المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 267 - بتاريخ: 15 - 08 - 1938 - مجلة الرسالة - جـ ٢٦٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 267

- بتاريخ: 15 - 08 - 1938

ص: -1

‌هذه داري وهذا وطني

ولكن أين أحبائي؟!

للدكتور زكي مبارك

هذه داري، الدار التي أقمتها على أطراف الصحراء بمصر الجديدة لأفتح أمام قلبي آفاق المجهول من عوالم المعاني، وهذا وطني، الوطن الذي عانيت من أجله ما عانيت، ولم أخنه في سر ولا جهر، ولم ير مني غير الصدق والوفاء

هذه داري وهذا وطني، ولكن أين أحبائي؟

من كان يظن أني أقضي الأيام والأسابيع فلا أجد من يسأل عني بعد غياب الشهور الطوال؟ من كان يظن أني لا أجد أنيساً غير بريد بغداد على بُعد ما بيني وبين بغداد؟

من كان يظن أني أحبس نفسي في داري لياليَ وأياماً فلا يُسهد لعزلتي جفن، ولا يحزن قلب، ولا يرتاع وجدان؟

من كان يظن أني لم أتلق من الإسكندرية غير خطاب واحد، ولم أتلق من دمياط غير خطاب واحد، ولم أتلق من سنتريس غير خطابين اثنين، وسكت من أهواهم في المنصورة وأسيوط؟!

من كان يظن أني لم أعبُر شارع فؤاد غير مرة واحدة منذ رجعت من بغداد؟

وما فائدتي من عبور ذلك الشارع المتموِّج؟

كان لي في القاهرة هوًى معبود فتبدد وضاع، كانت ليلاي في الزمالك، فأين ليلاي وأين الزمالك؟

أنا أطفئ المصباح بعد نصف الليل وأفتح النوافذ لأرى كيف يهيم نور القمر فوق رمال الصحراء، فماذا تصنع ليلاي بالزمالك أو ليلاي في العراق؟

آه ثم آه من حيرة القلب في غفوات الليل!

أيتها الصحراء

إن حالك مثل حالي مَوَات في مَواَت

وقد تمرح فوق ثراك الميت هوامّ وحشرات

وفوق ثرى قلبي الميت تمرح هوام وحشرات هي السخرية من الناس، واليأس من صلاح

ص: 1

القلوب، وجمال الوجود

وقد ترقّ حواشيك بالندى أو الغيث فتنبت فوق ثراك الأعشاب!

أما قلبي فقد أمحل إلى الأبد ولن ينبت فيه شيء

وأشقى الناس من يعيش بقلب أبخل من الصحراء

أيها الليل!

هل رأيت في دنياك من ينافسك في ظلامك غير قلبي؟

هل عرفت منذ أجيال وأجيال شقاء مثل شقائي؟

أيها الليل

خذ السواد من قلبي إن أعوزك السواد

خذا الظلام من حظي إن أعوزك الظلام

خذ من قلبي ومن حظي ذخيرتك للأحقاب المقبلات

خذ مني ما تشاء، أيها الليل، فلن تجد مشتهاك عند إنسان سواي

خذ مني ما تشاء بلا مَنٍّ عليك، فما أخذت السواد إلا منك ولا ورثت الظلام إلا عنك،

ومثلي يحفظ الجميل

أيها الليل

لا تجزع من العزلة، فأنا هنالك أسامرك وأناجيك

لا تفزع من الوحدة، ففي قلبي ظلمات تساير ما تحمل من ظلمات

عندي آلامي، وعندك آلامك، والجريح يأنس بالجريح بالليل

أنا أعرف من أنا في دنياي، فمن أنت في دنياك، يا ليل؟

أنت جزء من الزمان هجرته الشمس فأظلمت دنياه

وأنا جزء من الوجود هجرته الشمس فأظلمت دنياه

إن شمسي تغرب في الزمالك أو في بغداد، فأين تغرب شمسك

إن شمسك تغرب ثم تعجز عن الصبر على فراقك فترجع

وشمسي تغرب فلا ترجع

فليت حظي كان مثل حظك يا ليل!

ص: 2

والمقادير تترفق بك فتسوق القمر والنجوم لإيناسك

وأنا أعاني الظلام المطلق حين تغيب الشمس التي تعرف

فليت حظي كان مثل حظك يا ليل!

وأنت باق على الزمان، وأنا صائر إلى الفناء

فليت حظي كان مثل حظك يا ليل!

والناس يخافون بأسك فيتقربون إليك بالقناديل والمصابيح

وأنا مأمون الجانب فلا يتقرب أحد إليّ بشيء

فليت حظي كان مثل حظك يا ليل

من أسمك يا ليل جاء اسم ليلى، ففيها طغيانك وفيها ظلامك فلا عفا الحب عنها ولا عفا

الله عنك!

هذه داري، وهذا وطني، ولكن أين أحبائي؟

إن قلبي يستحق التأديب، فليتلق من الضيم ما هو له أهل

ألم يتلق رسائل الشوق من بغداد فسكت عنها سكوت الغادرين؟

ألم يتلق رسائل الشوق من باريس فسكت عنها سكوت الجاحدين؟

ألم تنتقل إليه الغادة النورمندية فاستعفى من صحبتها بالقاهرة محافظة على سمعته بين

الناس؟

إن قلبي يستحق التأديب، فليتلق من الضيم ما هو له أهل

أيها الليل

قد اقترب صباحك، فمتى يقترب صباحي؟

لك الخلاص من ظلماتك، فأين الخلاص من ظلماتي؟

ستمضي لشأنك وتتركني يا ليل

إن الظلمات تقتل شبابي وتحيي شبابك

إن الظلمات تصَّيرك أقوى وأعنف، وتصيرني أرقَّ وألطف، والرقة واللطف من بواكير

الفناء

أيها الليل!

ص: 3

لقد عرفت قسوتك في بلاد كثيرة من الشرق والغرب، وما كنت أعرف أنك أقسى ما

تكون في داري وفي وطني

أما بعد فأنا أعترف أن قلبي يستحق التأديب

كنت أصم أذني عمن يسألون عني في باريس وفي بغداد لأفرغ لما سموه الواجب، فليتني

أجبت الدعوة في باريس وفي بغداد لآخذ ذخيرتي من الحب والعطف!

ليتني صنعت وصنعت، ولكن هيهات فقد فات ما فات!

أيها الليل في مصر الجديدة

أنا على كل حال رفيقك وأخوك

وستمضي الأعوام والدهور، ولا تعرف أصدق مني يا ليل

سيذكرني الناسون يوم تشوكهم

شمائلُ من بعض الخلائق سُودُ

سيذكرني الناسون حين ترُوعهم

صنائع من ذكرى هوايَ شهود

فوالله ما أسلمت عهدي لعدرةٍ

ولا شاب نفسي في الغرام جحود

ولا شهد الناسون مني جناية

على الحب إلا أن يقال شهيد

زكي مبارك

ص: 4

‌ذكريات مدرسية

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

سأقتصر في هذا الفصل على طائفة من الذكريات تخيرتها من عهدين - عهد كنت فيه تلميذاً وعهد تال كنت فيه مدرساً وسأكتفي بالمعالم الكبرى والخطوط الرئيسية التي تغنى عن التفاصيل، ولست أرمي إلى غاية من هذا التصوير سوى ما يمكن أن يستفاد من مقابلة عهد بعهد ومواجهة ماض بحاضر. فمثلاً يمكن بسهولة أن تتصوروا حال التعليم الابتدائي إذا قلت إن تلميذاً كان معنا في المدرسة نال الشهادة الابتدائية فعين في السنة التالية مدرساً لنا في السنة الرابعة التي تعد لنيل الشهادة الابتدائية. وأبلغ من هذا في الدلالة أنه كان يدرس لنا ما كان يسمى (الأشياء) وهي عبارة عن معارف عامة وكان تدريسها يومئذ باللغة الإنجليزية. وأرسم خطاً آخر تتم به الصورة فأقول إن ناظرنا كان يقول عن نفسه إنه جاهل جاهل ولكنه إداري إداري، وكان حديث عهد برتبة البيكوية فكانت عبارة (يا سعادة البك) تغفر كل ذنب وتمحو كل خطيئة. وليس أقدر من الصغار على التفطن إلى مواطن الضعف في الكبار، وليس أعرف بالمعلم من تلاميذه. وحسبه كشفاً لستره أن مئات من العيون تفحصه كلما بدا لها، وأن مئات من الألسنة الثرثارة لا تنفك تلغط بما أدركته رؤوس أصحابها الصغيرة. وأذكر أني كنت ألاعب تلاميذاً فشتمني فضربته بسلسلة مفاتيح فقطعت جلد وجهه، فذهب يعدو إلى الناظر والدم يسيل من جرحه وقال له وهو يبكي:(يا أفندي ابن عبد القادر ضربني) فأسرها الناظر وبعث يطلبني وسألني لماذا فعلت ذلك؟ فقلت: (يا سعادة البك إنه شتم أبي) وأنكر المضروب وقال: (لا والله يا أفندي) وتكرر من المضروب نعت الناظر بالأفندي وتلقيبي له بسعادة البك، فضاق صدر الناظر جداً وأهوى على المضروب بخيزرانته وهو يقول:(أفندي في عينك قليل الحيا) ولا أحتاج أن أقول إني نجوت مما كنت أستحقه من العقاب وإن الفضل في نجاتي إنما كان لكوني لم أنس (يا سعادة البك) وأن خصمي نسيها

وأوفدني إليه التلاميذ يوماً لأرجو منه أن يسمح لنا بزيارة حديقة الحيوانات مجاناً فدخلت عليه وسلمت ومهدت بيا سعادة البك ورفعت إليه رجاء الفرقة فدق صدره بكفه وقال: (حوانات حوانات إيه يا ابني. . . أسد فك السلاسل نهش عيل منكم نبقى نقول يا مين؟)

ص: 5

فلم نزر حديقة الحيوانات كما لم يزرها ناظرنا الذي كان يتوهم أن الأسود فيها تربط بالسلاسل

ودخل علينا مرة ونحن نتلقى درساً في الحساب فوجد المدرس يملي علينا مسألة خلاصتها أن فلاناً أقرض فلاناً مبلغاً من المال بفائدة كذا في المائة، فاستوقفه الناظر وقال لنا أن المسألة غلط، وطلب منا أن نبين موضع الغلط فيها، ويظهر أن المعلم كان أعرف منا بالناظر فقد اكتفى بالابتسام، ورحنا نجيب بما يخطر لنا والناظر يرفض كل جواب. وأخيراً التفت إلى المدرس وقال له:(يا فلان أفندي المسألة كذب في كذب فأرجو ألا تعلم الأولاد الكذب مرة أخرى) وخرج

وكان في كل مدرسة فرقة للعب الكرة ولكن أعضاء هذه الفرقة لم يكونوا جميعاً من التلاميذ، فأني أذكر أن المدرسة جمعت من كل تلميذ منا خمسة قروش لتدفع للوزارة (المصروفات المدرسية لرجل ضخم عملاق حليق اللحية والشاربين أحمر الوجه ليلعب مع الفرقة في المباريات مع المدارس الحكومية الأخرى، وكان هذا العملاق المخيف يجيء إلى المدرسة وقت الظهر ويخرج منها بعد الغداء، وكانت مائدته تزدان بأنواع من المخلل يؤتى له بها خاصة. وكان إذا أحب أن يبقى في المدرسة نصف ساعة أو ساعة لا يجلس إلا في غرفة المدرسين وهناك تقدم له القهوة والسجاير فيشكر ذلك بهزة من رأسه، والساق على الساق والسيجارة في فمه انتظاراً لمن ينهض إليه ليشعلها له من المدرسين. وكنا نحن نتزاحم على الباب والنوافذ لنفوز برؤية هذا المنظر

أظن هذه الخطوط كافية لرسم صورة واضحة لمدرستنا الابتدائية الحكومية في ذلك العهد. والآن أنتقل إلى طائفة أخرى من الصور للمدارس الثانوية

كان التعليم الثانوي انتقالاً بأدق المعاني فقد صار كل ما في المدرسة إنجليزياً - الناظر والمدرسون والتعليم - ما عدا اللغة العربية. وأنا إلى هذه اللحظة لا أعرف كيف كنت أنجح في الامتحانات، وأكبر ظني أنهم كانوا يترفقون بنا ويعطفون علينا ويتساهلون معنا ويتركوننا ننجح على سبيل الاستثناء. وأدع غير وأقتصر على نفسي فإني أعرف بها، فأقول إني ما استطعت قط أن أفهم علوم الرياضة أو أن أقدر فيها على شيء، ومع ذلك كنت أنتقل من سنة إلى أخرى بلا عائق. وكان الأساتذة يختلفون فمنهم الفظ ومنهم الرقيق،

ص: 6

وأذكر أن أحدهم كان يذكرني درسه بالكتاب الذي حفظت فيه القرآن الكريم، فقد كان يملي درس الجغرافية، فإذا كان الدرس التالي طالبنا به محفوظا ً عن ظهر قلب، وكان يقف أمامه التلميذان والثلاثة دفعة واحدة وعلى مكتبه الكراسة والتلاميذ يتلون وهو يسمع، ثم يضع في كل ركن واحداً من الحافظين ليمتحن زملاءه. وكنت لا أستطيع أن أحفظ شيئاً عن ظهر قلب فكنت أحبس بعد كل درس في الجغرافيا حتى كرهتها وكرهت حياتي كلها بسببها. وكان لنا مدرس آخر من أظرف خلق الله وأرقهم حاشية وأعفهم لفظاً، فكان إذا ساءه من أحدنا أمر وأراد أن يوبخه قال له: تهج كلمة بليد مثلاً أو مجنون أو غير ذلك كراهة منه لإسناد الوصف إلى التلميذ مباشرة. ولم يكن تدريس اللغة العربية خيراً من تدريسها في الوقت الحاضر ولكنا كنا أقوى فيها من تلاميذ هذا الزمان - لا أدري لماذا!. وكان المفتش الأول للغة العربية المرحوم الشيخ حمزة فتح الله، وكان من أعلم خلق الله بها وبالصرف على الخصوص، وكان رجلاً طيباً ووقوراً مهبباً، فكان إذا دخل علينا يسرع المدرس إليه فيقبل يده فيدعو له الشيخ، ولا نستغرب نحن شيئاً من ذلك بل نراه أمراً طبيعيَّاً جدَّاً. وأعتقد أن منظر أساتذتنا وهم يقبلون يد الشيخ حمزة كان من أهم ما غرس في نفوسنا حب معلمينا وتوقيرهم، فأني أراني إلى هذه الساعة أشعر بحنين إلى هؤلاء المعلمين ولا يسعني إلا إكبارهم حين ألتقي بواحد منهم وإن كنت لم أستفد منهم شيئاً يستحق الذكر. ومن لطائف الشيخ حمزة أنه كان يقول ملاحظاته على المعلم على مسمع منا، ولكنه كان لا يكتب في تقريره إلى الوزارة إلا خيراً. وقد اتفق لي بعد أن تخرجت في مدرسة المعلمين وعينت مدرساً في المدرسة السعيدية الثانوية أن جاء الشيخ حمزة للتفتيش فاغتنمت هذه الفرصة وقلت:(يا أستاذ، ما هو الاسم العربي الصحيح لهذا الدخان الذي نسميه الدخان تارة والتبغ تارة أخرى) فقال: (أنظرني يا سيدي حتى أنظر في الكناشة). وأخرج مما يلي صدره تحت القفطان كراسة ضخمة لا أدري كيف كانت مختبئة غير بادية وقلب فيها ثم أنشد هذا البيت:

كأنما حثحثوا حصا قوادمه

أو أم خشف بذي شت وطباق

ومضى عني. وفكرت أنا في كلمة الطباق التي جاءني بها الشيخ. فاستحسنتها ورأيت أنها على العموم خير من كلمة التبغ التي نعرب بها اللفظ الإنجليزي أو الفرنسي (توباك أو

ص: 7

توباكو)

ومن حوادث الشيخ حمزة معي أني كنت أؤدي الامتحان الشفوي في الشهادة الثانوية وكان هو رئيسا للجان اللغة العربية فلما جاء دوري اتفق أنه كان موجوداً، فلما انتهت المطالعة وجاء دور المحفوظات وكان لها مقرر مخصوص سألني ماذا أحفظ. وكنت في صباح ذلك اليوم قد قرأت خطبة قصيرة للنبي صلى الله عليه وسلم فعلقت بذهني وألهمني الله أن أقول إني أحفظ خطبة للنبي، ففرح الشيخ جداً وخلع حذاءه وصاح (قل يا شاطر قل يا شاطر. قل يا شاطر فتح الله عليك) وسترني الله فلم أخطئ، فاكتفى الشيخ بهذا وأعفاني من النحو والصرف والإعراب

ولكنه في مرة أخرى كاد يضيع علي سنة. وكنت طالبا في مدرسة المعلمين وكانت لجنة الامتحان في اللغة العربية برياسته فقال أحد أخواني بعد خروجه من الامتحان: أن الشيخ حمزة يفتح كتاب النحو والصرف ويطلب من الطالب أن يتلو الفصل الذي يقع عليه الاختيار. ولم نكن ندرس لا نحوا ولا صرفا في المدرسة لأن الدراسة كانت مقصورة على الأدب، فأيقنا بالفشل. وجاء دوري فدخلت وأنا واثق من الرسوب وجلست أمامه فناولني كتاب مقدمة ابن خلدون فقرأت. ولا أزال أذكر فاتحة الكلام وهي (أعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها) الخ. فقال: ضع الكتاب. موضعته، فسألني عن العدوان والفعلين عدا واعتدي وانتقلنا إلى الصيغ المختلفة التي يكون عليها (الفعل)(اعتدى) مثل (اعتديا) للماضي المثنى و (اعتديا) للأمر، فسألني لماذا كان الماضي بالفتح والأمر بالكسر فلم أعرف لهذا سببا وقلت إنه لا سبب هناك سوى أن العرب نطقوا بهما هكذا. فدهش لهذا الجواب وقال: ولكن لهذا سبباً، قلت: إن اللغة سبقت النحو والصرف، وكل هذه القواعد موضوعة بعدها، وما دمت أنطق كما كان العرب يفعلون فان هذا يكفي ولا داعي للبحث عن سبب مختلق. فغضب وظهر هذا على وجهه فلم أبال بغضبه، وحدثت نفسي أنه خير لي وأكرم أن أسقط بخناقة من أن تكون علة سقوطي الجهل. وأصررت على رأيي وكاد يحدث ما لا يحمد، لولا أن المرحوم الشيخ شاويش - وكان عضوا في اللجنة - تدارك الأمر، فقد نظر في ساعته ثم التفت إلى الشيخ حمزة وقال:(العصر وجب يا مولانا) فنهض الشيخ وهو يقول (أي نعم) وذهب للصلاة ونسيني فكان

ص: 8

في هذا نجاتي. وقد حفظت هذا الجميل للشيخ شاويش، وكانت هذه الحادثة بداية علاقتي به

ولم تكن المواد كثيرة أو طويلة في مدرسة المعلمين، ويكفي أن أقول إنه كانت لنا في الأسبوع ثماني ساعات لا نتلقى فيها أي درس، فترك هذا التخفيف وقتاً كافيا للمطالعة الخاصة؛ وكان أساتذتنا وناظرنا يشجعوننا عليها بكل وسيلة ولا يفوتهم مع التشجيع والحث أن يوجهونا وينظموا لنا الأمر، وأحسب أن هذا نفعنا جدا

وقد صرت معلما بعد ذلك وظللت أشتغل بالتعليم عشر سنين؛ خمس منها في الوزارة وخمس في المدارس الحرة، وفي هذه السنوات العشر لم أحتج أن أعاقب تلميذا أو أوبخه أو أقول له كلمة نابية. ولم يقصر التلاميذ في محاولة المعاكسة ولكني كنت حديث عهد بالتلمذة وبشقاوة التلاميذ، فكنت أعرف كيف أقمع هذه الرغبة الطبيعية في الشقاوة. وكانت طريقتي أن أتجاوز عن الذي لا ضير منه فلا أشغل به نفسي والتلاميذ، مثال ذلك أن يحتاج التلميذ إلى قلم أو نشافة فيطلبها من جاره ويكلمه في ذلك فلا أعد هذا من الكلام الذي لا يباح، ولا أقيم ضجة من أجله. وقد حدث يوما وأنا مدرس في الخديوية أن دخلت فرقة فألفيت على مكتبي كل أدوات الرياضة مرصوصة على نحو لا شك أنه معتمد، وكان تلاميذي لا يجهلون كرهي للرياضة، وكنت أنا لا أكتمهم أني أعد نفسي جاهلا بها حمارا في علومها؛ وكان غرضهم من رص هذه الأدوات أن يعابثوني عسى أن أثير الضجة التي يشتهونها ولا يفوزون مني بها. ولكني لم أفعل بل اكتفيت بأن دعوت الفراش فحمل هذه الأدوات ووضعها في مكانها ثم بدأ الدرس. وأتفق يوماً آخر أن دخلت الفصل فإذا رائحة كريهة لا تطاق، وكان الوقت صيفاً والجو حاراً جداً فضاعف الحر شعوري بالتنغيص من هذه الرائحة الثقيلة. وأدركت أنها هي المادة التي كنا ونحن تلاميذ نضعها في الدواة مع الحبر فتكون لها هذه الرائحة المزعجة. فقلت لنفسي إنهم ثلاثون أو أربعون وأنا واحد، وإذا كانت الرائحة القبيحة تغثي نفسي فإنها تغثي نفوسهم معي أيضاً. فحالهم ليس خيراً من حالي، والإحساس المتعب الذي أعانيه ليس قاصراً علي ولا أنا منفرد به؛ وإنهم لأغبياء لأنهم أشركوا أنفسهم معي وقد أرادوا أن يفردوني بهذه المحنة. والفوز في هذه الحالة خليق أن يكون لمن هو أقدر على الصبر والاحتمال، فتجاهلت الأمر وصرت أغلق النوافذ واحدة بعد أخرى لأزيد شعورهم بالضيق والكرب فلا يعودوا إلى مثلها بعد ذلك، وقد كان.

ص: 9

تصبرت وتشددت ودعوت الله في سري أن يقويني على الاحتمال، ومضيت في الدرس بنشاط وهمة لأشغل نفسي عما أعاني من كرب هذه الرائحة الملعونة. وكنت أرى في وجوههم إمارات الجهد الذي يكابدونه من التجلد مثلي فأسر وأغتبط وأزداد نشاطاً في الدرس وإغضاء عمن يرفعون أصابعهم ليستأذنوا في الكلام فقد كنت عارفاً أنهم إنما يريدون أن يستأذنوا في فتح النوافذ عسى أن تخف الرائحة ويلطف وقعها. وظللنا على هذا الحال نصف ساعة كادت أرواحنا فيها تزهق، ورأيت أن الطاقة الإنسانية لا يسعها أكثر من ذلك، وأن التلاميذ خليقون أن يتمردوا إذا أصررت على عنادي المكتوم، واغتنمت فرصة إصبع مرفوعة وسألت صاحبها عما يريد، فقال إنه يريد أن يفتح النافذة لأن الحر شديد. قلت افتحها، وفتحت النوافذ كلها. وتشهدنا جميعاً واستأنفنا الدرس ولكن بفتور لشدة ما قاسينا من رياضة النفس على احتمال مالا يطاق. وانتهى الدرس وخرجت فخرج ورائي ثلاثة أو أربعة من التلاميذ ولحقوا بي، وقال لي واحد منهم إنهم يأسفون لما حصل وإن الأمر كان مقصوداً به غيري، وإنهم يطلبون الصفح، فسررت ولكني تجاهلت وسألتهم عما يعنون. وقالوا: الرائحة الكريهة التي كانت في الفصل. وقلت: رائحة. . . أي رائحة؟ إنني مزكوم ولهذا لم أشم شيئاً فلا محل لاعتذاركم. ومضيت عنهم، وكان هذا درساً نافعاً لهم ولو أني عاقبت أحداً لما أثمر العقاب إلا رضاهم عن نفوسهم لأنهم استطاعوا أن ينغصوا علي، وأن ينجح معي عبثهم الطبيعي في مثل سنهم

وفي آخر سنة من اشتغالي بالتدريس توليت أمر مدرسة ثانوية فقلت للأساتذة: إني ألغيت العقوبات جميعاً فلا حبس ولا عيش حاف ولا شيء مما اعتاد المعلمون أن يعاقبوا به التلاميذ. ونظريتي هي أن المدرس الذي يحتاج إلى معاقبة تلميذه لا يصلح لهذه المهنة وخير له أن يشتغل بغيرها، وأن العلاقة بين المعلم وتلميذه ينبغي أن تقوم على المودة والاحترام، وأن يكون أكبر وأقوى عامل فيها هو شعور التلميذ بأن المدرس والد له يبغي له الخير ويخدمه ويفتح له نفسه ويقوي مداركه وينمي استعداده، وأنه لا يلزمه بدرس ولا يفرض عليه شيئاً بل يرغبه في الدرس ويحبب إليه التحصيل. وعلى هذا فليس لأحد من المعلمين أن ينتظر مني أي معونة على ضبط النظام، وقد كان. قضينا في هذه المدرسة سنة كاملة لم يشعر فيها التلاميذ بسلطان أو سطوة، وإنما شعروا أنهم أبناء لنا وأننا إخوان

ص: 10

كبار لهم وأصدقاء نافعون ولم أكتف بهذا بل ألغيت (الجرس) الذي يدق إيذاناً بابتداء الدرس أو انتهائه لأني لم أر حاجة إليه بعد أصبح التلاميذ يحرصون على الحضور والمواظبة من تلقاء أنفسهم وبدافع حبهم للمدرسة ورغبتهم في الوجود بها مع إخوانهم المدرسين حتى لقد كان الواحد منهم يمرض فيحضر، وبهذا استغنيت أيضاً عن الدفاتر الكثيرة التي تستعمل في المدارس والتي تحتاج إلى موظفين كثيرين لا داعي لهم. وقد كنت أحب أن أظل في هذه المدرسة لأرى نتيجة التجربة، ولكن الحركة الوطنية بدأت في صيف ذلك العام وجرفنا جميعاً تيارها الزاخر فهجرت التعليم إلى الصحافة. ولو عدت إليه الآن لكان من المحقق أن أخفق فقد اختلف الحال جداً وانقلبت الأوضاع.

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 11

‌حرمة البيان

للأستاذ عبد المنعم خلاف

لو كان الأدباء (إلهيين) يقدمون لله الأزهار التي يقطفونها بأقلامهم من حديقته قبل أن يقدموها للناس، لحسبوا للحق والشرف والجمال الأصيل أكبر حساب، ولاستحيوا أن يقدموا لعين الله الناقدة العالمة كلاماً باطلاً أو دنيئاً أو زائفاً. . . ولكن كثيراً منهم رضوا بأن يكونوا (وثنيين) ينحتون من الألفاظ أصناماً يزوقونها ويصرفون الإنسانية بها عن وجه الله في بعض الأحيان. . .!

فهم يقدمون أزهارهم للأعين الكليلة البليدة مُغْفلين (الفنان الأعظم!) الذي يجب أن يرفع إليه كل عمل جميل شريف حتى يوقع عليه بطابعه. . .

ما هو الجمال؟ ما هو الحق؟ ما هو الشرف؟ لولا الله. . .

كل المعايير والموازين ساقطة باطلة مبلبلة إذا لم تكن في يده هو!

كل الصدق كذب. . . وكل الخير شر. . . وكل الحق باطل إذا لم يقله لنا هو!

ما الفرق بين صانع الكلام وصانع الأحذية إذا كان مدار الكلام هو الخبز. . . أو إرضاء جمهور الحرفاء أو الشهرة الجائعة التي لا تشبع أبداً؟

إني أقرأ بعض صحف الكلام فأشعر أنها من حقارتها وذلتها كالنعل. . . وكالنعل البادية القذرة لكثرة ما فيها من خروق عقل صاحبها أو خروق خلقه. . .

إن حاسة البيان جانب مقدس لأنها خاصة الإنسان المترجم عن الإلهية، فيجب أن يكون فيها ذلك السيال الخفي في الأصوات أو في السطور

وإن في حديقة الله أعاجيب وتهاويل وحقائق كبيرة لا يسمح إلا للأقلام النظيفة بالقرب منها ورصدها وتقريبها لذوي النظر القاصر من الإنسانية المادية العاملة التي ليس لها وقت للوقوف عند كل شيء ومحادثته وأخذه في النفس بالتأمل والدرس

إن في الأدب صوفية وكذلك في الفن على العموم، والصوفية نظافة وإدراك مرهف ودوران حول النفس والطبيعة وحساب دقيق للنسب بين الموجودات ثم نظرة دائمة إلى الفنان الأعظم!

فمتى يدرك الأدباء أن هذا أساس البيان وأن مقاييس الشرف الأدبي تسقط الأدب الكاذب أو

ص: 12

الداعر أو الزائف أو الجاهل بهذه الحقائق ولو ساقوا ألف دليل ودليل على أن مهمة الأدب تسجيل كل ما في الحياة ولو كان فحشاً أو نكراً؟

إني أنزه حرمة البيان أن أسخره في شيء تافه أو دنس حتى لا أصرف عنه عيون عشاق الحكمة الشرفاء الذين إليهم وحدهم يجب أن يرفع الكلام ويوجه الأثر الفني. . . وحتى لا أقذي به عيون النساء والناشئين الذين يجب أن نصونهم عن القبح والزيف؛ والطفولة والشباب هما موضع آمال الإصلاح وقوالب المثل العليا التي فاتنا أن نحققها في أشخاصنا، والنساء هن مستودع تلك القوالب. . .

أنا أريد وأتمنى أن يكون الأدب واحة في صحراء الحياة المادية بجانب واحة الدين، لتفر إليها النفس المتهالكة المختنقة من ضجة الآلات ومادية العيش والارتفاق. وإن في الأدب صوراً تلمس فيها ذكاء وعبقرية صنع، ولكنها لا تحرك في نفسك ذلك الإحساس العميق بالحياة، ولا تثير في قلبك ذلك الدم النادر الذي لا يثور إلا في عبادة خالصة أو في فرح مقدس أو ألم مقدس. وهنالك أدب يشعرك بذلك المعنى السامي الذي يؤكد لك الإحساس به أنك أعظم من جسدك الحيواني. . . وأنك أوسع من تلك الكتلة اللحمية المحدودة. . . وأنك أخف من ذلك الجرم الترابي الكثيف المربوط بالأرض. . . وأنك باستمرار محوط بأسرار وقوى تخاطبك وتجاذبك. . . ولكنك لا تسمع ولا تحس إلا إذا فتحت سمعك كلمة منبهة من قلم نظيف حساس. . .

جوهر النفس والطبيعة ينبغي أن يكون هو وحده مطلوب الفنان، أما القشور فلا يطلبها فنان ذو افتتان بالحقائق الكبيرة التي تتطلب من راصدها عشقاً لها وحدها وأمانة لقوانينها وفضائلها.

هنالك أدب كموسيقى (الجازبند) يثير في النفس أطيش ما فيها وأخفه وأحمقه، ولا يدخل عليها محصولاً من شعور نبيل أو فكرة كريمة، ولا يلفتها إلى شيء مخبوء، ولا يفتح لها باباً مغلقاً. . . هو تماماً كتلك الموسيقى المجنونة البربرية التي تحمل على طيش الجسد ورقصه وضجة شهواته وحماقاته. قد يكون فيه براعة لفظية وخفة يد أو لسان. . . ولكنها كبراعة (الحاوي) وخفته. . . ولا تحملك على اعتقاد بأن صاحبها خالق أو جاد يقصد لباب الحياة. . .

ص: 13

ومنذ أن قال امرؤ القيس أقواله الفاحشة في المرأة، ونظم الفرزدق وجرير الشتائم والسباب، وقال أبو نواس وبشار وأضرابهما في معاني الشذوذ والضعف الخلقي، وامتلأ العصر العباسي الثاني بالتفنن في تسجيل الصور الدنيئة من حياة الإنسان كما يتمثل في يتيمة الدهر (قاموس الأدب الداعر الوقح!) - منذ ذلك كله تحول ذوو الطبائع الجادة وعشاق الحكمة والمشغولون بالحق والجمال الأصيل إلى وجهات أخرى في الحياة غير وجهة الأدب والاشتغال بمحصوله

لماذا يتكلم الناس؟ أللإبانة عما في نفوسهم؟ أم لإخفاء ما فيها كما يقول (تاليران) الخطيب الفرنسي المشهور؟

أنا مع تاليران كما دلتني مواقف كثيرة كنت أقرأ فيها على الوجوه وأشعة العيون غير ما يقول اللسان. . . وقد قرر عمر بن الخطاب أن مع التفاصح النفاق حين حبس الأحنف بن قيس مدة لما رأى من فصاحته ولَسنه فخشي أن يكون وراءهما نفاق، ثم تبين له شذوذ القاعدة في الأحنف فأطلقه. وقد دلتني على ذلك أيضاً ألاعيب صناع الكلام والمفتونين فيه الذين يكفرون بالحق لأجل كلمة، ويغيرون معايير الطبيعة لأجل قافية، ويخسرون صداقة الفضيلة لأجل سجعة أو نكتة!

ولو كنت ذا وصاية عامة على تهذيب الناشئين لكانت مهمتي تتلخص في تربيتهم على الاقتصاد في الكلام ما وسع الصمت وعلى التفكير فيه وحديث النفس به قبل إعلانه على تلك الآلة الصغيرة الخطرة: اللسان أو القلم!

التفكير التفكير، وارتياد طريق الكلمة قبل تسجيلها بالصوت أو المداد، وبعث الكشافة من شعور النفس وفروض السامعين أو القارئين، والإتيان بجديد إن كان المقصود بالبيان هو (الأثر الفني) وترك الآثار مدة حتى تختمر وترجع النفس وافرة وتقر الأخلاط الثائرة وتذهب فتنة ابتداء القول والإعجاب به كما يقول الجاحظ، وكما أشار العماد الأصفهاني إلى طبيعة الإحساس بالنقص في الأثر البياني من صانعه بعد مرور حين من الزمان. . .

لا يعني الشاعر المتأمل أن يتكلم بقدر ما يعنيه أن يتأمل! وإن لذة الخلوص إلى النفس، والشعر النفسي الذي ترسله الروح بحوراً لا قيود لها ولا تكلف ولا كذب ولا ألفاظ بها قراءة آثار الغير وقراءة الدنيا بدل الإملاء عليها. . . ليست أقل من لذة الكلام وإظهار ما

ص: 14

في النفس، إن لم تفقها بأضعاف! بل إن الثانية يصحبها ألم تقييد المطلق وتحديد اللانهائي وتضييق الواسع وضغط المعاني في قوالبها وطمس جمالها بالألفاظ العجزة

وأنا شخصياً لا أجد في نفسي نشوة حين أقول بقدر النشوة التي أجدها حين أفهم ما يقال من الآثار الجميلة

والإلحاح في طلب الشهرة من طريق تتابع الآثار الأدبية الخفيفة الوزن والمحصول هو عيب أكثر أدباء الشباب. فلو عرف كل أديب أن لا عليه أن يصمت حيث لا جديد عنده يضيف إلى ميراث الأدب سطراً قيماً، لاستراح هو من النقد واستراح القارئ من تكرير المعاد المكرور (ومت بداء الصمت خير لك من داء الكلام)

والإلحاح في طلب الشهرة ينبئ عن (مركب نقص) دخيل يحسه صاحبه ويريد أن يغطيه عند نفسه أولا وعند الناس ثانيا. وما يعظم العظيم حتى يتوارى عن أعين الناقصين إشفاقا عليهم من آلام الحسد والفقد. وإذا اكتملت معاني الثقة والعظمة في نفس عاشت منها في ضجة يخيل إليها معها أن بصيرة الناس تحسها وآذان القلوب تسمعها، فلا حاجة بها بعد ذلك إلى إعلان أو إلحاح ولجاجة.

وكم يحملني شخص لم يكتب إلا كلمة أو لم يخطب إلا مرة واحدة على احترامه وتقدير ما عنده لأني عرفت نفسه وجوهر فكره وقلبه.

وكم يحملني آخر من (محترفي صناعة الكلام) على احتقاره وازدراء ما عنده ولو غطى نفسه بألف رداء من التظرف أو التوقر أو البراعة في اللعب بالألفاظ. . . جوهر النفس أشع وأوضح من أن يخفى. . فليعرف ذلك الخادعون للناس والمخدوعون في أنفسهم المغرورون بالألفاظ، السيئو الظن بعقول الناس وذاكرتهم وتأويل صمتهم. . .

ألاعبون بالألفاظ أيها الأدباء. . . أم مؤمنون بالخير والجمال الأصيل؟

أأرضيون أنتم تترجمون عن حياة حيوانية. . . أم متعلقون بما فوق. . .؟

أأذكياء أنتم تعرضون فصاحتكم وشقشقتكم واختلاج ألسنتكم وأقلامكم. . . أم لكم قلوب تشيرون بها وحدها إلى الحقائق الكبيرة في الحياة؟

أمصرون على التلهي بالأصداف والقواقع والقشور. . . أم ساعون جاهدون إلى إدراك الجوهر واللب؟

ص: 15

أأوابد مفرقة متهاترة. . . أم جنود في كتيبة واحدة لغاية واحدة؟ إنكم بالأوضاع الأولى محترفون للتعيش والكسب. . . وبالأوضاع الأخرى أصحاب رسالة. . . إنكم بالأولى ترضون أن تبيعوا أقلامكم وتعيشوا من غير عقيدة وهدف وتؤجروا كما تؤجر النوادب أو القيان للوقوف في المآتم والأعراس بدون قلوب ولا دموع ولا ابتسام ولا ابتهاج. . .

وإنكم بالأخرى تفرضون صحتكم على أمراض العقول وتصحيحكم على أغلاط الناس وتسيرون في الناس كالراعي في القطيع وكالآباء في الأسرة. . .

يا لضيعة الإنسانية إذا ما سخرت جهالتها علومَها وآثامها فضائلها وأمراضها سلامتَها! يا لضيعة الرءوس إذا ما تحكمت فيها الأقدام والأيدي والمعدات!

غفرانك يا قلم! وصفحاً عن جريرة الذين يحملونك ولا يدرون مجدك وملكوتك!

هم لا يدرون أين يغمسونك. . . فهم يغمسونك في الأوحال والأدناس ويقدمون على طرفك للناس بعراً. . . وهم يتوهمونه زهراً. . . من تدليس معاطسهم وكيد أنوفهم وانتكاس طبائعهم

إن بعض الكتاب لا يغمسونك إلا في دماء قلوبهم ولا يصدرون بك إلا عن وحي الحق والواجب والمجد والجمال الأصيل فهم لا يكتبوا ليملؤا صحائف بمداد أسود وكفى. . . فعل الذين يعلنون به عن أنفسهم التي تحس الحقارة وتغطيها بالشهرة وتريد أن تقول حتى للحمير والكلاب والأحجار: هأنذا. هأنذا أديب كبير أيتها الأحجار والحمير! ولكنهم يكتبون فاهمين حرمة القلم الذي أقسم به الإله. . . وفاهمين أنه هو الذي غير تاريخ البشرية وجعلها تسير نحو مجدها وتسجل خطواتها، فليس لأحد أن يستعمله إلا في مطالب الشرف

ولو درى بعض الأدباء أي جناية يجنونها على الخلق والشرف والجمال في نفوس الشباب لحطموا أقلامهم واستبدلوا بها الفئوس أو المكانس. . . فان استعمال الفأس أو المكنسة معنى سامياً في خدمة الإنسانية من وجوه. . .

إن بعض الأدباء أفلسوا في أن يقدموا للإنسانية معنى يرفعها أو شعاعاً يهديها. . . فماذا يفعلون ليشتهروا؟ لا شيء إلا أن يقدموا لها معنى يخفضها. . . على مذهب القائل:

إذا أنت لم تنفع فضر فإنما

يرجى الفتى إذ ما يضر وينفع

وشهد الله أننا ما نكتب لشهوة الكلام، ولا لرؤية الصحف المسودة. . . ولا ليقال عنا إننا

ص: 16

كذا وكذا. . . وإنما نكتب حين نشعر أن دمنا يسير إلى أقلامنا ويرعش بنائنا فترسم به صوراً. . .!

ليس بنا فتنة الحديث إلى أحد. . . وإنما نتحدث إلى أشياء أخرى لا يراها الناس. . . نتحدث إلى طبقة (أرستقراطية) مخبوءة مضنون بها على أكثر العيون والأسماع. . . نقول لها وتقول لنا، ونلازمها وتلازمنا متفاهمين ليس بيننا غل ولا شحناء. ترينا من عجائبها وتلبسنا مما عندها مناظير وأثواباً. . . وتضيء لنا بمصابيح. . . وتعرفنا إلى جهات مجهولة، وتقذف بنا إلى كل ناء بعيد. . . وتقول للدنيا المستورة: هذا قارع لبابك طويلاً فافتحي له وخذيه. . . .

وأعود فأكرر: إن في حديقة الله أعاجيب وتهاويل وحقائق كثيرة لا تنالها ألا الأقلام النظيفة

وإن في الأدب الحق صوفية تحتم إدامة النظر إلى (الفنان الأعظم) الذي (إليه يصعد الكلم الطيب)

(القاهرة)

عبد المنعم خلاف

ص: 17

‌البصرة

للدكتور عبد الوهاب عزام

خرجنا من الناصرية على الفرات جنوبي العراق نريد البصرة يوم الخميس 30 أبريل سنة 1936 والساعة ثلاث وعشر دقائق بعد الظهر، والناصرية حاضرة لواء المنتفق بنيت على نظام حسن منذ ثمانين عاماً، وسميت باسم ناصر باشا السعدون رئيس عشائر المنتفق، وبينها وبين البصرة مائة وخمسة عشر ميلاً.

سارت بنا السيارة ثلاث ساعات على حافة بادية الشام في قسمها الجنوبي المسمى بالسماوة، نجد على البعد ريح نجد ونرى الشيح والقيصوم؛ وبينا نحسب الساعات والأميال، تشوقنا البصرة وذكرياتها. قال أحد الرفاق: انظروا إلى شجرة الأثل - هذا أثل الزبير. قاربنا المدينة

مدينة الزبير مدينة صحراوية على مقربة من البصرة الحديثة بينهما نحو عشر كيلات، وكانت في العصور الخالية قسماً من البصرة القديمة، سميت باسم الزبير بن العوام أحد الصحابة قتل بعد موقعة الجمل في وادي السباع على مقربة من المدينة ودفن بها

وسكان الزبير معظمهم نجديون أهل نشاط وتجارة، وقد جلبت إليها الحكومة العراقية الماء من البصرة منذ سنتين وكان شربهم من الآبار

وبها من المشاهد قبر الزبير رضي الله عنه في مسجد كبير، وفي جانب من هذا المسجد قبر عتبة بن غزوان مؤسس البصرة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. قلت في نفسي: قبر العتبة يذكرني بالفتح والتعمير، وضريح الزبير يذكر بالخلاف والقتال بين المسلمين، وتلك أمة قد خلت. أسأل الله إصلاح النفوس وتأليف القلوب. وخرجنا من مسجد الزبير إلى ظاهر البلد فرأينا قبة صغيرة تحتها قبران: قبر الحسن البصري، وقبر محمد بن يسرين من التابعين، قلت: قد أصطبحا حيين وميتين. وإن الذي يذكر الحسن يملأ نفسه الإجلال والإكبار لهذا الرجل رجل الذكاء والعلم والفصاحة والورع والجرأة في الحق. وقد روي عن ثابت بن قرة أنه قال: ما أحسد هذه الأمة العربية الأعلى ثلاثة أنفس: عمر بن الخطاب والحسن البصري والجاحظ. وقال عن الحسن: كان من دراريّ النجوم علما وتقوى، وزهدا وورعا وعفة ورقة وفقها ومعرفة. . . يجمع مجلسه ضروبا من الناس، هذا

ص: 18

يأخذ عنه الحديث، وهذا يلقن منه التأويل، وهذا يسمع منه الحلال والحرام، وهذا يحكي له الفُتيا، وهذا يتعلم الحكم والقضاء، وهذا يسمع الوعظ، وهو في جميع ذلك كالبحر العجاج تدفقا، وكالسراج الوهاج تألقا. ولا تنس مواقفه ومشاهده في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الأمراء وأشباه الأمراء بالكلام الفصل واللفظ الجزل. . . الخ

وأما قبور الصالحية التي ذكرها ابن بطوطة كمالك بن دينار وسهل ابن عبد الله فلم نجد عند القوم خبرا عنها. وأما قبر أنس ابن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعند وادي السباع بعيد عن المدينة.

فصلنا عن مدينة الزبير فرأينا على بعد قبة منفردة في البرية وعرفنا أن تحتها ضريح طلحة بن عبد الله أحد الصحابة، وقد قتل في واقعة الجمل أيضاً. ثم مررنا بمأذنة مفردة ليس بجانبها بناء فقيل إنها مأذنة مسجد علي رضي الله عنه. وكان هذا المسجد في وسط المدينة. وكان مسجداً عظيماً بقي وحده بعد خراب البصرة القديمة ورآه ابن بطوطة وقال إنه من أحسن المساجد وصحنه متناهي الانفساح، مفروش بالحصباء الحمراء التي يؤتى بها من وادي السباع، وفيه المصحف الكريم الذي كان عثمان رضي الله عنه يقرأ فيه لما قتل

ثم دخلنا مدينة البصرة وهي على ثمانية أميال إلى الشمال والشرق من البصرة القديمة التي تم خرابها في أوائل القرن الثامن الهجري وخراب البصرة يضرب به المثل

ولله ذكر تحيط بالداخل إلى البصرة! إنها ذِكَرُ الفتح والتعمير الإسلامي. إنها ذكر العلوم والآداب العربية. هنا ولد النحو وعلوم اللغة؛ هنا أبو عمرو بن العلاء والخليل بن أحمد وسيبويه والأصمعي ثم الحريري؛ وهنا بشار وأبو نواس؛ وهنا أئمة المعتزلة إبراهيم النظام وأبو الهذيل العلاف؛ وهنا نادرة الزمان أبو عثمان الجاحظ. هنا إخوان الصفاء الذين دونوا خلاصة الفلسفة الإسلامية، وهنا المربد حيث كان يجتمع الشعراء والفصحاء فيستمع الناس ويقضون لمتكلم على آخر. هنا أنشد جرير والفرزدق وغيرهما.

سألت أين المشان قرية الحريري التي كان بها نخله الكثير فقيل لا يزال اسمه معروفاً شمال البصرة فأنشدت ما كتبه سديد الدولة ابن الأنباري إلى الحريري:

سقي زرعي الله المشان فأنها

محل كريم ظل بالمجد حاليا

ص: 19

أسائل من لاقيته كيف حاله

فهل يسألن عني ويعرف حاليا

البصرة اليوم مدينة عامرة كبيرة، واسعة التجارة قد شمل التنظيم الحديث قسماً كبيراً منها، وقسمها الحديث يسمى العشار يقع على شط العرب، وتشرف على هذا النهر العظيم قصور أغنياء البصرة تتباين فيها الغنى والبذخ والترف، لها مجالس على النهر وسلاليم ترسو عليها الزوارق

وعلى بضعة أميال من المدينة تقع ميناء البصرة الحديثة تدخل إليها البواخر الكبيرة، ولها مستقبل تجاري وحربي عظيم؛ والجهة التي بها الميناء تسمى المعقل ويسميها الأوروبيون مركيل وأحسبها مسماة باسم معقل بن يسار المزني. وكان هناك نهر يسمى نهر معقل. وجاء في الأمثال: إذا جاء نهر الله فقد بطل نهر معقل

والبصرة مدينة البندقية العربية فهي واقعة على شط العرب العظيم تخرج منه أنهار كثيرة تخترق المدينة، فتجد الأنهار في شوارعها الفسيحة تطل عليها الدور والبساتين

وأذكر أني سرت من المدينة إلى أبي الخصيب في طريق معبدة تظلها النخيل والأشجار نحو عشرين ميلاً فاجتزت أربع عشرة قنطرة على الأنهر الآخذة من شط العرب

والبصرة أكثر بقاع العالم نخلاً، بها نحو عشرة ملايين نخلة. ويكاد النخيل يتصل ما بين القرنة حيث يجتمع دجلة والفرات إلى مدخل خليج البصرة وذلك نحو 150 كيلا. وقد روى الأصمعي عن الرشيد أنه قال: نظرنا فإذا ما على وجه الأرض من ذهب وفضة لا يبلغ ثمن نخل البصرة. . . الخ

وهذا الخصب العظيم والعمران الكثيف على مقربة من البادية. فمن شاء تحضر ونعم بألوان الحضارة، ومن شاء تبدّى واستمتع بحرية البداوة وبالصيد وغيره

وقد قال ابن أبي عيينة المهلبي يصف البصرة:

يا جنة فاقت الجنان فما

يعدلها قيمة ولا ثمن

ألفتها فاتخذتها وطنا

إن فؤادي لمثلها وطن

زوَج حيثانها الضباب بها

فهذه كنة وذا ختن

فانظر وفكر لما نطقت به

إن الأديب المفكر الفطن

من سفن كالنعام مقبلة

ومن نعام كأنها سفن

ص: 20

وقال خالد بن صفوان: يغدو قانصنا فيجيء هذا بالشبوط والشيم، ويجيء هذا بالظبي والظليم. . . والشبّوط والشيم من أنواع السمك

وقال ابن أبي عيينة أيضاً:

ويا حبذا نهر الأبلة منظرا

إذا مدّ في إبانه الماء أو جزَر

ويا حسن تلك الجاريات إذا غدت

مع الماء تجري مصْعدات وتنحدر

وسقيا بساتين البصرة ومزارعها من المد. وذلك أن شط العرب يمد ويجزر. وقد وصفه الشعراء والكتاب والرحالون على اختلاف العصور

قال خالد بن صفوان:

وأما نهرنا العجيب فان الماء يُقبل عنقاً فيفيض متدفقاً، يأتينا في أوان عطشنا، ويذهب في زمان رينا، فنأخذ منه حاجتنا ونحن نيام على فُرشُنا. فيقبل الماء وله عباب وازدياد لا يحجبنا منه حجاب، ولا تغلق دونه الأبواب، ولا يتنافس فيه من قِلّة، ولا يحبس عنا من علة

وقال الجاحظ وهو يعدد عجائب البصرة:

منها أن عدد المد والجزر في جميع الدهر شيء واحد، فيقبل عند حاجتهم إليه ويرتد عند استغنائهم عنه؛ ثم لا يبطئ عن الأرض إلا بقدر هضمها واستمرائها وجمامها واستراحتها، لا يقتلها عطشاً ولا غرقاً. يجيء على حساب معلوم، وتدبير منظوم ومدد ثابتة، وعادة قائمة، يزيدها القمر في امتلائه كما يزيدها في نقصانه. فلا يخفى على أهل الغلات متى يتخلفون ومتى يذهبون ويرجعون، بعد أن يعرفوا موضع القمر وكم مضى من الشهر، فهي آية وأعجوبة، ومفخرة وأحدوثة، لا يخافون المحْل ولا يخشون القحط

قال ياقوت الحموي:

كلام الجاحظ هذا لا يفهمه إلا من شاهد المد، وقد شاهدته في ثماني سفرات لي إلى كيش ذاهباً وراجعاً، ويحتاج إلى بيان ليعرفه من لم يشاهده: وهو أن دجلة والفرات يختلطان قرب البصرة ويصيران نهراً عظيماً يجري من ناحية الشمال إلى ناحية الجنوب؛ فهذا يسمونه جزراً، ثم يرجع من الجنوب إلى الشمال ويسمونه مدا، يفعل ذلك كل يوم وليلة مرتين. فإذا جزر نقص نقصاناً كثيراً بينا بحيث لو قيس لكان الذي نقص مقدار ما يبقى أو

ص: 21

أكثر. وليست زيادته متناسبة بل يزيد في أول كل شهر ووسطه أكثر من سائره الخ أ. هـ. كلام ياقوت

وهذا النظام لا يزال سارياً اليوم، ولكن حفر مدخل الشط في السنين الأخيرة لتتمكن السفن العظيمة من الدخول فصار المد أقل مما كان قبلا

وأما هواء البصرة فحار رطب. وكان من حسن حظنا أن كنا بها في أوائل أيار (مايو) فلم نصادف إلا هواء معتدلا بالنهار بارداً بالليل. وقد وصف القدماء هواء البصرة بشدة الاختلاف. قال الجاحظ: من عيوب البصرة اختلاف هوائها في يوم واحد، لأنهم يلبسون القمص مرة، والمبطنات مرة لاختلاف جواهر الساعات. ولذلك سميت بالرعناء، قال الفرزدق:

لولا أبو مالك المرجو نائله

ما كانت البصرة الرعناء لي وطناً

وذلك أن ريح الشمال في البصرة باردة، وريح الجنوب حارة؛ ولذلك قال ابن لنكك الشاعر البصري:

نحن بالبصرة في لو

نٍ من العيش ظريف

نحن ما هبت شمال

بين جنات وريف

فإذا هبت جنوب =. . . . . . .

ويكمل الشاعر بيته بشطر لا يحسن إنشاده

وكانت البصرة إلى عهد قريب كثيرة الحميات، ويقول ابن بطوطة بعد ذكر المد والجزر:(وبسبب ذلك كان هواء البصرة غير جيد) وألوان أهلها مصفرةً كاسفة حتى ضرب بها المثل. وقال بعض الشعراء وقد أحضرت بين يدي الصاحب أترّجة

لله أترج غدا بيننا

معبرا عن حال ذي عبرة

كما كسا الله ثياب الضنى

أهل الهوى وساكني البصرة

وسمعت في العراق أن أهل البصرة قد ألفوا الحمى حتى أن أحدهم يكون سائرا مع صاحبه فيحس الحمى فيقول له: ائذن لي أن أذهب إلى البيت لأحمّ. هذا كله كان قبل أن تنالها يد العناية - عناية الحكومة العراقية. وأما اليوم فقد أصلحت الحكومة الطرق والأنهار والمستنقعات، وتوسلت بوسائل طبية كثيرة حتى قلت الحمى هناك جدا، ويرجى أن تزول

ص: 22

فلا يبقى لها أثر بعد سنين قليلة.

ومن الإنصاف أن أذكر ما عرف به أهل البصرة في الماضي والحاضر من كرم الخلق ورعاية الغريب. قال ابن بطوطة:

(وأهل البصرة لهم مكارم أخلاق، وإيناس للغريب، وقيام بحقه، فلا يستوحش فيما بينهم غريب)

وفي ياقوت: (وقال شاعر يصف أهل البصرة بالبخل وكذب عليهم) وياقوت خبير بالبلد وأهله

وكذلك أهل البصرة اليوم تغلب عليهم الأخلاق العربية على كثرة ما نابهم من محن، ومر بهم من شدائد

وفي البصرة مدارس أولية وابتدائية كثيرة ومدرسة متوسطة وأخرى ثانوية. والتعليم فيها يزداد ويزدهر سريعا. وعسى أن يكون لها بعد قليل ما كان لها من مجد وصيت يوم كانت مهد العلوم العربية والإسلامية.

ويعد للبصرة من موقعها وأرضها ومائها وعناية الحكومة العراقية بها ما يضمن لها مستقبلا زاهرا. وإنا لنرجو أن تعيد سيرتها، ولتعمل لخير العربية والإسلام ما عملت في ماضيها إن شاء الله.

عبد الوهاب عزام

ص: 23

‌حظي بالشيء.

. .

لأستاذ جليل

الرافعي، المجمع اللغوي، أزهري المنصورة، اليازجي. . . .

. . . . .

- 4 -

تتمة

قال الأستاذ الرافعي رحمه الله: (فلقي (حافظ) بعض أصدقائه، فقال له بالحرف:(اليازجي غير مطلع في العربية) قال الصديق ولماذا. . .)

وأغلب الظن أن ذلك الصديق الذي حاور حافظاً هو الأستاذ الرافعي بنفسه، وكأن ضلعه في حديثه على حافظ، وهو يبدو منافحاً عن صاحب (الضياء) وكان يوقر صاحبه، وسماه في إحدى مقالاته (أديب النصرانية) وقد طالع أقواله جلها أو كلها. وفي (تاريخ آداب العرب) من مجلتي البيان والضياء) شيء كثير وإن لم يُعزَ إليهما، وخطة الأستاذ الرافعي في ذلك الكتاب قلة العزو، وهذا قوله بيناً:(أصطلح بعض المتأخرين على أن يذكروا في مؤلفاتهم أسماء الكتب التي ينقلون عنها، ويعينون مواضع النقل ليخرجوا من تبعة ما ينقلون إذا كان خطأ فيلقون ذلك على الكتاب زيادة في حسنات مؤلفه. . . أما نحن فلما كنا نستهجن أن نثبت شيئاً لا نمخض الرأي فيه، ولا نثق بصحته بعد تقدم النظر دون أن ننبه عليه إن مست الضرورة إلى إثباته فقد أهملنا ذكر الكتب لأن ذلك تطوير من غير طائل، ولأننا نبسط كل معنى نأخذ فيه، ولم نعين مواضع ما ننقله لأن علينا تبعته)

ومما أخذه من (البيان) قوله: (وهم (أي الإسماعيلية) ينسبون إلى إسماعيل عليه عليه السلام وخبر نزوله بالحجاز مذكور في التوراة! وقد تزوج هناك برعلة بنت مضاض أحد ملوك جرهم وهي القبيلة التي ذكر جدها في التوراة باسم ألموداد)

و (البيان) يقول: (وسائر القبائل العرب تنسب إلى أجداد ذكرت في التوراة، منها ألموداد جد قبيلة جرهم التي اتصل بها إسماعيل بن إبراهيم الخليل فتزوج برعلة بنت مضاض أحد ملوكها وكانت مساكنها في الحجاز)

ص: 24

وفي منقول الأستاذ الرافعي رحمه الله شيء نفوّض البحث عنه إلى الكاتب المشهور الدكتور طه حسين ليفيض فيه حتى يطرفه محمد نور ثانٍ أخاً لذاك (القرار). . .

وقد عرف الشيخ اليازجي فضل الأستاذ الرافعي في مبتدأ أمره، وأطراه في مجلته، وقرظ الجزء الأول والجزء الثاني من ديوانه، وروى طائفة منهما في التقريظين، ونقد أبياتاً في الأول منها هذا البيت:

أرى ذا الليل قد خفقت حشاه

وبيض عينه نزف الدموع

قال: (فأنث الحشا وهو مذكر)

قلت: الحشا مذكر، وقد جاء في (رسائل الجاحظ) التي انتقاها من كتبه الأديب الأستاذ حسن السندوبي:(فأنا بين حشا خافقة ودمعة مهراقة) فهل كان الأصل: (فأنا بين حشا خافق ودمع مهراق) ثم جاءت هذه البركات، هذه التاءات من عند الناسخين أو الطابعين أو المنتقين. . .؟

وفي (أقرب الموارد) للشرتوني: (وهو (أي الحشا) يؤنث كقوله:

لا تعذل المشتاق في أشواقه

حتى تكون حشاك في أحشائه

والبيت للمتنبي، والرواية في (ديوانه) يكون - بالياء - لا تكون - بالتاء -. وممن أنث الحشا ابن الفارض وابن نباتة المصري وقد نقدهما اليازجي

ومن نقد اليازجي العروضي لأبيات للرافعي:

أنا لم يبق بين جنبيّ إلا

كبد من لوعة الشوق حرىّ

في عجزه نقص خفيف بين كبد ولوعة

صدّت فكان كلامها نزرا

وغدت تضن بذلك النزر

جاء بالعروض الحذاء مضمرة والإضمار مع الحذذ لا يقع إلا في الضرب)

وقد ذكّرنا نقد اليازجيَّ الرافعيَّ بنقده (شوقيَّاً) في مثل ذلك:

ما نحن قلنا فالحب قائله=وما فعلنا فللهوى الفعل

وإن نقلنا لبقعة قدما

فللهوى لا البقعة النقل

البيت الثاني مختلف الوزن من بحرين، لأن الشطر الأول من (المنسرح) وهو بحر سائر القصيدة والثاني من ثالث السريع:

ص: 25

تلك سماء الهند شاهدة

وأرضها والجبال والسهل

خالف بين الشطرين فجعل الأول من السريع والثاني من المنسرح)

ثم قال اليازجي بعد نقده تلك الأبيات في ديوان الرافعي: (على أن هذا لا ينزل في قدر الديوان وإن كان يستحب أن يخلو من مثله، لأن المرآة النقية لا تستر أدنى غبار، ومن كملت محاسنه ظهر في جنبها أقل العيوب، وما أنقدنا هذه المواضع إلا ظناً بمثل هذا النظم أن تتعلق به هذه الشوائب ورجاء أن يتنبه لمثلها في المنتظر، فان الناظم كما بلغنا لم يتجاوز الثالثة والعشرين من سنيه، ولا ريب أن من أدرك هذه المنزلة من البراعة في مثل هذا السن سيكون من الأفراد المجلين في هذا العصر، وممن سيحلون جيد البلاغة بقلائد النظم والنثر)

قلت: صدقت كهانة الشيخ فقد أمسى الرافعي من الأفراد المجلين في هذا العصر، وهو إن صلى في النظم فقد جلى في النثر

ونشر الأستاذ الرافعي رحمه الله ثلاث قصائد من شعره في مجلة (الضياء) الثالثة في السنة السابعة من تلك المجلة (الجزء السابع 15 يناير 1905) وعنوانها (حسان الأرض والسماء) وفي القصيدة هذا البيت:

هيهات قد أصبح معنى الهوى

بين الغواني نحو (سوِّرْ يدي)

قلت: فهن يبغين قلْباً ولا قَلْباً، قلوباً لا قلوباً:(يُردن ثراء المال حيث عَلِمْنَه)

وقد رأيت وقد رويت قول (أديب النصرانية) في (أديب الإسلامية) وإن لم يكن الرافعيُّ يومئذ الرافعيَّ - أَن أورد قولا لحجة الإسلام الإمام الشيخ محمد رشيد رضا في الأستاذ الرافعي وفي كتبه عامة وكتاب المساكين خاصة:

(الأستاذ مصطفى صادق الرافعي صاحب هذا الكتاب أشهر من نار على علم، يراها كل أحد ولا يصل إليها أحد، فهو معروف والمعروف لا يعرّف. أوتي عقله نصيباً كبيراً من فلسفة النفس والاجتماع فهو يغوص في أعماقها، وأوتي خياله حظاً عظيماً من المعاني الشعرية فهو يطير في أجوائها، وأودع ذهنه مادة واسعة من اللغة العربية مفرداتها وأساليبها؛ فهو يبرز النظريات الفلسفية في صور من التخيلات الشعرية، تتجلى في طرز طريفة (مودات) من الحلي والحلل اللغوية، جمع فيها بين الإجادة في المنظوم والمنثور

ص: 26

وقلما تتفق الإجادة فيهما معاً إلا للأقلين كما قال الحكيم ابن خلدون. وبهذه المزايا كان أمة وحده في الكتاب والشعراء والمصنفين، وكان جمهور قراء العربية يشكون شيئاً من الغموض في كلامه، والحاجة إلى التأمل الكثير في بعضه لاستبانة مراده، ولكن لا ينكر أحد من أولي الفهم أن كل قارئ له يرى فيه من فرائد اللغة ودقائق التعبير البليغ عن المعاني ما لم يكن يعلمه، فهو كثير الابتكار والإبداع. ولو كان جمهور القراء يفهمون لغته حق الفهم لعم انتشارها

له عدة مصنفات أجلها موضوعاً وأوضحها بياناً (إعجاز القرآن) وقد أعطيناه حقه من التقريظ فنشر معه، وطبع ثلاث مرات، ويليه (تاريخ آداب العرب) و (تحت راية القرآن) ومنها (حديث القمر، ورسائل الأحزان، والسحاب الأحمر، وأوراق الورد) وهذه الأربعة كتب فلسفة وشعر

وأما كتاب المساكين الذي جعلناه ذريعة لتقريظها كلها فقد عرفه مصنفه بكلمة بيّن بها ما أراده منه وكتبها تحت اسمه وهي: (أردت به بيان شيء من حكمة الله في شيء من أغلاط الناس) ولقد صدق في قوله ووفى بمراده، ولقد كنت أعجز كما أخال أن كل أحد غيره يعجز عن تعريفه هذا. ثم وصفه بكلمة أخرى قال: إنها (من قلم الغيب) وذكر أنها أوحيت إليه في النوم وهي: (هذا كتاب المساكين، فمن لم يكن مسكيناً لا يقرؤه لأنه لا يفهمه، ومن كان مسكيناً فحسبي به قارئاً، والسلام) فإن صدق في أن هذه الكلمة من قلم الغيب كما صدق في أن من لم يكن مسكينا لا يفهمه، فأنا أظن أنه لا يوجد مسكين يفهمه، ذلك بأنني أظن أنني مسكين ولم أفهمه، إلا أن مسكنتي مسكنة أخلاق لا مسكنة إملاق، ولا أدري أية مسكنة ينتحل منشئ كتاب المساكين الذي لا يفهمه من ليس بمسكين. قرأت صفحات منه ففهمت بعض جمله، وأعجبت ببعض حكمه، واستعذبت بعض استعاراته التمثيلية والتخييلية. ولكني اقر بأنني لا أفهمه كله فهما إجماليا يمكنني تلخيصه به، ولا أفهم فصلا منه فهما تفصيليا يمكنني من تفسيره لمن لم يفهمه ولا تفسير كل جملة من جمله، فالكتاب في جملته من قلم الغيب، هبط على عالم الشهادة، وفي الاطلاع على عالم الغيب من اللذة الروحية والأنس ما ليس في الاطلاع على عالم الشهادة، وإن حارت فيه الإفهام، وكان حلما من الأحلام)

ص: 27

قلت: إن الأئمة قالوا:

(أبلغ الكلام ما حسن إيجازه، وقل مجازه، وكثر إعجازه)

(أحسن الكلام ما أعرب عن الضمير، واستغنى عن التفسير)

(لا يستحق الكلام اسم البلاغة حتى يكون معناه إلى قلبك أسرع من لفظه إلى سمعك)

(البلاغة أن تظهر المعنى صحيحاً، واللفظ فصيحاً)

ولا ريب في أقوال الأئمة هذه، وفضيلة العربية بيانها، وفضيلة العربي التبيين، وهذا اللسان إنما هو اللسان المبين. ولو اطلع (حجة الإسلام) على (وحي القلم) وهو مقالات (الرافعي) في (الرسالة) لراقه فيه كلام جليّ، وسرّه قولٌ منوِّر

ووحي القلم هو كما قال فيه الأستاذ النابغة الموهوب (الدكتور عبد الوهاب عزام) في (الرسالة): (إن شئت فقل جنات في صفحات، وعباب في كتاب، وإن شئت فقل: إنه العالم في سطور قد انتظم، ووحيٌ إلهي سماه الرافعي وحي القلم)

أجاب الأستاذ أزهري المنصورة الأستاذ الرافعي رحمه الله في (البلاغ في 2 من ذي القعدة 1352) فمما قال:

(1 - انتقد الشيخ إبراهيم اليازجي استعمال المصدر لحظي في مقالة (لغة الجرائد) فقال: (ويقولون طلب الحظوى بهذه النعمة وسرتني الحظوى بلقاء فلان، والصواب الحظوة بالهاء) وهو في نقده هذا مصيب، وقال ما قاله في شأن حظي بالشيء في غيرها من مجلته (الضياء)

2 -

ما حقيقة (ظفر بالشيء وحظي بالشيء) وهل اللفظتان عربيتان، وقد نجمتا في (الجزيرة) وكانتا من المجاز، فكانت الأولى من إنشاب الضاري أظفاره في فريسته أو الصائد في طريدته، وكانت الثانية من حُظوته بحظوة أو حِظاء أو حظوات للصيد أو غيره؟

فإن كانتا عربيتين وكان أصلهما ذلك الأصل فظفر بالشيء وحظي به سواء، والحظ إن كان عربياً فمن (الحظوة) لا من غيرها

3 -

الحضرة، المجلس، (المشهد) المقام (المقامة) بمعنى واحد فتقول: رأت حضرة أعضاء المجمع اللغوي، أو قال مجلس أعضاء المجمع (أو قالت مقامتهم) ولا تقول: قالت حضرات

ص: 28

أعضاء المجمع أو قالت مجالسهم (أو مقاماتهم) لأنهم كلهم أجمعين حضرة واحدة، مجلس واحد. وهذا واضح)

قلت: هذه الكلمة هي آخر ما قيل في البحث عن (حظي بكذا) ولم يظهر في (البلاغ) شيء بعدها في هذا المعنى

هذه أقوال الشيخ إبراهيم اليازجي في مجلته (الضياء) في نقد الفعل (حظي بالشيء)

في السنة (6) في الصفحة (216) في جواب سؤال:

(وأما قوله (يحظى على الانسجام) يريد يظفر به ويحصل عليه فهو من كلام العامة لأن الحظوة في اللغة بمعنى المنزلة والمكانة والقرب المعنوي كما فسرها في تاج العروس تقول: حظي فلان عند الأمير وحظيت المرأة عند زوجها، على أن العامة يقولون حظي بالشيء ولا يقولون حظي عليه فهو غلط في اللغة العامية أيضاً)

في السنة (7) في الصفحة (375) في مقالة عنوانها (لغة الجرائد): (ويقولون حظوت برؤيا فلان أي فزت برؤيته فيضعون الرؤيا مكان الرؤية، والأشهر فيها أنها مصدر رأي الحلمية وأما رأي البَصَرية فيقال في مصدرها الرؤية كما أن رأي العقلية في مصدرها الرأي، وقولهم (حظوت) فيه غلط في اللفظ والمعنى؛ أما في اللفظ فلأن هذا الفعل من باب علم لا من باب نصر فيقال فيه حظيت بالياء مع كسر الظاء، وأما في المعنى فلان الحظوة - وهم يقولون الحظوى - معناها المكانة والمنزلة يقال حظي فلان عند الأمير وحظيت المرأة عند زوجها، ولا يقال حظي بالشيء بمعنى ظفر به إنما هذا من استعمال العامة)

في السنة (8) الصفحة (545) في مقالة عنوانها (أغلاط المولدين):

قال محمد بن بشير الرياشي:

أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته

ومدمن القرع للأبواب أن يلجا

أراد أن يظفر بحاجته فعبر بيحظى ولا يكون يحظى بهذا المعنى كما نبهنا عليه في لغة الجرائد. قال في لسان العرب: الحظوة والحظة والمكانة والمنزلة للرجل من ذي سلطان ونحوه، وقد حظي عنده، ورجل حظي إذا كان ذا حظوة ومنزلة. ا. هـ. ومثله في سائر اللغة، ولم ينقل أحد حظيت بكذا بالمعنى المتقدم، ولا ورد في كلام قديم، لكن غاية ما هناك أنه يمكن أن يقال حظي فلان عند الأمير بصدق خدمته مثلا أي كان صدق خدمته سبباً

ص: 29

لحظوته عند الأمير ومن هذا قول أبي نُوَاس:

ومالكَ غير ما قدّمت زاد

إذا جعلت إلى اللهوات ترقى

وما أحد بزاد منك أحظى

ولا أحد بذنب منك أشقى

قوله فما أحد بزاد منك أحظى أي لا يكون أحد أحظى بواسطة هذا الزاد منك كما لا يكون أشقى بذنبك منك، وعبر بلفظ التفضيل وهو غير مراد، والمعنى لا يسعد أحد بالزاد الذي تقدمه سواك كما أنه كما أنه لا يشقى أحد بالذنب الذي تقترفه سواك. ومثل قول محمد بن بشير قول الصفيّ الحلّي:

من لي بقربك والمزار عزيز

طوبى لمن يحظى به ويفوز

وقول ابن التعاويذي:

لم أحظ منها بسوى نظرة

خالستها من جانب الخدر وهو استعمال عامي)

قلت: بيت أبي نواس روايته الصحيحة هي:

وما أحد بزادك منك أحظى

وما أحد بذنبك منك أشقى

وهي رواية (الديوان) ورواية المبَّرد في (الكامل) ومن قبيلة بيت الفرزدق وهو في (النقائض) وفي (ديوانه):

فأدركها وازداد مجداً ورفعة

وخيراً، وأحظى الناس بالخير فاعله

وبيت الحَكميّ (أبي نؤاس) لا يفتقر إلى مفسر أو ترجمان ولا إلى هذا الذي خطة الكاتب (اليازجي)، ومن عجائب الزمان أن مخطئ العربي الأول يستعمل في أثناء تخطئته قول المتأخر فيقول (بواسطة هذا الزاد) والواسطة في العربية معروفة

هذه طائفة من الأقوال العربية والإسلامية والمولدة قد جاء فيها حظي بالشيء بمعنى ظفر به، ولم أورد معها ما ذكره الأستاذ أزهري المنصورة. والقائلون من المولدين كلهم أئمة:

في (سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لابن هشام في قصيدة لحذيف بن غانم:

وخيرهم أصلا وفرعاً ومعدناً

وأحظاهم بالمكرمات وبالذكر

في (كتب الحماسة) للبحتري في مقطوعة لعمر بن مالك:

موارده فيها الردى وحياضه

وإن أترِعت لم يحظ بالري شاربه

وفي (أمالي القالي) من قصيدة للشنّي

ص: 30

ولست بقائل قولا لأحظى

بقول لا يصدقه فعالي

ومن الشواهد النحوية:

ماذا ولا عتب في المقدور رمت أما

يُحظيك بالنجح أم شر وتضليل

وفي (الأغاني) لبشار:

بكيت على من كنت أحظى بقربه

وحق الذي حاذرت بالأمس إذ ساروا

وفي (ديوان أبي تمام)

منظمة بالموت يحظى بحليها

مقلدها في الناس دون المقلَّد

وفي (الأغاني) في سيرة بشار: فلم يحظ منه (أي من المهدي) بشيء فهجاه

وفي (الأغاني) في الجزء الثامن: حظي بها من غير نصب ولا كدح

وفي (طبقات الشعراء) للجمحي: فلم يحظ ولم يحل منه بشيء

وفي (الموشح) للمرزباني: فوالله ما حظي البحتري من المعتز في هذه القصيدة بطائل

وفي (رسائل الهمذاني) في مناظرة الخوارزمي: أو قلت لك أكتب كتابا يخلو من الحروف العواطل، هل كنت تحظى منه بطائل، أو تبل لهاتك بناطل

وفي رسالة (الغفران): لقد شقيت في الدار العاجلة بجمع الأدب ولم أحظ منه بطائل

وفي (سقط الزند) لأبي العلاء:

وزند عاطل يحظى بمدح

ويحرمه الذي فيه السوار

وفي (المقامات الحريرية) في الثلاثين: صلى الله عليه صلاة تُحظيه بالزلفة

وفي (الاقتضاب في شرح أدب الكتاب) للبطليوسي في شرح المقدمة عند ذكر كاتب التدبير: ويحظى بمنزلته لديه

وفي (مفتاح العلوم) للسكاكي، في خاتمته: وإذا جئتهم من علم الأصول وجدت علماءهم مقلدة ما حظوا إلا بشم روائح

الإسكندرية

(* * *)

ص: 31

‌للأدب والتاريخ

مصطفى صادق الرافعي

1880 -

1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 35 -

مقالاته للرسالة (6)

كانت خير أوقات الكتابة عند الرافعي في المساء حين يعتدل الجو، وتسكن الحركة، وتخف المعدة؛ إذ كان عمله في المحكمة يملأ بياض نهاره. فلما كان رمضان سنة 1353 (1934 الميلادية) سألني:(كيف نصنع يا شيخ سعيد في هذا الشهر وأيّ أوقاته نجعلها للكتابة؟) قلت: (فأنظر فيما تراه خيراً لك ولست أرى ما يمنع أن تستمر على عادتك فتجعل مجلسك للكتابة بعد العشاء) قال: (لا سبيل إلى ذلك والمعدة مثقلة بعد خلاء، ولكني سأحاول أن أكتب في العصر، فأنه حيثما ما امتلأت المعدة ثقل الرأس، فلعل فراغها في النهار أن يشحذ الذهن ويصقل الفكر).

وحاول أن يكون ذلك فلم يقدر عليه، ومضى يوم ويوم ويوم وانتهى الأسبوع الأول من رمضان ولم يكتب شيئاً للرسالة، واستحيا أن يعتذر، فلم طائفة من (فتات المكتب) وجعلها الجزء الثاني من (كلمة وكليمة) وبعث بها

في هذه الكلمات المنشورة بالعدد 76 كلمات عن السياسة تفسرها الحالة السياسية في مصر في أوائل عهد وزارة المغفور له نسيم باشا، وفيها حديث عن الزكاة والصوم، وفيها كلمات عن الزواج والمرأة، وفيها رسائل إلى (فلانة)!

ثم كانت مقالة الأسبوع التالي هي قصة (سمو الحب)

أشياء ثلاثة أملت عليه موضوع هذه القصة: رمضان، وكتاب الأغاني لأبي الفرج، وما يسمع من أحاديث الشبان عن الحب.

أما رمضان فسما بروحه وأمده بما في القصة من المعاني الدينية التي حكاها على لسان مفتي مكة وإمامها (عطاء بن أبي رباح) والرجل الزاهد (عبد الرحمن القس بن عبد الله بن

ص: 32

أبي عمار)

وأما كتاب الأغاني فأعطاه صلب القصة وأساس البناء في سطور يرويها من خبر (سلاّمة المغنية) جارية يزيد بن عبد الملك، وقد وقع الرافعي على هذا الخبر اتفاقاً في إحدى مطالعاته في كتاب الأغاني

وأما أحاديث الشبان فحفزته إلى إنشاء هذا الفصل ليضربه مثلا لسمو الحب يصحح رأي الناس في الحب ويكون منه لشباب الجيل درس وموعظة

في هذا الفصل يجد كل سائل جوابه إن كان يعنيه أن يعرف كيف يجتمع الدين والمروءة والحب في قلب رجل كالرافعي يعرفه الناس فيما يكتب شيخاً من شيوخ الدين فيه تحرج وخشية، ويعرفه من يعرفه من أصحاب مجنونَ لَيْلَياتٍ وقيسَ لُبنَيات!

. . . ولكي ينتفع الرافعي بوقته في رمضان كان يتخفف من طعام الفطور، ثم يجلس مجلسه بعد العشاء للإملاء؛ فإذا فرغ من الكتابة أو الإملاء تناول السَحور، فيعوِّض فيه بعض ما فاته من فطوره ثم ينام!

على أنه لم يجد راحته في هذا النظام أيضاً؛ فلما كان الأسبوع الثالث لم يجد في نفسه خفة إلى العمل، فعاد إلى أوراقه القديمة يبحث بينها عن شيء يصلح للنشر ليستريح أسبوعاً من العمل، فوقع على ورقات من مجلة المقتطف في سنة 1905 كان قد نشر بها قصته الأولى:(الدرس الأول في علبة الكبريت)، فعاد إلى قراءتها، فلما فرغ من القراءة التفت إلي قائلا:(هذه قصة ينقصها السطر الأخير) قلت: (وماذا يكون هذا السطر؟). قال: (اسمع: هذا غلام سرق علبة كبريت منذ ثلاثين سنة فحوكم بها وحكم عليه. . .) قلت: (نعم!). قال: (فما تظن هذا الغلام الآن بعد هذه الثلاثين؟) قلت: أراه الآن رجلَا يفلح الأرض أو يعمل بالفأس في حجارة أبي زعبل!)

قال: (هذه الأخيرة أمثل به؛ لقد تلقى الدرس الأول في علبة كبريت فقاده إلى الحبس، فهل تراه بعد هذه الثلاثين إلا قد أتم دروسه ووقف على عتبة المشنقة. . .؟ أكتب. . . أكتب)

وأملى على مقالة (السطر الأخير من القصة)

لم يغير الرافعي هذه المقالة عن أصلها فيما عدا الخاتمة وعبارات قليلة؛ وزاد عليها شيئاً من المحاورة بين الغلام وقاضيه؛ وما كان حرصه على بقائها كذلك إعجاباً بها، ولكن كأنما

ص: 33

ردته هذه المقالة إلى شيء من ماضيه تروَّح فيه من روح الصَّبي والشباب؛ فمن ذلك كان إبقاؤه عليها ليبقى فيها روح الصَّبي والشباب!

وفي الأسبوع التالي - وهو الأسبوع الأخير من رمضان - أملي على قصة (الله أكبر)

وهي بسبيل مما سمع من أحاديث الشبان عن الحب، وهي رُقية ثانية من رُقى الحب الداعر: كانت الرُقية الأولى هي كلمة (برهان ربه) في قصة سموّ الحب، وكانت الرقية هنا هي كلمة (الله أكبر)

وأول الأمر في هذه المقالة أنني كنت جالساً إلى الرافعي في القهوة نتحدث في شأن ما، وساقنا الحديث مساقه إلى بعض شئون العيد، ولم يكن بيننا وبين عيد الفطر إلا أيام، وقال الرافعي:(. . . وأنا لو ارتدّ إليّ السمع لن يطربني شيء من النشيد ما كان يطربني في صدر أيامي نشيد الناس في المساجد صبيحة يوم العيد: الله أكبر الله أكبر! يعج بها المسجد ويضج الناس. . . ليت شعري هل يسمع الناس هذا التكبير إلا كما يسمعون الكلام! الله أكبر! أما إنه لو عقل معناها كل من قالها أو سمع بها لاستقامت الحياة على وجهها ولم يضل أحد!)

ومضى يتحدث عن روح المسجد وفلسفة التكبير عند الأذان وفي كل صلاة، فما فرغ من الحديث حتى طرقنا زائر من روَّاد القهوة فحيا وجلس. . . وتنقل الحديث بيننا من فن إلى فن إلى فنون. . .

وتهيأ موضوع القصة في فكر الرافعي، فلما دعاني ليمليها عليّ لم يجد في نفسه إقبالاً على العمل، فوقف في الإملاء عند منتصف المقالة ونسأ البقية إلى غد، ثم كان تمامها

وفي صبيحة يوم العيد ذهب على عادته إلى المقبرة لزيارة أبويه وقد كان في الرافعي حرص شديد على ذكرى أبويه؛ فهما معه في كل حديث يتحدث به عن نفسه، وزيارة قبرهما فرض عليه كلما تهيأت له الفرصة؛ وما إيثاره الإقامة في طنطا على ضيقها به وجهلها مقداره إلا ليكون قريباً من قبر أبيه وأنه. وقد نقلته وزارة الحقانية مرة نقلة قريبة، فتمرد على أمر الوزارة وأبى الانتقال وانقطع عن العمل في وظيفته قرابة شهرين حتى ألغت الوزارة هذا النقل، وكانت كل حجته عند وزارة الحقانية في إيثار طنطا: أن فيها قبر أبيه وأمه!. . . وقد مات ودفن إلى جانب أبيه وأمه، فلعله الآن سعيد بقربهما في جوار الله

ص: 34

ولعلهما به

. . . ولما عاد من زيارة المقبرة أملى عليّ مقالة (وحي القبور!)

ثم عاد إلى موضوع الزواج يتناوله من بعض أطرافه، فأنشأ قصة (بنته الصغيرة) وهي الثالثة مما نحل أئمة الصدر الأول من القصص؛ تحدث في (قصة زواج) عن سعيد بن المسيب، وتحدث في (سمو الحب) عن عطاء بن أبي رباح، وتحدث هنا عن مالك بن دينار والحسن البصري

في هذه القصة يتناول الرافعي موضوع الزواج على النحو الذي تناوله به في قصة (رؤيا في السماء) على أنه باب إلى السمو بالإنسانية، وفيها إلى ما فيها من الدعوة إلى الزواج وبر البنات شيء من الأدب الديني يضمها إلى سابقاتها

ثم نشر بعد هذه القصة الجزء الثالث من (كلمة وكليمة) - العدد 84 سنة 1935 - وفيها كلمات عن السياسة وحديث عن المرأة، ونظرات في أخلاق بعض الناس أوحى إليه بمعانيه قضية كانت له في المحكمة شغله أمرها وقتاً ما. وقصة ذلك أن الرافعي كان اشترى قطعة أرض للبناء في شمال المدينة ونقد البائع ثمنها وجعل لها حدوداً مرسومة؛ ثم أعجزه أن يبنيها فضلت خلاء بضع سنين، وكانت هي كل ما حصل الرافعي من الاشتغال بالأدب أكثر من ثلث قرن؛ ثم طمع البائع أخيراً فيما باع؛ فتحيّف القطعة من أطرافها، واصطنع بينه وبين الرافعي مشكلة قانونية تعجزه عن بلوغ حقه إلا بعد مطاولة تدفع إلى اليأس، وشكاه الرافعي وتأهب لمناضلته، فاستعان عليه خصمه بواحد من ذوي صهره يعمل مفتشاً في وزارة الحقانية، فانْتدَب للتفتيش عن أعمال الرافعي الرسمية في محكمة طنطا مهدداً متوعداً، لعله يحمله بذلك على النزول عن بعض حقه!

طالت القضية بين الرافعي وخصمه، وتعددت جلسات المحكمة وطالت كذلك دور التفتيش وكثرة تحدي المفتش للرافعي، حتى لزمه ثلاثة أشهر يفتش عن أعماله. فحص فيها عن بضع مئات من القضايا التي قدر الرافعي رسومها، لعله يعثر لهو فيها على غلطة تحمله على الخضوع له؛ وغلطة في تقدير الرسوم لقضية من القضايا معناها غرامة مالية. . . ومن أين للرافعي؟

وكنت متعودا أن أغدو على الرافعي في المحكمة في أوقات الفراغ؛ فلما علمت أن مفتشا

ص: 35

عنده أقصرت؛ فلما علم مني سبب امتناعي عن زيارته قال: (لا عليك وخلِّ عنك هذا الوهم فلا تغير شيئا من عادتك!)

وزرته بعد ذلك مرات والمفتش عنده، وكان يدنيني إليه في مجلسه، ويجعل كرسيَّ إلى جانب كرسيه خلف المكتب، ويتأبىَّ على المفتش أن يذهب إليه حيث يكون، ليحمله على الحضور بنفسه ليسأله عما يريد من غير أن يغادر مجلسه؛ وفي أحيان كثيرة كان يحضر إليه المفتش وأنا في مجلسه ليسأله عن أمر من الأمر، فيدعه الرافعي واقفاً ويتحدث إليه وهو جالس حديثا كله سخرية وتهكم، ثم لا ينظر إليه إلا ريثما يجيبه عما سأل، ثم يغضي عنه ويدعه واقفا، ليعود إلى ما كان فيه من الحديث معي أو المطالعة في صحيفة أو كتاب!

وعلى أن المفتش لم يظفر بشيء مما أراد بالرافعي، فإنه استطاع أن يشغله بنفسه ثلاثة أشهر أو يزيد، على رغم ما كان يبدو على الرافعي من إهمال شأنه وعدم الاكتراث به!

. . . ثم انتهت قضية قطعة الأرض إلى الحكم للرافعي، وانتهت كذلك دورة التفتيش على غير طائل؛ ولكن هذه وتلك قد شغلتا الرافعي شطراً كبيرا من سنة 1935، وأوحت إليه بكلمات وكُليمات مما نشر لقراء الرسالة في هذه الفترة.

. . . ولم يفرغ بعد كل أولئك مما يتصل بموضوع الزواج وشئون الأسرة، فكانت القصة التالية (زوجة إمام) الإمام أبو محمد سليمان الأعمش، وزوجه، وتلميذه أبو معاوية الضرير.

قصة أراد بها أن يستوفي موضوع الزواج بالحديث إلى النساء عن واجب الزوجة؛ وبها تم ما أملاه عليّ في موضوع الزواج، وعِدتّه ثلاث عشرة مقالة في خمسة عشر عدداً، أولها مقالة (س. ا. ع) بالعدد 63 سنة 1934 وآخرها الجزء الثاني من (قصة إمام) بالعدد 86 سنة 1935

وددت لو أن الرافعي حين أعاد نشر هذه المقالات في وحي القلم، نشرها على الترتيب الذي كانت به والذي رويت ما أعرف من أسبابه الظاهرة؛ فان ذلك كان خليقاً أن يعين الباحث على دراستها مجتمعة متساوقة فصولها فصلا إلى فصل؛ ولكنه جمعها في وحي القلم على ترتيب رآه فجعل منها القصة، والمقالة، والحديث الديني؛ وجعل كلا من هذه الثلاثة في بابه؛ على أن ذلك لا يمنع الباحث الذي يتهيأ للرأي في هذه المقالات أن يقرأها على الترتيب الذي قدمت أسبابه وأسبابها معه.

ص: 36

(سيدي بشر)

محمد سعيد العريان

ص: 37

‌حول أدب الرافعي

بين القديم والجديد

للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

أستاذ الكيمياء بكلية الطب

- 7 -

لقد آن لنا أن نختم هذه الكلمات بعد أن بلغنا من تزييف مقالات (بين العقاد والرافعي) أكثر ما نريد. لقد كانت حملة جائرة قامت على الإفك والباطل تلك التي قام بها صاحب تلك المقالات على الرافعي رحمة الله عليه. وكان أمامنا لتبيين إفكها وباطلها طريقان: طريق يهملها ويجلو للناس حقيقة أدب الرافعي بدراسة ذلك الأدب ونقده؛ وطريق يدع أدب الرافعي حيث هو، يعرفه من يعرفه، ويجهله من يجهله، ويعمد إلى تلك المقالات فيضرب بعضها ببعض وينسفها بعوامل نسفها المستكنة فيها. وكان الطريق الأول يحتاج إلى زمن وجهد أكثر مما يتيسر لنا فاضطررنا إلى الطريق الثاني. ونظن أن لم يبق بحمد الله من تلك المقالات الآن إلا ما يدع اللغم من البناء المنسوف

غير أننا نحب مع ذلك ألا نختم الموضوع من غير أن نقول كلمة نبين بها ما نعتقد أنه الفارق الحقيقي بين المذهبين اللذين يمثلهما في الأدب كل من الرافعي والعقاد

لقد جرى الناس على رد التفاصيل في الأدب إلى أصلين: اللفظ والمعنى، وابدءوا في ذلك وأعادوا وأسرفوا في الاختلاف بينهم: أي هذين الأصلين يقدمون على الآخر في تقديم أديب على أديب. واختلافهم هذا الشيء عجيب، فان اللفظ والمعنى ركنان متلازمان لا ينبغي التقصير في أيهما للأديب المكتمل. فكأن مثل اختلافهم لك لا تدعو إليه الحاجة إلا عند المفاضلة بين أدباء مقصرين. وإذا كان لا بد من الإعراب في هذا الشأن عن رأي فالتعبير له المقام الأول في الأحوال التي تكون الفكرة المعبر عنها شائعة لا تكلف مجهوداً؛ والتفكير له المقام الأول إذا كان الموضوع يستلزم أعمار الفكر لاستخراج الصواب؛ وعندئذ يكفي من التعبير الصحيح ما يجلي ذلك الصواب، ويكون كل ما يعوق ذلك عيباً ولو كان زيادة تفنن في التعبير. فإن أمكن الجمع بين التفنن في التعبير والجلاء والدقة في

ص: 38

المعنى المعبر عنه كان الأديب أمكن في الأدب من غير شك وكان أولى بالتقديم

إن امتلاك ناصية اللغة أمر لا بد منه لكل أديب يريد أن يبلغ في الأدب مرتبة الخلود. وليس معنى هذا أن امتلاك ناصية اللغة وحده كاف للخلود، فليس في الأدب مكانة لخلود صاحب المعنى الخسيس في اللفظ الأنيق إلا إذا انحط الأدب. إنما الآداب الرفيعة آداب نبل قبل كل شيء: نبل في المعنى ونبل في التعبير على السواء. ونبل التعبير راجع إلى حد كبير لنبل المعنى عند تمام الأداء. لكن لن يستطيع البلوغ في الآداب حد التمام إلا من امتلك ناصية اللغة فلم يعجزه معنى مهما دق أو اتسع عن أن يجد له من التعبير ما يلبسه ويظهره ويستفرقه، فلا يقصر عنه ولا يزيد عليه. فشرط امتلاك ناصية اللغة شرط أساسي في كل أديب يطمع في ذلك المجد الباقي الذي نسميه الخلود خلود الذكر إذا صار الأديب حديثاً من الأحاديث. هو شرط أساسي لكنه وحده غير كاف، كالماء أو الهواء أو الطعام كل منها ضروري للحياة لا تقوم بدونه، لكنه وحده لا يكفي للحياة

وإذا تسائل متسائل أي الأدبين أدل على امتلاك لناصية اللغة واقتدار على التفنن والتصرف في التعبير بها؟ أدب الرافعي أم أدب العقاد؟ كان الجواب الذي يسرع إلى الإنسان في غير تكلف ولا تحيز: أدب الرافعي كان أملك لناصية اللغة من غير شك وأكثر افتناناً فيها وتصرفاً بها. ولا نظن العقاديين أنفسهم يمارون في هذا، فأكبر ما ادعاه للعقاد مفتونهم به هو أن الأسلوب الفخم والتعبير الجيد غير بعيدين عن شعر العقاد

لكن التفوق من ناحية اللغة لا يبلغ أن يكون فارقاً بين مذهب ومذهب، فأبناء المذهب الواحد في الأدب كثيراً ما يتفاوتون في المقدرة اللغوية تفاوتاً مذكوراً. لو كان العقاد ممن يثبطون عن اللغة أو يدعون إلى اتخاذ العامية لغة كتابة كما هي لغة حديث لكان ذلك فارقاً أساسياً بين الرجلين ينسبهما في اللغة إلى مذهبين مختلفين. لكن العقاد لا يفعل شيئاً من هذا. إنه يرجو أحياناً أن يجد الشعر العربي طريقاً إلى أن يتحلل بعض التحلل من القافية ليتسع مثلاً لشعر الملاحم، لكن هذا وحده، مهما خالفه الرافعي فيه إن كان خالفه، لا يكفي لأن يتعاديا فيه أو ينتسبا به إلى مدرستين أو مذهبين في الأدب مختلفين

بقيت ناحية المعنى. ولم نر أحداً ظلم في معانيه مثل ما ظلم الرافعي. فكلام بعض أنصاره مثل أخينا علي الطنطاوي لا يقدر ناحية المعنى حق قدرها فيظن خصوم الرافعي أن هذا

ص: 39

هو مذهب الرافعي، ويتخذونه فيما يتخذون دليلا على تقصير الرافعي من ناحية المعنى. أخونا الطنطاوي يرى المعاني قريبة المتناول يأخذها الإنسان مما يسمع أو يقرأ أو يشاهد، فلا فضل فيها لأحد على أحد، ويكون التعبير عنها هو مظهر التفاضل بين أديب وأديب. لكن هذا إذا صدق على الشائع المألوف من المعاني فليس يصدق على النادر الطريف. ومعاني الرافعي يكثر من بينها الطريف كثرة تدعو إلى العجب؛ كثرة لا نظن أحداً من المحدثين يفضله فيها أو يزحمه. فالرأي الذي ذهب إليه أخونا الطنطاوي من شأنه - عرضاً - أن يهضم الرافعي من هذه الناحية التي تعد من أكبر مفاخره.

وطرافة معاني الرافعي يرجع جزء كبير منها إلى خياله. ومن رأينا أن ناحية الخيال من النواحي التي تفوق فيها الرافعي وامتاز فتم بها تفوقه في التعبير والبيان. هذه الناحية في الرافعي أدعى إلى الإعجاب حتى من مقدرته اللغوية، فالمقدرة اللغوية لا تحتاج بعد الاطلاع والإحاطة إلا إلى حسن الاستعمال؛ لكن الخيال ملكة أخرى لعل قوتها ورقيها أدل الدلائل على الشاعرية. ونحن فيما قرأنا للقدماء أو المحدثين لم نرها بلغت من النمو والقوة والسمو ما بلغته في الرافعي. وليس معنى هذا طبعاً أن أدب الرافعي هو خير أدب وجد، لكن معناه أن ناحية الخيال أظهر في أدب الرافعي وأسمى منها في أدب أي أديب قرأنا له. وسواء أكان من قرأنا لهم في الأدب كثيرين أو قليلين، فليس لدينا شك في أن ناحية الخيال ناحية امتاز فيها الرافعي وتفوق على العقاد.

لكن ليست المعاني كلها تدور حول الخيال، وإن كان الرافعي لقوة حاسة الخيال فيه يكاد يجد للخيال موضعاً في كل معنى. إن روح المعنى بالطبع هو منزلته من الحق ومن الصواب، والحق والصواب لهما معايير ليس الخيال أحدها قد ضلها المتأدبون في هذا العصر حتى كاد الأمر يكون بينهم فوضى. فأما ما اتصل من المعاني بالعلم فمن السهل الرجوع فيه إلى أصل يحسم الخلاف أو يخفف من الخصومة فيه. لكن ما الحيلة فيما اتصل من المعاني بالفن، والفن قد كثرت مذاهبه وتضاربت حتى لم يبق لترجيح رأي على رأي ولا مذهب على مذهب إلا الميل والهوى الذي يسمونه الذوق؟ كيف يمكن تبين الحق والصواب في ميدان الفن الذي منه ميدان الأدب، فيما لم يتصل بعلم وفيما لم يتصل بلغة؟ إن الوصول إلى جواب صائب على هذا السؤال أمر حيوي لا غنى عنه البتة، لا لأنه

ص: 40

يعين النقد في الحكم بين أديب وأديب، أو بين مذهب، في الفن ومذهب حكما يبقى على الورق لا يدري من تأثر به، ولكن ليتبين الناس به سبيلهم في فوضى الفنون هذه فيأخذون من الفنون ويدعون طبق ما هو حق وطبق ما هو خير

إن الفن ومنه الأدب له من الأثر في حياة الفرد وفي حياة الجماعات أكثر مما للعلم، لأنه متصل بدخيلة هذه الحياة في حين يتصل العلم عند أكثر الناس بظاهرها؛ وإذا اتصل عند أقلهم بباطن حياتهم النفسية فقد صار باباً من عند ذلك القليل. إن الفن يعمل في نفس الفرد ويكيف حياته الباطنة أن لم يكن كل التكييف فبعض التكييف، لكنه على أي حال تكييف بعيد الأثر في حاضر الإنسان ومستقبله. ولسنا نغالي إذا قلنا إن مستقبل الإنسان فرداً أو جماعة يتوقف الآن على نوع هذا الأثر الذي يحدثه الفن في النفوس

ومن عجيب الأمر أن الناس يكتبون ويتكلمون عن الفن كأنه دائماً يوجه إلى الخير وكأنه دائماً على صواب. إنه ينبغي أن يكون دائماً كذلك من غير شك، لكن هل هو دائماً كذلك؟ بل هل هو دائماً كذلك؟ إنك لا تستطيع أن تجيب جواباً نافعاً حتى يكون لديك معيار صدق تعرف به الخير من الشر في الفنون كما تستطيع أن تعرف الحق من الباطل في العلوم. ولن تجده في هذه الفوضى السائدة بين مذاهب الفلسفة والأخلاق والفنون وإنما تجده من غير شك في الدين

لكن أصحابنا المجددين أنصار ما يسمونه الأدب الحديث يفرقون من ذكر الدين كأنما تلسعهم من اسمه النار. كذلك فزع أحدهم بالعراق، وكذلك يفزع هذا الآخر في مصر وإن زعم أنه أفهم منا في للدين. ليته كان كذلك حقاً فنغتبط له، فان ذلك مما لا ينقصنا من ديننا شيئاً ولكن يزيده في دينه. لكن المسألة في الدين ليست مثلها في الأدب الذي يكتبون كلاماً لا يرجع فيه أصل ثابت ولا معيار. إن كل ما يتصل بالدين ممكن الرجوع فيه إلى الأصل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: القرآن. وما غمض علينا من القرآن يمكن تبين معناه المقصود من السنة سنة الرسول صلوات الله عليه. ونحن معشر المسلمين مأمورون بأن نرد كل ما نختلف فيه إلى الله والرسول إن كنا نؤمن بالله واليوم الآخر: (يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم، فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا) فلعل صاحبنا إن

ص: 41

كان أفهم منا للدين لا يعيب كلامنا هذا بأنه من كلام خطباء المساجد ويقبل على تفهم وجه الحجة فيما نلقي عليه فإنما الحق والإصلاح نريد

إن المسلم الذي يفقه دينه ويفقه الحياة أينما نظر لا يجد مفراً من أن يصل هذه الحياة أدبها وفنها وعلمها بالدين كما أنزله الله على رسوله محمد بن عبد الله، أي كما يتبين من القرآن ومن عمل الرسول. إن الإسلام دين يشمل الحياة بحذافيرها ويحيط بها من جميع أطرافها. ومن أخص خصائصه أن يكون الإنسان في خلجات نفسه مع الله، وأن يخلص نوايا قلبه لله، وهذا هو معنى إسلام الوجه لله، ومنه اكتسب الدين اسمه الكريم: الإسلام. والمظهر العملي للإسلام هو طبعاً إتباع ما شرع الله للإنسان في الحياة من نظم وأحكام، لكنه لن يستطيع أن يحقق هذا حتى يكون سره ونجواه ونيته لله. وعن هذا الطريق طريق إسلام الوجه والنفس والقلب لله يكون تمام اتصال الإنسان بربه خالق الكون وفاطر الفطرة الذي إليه المرجع ومنه الهدى وبه الحياة. . .

فإذا كان ذلك كذلك، وإنه لكذلك، فكيف يجوز في غريزة أو عقل أو علم أن يجمع الإنسان بين الحياة الإسلامية والحياة الفنية أو الأدبية أو العلمية إن لم يكن بين الفن والأدب والعلم وبين الإسلام تمام التطابق والاتفاق؟ والاتفاق التام بين العلم والإسلام ثابت لا شك فيه، فليس في الثابت من العلم شيء ينقض شيئاً من الإسلام، وليس في الإسلام أصل ينقض حقيقة ثابتة في العلم. وكل ما يثبته العلم في المستقبل يقبله الإسلام مقدماً بنص القرآن، ويؤول إليه النص إن خالفه في الظاهر. وهذا دليل جديد لا ينقض على أن الإسلام هو حقَّا من عند الله فاطر الفطرة، وأنه حقا دين الفطرة كما وصفه الله في القرآن. أفلا ينبغي أن يثبِّت هذا في الدين هؤلاء المتزلزلين من أهل (التجديد) الذين يريدون أن يَلُفُّوا الدين ويضعوه على الرف ويقطعوا باسم التقديس ما بينه وبين الحياة في مظاهرها خارج المساجد في الأدب والفنون والاجتماع؟

إن الفطرة كلها منشئها واحد هو الله سبحانه وتعالى، والعلم والدين كلاهما قد اجتمعا على استحالة التناقض في الفطرة. فإذا كانت هذه الفنون من روح الفطرة كما يزعم أهلها وجب ألا تخالف أو تناقض دين الفطرة دين الإسلام في شيء. فإذا خالفته في أصوله ودعت صراحة أو ضمناً إلى رذيلة من أمهات الرذائل التي جاء الدين لمحاربتها، وعاقت الإنسان

ص: 42

أن يعمل بالفضائل التي جاء الدين لإيجابها على الإنسان حتى يبلغ ما قدر له من الرقي في النفس والروح - إذا خالفت الفنون الدين في شيء من هذا أو في شيء غير هذا فهي بالصورة التي تخالف بها الدين فنون باطلة، فنون جانبت الحق ودابرت الخير وأخطأت الفطرة التي فطر الله عليها الناس والخلق، والتي تريد الفنون أن تكون منها في الصميم، فإذا كان من شأن بعض ما يعمل أو يكتب باسم الفن أو الأدب أن يتجاوز في تأثيره ما سبق على عظمه، فيحول بين الإنسان وبين ربه، ويدخل عليه الشك في دينه بأي صورة من الصور ولأي حد من الحدود، كان ذلك البعض المعمول أو المكتوب باسم الفن أو باسم الأدب زوراً وإفكاً في الفن والأدب والفطرة والدين على سواء

فنحن حين ندعو إلى وجوب نزول الفن والأدب على حكم الدين وروحه، وتحريهما التطابق التام بينهما وبينه، لسنا نبعث ولا نتجنى ولا نتحكم في الأدب والفن بما لا ينبغي التحكم به فيهما

إننا نوجد معياراً للحق والصواب والخير في الفن والأدب حين لا معيار لذلك كله فيهما؛ ونيسر للفن والأدب طريق التثبت من انطباقهما على الفطرة التي فطر الله عليها الناس، ونحقق لهما بذلك اتحادهما مع الفطرة في الصميم. ونحن بذلك الذي ندعو إليه ونقول بوجوبه نحقق بين الفن والأدب وبين الدين تلك الوحدة المتحققة بين الدين والعلم، فتتحقق وحدة حياة الإنسان كلها بذلك وتبرأ حياته من ذلك الداء المستعصي والشر البالغ شر وجود التناقض والتنافر بين ما يعشق من فن ويعتقد من دين. ثم نحن بعد هذا ووراء هذا نترك الفن والأدب بما قلنا ودعونا إليه من وجوب سيرهما مع الدين يداً بيد، وجنباً لجنب، وروحاً مع روح، على الطريق التي يحققان منها رسالتهما في الناس، رسالة الصدق والحق والخير والفضيلة والعزة والسعادة والهدى والنور، لا رسالة الكذب والباطل والشهوة والإثم والمجون والفجور

فالمسألة في الأدب - إذ لا بد من الرجوع إلا ما كنا فيه - ليست مسألة لفظ ومعنى فقط ولكنها في صميمها مسألة روح. فريق يريد أن يجعل روح الأدب روحاً شهوانياً بحتاً يتمتع صاحبه بما حرم الله وما أحل، لا يفرق بين معروف ومنكر، ثم يصف ما لقي في ذلك من لذة أو ألم أو غيرهما من ألوان الشعور ويخرج ذلك للناس على أنه هو الأدب! وفريق يريد

ص: 43

أن يحيا الحياة الفاضلة في حدودها الواسعة التي حدها الله، وبمظاهرها المختلفة في الفطرة كما طهرها الله، لا كما دنسها أو يريد أن يدنسها الإنسان، ويصف ما يتمتع به من تلك وما يلقي أو يتجشم في سبيل ذلك غير ناس لحظة أن الوجود كله من الله وأن الدين كله لله، وما يصف ويحلل يخرجه للناس على أنه هو الأدب. فأي الأدبين يا ترى أرحب وأسمى وأطهر، وأيهما أولى بالحياة وأصلح للبقاء؟ إنه لا شك عندي فيما تجيب به بفطرتك على هذا السؤال

إن أدب الفريق الأول هو ما يسمونه بالأدب الجديد ويمثله العقاد، وأدب الفريق الثاني هو ما يسمونه بالأدب القديم ويمثله الرافعي، وقد عرفت الآن فيم يتفقان وفيم يفترقان. الرافعي كما قلنا يتفوق على العقاد في التعبير وفي الخيال؛ وكلاهما يحتفل بالمعنى أكبر احتفال؛ غير أن الرافعي عنده نور يهتدي به ليس عند العقاد فكان لذلك أقل من العقاد عاباً وأكثر صواباً. لكن ذلك كله لا يكفي لأن يفرق بين أدبيهما تفريقاً يجعل منهما ممثلي مذهبين مختلفين في الأدب. إنما الخلاف الأساسي بينهما خلاف في الروح؛ هما من حيث الروح مختلفان كل الاختلاف، وعندك للحكم بين الروحين معيار صدق لا يخطئ هو معيار الدين. وإذا أردت معياراً جزئياً يغنيك عند التقريب فمعيار الخلق الفاضل. وإذا قست الأدبين بأحد هذين المعيارين لم يبق عندك شك في أيهما أولى بالإكبار وأصلح للبقاء لأنه أعون للإنسان على الارتقاء: الأدب الأخلاقي أم الأدب غير الأخلاقي، على ألطف وأخف تعبير

والمقياس الذي نبهنا إليه في الفن والأدب ليس من البعد عن الفن والأدب كما يصور العقاديون، بل هو من روح الفن والأدب في الصميم. أليس روح الفن والأدب والجمال، أليس الجمال النفسي روح الجمال الإنساني؟ ثم أليس روح الجمال النفسي إخباته وإخلاده وإسلامه لله؟ من هذا الإخبات والإخلاد والانقياد لله تأني الفضيلة والسلامة والسعادة في الحياة، ومن محبة الله سبحانه يشيع في النفس الهدى ويشع منها النور. فقل لي بربك كيف يمكن أن يكون لأدبهم المكشوف نصيب من روح الجمال الإنساني يستهوي النفس التي فيها بقية من الفضيلة والخير؟ إنا لا نشك في أن ذلك الأدب المكشوف مثل سارة وما إليها يصدم أول ما يصدم مقر الفضيلة من النفس ويؤذي أول ما يؤذي حاسة الجمال النفسي في الإنسان. فهو في صميمه أدب غير جميل، يلذه ويستمع به من مسخت نفسه فصارت تعاف

ص: 44

الطيب وتستمرئ الخبيث. أما غير هذه النفوس مما لا يزال هلا من الخير والفضيلة والدين نصيب فأنها تجد صعوبة في أن تمضي في قراءة مثل ذلك الكتاب إلى تمامه إلا أن تعطل من ذوقها أو تنيم من ضميرها أو تحتال عليه بالإقرار له أن الكتاب من الناحية الخلقية معيب قبيح لكنها تقرأه لتحيط بأدب العصر أو لتدرس من الكتاب أسلوبه أو ما شابه ذلك من معاذير. ويكون جزاؤها على ذلك أن تخرج من القراءة وقلبها أكثر مرضاً، وذوقها الأدبي أقل تمييزاً، وحسها الخلقي أكثر انثلاماً. ولا تلبث إذا تكرر ذلك منها أن تفقد أكبر مميزاتها ومزاياها فتهبط من معارج الرقي النفساني إلى مدارج الانحطاط؛ ويكون الأدب المكشوف بذلك قد فعل فعله وأدى رسالته من مسخ الطباع وإفساد النفوس والصد عن سبيل الله

محمد أحمد الغمراوي

ص: 45

‌التاريخ في سير أبطاله

ابراهام لنكولن

هدية الأحراج إلى عالم المدنية

للأستاذ محمود الخفيف

يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من

سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .

- 20 -

وجاء يوم الرحيل وآن لفتى الأحراج أن يؤدي رسالته. . . آن لابن النجار أن يأخذ بيديه أزمة الحكم في قومه؛ وتأهب ليواجه العاصفة، وإنه ليراها اليوم عاصفة دونها تلك العواصف التي طالما هبت في الغابة هوجاء عاتية، فزعزعت باسقات الدوح وشعثت كثيفات الألفاف وأفزعت الرجال والدواب. . . إنه يراها اليوم عاصفة من عمل الإنسان لا من عمل الطبيعة، وما أهول ما يفعل بنو الإنسان حين ينسون إنسانيتهم فتستيقظ فيهم غرائزهم التي دبت فيهم أول ما دبوا على هذه الأرض. . .

عول على الرحيل (الرجل القادم من الغرب) كما اعتاد أن يسميه أهل العاصمة وغيرهم من أهل المدن الشرقية السابقة في المدنية. . . وتقدم الربان ليقود السفينة ودوى الأنواء في مسمعيه

ذهب مساء اليوم السالف ليوم رحيله إلى مقر عمله في المحاماة فجمع طائفة من الكتب والأوراق فلفها وربطها بيده وحملها معه ثم أوصى أن تظل الرقعة التي تحمل اسمه واسم زميله هرندن حيث هي على الباب قائلاً: إنه عائد - إن مد في أجله بعد انقضاء مدته في الرياسة - إلى عمله في المحاماة كأن لم يكن هناك شيء

وكان قد حزم متاعه وأعد كل شيء ليكون على أهبة إذا تنفس الصبح، وأعد فيما أعد خطاباً يذيعه في الناس ساعة الاحتفال بتسلمه مقاليد الأمور، ولقد احتفل لهذا الخطاب وكانت معانيه محتبسة في نفسه زمناً تهدر كالسيل وتجيش وتجتمع

ص: 46

وأسفر الصبح فركب وجماعة من أصدقائه مركبة أقلتهم إلى المحطة وقد تلاقى هناك نفر من أهل المدينة جاءوا يحيونه فما رآهم حتى وقف على سلم العربة وأطل عليهم وقد شحب لونه وتندت عيناه فقال: (أي أصدقائي؛ لن يستطيع أي رجل لم يكن في مثل موقفي هذا أن يدرك ما يخالجني من الحزن لدى هذا الرحيل. إني مدين بكل شيء لهذا البلد ولكرم أهله؛ ولقد لبثت فيه من عمري ربع قرن وتدرجت فيه من شباب إلى رجل مسن. . . هنا ولد أبنائي وهنا دفن واحد منهم؛ وهأنذا أرحل ولست أدري ما إذا كنت عائداً إليكم بعد اليوم. . . أرحل وأمامي عمل هو أعظم من ذلك الذي ألقى على كاهل وشنجطون، ولا نجاح لي ما لم أصب معونة الله الذي كان معه أبداً. . . ولئن ظفرت بهذه المعونة فلن أخيب. فلنأمل في حسن المنقلب مخلصين واثقين في الله الذي هو معي ومعكم والذي يكون منه الخير في كل مكان، وإني حين أكلكم إلى عنايته كما آمل أن تكلوني إليها في صلواتكم أقرئكم وداعاً حارَّا. . .)

وانطلق به القطار وقطرات المطر تنزل على رؤوسهم الحاسرة كأنها دموع منصبة من السماء، ولكم التقت ساعتئذ تلك القطرات بما فاض من المآقي. . . ورحل أبراهام ليعود بعد جهاد شديد ومراس فإذا هو شهيد تمزق الجراح جثته

وقضى في رحيله إلى العاصمة اثني عشر يوما. وعلم الناس بهذا الرحيل، فكانوا يلقونه في المدن التي يمر بها مرحبين، وقد تلاقت جموعهم على نحو لم تشهده البلاد من قبل، فما في الناس إلا من ملكه حب الاستطلاع؛ وكثير منهم كانت تدفعهم المحبة إلى هذا اللقاء

وكان قد عقد النية أن يظل صامتاً إلا ما يكون من تحية يرد بها على ما كان يلقاه من تحيات؛ ولكن إصرار الناس في كل مكان على أن يسمعوا حديثه جعله يتحلل مما اعتزم؛ ثم إنه - دون أن يعرف التظاهر أو الغرور - رأي أن هذه كانت آخر فرصة يتحدث فيها إلى عامة الناس، وهم الذين يعول عليهم ويطمع أن يتخذ منهم ظهيراً فيما هو مقدم عليه من كفاح

وكانت له في خطبه أثناء ذلك المسير خطة رشيدة؛ فقليلاً ما كان يبرم أمراً أو يقطع في المسائل القائمة برأي؛ وإنما كان يشرح الأمور حتى تستبين، ثم يتساءل عن أوجه الصواب تاركاً الناس يتدبرون حتى تأتيهم البينة، تتمثل ذلك في مثل قوله في أنديا نابولس: (أي

ص: 47

مواطني، لست بمبرم أمراً، إنما أنا ألقي عليكم أسئلة لتتدبروها. . .)

ولقد تكلم في هذه المدينة فأشار إلى ما كان يجري على الألسن يومئذ حول حق الاتحاد في رد الولايات الخارجة عليه بالقوة؛ ولقد عد أنصار الجنوب ذلك العمل عدواناً؛ فتساءل الرئيس هل يكون في الأمر عدوان إذا لجأت حكومة الاتحاد إلى المحافظة على ما تملك هناك من عقار، أو إذا حافظت على سبل مواصلاتها وحرصت على جباية المال المقرر على البضائع الواردة؟

واستقبل إبراهام في سنسناتي استقبالا لم تر هذه المدينة لأحد من قبل نظيراً له؛ وتزاحم الناس عليه يريدون رؤيته وباتت المدينة في مثل فرحة العيد، ففيها الأنوار الوضاءة والأناشيد الصداحة والجموع الغفيرة المستبشرة، وفيها ما هو أعلى من سمات العيد هذه ألا وهو الحب الصادق تفيض به القلوب

ومر بحدود كنتوكي وهي ولاية من ولايات العبيد تشتد فيها الدعوة إلى الانسحاب من الاتحاد فقال يوجه الكلام إلى أهلها مشيراً إلى ما اعتاد أن يخاطب به أهل الجنوب من قبل: (أي مواطني أهل كنتوكي، هل لي أن أدعوكم بمثل ما أدعو؟ إني في موقفي الجديد، لا أجد حادثاً ولا أحس ميلا يدعوني أن أغير كلمة من هذا، فإذا لم تنته الأمور إلى الخير فثقوا أن الخطأ ذلك لا يكون خطئي. . .)

وفي بتسبرج أفصح عن سروره أن كان استقباله هناك استقبالاً شعبياً لا أثر للحزبية فيه ثم قال: (إذا لم تجتمع كلمتنا الآن لننجي سفينة الاتحاد القديمة الطيبة في رحلتها هذه، فلن يكون ثمة من فرصة بعدها لقيادتها إلى رحلة غيرها)

وفي محطة من المحطات الصغيرة وقف لنكولن بعد أن قرت حماسة المستقبلين فقال إنه يذكر أن خطاباً جاءه من فتاة هذه بلدتها تسأله فيه أن يطلق لحيته، ولقد فعل كما أشارت فهو ذو لحية اليوم كما يراه الناس، ثم عبر عن رغبته في رؤية تلك الفتاة إن كانت حاضرة، فبرزت من الجموع تلك الفتاة ومشت على استحياء حتى وصلت إلى الرئيس، فقبلها قبلة على جبينها، والناس بذلك معجبون فرحون!

وفي ألبني عاصمة ولاية نيويورك العظيمة كانت حفاوة الناس به شديدة؛ وكذلك كأن شأنه في مدينة نيويورك التي سبق أن زارها لأول مرة من قبل ليخطب الناس فأصاب من

ص: 48

النجاح ما سلفت الإشارة إليه

ووقف في ترنتن على مقربة من ميادين القتال التي سالت فيها دماء الثورة غداة حرب الاستقلال، فأخذه جلال الموقف وهزته روعة الذكرى فجري لسانه بما اختلج في نفسه قال (إني لأرجو أن تسامحوني إذا ذكرت في هذه المناسبة أني في أيام طفولتي وفي مستهل عهدي بالقراءة قد تناولت كتاباً صغيراً يدعى حياة وشنجطون تأليف ويمز؛ وإني أتذكر كل ما جاء فيه عن ميادين القتال وعن مواقف النضال من أجل الحريات في هذه البلاد، ولكن ما من حادثة تركت في نفسي من أثر مثل ما تركه موقف النضال هنا في ترنتن نيوجرسي). . . وبعد أن أشار إلى بعض الحوادث قال. . . (وإني لأذكر الآن أني فكرت يومئذ ولما أزل غلاماً صغيراً أنه لا بد أن يكون أمراً غير عادي ذلك الذي كافح من أجله هؤلاء الناس؛ وإني لأحس رغبة ملحة قوية أن هذا الذي كافحوا من أجله وشيئاً آخر هو أعظم من الاستقلال القومي: شيئاً ينطوي على وعد يوعد به الناس جميعاً في هذا العالم في كل ما هو آت من العصور. . . أقول أني شديد التطلع أن أرى الوحدة والدستور وحريات الناس بحيث تصبح أبدية وهي مقرونة بتلك الفكرة الأصلية التي من أجلها قام الكفاح. ولسوف أكون جد سعيد إذا أصبحت الآلة المتواضعة في يد القوى العلي وأيدي هؤلاء الذين يكادون أن يكونوا شعبه المصطفى للعمل على أن يدوم ذلك الذي انبعث من أجله ذلكم النضال العظيم)

وكان الكتاب الذي يشير إليه لنكولن في هذه الذكرى هو بعينه ذلك الكتاب الذي أعاره إياه أحد معارفه والذي بللته قطرات المطر فأصابته ببعض العطب، وتركت الصبي الفقير في حال شديدة من الغم حتى لقد سار يحمله إلى صاحبه وهو شديد الحيرة، فلما جاءه عرض عليه أن يعمل عنده بما يساوي ثمنه. . . ذلك هو الكتاب الذي قرأ فيه النجار الغلام حياة وشنجطون العظيم، ولم يكن يدور بخلده أنه سيجلس يوماً حيث كان يجلس وشنجطون ويسدي إلى بني قومه وإلى الإنسانية جميعاً من صنيعه ما لو شهده ذلك البطل الكبير لطمع أن يكون ما تقدم يداه فوق ما قدمت

واستأنف الرئيس لنكولن ومن معه سيرهم إلى العاصمة حتى وصلوا فيلادليفيا؛ وهناك علم أن فريقاً من بني جنسه يأتمرون به ليقتلوه!. . . سمع إبراهام أن أمامه الخطر يوشك أن

ص: 49

يحدق به؛ وما كان إبراهام بدعاً من العظماء، فكم من أماثل خلوا من قبله لاقوا مثلما يلاقي اليوم من عنت، ودبر لهم مثلما يدبر له، فما وهنوا ولا اصرفوا عن وجهتهم حتى أدركوا الغاية أو أدركهم الموت. . .

وارتاب لنكولن أول الأمر، فما كان يظن أن أحداً تحدثه نفسه بإتيان هذا العمل، ولكن جاءه رسول من عند صديقه سيوارد ينبئه أن قائد الجيش حدثه أن هناك مكيدة تدبر له وأن عليه أن يحذر حتى لا يكون ضحية للغادرين. . . فلما سمع لنكولن هذا لم يعد يرتاب وبات على حذر وإن لم تأخذه خيفة

وكانت لفيلادليفيا وهي المدينة التي كتب الثوار فيها وثيقة الاستقلال وصاحوا صيحة الحرية منزلة عظيمة في نفسه وفي نفس كل أمريكي من أنصار الحرية، وكان أبراهام قد وافق أن يخطب الناس في تلك القاعة التاريخية التي ولدت في ساحتها الحرية، وكأنما توافقت الذكريات لتزيد في جلال الموقف فلقد تصادف أن كان ذلك اليوم هو عيد ميلاد الزعيم وشنجطون؛ ورغب الناس أن يرفع العلم على رأس القاعة الزعيم لنكولن. . . ووافق لنكولن على ذلك مغتبطاً مرحباً كما وافق أن يخطب الناس مساء ذلك اليوم في مدينة هرسبرج وكانت تقع غير بعيد من فيلادليفيا. . .

وخشي أصحاب أبراهام أن يفتك به المجرمون في زحمة الناس في ذلك اليوم المشهود في أي من المدينتين وأشاروا عليه أن يقتصد في الاتصال بالناس فيفوت على الغادرين قصدهم، ولكنه أبى إلا أن يفي بوعده ولو كان في ذلك هلاكه. . .

ورفع أبراهام العلم في فيلادليفيا وكان في ذلك موفقاً، فإنه صعد في ثبات إلى حيث ينتصب العمود الذي يثبت فيه العلم فشد الحبل فانبسط العلم ورف، وخفق الناس واستبشروا وهم ساعتئذ جموع خلفها جموع إلى آخر ما يذهب فيهم البصر. . . وكلهم يحيون الرئيس في حماسة وغبطة

وخطب في القاعة التاريخية فأفصح عن شيء من سياسته على خلاف ما جرى عليه في خطبه السالفة؛ قال: (كثيراً ما سألت نفسي ما ذلك المبدأ أو ما تلك الفكرة التي حفظت الاتحاد هذا الزمن الطويل؛ إنها لم تكن مجرد انفصال المستعمرات عن الأرض الأصلية، ولكنها كانت تلك العاطفة التي منحت الحرية لا لهذه الأمة فحسب، بل للناس جميعاً في كل

ص: 50

عصر مقبل كما أرجو؛ إنها كانت تلك التي بشرت أنه متى حان الوقت المناسب رفع العبء عن كواهل الناس جميعاً ومنح كل امرئ فرصة على قدر ما يمنح أخوه. . . تلك هي العاطفة التي انطوى عليها إعلان الاستقلال. والآن أسائلكم يا أصدقائي هل يتسنى خلاص هذه البلاد على هذا الأساس؟. . . إذا أمكن ذلك فإني إن استطعت أن أساعد على خلاصها أعد نفسي من أسعد الناس في هذا العالم. أما إن كان من المستحيل خلاصها إلا أن يضحي هذا المبدأ، فإني أفضل أن أغتال في هذا المكان على أن أضحي به. والآن أرى من شواهد الحال القائمة أنه ليس ثمة من ضرورة إلى سفك الدماء والحرب. ليست ثمة ضرورة إليها؛ وإني لا أميل إلى اتجاه كهذا؛ وأضيف إلى ذلك أنه لن تقوم حرب إلا إذا أجبرت الحكومة عليها؛ ولن تلجأ الحكومة إلى القوة إلا إذا أشهر في وجهها سلاح القوة. . . أي أصدقائي! هذه كلمات جاءت على غير ترتيب سابق ألبتة؛ فأنا لم لأكن أتوقع قبل وصولي أن أدعى إلى الكلام هنا؛ لم أكن أحسب إلا أني سأرفع العلم فحسب؛ وعلى ذلك فربما كانت كلمتي هذه خلواً من الحرص ولكني لم أقل إلا ما أريد أن أعيش به وما أريد - إذا كانت تلك مشيئة الله - أن أموت به. . .)

وذهب لنكولن في المساء إلى هرمسبرج وخطب الناس كما وعد؛ وكانت بلتيمور هي المدينة التي اعتزم المجرمون أن يقتلوه فيها وهي في طريقه إلى العاصمة؛ فعاد لنكولن إلى فيلادليفيا قبل الموعد المضروب، وركب ومن معه قطاراً عادياً كان قد استبقي بناء على إشارة قادمة ليحمل (طرداً) هاماً إلى وشنجطون وترك لنكولن القطار الخاص الذي كان معداً لسفره، فمر ببلتيمور قبل الموعد المعروف ففوت بذلك على الكائدين كيدهم فكانوا هم المكيدين. . .

وفي الساعة من صباح اليوم التالي وصل (الرجل القادم من الغرب) ومن معه إلى وشنجطون، فدخل المدينة على حين غفلة من أهلها؛ اللهم خلا سيوارد ورجل آخر كانا على علم بمقدمه فلقياه. . . وركب لنكولن إلى فندق لينتظر بضعة أيام حتى يحتفل بتسليمه أزمة الحكم. . . دخل الزعيم لنكولن عاصمة البلاد في مثل تلك الساعة المبكرة وفي مثل تلك الحال المتواضعة ليجلس في كرسي الرياسة الذي جلس فيه من قبل وشنجطون، دخل ليحمل العبء وليبدأ في حياته مرحلة من الجهاد والجلاد دونها كل ما سلف من جهاد

ص: 51

وجلاد. . .

(يتبع)

الخفيف

ص: 52

‌فتاوى شرعية

معضلات العصر

للأستاذ الجليل محمد بن الحسن الحجوي

وزير معارف الحكومة المغربية

- 2 -

نص الجواب عن الأسئلة الأشفودرية

جواب السؤال الأول:

الحمد لله الفتاح العليم، والصلاة والسلام على النبي الكريم، وآله وصحبه المستحقين لكل تكريم. أما بعد فأما مسألة إلزام الملك أحمد زوغو سدد الله له الخطا، وأبعد عن الخطا، موظفيه وتلاميذ المدارس لبس البرنيطة (القبَّعة) - فاعملوا أنه لم يأت في القرآن العظيم ولا في الأحاديث الصحاح التي وقفت عليها أن النبي صلى الله عليه وسلم ألزم من أسلم من أهل الكتاب أو المشركين، ولا الخلفاء الراشدون بعده، تغيير الزي أو جعلوا للمسلم لباساً خاصاً يتميز به. قال الله تعالى:(قُل من حرَّم زينةَ الله التي أخرج لِعباده والطيِّباتِ من الرزق)، وزينة الله ما يتزين به عباده من اللباس على اختلاف أنواعه. وقد استثنت السنة من ذلك الحرير والذهب، فان لبسهما حرام على ذكور الأمة دون نسائها. وقد أسلم عدي بن حاتم الطائي وكان نصرانيِّاً حاملاً لصليب فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بطرحه ولم يصح أنه أمره بتغيير اللباس ولا أمره غيره بذلك. وفي الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس جبَّة روميةً ضيقةَ الكمين في السفر. وما جاز لبسه في السفر جاز في الحضر من باب لا فرق. وقال عليه السلام: (كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة) أخرجه البخاري تعليقاً ووصله أبو داود الطيالسي والحارث بن أبي أسامة في مسنديهما ولم يقع الاستثناء في رواية الطيالسي وسقط وتصدقوا من رواية الحارث وزاد في آخره: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عباده. وأخرجه ابن أبي الدنيا بتمامه في كتاب الشكر. وإبيان البخاري بصيغة الجزم وهي قال دليل على قوة إسناده، بل على صحته كما هو مصطلحه في المعلقات من صحيحه. وعلق البخاري من

ص: 53

صيغة الجزم أيضاً عن ابن عباس موقوفاً عليه: (كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك اثنتان سرف أو مخيلة): وقد وصله ابن أبي شيبة في المصنف. نعم استثنت السنة أيضاً ما كان من باب التشبه بالكفار، فقد أخرج الطبراني في الأوسط بسند لا بأس به عن علي كرَّم الله وجهه مرفوعاً:(إياكم ولبوس الرهبان فان من تزيا بهم أو تشبه فليس مني) فاتضح لكم ما استثني من الآية وما بقي فيها على العموم. وأعلم أن التشبه بالكفار في اللباس سواء للبدن أو الرأس أو الرجل فيه نوعان:

النوع الأول أن يَلبس لباساً خاصاً بالرهبان دالا على رتبة من رتب الرهبنة وكان بحيث أن من لبسه يدل حاله على أنه ارتدّ عن الإسلام ودخل في الكفر. هذا هو الذي يترتب عليه الكفر لأنه دليل على تغيير الاعتقاد الديني وتحوله إلى معتقد الرهبان؛ وهذا هو المعنيُّ بحديث عَليٍّ السابق؛ ولذلك قال عليه السلام: فليس منّي. وفي هذا النوع يقول الشيخ خليل المالكي في مختصره: الردة كفر المسلم بصريح أو لفظ يقتضيه أو فعل يتضمنه كإلقاء مصحف بقذر وشد زُنّار قال. بناني في حاشيته: الزنار ثوب ذو خيوط ملونة يشده الكافر في وسطه يتميز به عن المسلم. قال والمراد به ملبوس الكفار الخاص بهم قال ومَحل هذا إن فعل ذلك محبة في ذلك الزيّ وميلاً لأهله؛ وأما إن فعله هزواً ولعباً فهو محرم، إلا أنه لا ينتهي لحد الكفر كما قال ابن مرزوق ا. هـ. ا. فالردة عند المالكية متعلقة بتغيير الاعتقاد الإسلامي بناء على أن الإيمان محله القلب؛ وكذلك الكفر فلا يحكم بالردّة إلا إذا صدر عن المرتد قول يصرح بذلك أو فعل يقتضيه اقتضاء واضحاً كشد الزنار لقوله تعالى:(إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله) فالآية واضحة الدلالة على أن الكفر والإيمان مناطهما الاعتقاد بالقلب، فكل ما دل على ترك معتقد المسلمين دلالة صريحة فهو كفر كنبذ أحكام الإرث والزواج والطلاق وكل ما علم من الدين بالضرورة، وكل ما لم يصل إلى ذلك فلا. واعلم أن الحكم على المسلم بالردَّة حكم بإخراجه من جماعة المسلمين وحكم بإراقة دمه، ولا أخطر من هذا الأمر في الإسلام الذي يحرص على تنمية عدد المسلمين وليس من شأنه أن يطردهم لأدنى شبهة وهم يذكرون الله ويعبدونه، فان الله يقول:(ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) الآية ويقول: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله) الآية

ص: 54

وننبه هنا إلى أن متأخري السادة الحنفية حكموا بالكفر في عدة فروع بأدنى شبهة وخالفوا مبدأ إمامهم المبني على التثبت والأخذ بحديث: إدرأوا الحدود بالشبهات. وتوسع في درء الحد بالشبهة إلى أقصى حد؛ ولهذا أنكر عليهم الإمام ابن الهمام منهم، فكان يترك الفتوى بما رأوه ويفتي بغيره. ولنكتف بهذا القدر تجنباً من الدخول في معمعة مذهبية غير مرغوب فيها

النوع الثاني من التشبه كان خفيفاً لم يصل إلى حد الكفر بحيث لا يدل دلالة واضحة على تغير اعتقاد المسلم كحلق اللحا، ولبس لباس غير زنار، وسدل شعر الرأس. وفي هذا ورد حديث البخاري عن ابن عباس:(كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب مما لم يؤمر فيه؛ وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرقون، رؤوسهم فسدل النبي صلى الله عليه وسلم ناصيته ثم فرق بعد) يدلنا هذا الحديث على أن الأمر العادي إن وقع السكوت عنه في الشريعة ولم ينزل فيه وحي كان يحب موافقة أهل الكتاب تأليفاً لهم وطمعاً في اجتذابهم إلى الإسلام، أم لأنهم أهل شرع سماوي بخلاف كفار العرب الوثنيين، ثم لما أيس منهم صار لا يوافقهم ففرق شعره. وكان الصحابة بعده مخيرين من يفرق منهم ومن يسدل إذ ليس هذا من قبيل التعبد بدليل قوله فيما لم يؤمر فيه، وعلى هذا فلا نسخ في الحديث إذ لا تعبُّد فيما يظهر، وبعيد كل البعد أن تكون الأحكام الإلهية تبعاً للأحوال السياسية، والوحي ينزل: هذا وليس كل ما فعله الكتابي أو المجوسي يجب علينا مخالفته فيه. كلا. فهذا عمر بن الخطاب أحدث التاريخ في الرسائل الرسمية ودون الدواوين وكتبها بلغات أجنبية ونظم البريد وفعل غير ذلك مما يفعله الروم والفرس ولنا فيه فائدة تعم مصلحتها. وعلى هذا فكل ما لنا فيه فائدة ومصلحة عامة كلباس الجند وإحداث الأنظمة المحكمة وتقريب المواصلات وتعجيل الأخبار كالتليفون والبرق وغير ذلك مما لا يحصى من الأمور الصحية والطبية ونظام الجندية واقتناء آخر طرز من الأسلحة والطائرات الجوية وغير ذلك، فكل ذلك لا معنى للطعن على من أخذ به أو الانتقاد بالتشبه عليه أو نسبته لفعل بدعة دينية. فالتشبه الذي نهينا عنه له حدٌ محدود وقرينة الحال تدل على ذلك؛ وهو كل ما كان راجعاً إلى تغيير الأمور التعبدية أو إذهاب الشعائر القومية التي تفني بذهابها ذاتية الأمة في ذاتية أمم أخرى مما يمس جوهر الإسلام وأبهته ويحط من

ص: 55

قدره. وإذا نظرنا إلى تغيير الزِّي بلبس البرنيطة الذي هو غير مفيد للإسلام في شيء وعرضناها على المعنى المقصود وجدناها ليست من النوع الأول قطعاً الموجب للردة، إذ ليست خاصة بأهِل الكفر من الرهبان؛ وإنما هي من النوع الثاني لما فيها من محو شعار القومية، فغاية الأمر أن تكون محرمة أو مكروهة. وأما حديث أبي داود والترمذي مرفوعاً: فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس، فلا تنهض به حجة لقول الترمذي: إن إسناده ليس بالقائم وفيه رجلان مجهولان. ثم إن البرنيطة بالنسبة إلى موظفي ألبانيا قد تكون جائزة في حق من هو فقير منهم بحيث إذا عزل أصبح يتكفف الناس وله عيال، وهذا وإن لم يصل لحد الضرورة المبيحة كأكل الميتة لكنه محتاج إلى ذلك والحاجة في المذهب المالكي ملحقة بالضرورة. وقد أفتى ابن مرزوق: أن من لبس الزُّنار الذي هو موجب للردة مضطراً كأسير عندهم فلا حرمة عليه فضلا عن التكفير؛ نقله بناني في الحاشية وسُلِّم له؛ كما أفتى بأن من لبس الزنار هزلاً ولعباً لا يكفر؛ وإنما يكون فعل حراماً. أما أغنياء الموظفين الذين ألزموا بلبسها وهم غير محتاجين للوَظيفة فهؤلاء قد يقال تكون في حقهم محرمة أو مكروهة، ولا ردة تلزمهم في ذلك ما دام الإيمان ثابتاً في قلوبهم. أما من تورع عنها وزهد في وظيفته لا يكون فيه حرَّاً حتى في لباسه فذلك أحسن

وإني على علم من أن بلدكم هي الدولة الإسلامية الوحيدة في أوربا ويتعادل فيها عدد المسلمين مع غيرهم. فلو أننا كلفناهم بتقديم استقالتهم جميعاً احتجاجاً على عدم رضاهم بتغيير زيهم الذي هو شعار قوميتهم التي تتعين المحافظة عليها، لأخذ وظائفهم غير المسلمين ودال الأمر إلى تمكين غيرهم من التصرف في مصالحهم بما قد يكون مضراً بهم وبدينهم. والقاعدة الشرعية إذا اضطر المسلم إلى أحد الضررين وجب اختيار أخفهما. وعلى هذا فلا تحرم حتى على أغنياء الموظفين ولا على من استعملها في بلد غير إسلامي قصد الستر وأمن المكر. أما المسلم الذي يلبسها اختياراً في بلد إسلامي فلا شك في الحرمة لما فيه من التشبه وإهانة القومية وتفريق جمع الإسلام وإباحة عرضه للطاغين

نعم لو فرضنا أن الموظفين المسلمين لا يستغني عنهم، وأن الملك يضطر عند تقديم استقالتهم جميعاً إلى العدول عن أمره بلبس البرنيطة وجب عليهم جميعاً تقديم استقالتهم، ووجب على غيرهم ألا يقبل أي وظيفة منها إلا بعد الرجوع في الأمر المذكور؛ والوسيلة

ص: 56

تعطي حكم مقصدها؛ وأظن أن هذا عندكم غير متيسر، بل إن الأفكار (الكمالية) فعلت فعلها واحتلت كثيراً من الأدمغة الألبانية حتى تخطتها إلى علية القوم وسراتهم

لذلك لا يسعنا إلا أن نفتيكم بامتثال أمر الملك المؤيد، وننصحكم بالعدول عن كل حركة يخاف منها على الأمن في مملكة صغيرة فتية محاطة بالمطامع نرجو لها النمو والنجاح. فإياكم إياكم الخلاف ما أمكن. وعليكم طاعة السلطان إن كانت في المعروف، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. لكن للضرورة أحكام. وطاعة السلطان واجبة كطاعة الوالدين التي جعل لها الحق سبحانه نهاية وآخرة في قوله:(وإن جاهداك على أن تُشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما)

أما تلاميذ المدارس الذين ألزموا ألا يقبلوا في مدارس الحكومة إلا بالقبعة (البرنيطة). فأما من كان منهم دون بلوغ فغير مخاطب بتكفير ولا بتحريم وإنما المخاطب بذلك وليّه. وأما من كان بالغاً عاقلاً فان مصلحة تعليمه مقدمة على مفسدة تغيير زي قوميته في نظري. ولا داء أدوأ من الجهل للبالغ وغير البالغ. يا إخواني إن هذه السياسة العميقة التي تشدَّ إزرها الأحوال والأفكار المحدِّثة تسوَّغ لي أن أتنبأ لكم والأسف ملء جوانحي بأن البرنيطة عما قريب ستصير لكم اللباس القومي والشعار الألباني قبل انقراض الجيل الحاضر. وا أسفاه! إن اللباس العربي الذي كان يلبسه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين فتحوا أكثر العالم في مدة جيل واحد وهذبوا وعلموا ومدنوا ما فتحوا - قد قضت عليه أزياء الفرس والروم، بل حتى أزياء الرهبنة، فأن القنباز عندنا قريب من سترة الرهبان، وهكذا الطربوش النمسوي الذي عممَّ الممالك الإسلامية، والجبدور الذي يوجد في أكثر بلاد الإسلام؛ حتى النعال، كل ذلك نسخ اللباس العربي ولم يبق منه إلا العمامة والقلنسوة. وهذه البقية الباقية من الزي الشرقي والشعار الإسلامي قد أخذت الأفكار الكمالية تكتسحها وتعفي أثرها، ولله في خلقه شؤون. وأرجو أن تكونوا قد أخذتم أيضاً بالتغييرات والإصلاحيات الحقيقية المفيدة التي أدخلها الكماليون على بلادهم لتذهب الحسنات بالسيئات. ذلك كتنظيم الجند على الطراز الحديث، وجعل أسطول جوي عتيد يقاوم كل طمع في بلادكم، وكتنظيم المالية بالضبط الحقيقي، وتوحيد الفكرة الألبانية في كل ميادين الحياة؛ واستخراج كنوز الأرض لكفايتها أهلها عامة، وتوحيد طرق التعليم والتهذيب لتجمع الأمة شملها وتكون على

ص: 57

قلب رجل واحد؛ وترقية الشؤون الاقتصادية، إلى غير ذلك

إخواني إن الإسلام ركنه الأعظم فكرة واعتقاد متين مؤسس على أصول الوحي والعقل القطعيين فلا تزعزعه الكوارث ولا يتأثر بالتغيرات

والذي أوصيكم به وأحضكم عليه والذي تبذلون دونه كل غال ورخيص، ونفس ونفيس، هو القرآن الذي هو الحبل المتين، والركن المكين، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والسنة النبوية الصحيحة، مَرّنوا أولادكم على التمسك بهما وحفظهما والاحتفاظ بهما، والعمل بما فيهما، فذلك برنامج الفتح الإلهي، والتقدم الحقيقي. عضُّوا عليهما بالنواجذ ولا يضر المسلم أن يتقمص في أي ثوب كان إذا كان متمسكا بهما؛ ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. عليكم إخواني بالتعليم. . . التعليم. . . التعليم. . . تعليم العلوم القرآنية الخالية من شوائب الشذوذ، والعلوم الحديثة الصحيحة واتباع طريق السلف الصالح وخير القرون في كل أمر ديني. وعليكم بالجد والاجتهاد في اقتناء العلوم الدنيوية على اختلافها كيفما كانت ومن أيِّ جهة جاءت، والبلوغ في الاقتصاديات لأعلى المجد واتباع أحدث الطرق فيها. وروح النجاح في ذلك كله هي الأخلاق الإسلامية المؤسسة على السيرة النبوية وتاريخ الإسلام المجيد الذي هو الإكسير الصحيح الذي يقلب الأمم الخاملة إلى أمم راقية ناهضة؛ والله يؤيد حكومتكم ويجمع عليها كلمتكم ويؤلف بين قلوبكم وبين قلب كل الباقين كيفما كان مذهبه ويبعد عنكم أحقاد التفرقة السياسية بمنه وفضله آمين

(يتبع)

محمد بن الحسن الحجوي

ص: 58

‌رسالة الشعر

في دخان اليأس

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

(يقولون: غن الشعر أبيض هادئاً

وكيف تغني في الهجير البلابل؟)

وَقيَّدَ عُمْري حُبُّها في قرَارةٍ

من الْهمِّ لا يُرْجَى لها الْيَوْمَ ساحِلُ

عَلَيْها دُخَانُ الْيَأْسِ سَأْمانُ، وَاجِمٌ

كَظِيمُ الْحَواشي مُقْلَقُ الذَّرِّ ذَاهِلُ

قتامٌ عَلَى أَسْدَالِهِ يمْرَحُ اْلأَسى

وَقَبْرُ الْمُنَى في ظِلِّهِ يَتَخَايَلُ

وَلِلْخَيْبَةِ الكُبْرَى عَلَى جَنَبَاتِهِ

خَيَالٌ لِحظِّي في دُجَى النَّفْسِ ماثِلُ

إِذَا أَنا سَرَّحْتُ الْخَوَاطِرَ صَدَّها

وَعادَ بهَا لُجٌّ منَ الْيَأسِ غائِلُ

كأنِّيَ أَعْمَى يَخْبِطُ الْكَوْنَ هائماً

عَلَى خَطْوِهِ سِنُّ الْعَصاَ تَتَحَايَلُ

سَوَاءٌ لَدَيْهِ حِينَ يَظْمأُ لِلسَّنَا

عَشاَيَاهُ يُتْرعْنَ الدُّجَى وَالأصَائِلُ

كأني لَحْنٌ طاشَ مِنْ كَفِّ عازِفٍ

عَلَى وَتَرٍ جافَتْ هَوَاهُ الأَنامِلُ؟!

نزَلْتُ عَلَى الْوَادِي وَنَفْسِي كئِيبَةٌ

وَنايَي مَفْجُوعُ التَّرَانيمِ ثاكِلُ

وَبِي أَمَلٌ أَنْ يْمسَحَ الْحُبُّ شَقْوَتي

وَيُوهِنَ مِنْ عِبْئي الذي أَنا حَامِلُ

فعُدْتُ وَبي قَيْدَانِ: قَيْدَ صَباَبَتي

وَهَجْري وَقَيْدٌ أَحْكَمَتْه النَّوازِلُ

كأني سَجِينٌ سُدَّتْ الأَرضُ حَوْلَهُ

وَكادَتْ بِساَقَيْهِ تَنُوحُ السَّلَاسِلُ

فلَا الدَّهْرُ أَخْلَاني وَلَا غادَةُ الهوى

أَفاقَتْ لأَِشْجَاني، فما أَنا فاعِلُ؟

يقُولونَ غَنِّ الشِّعْرَ أَبْيَضَ هادِئاً

وَكيْفَ تُغَنِّي في الهجِير الْبَلَابلُ؟

وَكَيْفَ وَقلبي لا يُفِيقُ مِنَ الأَسى!

وَنَجْمِي إلى أُفْق الْمَنِيَّاتِ مائِلُ!

لأَقْسَمْتُ ما غَنَّيْتُ شِعْراً! وَإِنما

حُشاَشَةُ رُوحي بالأسَى تَتَهَادَلُ!

فَيَا غادَةَ الإِلهامِ وَالشِّعْرِ! وَمْضَةً

لَعَلَّ بِصَحْرَائي تَرِفُّ الخمائِلُ

وَتحياَ الرُّبى وَالظِّلُّ وَالزَّهْرُ والشذَى

وَتَيْنَعُ أَيَّامِي، وَتَصْفُو المناَهِل

فَنَشْرَبُ مِنْ أَحلَامِنا خَمرَةَ الهوَى

وَيَجْرَعُ مَنْ سُمِّ الْهَوَانِ الْعَوَاذِلُ. . .

أَطلِّي عَلَى دُنْيَاي - سِحْراً - وأَشْرِقي!

جَبِينُكُ ما أَمَّلْتُ فيها، وَآمُلُ!

وَذَاتُكِ قُدْسي وَانْتِعاَشي وَفَرْحَتي

وَفَيْءٌ لِرُوحي ما وَعَتْهُ الظَّلَائِلُ

ص: 59

فَلَا تَتْرُكي يأسِي يَلِجُّ فإنَّهُ

ظَلَامٌ لرُوحي الْمُسْتَهاَمَةِ قاَتِلُ

وَأَخْشَى يُنادِيني الرَّدَى فأُجِيبُهُ

فَيَصْمُتُ طَيْرٌ بالهوَى الْعَفِّ زَاجِلُ

وَتَخْرَسُ أَيَّامِي. . . وَيَنْدَثِرُ الّذِي

قَضَى الْعُمْرَ عَنْ يَوْمِ اللِّقَاءِ يُسائِلُ!

ص: 60

‌حواش وجيوب

للأستاذ الحوماني

قربي نهدَيكِ أَلمسْ وَأَرى

كبدي فوقهما كيف تذوب؟

كلما أمررتُ كفي بهما

ندَّ عنها برعمٌ واحمرّ كُوبُ

أتلقى بفمي زهرهما

فإذا ملءُ فمي خمرٌ وطِيبُ

وإذا أمعنتُ في عصرهما

دَمِيتْ منا عيونٌ وقلوب

ما ترى عيناكِ من أخيلةٍ

تتراءى لي وأحياناً تغيبُ

أَهيَ الآلامُ مرّت وعلى

وجهها منا غبارٌ وشحوبُ؟؟

أم هِيَ الآمال لاحت وعلى

صدرها منا حواشٍ وجيوب؟

مبسمٌ من قُبَلِ الآتي نَدٍ

ومُحيَّا من دم الماضي خضيبُ

الحوماني

ص: 61

‌عزلة

للأستاذ خليل هنداوي

أغادرُ هذا الحمى هائماً

وأَسرى، وأسرى أريد الفضاءْ

فلا يسع الكون قلبي الصغير

ولا تسع النفس كل السماءْ

بنا عزلة جوعها دائم

تضيع بوحشتها الأضلع

ونطعمها من طعام القلوب

ونملأُ فاها فلا تشبع

يضم الهوى جامعاً بيننا

وتسكرنا رشفات القبل

فننسى الحياة وننسى الوجودْ

وتغمرنا مغريات اْلأَمل

ولكننا بعد ذاك العناق

تعاودنا العزلة القاسية

تريد غذاء جديداً لها=فنذبح أَنفسنا ثانية. . .

خليل هنداوي

ص: 62

‌وحي الشاعرية

للدين

للأستاذ حسن القاياتي

ليس يدري أن للناس إلهْ

كلَّ غاوٍ لو دراه لاتقاهْ

سادَ بالدين فريقٌ شدَّ ما

آنق الأعين في زِيِّ الهداه

قام يَدْعُو من يصلي والخنا

قائمٌ يضحك من تلك الصلاة

المصلي في خداع ماله

قام فخاً، ما طَوَاهُ ما ثناهْ؟

يذكر الله ويٌوْصِي لحظُهُ

من أُتيحا للخنا أن يُشْرِكاه

صَرَّع الموتُ غويَّا فانبرَى

مَعْبَداً يلحد فيه من دعاه

ويح شعب لم يُسَدَّد بابنه

للمساعي كيف أودى فارتجاه؟

إن في الشرق لَعِلماً كلما

أقبل الشرقُ على النُّبل نَهاَهْ

كل سفرِ لست تدري صوغه

من خبال حيث تدري ما عناه!

طاعة الدين لدى جُهَّالِهِ

تصرع التفكير عن حكم الرُّواهْ

يا بني الأُخْرَى وساَءت سُبَّةً

إن للمجد سواكم لدُعَاهْ

إن للتقبيل في راحاتكم

نغمة الفحشاء في لثم الشفاه

كيف تقبيلُ بنانٍ لم يكن

رَبُّهاَ بَرَّا. ولم تحمد يداهْ؟؟

(السكرية - دار القاياتي)

حسن القاياتي

ص: 63

‌جرح هوى قديم

جرح هواكِ اليومَ في مهجتي

ما زلتُ أستشعر منهُ الأَلمْ

كأنه جرح هوى طارفٍ

لا جرح حبّ مُوغلٍ في القِدَمْ

العوضي الوكيل

البريد الأدبي

إلى الأساتذة أحمد أمين والجارم بك وجاد المولى بك

أعضاء لجنة إنهاض اللغة العربية

نشرت البلاغ في عددها الذي صدر يوم الخميس الماضي هذه الأسئلة، ونحن ننقلها عنها بنصها:

ذكرتم في تقريركم الذي رفعتموه إلى وزارة المعارف أن من وسائل إنهاض اللغة العربية أن يكون في أيدي التلاميذ طائفة اخترتموها من الكتب الأدبية الحديثة لم نر من بينها (في أصول الأدب) ولا (آلام فرتر) ولا (رفائيل). وهذه الكتب قد عرفها الجمهور وقرأها وحكم لها؛ فإذا كنتم تجهلونها كان هذا الجهل عيباً في الاختيار الذي نشرتموه. وإذا كنتم تعرفونها ثم أغفلتموها حق لي أن أوجه إليكم هذه الأسئلة:

1 -

إذا كان اختياركم مقصوراً على الكتب الأدبية الموضوعة، فلماذا اخترتم الفضيلة (بول وفرجيني) وتركتم (في أصول الأدب؟)

2 -

إذا كان الاختيار مطلقاً من هذا القيد فلماذا أغفلتم (آلام فرتر) و (رفائيل)؟

3 -

هل تستطيعون انتم ومعكم غيركم أن تأخذوا على هذه الكتب شيئاً في اللغة أو في الأسلوب أو في الغرض؟

4 -

إذا كنتم لا تختارون إلا لأدباء وزارة المعارف فلماذا اخترتم للعقاد والمازني والمنفلوطي وشوقي

5 -

إذا سألكم هذه الأسئلة وزير الأدب هيكل باشا فهل تستطيعون الإجابة عنها من غير حرج؟

(سائل)

ص: 64

(الرسالة) وهذه الأسئلة بعينها يصح أن يوجهها إليهم (سائل)

عن كتب الرافعي وعزام وزكي مبارك

الأستاذ العقاد وامرئ القيس

قال الكاتب الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد في مقالته (بقية المذهب) في الجزء السابق من (الرسالة) الغراء: (لقد وصف بعض الأعراب نساء (محبوبات) فاستملحوا الضخامة ومدحوا الكسل وبطء الحراك، وافتتن أميرهم بعذارى قال في وصفهن ما يقال في وصف الغيلان:

وظل العذارى يرتمين بلحمها

وشحم كهداب الدمقس المفتل

نعوذ بالله!

قلت: امرؤ القيس يقول هذا البيت في وصف الناقة التي عقرها للعذارى (المحبوبات) لا في وصف فتاة من الفتيات، وقبله:

ويوم عقرتُ للعذارى مطيتي

فيا عجباً من كورها المتحمَّل

وقد قال الزوزني في البيت (اللحمي والشحمي): (فجعلن يلقي بعضهن إلى بعض شواء المطية. . .)

وامرئ القيس الكندي أو حماد الرواية أو صاحب هذه القصيدة إنما يستحسن في المرأة ما يستحسنه الأستاذ العقاد النقاد ويستقبح ما يستقبحه وهو يقول في (معلقته) التي لم تعلق في كعبة ولا خيمة ولا خصّ:

مُهفهفة بيضاء غيرُ مفاضة

ترائبها مصقولة كالسجنجل

قال الزوزني: (يقول: هي امرأة دقيقة الخصر ضامرة البطن، غير عظيمة البطن ولا مسترخيته، وصدرها براق اللون متلألئ الصفا تلألؤ المرآة) فأمير الأعراب - وهذا قوله - ونائب الأمة في (دار الندوة) الأستاذ العقاد في قضيتهما في (الحسان) سيان، ولم يختلف في الحق الأميران. . .

(القارئ)

ص: 65

مالطة عربية

كتب المستر مكنزي المحرر في جريدة أجبشيان غازيت رسالة إلى جريدة (الديلي تلغراف) تناول فيها ما يزعمه الإيطاليون من أن بينهم وبين أهالي مالطة علاقة لغوية وبالتالي عنصرية. ويؤكد المستر مكنزي أن اللغة المالطية ذات علاقة شديدة باللغة العربية. وهي من ثم من آثار العهد الذي كانت فيه للعرب دولة عظيمة مترامية الأطراف يقول عنها الدكتور فيليب حتى اللبناني أستاذ التاريخ في جامعة برنستون في الولايات المتحدة إنها كانت (أعظم من الدول الرومانية في عنفوان مجدها) فمن جهة اللغة تكون مالطة إذن عربية الأصل أكثر كثيراً مما هي إيطالية

مصر والثقافة العربية

سافر إلى لبنان حضرة صاحب العزة الأستاذ الجليل محمد بك العشماوي وكيل وزارة المعارف، فكان موضع الحفاوة والترحيب من رجال الأدب والفضل في لبنان. وقد تحدث مرة في حلقة منهم بحديث عن عناية مصر بالثقافة العربية قال فيه:

(سأسعى لأن تنفذ الثقافة المصرية إلى جميع أقطار العرب؛ فمصر واجب عليها أن تتزعم الحركة الفكرية وأن تكون فعلا في المقام الذي تضعها فيه بلاد العرب

وارى أن توحيد الثقافة العربية ومناهج التعليم واجب؛ وسأسعى إلى ذلك بما في جهدي وطاقتي

وقد أنشأت وزارة المعارف المصرية فرعاً خاصَّاً ليكون على اتصال تام بجميع أقطار العرب يتابع النهضة الثقافية فيها ويقدم إلى البلدان العربية جميع ما تعمله الوزارة من أعمال وما تقرره من شؤون

ولا يقتصر النشاط والاهتمام ببلادنا العربية على وزارة المعارف فان وزارة الخارجية أنشأت قسماً شرقياً خاصاً لهذا الشأن فمصر ستعني عناية خاصة بكل ما يجري من تحول في البلدان العربية والاهتمام الثقافي هو الخطوة الأولى التي تتبعها خطوات أخرى في جميع الميادين

وليس أدل على اهتمام مصر ببلاد العرب من هذه الحالة التي أبسطها فان مدارس المعارف

ص: 66

تضم تلاميذ من طيطوان كما أنها تضم تلاميذ من سورية والعراق والحجاز ولبنان وكلهم يتلقون التعليم الابتدائي والثانوي والعالي على حساب الحكومة المصرية ويحاطون بكل عناية

وفي المدة الأخيرة كتب حضرة سلطان حضرموت إلى صاحب الجلالة الملك فاروق الأول بشأن إيفاد بعثة من التلاميذ تعلم مجاناً في مدارس المعارف المصرية فاصدر جلالة الملك أمره بقبول البعثة مع تسديد نفقات إقامتها وملابسها وجميع ما تحتاج إليه

ولا تتأخر مصر عن الاضطلاع بما تعده واجباً عليها للغة العربية والعرب

وأشار في ختام حديثه إلى المؤتمرات التي أعدتها مصر وإلى المؤتمرات العربية التي تنوي عقدها عاماً فعاماً في جميع بلدان العرب لتوثيق العلاقات بينها وبين تلك البلدان)

ثقافة السودان

كتب إلى جريدة التيمس المستر كيروان يقول: (إن مراسل التيمس في الخرطوم كتب إليها حديثاً يقول فيه إن السودان كسائر البلدان العربية في العالم الحديث يجب أن يعتمد في إقامة ثقافته الوطنية على مصدرين أساسيين. الأول ميراثه الإسلامي وتقاليده العربية، والثاني الثقافة الحديثة في الغرب. وأهم طريق للوصول إلى المصدر الأول هو مصر، وإلى الثاني هو إنجلترا

(فالشق الأول من هذا البيان قابل للمناقشة: فان ميراث السودان الإسلامي وتقاليده العربية التي يستفيدها عن طريق مصر تظهر لنا ضئيلة. فالسودان بخلاف البلدان العربية الأخرى إنما اعتنق الإسلام منذ عهد قصير ربما لا يرجع إلى أبعد من القرن السادس عشر. وكان قبل ذلك ميداناً للنصرانية، وقبل ذلك قضى السودانيون أجيالا طوالا متمتعين بثقافة راقية كل الرقى مستفاد بعضها من مصر. وتحت وشاحهم الإسلامي الحالي يمكننا أن نلحظ حتى اليوم تلك الثقافات السالفة

فيكون إذن مهما للسودان أن يستند في تأسيس مدينته الأهلية الجديدة إلى ميراثه الوطني من تقاليد إسلامية وتقاليد سابقة للإسلام والعرب

عنصر جديد في عالم الطب

ص: 67

جاء في مذكرة تلقتها وزارة الخارجية من المفوضية المصرية بألمانيا: أن البروفسور فالدمان الطبيب الألماني المشهور كشف مادة جديدة لمقاومة الحمى القلاعية وأنه بهذه الواسطة حقق غرضاً من أهم الأغراض العلمية بإيجاد (عنصر جديد في عالم الطب) كما قالت الصحف الألمانية

ونظراً إلى أهمية هذا الاستكشاف وما ينتظر له من النتائج أرسلت المفوضية نص حديث للبروفسور مع الصحف الألمانية عن هذا الموضوع الذي ينتظر أن يعني ببحثه قسم الطب البيطري في وزارة الزراعة

تيسير قواعد اللغة العربية

وضعت جماعة دار العلوم ملحوظات قيمة على تقرير اللجنة التي ألفت في وزارة المعارف لتيسير قواعد اللغة العربية. وتقع هذه الملحوظات في اثنتي عشرة صفحة من القطع الكبير بينت فيها الطريق الذي سلكته اللجنة ثم ناقشت آراءها في النحو والصرف والبلاغة وما اقترحته في هذا الشأن

وقد قدمت الجماعة هذه الملحوظات إلى وزارة المعارف

تكريم شاعرة فرنسية في إفيان

في آخر الأسبوع الماضي رفع الستار عن النصب التذكاري الذي أقيم في أمفيون بالقرب من إفيان للشاعرة أن نواي في أملاك هائلة برنكوفان. وبعد أن أقيمت حفلة في دار البلدية أطلق محافظ المدينة اسم الشاعرة على الطريق الذي يربط إفيان بأمفيون

وقد ألقى كل من مندوبي معهد فرنسا والأكاديمية الملكية في بلجيكا وبلدية باريس ومحافظ إفيان خطباً تناسب المقام

وأقيمت مأدبة عشاء خطبت فيها هيلين فا كارشيكو والبرنس كوتسنتين دي برنكوفان

ص: 68

‌الكتب

هكذا أغني

ديوان الأستاذ محمود حسن إسماعيل

للأديب عباس حسان خضر

يقول شاعرنا:

إن تسل في الشعر عني

هكذا كنت أغني

ونحن نسأل عنه في الشعر، فلننظر كيف يغني. . .

هو يغني بشعره، صادراً عن طبيعة خصبة، مترجماً عن نفس زاخرة بعناصر الشاعرية من إحساس مرهف، وعاطفة مضطربة، وعقل (فني) يدرك به الجوانب الفنية للأشياء، يتملك كل هذه خيال طامح متوثب. وهو عندما يشحذ هذه العُدة يمضي متدفقاً مندفعاً عنيفاً، وفي كثير من الأحيان يتبع هذا التدفق والعنف عدم اكتراث بسلامة الذوق، واعتساف في الفكر وفي التعبير - كما نبين فيما يأتي - معتمداً في ذلك على قوة طبيعته ونشاط خياله، غير متقيد ولا محترس، فهو يعول على الهبة الفطرية أكثر مما يعول على المهارة الاكتسابية

ويمتاز شعر هذا الديوان بشيء لعلي موفق إذ أسميه (الروعة) وهو ذلك الذي يستغرق المشاعر ويروع العواطف ويأخذ بالذهن إلى عوالم متنائية الأطراف، ولعل مبعثه بُعد المدى في الخيال، والإيغال في تصوير الأشياء التي يكتنفها الغموض، ومن ذلك كثرة ترديده لذكر الرهبان والقسس والأديرة وانتزاع الصور من محيطها الغامض. ومما تتجلى فيه تلك الروعة قصيدة (دمعة في قلب الليل) وقد أبدع في وصف الدموع في هدأة الليل، وأفتن في تصوير المعاني افتتاناً. قال يخاطب الليل:

خلني للدموع وحدي أناجي

ها في العزلة السوداء

أنا من كأسها شربت صبيًّا

خمرة سلست من البأساء

عصرت من مطارف الألم الدا

وي بقلبي وعتقت في دمائي

تخِذتْ جامها المحاجر والسا

قي همًّا يؤج في أحشائي

ص: 69

هي أشهى إلى عيوني من النو

ر، وأبهى من لمحة الأنداء

هات يا ليل قطرها فهي حيرى

كتمت برحها من الكبرياء

فأنظر كيف يصور الدموع خمراً عصرت من قلبه موطن آلامه ثم اتخذت لها مسرى دمائه دناناً تعتق فيها، ثم صبت في كؤوس من محاجر العيون، يقوم على سقيها ساق من الهم يضطرب في الأحشاء. . . ثم انظر كيف يستقطرها الليل لتترقرق مستورة حيرى في عزلة الليل وقد برح بها الكتمان لأن الكبرياء أبت عليها الظهور في وضح النهار. وإن كان قد شاب هذه الصورة بفساد في بعض التصوير، فقد قال (عصرت من مطارف الألم) فجعلنا نتمثل امرأة حاسرة عن ذراعيها أمام طست الغسيل تعصر تلك المطارف والأثواب. . .

وهاك مزهراً تتكون أوتاره من الأهداب وتحدث أنغامه من رنين البكاء:

همسها في الجفون أصداء ناي

بلعت شدوه رياح المساء

مزهر للعيون أوتاره الهد

ب. . . وأنغامه رنين البكاء

يستعذب الشاعر دموعه ويطرب من ذرفها فيصورها في الجفون هذا التصوير الرائع. . . كصدى الناي البعيد تستهلك شدوه الرياح فلا يصل إلى السمع منه إلا كالهمس. . . هذه - من غير شك - دموع شاعر يتغنى على تسكابها فيبدع ويطرب

وهناك في ذلك الظلام السائد يرزح تحت أثقال الليل كوخ:

رجفت شمعة بجنيه تهفو

في دجاه كالمقلة العمشاء

خنق الليل نورها خنقة البؤ

س لأرواح أهلها التعساء

إنك لتشعر بالروعة حيال هذا المنظر: كوخ يعاني ضوء شمعته الخافت من الظلام ما يعاني أهله من البؤس

وأبرز شيء في شعر شاعرنا اللمعة الذهنية المتألقة حتى أنه ليُذهل بها عن كثير مما لم يمسه التنقيح والتهذيب، فهو بذلك يختلف عن شعراء يعاودون كلامهم بالصقل ويتناولونه بالتشذيب فيخرج سليماً مثقفاً، ومع ذلك ليس فيه من المفاجآت الشعرية ما يملك الحواس ويؤثر في العواطف

وقصيدة (ثورة الإسلام في بدر) تدل على اقتدار الشاعر على استيحاء الحوادث أروع

ص: 70

معاني الحياة وانتزاع المغزى الفني من الوقائع المادية، فهو يتعرض لمواقف غزوة بدر تعرض شاعر يزجي الحقائق ملونة بخواطره، ويبرز ما يرمي إليه في أبرع الصور حتى لقد جاءت هذه القصيدة ملحمة صغيرة رائعة. استمع إليه ينطق الأصنام بالحديث عن الإسلام:

سجد (اللاتُ) مؤمناً! وجثا (العز

ى) يناجي (مناة) يا صاح أبشر!

هلْ في ساحنا وميض من النو

ر غريب التلماح، خافي التصور

ذره أرعد الصفا! وأحال الص

خور روحاً يكاد في الرمل يخطر

لا من الشمس فيضه فلكم شع

ت علينا فلم ترع أو تبهر

لا من النجم لمحه. . فلكم لا

ح كئيب الضياء وهنان أصفر

قد نسخنا به! ومن غابر الده

ر نسخنا البلى ولم نتغير

ألهونا. . وعفروا - وهم الصي

د - علاهم على ثرانا المعفر

سر بنا يا (مناة) نخشع جلالا

لسنا النور. . . عله اليوم يغفر

عجباً! خرت المحاريب والأص

نام دكا. . والعبد ما زال يكفر!

وشاعرنا فنان يصرف الكلام تصريف اللبق، يقول في جلالة الملك:

سجدات وجه مشرق نضح التقى

في كل ما لمحت به سيماؤه

لو راءه عاتي المجوس تخشعت

للنار من غي النهى أعضاؤه

لانحاز في ركب النبي، وناره

نور تدفق في الصلاة ضياؤه

استطاع - بمهارة في التعبير - أن يحول المجوسي من غيه في عبادة النار إلى الإعجاب بنور الهدى

تلك بعض خصائص الشعر في ديوان (هكذا أغني) وذلك بعض ما تغنى به فأطرب. . . وقد ألمعنا إلى مآخذ فيه (وهي النشاز) يقتضينا الإنصاف أن نسوق من الدلائل عليها:

يقول في قصيدة (يوم التاج) يصف مغنياً في حفلة عابدين الساهرة:

وقف المغني في حماك مجلجلا

باللحن تخفق في الورى أصداؤه

فيه من الأقدار وهلة غيبها

خبأته عن لمع الحجا أطواؤه

ومن الكتائب أرزمت أسلاتها

صخب يزمجر بالفتوح نداؤه

ص: 71

ومن المواكب هولها في فيلق

نشوان في يوم الفخار لواؤه

فأي مغن هذا المجلجل الذي اجتمعت فيه وهلة الأقدار وصخب الكتائب وهول الفيالق؟! إن هذه الصفات المروعة لا تصطلح على مغن ولو كان من (مطربي) محطة الإذاعة اللاسلكية بالقاهرة. . .

يقول في قصيدة (الذهول)

أم بلبل تحت ظلال النخيل

أسكره الصدح

فنام. . . واستلقى عليه الأصيل

والظل والدوح!

فإذا تصورنا استلقاء الأصيل أو الظل على البلبل بمعنى وقوع الظلال عليه، فكيف تستلقي الدوح على ذلك المسكين دون أن يرديه هذا المزاح الثقيل. . .؟

ويقول في هذه القصيدة:

الوجه ساج كصلاة الغدير

. . . . . . بين الطيور

فكيف يصلي الغدير بين الطيور؟ لعله يريد (صلاة) الطيور على الغدير بحسوها منه، فقلب التعبير، كما فعل في مطلع قصيدة (عارية ستانلي باي) إذ قال:

من علم البحر لجاج الهوى

وأترع الحب بشطآنه

فما أرى للشطر الثاني معنى مستقيماً إلا على (القلب) كأنه يريد: وأترع شطآنه بالحب، وإلا فما معنى أن الحب ملئ بشطآن البحر؟ ليس هذا إلا كخرق الثوب للمسمار!

يقول في قصيدة: (دمعة في قلب الليل)

لامَني في هواه خال من اله

م بليد الفؤاد جمُّ الغباء

ردَّ عني يا ليل دعواه. . . إني

كدت من لومه أحطم نائي

وهو - بطبيعة المعنى - يقصد من (نائي) الناي، ولكن القافية الهمزية العصّية جنت على الناي فهمزته ولمزته. . . ولست أدري لماذا لم ينتفع الشاعر بهذه الكلمة (ناء) التي اخترعها - في تصريع قصيدة (يوم التاج) إذ قال في المطلع:

شاديك من قصب الفرادس نايه

ومن السنا والطيب علَّ غناؤه

ولم يقل (ناؤه) بدل (نايه)؟ لعله لم يرد استغلال الاختراع كثيراً، فاقتصر على حاجة القافية الماسة، أما التصريع فأمر فواته أهون. .

ص: 72

يقول في قصيدة (من لهيب الحرمان):

رب ومض من لحظ عينيك ساج

فجر الوحي من سنا لمحاتك

ومض لحظ العينين هو سنا اللمحات، فكيف يفجر ومض لحظ العينيين الوحي من ومض لحظ العينين؟

يقول في قصيدة (الذهول) السالفة، ويظهر أن الشاعر قالها في ذهول:

وذاع من جفنيك فيها عبير

. . . . . . دام حسير

إذا أكرهنا المجاز على تقبل ذيوع العبير من الجفنين، فأي ذوق يسيغ وصف العبير بأنه دام. . .؟

تقدم في أبيات من قصيدة (دمعة في قلب الليل) قوله:

عصرت من مطارف الألم الدا

وي بقلبي وعتقت في دمائي

والمقصود هنا كلمة (الداوي) فهي من الأغلاط الشائعة لأن الفعل الموجود لهذا المعنى (دوَّى) بالتشديد وليس هناك (دوي) ثلاثياً حتى يجئ منه (الداوي)

الشاعر مغرم بكلمات يرددها كثيراً مثل الغناء واللحن والناي وما إليها، حتى أنه في قصيدة واحدة هي قصيدة:(هكذا أغني) أطال استخدام مادة واحدة هي: (غنى يغني) وصاغ منها ثماني قواف. . .

وبعد فإن ديوان: (هكذا أغني) زاخر بالشعر النابض بالشباب، يتمثل فيه جلال التخيل، وقوة العاطفة، وتألق الشاعرية، والقدرة على استخدام تعابير حية؛ والواقع الغريب أن استشراء الصفات الثلاث الأولى يؤدي بالشاعر إلى الاندفاع الجارف. والأستاذ محمود حسن إسماعيل لا ينقصه - ليكون في شعراء الذروة - إلا أن يعاود ما ينشده بالصقل والإصلاح

عباس حسان خضر

ص: 73

‌المسرح والسينما

التلفزيون في دور السينما

نشرت إحدى المجلات السينمائية الإنكليزية بحثاً عن التطورات السينمائية التي ينتظر أن يمتاز بها العهد السينمائي الجديد فقالت إن (التلفزيون) هو أهمها وأقربها إلى أن يكون حقيقة واقعة في العام القادم. والتلفزيون جهاز لالتقاط إذاعات لاسلكية صوتية وبصرية في وقت معاً. ولا شك أن احتواء البرامج السينمائية عليه هو خطوة كبيرة في سبيل إبلاغ السينما إلى المستوى (العلمي) المنشود. ولكن هل التلفزيون من الوجهة (الفنية) يعتبر تحسيناً للسينما؟ وهل يعده الجمهور ميزة فيزداد إقبالاً على الدور التي تحوي برامجها شيئاً منه! يقول الفنيون إن التلفزيون لا يمكن أن يعد تحسيناً، لأنه سيقتصر على بضعة مجموعات من الإذاعات المنقولة - صوتاً ونظراً - لتحل محل (الجريدة السينمائية) والطبعات الأخيرة من الجرائد السينمائية الناطقة، ليست في الواقع إلا إذاعات ناطقة مصورة، وفيها نرى (المشاهد) على الشاشة أهم الحوادث العالمية الجارية كما نسمع أشهر الخطب و (الإستهلالات الموسيقية) التي تصنع من أجل التمهيد لهذه الخطب وخلافها؟!

فإذا كان ما قرأناه صحيحاً، وهو أن البرامج اللاسلكية المصورة سوف تقتصر إذاعتها على دور السينما الكبيرة ولن يكون في مقدور من لديه جهاز للتلفزيون أن يتلقاها على الشاشة المنزلية فلماذا يعد احتواء البرامج السينمائية على بضعة إذاعات لاسلكية مصورة تطوراً جديداً في صناعة السينما، بعد ما ثبت أنه لا جديد فيه وأن محطة أو محطات معينة هي التي سوف تقدم لدور السينما فصوله اللاسلكية المصورة، سواء أكانت مصنوعة أو مأخوذة من الطبيعة مباشرة؟!

إن التلفزيون على النحو السابق إنما يعد تقدماً أو تحسيناً في (طرق العرض السينمائي) لا في (صناعة السينما) ذاتها. .!

في السينما المحلية

يكاد النقاد السينمائيون في مصر أن يتفقوا على أن شركاتنا السينمائية قد استطاعت أن تخطو بالفلم المحلي الخطوات الابتدائية التي جرت العادة بأن تكون متعبة يبذل فيها من الجهود أضعاف ما يبذل في الخطوات التي تليها

ص: 74

وبدهي أن فيما أخرجت شركاتنا المحلية أخطاء كثيرة. ولا غرو فالأفلام تخرج - في مصر وغيرها - وفاقاً لأصول جملة فنون وصناعات عملية لا يملك الإنسان أعنّتها إلا بعد المران، ونحن لا نزال ناشئين في هذه الصناعة. لذا وجب على الناقد أن يساهم في توجيه الجهود الفنية الوجهة المنتجة

وأول ما نريد أن نلفت النظر إليه هو ضرورة التخصص. فالشركة الصغيرة ينبغي لها أن تتخصص في نوع معين من الأفلام والممثل السينمائي يحسن به أن ينصرف إلى تمثيل نوع معين من الأدوار أو الروايات، والمخرج الذي ينتظر له النجاح والإجادة هو الذي يقتصر على إخراج نوع معين من الروايات وبطريقة معينة

والواقع أن نظام التخصص قائم عندنا إلى حد ما، ولكن في الشركات التي تتولى إخراج أفلام خاصة، كشركة الأستاذ محمد عبد الوهاب التي تخرج الأفلام الغنائية التي يكون هو بطلاً لها، وكشركة يوسف وهبي التي تخرج أفلاماً درامية من النوع العنيف يكون هو بطلها، وكشركة لوتس فيلم التي تخرج أفلاماً من نوع الفودفيل الدرامي الضاحك يقتصر تمثيلها دائماً على الثلاثي الفني آسيا وجلال وماري كويني. . .

ولكننا نريد أن يعم هذا النظام شركاتنا الكبيرة ذات الأموال الكبيرة، كاستوديو مصر مثلاً، وكالشركة الكبيرة الجديدة التي أنشأها الأستاذ أحمد سالم

ونظرة واحدة إلى الأفلام الأمريكية تكفي لأن يسلم الجميع بأن التخصص هو العامل الأول والأهم في نجاح الشركات والنجوم كذلك

(سينمائي)

ص: 75