكي
…
ما بكت عين غريب
لم أكن يوم خروجي
…
من بلادي بمصيب
عجباً لي ولتركي
…
وطناً فيه حبيبي
ولي مع هذه الكلمة الحزينة تاريخ، فقد سببت أول معركة أدبية شهدتها في العراق، ذلك بأني كنت نشرت مقالاً في مجلة الرسالة عنوانه (القلب الغريب في ليلة عيد)
فعزّ على أدباء العراق أن أقول إني في بلدهم غريب، ودار الجدل أشهراً حول ذلك المقال في الجرائد والمجلات. والحنين إلى الوطن مرض لا يصيب غير الضعاف في عالم الإنسان والحيوان، فأرجو أن يكون فينا من القوة ما يعصمنا من هذا المرض العضال.
أنا ما كنت غريباً في العراق، وإنما كنت بين أهلي وقومي.
وإذا صح للمصري أن يشعر بالغربة وهو في وطن عربي مثل العراق فماذا ترونه يصنع لو هاجر إلى بلد في استراليا أو في إحدى الأمريكتين؟
لقد آن للمصري أن يبرئ نفسه من ذلك المرض الذي يقضي بان يتوجع حين تنقله الحكومة من القاهرة إلى حلوان، آن للمصري أن يفهم أن في دمه روحاً عربياً يسوقه إلى الانتقال من أرض إلى أرض في سبيل المنافع العلمية والأدبية. آن للمصري أن يفهم أن رجولته لا تكتمل إلا إذا واجه المصاعب واستطاع أن يخلق لنفسه ولوطنه أصدقاء في مختلف البلاد.
وما أقول إني كنت أقوى من سائر الزملاء الذين تشرفوا بخدمة العلم في العراق، وإنما أقول إني رضت نفسي على التخلق بأخلاق أسلافنا من العرب فرأيت الأرض كلها وطناً أصيلاً ولم تجر كلمة الغربة على لساني إلا تأثراً بالميراث الحزين الذي قضى بأن تتفرد لغتنا بكلمة (غريب) من بين سائر اللغات.
ولما زار سعادة العشماوي بك مدينة بغداد دعا الأساتذة المصريين لسماع ما قد يكون عندهم من مقترحات أو شكايات، فمضيت أبحث عمن أعرف منهم لأصدهم عن حضور ذلك الاجتماع فقد كنت أحب ألا يكون بيننا وبين حكومة العراق وسيط ولو كان ذلك الوسيط هو العشماوي بك الذي أحب العراق وأحبه العراق.
إن صداقتنا للعراق لا تزال في أول عهد من عهود التكوين، وهي لا تزال في حاجة شديدة إلى من يحرسها ويرعاها، وهي تستحق الحراسة والرعاية لأنها رباط بين أمتين كانت بينهما صلات ودية من أقدم عهود التاريخ.
ولا يعرف قيمة هذه الصداقة إلا من زار العراق. فأهل العراق بمودتهم المتينة يبعثون فينا شعور الثقة بالنفس، ويفرضون علينا أن نؤمن بأن جهادنا في سبيل العلم والمدنية لن يضيع.
أهل العراق منا ونحن منهم. ولو نطقت الأحجار لحدثتكم أن علماء العراق اتصلوا بمصر ونقلوا إليها علومهم ومعارفهم يوم أراد التتار أن يقرضوا حضارة بغداد.
ولعل هذا هو السبب في أن مخارج الحروف لا تتفق بين أمتين عربيتين كما تتفق بين مصر والعراق.
أهل العراق منا ونحن منهم؛ فالمؤلفات القديمة في معاهد مصر هي في الأغلب عراقية، والمؤلفات الحديثة في معاهد العراق هي في الأكثر مصرية. فأرجوكم بالله أن تكونوا جميعاً أنصاراً للأخوة التي تربط بين مصر والعراق.
وقد عجب بعض الناس حين رأوني أتصدى لدفع الأذى عن سمعة العراق، فاعرفوا إن شئتم أني أدفع ديناً ثقيلاً. فأهل العراق في أنديتهم وجرائدهم ومجلاتهم ومدارسهم يدفعون عن مصر قالة السوء ويخاصمون في سبيلها كثيراً من الناس، ولو عرفتم من ذلك بعض ما عرفت لرأيتم أن من القليل أن ينهض كاتب أو كاتبان للإشادة بفضائل أهل العراق.
إن القاهرة تقوم في العصر الحديث بالواجب الذي كانت تقوم به بغداد في عصر بني العباس، فمن واجب القاهرة أن تحمل من التكاليف ما حملت بغداد، بل من واجب القاهرة أن ترحب بمطلع اليوم السعيد الذي يقضي بان يكون لها في الشرق منافس قوي هو بغداد، فتفرد القاهرة بالزعامة الأدبية قد يضر أكثر مما ينفع، لأن التفرد بالتفوق قد يخلق عيوباً أيسرها الزهو والخيلاء والاطمئنان إلى أن ليس في الإمكان أبدع مما كان.
وقد بدأت هذه العيوب تظهر مع الأسف، فأهل مصر شغلتهم ثقافتهم التي اتسعت وتشعبت عن التطلع إلى ما يبدع أهل العلم والأدب في العراق وسورية ولبنان وفلسطين والحجاز واليمن والجزائر وتونس ومراكش وما إلى هؤلاء من البلاد العربية؛ وانصراف أهل مصر عن الأدب في تلك البلاد يحجبهم عن تطور الحياة في أقطار حية سيكون لها بإذن الله مكان بين الأقطار التي تسود العالم في المستقبل القريب.
ومن الواجب في مقامي هذا أن أوجه أنظاركم إلى حقيقة لا يختلف في صحتها اثنان: تلك الحقيقة هي أن مصر تتفرد اليوم بالسيادة العقلية في البلاد العربية. فمؤلفات مصر ومجلات مصر ليس لها مزاحم يخشى خطره في تلك البلاد؛ وشعراؤنا وكتابنا هم الذين يقدمون الغذاء الأدبي لجمهور المتعلمين في الأقطار العربية، وبفضل إقبال أولئك الإخوان على مؤلفات مصر ومجلات مصر استطاعت اللغة العربية أن تقف على قدميها بجانب اللغة الفرنسية واللغة الإنجليزية. فاللغة العربية اليوم لغة حية حقا وصدقاً، وهي تكافح وتناضل لتسيطر وتسود. وما كان من الغريب أن تسيطر اللغة العربية في أقطار كتب الله أن تستعرب منذ أجيال طوال، ولكن فساد الزمن وتوالي الأحداث والخطوب جعل سيادة اللغة العربية في بلادها من الغرائب، فلنفهم ذلك ولنواصل الجهاد، ولنعرف أن من أعظم الشرف أن نكون في الحياة من المجاهدين، ولنتذكر دائماً أن انتصار اللغة العربية في أوطانها هو البشير بأن تلك الأوطان تستعد من حيث تشعر أو لا تشعر لحياة مجيدة سترون أعلامها بعد حين.
وإخواننا العرب يعجبون من تفرد مصر بالتفوق في اللغة العربية، فان أذنوا شرحت لهم بعض أسرار هذا التفوق. فمصر هي الأمة الوحيدة التي استعربت استعراباً تاماً، وصارت العربية لغتها الرسمية والقومية في مدة ترجع إلى ثلاثة عشر قرناً. وهذا حظ لم يظفر بمثله
المغرب ولا الشام ولا العراق، فما انقرضت اللغة البربرية في المغرب، ولا اللغة السريانية في الشام، ولا اللغة العبرانية في فلسطين، ولا اللغة الكلدانية في العراق.
وإنا لنرجو أن تكون لمصر يد بيضاء في رجوع اللغة العربية إلى بلاد فارس بفضل المودة الجديدة التي أنشأتها المصاهرة الملكية بين مصر وإيران. فمن المؤكد أن قادة الرأي في تلك البلاد سيراعون عواطفنا مشكورين فلا يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، كما فعل إخواننا الأتراك سامحهم الله حين استبدلوا الحروف اللاتينية بالحروف العربية.
وقد وقع بيني وبين سفير إيران في العراق عتاب حين رأيته أول مرة في بغداد، ولم أكن أعرف أن الله سيخلق بيننا وبينهم صلات جديدة تجعل من الحق علينا أن نذكرهم بماضيهم الجميل في خدمة لغة القرآن يوم كان منهم كبار النحويين وكبار اللغويين.
إن فرنسا لها مدرسة في طهران لنشر اللغة الفرنسية بين أهل إيران، فمتى يجيء اليوم الذي تقوم فيه مدرسة عربية في وطن الجرجاني والتوحيدي وابن العميد؟
لقد ألفت كتابي النثر الفني أول مرة باللغة الفرنسية وأنا في باريس، وكان قلبي يفيض بالحزن الدامي كلما تذكرت أن أكثر من تحدثت عنهم في كتابي كانوا رجالاً نشأوا في بلاد فارس، وأن لغة العرب في تلك البلاد صارت غريبة الوجه واليد واللسان.
وكذلك كان حالي حين ألفت كتاب التصوف الإسلامي فقد رأيت أن أرواح التصوف هبت علينا من الأقطار الفارسية.
فيا أصدقائي الأعزاء في إيران تذكروا ثم تذكروا وأنتم مسلمون أبرار أن اللغة العربية هي لغة القرآن ولغة الرسول، وتذكروا أن الأمم العربية لها في العالم السياسي والأدبي والاقتصادي موازين، وأنها خليقة بأن تزيدكم قوة إلى قوة حين تراكم ترحبون باللغة العربية التي كان لها في بلادكم أبناء وأحفاد وأسباط. . .
تلكم مكانة مصر بين الأمم العربية والإسلامية، وذلكم حظها بين الممالك والشعوب، وهذا التجاوب الأدبي بيننا وبين من نعرف ومن لا نعرف لم يقع من باب المصادفات، وإنما هو علامة حب صادق يضمره لمصر من عرف فضلها من الرجال.
وأخشى، والحزن يفعم قلبي، أن يكون ما ضفرنا به من المجد الأدبي ميراثاً تلقيناه عن أجدادنا النبلاء الذين ملأوا الدنيا بالتأليف والتصنيف وجعلوا مصر تاجاً تزدان به هامة
اللغة العربية.
أخشى ألا تكون لنا سياسة رشيدة تفكر دائماً في حفظ مكانة مصر بين الأمم العربية. أخشى أن نجهل نعمة الله علينا فننسى أننا أغنى الأمم العربية بالأموال والرجال. أخشى ألا نعرف أن الجهاد في سبيل اللغة العربية هو مجد أبقى على الزمن من الأهرام ومن قصر الكرنك وقصر أنس الوجود.
إن اللغة العربية هي التي ستجعل لنا لسان صدق في الآخرين، وهي التي ستسطر محامدنا على جبين الزمان.
والذي أدعوكم إليه هو تجارة لا تعرف غير الربح، فإن كنتم في ريب من ذلك فسيروا في الأرض وانظروا كيف تذكر مصر بالحمد والثناء.
إنني أفرض زيارة الشرق على رجلين: الأول وزير المعارف والثاني وزير الخارجية.
أما وزير المعارف فهو اليوم معالي الدكتور محمد حسنين هيكل باشا، وليته كان في بغداد كما كنت في بغداد يوم ظهور كتابه عن منزل الوحي، ليته كان هناك ليرى كيف استقبل البغداديون كتابه بموكب لم يعرفه القاهريون. وأما وزير الخارجية فهو اليوم دولة عبد الفتاح يحيى باشا، وليته يرى كيف يأنس أهل بغداد إلى صوره الكاريكاتورية في الجرائد والمجلات، إنه لو رأى ذلك لعرف أن مصر لا تعيش وحدها في وإنما تعيش في أنس بأصدقائها في الشرق.
ولن أنسى اليوم الذي زرت فيه نادي المعارف في بغداد مع سعادة الأستاذ طه الراوي، فقد رأيت مكتب رئيس النادي يزدان بصورتين كريمتين: صورة الملك فاروق الأول وصورة الزعيم سعد زغلول.
ولما زرت النجف أراد أدباؤه أن يقدموا إلي هدية فكانت تلك الهدية هي صورة الرجل الموفق محمد العشماوي بك، وكان زار النجف واستقبل فيه أكرم استقبال.
ولما زرت الموصل رأيت رئيس نادي الجزيرة أحد تلاميذي القدماء فأحسست أنني في داري وبين أهلي.
فيا أهل مصر، متى تعرفون نعمة الله عليكم؟ ومتى تؤدون للأمم العربية واجب الوفاء؟
إن الذي كتب أن تكون عاصمتكم عروس الشرق هو وحده القادر على أن يجعلكم أهلاً
لرعاية العهد وحفظ الجميل.
زكي مبارك
تيسير قواعد الإعراب
لأستاذ فاضل
- 3 -
ألقاب الإعراب والبناء
جعل النحاة للإعراب ألقاباً هي: الرفع والنصب والجر والجزم، وجعلوا للبناء ألقاباً هي: الضم والفتح والكسر والسكون، وقد رأت جماعة وزارة المعارف أن هذه التفرقة دعت إليها الدقة في الاصطلاح بدون حاجة إليها، ولهذا رأت ألا يكون هناك فرق بين ألقاب الإعراب وألقاب البناء.
ولا يخفي أن ما ذهبنا إليه من إنكار البناء في العربية لا تتأتى معه هذه التفرقة، ولكن لا بد فيما ذهبنا إليه من أن يبقى الرفع والنصب والجر والجزم ألقاباً للإعراب، وتبقى الحركات من الضم والفتح والكسر وما ينوب عنها والسكون وما ينوب عنه علامات لهذه الألقاب. ولا شك أن ما تذهب إليه هذه الجماعة من أن يكون لكل حركة لقب واحد غير جدير بالاعتبار، لأن هذا قد يمكن في الإعراب بالحركات، أما الإعراب بالحروف فلا يتأتى فيه ذلك، لأنا إذا جعلنا الرفع عبارة عن حركة الضم لم يمكن أن نجعله عبارة عن حرف من الحروف التي تدل عليه، كالواو في جمع المذكر السالم، وكالألف في المثنى. ومن الإعراب بالحركات ما لا يتأتى فيه ذلك أيضاً، وهذا كما في جمع المؤنث السالم في حالة النصب، لأنه ينصب بالكسرة، فلا بد أن تكون الكسرة في ذلك علامة لا لقبا، لبعد ما بين اللقب والعلامة فيه. وإذا كانت جماعة وزارة المعارف قد وجدت من السهل ألا تفرق بين النصب والفتح في مثل - رأيت إنساناً - فإنه يصعب عليها ألا تفرق بين النصب والكسر في مثل - أكلت تفاحاتٍ
الجملة
رأت الجماعة أن تجري في النحو على إصلاح علماء المنطق فتسمى جزأي الجملة موضوعاً ومحمولاً، والموضوع هو المحدث عنه في الجملة، وحكمه الضم عندها إلى أن يقع بعد إن أو إحدى أخواتها، والمحمول هو الحديث أو المحدث به
1 -
ويكون اسماً فيضم إلا إذا وقع مع كان أو إحدى أخواتها
2 -
ويكون ظرفاً فيفتح
3 -
ويكون فعلاً أو مع حرف من حروف الإضافة أو جملة ويكتفي في بيان إعرابه بأنه محمول
وترى الجماعة أنها بهذا كله يسرت إعراب الجملة وقللت إصلاحاتها وجمعت أبواب الفاعل ونائب الفاعل والمبتدأ واسم كان واسم إن في باب الموضوع، وجمعت أبواب خبر المبتدأ وخبر كان وخبر إن في باب المحمول، وخففت عن المعلمين والمتعلمين برد باب ظن إلى الفعل المتعدي
ونحن نرى أن كلاً من تقليل الاصطلاحات وتفصيلها قد يكون يسراً في العلم وتدوينه، وقد يكون يسراً فيه، فيجب أن يصار إليهما بقدر ما تدعو إليه الحاجة فيهما، وإلا كان الإجمال غموضاً في العلم وكان التفصيل حشواً لا فائدة فيه، وهذه الأبواب التي جمعت في باب واحد ذات أحكام كثيرة مختلفة، فمن الواجب أن يقتصد في جمعها، وقد يؤدي الإسراف في تقليل اصطلاحاتها إلى عكس ما نرجوه منه
والذي نراه في ذلك أن يلحق باب كان وأخواتها وباب إن وأخواتها بباب المبتدأ والخبر، فتجمع هذه الأبواب الثلاثة في باب واحد، ويعرب اسم كان وخبرها مبتدأ مرفوعاً وخبراً منصوباً، ويعرب اسم إن وأخواتها مبتدأ منصوباً وخبراً مرفوعاً لأن الإعراب فرع المعنى ودليله، وهذه الصيغة الإعرابية المشهورة لا يمكن أن تدل على معنى في جملة كان وأخواتها وجملة إن وأخواتها، بل هي صيغة لا معنى لها في ذاتها، إذ لا يمكنك أن تفهم معنى لكون اسم كان وأخواتها اسماً لها، ولا لكون خبرها خبراً لها، وكذلك الأمر في إن وأخواتها، فصاحب الخبر في قولك: كان زيد قائماً - هو زيد لا كان، وموقعه في هذه الجملة موقع المبتدأ المخبر عنه، فأصدق شيء في إعرابه أن يقال إنه مبتدأ، وأن يقال فيما بعده إنه خبره لا خبر كان، وليست كان في جملتها إلا قيداً فيها، لأنها تقيد الخبر بمفادها وهو الزمان الماضي، فكأنك قلت في ذلك المثال - زيد قائم في الزمان الماضي
وأمر ذلك في إن وأخواتها أظهر منه في كان وأخواتها، لأن قولك - إن زيداً قائم - لا تفيد إن فيه إلا تأكيد ثبوت الخبر للمبتدأ، فلا يزال المبتدأ فيها مبتدأ على معناه وإن تغيير
إعرابه، ولا يزال الخبر خبراً له بإعرابه الذي كان له
وليست منزلة هذه الأدوات من المبتدأ والخبر إلا كمنزلة أدوات الشرط من فعل الشرط وجوابه. وأنت حينما تعرب فعل الشرط لا تقول إلا أنه فعل الشرط، ولا تقول إنه فعل الأداة، وكذلك تقول في الجواب إنه جواب الشرط، ولا تقول إنه جواب إن وأخواتها، فإذا أضيف الشرط أو الجواب في بعض الأحيان إلى هذه الأدوات فان ذلك لا يكون إلا على ضرب من التجوز، لما لها من علاقة المجاورة والعمل فيهما، ولا يدل على أمر حقيقي في معنى الجملة
فهذا هو الذي نراه في اختصار هذه الأبواب، قد راعينا فيه ما يجب من مطابقة الإعراب للمعنى، ولم نقصد فيه الاختصار لذاته كما قصدته هذه الجماعة
وعلى ما ذهبنا إليه في ذلك يكون المبتدأ هو الاسم المحدث عنه في الجملة الاسمية، فيشمل ذلك اسم كان واسم إن، ويكون الخبر هو الاسم المحدث به في الجملة الاسمية، فيشمل ذلك خبر كان وخبر إن. وقد ذهب الكوفيون إلى أن المنصوب بعد كان وأخواتها حال لا خبر؛ ويمكن على هذا أن يكون المرفوع بعدها فاعلا لها، ويكون حكمها في ذلك حكم سائر الأفعال، ولا يكون هناك داع إلى تقسيم الأفعال إلى تامة وناقصة
ولا نرى بعد هذا كله في ذلك الموضوع إلا أن يلحق باب النائب عن الفاعل بباب المفعول به وغيره مما ينوب عن الفاعل، فيكون لنا مفعول به مرفوع في نحو - قُضيَ الأمرُ - ومصدر مرفوع في نحو - فإذا نُفخ في الصور نفخة واحدة - وظرف مرفوع في نحو - سهرت الليلة - وهذا الإعراب أولى من الإعراب المشهور في ذلك، لأن إعراب ذلك نائب فاعل لا يقوم على أساس قوي، إذ ليس في ذلك إلا حذف الفاعل للعلم به أو نحوه مما يحذف لأجله، والمفعول بعد حذف الفاعل باق على مفعوليته، ولا معنى لدعوى نيابته عن الفاعل، بل قد يحذف الفاعل ولا يجود ما ينوب عنه، نحو - سُقط في أيديهم - وهم يذهبون في هذا إلى نيابة المجرور، ولكنه تكلف ظاهر، وليس من اللازم أن ينوب شيء عن الفاعل عند حذفه، كما لا يلزم هذا في حذف المبتدأ ونحوه
(يتبع)
أزهري
رسالة الفن
موت فرنشيسكو فرنشا
مترجمة عن الإيطالية
يا بني! لا جدال في أن عصر النهضة الإيطالية عصر ربيع الحياة الفنية العظيمة؛ أورق الفن فيه وأزهر، ونهض الرسم نهضة قوية جبارة، إذ نفض عن كاهله رماد الموت، ونفخ في هيكله روح حياة جديدة، فجاءنا بكل شهي بهي، وأسعف ذوقنا بكل رائع خلاب
أوجد من الرجال العظام ومن الرسامين الفطاحل ما يدهش لمده وحصره كل قارئ وكل مؤرخ: رجال أكفاء، أفذاذ، في المناقب والأعمال، جبابرة في التفكير، عظماء في الإبداع والخيال
وكلنا مشوق ولا شك إلى دراسة حياة رجالات هذا العصر، لتفهم طراز درسهم للفن، وطرق تدرجهم نحو ذروة الكمال والمجد: بعد أن طواهم الردى واحتوتهم الرموس ومن الغريب العجيب كما قال (أوسيان) أننا حين ذكرانا لهم وتتبعنا لخطواتهم ينهضون معاً ويأتوننا مجتمعين ليذكرونا بقيمة فهم المتحد المشترك، وبقوة الدهر الذي عاشوا بين أحضانه حتى اصبحوا خير مثل
هناك حوادث كثيرة، ومناقب طريفة نقلنا إلينا تاريخهم العامر المجيد، قد نظنها عند سماعها إنها من خيال الكتاب أو من تزويق الرواة مستحيلة الوقوع خارقة لطبيعة الواقع. ولكن ها هي آثارهم الخالدة لا تزال تستهوي لبناً بعد أن طواها البلى، فكيف بها وقت أن كانت في صبح شبابها الرائع، وفي عصرها الذهبي الذاهب؟!
هناك قصة يهلع لسماعها القلب ويخشع، هي قصة الفنان العظيم (فرانشيسكو فرانشا) أستاذ المدرسة البولونية اللومباردية
ولد فرانشيسكو فرانشا في أسرة متواضعة فقيرة
ثم جعله أهله في صغره عند صائغ فكان الفن الرفيع متجلياً فيما يبدع. ولما شب كان أمراء (لومبارديا) يتقدمون إليه لينقش لهم صورهم على العملة التي كانوا يسكنوها. ولم يقتصر الإعجاب به على أمراء بلده فحسب، بل تدعاهم إلى أمراء المقاطعات المجاورة، فكانوا هؤلاء إذا زاروا (بولونيا) - موطن الفنان - أوفضوا إليه ليطبع صورهم على اللوحات
المعدنية، وينقشها على العملة التي يريدونها، كما كان يصنع لأمراء بلدة وأقيالها
ومع ما بلغه فرانشيسكو من المنزلة السامية والمكانة المرموقة كانت نفسه التواقة تتطلع إلى ذروة أسمى مما وصلت. ولما بلغ الأربعين حولاً، وجه عزيمته الجبارة لشق طريق جديد لم يسلكها أحد قبله. . . تعتمد على العلم والدراسة والذوق والحس. . . وها هوذا يبدأ بدراسة الرسم، فيدرس توافق وتراكيب الرسوم، وتناسب وامتزاج الألوان، وأثر وقوى النور، وأساليب رسم المنظور بالطرق الهندسية. فاستطاع بعد هذه الدراسة يخط في مدة قصيرة لنفسه طريقة جديدة في عالم التصوير: هي المعروفة في التاريخ (باسم المدرسة البولونية اللومباردية)
اعترى سكان لومبارديا ضرب من الذهول والتعجب حين طلع عليهم فرانشيسكو بلوحاته الجميلة وجاماته البديعة، وكانوا يعتقدون استحالة الجمع بين النقش والتصوير، وخاصة بهذه السرعة العجيبة. ولكن الأمراء لم يسيروا مع ذهولهم ولم تطل ساعة تعجبهم بل راحوا يختطون ما أنتج من لوحات وما أبدع من جامات ليزينوا بها دورهم وقصورهم كما كانوا يستبقون قبلاً لشراء آثاره المعدنية المنقوشة. . .
نال فرانشيسكو فرانشا منزلة سامية في الرسم لا تقل عن منزلته في النقش في وقت كان فيه اسم (رافائيللو سانسيو) العظيم فنان روما وصاحب الحظوة عند البابا، قد سار به الركبان وردده الخافقان. فنجاح فرانشيسكو لا يفسر بخلو المكان وفقدان المنافس، كما أن شهرته في النقش لم تكن زريعة للنجاح أو الزلفى إلى الأمراء والكبراء، لأن الكفاية الفنية ليست كضربة لاعب أو رمية رام؛ بل هي ومضة علوية تشع آلاف الأشعة الوهاجة، فتنير من نفسها طريق الفهم وتدلنا على مواقع الإسفاف أو السمو بدون إبهام ولا خداع؛ فنرى بأعيننا آثار هؤلاء الفنانين العظام الذين هم بحق نعمة من نعم السماء
لا شك أن فرانشيسكو كان من ألمع رجال الفن في عصر النهضة. له كما لهم المنزلة المرموقة في نفوس رجال النقد والتأليف في العالم أجمع، لا لشيء إلا لأن هذه الصفوة العجيبة من الفنانين العظام استطاعت أن تشيد على أنقاض الجاهلية الجهلاء صرحاً مكين الدعائم رفيع الأركان في أفسح ساحات المدينة الفاضلة وفي عالم الفن الرفيع المخلد. وكانت يد فرانشيسكو من أطول الأيدي وأقدرها على رفع الأساطين وتشييد الجدران،
فأنتجت وافر الإنتاج وأبدعت غاية الإبداع، وطافت على قصور (لمبارديا) فكستها الجمال، وأكسبتها الفتنة والملاحة. وراحت إيطاليا كلها بعد لومبارديا تذكر فرانشيسكو بكل إجلال وإكبار
كان رافائيللو في روما يرهف سمعه للصدى الخلاب الذي تتجاوبه الأفواه المعجبة. وكان يصغي بقلبه للحديث العذب الذي يتحدث به أهل بولونيا عن فنانهم العظيم، وكان يطرب لموسيقى اسم الفنان ويتشوق لرؤية آثاره وطلعته، وقد أسعفه الحظ فرأى ما أعجبه فاتصل روفائيللو بفنان لومبارديا فأطرى طريقته إطراء جميلاً وامتدح أسلوبه وقرظ فنه الحسن العجيب
لقد بلغ فرنشيسكو بحق منزلة رفيعة من لطف الحس ورقة الروح وجودة الأسلوب ودقة العمل، وقد أعجب بفنه كثير من الكتاب، وغالي أحدهم فدعاه إله الفن. وقد قال (كافاتزوني) إن روفائيللو بعد أن رأى (عذراء فرانشيسكو) تحرر من الجمود الذي علق بفنه من إتباعه طريقة (بروجا) وخلص من الجفاف المشاهد اليوم على بعض لوحاته من قبل تأثره بفن فرانشيسكو. وروح الفنان كالأسفنجة ما جاورت غديراً إلا تشربت من مائه
لم يكن إطراء رافائيللو لفرانشسكو إلا قوة جديدة دفعته إلى الاستزادة، ورأى أن فنه لم يصل بعد إلى المكانة القصوى، واتخذ من مدح رفائيللو له جناحاً جديداً سيساعده على الطيران في عالم الخلود
كان فرنشيسكو دون سائر الفنانين يستطيع أن ينافس رفائيللو الحظوة التي كان ينعم بها عند البابا وفي نفوس أهل روما، وكان في قدوة فرنشيسكو أن يباري رفائيللو في حلبة الفن ويطاوله في سماء المجد، ولكن الحظ لم يواته فلم ير لرفائيللو أثراً ليضرب الطريقة التي يسير عليها ضربة قاتلة. كان مقيما ببولونيا لم يبرحها طيلة حياته، وكان رفائيللو مقيما بروما وروما ضنينة به والبابا من أحرص الناس على ملازمته. وكان فرانشيسكو الشيخ يتشوق لرؤية آثار فنان روما قبل إغماضه الغمضة الأخيرة، رغم الفكرة التي استخلصها من وصف الناس لفنه ومن الكتب التي كان يتلقاها منه لماماً، فقدر أنه مثيله في نواح متعددة، وقد يفوقه في إحدى النواحي العميقة التي وصل إليها بطول المدة التي مارس فيها الرسم
جاءه البريد يوماً بكتاب من رفائيللو يقول له فيه: إنه أرسل إليه لوحة (للقديسة سيشيليا) أعدها لكنيسة (سان جوفاني) بمدينة بولونيا نفسها، وأنه يرسل هذه اللوحة إلى صديقه (فرانشيسكو) أولاً راجياً منه التكرم بمراقبة وضعها بالمكان الذي أعدت له. وقد يكون السفر الطويل قد أضر بها، أو ربما يرى فيها بعض هفوات فنية، فهو (أي رفائيللو) يرجو منه إصلاح ما فسد وتصحيح ما أخطأ فيه. على أن لغة التواضع التي اتبعها رفائيللو في كتابه إلى صديقه فرانشيسكو وأذن له بأن يعمل ريشته في اللوحة التي سيرسلها إليه ليتحقق من سلامتها وصحتها؛ كل هذا أثار في نفسه ثورة متضاربة شديدة من الأخيلة المضطربة، ولم تسعفه مخيلته في تصور ما سوف يري، أو في تقدير ما سيشاهد من المقدرة الفنية والبراعة التصويرية
وفي عصر يوم من الأيام التي مرت على وصول رسالة رفائيللو إليه رأى تلاميذه يوفضون إليه فرحين مستبشرين يزفون إلى أستاذهم خبر البشرى بقدوم اللوحة المنتظرة، وكانوا قد أعدوا لها مكاناً حسناً في المعمل على ضوء كامل
ها هي الدنيا تدور برأس فرانشيسكو الشيخ. . . ولماذا؟. .
أنى لنا أن نصف لرجال هذا العصر الشعور الذي غمر نفس ذاك الفنان العظيم حين شاهد لوحة أعجبته وملكت لبه؟! هو شعور أخ فارق أخاً له منذ الصغر، وارتقب عودته على نار الغضى. . . وفي الوقت الذي فتح ذراعيه لعناقه كان أمام. . . أمام ملاك سماوي باهر الضياء
خفق قلب الشيخ المسكين وعنا وجهه وخشع أمام جلال الفن الرهيب، وانحنت رجلاه ساجدتين كأنه أمام كائن سماوي مهيب. . .
سمر في مكانه وتسارع الطلاب إلى أستاذهم يسرون عنه بعض ما حل به، ولا يفهمون لكل ما حدث سبباً. . . أمطروه بالأسئلة والشيخ في عالم غير عالمهم. . .
صحا الشيخ قليلاً. . . ولكنه ما زال شاخصاً نحو اللوحة السمائية (لوحة رفائيللو) ينظر وينظر. . . وكيف لنا أن نعرف ماذا كان يفكر في هذه الساعة الرهيبة؟
لقد تحطم المسكين أمام شعاع العظمة. . . وهاهو يسائل نفسه بغصة وألم عن السبيل إلى التفكير عن الجريرة التي اقترفها. إنه لكنود كفور. تطاول على رفائيللو العظيم وغمطه
فنه. ولقد خيل إليه عن جهل وطمع أنه صنو له وند. . . وقد طفق يعمل أصابعه الواجبة بشعره الأشهب الأشيب ويزرف الدمع سخيناً غزيراً على ما فرط في جانب الفن. لقد كد وجد في حياته طعماً في المجد، ولكنه في الساعة الأخيرة من عمره رأى صرح فنه الفخم ينهار أمام عظمة روفائيللو. تطلع إلى حيث كانت تنظر القديسة المصورة. . . إلى السماء وكشف عن قلبه المحطم وصلى صلاة قصيرة طلب فيها الصفح والغفران. . .
خانته ركبتاه وضعفت رجلاه عن حمله فسارع تلاميذه إليه فحملوه. . .
وكان هو خارج من معمله ينظر إلى بعض لوحاته المعلقة ونفسه تذوب حسرات وألما. وألقى نظرة الوداع على لوحة دفن القديسة سيشيليا التي كانت لا تزال في معمله وخرج.
مرض الشيخ، واصطلحت عليه الأوصاب. وأخذت ذاكرته تخبو، واستولى عليه هذيان الحمى الأخير، وراحت تعتاده السكرات والغمرات. . . لقد خان العقل الجبار صاحبه في أواخر ساعاته، ذلك العقل الذي غبر زمناً طويلاً يبدع الوجوه المشرقة ويسوى الأجسام على الأقمشة بالألوان والأصباغ. . .
واجتمعت تلك الوجوه التي أبدعتها مخيلته السحرية وخلقتها ريشته الصناع دفعة واحدة مع سعير الحمى المتأججة وراحت ترقص رقصة الشماتة والسخرية. وترفل في ثياب رثه بهيئات مقلوبة ممسوخة ووجوه مشوهة دميمة، تدق طبول الهلع وتنفخ في بوق الفزع، وتقرب ما بينه وبين الهوة المجهولة. . .
وزاره طلابه يستفسرون عن صحته. . . فإذا هو قد فارق الحياة. . .
حقاً لقد كان هذا الرجل عظيماً، حينما شعر بالضعف أمام عظمة روفائيللو العلوية، عظيماً عندما أثر في نفسه فن رفائيللو هذا الأثر الغريب. إن عبقرية فرانشيسكو في رأي حكم النقاد والمؤرخين هي في طليعة العبقريات الفذة، وآثاره تنطق بأنه راح ضحية النشوة والانفعالات الفنية
زفر الشيخ (فاسرى) زفرة عميقة وهو يقص على فاجعة الفن بموت أبي الفن فرانشيسكو فراننشا، ثم أردف قائلاً: عجبي من تلك العقول القاصرة التي تدعي النقد والعلم والتي لا تريد أن تفهم أو التي لا يمكنها أن تفهم سر تلك العبقريات التي أودعها الله سبحانه تلك النفوس العظيمة التي هي ولا شك من طينة غير طينة الناس، وتريد هذه العقول أن تقول
إن كل ما نقل إليها وما قيل لها عن هؤلاء الأبطال الجبابرة حديث خرافة أو ضرب من خيال الرواة، وليس هذا غريباً من عقول لا تسمو بطبيعتها إلى عقول هؤلاء الرسل والأنبياء: رسل الإلهام والخيال، وأنبياء الفن والجمال
إنني لآسف يا بني أن نسمع من يقول بوقاحة وصفاقة إن فرانشيسكو فرانشا قد مات بالسم.
المترجم
محمد غالب سالم
خريج الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة بروما
من صميم الصحراء
إنسانة الحي
للأستاذ إبراهيم العريض
اسْتَمرَّتْ ذُكاءُ شا
…
خصَةً من مغيبِها
وعلى البِيدِ حوْلها
…
أثرٌ من شُحُوبِها
صُفرةٌ شابَها مِن ال
…
ظِلِّ ما يزْدَهي بها
وكأنَّ الرِمالَ في
…
لُجَّةٍ من كِثيبها
تارةً تكتِمُ الرسو
…
مَ وطوراً تشى بها
وتَوارتْ. . . فأعْلَنَ ال
…
أفْقُ منْعى غُرُوبها
ثُم أرخَى سُدولَه الْ
…
ليلُ. . . تنْدَى بِطيبها
فتُطِلُّ النجومُ با
…
سِمةً من ثُقوبها
أيُّ طَيْفٍ أثارَ رحْ
…
متَها في قُلوبها
إنَّها غادةٌ على
…
موْعِدٍ من حبِيبها
غادة في وُجومِها
…
كالدُمى البِيضِ ساحِرَهْ
من خِلالِ الخِيام تَحْ
…
دِقُ في الليْلِ حائره
تُطْرِقُ الرأسَ كيْ تِس
…
يخَ إلى النُوقِ سادره
ثم تُلقِي بطَرْفِها
…
حوْلَها كالمحاذِره
لأَقلِّ القليلِ من
…
هَمساتِ العبَاقره
وإذا قلَّبتْهُ ترْ
…
سِمُ في الأفْق دائره
لا تَرى في الظلامِ غيْ
…
ر يدِ الله قاهره
يُثْقِلُ النومُ جفْنَها
…
ثمَّ تخْشى بَوادِره
فتُناجِي بكفِّها
…
أنجُمَ الليْلِ حاسره
(جنِّحِي يا عرائِسَ ال
…
ليْلِ باليُمنِ طائرَه)
لمحَتْ شخْصَهُ على
…
تلَّةٍ من تِلالِها
فتَثنَّتْ. . . كأنها
…
بانةٌ في اعتِدالها
بعْدَ أن نفَّضتْ عباَ
…
َءتَها مِن رمالها
ومشَتْ كالقَطاةِ نا
…
هِدةً في اختِيالها
وَهْيَ تُوحِيْ لصَدْرِها
…
خَفَقاتِ انتِقالها
ثم حيَّتْهُ عِندَ نا
…
رِ قَرًى في اشتِعالها
لم يكُنْ حوْلها ولا
…
واحِدٌ من رِجالها
وعلى ثغْرِها ابتِسا
…
مٌ جزَى عن مَقالها
فرَأى ما يزِيدُ في
…
حُسنِها من دَلالها
ظبْيةٌ في كِناسِها
…
ملء عيْنَيْ غزَالها
طلَعا فوْق ربْوَةٍ
…
رفَّ كالليْل ظِلُّها
وعلى قُلَّةٍ من ال
…
رمْلِ ضافٍ محلها
من وراءِ الخِيام حيْ
…
ثُ ترى البِيْدُ كلها
بسَطتْ كفُّهُ الرِدا
…
َء إلى مَنْ يُجلِها
خشْيةً أن يَمسَّها
…
من نَدى الأرض طَلها
وهُناكَ اسْتَمرَّ في
…
حُظْوَةٍ لا يَملها
لم يعِبْ حُسنَها سِوى
…
أنَّهُ يسْتَقِلها
ظمَأٌ في لهاتِهِ
…
هلْ لها ما يبلها
غيْرَ أنْفَاسِ ساعةٍ
…
في الدُجى يسْتَغِلها
فَتَعاطى مِنَ الحدِيْ
…
ثِ مُداماً يَعِلُّها
ناوَلتْهُ يمينَها
…
فحنا فوْقَها الشِفاهْ
هامِساً بيْنَ قُبْلتَيْ_نِ تشِفَّانِ عن جواه
بلسانٍ مُبلبلٍ
…
بعْضَ ما جاشَ من هواه
وأسمُها في حَدِيثِهِ
…
دائِرٌ دوْرةَ الحياه
ثم ألقَتْ بطرْفِها
…
في فُتورٍ إلى الفلاه
فترى في شُرُوقهِ
…
قمراً مُرسِلاً سناه
يَملأ البِيْدَ فِضَّةٍ
…
دُونَها فِضَّةُ الغُزاه
فتُناجى حبِيبَها
…
لوْ يراهُ كما تَراه
أفَيُلقِي لغيْرِها
…
بالَهُ. . . وهْيَ في سماه
إنَّما في سَوادِ نا
…
ظِرِها كلُّ مُشتهِاه
ها هُمَا - والنُجُومُ تر
…
عاهُما - وهْيَ زاهِيَهْ
صورَةٌ حُلْوةٌ لقُ
…
رةِ عيْنٍ بثانِيه
إنّها كالرَضيع بَيْ
…
نَ ذِراعيْهِ غافيه
والي الشَعْرِمن غَدا
…
ئِرِها في ترامِيَهْ
أرَجُ كالنَسيم يَنْ
…
فحُ من كلِّ ناحِيه
كلَّما سرَّحت أنا
…
مِلَها فيهِ ساهيه
مالَ من فَوْقِها ليُنْ
…
شِدَها فيهِ قافيه
ثم يغْزُو بثغْرِهِ
…
تغْرَها من حواشِيه
فيَمسُّ الشِّفَاهَ وَهْ
…
يِ تحاذيهِ راضِيه
ريْثَما تُصْبحُ الشِّفا
…
هُ من الْحُبِّ دامِيه
تَصْهرُ الشمْسُ جمْرَة َال
…
قَيْظِ في البِيْدِ ثانِيَه
فتَبينُ الرِّمالُ بِيْ
…
نَ يدَيْهَا كما هِيَه
وعلى الرَّمْلِ حبَّةٌ
…
من لآلٍ ثمانِيَه
هِيَ قَبْلَ الصَّبَاحِ كا
…
نَتْ على جِيْدِ غانِيَعْ
(البحرين)
إبراهيم العريض
الباحث عن الهدوء.
. .
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
(. . وإني لأخشى أن يستمرئ القلق حياتي فيحجبني عنك
الهدوء الأخير!)
لَقَدْ نَصَبَ الْعُمْرُ إِلاَّ شُعَاعاَ
…
يَكادُ عَلَى أَعْينُي يُحْتَضَرْ
يَشُقُّ إِلَيكِ ضَبَابَ الْحياةِ
…
وَيَنْفُذُ في غَيْبها المُسْتَتِرْ
فَيَخْتَنِقُ النوُّر في صَفْحَتَيْهِ
…
كما اخْتَنَقَتْ آهَةُ المُنْتَحِرْ
وَيمضِي. . عَلَيْهِ غُبَارُ الْجُنُونِ
…
وَتَهوِيمَةُ الفاَرِسِ المُنْدَحِرْ
وَذُلُّ النَّدَى في شِغَافِ الْهَجِيرِ
…
وَذُلُّ الُّدجى في ضِفَافِ الْقَمَرْ
وذُلُّ السَّنَا في جُفُونِ الْحَزينِ
…
إذا شاَبَ في مُقْلَتَيْهِ السَّهَرْ
وذُلُّ السَّنَا في جُفُونِ اَلْحزينِ
…
إذا شَابَ في مُقْلَتَيْهِ السَّهَرْ
وذُلُّ اْلأَماني بِقَلْبي الْجَرِيح
…
وَقَدْ مَزَّقَتْهُ رِياحُ الضَّجَرْ
فلا يلْمَحُ النُّورَ فَوْقَ السُّهُولِ
…
ولا الظِّلَّ تحْتَ غَوافي الشَّجَرْ
ولا بَسْمَةَ الْجَدْوَل الْعَبْقَرِيِّ
…
إذا عانَقَتِهُ طُيُوفُ السَّحَرْ
ولا فَرْحَةَ الْمَرْج يَوْمَ الرَّبيعُ
…
تَلَقَّاهُ في لَوْعَةِ الْمُنْتَطِرْ
فألْقَى عَلَيْهِ الهوَى وَالشَّبَابَ
…
وَأحْيَا لَدُنيَاهُ عِيدَ الزَّهَرْ. . .
سَوَاءٌ لَدَيْهِ مُسوُحُ الشِّتَاءِ
…
وَأَشجانِهِ في الظَّلَامِ الْعَكِرْ
وَفَجْرُ الرَّبيعِ وَقَدْ شاعَ فيهِ
…
عَلَى صَفْحَةِ النُّورِ فَنُّ القَدَرْ!
سَوَاءٌ لَدَيْهِ رَأى كَوْنَهُ
…
أَمْ ازْوَرَّ عَن كَونِهِ وَانحَسَرْ
لَقَدْ ذابَ فيهِ خَيَالُ الْوُجُودِ
…
وَشَرَّدَهُ الْقَلَقُ المُسْتَمِرْ
فلا تَسْأَليهِ هُدُوَء الْحَيَاةِ
…
فَقَدْ ماتَ في خاطِري وَانْدَثَرْ
سَلَامٌ عَلَيْكِ مَعَ الْهَادِئينَ
…
وَفي قَلَقي جَذْوَةٌ تَسْتَعِرْ
كَأني سَفَاةٌ دَهَتْهَا الرِّياحُ
…
وَجُنَّ بهَا عَاصِفٌ ذُو شَرَرْ
كأَني جُنُونُ الهوَى في الْقلُوبِ
…
إذا عاجَلَتْها ليالَي السَّفَرْ
عَلَى رِعْشَةِ الشَّوْق لا أسْتريحُ
…
ولا أَسْتَفِيقُ، ولا أَسْتَقِرْ. .
أَلَا فارْفَعِي السِّتْر طالَ الْعَذَابُ
…
وَطالَتْ لَيَالي الأَسَى وَالْفِكَرْ
وَغَنَّيْتُ حَتَّى مَلِلْتُ الْغِنَاَء
…
وَمَلَّتْ عَذَابي شُجُونُ الْوَتَرْ
أَلَا أَسْرعي قَبْلَمَا يَحْتَوَيني
…
هُدُوءُ الْبِلَى في ظَلَامِ الْحُفَرْ!
محمود حسن إسماعيل
البريد الأدبي
فلسطين وصاحب الرسالة
جاءتنا هذه الكلمة الكريمة من صديقنا الأستاذ الجليل محمد إسعاف النشاشيبي فنشرناها نزولا على إرادته. قال شكر الله له:
يُطلّ من مصر كاتبُ العرب وأديبهم الأستاذ أحمد حسن الزيات صاحب (الرسالة) على أخوته الأشقياء البائسين من العرب والمسلمين في هذا الإقليم الشقيّ المبتلَي بالإنكليز وباليهود، ويشاهد ما يشاهد - ولا تسلْ عن هول تلك المشاهد - فتُملى على يراعته إسلاميّتُه وعربيته وبلاغته مقالته:(يا لله لفلسطين!)
وإنها (والله) لصفحة عربية عبقرية تضاف إلى صفحات لها مثلها كثيرات، وحسنةٌ أحمدية حَسَنِيّة مضمونة عند الله وفي التاريخ إلى مآثر جمة له وحسنات
وإن (أحمد) لَلْمسلم المؤمن يذكّره (كتابُ الله) فيدعو ويقول، وإنه لَلْبليغ كل البليغ يجول في ميادين الإنشاء والإبداع ويصول. وما (رسالته) في مصر إلا رسالة الإسلامية تخدم محمداً (صلوات الله عليه) وقرآنه وأمته ولغته وبيانه و (فيها هدًى ونور)
فحيّا الله أخانا في الدين والعربية، وحيّا رَبْعَه، وشكراً له وشكراً لهم، وبارك الله في (مصر) التي وقت حضارة الإسلام والعرب في الأمس، وأعادت ذلك المجد القديم اليوم
محمد إسعاف النشاشيبي
رأي مجلس الشيوخ في الجامعة المصرية
قدمت اللجنة المالية في مجلس الشيوخ تقريرها عن ميزانية الجامعة بهذه الكلمة:
ثلاثون سنة انقضت على وضع الأسس الأولى للجامعة قبل أن تتسلمها وزارة المعارف العمومية وتلحق بها تباعاً للمدارس العليا فتكون منها كليات تتألف منها (الجامعة المصرية) الآن وهي كليات الآداب والعلوم والحقوق والطب والهندسة والزراعة والتجارة والطب البيطري. وقد نمت روح الجامعية وترعرعت وكان لها أثر يذكر في بيئاتنا العلمية والاجتماعية على حداثة عهد هذه المؤسسة عندنا
فالجامعة المصرية بفضل عدد الكليات التي تتألف منها، والدرجات العلمية التي تمنحها،
وأعلام الأساتذة الذين يشغلون كراسيها، والروح الجديدة التي أشاعتها في أساليب البحث والدرس، قد أصبحت أداة صالحة لنشر الثقافة العليا، وهيئة كاملة التكوين من الهيئات المماثلة في البلدان الراقية
على أننا نطمع في أن تسير جامعتنا خطوات واسعة إلى الأمام من حيث رفع مستوى التعليم، وبث روح البحث والتنقيب في صدور الأساتذة والطلبة رغبة في العلم من أجل العلم، حتى تصبح في القريب من الزمن منارة علم وعرفان يشع نورها في أنحاء هذا الشرق فيقصدها طلابه من كل صوب للاستزادة من التثقيف، كما يقصدون الجامعات المعروفة في أوروبا وأمريكا، وكما يقصدون الجامعة الأزهرية للاستزادة من العلوم الدينية، ولا شك في أن النهوض بهاتين الجامعتين لمن أهم العوامل الكفيلة بالاحتفاظ للمملكة المصرية بزعامتها الأدبية والفكرية، بل والسياسة أيضاً بين دول الشرق، فتستعيد سالف مجدها وعزها
وليس بنا من حاجة إلا الإضافة في هذا الموضوع، فان كمبردج وأكسفورد في إنجلترا، والسوربون والكوليج دي فرانس في فرنسا، من أهم دعائم عظمة هاتين الأمتين. ويقال مثل هذا في سائر الجامعات في سائر البلدان. ولعلنا قائلون قريباً مثل هذا القول عن جامعتنا المصرية بالنسبة إلى مصر
المجمع اللغوي وتبسيط قواعد النحو
ذكرنا من قبل أن وزارة المعارف ألفت لجنة من أساتذة الجامعة ودار العلوم ومفتشي اللغة العربية بالوزارة، وأن هذه اللجنة أتمت مهمتها وهي وضع قواعد لتبسيط اللغة العربية وتدريسها لطلبة المدارس
وقد تلقت رئاسة المجمع الملكي للغة العربية كتاباً من وزارة المعارف تطلب فيه من المجمع درس المقترحات التي وضعتها اللجنة خاصة بتبسيط القواعد وموافاتها بملاحظات المجمع على هذه المقترحات. وأرفقت الوزارة بكتابها صورة من قرار اللجنة
وقد أرسلت إدارة المجمع كتاباً خاصاً إلى جميع الأعضاء تبلغهم فيه كتاب الوزارة وصورة مقترحات اللجنة وتطلب إلى كل منهم دراستها وإبلاغ إدارة المجمع ملاحظاته عنها
وقد تلقت الإدارة بعض ردود من الأساتذة الأعضاء تضمنت طائفة من هذه الملاحظات،
سترسل إلى وزارة المعارف، بعد وصول تقارير بقية الأعضاء
مؤتمر تعليمي عربي
فتى العرب الدمشقية:
علمت أن وزارة المعارف السورية تدرس فكرة عقد مؤتمر تسليمي عربي تدعو إليه الأقطار العربية كافة، وقد وضعت الوزارة النقط اللازمة لدراستها والعمل على تحقيق هذه الفكرة
وقد اتصل بها أن الوزارة تفكر الآن في إرسال بعثة من الطلاب والأساتذة إلى العراق لزيارة القطر الشقيق وأخرى إلى القطر المصري لتبادل الزيارات بين الأقطار العربية وتوطيد العلائق والروابط بينهما
تأثير اللاسلكي في اللهجات
جاء في نشرة هيئة الإذاعة البريطانية الأسبوعية للإذاعة العربية ما يلي:
بين الأحاديث التي يتناولها برنامجنا لهذا الأسبوع حديث الأستاذ حميدة الذي سيعالج فيه مسألة السينما واللاسلكي وتأثيرها في مختلف اللهجات. والموضوع من حيث فكرته ليس بالجديد في أوربا فقد شغلت هذه المسألة بال علماء اللغة في إنكلترا منذ أن استهدفت اللغة الإنكليزية لخطر النطق المبتور والتعبيرات المهلهلة التي بدأت تتسرب إليها عن طريق بعض الأفلام الأمريكية.
ولا غضاضة - في عرفنا - أن يكون كل من السينما الناطق واللاسلكي أداة لتقريب اللهجات المختلفة، فمصلحة أبناء اللغة الواحدة تقضي بأن يفهموا جميع لهجاتها. ولكن هل من مصلحة أمة تتفاوت في اللهجات كالأمة العربية مثلا أن تتكلم لغة واحدة؟ وإذا كانت المصلحة تقضي بذلك فأي اللهجات ستختار؟ هل تختار يا ترى اللهجة الحجازية أو العراقية أو لهجة مصر أو الشام؟ أو هل يمكن النهوض بالتعليم إذا تكلم جميع أبناء العربية اللغة الفصحى؟ هذه هي المعضلة التي تجابه في إنكلترا أنصار توحيد اللهجات فاللغة الإنكليزية تشمل عدة شعوب وأقوام كل منها يتكلم لغته الخاصة وإذن كان من الصعب التوفيق بين هذه اللهجات المتنافرة؛ وطبيعي أن تثير هذه المسألة اهتمام هيئة الإذاعة
البريطانية فسعت لحلها بطريقة من شأنها الاحتفاظ بكرامة اللغة الصحيحة مع عدم المساس بلهجتها المحلية فهداها البحث إلى الاستعانة برأي لجنة استشارية مؤلفة من أعلام اللغة الإنكليزية أسندت إليهم مهمة توحيد النطق ووضع قواعد له وقيدت مذيعها باحتذاء هذه القواعد في إذاعتهم للأخبار والبيانات. واحتفظت فيما عدا ذلك باللهجات المحلية المختلفة وبذلك أمسكت العصا من طرفيها - على حد التعبير الغربي - على أن هذا الحل الوسط إذا أرضى مستمعي هيئة الإذاعة البريطانية فأنه لا يعتبر حلا كاملا لهذه المسألة الدولية التي ما زالت مدار بحث جدلي بين العلماء
حول لجنة من لجان الوزارة. .
حمدنا لوزارة المعارف عنايتها باللغة العربية والعمل على إنهاضها وتقوية أركانها، ووضع ما يضمن للتلميذ حياة أدبية خالصة تقوم على العلم الصحيح والمعرفة الحقة بأساليب الأدب وضروبه. . .
وكنا نرقب مع الراقبين ما تطالعنا به اللجنة المؤلفة من أعلام وزارة التربية والتعليم لمعالجة مشكلة لغة الضاد، وما يجده الطالب من صعوبة في تفهم ما في بطون الكتب من معان وأفكار
وقد قامت اللجنة بوضع المبادئ التي رأتها صالحة لتقوية الناحية الأدبية من نفوس النشء، كما واعتمدت في عملها هذا على ما لها من خبرة واسعة بالتعليم وشئونه. . . بيد أن هناك ملاحظة بخصوص الكتب الحديثة التي اختارتها اللجنة على أنها صورة من أدب العصر، تدرس في معاهد العلم. وقد وقع اختيارها على الكتب الآتية:(قصص القرآن. ويوميات نائب في الأرياف وديوان الجارم. والنظرات. وزينب. وعلى هامش السيرة. والأيام. وديوان حافظ. والفضيلة. والمختار (الجزء الأول). وحياة محمد. ومطالعات في الكتب. وديوان شوقي. والمثل الكامل. وقادة الفكر. وعلى هامش السياسة. وحصاد الهشيم. وضحي الإسلام. وديوان البارودي. وابن الرومي)
وفي ذلك الاختيار كثير من التجني على الأدب والأدباء معا؛ فليس من الخير في شيء أن تختار اللجنة كتابين أو ثلاثة لأديب واحد في الوقت الذي أغفلت فيه طائفة من الأدباء الأفذاذ الذين لهم أثر ظاهر في توجيه الحياة الفكرية في الشرق، ولهم أيضا أدب أثر يمتاز
بقوة العبارة وسمو المعنى وجمال اللفظ. . .
وبعد فهذه ملاحظة أردنا أن نسوقها إلى أعضاء اللجنة، وإليهم يساق الحديث
بني مزار
الطهناوي
(الرسالة)
جاءنا في هذا الموضوع طائفة من الرسائل وكلها مجمعة على أن اللجنة لم ترع جانب الحق حين قصرت اختيارها على كتب أعضائها ومن ترجوهم أو تخشاهم من الأصدقاء والرؤساء. . .
حقيقة جامع طوكيو
كتب العلامة السيد سليمان الندوي في مجلة (المعارف) التي تصدر عن أعظم كره (الهند) في عددها الصادر في شهر يونيه حقيقة جامع طوكيو ما يأتي:
(نجم قرن الإسلام في اليابان وأخذت أشعته تنبسط في عواصمها - فأسس أول بيت الله في مدينة كوبي، وذلك قد تم بفضل التجار الهنود. وكان أولو الأمر بهذا المسجد قد سعوا لدى الحكومة اليابانية راجين منها أن تعترف به معبداً للمسلمين رسمياً، فذهب سعيهم سُدًى؛ بيد أنهم أرسلوا هذا العام وفداً من أعضاء لجنة التنظيم للمسجد إلى طوكيو عاصمة اليابان بفضل مساعيهم زال بعض العراقيل من أمامهم
وبعد تشييد الجامع بكوبي شعر المسلمون في طوكيو بحاجة إلى مسجد، لكنهم جماعة قليلة العدد ولا يتيسر لهم أن يجمعوا مالاً كافياً لبناء هذا المسجد بها، ففطن بعض رجال الحكومة اليابانية إلى أهمية عمل هكذا في عاصمة اليابان. ثم فجمعوا من ذوي الخير والسراوة نحو مليون وربع مليون (ين) وبنوا بها جامعاً ومدرسة بجانبها. تم بناء الاثنين وافتتحا رسمياً في شهر مايو الماضي، وأدى رسم الافتتاح المستر (توياما) من دهاة اليابان وهو الذي دخل المسجد أولا ومشى بقدميه قبل الناس فلحقه التتار داخلين مكبرّين، ثم صلوا ركعتين شاكرين، وكان بخارج المسجد سرادق نصب للاحتفال خطب فيه دهاة اليابان وأكابر المندوبين من البلاد الإسلامية. وكان الأمر الذي يبدو عجيبا للمسلمين الحاضرين أن
مندوبي أفغانستان وتركيا وإيران لم يحضروا الحفلة؛ ولعل سبب ذلك أن هذا المسجد ذو صبغة سياسية
يقيم في طوكيو زعيم تتاري معروف باسم قربان علي، له مكانة ممتازة نصفها من لون ديني والنصف آخر من لون سياسي - وله جماعة من الأنصار من التتار عدتها خمسة وعشرون رجلاً، وغيرهم من التتار المقيمين في طوكيو وغيرها من مدن اليابان وعددهم يصل إلى خمسمائة على التقريب - كانوا يشكون منه مرّ الشكوى - فاعتقل لذلك في وسط مايو وفوضت الزعامة إلى الشيخ عبد الرشيد إبراهيم فزال بعض العراقيل التي كانت تؤدي إلى عدم تعاون التتار مع رجال الحكومة في شأن المسجد. ثم أرسل رجال طوكيو دعوتهم إلى المسلمين بكوبي يرجون اشتراكهم في أمور جامع طوكيو؛ غير أنهم أجابوا:(نحن مستعدون للاشتراك إذا كان للمسلمين حرية مطلقة في تصريف أموره). فوعدهم رجال الحكومة اليابانية بذلك وها نحن أولاء ننتظر الوفاء. . .)
بدر الدين الصيني
تأديب الناشئة بآداب الدين الإسلامي
أذاعت وزارة المعارف منشوراً على نظار المدارس هذا نصه:
(تحرص وزارة المعارف على أن تكون دراسة الدين الإسلامي مقصوداً بها تأديب الناشئة بآدابه وإحساسها الإيمان الصحيح والخلق السليم، وأن المرء لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وتهذيب نفس الناشئ وتقوية عقله وقلبه بالمبادئ الإسلامية السامية مبادئ الإباء والأنفة والمحبة والإيثار والبر والتقوى ليصل بذلك إلى كمال الخلق وليحصل منه القواعد السليمة لصلاته بغيره، وهذه قواعد لحضارة إنسانية يقوم النظام الروحي والحياة لكمال الخلق ويكون الخلق فيها أساساً للمعاملات فيها أساساً الاقتصادية.
وتثبيت هذه القواعد في نفس الناشئة بتفقيههم في قواعد الإسلام وعباداته وتوجيههم إلى إدراك الحياة على أساسها إدراكا علمياً دقيقاً وتفتح أذهانهم بذلك إلى المثل الأعلى الذي يدعو الإسلام إليه وتقويم أخلاقهم ليكون هذا المثل الأعلى غاية مبتغاهم، هو ما نرجو أن يكون الثمرة للتعليم الديني في المدارس حتى يتأتى لمصر بقوة إيمان أبنائها أن تنهض
بحظها من رسالة الحضارة في العالم).
جامعة عليكرة الإسلامية
جاء من مراسل الشرق العربي في بمبادئ أن عظمة نواب رامبور قرر أن يساهم بمبلغ كبير في توسيع نطاق جمعية الطلبة في جامعة عليكرة الإسلامية التي يشملها عظمته برعايته.
وجامعة عليكرة فريدة في نوعها في العالم الإسلامي؛ وقد أنشأها السير سيد أحمد خان وهو أول مسلم أذاع فوائد الثقافة الغربية في بلاده، وحاول التوفيق بين هذه الثقافة والثقافة الإسلامية في الهند. وبفضل مساعيه قررت الحكومة الاشتراك في جامعة عليكرة، ولا تزال إلى الآن تدفع لها إعانات مالية تخليداً لذكرى سيد أحمد خان.
وكان المرحوم حميد علي خان والد عظمة نواب رامبور من الذين شملوا الجامعة برعايتهم، وكانت الجامعة في ذلك الوقت تدعى المدرسة الإسلامية الإنكليزية الشرقية.
ومساهمة عظمة نواب رامبور السخية في توسيع جمعية الطلبة جاءت الآن برهاناً جديداً على أهمية اتحاد الطلبة وهو أقدم اتحاد في الهند اشترك فيه عدد كبير من الأشخاص البارزين والطلبة يتمرنون في هذا الاتحاد على الخطابة وغيرها من العلوم والفنون والاتحاد يتمتع باستقلال خاص والطلبة ينتخبون رؤساء الاتحاد ولجانه. وقد تألفت في جامعة عليكرة جمعيات عدة تعني بالدروس الدينية الإسلامية ويلقي فيها كثيرون من الطلبة القدماء محاضرات نفيسة في الشؤون الاجتماعية والدينية.
وقد أنشئ أخيراً في الجامعة فصلان جديدان لتدريس الشرع عند الشيعة والسنيين ويدير هذين الفصلين فرع الشريعة في الجامعة.
وكانت الصلاة في الجامعة تفرض على الطلبة بموجب قانون خاص ولكن هذا القانون لا يعمل به الآن نظراً إلى اهتمام الطلبة بشؤونهم الدينية من تلقاء أنفسهم.
إعادة الحياة بعد الموت
لقد دفع حرص الناس على الحياة منذ العصور القديمة بعض العلماء إلى محاولة إعادة الحياة إلى الأجسام بعد أن تفارقها أرواحها. وزعم فريق منهم أنهم قاموا بتجارب رجحت
إمكان وصولهم إلى ما يبتغون. ولعل أحدث تجربة من هذا النوع هي التي قام بها الدكتور روبرت كورنيش أحد أطباء كلفورنيا ولكنه لم يجرها على إنسان بل على كلب.
وطريقة ذلك أنه خدر الكلب بالكلوروفورم ثم قتله به. وبعد أن تأكد أن الكلب أصبح جثة هامدة انتظر بضع دقائق ثم حقنه في القلب بمادة الأدرنالين ومدده على مائدة في الهواء الطلق. فبعد دقائق لاحظ أن القلب عاد يعمل وأن دقاته بدأت تعود إلى حالتها الطبيعية.
وبعد بضع ساعات استطاع الكلب أن ينهض وأن يلعق بعض السوائل؛ وبعد عشرة أيام استطاع أن يتناول طعاماً، ثم يحرك رجليه بضع خطوات.
ولكن الدكتور لاحظ أن الكلب لم يستعد قواه الذهنية وأنه فقد الكثير من حساسيته، إذ أصيب بالصمم فلم يسمع صفيراً حاداً كما فقد حاسة الشم؛ وضعف نظره ضعفاً شديداً فكان لا يرى إلا المرئيات القريبة الكبيرة الحجم كما أن صوته ضعف فاصبح لا يقوى على النباح.
وظل الكلب يعاني هذه الحالة ثلاثة شهور ثم فاضت روحه من الضعف الشديد الذي أنهك جسمه.
على أن الدكتور روبرت كورنيش يزعم أن هذه التجربة التي قام بها تعتبر الأولى من نوعها من حيث نتيجتها، كما أنها مكنته من ملاحظة حالات سيسترشد بها في التجارب القادمة التي اعتزم القيام بها.
وبالرغم من أن بعض العلماء يرجحون إعادة الحياة إلى الأجسام التي تفارقها أرواحها، فهم يشكون في إمكان إعادة الحساسية إلى الأعضاء والقوة إلى الذهن. وأقصي ما يطمعون فيه هو أن يطيلوا خفقان القلب بضع ساعات يتمكنون فيها من القيام ببعض الأبحاث العلمية.