الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 268
- بتاريخ: 22 - 08 - 1938
تفريع على البقية
للأستاذ عباس محمود العقاد
في أوربا تقل قيود المرأة وتقل قيود الفنان، ولكننا يندر أن نرى امرأة ممن عاشرن الأدباء ورجال الفنون على شرط الجمال الأوفى عند أولئك الأدباء والفنانين، وهم كما نعلم نقاد الجمال وخلاقو المقاييس والآراء فيه.
وقد رأينا صور النساء اللواتي عاشرن بيرون وجيتي وداننزيو، وهم قبل كل شيء من طبقة النبلاء أو يعيشون في تلك الطبقة ويتنقلون حياتهم بين الأمراء وأميرات، وهم بعد هذا شعراء (عالميون) استفاضت شهرتهم في البلاد الأوربية وغير الأوربية، وهم بعد هذا أرفع أمثالهم ذوقاً وأدباً وقدرة على الانتقاء صنوف الجمال، ومنهم من لعب بالمال لعبا وساح في الأرض وهام بالنساء.
ومع هذا يندر كما قلنا أن تجد بين حبائبهم ومواصفاتهم من هي على شرط الجمال الأوفى عندهم وعند ممن يشابهونهم ويتوسلون بأشباه وسائلهم.
وسبب ذلك معروف لا ينبغي أن نستغربه ولا أن نحار في تعليله، فان الدواعي التي تدعو الرجال إلى المرأة أو تدعو المرأة إلى الرجل كثيرة غير الجمال في صفاته العليا، فمنها الذكاء، فقد تكون المرأة ذكية وهي قليلة الحظ من الجمال، أو غبية وهي أجمل من ترى العيون؛ ومنها العطف، فقد ينجذب الرجل إلى المرأة، العطوف وينفر من المرأة الشموس وهي سيدة النساء في جمال الوجوه والأجسام؛ ومنها المركز الاجتماعي، ومنها الرغبة الجنسية، ومنها الغرابة التي تستهوي الرجال حين لا تستهويهم المحاسن والأخلاق؛ ومنها التنافس على الغلب كما يتنافس الفرسان على قصبة وهي من سقط المتاع.
فإذا وصف الشعراء امرأة أو أحبوها فليس باللازم أن تكون هذه المرأة طرازهم الأعلى في محاسن النساء وشرائط الجمال بله الطراز الذي يتفق عليه جميع الناس، وتتلاقى عنده جميع الآراء، وتتوافى لديه جميع الفلسفات. وإذا قلنا إن الجسم الجميل هو الجسم الذي لا فضول فيه والذي يحمل كل عضو من أعضائه نفسه غير محمول على سواه، ثم رأينا ألف امرأة على غير هذه الصفة ممن أحبهم ملوك الذوق وأساتذة الفنون فليس ذلك بمانع صحة التعريف ولا بناقض صواب الرأي، لان (ملوك الذوق وأساتذة الفنون هنا) كالقاضي خارج
الجلسة، أو كالقاضي الذي بينه وبين المدعين قرابة واتصال.
وهذا بين الأوروبيين على ما عندهم من حرية وثقافة ذهنية ورياضة بدنية وعلوم صحية ومعارض يومية وتاريخية، فكيف بأعرابي في البادية يقولها كلمة عائرة ولعله لا يعني ما يقول!!.
قلنا في مقالنا السابق (بقية المذهب):
(لقد وصف بعض الأعراب نساء (محبوبات) فاستملحوا الضخامة ومدحوا الكسل وبطأ الحراك، وافتتن أميرهم بعذارى قال في وصفهن ما يقال في وصف الغيلان:
وظل العذارى يرتمين بلحمها
…
وشحم كهداب الدمقس المفتل
نعوذ بالله)
وكتب (القارئ) الفاضل في الرسالة يقول أن امرأ القيس يستحسن في المرأة ما يستحسنه الأستاذ العقاد النقاد ويستقبح ما يستقبحه وهو يقول في معلقته:
مهفهفة بيضاء غير مفاضة
…
ترائبها مصقولة كالسجنجل
. . . يعني امرأة دقيقة الخصر ضامرة البطن غير عظيمة البطن ولا مسترخية، وصدرها براق اللون متلألئ الصفاء تلألؤ المرآة.
فأمير الأعراب ونائب الأمة في دار الندوة الأستاذ العقاد في قضيتهما في الحسان سيان. . .)
فأحب أن يذكر (القارئ) الفاضل أن امرأ القيس قال أيضاً:
إذا ما بكى من خلفها انصرفت له
…
بشق. . . . . . إلى آخر البيت
وهذا ما ليس يقال في امرأة على ما وصف في البيت الذي استشهد به
وقال أيضاً:
إذا قلت هاتي نوليني تمايلت
…
علىَّ هضيم الكشح ريا المخلخل
وامتلاء الساق مع دقة الخصر ليس من الصفات المنتقاة في نماذج الجمال.
ثم نقض قوله حين عاد فقال، إن كان عاد أو إن كان قال:
وكشح لطيف كالجديل مخصّر
…
وساق كأنبوب السقي المذلل
ثم قال:
وتضحى فتيت المسك فوق فراشها
…
تؤم الضحى لم تنتطق عن تفضل
فهو يستحسن الكسل والتراخي، وكثرة النوم، والترامي بالشحم واللحم وليس ذاك مما يستحسن في رشيقات النساء
وقال امرئ القيس في غير هذه القصيدة:
إذا ما الضجيع ابتزها من ثيابها
…
تميل عليه هونة غير مجبال
كحقف النقا يمشي الوليدان فوقه
…
بما احتسبا من لين مس وتسهال
وأين هذا من الجسم الذي لا فضول فيه؟
فلو أن (القارئ) الفاضل الذكر هذا وما جرى مجراه من الشعر الذي قاله الشاعر أو نسب إليه لعلم أن صاحبنا في عالم غير عالم التعريف بالجمال المثالي أو المذاهب الفنية فيه، بمعزل عن أهواء الفنانين، ولعلم كذلك لماذا وضعنا كلمة (محبوبات) بين قوسين قبل أن نسمع منه مثل هذا الاعتراض، فأن وصف الرجل لامرأة يحبها ويستمتع بها غير وصف الفنان للجمال الخالص أو لصفاته التي تبلغ مبلغ الكمال، والتي تدركها القرائح معنى من المعاني كمعنى البيت والصورة والنشيد والتمثال.
ومصداق ذلك أن كاتب هذه السطور وصف امرأة محبوبة في رواية سارة:
) هي جميلة لا مراء. ليست أجمل من رأى همام في حياته، ولا أجمل من رأى في أيام فتنته وشغفه، ولكنها جميلة جمالاً لا يختلط بغيره في ملامح النساء. فلو عمدت إلى ترتيب ألف امرأة هي منهن لنظمتهن واحدة بعد واحدة في مراتب الجمال المألوف، ونحّيت سارة عن الصف وحدها. . . فمها فم الطفل الرضيع لولا ثنايا تخجل العقد النضيد في تناسق وانتظام، ولها ذقن كطرف الكمثري الصغيرة، واستدارة وجه، وبضاضة جسم لا تفترقان عن سمات الطفولة في لمحة الناظر؛ وبين وجهها النظير وجسمها الغضير جيد كأنه الحلية الفنية سبكت لتنسجم بينهما وفاقاُ لتمام الحسن من كليهما. . . وتكفل بها مدير معهد من معاهد التجميل الحديث لخفف شيئا من قوامها الرواح بين الربعة والطويل قبل أن يبرزها في معرض الرقص والرشاقة. ولو تكفل بها قهرمان القصر عند كسرى أو عبد الحميد لما ضاره أن يزيد فيها حيث ينقص زميله الحديث قبل أن يزفها إلى الشاهنشاه)
فالمرأة المحبوبة شيء والمرأة الموصوفة على مثال الجمال في معانيه المجردة شيء آخر.
وامرئ القيس لم يحبب قط امرأة على مثال الجمال، وإن كان قد وصف من النساء شمائل محمودة عند من ينظرون إلى ذلك المثال. ولعله فطن لهذه الشمائل بذوق الحاضرة وذوق الإمارة، لا بذوق الأعراب في عماية الجاهلية. ولو أنه تعمد أن يرسم للأنوثة مثالا موافقاً لمعاني الجمال بمعزل عن المتعة أو الرغبة الجنسية لأعياه المطلب، لتخلف الأوان وندرة الأسباب.
سألني سائل: أولا تكون المرأة إذن جميلة على شرط الفن والرياضة الحديثة إلا أن يكون وزنها قنطاراً أو دون القنطار؟
وجاوبنا الذي نطمئن به الكثيرين على عجل: كلا! قد تكون ووزنها قنطاران، إذا تهيأ لامرأة أن تبلغ من الطول والجسامة ما تزن به القنطارين في غير فضول واسترخاء.
وستتلو هذا المقال (حاشية على التفريع) نتم فيها ما ينبغي إتمامه من هذا البحث الذي لا فضول فيه!
عباس محمود العقاد
مائة صورة من الحياة
للأستاذ علي الطنطاوي
3 -
مجنون
أصبحت اليوم خاثر النفس لَقساً، فتركت عملي وركبت (الترام رقم 6) الذي يجوز بداري ثم يذهب فيخترق (الغوطة الشرقية) - حديقة الأرض - حتى ينتهي إلى (دوما). فنزلت على ابن عمٍ لي فيها طبيب، فلم ير أبلغ في إكرامي من أن يحملني في سيارته إلى (القصير) فيجمعني بإخواننا الكرام ساكني تلك الديار. ولم يكن الدخول إلى (القصير) سهلا ولا ميسوراً، وما كنّا نطمع أن يؤذن لنا به، فجعلنا نطيف بتلك الحدائق الواسعة الجميلة فما راعنا إلا القوم قد ملئوا الحدائق، خارجين إلى النزهة والعمل فجعلنا نكلم من نراه منهم من وراء الدرابزين فنسمع عجباً كما نرى عجباً. فمنهم من هو نائم على وجهه؛ ومنهم من قائم على رجل واحدة؛ ومنهم من يرسم في الهواء دوائر وهمية، ويكلم أشباحاً لا ترى؛ ومنهم من هو باك منتحب ثم لا يلبث أن يضحك حتى يكركر من الضحك. . . وما ظنك بسكان القصير؟
وكان أعجب ما شهدنا من العجب رجلاً عارياً إلا من خرقة تستر عورته، ولحية له طويلة عريضة تبلغ والله سّرته وتحجب صدره. حقيقة أقول لا مبالغة ولا مجازاً، وقد انتحى ناحية من حدائق (المارستان) ثم مشى فيها مقبلاً مدبراً متبوعاً عجلا، فقلت لابن عمي: تنح بنا عنه وتنكب طريقه، فربما بطش بنا. . . وإني لأرى جسماً قوياً، وعصباً مشدوداً، وما في كل من رأينا (أو ما رأينا فأننا نتحدث عن المجانين) من هو أظهر منه جنوناً، وأبدى حماقة. . .
قال: عجباً منك! هذا الشيخ فضل الحموي!
قلت: بل منك والله العجب. . . أتراني سائلاً إذا هشم أنفي وهتمت أسناني، أفعل ذلك الشيخ فضل الحموي أم الشيخ محمد المغربي؟ حسبي منه أنه مجنون. . . فعدّ بنا عنه!
قال: إذن يذهب سعيي باطلا، فما حملتك في السيارة وجئت بك إلى هذه الديار، إلا لأريك الشيخ فضل الحموي؟
قلت: دعني. فلقد رأيت مجانين كثيرين، شباناً ومشايخ، وأدباء وعلماء، وعاشقين
ومعشوقين، ولم يبق لي في رؤية مجنون أرب. . . وإنما غدا أربي في رؤية عاقل
قال: هذا هو الذي تريد. . . هذا رجل يتظاهر بالجنون، وهو أعقل العقلاء
قلت: أو يكون هذا؟ أئذا لم أجد في المدرسة والكلية عاقلاً والسوق والنادي أجده في (البيمارستان)؟
قال: نعم، تعال انظر
فأقبلنا نميل إليه. فلما رأى السيارة مقبلةً قال ما لا يفهم، وأشار بيديه وأبدى سيما المجانين، فنظرت إلى ابن عمي وابتسمت، فأشار لي أن أنتظر؛ ونادى الرجل باسمه، فلما عرفه هدأ، وقال له: هذا أنت يا فلان؟
قال: نعم. وهذا الشيخ. . . (وسمّاني)
فنظر إليَّ وابتسم، فظننت أنه قائل لي مقالة كل (عاقل) يلقاني: أين العمة واللحية والشارب؟ كأن الشيخ لا يكون شيخاً إلا بهذا! ولكن (المجنون) لم يقل شيئاً. فقال له ابن عمي:
ألا تعجب منه شيخاً حليق الوجه حاسر الرأس؟
قال: ويحك يا فلان! ألا تعلم أنها إذا اتصلت الأرواح، بطلت الأشباح؟
وأفاض في كلام مثل هذا بلغة صحيحة وإلقاء متزن، فقلت في نفسي هذا من (عقلاء المجانين) الذين ألف في أخبارهم أبو القاسم الحسن بن محمد النيسابوري رحمه الله، ولست آمن أن تدركه الآن جٌنته فيؤذينا، ووقفت حذراً. . . .
فلما انتهى قال له ابن عمي وقد أمتد إلينا الظلام ونحن في ظلال الأشجار
ألا تسير بنا إلى النور؟
فقال لنا وهو يضحك، وما رأيناه إلا ضاحكا:
لولا أننا هنا لقلت لكم (إن نوركم كاف) ولكن مثل هذا (النفاق) لا يقال هنا. . .
فقلت: ولمه؟ أولا ترى لنا نوراً؟
فقال: إن في كل كائن نوراً وجمالا، ولكن العيون المدركات قليل. . . إن الناس جميعاً يؤخذون بجمال القمر، ولكن الشمس لا يؤخذ بجمالها إلا من كان له عين تصبر على نورها. ولذلك كان الشمسيون من الناس (والتعبير له) أقل من القمريين وأندر؛ وهؤلاء هم
الكبار من الصوفية، فإذا جازوا مرحلة الشمس ونفذوا منها إلى منطقة السديم استوى عندهم جمال القمر وجمال النجم، واستوت عندهم الظلمة، والنور لأنهم بلغوا مرتبة الفناء في الموجد، فلم يبالوا بعد بالموجودات. . .
وتكلم في مثل هذا أكثر من ساعة كلاماً ما سمعت مثله ولا قرأته، وفسر آيات، وتمثل بأبيات، وذكر نظريات العلماء المحدثين حتى أدهشني والله، وكاد يمضي في كلامه إلى الليل لولا أن قرع الناقوس ليدخلوا فودعناه وقلت له: لقد استفدت منك
فضحك وقال: لا ترفع صوتك فيسمعك أحد
قلت: ولمه؟
قال: ولمه؟ أعاقل يستفيد من مجنون؟
وكان الحارس قد وصل، فلما رآه الشيخ فضل غمرني بعينه وعاد يقول ما لا يفهم، ويشير إشارات المجانين، فدعوت الحارس فسألته:
ما هو جنون هذا الرجل؟
قال: أما ترى؟ أما ترى لحيته وعريه؟
قلت: بلى، فماذا في العرى؟ أليس الرجال جميعاً والنساء على ساحل الإسكندرية وحمامات بيروت على مثل عريه؟ ألا يتكشف (الكشافة) دائماً؟ أما اللحية فقف في السوق وانظر كم ترى من لحية. فلم أمسكتم بهذا وحده دون أولئك؟
قال: هذا يقول بأن كل شيْ هو الله. أما هذا جنون؟ أما هو كفر؟
قلت: من حسن حظ الشيخ محي الدين بن عربي أنه مات قبل افتتاح مستشفى القصير!
قال: أنه يتكلم ساعات فلا يفهم عنه أحد
قلت: كذلك كل الفلاسفة وكذلك أكثر المعلمين. .
قال: ويسكت أحياناً يومين كاملين
قلت: هذا من العقل، هذا. .
فنظر إلي الحارس نظرة فهمت منها أنه يعجب مني كيف لا أدخل المستشفى وأكون من أهله! فأسرعت بالهرب قبل أن يقبض علي بتهمة الجنون. . .
(دوما)
علي الطنطاوي
الدين والأخلاق
بين الجديد والقديم
لأحد أساطين الأدب الحديث
الظاهر أن الأستاذ الغمراوي رجل حسن النية صادق السريرة. وقلت الظاهر لأني لا أعرفه؛ ولا أريد أن أتعرض لنقده ما يسميه المذهب الجديد، ولا للنزاع الثائر بين أنصار الرافعي وبين أنصار العقاد. ولو كان الأستاذ قد اكتفى بالنقد الفني وقصره على ذلك النزاع الفني لسلم من بعض الهفوات التاريخية والاجتماعية؛ فقد قال إن نزعة التجديد يرجع أولها إلى نحو ثلاثين سنة، وقد ذكر فيما ذكر من التجديد أخذ الآراء الأوربية، ولم يكتفي بذكر ما أخذ منها مما هو في باب الآداب، بل ذكر أيضاً ما أقتبس من النظم والمبادئ الاجتماعية. وهذا الوصف الشامل للتجديد لا ينطبق على نزعة بدأت منذ ثلاثين سنة، وإنما ينطبق على النزعة بوجه عام منذ جاء نابليون إلى مصر، ومنذ عهد محمد علي باشا وإسماعيل باشا، ومنذ أدخلت المطابع وأرسلت البعوث العلمية واقتبست القوانين المدنية، ونظمت المحاكم الأهلية التي صارت تحكم بغير أحكام الشريعة الإسلامية، وكثر نقل الكتب إلى العربية. والأستاذ الغمراوي يعيب على المجددين أنهم يريدون رفض بعض أحكام الشريعة، ويذكر كيف أن بعض الكتاب يحبذ منع تعدد الزوجات. ويقول الأستاذ أن للدين وحدة تامة فلا يجوز أخذ بعضه وترك بعضه. ويا حبذا لو أن الأستاذ كان قد فصَّل هذه الناحية من التجديد في مقال مستقل عن النزاع على التجديد في معاني الشعر والنثر، إذ ما صلة الذين قاموا بإنشاء المحاكم الأهلية وأحلوا أحكامها محل الشريعة الإسلامية، وما صلة الذين يريدون منع تعدد الزوجات ومنع الطلاق، بمعاني شكسبير والمتنبي وملتون وأبي العتاهية مثلاً، ولعل أكثرهم كانوا لا يهمهم النزاع الفني الأدبي مطلقاً. نعم إن الدين والأخلاق لها مظاهر في الشعر والنثر فكان ينبغي للأستاذ الغمراوي وقد حكم للمذهب القديم أنه قوام الدين والأخلاق، وحكم على المذهب الجديد أنه بؤرة الإلحاد والمجون، أن يثبت هذا الزعم فينفي عن شعراء المذهب القديم كل كفر وإلحاد ومجون، وينفي عن شعراء المذهب الجديد كل تدين وإيمان بالفضائل مستشهداً بأقوالهم من شعر ونثر فإن هذه هي الطريقة الفنية للمفاضلة بين المذهبين من حيث الدين والأخلاق. وإن لم تخني الذاكرة
فأن الأستاذ قد لخص المذهب الجديد في الأدب بأنه نزعة تغليب دين على دين، وإذا كان لهذا القول معنى فمعناه أن أدباء المذهب الجديد يريدون تغليب الديانة المسيحية على الديانة الإسلامية. فإذا لم أكن مخطئاً في هذا التفسير كان واجباً على الأستاذ أن يقيم الدليل على أن أدباء المذهب الجديد يريدون تغليب دين على دين، وقد نسى الأستاذ أن كثيراً من مظاهر الحضارة الأوربية الحديثة لا علاقة له بالمسيحية التي هي دين أكثر الأوربيين، أو لعل الأستاذ قد أراد أمراً آخر لم نفهمه. ولو رجع الأستاذ إلى العصر الذي كانت فيه النزعة الدينية المسيحية متغلبة في أوربا وهو عصر القرون الوسطى عصر التزهد والرهبنة والتقشف لعلم أن المحافظين من رجال الدين والكتاب كانوا يخشون على الدين والأخلاق من غزل العرب ومجون شعرائهم وقصصهم ومن حرية أفكارهم في المسائل الدينية والكونية، وكانوا يرمون الأدب العربي بالإباحية في الأخلاق، وكانوا يلومون الآباء الذين يرسلون أبناءهم إلى مدارس البلاد العربية كالأندلس وصقلية؛ فلم يكن عداؤهم للكتب العربية الدينية فحسب، بل كان عداؤهم لكتب الأدبية العربية والفكرية أشد. وموقف هؤلاء المحافظين من الأدب والفكر العربي كان شبيهاً بموقفهم من الأدب والفكر الإغريقي القديم. وهذه الحقيقة تنبه الأستاذ إلى أن الدولة العربية الإسلامية لم تلبث على الفطرة السليمة وعلى حالها من الأدب كما كانت في صدر الإسلام مثلا بل دخلها الترف وتفشت فيها لذائذ الحضارة وكثر المجون في أقوال الشعراء والكتاب وبقية أصناف المجون والإلحاد مخطوطة إلى عهد أن دخلت المطابع البلاد العربية الإسلامية. ولا احسب أن أهلها كانوا على فطرة يخشى عليها من تلك الكتب فأن حالة الأخلاق في عهد دخولها لم تكن أرقى مما هو موصوف في تلك الكتب إلا في أوساط محدودة معروفة بالنزاهة والعفة والاستقامة وصدق القول والعمل؛ وكان يضرب بها المثل؛ وكانت كالشامة البيضاء تنعت نفسها لوضوحها في الجلدة السوداء. ولا تنس أن البدو كانوا بطبيعتهم يكرهون الضوابط والروادع أية كانت، فسرعان ما حثتهم الحضارة ولذائذها على التحلل من روادع الدين. وقد بدأ المجون يعود إلى استفحاله بعد عهد قريب من صدر الإسلام، وبلغ أشده في الدولة العباسية، وكان مصحوباً في كثير من الأحوال بالكفر والزندقة والالحاد، وكان كل منهما في بعض الأحايين مستقلا عن الآخر، فقد كان بعض الملحدين من أشد الناس زهداً ومحافظة
على الفضائل كما كان المعري مثلا
يقول الأستاذ إن المذهب الجديد في الأدب الذي يقول عنه الأستاذ إنه بدأ منذ ثلاثين سنة خطر على الأخلاق والدين، فهل يستطيع الأستاذ أن يأتي بأبيات من شعر هذا المذهب الجديد في شناعتها كأبيات ابن الرومي النونية التي يقول فيها:
صوت يد العجان في العجين
…
أو صوت رجلي عامل في الطين
وهي أبيات قد أختارها له السيد توفيق البكري في كتاب (صهاريج اللؤلؤ) الذي ألفه كي يقرأه الناس رجالا ونساء وفتياناً وفتيات، والبكري كما يعلم الأستاذ الغمراوي كان شيخ السادة البكرية ورجلاً من رجال الدين والفضل ومن أدباء المذهب القديم، ولكنه لم يتحرج من إطلاع سيدة أو فتاة فاضلة على ما في كتابه هذا من المجون الشنيع. ولأن يعطي الأديب من أدباء المذهب القديم أي قول قاله شعراء وأدباء المذهب الجديد لأخته أو لفتاة من أقربائه لتقرأه؛ لأَصون لها ولأخلاقها من أن يعطيها كتاب صهاريج اللؤلؤ هذا إلا إذا طمس المجون قبل أن يقدم إليها الكتاب. وقد طبع الشيخ شريف جزءين من ديوان ابن الرومي في أحدهما أرجوزة مطلعها (رب غلام وجهه لا يفضحه) وفيها يصف طرق اللواط في أوضاع وأشكال مختلفة. وقد عنى الشيخ شريف بشرح لفظه ومعناه كما عني السيد توفيق البكري بشرح الأبيات النونية. والشيخ شريف كان مفتش اللغة العربية وأديباً من أدباء المذهب القديم، ولكنه لم يتحرج كما لم يتحرج البكري من شرح وطبع هذا المجون وإيضاح معناه كي يقرأه ويفهمها الفتيان والفتيات. فأي أديب من أدباء المذهب القديم يرى أن يعطي أخته أو أخاه الصغير هذا الكتاب، أو أن يطلعهما على قصيدة ابن الرومي أيضاً في (بوران). أو على ديوان أبي نواس أو على ما في كتاب الأغاني أو كتاب يتيمة الدهر للثعالبي من مجون لا تسمح أية دولة أوربية بنشره، بينما أدباء المذهب القديم يشرحونه ويطبعونه ويستحلونه في مجالس أنسهم ويضحكون تفكها به، حتى إذا جاء ذكر ما يسما بالمذهب الجديد وأثر الأدب الأوربي فيه أخذتهم رعدة الغضب وادعوا أن المذهب القديم عماد الأخلاق والدين، وأن المذهب الجديد بؤرة المجون والإباحية والإلحاد. إن المسألة بسيطة والأمر هين. نستطيع أن نطبع على الناحية اليمنى من صفحات المجلة ما نجده من مجون وإباحية شعراء المذهب القديم في العصور المختلفة حتى عصرنا هذا، وعلى هؤلاء
الأدباء أن يقدموا ما يستطيعون أن يعثروا به من أقوال أدباء المذهب الجديد لتطبع في الناحية اليسرى من المجلة. لاشك أن أدباء المذهب القديم يتهربون من مثل هذه المقابلة كل التهرب. وما يقال في كتب المذهب القديم الأدبية يقال أيضاً في كتب التاريخ. أنظر بالله إلى الأبيات التي زعموا أن مسيلمة الكذاب بعث بها إلى سجاح المتنبئة والتي فيها (وإن شئتِ. . . وإن شئتِ) كيف يستطيع أديب من أدباء المذهب القديم أن يطلع أخته أو بنته أو قريبة له من الفتيات على هذا الشعر؟
ثم أنظر إلى ذكر الفحش وقصصه ونظم الهجاء فيه شعراً تجد أن أدباء ما يسمى بالمذهب القديم في كل عصر حتى عصرنا هذا كانوا أكثر حظاً منه. ولا أعني جميعهم، ولكنهم حتى الأفاضل منهم قد وجدوا هذا الأسلوب من القول عادة صقلها الدهر وهون أمرها فأصبحوا لا يجدون خطراً على الأخلاق في نظم الهجاء فحشا ولا في التحدث عنه، ولكن الخطر كل الخطر هو تأثر الأدب العربي بنواحي القول كما وردت في كتب الأدب الأوربي.
وبعد فأي أدب أوربي يعنون؟ لقد تقلبت على الدول الأوربية عصور اتخذ الأدب في كل منها نزعة خاصة، ولكنهم إذا تكلموا عن الأدب الأوربي خيل للقارئ أنهم يعدون جميع الأدب الأوربي في عصوره المختلفة على طراز واحد وأنه مأوى المجون والإباحية والزندقة. أن عصور الأدب الأوربي تختلف اختلافا يجعل بعضها أقرب إلى بعض الأدب العربي منها إلى عصور أخرى من عصور الأدب الأوربي، فالأدب الإغريقي في سهولة معانيه وخيالاته أقرب إلى الأدب الجاهلي العربي منه إلى الأدب الرمزي الأوربي الحديث. والأدب الأوربي الحديث في حرية الفكر أقرب إلى الأدب العباسي العربي منه إلى الأدب الأوربي في القرون الوسطى. فإذا كان بعض الأدب الأوربي الحديث قد دعا بعض أدباء المذهب الجديد إلى إبهام الإيجاز والصور المتداخلة بعضها في بعض وإلى غموض الرمزية فقد ألف بعض أدباء المذهب القديم على هذه الطريقة في إبهام الإيجاز من غير أن يطلعوا على الأدب الأوربي. أنظر مثلا إلى إيجاز الرافعي في كتاب (حديث القمر) والكتب الأخرى التي كتبها، وكأنه لم يكتبها إلا لكي يثبت أنه يستطيع أن يزيد على معاني وصور أدباء أوربا والمذهب الجديد وأنه أغنى منهم بمعانيه كما أنه أغنى منهم بأساليبه اللفظية الفصيحة العربية؛ ولكن فصاحة لغته العربية لم تخف الحقيقة الفنية، وهي أن الرافعي
صاحب (حديث القمر) و (السحاب الأحمر) أقرب إلى أدباء الرمزية الأوروبيين منه إلى الرافعي صاحب كتاب (إعجاز القرآن). وإن بين أدباء المذهب الجديد من هم أقرب إلى الرافعي صاحب (إعجاز القرآن) وأقرب إلى أدباء العربية الأقدمين من الرافعي صاحب (حديث القمر) وأعني القرب في أسلوب التخيل وأسلوب عرض الصور الفكرية وكل صورة مستقلة غير متدخلة في أختها. فإذا أراد إذاً ناقد أن ينتقد المذهب الجديد أو الأدب الأوربي كانت الطريقة المثلى أن ينتقد ما يعيبه فيه على طريقة النقاد الفنيين فيبين الغث من السمين ويوضح أسباب حكمه على كل قول وكل أديب. أما أن يقول أن الأدب الأوربي كأدب المذهب الجديد فأسد المعنى والخيال ينبو عنه الذوق العربي وتمجه الفصاحة العربية، وإنه مباءة المجون والإباحية والزندقة، فقول من لا يريد أن ينقد ولا أن تقدر قيمة ما يقول قدراً صحيحاً، ولا أعني الأستاذ الغمراوي فان هذه أحكام شائعة. نعم إن بعض الأدب الأوروبي ولاسيما الحديث منه يحث أدباء العربية على بعض ما يخالف العرف والتقاليد الإسلامية، ولكن أليس في أقوال الشعراء العرب وأدبائهم في كل عصر أشياء كثيرة تخالف العرف والتقاليد والآداب والأخلاق الإسلامية كما أوضحنا بالشواهد؟
ونعترف أن في بعض الأدب الأوروبي الحديث ما يحث على الإلحاد، ولكن أليس في أقوال زنادقة الدولة العباسية وفي لزوميات رجل فاضل كالمعري مالا تسمح الحكومة بنشره لو أن أحد شعراء المذهب الجديد كان هو قائله؟ ولكن أقوال أدباء الدولة العباسية والمعري أقوال صقلها الدهر واعتادها الناس فلا بأس من أن يتفكه بها أدباء المذهب القديم في مجالسهم ولا بأس من نشرها وإيداعها مكتبات المدارس
وكما أن بعض الأدب الأوروبي أقرب إلى بعض الأدب العربي منه إلى عصور أخرى للأدب الأوروبي فكذلك بعض أدباء المذهب الجديد أقرب إلى أدباء المذهب القديم منهم إلى أدباء آخرين من أدباء المذهب الجديد، فأدباء المذهب الجديد اليوم أكثر حرية في القول واكثر نصيباً من الرمزية من أدباء المذهب الجديد الذين ظهروا منذ ثلاثين سنة
(قارئ)
جورجياس أو البيان
لأفلاطون
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 8 -
(تنزل (جورجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف، لأنها أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إِنجيلا للفلسفة!)
(رينوفييه)
(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة دائماً وتنتصر لأنها أقوى وأقدر من جميع الهادمين!)
(جورجياس: أفلاطون)
الأشخاص
1 -
سقراط: بطل المحاورة: (ط)
2 -
جورجياس: السفسطائي: (ج)
3 -
شيريفين: صديق سقراط: (س)
4 -
بولوس: تلميذ جورجياس: (ب)
5 -
كاليكليس: الأثيني: (ك)
ب - (متحديا سقراط) ماذا يا سقراط؟ أعندك حقيقة تلك الفكرة التي شرحتها عن البيان؟ أولا تعتقد أن الحياء قد أخذ جورجياس فلم يستطع أن ينكر أن الخطيب يعرف الخير والحق والجمال، عندما أضاف إلى أقواله أنه إذا أتاه من لا يعرف هذه الأشياء فانه سيعلمه إياها بنفسه؟ لقد نتج عن ذلك ما يحتمل أن يكون بعض تناقض في كلامه فاتخذت أنت من ذلك مسرة لك ورحت تشغل الغير بهذه الأسئلة المعسولة؟ ولكن أتصدق أن من الناس من لا يصرح بأنه يعرف العدالة وبأنه يستطيع أن يعلمها للغير؟ الحق أنه الذوق السقيم الذي قد طوح بالمناقشة إلى مثل هذه الأرض!
ط - يالك من ظريف يا بولوس! وهل نريد الأصدقاء والبنين لشيء غير ذلك؟ إنما نريدكم أيها الصغار لكي تقوموا أعمالنا وتصححوا أقوالنا عندما تتقدم بنا السن وتزل القدم! وها
أنت ذا هنا لترد زلتي أنا وجورجياس إذا ما أخطأنا في المناقشة لأن هذا هو واجبك. وأقول من ناحيتي أنك إذا وجدتنا غير مصيبين في الاتفاق على هذه النقطة أو تلك فإني مستعد للنزول على هواك إذا لاحظت شيئا واحدا. . .!
ب - أي شيء؟
ط - التقليل من هذا الإسهاب الذي بدأت به يا بولوس!
ب - كيف؟ أليس لي الحق في الكلام بإسهاب كما أشاء؟
ط - ليكونن عار عليك يا بولوس العظيم أن تحضر إلى أثينا - وهي البلد الإغريقي الفريد الذي يسمح للناس بأكبر قسط من حرية القول - فتعرف فيها بهذه الخاصة! ومع كل فضع نفسك موضعي!: ألا يكون من حقي - إذا رأيتك ترسل الكلام الكثير دون أن تجيب على أسئلتي -: أن أرثي لنفسي وأن آسف على عدم السماح لي بالرحيل دون سماعك؟ الحق إذا كان يسرك ما أخذنا فيه من قول بحيث ترغب في تنقيته وتصحيحه، فلتعد توّاً كما قلت إلى أية نقطة تشاء، ولتسائل أو فلتدعنا نسائلك كما فعلت مع جورجياس، بل ولتناقض أو لتتركنا نناقضك!، إنك تدعي بلا ريب أنك تعرف نفس الأشياء التي يعرفها جورجياس!؟ أليس كذلك؟
ب - بلى
ط - وأنت تدعوا مثله الشبان إلى توجيه ما يشاءون من الأسئلة إليك لأنك واثق من قدرتك على إجابتهم؟
ب - بالتأكيد!
ط - حسن! فأختر ألان ما يروقك سائلا أو مجيبا!
ب - هذا ما سأفعل!. أجبني. أي شيء هو البيان في رأيك ما دام قد لاح لك أن جورجياس مرتبك في طبيعة هذا الفن؟
ط - أتسأل عن أي نوع من الفنون هو في نظري؟
ب - بلى!
ط - إذا شئت الحق فأنا لا أعده فنَّا!
ب - وإذاً فماذا تراه؟
ط - أراه شيئاً جعلت أنت منه فنَّا في الرسالة التي قرأتها لك أخيراً
ب - وماذا تعني بذلك؟
ط - أعني نوعاً من التمرين والممارسة؟
ب - وإذا فالبيان في رأيك تمرين وممارسة؟
ط - نعم. إذا لم يكن لديك اعتراض!
ب - وعلى أي شيء ينطبق ذلك التمرين؟
ط - أنه يجلب نوعاً من اللذة والاستحسان
ب - ألا ترى إذاً أن البيان شيء جميل ما دام يجلب اللذة؟
ط - سنرى يا بولوس! أو قد أصغيت حتى الآن إلى رأيي في البيان كيما تقفز هكذا وتسألني عما إذا كنت أراه جميلا؟
ب - ألم أسمعك تقول إنك تعده نوعاً من التمرين؟
ط - وما دمت تعلق أهمية كبيرة على جلب اللذة، ألا تود أن تسبب لي قليلا منها؟
ب - إني لأبغي ذلك بكل سرور!
ط - إذاً سلني من أي نوع من أنواع الفنون هو (الطهي) في رأيي؟
ب - وإني لأسائلك أي فن هو الطهي؟
ط - أنه ليس من الفن في شيء يا بولوس!
ب - إذاً فأخبرني ما هو؟
ط - إنه نوع من الممارسة والتمرين!
ب - وعلى أي شيء ينطبق؟
ط - إنه يجلب اللذة والاستحسان يا بولوس!
ب - وإذاً فكلا البيان والطهي واحد؟!
ط - كلا، ولكنهما قسمان في مهنة واحدة!
ب - وأية مهنة تريد أن تذكر؟
ط - قد يكون من الخشونة والغلظة أن نصرح بالحقيقة يا بولوس. وإني لأتردد في الإفضاء بها لوجود جورجياس! ذلك أني أخشى ألا يتصور غير رغبتي في الهزء به
والسخرية منه. إنني لا أدري إن كان البيان الذي يمتهنه جورجياس من النوع الذي أعرفه أم ليس منه، لأن مناقشتنا منذ هنيهة لم توضح لنا قط فكرته عنه. ولكن ما أدعوه أنا بالبيان ليس إلا قسما من شيء ليس بالجميل على الإطلاق!
ج - أي شيء ذاك يا سقراط؟ تكلم دون أن تخشى إساءتي!
ط - حسن يا جورجياس: فأني أعتقد أنه عمل لا يحتاج إلى شيء من الفن، ولكنه يتطلب فقط ذهناً فطناً جريئاً وقادراً بالطبع على الاتصال بالناس. وأساس هذا العمل كما أرى هو: الملق والرياء، ويشمل الملق أقساماً كثيرة الطهي أحدها، ويعد البعض هذا الأخير فناً ولكني أراه مجرد تجربة وتمرين. كما أرى بالمثل أن البيان والتزين والسفسطة من أقسام الملق كذلك، فكأننا لدينا أربعة أقسام متصلة بأربعة موضوعات
فإذا شاء بولوس الآن أن يسألني فليفعل لأني سأبين له من أي أقسام الملق هو البيان في رأيي، إذ هو لا يتصور أني لم أجبه بعد عن هذه النقطة، وهو يلح فقط في سؤالي عما إذا كنت أراه جميلاً! ولكني سوف لا أخبره إن كنت أعد البيان جميلاً أو قبيحاً قبل أن أجيبه: أي شيء هو؟ وإلا فلن يكون كلامنا منطقياً يا بولوس! وإذاً فسلني - إذا كنت تريد أن تعرف - أي قسم من أقسام الملق هو البيان في عُرفي؟
ب - إني لأسائلك عن إي قسم هو؟
ط - أترى ستفهم إجابتي؟ إن البيان عندي صورة ومثال لأحد أقسام السياسة!
ب - وماذا تعني بذلك؟ أتريد أن تقول أنه جميل أم قبيح؟
ط - أريد أن أقول إنه قبيح لأني أسمي قبيحاً كل ما هو رديء! ما دام يجب أن أجيبك كما لو كنت تعرف ما أريد أن أقول
ج - وأنا بالمثل لا أفهمك وحق زيوس يا سقراط!
ط - لست أعجب من ذلك لأني لم أشرح بعد قولي! ولكن بولوس شاب متحمس!
ج - فلتدعه ولتخبرني كيف تستطيع أن تقول أن البيان صورة ومثال لأحد أقسام السياسة!؟
ط - سأحاول إذاً أن أبين أي شيء هو البيان في رأيي، فإذا لم يك على ما أعتقد فليناقضني بولوس: أهناك من غير شك ما يسمى بالجسد وما يسمى بالنفس؟
ج - بلا تناقص
ط - ألا تعتقد أن لكل من هذين حالة تدعى (صحة)؟
ج - بلى
ط - وقد تكون هذه الصحة ظاهرية فقط وليست بحقيقية! أريد أن أقول إن كثيرين ممن يلوح أنهم ذوو جسم صحيح ضعاف في صحتهم، وعسير على غير الطبيب أو مدرب الرياضة البدنية أن يتبين ذلك؟!
ج - هذا صحيح
ط - وأدعي أنه يوجد في النفس والجسد بالمثل ما يجعلهما يلوحان في حالة جيدة بينما هما ليسا كذلك؟
ج - إنك تقول حقَّاً
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
السلطتان الروحية والزمنية
كما يراها الإسلام
للأستاذ عباس طه
كانت السلطة الزمنية والسلطة الروحية - ولا تزالان - في تقدير الإسلام من أخص أوضاعه ومميزات أسراره
والسلطة الروحية هي التي تنظم علاقة الإنسان بربه في عباداته ومعاملاته الظاهرة والباطنة، وتخضع ناموس المشاعر وقوانين القلوب لذلك السلطان القاهر الذي له الهيمنة على الإنسان في شتى مناحيه
والسلطة الزمنية هي التي تنظم علاقة الإنسان بالإنسان وترسم لتلك العلاقة حدوداً في المعاملات بشتى ملابساتها وتتفرع عن هذه السلطة سلطات ثلاث: السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية
كانت هاتان السلطتان متلازمتين في الإسلام، فهما ملاك هذا الوجود وقطب رحاه، وهما اللتان أقام منهما حارساً على بناء هذا المجتمع أن تنهار أسسه وتتداعى نظمه؛ ذلك الإسلام في مناعته وقوة حياطته وما كفله في أطوائه من تلمس أقوى العوامل إنهاض هذا المجتمع حتى يظل باقياً يؤدي رسالته ويذيع في البشر أمانته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. وبدهي أن الإسلام دين روحي زمني ينتظم في أبلغ أوضاعه عملي الدنيا والآخرة، فهو بطبيعة وجوده مصدر يصل بين حياتي المعاش والمعاد، ويكل إلى المضطلعين بأعباء السلطة الزمنية أن يستمدوا قوانينها ومبادئها وأحكامها من السلطة الروحية، ضرورة أن السلطة الروحية قد فرضت الفروض ورسمت الحدود في آي الفرقان بما يجمع تراثاً خصباً صالحاً حين ترجع أليه الرسل ومن بعدهم خلوفهم. من أجل ذلك رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمد أحكام السلطة الدنيوية من السلطة الدينية لأنهما توأمان لا يمكن ألبتة الفصل بينهما إلا بتحكم الطغيان الجائح فيهما فقد درج الخلفاء الراشدون والصحابة من بعده صلى الله عليه وسلم على تطبيق الجزيئات الفرعية والمسائل الموضعية التي لم ينص عليها قانون المسائل الكلية وإن شملها بالقواعد العامة المندرجة في أطوائه، وذلك يكون بالمقارنة والاستنباط وملاحظة المفاهيم العامة والمآخذ المطلقة ورد
الفروع إلى أصولها. ومن هنا كان اصل القياس منبعثاً من منابع ثروة التشريع الإسلامي حتى لا تشذ الجزئيات عن كلياتها، وحتى لا تبطل في الأرض حجج الله وبيّناته، وحتى ينتظم التشريع الإلهي حيوية تلك المجموعة الشمسية، ومن ذلك كان الإجماع القطعي من الطرائق العملية، حكمه في إثبات الأحكام الفرعية وتحقيق النظريات الفقهية حكم الكتاب والسنة والقياس مع الفارق المرسوم بين هذه الأصول الأربعة قوة وضعفاً، وفي توجيه النصوص الروحية أو الزمنية الصرفة وما كانت مزيجاً منهما
لذلك لما كان الإسلام دين تشريع وهداية كان تطبيق الأحكام على الناس حسب مقتضيات الأحوال ومناسبات الأسباب والعلل، فمن المتعذر أن يؤخذ الناس بأحكامه طفرة واحدة ضرورة أنهم لم يمرنوا على مثل هذه الطفرات في أبان ظهوره خصوصاً ما كان متعلقاً منه بأمور لم يكن لهم بها عهد ولا ممارسة، فكان بديهياً أن يحمل الدين الإسلامي في أطوائه تينك السلطتين: السلطة الزمنية والسلطة الروحية، لتكون له المكنة مجتمعة من تنظيم حياتي المعاش والمعاد عند معتنقيه، وإقامة المجتمع على مناهج لا عوج فيها ولا أمت حتى تكون طريقاً إلى الحياة الأخرى في أسعد غاياتها وأرفه نهاياتها. وإلا فلو أغفل الإسلام تلك السلطة الزمنية وبقى لا يحمل إلا السلطة الروحية لكان دينا كهنوتياً في مراميه، ولأجفل الناس عنه إجفالا يمكن لهم في الفوضى وسوء المنقلب، ولتراخت الهمم وتخاذلت العزائم وأصبح المسلمون شيئاً لا يحده قانون الاجتماع ولا تعرفه نواميس البشرية
كذلك لو أغفل الإسلام السلطة الروحية وظل مستمسكا بالسلطة الزمنية لكان مزيجاً من أخلاق متدافعة وعادات متناقضة، ولكان قصارى جهد معتنقيه أن يخضعوا لنواميس هذا المجتمع في علله وأوصابه وتدافع أسبابه، وأن تكون الغلبة فيهم للقوي العاتي، وأن توجد الفروق بين الطبقات والأسر والقبائل والبطون قلة وكثرة وقوة وضعفاً وعزة وذلة، والأشياء ونقيضها، فلا يعدو أن يكون كالشريعة الرومانية أو الفقه الروماني ارتحلت صولته وبقيت محنته وسقطت هيبته وزالت روعته، ثم بعد هو لا يعدو أن يكون بين الأجيال المتلاحقة أنباء قصصية ونظريات فلسفية أفلاطونية، تعالى الإسلام عن ذلك علواً كبيراً
من أجل ذلك مشت السلطة الزمنية في الإسلام بجانب السلطة الروحية في نظام الحكومة على معنى أن نظام الحكومة كان مستهدياً في جميع أدواره بهدى السلطة الروحية، وكانت السلطة الزمنية أساساً من الأسس السماوية التي جاء بها الكتاب لترسم الحدود وتقيم المعالم وتشعر الحاكمين والمحكومين بتبعاتهم كل في حدود عمله، وتقوم على رعاية الأنظمة البشرية في المعاملات المختلفة سواء منها ما كان متعلقاً بأحوالهم الشخصية أو بالمعاملات المتبادلة بينهم القائمة على البيع والشراء وما يلحق بهما حتى في الحكومات التي لم يكن لها لون ديني بالمعنى المفهوم. وكثيراً ما لجأ الملوك والأمراء في عهود سابقة إلى حملة الشريعة وحماة الدين إذا عميت السبل عليهم في المعضلات وحجبتهم الجهالة المطلقة عن الوصول إلى شاكلة الصواب، يتعرفون منهم المنهاج الصالح لشكل الحكومة وترسيخها على أمتن الدعائم حتى تبقى تلك الحكومة بما تستمده من هدى الفرقان محتفظة بهيبتها وجلالها ومحبة الشعب لها، لأن الشعب إذا أستيقن نزاهة الحكم وتوزيع العدالة بين الأفراد بالقسطاس، المستقيم وقتل روح الأثرة، والاستجابة إلى داعية القربى والمصاهرة، والتفرقة بين العمال الموكلة بهم خدمة الجماهير ورعاية مصالحهم في فرض الجعالات وسن الإتاوات وتغليب عوامل التشهي على أي عامل آخر، وسم خصومها بميسم الخيانة العظمى، واختلاق الأكاذيب عليهم، وبث عوامل الشكوك والريب في نفوس الجماعات في أولئك الخصوم وتأليب الأوشاب والدهماء على منافسيهم - اتخذوا من تلك الحكومة مثلاً صالحاً وأحلوها من قلوبهم محل الشغاف، والعكس بالعكس
حمل الإسلام فيما حمل أسمى المبادئ مبدأ الشورى لتكون أساس الحكومة الصالحة ودعامته، تتلاقى عنده سائر الرغبات والأماني، لأن الشورى في أبسط أحكامها خير من رأي الفرد، فهي وليدة آراء مستخلصة من قوة الجماعة لا يراد بها غير إسعاد المجموع وإشعاره بمبدأ العدالة والمساواة حتى يظل آمناً في سربه حصيناً في أغراضه ومراميه، وإن لم تكن الشورى القائمة بيننا الآن في الشرق والغرب هي التي تعنيها مبادئ الإسلام فالشورى التي تعنيها مبادئ الإسلام هي المستخلصة من قوة الجماعة كما قلنا ليس فيها أثارة من تشيع الهوى أو أخذ بنحيزة أو إصغاء إلى ضغن في سائر مرافق الدولة
من أجل ذلك نرى فقهاء القانون الدستوري في حواضر أوربا يقيمون النظريات الصادقة
على فشل الحياة النيابية في الأمم المتحضرة في عصرنا الراهن، وعجز الدستور بأحكامه عن أن يخلع على الناس خير الأشكال يقيمون عليه دعائم حياتهم وأسس وجودهم. وكثيراً ما تحاكم المسلمون في صدر الإسلام إلى الكتاب والسنة فما ضلوا في حياتهم وما حادوا عن الجادة الواضحة قيد أنملة، لأنهم اطرحوا دواعي النزوات واستجابوا دواعي الإخلاص لله في السر والعلانية فمكن لهم في الأرض وخضعت لسلطانهم شعوب وقبائل
قرر الإسلام السلطتين الزمنية والروحية معاً فلا يمكن فصل إحدى السلطتين عن الأخرى لأنهما متلازمتان في وجودهما.
فالسلطة الزمنية ترسم شكل الحكومة ومقاصدها المختلفة، وتؤسس الأنظمة المتنوعة لشتى الأفراد والأسر والجماعات والقبائل والأمم، وتضع أحكام الحرب والسلم وسياسة القضاء والإدارة ونواميس الاجتماع؟ ثم هي تنساب بعد إلى الأحوال الشخصية المتعلقة بذات الإنسان فتنشئ علاقة زوجية صالحة بين الرجل والمرأة وترتب عليها حقوقاً قبل المرأة وحقوقاً قبل الرجل، ثم تتناول أحكام الإرث فتوزع الأنصباء من تركة الميت على ذويها توزيعاً قائماً على أدق أنواع الرعاية وأحكم مراميها، ثم تتعهد الحاكمين بالوصايا الجامعة حتى لا يندوا عن شريعة الحق ولا تصغي قلوبهم إلى شوائب الهوى، ثم تهيب بالمحكومين إلى السمع والطاعة فيما أمر الله، وبهذا التساند بين الهيئتين ينتظم الأمة والحكومة عدل قائم على الخلاص المتبادل وتسودهما روح طيبة في مرافق البلاد وحيويتها
لقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلوفه من بعده في يديه بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية فأقام بهاتين السلطتين خير حكومة من حكومات الأرض في تاريخ البشرية، وأسس للإنسانية العامة أفضل المناهج في الحكم حتى فاضت القلوب باليقين الراسخ والطمأنينة الشاملة، ولا أدل على ذلك من أقوال الرسول وأعماله وما ينزل به الملك من الآيات منجمة بحسب الوقائع سواء أكان ذلك متعلقاً بأمر من أمور المعاش أم المعاد إذا استثنينا بعض مسائل تقليدية تافهة لا يتصل وجودها بقانون الحكومة أو الاجتماع، ثم درج من بعده خلوفه على قدمه صلى الله عليه وسلم فكانوا نعم الخلف لنعم السلف. وناهيكم بعمر الفاروق الذي كثرت على يديه الفتوح الإسلامية مؤسسة على الكتاب والسنة وهدى الرسول الأعظم، فاستدام بذلك القاموس السماوي أصلح الطرائق في أنواع
الحكم وأهدى السبل في إسعاد الأفراد والجماعات والأمم، ولا يزال الإسلام يذيع في الناس رسالته متعلقة بالسلطة الزمنية إلى يومنا هذا، فهو يعني بنشر هذه السلطة ألا توجد فروق موهونة ذات أثر سيئ في كيان الشعوب ووجودها على معنى أنه يريد التوحيد بين الأمم في الأخلاق والعادات وأن يسودها نوع من المعاملات صالح يوحد بين مرافقها ويجمع بين شتاتها وان اختلفت لغة وإقليما وترتب على ذلك الاختلاف تباين في العادات ضرورة أن تلك الأمم المتخالفة لغة وإقليما لو خلت من تطبيق السلطة الزمنية وهيمنتها على مرافقها لكانت لكل أمة ندحة أن تسن لها تشريعا إسلاميا ينشئ قانون شكل الحكومة وأنواع المعاملات، على حين أن الجميع يدينون بالسلطة الروحية ويؤمنون بحياة المعاد في قرارة نفوسهم.
وهذا من غير شك من شأنه أن يفت في عضد المسلمين وأن يوتر ما بينهم من صلات وأن يجعلهم خاضعين لأحكام قوانين وضعية لا تثبت صلاحيتها لحكم الشعوب إلا بمقدار ما تتوارى عيوبها وأخطاؤها، فإذا دلت التجارب على فساد أحكامها وعقم نتائجها فما أسرع العدول عنها وأن تصير في تراث الماضي البغيض
أما تلك الشريعة السماوية فهي شريعة الخلود والبقاء لأنها جمعت بين حلقات من الزمن دابر وحاضر فوضعت لكل عصر وجيل أحكامه وطرائقه فكانت شريعة الإسلام خير الشرائع وأمثل القوانين
وغني عن البيان بعد هذا التقرير أن الذين يقولون بضرورة فصل السلطتين وبالتالي فصل الدين عن السياسة قد جهلوا حقائق الإسلام أو على الأقل تجاهلوا نظام الحكم فيه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد خلوفه من بعده، أولئك الغر الميامين الأطهار الذين حكموا دينهم في الدولة فسادوا لأنهم قضوا بهذه السياسة العالية أوطار الأفراد والجماعات وحققوا لهم كل رغبة صالحة ثم اجتاحوا لوثة الوثنية ومستهجن العادات في عهود الجاهلية
ولعل النمط الذي جرى عليه توزيع الزكاة والصدقات وإقامة الولاة في الدولة ورسم الحدود ووضع الخطط التي ينتهجونها في أمثل حكومة عادلة بواسطة برامج تكشف لهم حقيقة حكم الشعوب الداخلة في الإسلام وأخذهم بالهوادة في موضعها وتيسير الأمور عليهم حين لا يضيق عنهم التيسير ونوع معاملة أولئك الولاة للذمي والحربي والمدى الذي توزع به
السلطات بين شؤون الرعية آية الآيات على أن الإسلام في حقيقته لا يعرف الفصل بين السلطتين، لكن قد تغلغلت المدنية الآرية في الشرق فانطمست معها الحقائق وغابت السلطة الزمنية للإسلام بتضافر شتى العوامل مما سنكشف عنه في أعداد تالية إن شاء الله
عباس طه
المحامي الشرعي
حرمة البيان
للأستاذ عبد المنعم خلاف
- 2 -
لا تزال في نفسي بقية من هذا الحديث، هي حديثي عن واجب الأدباء في أن يكونوا مخلصين لفنهم وأنفسهم فيصنعوا المقالة الأدبية كما يصنع المهندس بيتاً لنفسه يعيش فيه، يري فيه ويرى له الناس أنه مأواه وحصنه وعش أطفاله.
حينئذ سيلمس القارئون نبضات قلوب الكتاب في الألفاظ كأنهم يضعون أيديهم منها على أجسام حية. . . وحينئذ سيعز على الكتاب أن يرسموا صورا بأيديهم ثم يدوسوها بنعالهم. . وأن يخلقوا خلقا جميلا ثم يئدوه ويدفنوه. . .
فمن حرمة البيان أن يعيش فيه أصحابه ولا يتركوه ألفاظا خربة كالتماثيل الجامدة القائمة من غير روح الحياة.
أجل! إن صنع الألفاظ أكبر مسئولية من صنع التماثيل والدمى والصور، يحتاج إلى أن ينطق بها صاحبها ويفعل ما ينطق. فإذا خص أديب الطبقة الفقيرة برعاية قلمه فواجب أن يخصهم برعاية جيبه. . .
وإذا أكثر من أدب القوة فليكثر على الأقل - من مواقف الرجولة والبطولة في محيطه
وإذا أدمن على تصوير الجمال فلا أقل من أن يكون نظيف النفس والثوب مهندم المظهر بقدر الإمكان. .
وإذا أكثر في أدب النفس فحذار أن يخالف على أمره فيقذف من حالق وتهوى به الألسنة والأقلام في مكان سحيق، ثم يرجم برجوم من ألفاظه هو. .
وهكذا يعيش الأديب الحق كما تعيش دودة القز لعمل القز ثم (تموت) في صميم ما صنعت لتبعث منه خلقاً آخر: فراشاً جميلاً طائراً على الأزهار. . . وكذلك يبعث الأديب الصافي بعد موته روحاً رفافاً على الأرواح. .
أريد وأتمنى أن يعيش الأديب المبين دائماً بصميم نفسه التي يرسمها في صحفه ولا يدعها تفارقه لحظة. . .
فالذين يواجهون الحياة دائماً بنفوسهم وبمثلها العالي وبوسيلتها إليه وإيمانها به. . . هؤلاء
هم الذين يتركون آثارهم ويشقون طريقهم ولو في الصخور. . . لأنهم ألحوا على جبهة واحدة في الحياة، ولم يتخذوا لأقلامهم سبيلا عوجاء؛ فكان من اللازم المحتوم أن ينفذوا من السدود، ولو كان مبلغ آثارهم قطرة واحدة متكررة دائبة كما يقول إنجيل برنابا ما معناه: القطرة الصغيرة المتكررة تشق الصخرة الكبيرة أو تترك فيها آثارها
والأديب المخلص لمثاله العالي الذي يصوره لا يتعب دارسيه في تطبيق حياته على آرائه، ولا يحملهم على الإسراع بالشك في تلك الآراء حين يرونه في حياته الخاصة بعيداً عنها مكذباً لها ولا يحملهم كذلك على رجمه بألفاظه كما رجم حسان بن ثابت بأبياته في الشجاعة إذ كان جباناً، وكما رجم أبو العتاهية بأبياته في الزهد إذ كان بخيلا، وكما رجم البحتري بأبياته في الجمال إذ كان قذراً، وكما رجم المتنبي بأبياته في الحكمة إذ كان أخرق وإن كان قد كفر عن جرمه هذا بإسراعه إلى تلبية نداء شعره حين ذكره غلامه ببيته: الخيل والليل والبيداء. . . الخ. وقتل دفاعاً عن حرمة بيانه، وكتب بيته ذاك بدمه بعد أن كتبه بمداده. . .
فأمثال من ذكرنا من الأدباء حكم عليهم التاريخ ببقاء ألفاظهم خربة من نفوسهم. ولكن ما الفائدة من أن أقول قال فلان كذا. . . بينما تاريخ فلان هذا يقول لي كذب صاحبك! لا جرم أن تطير هالة الخيال إذا رُئي المثال، وأن يدخل البيان إلى النفس في استحياء وخجل تكاد تُزْلقه عيون الشبهات!
فالخلود الحق للأديب أن تعيش نفسه في نفوس قارئيه مع كل كلمة من كلامه تملؤها وتشرحها وتشير إلى النموذج الذي حققته الحياة. . .
فليحذر الأدباء أن يحكم على ألفاظهم رعاة الإنسانية الذين وضعت الأقدار في أيديهم موازين الحكم والنقد والاعتبار كما حكم محمد رسول الله على أمية بن أبي الصلت أنه (قد آمن شعره وكفر قلبه)
أنا بالطبع في دنيا غير دنيا أكثر الأدباء التي يعيشون فيها ويأخذون منها أفكارهم. . . أناديهم من مكان بعيد. . . ولكن ما حيلتي والحقائق الكبرى في الحياة هي التي توحي بذلك. . . الإيمان والحق والخير والجمال والحب والقوة، تلك المعاني التي حملها وحدها الرجال الأمهات. . .! الذين ولدوا الإنسانية وعاشوا لها وعاشت في نفوسهم وتقاليدهم. . .
ولم يخلد من الأدباء بل من الناس جميعاً إلا خدام هذه الحقائق مجتمعة أو منفردة. وخدمتها لا تكون أول ما تكون بألفاظ وأناشيد. . . وإنما بالنفس! ومعنى خدمتها بالنفس أن تفقهها وتراها رأى العين أنها أعمدة السموات والأرض فتلوذ بها وتعيش معها دائما، ثم تخلقها هي مرة ثانية بالقول الجميل أو اللحن الجميل أو الرسم الجميل. . .
إني إنسان سائر مع الطبيعة. . . أستحي من وجوهها الصادقة أن أمر عليها بوجه كاذب. . . وإن صداقتي لها أمر ثمين عندي أثمن من صداقة الناس. . وإني أستحي من الجماد والنبات والحيوان أن أكون أقل منه صيانة لقانون الله بارئي وبارئ الفطرة. . . والتناسق والنظام يحتمان عليَّ أن أسير في مواكب الطبيعة على قدم واحدة وموسيقى واحدة وإشارة واحدة. . .
لماذا يكذب الإنسان وحده؟! إن النحلة لا تخرج علقما. . . والحية لا تقبِّل الخدود. . . والحنطة لا تنبت عقارب. . . والنار تحرق دائما. . والماء يغرق دائما. . .
إن كل شيء صادق في الدنيا فلماذا نكذب نحن؟!
عجبا أعجبه معك يا أبا العلاء حين تسأل عن النجوم:
وتكذب؟! إن المين في آل آدم
…
غرائز جاءت بالنفاق وبالعهر
نكبة الأدب هي التزوير فيه: تزوير النفس وتزوير الحياة حتى تستحيل إلى خيال شارد. .
لماذا يتغزلون وهم لا يحبون؟ ولماذا يمدحون وهم يكرهون؟ ولماذا يتظرفون وهم ثقلاء؟ ولماذا يتحمسون وهم خونة جبناء؟ ولماذا يفخرون وهم ناقصون؟ ولماذا يسودون الحياة في وجه الناس وهي بيضاء، ويبيضونها وهي سوداء؟ لماذا يبلبلون قلوب الناشئين ويبذرون فيها بذور الشك في الحقائق الثابتة التي لا يمكن الدنو منها والحكم عليها إلا بعد الامتلاء والانتهاء من العلم والدين والفن وتجارب الحياة؟
أكل هذه الفتنة القول والقوافي والأسجاع والنكات والشهرة؟!
أتت علل المنون فما بكاهم
…
من اللفظ الصحيحُ ولا العليلُ
كلا بل ضحكت منهم الألفاظ وشيعتهم ساخرة يا أبا العلاء!
إن الخواطر لا تنتهي، وإطلاقها ينتهي بعقول أصحابها إلى الجنون. . . وحرية الأفكار ليس معناها حرية الطباع، والحرية الفكرية معناها تقديم مقترحات ضد بعض الأوضاع
والتقاليد التي يرى ناقدها أنها فاسدة ولكن في عرض جميل. . . لا تقديم خواطر تهجم على حق أو تجرح فضيلة. . .
ويا ويل من يقع قلبه فريسة لأدب الأدباء المزورين! إنه لا يتيقظ إلى أنهم متناقضون متهافتون إلا بعد فوات الأوان. . . بعد أن ينطبع ذهنه على قبول الخيال الناقص والكاذب ويقئ الحقائق ولا يهضمها. والأدباء المزورون أهل شطحات، ينسون فيها كل ماضيهم وآرائهم فيناقضون أنفسهم مناقضة فاضحة إلى حد أن يحكموا على أنفسهم أحكاما قاسية مسقطة لعدالتهم الأدبية وهم لا يشعرون
وهم لا يصدرون آرائهم عن وجهة واحدة في الحياة، ولذلك تراهم (في كل واد يهيمون) وليس لهم مذهب ورأي ذو سلطان له مدرسة وتلاميذ يتشيعون له ويعيشون لنشره وشموله ولو أقتصر كل منهم على المتح مما في نفسه من منابع الإلهام وعلى رصد مخلوقات قلبه، ولم يتكلف نظم قول لا يؤمن به ولا يحسه حياً في نفسه، إذاً لظفرت الآداب بكنوز من دفائن القلوب، ولأحس القارئون حين يقصدون إلى فصل أدبي، أنهم قادمون على معرض جميل من معارض الحياة لفنان صادق. . .
فواجبهم أن يستحضروا الجد ويقظة الدرس والتحصيل لما في هذا المعرض من آراء وأرصاد ورؤى وفكاهات وعضات قنصها ذلك الفنان الصادق من خواطره وإلهامه ليقدمها للناس على أنها نتيجة التقائه بالحياة. . .
ومجتمع الرأي: أنني لا أومن بالأدب ولا أعترف بحرمة البيان - ذلك الجانب المقدس في الإنسان - على أنه تسلية وتزجية فراغ تقصده النفس في غير إجلال، وتلعب فيه الأيدي بالأقلام لعب الأرجل بالكرة. . . وإنما أُومن به على أنه - في مجموعه - معرض للآراء المصححة لأغلاط الحياة، وللمشاعر النبيلة من حياة القلوب، وللموسيقى اللفظية التي تساعد على خلق جو روحي أثناء القراءة
وأختتم هذا الحديث بإيراد أقصوصة تمثيلية قرأتها في بعض الآثار اليهودية، وهي تمثل حرمة البيان وجنابه العظيم:
قيل أنه لما فرغ الله من خلق الدنيا قال لأحد الملائكة:
أنظر هل ترى في السماء والأرض والماء والهواء نقصاً؟ فنظر ثم عاد فقال: لا ينقصها
إلا شيء واحد يا رب، هو الكلام الذي يبين ما فيها ويتحدث عنها. فخلق الله ذلك النوع الممتاز!
(القاهرة)
عبد المنعم محمد خلاف
حواء
ديوان شعر طريف في المرأة يصدره الأستاذ الحوماني وتقدم الرسالة منه بضعة نماذج لقرائها قبل صدوره في مأتي وجه ثمنه عشرون قرش صاغ قبل صدوره ويطلب من إدارة الرسالة
دموع قيثارة
يتصبَّاني من الروض إلى
…
وجهكِ الفاتن أرضٌ وسماءٌ
الثرى عينٌ وخدٌ وفمٌ
…
والسما نورٌ وعطرٌ وغناءٌ
يستظلُّ الزهر أفياَء المنى
…
والمنى تطغى عليه الْخُيَلَاءُ
فتمجُّ الشمس في أعطافها
…
خمرة نكرع منها ما نشاءُ
يتصباني إلى عينيكِ من
…
روضتي غصنٌ وعصفورٌ وماءٌ
يتغنين فيملأنَ فمي
…
ضَرَباً تغرف منه الندماء
يا لها قيثارة، ملءُ يدي
…
من مآقيها دموعٌ ودماء
خفقت بين يديها كبدي
…
فجثت بين يديَّ الشعراء
بعض كياني
ألهميني سرَّ عينيكِ وما
…
يعتريني كلما أبصر ثاني
كم تساءلتُ ونفسي عنهما
…
وتحرّيتُ شعوري وبياني
فإِذا زهرهما ملءُ فمي
…
وإذا عطرهما ملءُ جناني
وإذا السرُّ الذي أنشده
…
فوق ما يشعر قلبي ولساني
ربما ألهمني سحرهما
…
روعةً تملأَ بي كل مكان
وأراني همتُ في الأرض فما
…
وسعتْ رقعتها بعض كياني
وتشوّفتُ إلى الأفق الذي
…
يسع الشعر فأعياني عياني
الحوماني
للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
1880 -
1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 36 -
مقالاته للرسالة (7)
كان الرافعي قلما يجلس إلى مكتبه في المحكمة إلا أن يكون له عمل؛ فإذا لم يجد له عملا في المحكمة أنصرف لوقته إلى حيث يشاء غير مقيد بموعد من مواعيد الوظيفة. وكان يزورني أحيانا في المدرسة ليقضي معي وقتا من الوقت أو ليصحبني لبعض حاجته. وكان يغبطني على عملي ويزعم أنه لو كان في مثل هذا الجو المدرسي لوجد لنفسه كل يوم مادةً تلهمه الفكر والبيان؛ ويعجب لي كيف لا أجد في صحبة هؤلاء الصغار الذين يعيشون في حقيقة الحياة ما يوقظ في نفسي معنى الشعر والحكمة والفلسفة. . .
وزارني يوما، وكان من تلاميذي في المدرسة طفل في العاشرة أبوه من ذوي الحول والسلطان؛ فكان يصحبه شرطيٌّ كل يوم إلى المدرسة ويعود به، وكان فتى لدنا، فيه طراوة وأنوثة، وله دلال وصلف، فاتفق أن حضر إليَّ لشأن ما والرافعي معي، ووقف الشرطي ينتظره على مقربة من مجلسنا؛ ونظر الرافعي أليه وقد وقف يكلمني وهو يتثنى ويتخلّع لا يكاد يتقار في موضعه. . .
ثم أنصرف الغلام وانصرف الشرطي وراءه يحمل حقيبته، وألتفت الرافعي إليَّ يسألني:(. . . وبين تلاميذك الكثير من مثل هذا الشَّمعون؟)
وكلمة (شمعون) عند الرافعي هي عَلَم مشترك لكل فتى جميل. وتاريخ هذا الاسم قديم، يرجع إلى أيام صلة الرافعي بالمرحوم الكاظمي الشاعر؛ إذ كان الكاظمي له صديق من الغلمان يحبه ويؤثره ويخصه بالسر. . . وكان اسمه (شمعون) - قال لي الرافعي:(وكان فتى جميلا لولا ثياب الغلمان لحسبته أنثى. . .!) - ورآه الرافعي كثيراً في صحبة الكاظمي، فوعى أسمه وصورته، ثم كان اسمه عند الرافعي من بعد علما على كل غلام
متأنث. . .
. . . قلت للرافعي: (هذا ابن فلان الحاكم، وهذا الشرطي الذي يتبعه هو من جنود أبيه، وإن من خبره. . .)
قال الرافعي: (وهذا موضوع جديد!)
فهذا كان سبب إنشائه قصة (الطفولتان)
وكان الرافعي مؤمن بالغيب إيمانا عميقا لا ينفذ إليه الشك. وكان له عن الشياطين والملائكة، وعن الوحي والإلهام، وعن تجاوب الأرواح في اليقظة والنوم، أحاديث ينكرها كثير من شباب هذا الجيل. . .
. . . وكان له - إلى إيمانه وتديُّنه - نزوات بشرية تعقبها التوبة والندم، فكان أكثر وقته على تربص دائم من وسوسة الشيطان، فكان إذا مرت أمامه امرأة فأتبعها عينيه، أو سمع حديثاً عن غائب فتعقبه بالحديث عن بعض شأنه، أو ناله أحد بمساءة فردها إليه، استعاذ وحوقل، وقال: هذا من عمل الشيطان!. . . وإذا همت نفسه بشيء تنكره المروءة، أودعته داعية من هواه إلى ما يتحرج منه المؤمن، أو صرفه شأن من شئون الحياة عن واجب من واجبه، حمل نفسه على ما لا تحتمل، وأنكر على نفسه ما همت به أو دعت إليه أو انصرفت عنه، وذم الشيطان وتجنى عليه الذنب. وفي مقالته (دعابة إبليس) حديث يحقق هذا المعنى
. . . فأني لَمعَه ذات مساء إذ جاءه البريد برسالة من آنسة في دمشق، ومعها صورتها مهداة إليه، تبثه لواعجها وأشجانها، وتشكو إليه أنها. . . مفتقرة إلى رجل!
ونظر الرافعي إلى صورة الفتاة فأطال النظر، ووقف الشيطان بينه وبين الصورة يحاول أن يزيدها في وهمه حسنا إلى حسن، ويرسم له خطة. . .
ثم وضع الرافعي الصورة في غلافها وهو يقول: (أعوذ بالله من الشيطان. . . أَما إنه. . .)
وقال شاب في المجلس: (وهل الشيطان إلا هوى النفس؟)
وقال الرافعي: (وهل تنكر. . .؟)
وطال الجدل، ومضى الحديث في فنون. . .
من هذا الحديث وهذه الحادثة كانت مقالة (الشيطان)
وكان لولده الأستاذ سامي زوج لم يدخل بها، وقد مرضت بذات الصدر بعدما سماها وعقد عليها؛ فأقامت زمناً في مصحة حلوان؛ ثم ارتدت إلى طنطا لتقيم بين أسرتها ما بقي، وزوجها حفيٌّ بها قائم على شئونها، ثم جاء موعدها فدعا الرافعي ليراها فجلس إلى جانبها لحظات وهي تحتضر، فكان له من هذا المجلس القصير، مقالة (عروس تزف إلى قبرها!)
كنت ليلتئذ على موعد معه في القهوة، فظللت أنتظره ساعات ولم يخلف الرافعي موعده معي مرة من قبل، فلما طال بي الانتظار مضيت لشأني. وفي الصباح جاءني نعي الفتاة فعرفت عذره؛ فلما كان العصر ذهبت في نفر من الأصحاب لتعزيته في دار صهره، والتمسناه فما وجدناه، وسألنا عنه فعرفنا أنه آب إلى داره بعد الجنازة لبعض شأنه؛ ولقيته بعدها فعرفت أنه ترك المأتم والمعزين ليفرغ لكتابة مقالة قبل أن تذهب معانيه من نفسه!
يرحمه الله! لم يكن يمر به حادث يألم له، أو يقع له حظ يسرُّ به إلا كان له من هذا وذلك مادة للفكر والبيان، وكأنما كل ما في الحياة من مسرات وآلام مسخرة لفنه؛ فهي عند الناس مسرات وآلام، وهي له أقدار مقدورة ليبدع بها ما يبدع في تصوير الحياة على طبيعتها وفي شتى ألوانها، ليزيد بها في البيان العربي ثروة تبقى على العصور، وهو إخلاص للفن لم أعرفه في أحد غير الرافعي!
وإذ ذكرت السبب الذي دعا الرافعي إلى إنشاء مقالة (عروس تزف إلى قبرها!) أراني مسوقاً إلى ذكر حيث بيني وبين الرافعي يتصل بهذا الموضوع، وإنه ليدل على خلق الرافعي وطبعه، وهو بسبب مما سميته فيه من قبل (فلسفة الرضا)
لم يكن لأحد رأي في خطبة هذه العروس إلى سامي، ولكنه هو خطبها لنفسه، وكان يحبها ويرجوها لنفسه من زمان، ولم يكن بينهما حجاب، فإنها بنت خاله؛ فلما أجمع أمره على خطبتها بعدما تخرج وصار له مرتب يكفيه، ذهب يعرض أمره على والده، فعارضه فيما ذهب إليه لسبب سببه، ولكنه مع اعتداده برأيه في هذه المعارضة تركه لهواه ولم يفرض عليه رأيه؛ إذ كان يرى من حق ولده أن يختار زوجته لنفسه، فليس له عليه في هذا الشأن إلا أن يبذل له النصح، ثم يدع له الخيرة في أمره
وخطب سامي فتاته، وعقد عَقده. وكان حموه يعمل في مال فأكلته الأزمة، وقُدر عليه رزقه
بعد سعة؛ ثم مرضت الفتاة مرضها، فأكرمها زوجها وأقام على شئونها، وأنفق ما أنفق في طبها وعلاجها سنتين أو يزيد، بين طنطا وحلوان!
وتداعت فنون الحديث يوماً بيني وبين الرافعي حتى جاء ذكر سامي وزوجته، وكانت ما تزال في مصحة حلوان؛ فقال لي الرافعي:(أنظر! إنها حكمة الله فيما يجري به القدر! ظلّت البشرية إن هي حاولت النفاذ إلى الغيب لتتحكم في أقدار الناس. . . ليس للإنسان خيرة من أمره، ولكنه قدر مقدور منذ الأزل يربط أسباباً بأسباب، ويجري بالحياة وحدة متماسكة، فما يجري هنا هو بسبب ما يجري هناك، فلا انفصال لشيء منها عن شيء. . . تُرى مَنذا كان ينفق على هذه المسكينة ليطب لها من دائها لو لم تكن الأقدار قد أحكمتْ نظامَها وكان سامي هو زوجها؟ هل كان إصراره على الزواج منها بعدما قدمت له من الرأي والنصيحة إلا لأنه في تدبير القدر المرجوٌّ لهذا الواجب من بعد. لقد كنت مستيقناً من أول يوم أن من وراء هذا الزواج حكمة خافية، وإنني اليوم وقد انكشف لي هذا السر العجيب في حكمته البالغة لأشعر بكثير من الرضى إلى ما كان!)
ثم كتب بين مقالة (بين خروفين)
وهي تمتّ بسبب إلى مقالة (حديث قطين)؛ وفيها حديث عن ولده عبد الرحمن، وهو أصغر بنيه؛ وكان الرافعي يرجوه ليكون من أهل الأدب؛ فما يزال يستحثه ويحمله على الدأب والمثابرة ليكون كما يرجو أبوه، ويحمله بذلك الرجاء على ما لا يحتمله. وكان (الإيحاء) وسيلة الرافعي إلى تشجيعه وتحميسه إلى العمل؛ ويبدو مَثل من هذا الإيحاء فيما تحدث به الرافعي عنه في أول هذا المقال
وكان الرافعي معنياً بمستقبل أولاده عناية كبيرة، فكان يحملهم على العمل بوسائل شتى. وكثيراً ما كان يرسم لهم الخطة للتحصيل والمذاكرة، وقد وجدت بين أوراقه حديثاً له إلى ولده إبراهيم ينصحه ويرسم له منهجاً ليهيئ نفسه للامتحان، لو أنه اتبعه لكان اليوم غير ما هو!
ومن أجل أولاده أنشأ كثيراً من المقالات عن عيوب الامتحانات لمناسبات مختلفة كان ينشرها في المقطم؛ وكانت له طلبات ومقترحات إلى وزارة المعارف أجابت أكثرها ولم ينتفع بها أحد من ولده ومن أجلهم أنشأها!
أنشأ هذه المقالة قبيل عيد الأضحى، وكان اشترى خروفين للتضحية أودعهما فوق سطح الدار إلى ميعاد؛ فما نزعه إلى كتابة هذا المقال إلا هذان الخروفان، ثم حاجته إلى أن يقدم إلى ولده نموذجاً في الإنشاء يعينه على بعض واجبه المدرسي
وكان للرافعي رأي فيما تنقل الصحف من أخبار تركيا تفسره مقالة (تاريخ يتكلم)
وقد دعاه إلى إنشاء هذا المقال أخبار تناقلتها الصحف في ذلك الوقت عن أحداث تجري في تركيا، رأى فيها مشابهة من حوادث سبقتها في مصر قبل ذلك بألف سنة في أيام الحاكم بأمر الله الفاطمي
وفي أحيان كثيرة كانت تثور نفس الرافعي لما يسمع من أخبار تركيا فيهمْ أن يكتب ثم يمنعه من ذلك خشيته أن يكون فيما يكتبه شيء يقفه موقف المسئول عن غلطة تعكر صفاء ما بين الدولتين؛ ثم جاءت مناسبة هذه المقالة فأنشأها وجعل الحديث فيها عن الحاكم بأمر الله وهو يعني رئيس الجمهورية التركية؛ وكانت هذه التعمية وسيلته ليتهرب من التبعة السياسية، ومنها كان الغموض في كثير من معانيه؛ فمن شاء فليعد إلى هذا المقال ليقرأه وقد عرف داعيه، فلعله لا يجد فيه غموضاً من بعد
ومن أجل هذا السبب ولهذا المقصد نفسه كان مقالة (كفر الذبابة) الذي أنشأه على أسلوب كليلة ودمنة بعد ذلك بأشهر.
(سيدي بشر)
محمد سعيد العريان
تحرير الألفاظ
الروعة والطرب
للأستاذ محمد شوقي أمين
تقول اللغة في مشهور ما تقول: طرب الرجل: فرح، وطرب: حزن. وتقول أيضاً: راعه الأمر أعجبه، وراعه: أفزعه
والقائم في الأذهان أن لفظيْ الروعة والطرب من باب الأضداد المتعارف شأنهما في خصائص الفصحى؛ على حين أنهما في الحق لا يدلان على واحد من الضدين بعينه حقيقة ووضعاً، فحقيقتهما ووضعهما للموجان والتضرّب لا غير. فالروعة والطرب يدلان كلاهما على اهتزاز النفس وتحركها، وهيْج الخاطر وتأثره؛ وإنما يدل كل منهما على معنيي الفرح والحزن دلالة مجازية يبين السياق نص موقعها من الإبانة والإفهام، وتؤازر القرائن المقصود لذاته منها أسلوب الكلام
وربما كان الصوت الرخيم شبيه ما نحن بصدده من هذين اللفظين، فإن الدلالة المعنوية للصوت الرخيم على معنيي الحزن والفرح، أكثر شيء وفاقاً لدلالة لفظي الروعة والطرب على ذَيْنِك المعنيين
متى ذكر جمال الصوت ورقته، انصرف الذهن أول ما ينصرف إلى الفرح؛ فالغناء فيما يبدو للناس على وجه عام، بريد المسرة، ووافد الابتهاج. مع أنه في حقيقة الأمر يستنبث الشجو، كما يستثير الغبطة؛ ويرتاح له الشعور الحزين، كما يأنس به البال الرفيه. فهو منتجع الشجيين والخليين على سواء بينهما. وكم أنبطَ الغناء من عبرات حِرَار لم تكن تبضَّ قطراتها لولا رِشاء النغم الحنون!
تلك هي النائحة المستأجرة، تبعث صوتها المتحزِّن في مناحات النساء، فإذا به وقود تتضرّم به مجامر الزفرات، ورنين تستيقظ به كوامن الأحزان. فتمضي النساء وقد حضرتهن الهموم يبكين شجْوَهن!
وهذا ابن سريح ظل صدر شبابه ينوح. وقد أُنسيت: أين؟ أفي مكة أم في المدينة؟ وحيثما كان فقد نوّح دهراً وهو ورقاء هتوف، قبل أن يغني في بغداد وهو بلبل صَيْدَح. . . هاج صوته خلف الجنائز لواعج الحزانى، من المكيين أو المدنيين بين رجال ونساء، وأحيا ذلك
الصوت نفسه ليالي البغداديين الملاح، فكان عون اللهو ورُقْيةَ الصبوات!
ذلك لأن الغناء في ذاته لا شأن له بما يكون في النفس من أفراح أو أتراح، وإنما هو ذوب ينسرب إلى أذن السامع، وسحر يمشي في حسه، فيهزَّ مناحي الشعور، ويضيء ظلام الجوانح، فينكشف مستورها من الأفراح أو الأتراح. . .
فعمل الغناء على هذا هو التنبيه والإيقاظ، سواء أكانت النوائم آلاماّ أم لذائذ. وهكذا الشأن في لفظي الروعة والطرب فهما يدلان على الهيجة والهزة والتحرك، سواء أكان ذلك للذائذ أم للآلام
أما مفاد القول اللغويين في لفظة الروع فهو: الفزع، وقالوا: سُمي القلب رَوعاً بالضم، لأنه موضع الفزع. فقولك: راعه الأمر، أي بلغ الرّوْع رُوعه، والأمر الرائع هو الذي يصل الفزع منه إلى القلب
وفي رأيي أن العرب سموا القلب روعاً وجرا بينهم استعماله ثم اشتقوا منه الفعل: راع، ليفيد إصابة القلب كما يقال: فأده أصاب فؤاده، ورأسه أصاب رأسه، وعانه أصاب عينه. وهذا الباب من أبواب العربية ينفسح لكل الأعضاء، فقد ألمع العلماء إلى اطراده، تقول: فَعَلَه، أي: أصابه، وفُعِل هو، بالبناء للمجهول، أي أصيب
وقد أخلي أصحاب المعجمات أسفارهم من الإشارة إلى هذا الوجه خلال أقوالهم في اشتقاق فعل: راع، وعلقوا الصلة بينه وبين الروع بمعنى القلب على بلوغ الفزع، وذلك التعليق هو الذي إياه نأبى، وغيره نرى.
على أنهم في تعليلهم لبعض الاستعمالات العربية في هذا اللفظ ذكروا ما يقوم مقام التنزُّل عما سبق أن علّقوه. جاء في شرح القاموس نقلا عن حُذاق اللغة: (ما راعني إلا مجيئك، معناه: ما شعرت إلا بمجيئك، كأنه قال: ما أصاب رُوعي إلا ذلك) وهذا التفسير اللغوي يفيد، على الجلاء، أن راعه الأمر: أصاب روعه، أي قلبه، دون ذكر لخوف أو فزع.
وهذا تعبير عربي وثيق، تقول:(وقع ذلك في روعي، أي نفسي وخلدي وبالي) فالوقوع هنا خالص مجرد، وهو يفيد الوصول إلى القلب، غير محدود بوصف، ولا معّين في وجه.
ومن فُصح العربية كذلك قولك: (فلان يرتاع للخير) ووجه هذه العبارة أن ارتاع هنا مطاوع راع، ففلان يروعه الخير، أي يمس قلبه، ويقع في نفسه، فهو يرتاع للخير، أي
يرتاع إليه، ويطمئن به.
وعلى هذا، تقول: راعني الأمر، أي وصل إلى خاطري، وتأثر به جناني، فإن كان ذلك الأمر داعية بهجة فذاك، وإن كان نذير مساءة فكذلك، فالزينة الرائعة هي الرائقة التي يبلغ إلى القلب الإعجاب بها؛ والفجيعة الرائعة هي المفزعة التي تهزُّ القلب نبأتها.
وأما لفظ الطرب فأن الخطب فيه أيسر. وقد تضاربت فيه أقوال فقهاء اللغة، ومن هذه الأقوال ما نوافقه فيما ذهبنا إليه.
هي آراء ثلاثة في ذلك اللفظ:
أولها أن الطرب للفرح، وللحزن. ومن شيعة ذلك الرأي (ابن الأنباري) فقد حشده في كتاب (الأضداد) فيما حشد من مادة كتابه!
والثاني أنه حلول الفرح وذهاب الحزن. وقد ذكر هذا الرأي صاحب اللسان، وكأنه عرف ضعفه فصان اسم صاحبه عن نسبته إليه
ثالث الآراء هو الذي نواطن اللغويين عليه، وهو أن الطرب خفة تعتري عند شدة الفرح أو شدة الحزن. وقد ذكره مكن أعلام اللغة جمع بينهم (ابن دريد) في الجمهرة و (الجوهري) في الصحاح
وممن أرتضى هذا الرأي من المتأخرين صاحب المصباح، فأنه أثبته في موضعه من معجمه وزاد عليه قوله:(والعامة تخص الطرب بالسرور). فهل فات الفيومي أن العامة تجري في هذا التخصيص على رأي أسلفنا ذكره هو الرأي الثاني؟ أم يذهب إلى أن هذا الرأي ينزل من الآراء منزلة العامة وقالة السوق؟!
ولعل أوفق ما قيل في معنى لفظ الطرب قول الثعلب: (الطرب (عندي) هو الحركة) فهذا هو القول الصائب على ما ترى؛ ولكن ابن سيدة قال في التعليق عليه: (ولا أعرف ذلك). . . على أن فقد المعرفة ليس بإنكار ولا تخطئة، ولثعلب أن يكون له (عند) وما هو بظنين
وثم لفظان هما عسيَّان أن يدخلا من هذا الباب، وتصدق عليهما هذه الصفة، ذانك لفظ الشجو، ولفظ الوله. فقد أصفق اللغويون - وبينهم الكسائي - على أن شجاه: حزنه وطرَّبه ضد. وذكر بعض منهم في المعجمات أنه قيل: إن الوله يكون من الحزن والسرور. وأنا لم أجد حول هذا الذي قيل في الوله ما يعزز جانبه، ولم أجمع من صيغه ولا من صيغ لفظ
الوله ما يسفر به وجه الاشتقاق، فأحتسب الآن بالإشارة إليهما، والتنبيه عليهما، غير مبرم لهما قولاً، ولا قاطع فيهما برأي
وقصار البحث أن لفظي الروعة والطرب لا يدلان إلا على تأثر النفس بما يُحضرِّك ما فيها من المباهج أو الكروب، فالغناء يَرُوع ويُطرب، والمغنِّي رائع مطرب؛ لأن روعة الغناء وطربه يستخفان المشاعر؛ فَتَتَبرج الفرحة الخَفرة أو يهتاجُ الأسى الكظيم؟
محمد شوقي أمين
غزل العقاد
للأستاذ سيد قطب
- 16 -
الآن يصل أخونا (الغمراوي) إلى النهاية البائسة التي وصل إليها إخوانه من قبل. فهم وهو، يظلون متماسكين - بعض الشيء - وهم يدورون بالكلام ويلفون حول الأشخاص بالجمل العائمة والتعبيرات التي ينبت رأسها في ذيلها - وبالعكس! - حتى إذا بلغوا الحديث عن النماذج، ولمسوا جانب الأحكام الأدبية، (آن لأبي حنيفة أن يمد رجله)!
من كان ينظر إلى (الجمال) وينظر إلى (الحب) نظرة (العقاد) التي أسلفنا عنها الحديث في مقالي (سارة) وفي مقالي (غزل العقاد) فهو خليق أن يسمعنا من
(الغزل) - تعبيراً عن أثر الجمال والحب في نفسه - أنماطاً أخرى غير ما عهدناه في الشعر العربي قديمه وحديثه، وأن يكون في هذا الغزل صاحب (خصوصية) أولا، وصاحب (فلسفة) شاملة ثانياً
وليقل بعض الجهلاء الغلاظ ما يشاءون عن فلسفة الشاعر، ولينكروا أن يكون لكل شاعر كبير فلسفة خاصة، يفسر بها الحياة كما تنطبع في نفسه النموذجية، لا نتيجة (التأمل) وحده كما يفهمون، بل نتيجة الفطرة الممتازة كذلك، ونتيجة الطبع المتفرد، الذي تهبه الحياة لصاحبه، وهي ترتقب منه دنيا جديدة يخلقها، لا كدنيا الناس، تضمها إلى متحفها الضخم الفريد
والعقاد في غزله يجيبان إلى ما نترقب، ويرتفع فوقه درجات، ويحيل الدنيا - حين يحب - متحفاً حياً من الصور والحالات النفسية، ومن شخوص اللحظات والليالي والأيام التي تدب وتتنفس وتحيا! ومن الألوان والظلال التي تلقيها المواقف والآلام والأحلام والآمال؛ ومن الأصداء المنبعثة من أوتار نفس متعددة الأوتار
هي دنيا عجيبة يعيش فيها القارئ بضع ساعات، فيلتقي فيها بوجوه عدة، وأنماط من الشخوص نادرة، ويرى هناك نفساً - بل نفوساً - هادئة ثائرة، راضية ساخطة، بانية هادمة، محلقة في الرجاء، وجاثية في القنوط أو محيرة في الشك والارتياب، ويجدها روحانية ترفرف بأجنحة من السماء تارة، وبوهيمية تلتهم قطوف الواقع تارة، وكثيراً ما
تجمع بين السماء والأرض في قدرة كقدرة الخالدين
ولكن الميزة الكبرى لهذه النفس أنها تبدو صادقة في كل حالة، طبيعية في كل وجه، أصيلة في كل سحنة، فليست هي في حالة المتعة والإقبال بأقل منها في حالة العزوف والأدبار؛ وليست هي في ساحة الرجاء الطليق بأفضل منها في حرج القنوط المطبق، أو الشك الأليم. . .
وتلك قدرة - أو موهبة - لا تتاح لكل شاعر كبير، بل لعدد محدود من الشعراء الكبار؛ فقد يكون شاعراً كبيراً وهو يمتاز في ناحية واحدة من نواحي الاتجاهات النفسية الكثيرة ويرى الدنيا كلها في ضوء هذه الناحية الممتازة فيه
ونحن لا ننصف الرجل حين نقول: إن الأوتار التي يوقع عليها الحب في نفسه، لم تجتمع قط لشاعر عربي، ولا تجتمع لعشرة من شعراء العربية في جميع العهود
نحن لا ننصفه حين نتحدث عن اللغة العربية وحدها؛ ولكنا نقول ذلك مؤقتاً، لأنها اللغة التي نستطيع الحكم على آدابها حكما نملك أدلته كلها ونجزم فيه بالصواب. وإلا فبين يدي معربات كثيرة لشعراء من الغرب مشهورين معروفين (كبيرون وشيلي والفريد دي موسيه وفكتور هوجو)
لا أرى فيها من تعدد الجوانب الصادقة الأصيلة ما أراه في غزل العقاد وشعره عامة
وما أقول هذا وأقصد به إصدار حكم لا أملك كل مستنداته ولكنه توجيه لدارسي هذه الآداب، ودراسة تنفع للحكم بين شاعر مصري كبير ينالنا شرف سبقه وتفوقه في هذه الميادين، وبين شعراء العالم المشهورين المقروءين.
أول ما يطالعك في غزل العقاد - وفي شعره عامة - اليقظة والوعي الفني، والانتباه لما يجول في نفسه من الخواطر والأحاسيس، وما ينبض به قلب من يحب من المشاعر والأشواق وما يحيط بها من أجواء وآفاق.
وينشأ عن اليقظة الاتجاه الفلسفي، لتعميق الإحساس بالحب، كما ذكر على لسان (همام) في (سارة) وأسلفنا عنه الحديث. كما ينشأ هذا الاتجاه عن رأيه في الحب والجمال، وعلاقتهما بأغراض الحياة الكبرى، ووشائجها بالكون في آماله الفسيحة.
ولا مفر لمن ينظر هذه النظرة أن يجاوز التعبير عن خاصة نفسه في الغزل، إلى صلة
حبه بالحياة والكون، وان تتسرب إلى هذا تجاربه وتأملاته في الحياة ما دامت النفس الإنسانية وحدة لا تقوم الحواجز بين أجزائها ومكنوناتها. فتتألف من ذلك كله فلسفة، يحسبها السطحيون بعيدة عن الحب والغزل لأنه لم يكتب عليها لافتة (يافطة) تقول:(هنا عاطفة!)، ولأن الحب عندهم هو ذلك الظمأ والطوى، الذي لا يبعد كثيراً عن الحس الساذج القريب، ولأنهم ذوو نفوس ضيقة ناضبة لها وتر ضئيل.
وليس في غزل العقاد ولا في شعره كله هالات وظلال، (مما قد يكون جميلا في شعر آخرين ليست لهم هذه الطبيعة) وليس هو ميالا للرمزية - وبخاصة كما يصورها بعض أتباع هذا المذهب في هذه الأيام - واليقظة والوعي الدقيق، والانتباه الصارم، لا يناسب هذه الرمزية ولا يستريح إلى الإيغال فيها إلا بمقدار.
ومثل العقاد في هذا كمثل الجهاز السليم الدقيق، يرصد الكواكب والسدم، فيدركها واضحة محدودة عما حولها، فعلام تكلفه أن يظهر لك الصورة ظلالا وأشباحا، وهو يرى أضواء وشخوصا؟ ألأن جهازا آخر مختلا أو ضعيفا، أو على عدسته غشاوة يسجل تلك الظلال والأشباح؟
نعم قد يظهر لك في بعض الأحيان غشاوات وسحبا، لأن هناك سدما غير واضحة في ذاتها - لا في عدسته - وهنا تكون الرمزية الصادقة التي تكنى لأنها لا تملك التصريح، وتسجل الغشاوة لأنه لا سبيل إلى الوضوح
على أن هناك سبباً آخر لسلوك العقاد هذا المسلك في الإحساس بالحياة والتعبير عنها في وضوح دقيق، ذلك هو فلسفته العامة عن الحياة
فالعقاد ليس من الشعراء الذين لا يجدون في هذه الحياة المنظورة جمالا فيعمد إلى التوشية والتظليل ليداري العيوب ويخلق المحاسن المتخيلة الغامضة؛ أو يتركون هذه الحياة كلها، ويرسمون من الخيال حياة أخرى يغشيها الضباب والدخان، وتزينها التهاويل والأطياف!
إن هذه الحياة المنظورة جميلة عند العقاد تستحق الحب والالتفات، وهي كذلك رفيعة تستحق التقديس والاحترام:
يا طالباً فوق الحياة مدى له
…
يعلو عليها. هل بلغت مداها!
ما في خيالك صورة تشتاقها
…
إلا وحولك لو نظرت تراها
ومن المستحسن أن نوضح ماذا يعني العقاد بالحياة المنظورة، فهو يعني بها الحياة في كنهها وذاتها، في ماهيتها كقوة خالدة، ويراها وحدة من مبدئها إلى منتهاها ويظم إليها آلامها في جهادها وأشواقها إلى غايتها، وخطواتها إلى الدوام والكمال
هذه هي الحياة التي يهيم بها العقاد - كما هي - ويراها وافية بتحقيق مطالب الخيال والأشواق؛ وليست هي حياة الساعة واليوم، أو حياة الفرد والجيل المحدود
وهذه الحياة - عنده - (روح نلمسها بيد من المادة)، ولا انفصام - بل لا اختلاف - بين القوة والمادة فيها، وقد يرهن العلم في محاولاته الأخيرة على صدق هذه النظرة بالفطرة السليمة، فما الذرات التي تتألف منها المواد إلا كهارب موجبة وسالبة ينشأ من تعادلها وجود المادة في الحس، وليس ما يعرف في الطبيعة (بالمقاومة) إلا قوة تعارض قوة ايتهما زادت طاقتها تغلبت وظهرت
ومن هنا ينشأ احترام العقاد للجسم في عالم الجمال، أو ما اصطلحنا على أن نسميه (جسما) وهو طاقة من قوى الحياة تتمثل فيها للحس، وتلمس باليد. ولهذا فحين يبلغ الحس غايته يجعل من المحسوسات أرواحاً، ويحيل المتع كلها روحية علوية:
ما نعيم يمنح الك
…
فَّ غذاء المهجات؟
تقصر الألباب عنه
…
وهو بعض اللمسات
في يدي أدعوه خصراً
…
تارة أو زهرات!
في فمي أدعوه ثغراً
…
تارة أو قبلات!
والسماء والأرض - على هذا - متقاربتان في الحياة. أنظر إلى الحياة في قيودها وضروراتها فأنت منها في أرض جاثية. وانظر إليها في آمالها وأشواقها، فأنت منها في سماء طليقة. وهي هي الحياة في أرضها وسمائها وحدة لا تتجزأ، مقبولة الأعذار، مغفورة الزلات، محبوبة المباهج، مرموقة المناظر، لأنها الحياة!
ومن شأن هذه الفلسفة ألا تلجأ إلى الألغاز والمعميات، ولا إلى الأشباح والخيالات، ولا إلى الظلال والغشاوات، إلا حيث يكون هذا كله جزءا من كنه الحياة وقبساً من طبيعتها. وذلك لأنها تواجه الحياة بخيرها وشرها، وتعترف بهذا الخير والشر كمزاج أصيل لها، وتدرك ما فيها من جمال حقيقي موجود، لا غاية بعدها لوهم ولا لخيال
وقد استطردنا في بيان فلسفة العقاد العامة، فسقنا فيها بعض خصائصه في غزله وهي (التوحيد بين متعة الحس ومتعة النفس أو بين الأرض والسماء). ثم دعانا هذا الاستطراد إلى تأجيل الأمثلة التي نأخذ منها دلائل اليقظة والوحي الفني. والآن فلنأخذ في إيراد الأمثال:
يقول في قصيدة بعنوان (تبسم):
تبسم فإن القلب يسعد بالذي
…
سعدت به واضحك وغرد وخاطر
يلذ لنا منك اغترارُك بالصبا
…
غرورُ الصبا روْح لقلب المحاذر
ويعجبنا أنا نرى فيك معجَبا
…
مدلا على الأيام إدلال ظافر
بشوشاً تكاد العين تلمح قلبه
…
وتسرد في نجواه نظم السرائر
إذا غامت الجلَّى تبلجت بينها
…
تبلج ومض البرق بين المواطر
وتضحك والأتراح حولك جمة
…
تخافك خوف الجن رجم الزواهر
وتبكي وأفراح الحياة كثيرة
…
يحاذرننا من حولنا كالطوائر
فيا قرب ما بيني وبينك في الهوى
…
ويا بعد شقّيْ دارنا في الخواطر
طوى الحب ما بيني وبينك من مدى
…
فنحن قرِينَا موطن متجاور
أيا من رأى ليلاً وصبحاً تلاقيا
…
وإلفين من صفو وشجو مخامر
لئن تخش مني الليل صعباً مراسه
…
لقد بت أخشى منك شمس الهجائر
فيا لي من ليل بحبك موثق
…
وثاق الضواري في كناس الجآذر
تطالع منه الهولَ سهلا مقاده
…
رخاءٌ غواشيه، شجيَّ الزماجر
ويا ربَّ مرهوب السطا وهو مطلق
…
إذا كُفَّ أضحى متعة للنواظر
أنا الليل فاطرقني على غير خشية
…
ولجْ باب أحلامي وجلْ في حظائري
وسرْ حيث يخشى غيهب الليل نفسه
…
وتعثر بالظلماء ظلماء كافر
لتعلم ما الدنيا إذا غال غولها
…
وأنت أمين من طروق الدوائر
وتعلم أن الشمس تكذب قومَها
…
إذا حدثتهم عن خفي وظاهر
فكم بين لألاء الضحى من مناظر
…
طوتها يد الأحداث عن كل ناظر
فها هنا رجل يحب ويعبر في غزله عن هذا الحب، ولكن اليقظة التي ابتعثها الحب في
نفسه وفكره تجعله جميعاً يتنبه إلى خصائص نفسه وخصائص من يحبه، ويلمح الفروق الواضحة بينهما التي يؤلف منه الحب وحدة ونظاماً! ثم تدخل في المضمار فلسفته العامة ونظرته إلى الحياة قيودها وطلاقتها، ضروراتها وأشواقها، فيتألف من ذلك كله غزل ناضج فريد على غير مثال
ومن حق الأدب علينا أن نشرح هذا كله في تلك الأبيات يعجب العقاد في حبيبه بالجمال، ولكنه لا يقف عند هذا الذي يدركه كل شاعر - إن أدركه هو على نحو خاص - فإنما يعجب فيه باغترار الصبا، والإدلال على الأيام إدلال ظافر، والبشاشة التي لا تفرض وجوداً لعبوسة الحياة
وإلى هنا يمكن أن يصل شاعر ممتاز. ولكن ما يعجب العقاد في هذا هو معنى أبعد وأرقى. إنما يعجبه من هذه الغرارة والبشاشة، غلبة الحرية على الضرورة في هذا الجميل، وغلبة الفرح الطليق على الانقباض الحبيس، وغلبة البشاشة الراجية على العبوسة اليائسة
ثم يلقى نظرة أخرى على هذين القلبين اللذين جمع بينهما الحب، فإذا أحدهما يضحك والأتراح حوله جمة، وثانيهما يبكي وأفراح الحياة حوله كثيرة، وهي مفارقة من مفارقات القدرة الخالقة في الحب، التي تهزأ بالظواهر والأشكال وتمزج بين العناصر أبعد ما تكون طبيعة وكنهاً. ويلتفت من هذا إلى أثر هذا المزاج العجيب، فإذا قلبه المرهوب بما فيه من آلام وجماح، وقد غدا مروضاً مذللاً بهذا القلب الآخر المشرق البشوش، فصار مأموناً لا يرهب، كما تشاهد الضواري موثقة فتكون مسلاة، وكانت وهي طليقة تبعث الرعب والفزع
ثم ينتهي من هذا إلى أحسن تعبير عن اطمئنان صاحبه إليه، والتذاذه بكشف مجاهل نفسه وغياهبها، في ظل الحب وحراسته وأمنه فيدعوه أن يجول في هذا القلب الوعر المرهوب ليستمتع بمشاهدة الخطر المأمون، ويعلم أن الشمس لا تكشف إلا الدنيا الظاهرة، وأن ليس غير الحب يكشف أعماق القلوب
مثل هذا لن يفهمه من يفهمون الغزل لهفة ودموعاً، أو فرحة واستمتاعاً؛ ولن يفهمه بطبيعة الحال من يريدون عواطف الحب قالباً مصبوباً من غزل العذريين أو البوهيميين في الشعر العربي المحدود. ولكنه أحق القول باسم (الغزل) وأدخل قول في العاطفة اليقظة المشبوبة، المنيرة بالحب حتى تكشف ما حولها، وتضمه بجناحيها
ويقول في قصيدة بعنوان: (المغنم المجهول):
يا من عليه تلهفي وتلددي
…
قد جرت فلتهنأ بأنك جائر
وأريتني ما لا ترى، ووهبتني
…
ما لست تملكه. فما لك شاكر
محضتني سرَّ الحياة وسرُّها
…
خاف عليك: جليله والضامر
أن الضياَءُ يرى العيونَ ولا يرَى
…
والحسن يوقظ وهو غاف سادر
فلئن بخلت بما ملكت فحسبنا
…
ما لست تملك. فهو عندك وافر!
أنسيتني نفسا وقد أذكرتني
…
نفسا. خيرهما التي أنا ذاكر
لكشفت باطنها فقد أنكرتُها
…
لما بدا منها القرار الغائر
فامنح وصالك أو قلاك فإنني
…
راض بتلك الحالتين وصابر
وهنا أيضاً شاعر يتغزل، ويقول في أول هذه القصيدة ما ينتظر من شاعر مثله في الحب والجمال، ووصف هجر حبيبه وما يبعثه في نفسه من إحساس، ثم يتيقظ إلى ما أثاره هذا الحب في نفسه - مع الحرمان - وأنه وهبه ما كان مخبوءا عنه في أطواء نفسه، لا يعلم حتى هو بوجوده، وأن هذه الهبة لا يملكها الحبيب الهاجر، لذاته ولا لصاحبه، وأنها مغنم جليل يعوض عن المتاع والوجدان.
وندع العقاد نفسه يعبر عن هذه الأماني أدق تعبير حين يقول:
(إذا اعتلجت بالنفس عاطفة قوية أثارت رواكدها، واستفزت رواقدها، فانكشف للإنسان من نفسه ما لم يكن يعرف، واختبر من قواه وطباعه ما كان خافيا عنه، فصحح نظره في الحياة، وتغيرت بين يديه حقائق الأشياء فرآها كما ينبغي له أن يراها، لأن معرفة النفس مقياس معرفة الوجود، ومن أخطأ تقدير نفسه لم يصب في تقدير ما حوله، لأنه يقيس الأشياء بمقياس مختل مجهول
(والحب أقوى العواطف وأعمقها تفتيشاً في النفس. فهو ينبه فيها الإعجاب والعبادة والبغض والألم والغيرة والاحتقار والشفقة والقسوة، وكل ما تشتمل عليه من حميد الخصال وذميمها؛ فإذا وقف الإنسان على حقيقة نفسه، وقف على كل حقيقة يتاح له الوقوف عليها. وكان الجمال له معلماً يستفيد منه ما لم يعلمه الجمال نفسه، ومنعما يهبه ما لا يملك! كالشموس والأقمار التي تضيء للعين المنظورات، وهي بلا عين تبصر أو نفس تشعر.
فإذا خسر الإنسان في الحب غرضاً أراده، ربح منه غرضاً لم يرده، وكان ما جاءه من الربح عفواً أكبر مما توخاه عمداً)
وهذا القول نفسه دليل من أدلة اليقظة التي يبعثها الحب في نفس العقاد اليقظة (المركبة) التي تتيقظ وتعرف أنها تتيقظ في الوقت ذاته. وهذا نادر في النفوس
وبين يدي ثلاثون مثالا على ما ذكرت على هذه الخاصة في غزل العقاد، بل لدي غزل العقاد كله يصدق هذا الكلام، ولكن حسبي المثالان السالفان، وإلى مقال آخر نستعرض الخصائص الأخرى هذا الاستعراض
(الإسكندرية)
سيد قطب
فتاوى شرعية
معضلات العصر
للأستاذ الجليل محمد بن الحسن الحجوي
وزير معارف الحكومة المغربية
تتمة
نص الجواب على الأسئلة الأشفودرية
جواب السؤال الثاني:
إن الذي يأخذ مرتباً كبيراً من الدولة الأجنبية سواء الذي في بلاده أو في بلاد مجاورة إن كان يتقاضى ذلك في مقابلة عمل يضر بأحد كالجوسسة أو الوسوسة أو خدمة مؤامرة أو إيقاد فتنة أو إي ضرر آخر بفرد أو بالأمة، فالمرتب حرام وسحت، والفعل المذكور مذموم وخيانة عظمى، والجاسوس ملعون ومعلوم حكمه في كتب الفقهاء فلا نطيل عليكم به. ومن أحكامه إباحة دمه حسب نظر الإمام وكما تقتضيه المصلحة، ما لم يؤد ذلك إلى فتنة أعظم فللإمام النظر فيه. وبالجملة إن السؤال عن المرتب وهو سحت وحرام فأن لم يكن في مقابلة ذلك بل كان لأمر اقتصادي أو مرتباً عمريَّاً في خدمة مشروع أو نحو ذلك مما لا ضرر فيه على أحد فلا شيء فيه
جواب السؤال الثالث:
. . . في الطرق الصوفية التيجانية أو غيرها. . .
إن هذا السؤال كان سألني عنه شيخ الإسلام المقدس المبرور سيدي احمد بيرم التونسي بذاته وكنت أجبته مشافهة بمحضر جمع من علماء تونس والجزائر ومنهم العلامة صفينا سيدي الحاج أحمد سكيرج، أحد عظماء الطريقة التيجانية الأعلام
وهأنذا أكتب لكم ملخص الجواب الذي أجبته به بمحضرهم بمعناه: إن الطرق الصوفية تجانية أو غيرها، إنما حدثت في الإسلام لجمع قلوب المسلمين على إقامة الشريعة الغراء إقامة كاملة كافلة تطهير النفوس من الأخلاق الذميمة، وتحليتها بحلية مكارم الأخلاق ضمن دائرة العمل بالكتاب والسنة والمحافظة على أنفاس العمر ألا تضيع في سفاسف الأعمال،
مع التراحم والتواد بين عموم المسلمين كما أشرت لهذا في كتابي (الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي) في الربع الثالث منه عند الكلام على تاريخ علم التصوف، وقد بسطته أتم بسط في كتابي (برهان الحق في الفرق بين الخالق والخلق) حيث تكلمت على الكثير من الطرق ومنها الوهابية
فكل طريقة وجدناها تخدم الإسلام بإخلاص سائرة على هذا المبدأ سيراً مستقيما فأنعم بها وأكرم؛ وكل طريقة حادت عن هذا المبدأ نبذناها نبذ المستقذرات وتبرأنا من عملها تبرؤ إبراهيم من أبيه. أن سيدي الوالد المقدس كان من أتباع الشيخ التيجاني - رحم الله الجميع - وكان يؤكد لي أن الشيخ كان يقول لأصحابه: زنوا كلامي بميزان الكتاب والسنة، فما وافقهما فخذوه، وما خالف فانبذوه. فنحن نعمل بوصية الشيخ ونزن ما ينسب إليه بعض الجهلة من أصحابه إليه الذين لا يفرقون بين النبي والولي ولا بين الخالق والمخلوق - بميزان الشريعة، ثم نفعل ما أمرنا به قدس الله روحه
وعلى هذا فالقولة التي شاعت وذكرها بعض المؤلفين منهم ونسبها للشيخ وذكر أنه وجدها بخطه وهي: أن صلاة الفاتح لما أغلق تعادل ستين سلكة من القرآن أو ثمانين. ثم جاء بعض المؤلفين منهم فزاد صفراً وقال ستمائة، ثم جاء محشيه وزاد صفراً ثانياً وقال ستة آلاف سلكة
نقول إنا عرضناها على الكتاب والسنة فلم نجد إلا ما يردها وينبذها لأنها تقتضي كناية وهي أبلغ من التصريح أنها أفضل من الصلاة الإبراهيمية التي صحت بها الأحاديث بل ومن القرآن أيضاً وأن كلام المخلوق أفضل من كلام الخالق (ولذكر الله أكبر)
دعني من فرية أنها من الكلام القديم فمثل هذا لا ينطلي حتى على المغفلين ولا يلتفت إليه المؤمن بالله الذين يعلمون أن الوحي انقطع بموت النبي صلى الله عليه وسلم، وأن إلمامات المتصوفة والمرائي المنامية لا قيمة لها في الحجية عند كافة أهل العلم والدين المعتد بهم؛ والثواب على الأعمال ومقداره عند الله لا يدرك إلا بطريق الوحي الحقيقي ولسان النبوة الناطق؛ خلافاً للمعتزلة القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين؛ وأن العقل يستقل بمثل هذا
ومن المكر الخفي والكيد للإسلام المنطوي تحت هذه المقالة تزهيد الناس في القرآن العظيم وفي تلاوته ثم الأعراض عنه إلى ما هو أخف عملاً وفي الميزان أثقل في زعمهم الباطل
وإني لأعجب لمسلم استنار قلبه بنور القرآن يقبل هذه المقالة الشنعاء في الإسلام فلا حول ولا قوة إلا بالله
لذلك إذا أحسنا الظن بالشيخ - كما هو شأن المسلمين مع سلفهم الصالح - واعتقدنا فيه الكمال، فلنكذب نسبتها للشيخ ونسترح، فإن الاشتغال بتأويل كلام غير المعصوم من العبث وتضييع الوقت. ثم لأن سند نسبة المقالة للشيخ واه من أصله لضعف سند الوجادة إن صدقنا من قال إن الخط خط الشيخ. وقد جرب المحدثون التغفل على الكثير من العباد والمتصوفة، لذلك ضعفوا رواية كثير منهم كما هو مقرر في فن المصطلح. كما أننا جربنا الكذب والبهتان والتغفل والبله على كثير من الأتباع لما يحملهم عليه التعصب الطرقي والتحزب المذهبي وحب انتشار الطريق، لأن ذلك من أساليب الارتزاق، واستغلال استبلاه المغفلين الجاهلين، يحببون إليهم الطرق بتكثير ثواب الأعمال وطرح المشاق وسهولة الوصول وتخفيف المسؤوليات أمام الله.
فيقولون للمريد: من عمل في طريقنا قليلاً كان له أكثر من الأجر الذي يكون لغيرنا بأضعاف. فإذا كان لمطلق المسلم ليلة قدر واحدة في السنة فالتجاني كل لياليه ليلة القدر. وإذا كان لغيرنا على الحسنة عشر حسنات فلنا آلاف الحسنات؛ وإذا كان غيرنا عليه حساب ومسؤولية أمام الله ثم عقاب، فنحن ندخل الجنة بغير حساب. نحن لنا سيد أحمد التجاني ضامن وهم لا ضامن لهم؛ وكل تجاني يحضر سيدي أحمد لقبض روحه. إلى غير هذا مما هو معلوم لدى كل من خالطهم، فيصورون له طريق التجانية بأجمل صورة يتصورها الوهم. فكأنها ورقة حماية من دولة لها سلطة عالمية، تعلى من يجير ولا يجار عليه، فكأنهم نسوا القرآن
فبهذا صارت الطريقة التجانية في نظر أهل العلم بالسنة والكتاب كأنها مسجد الضرار ضد الإسلام
فالله يقول في نبيه خاتم النبيين، وهم يقولون في الشيخ التجاني هو الختم، وهو لبنة التمام للأولياء، فحجروا على الله ملكه وقطعوا المدد المحمدي وهم لا يبالون أو لا يشعرون، وحتى إن شعروا فالمقصد يبرر الواسطة؛ وإذا سمعوا أن النبي أفضل النبيين قالوا أن التجاني رجله على رقبة كل ولي لله بهذه العبارة الجافة من كل أدب والجارحة لعواطف
كل مسلم، لأن الولي في عرفهم يشمل النبي، إذ يقولون إن ولاية النبي أفضل من نبوته، ولا يبالون أن يكون أصحابهم أفضل من أبي بكر وعمر والعشرة المبشرين بالجنة الذين كانوا يخافون الحساب ولا يأمنون العقاب؛ ولم يكن عندهم بشارة النجاة منهما. إذ لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون
حكي لي بعض القضاة قال: كان في محكمتي تسعون عدلاً في البادية. وقد تقصيت الصالح والطالح منهم لأعلم مقدار ثقتي بهم في حقوق المسلمين فوجدت عشرين منهم متساهلين لا يؤتمنون على الحقوق؛ وحين دققت النظر في السبب تبين لي أنهم جميعاً تجانيون، فبقيت متحيراً حتى انكشف لي أن السبب هو اتكالهم على أنه لا حساب ولا عقاب بترصدهم فانتزع الخوف من صدورهم. كل هذا سببه الفساد الذي أدخله جهال الطريق عليها فأفسدوها وانعكس المقصود من الطرق التي كان يقصد منها ردع الخلق عن المعاصي والتوبة منها وزيادة خوف الله فصارت إلى أمن مكر الله، وإزالة مخاوف الآخرة من عقولهم فلا يبقى في قلوبهم ذرة من خوف الله وإنما تمتلئ بتعظيم شيخهم حتى تتراءى لهم عظمته فوق عظمة الله ورسوله
ومعتقدي في الطريق التجانية الحقيقية نزاهتها عن هذه الهذيانات وهذه الإباحة المقنعة إذ كان فيها فحول الدين وأساطين العلم، مثل أشياخنا: مولاي عبد الملك العلوي الضرير سيدي محرب التهامي الوزاني، سيدي الوالد المقدس، سيدي الحاج محمد بن محرب عبد السلام كنون، سيدي أحمد بن أحمد بناني. . . ومن قبلهم كسيدي إبراهيم الرياحي التونسي ومن قبله، ومن بعدهم ممن هم موجودون الآن وفر الله جمعهم ووفقهم للقيام بأحكام الطريق. وقد ذكرت في الفهرست وفي الفكر السامي تراجم جملة منهم. وكانوا سرج هدى في علوم القرآن والسنة والوقوف عند أمرهما؛ وحاشاهم أن يتمذهبوا بطريق تؤسس على ما يوهم خلاف عظمة الإسلام والشرع الإسلامي أو يرضوا بذلك وهم من هم علماً وديناً وورعاً وذباً عن الإسلام وغيرة عليه. ومنهم من كان يذكر هذه الزوائد علناً، ومنهم من أنفصل عن الطريق لأجلها كسيدي الفاطمي وغيره رحمة الله عليه
أما كتاب (جواهر المعاني) الذي ألفه أحد العوام من أصحاب الشيخ التجاني، فأخذ أكثره حتى الخطبة بلفظها من كتاب (المقصد الأحمدي) الذي ألفه قبل الشيخ التجاني سيدي محمد
ابن الطيب القادري في مناقب سيدي أحمد بن عبد الله معن الأندلسي، والمقصد الأحمدي قد طبع فبان عوار جواهر المعاني حتى الشعر الذي قيل في سيدي أحمد بن عبد الله أخذه بنفسه وجعله في الشيخ التجاني ونقل الفضول بلفظها، بل كل ما وصف به سيدي أحمد بن عبد الله جعله وصفاً لشيخه ظاناً أن اتحاد الاسم اتحاد للوصف. وذلك ما يدلك على براءة الشيخ التجاني من كل ما تضمنه الكتاب المذكور
ومن أغلاط أدباء هذه الطائفة وغلوِّهم المفرط أنهم جعلوا قانوناً لطريقتهم ضمنوه مختصراً على لهجة مختصر الشيخ خليل المالكي نسقاً وأسلوباً، وبينوا فيه الأحكام الخمسة من وجوب وحرمة وندب وكراهة وجواز كأنهم لم يسمعوا قوله تعالى (إن الحكم إلا لله)
ومن عجيب أمرهم أنهم جعلوا حكم الردة عن طريقهم أقسى وأهول من حكم الردة عن الإسلام
فإن من ارتد عن الإسلام تقبل توبته ولو تكررت: (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا) الآية. أما من أرتد عن الطريق التجاني فلا تقبل توبته وليس له إلا الخلود في النار والموت على سوء الخاتمة، ويبقى عندهم ملحوظاً بتلك السمة، ولا مطمع في قبول توبته، ولو أناب ورجع لطريقهم. ويظن بعض أنه لو كانت لهم سلطة متمكنة لقتلوه وما استتابوه
فعملهم هذا يتخيل منه أن لهم برنامجاً خاصا يستدرج طريقهم لتصير ديانة مستقلة عن الإسلام. . . حكي لي أن محمد الأمين الشنقيطي لما ألف المختصر المذكور ظاناً أنه عمل عملاً عظيماً حميداً - جاء به إلى الأستاذ العارف سيدي العربي الموساوي ساكن زرهو، وهو من علماء هذه الطائفة الكبار ومقدميها الأخيار؛ فلما اطلع عليه وبخه توبيخاً عنيفاً قائلاً: أتجعلون طريقنا مسجد الضرار للإسلام؟ السنة تجمعنا والبدعة تفرق بيني وبينكم، أو ما هذا معناه. ولم يقدروا على إظهار هذا المختصر إلا بعد وفاة هذا السيد الجليل رحمه الله. وبعد موته وجد في تركته فسرقه من سرقه ونسبه لنفسه وطبع ونشر فكان موت الأكابر زلة الأصاغر
لقد وقع مثل هذا في الديانات تسلط عليها الجهلة فأفسدوها ظانين الإصلاح فكيف بالطرق؟
وهذه صورة مصغرة ترينا كيف وقع في الديانات حتى اختل نظامها وطمست أعلامها وهرمت بالقلب والإبدال الذي أشار إليه القرآن. . .
وإذا لم يتدارك هذه الطريقة علماؤها بحذف ما زيد فيها، وإبطال كل ما خالف القرآن والسنة ونبذ كل تأويل وتضليل فإنها تؤول للاضمحلال، إذا الإسلام أفاق من سكرته، ولم تعد أفكار أهله تقبل أدنى شيء يمس بجوهر أصول الكتاب والسنة أو يخالف العقل الصحيح
وتمسكوا أي تمسك بقاعدة أن الدين لا أمت ولا عوج؛ وهو ما بين دفتي المصحف والبخاري ومسلم وصحيح السنة من رواية العدول الثقات دون المغفلين الجاهلين، ورموا خلفهم كل ما خالف ذلك غير ملتفتين لتأويل المؤولين وتظليل المرتزقة المضللين
وإني على يقين أنه بانتشار التعليم الصحيح المؤسس على الأصول السابقة، تنكمش تعاليم المخرفين وتظهر رداءة نفوذهم المزوَّرة، فتنكشف صبغة نفوذهم المدبرة بإشراق شعاع شمس الكتاب والسنة والعقل الصحيح؛ فاجتهدوا في تعليم أولادكم الدين القويم قبل أن يسبق إلى قلوبهم أي تعليم آخر سواه؛ فهو يناضل عن حوزته لأن برهانه في نفسه:(وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا). (إن الله متم نوره ولو كره الكافرون) وعليكم سلام الله ورحمته من منبطه وجامعه معتذراً بقصوره وكثرة شواغله
(الرباط)
محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الجعفري
تيسير قواعد الأعراب
لأستاذ فاضل
- 4 -
وذلك التكلف في نيابة المجرور عن الفاعل في نحو - مُرَّ بزيد - هو ما ذهب إليه جمهور النحاة. وهناك تكلفات أخرى فيه، منها أن النائب ضمير مبهم مستتر في الفعل، وبه أخذ ابن هشام وغيره
ومنها أن النائب ضمير عائد على المصدر المفهوم من الفعل، وبه أخذ ابن درستويه والسهيلي والرُّنديُّ
ومنها أن النائب حرف الجر وحده في محل رفع، وبه أخذ الفراء. وقد قال أيضاً بأن الحرف في محل نصب بعد الفعل المبني للفاعل في نحو - مررت بزيد - وهو عندهم مذهب في غاية الغرابة، لأن الحرف لا حظ له في الأعراب أصلاً، ولكنه عندنا مذهب يؤيد ما ذكرناه من أن مسألة الأعراب والبناء مسألة تقديرية، ويجعل ما ذهبنا إليه من الأعراب الظاهر في الحرف مذهباً قريباً سائغاً، لأنه أقرب من ذلك الأعراب المحلى الذي يتكلفه الفراء فيه
فالمذاهب في ذلك أربعة كلها متكلفة. ومذهبنا أن الجار والمجرور متعلق بالفعل، وتعلقه به في ذلك كتعلقه به في نحو - مررت بزيد - وإذا بطلت النيابة عن الفاعل في ذلك بطلت في غيره، ولا شيء في أن يكون لنا مفعول به منصوب ومفعول به مرفوع، ولا في أن يكون لنا مبتدأ مرفوع ومبتدأ منصوب، ولا في أن يكون لنا خبر مبتدأ مرفوع وخبر مبتدأ منصوب، فإن هذا كله لا يبلغ الأمر فيه أكثر من أن يكون مثل الفعل المضارع في رفعه ونصبه وجزمه، فهو فعل مضارع في جميع حالاته، مع أنه قد تأثر في لفظه ومعناه بدخول عوامله عليه كما تأثر المبتدأ والخبر عواملهما، فليكونا مثل المضارع في ذلك، وكذلك غيرهما مما ذكرنا
متعلق الظرف وحروف الجر
قسم النحاة هذا المتعلق إلى قسمين: متعلق عام كمتعلق - زيد عندك أو في الدار -
ويقدرونه - كائن أو استقر - وهو عندهم واجب الحذف، ويعربونه هنا خبرا
الثاني متعلق خاص كما في نحو أنا واثق بك، وهو الخبر أيضا وترى جماعة أن المتعلق العام لا يقدر، وأن المحمول في مثل - زيد عندك أو في الدار - هو الظرف والجار والمجرور لا المتعلق. ونحن نرى أن الخطب في هذا سهل، وقد ذهب إلى مثل ذلك الرأي بعض النحاة، فهو رأي قديم معروف، وليس برأي جديد لهذه الجماعة
الضمير
ترى الجماعة إلغاء الضمير المستتر جواز أو وجوبا. فمثل - زيد قام - الفعل هو المحمول ولا ضمير فيه، فليس بجملة كما يعده النحاة، وهو مثل - قام زيد - ومثل - الرجال قاموا - الفعل محمول اتصلت به علامة العدد ولا يعتبر جملة، ومثل - أقوم ونقوم - الفعل محمول والهمزة أو النون إشارة إلى الموضوع أغنت عنه
والجماعة هنا تناقض نفسها، فبينما ترى الاستغناء عن الضمير المستتر جوازاً أو وجوبا ترجع إلى تقديره في مثل - أقوم ونقوم - وتجعل الهمزة والنون دليلا عليه، ولا بد لها أيضا من تقديره في مثل - قم - بدون أن يكون هناك ما يدل عليه من همزة أو نون، وإذا رجعنا إلى التقدير في الضمير المستتر وجوبا فلنرجع إلى التقدير في المستتر جوازا من باب أولى، لأن جواز ظهوره فيه دليل على وجوده عند عدم ظهوره، بخلاف الضمير المستتر وجوبا، فأنه لا يجوز ظهوره كما يجوز ظهور الضمير المستتر جوازا
وقد غفلت الجماعة عما يجب من ربط الخبر بالمبتدأ، فلم تقدر الضمير في مثل - زيد قام - مع أن الضمير هاهنا واجب التقدير لأجل ما يجب من هذا الربط في هذا المثال ونحوه
التكملة
وترى الجماعة أن كل ما يذكر في الجملة غير الموضوع والمحمول فهو تكملة، وحكم التكملة أنها مفتوحة أبداً إلا إذا كانت مضافاً إليها أو مسبوقة بحرف جر، ثم ذكرت أن التكملة تجيء لبيان الزمان أو المكان، ولبيان العلة، ولتأكيد الفعل أو بيان نوعه ولبيان المفعول، ولبيان الحالة أو النوع؛ وقد ظننت أنها بذلك جمعت كثيراً من الأبواب كالمفاعيل والحال والتمييز تحت أسم واحد وهو التكملة دون أن تضيع في ذلك غرضاً
ونحن نرى أنها لم تفعل في ذلك شيئاً، فقد كانت هذه الأبواب يجمعها قديماً أسم الفضلة، فلم تفعل الجماعة إلا أن جمعتها تحت أسم التكملة، ثم قضى عليها ما بينها من خلاف أن ترجع إلى تفريقها في بيان اختلاف أغراضها، وكذلك يقضي بهذا التفريق اختلاف أحكامها وأحوالها، فكل واحد منها لابد له من باب تجمع فيه أحكامه، وتبين فيه أحواله، وهذا أوفى بضبطها من جمعها كلها في باب واحد تحت أسم التكملة، وليس هناك ما يدعو إلى جمعها في باب واحد. وقد حاولنا أن نجمع فيها مثل ما جمعنا في باب المبتدأ والخبر فوجدناها أبواباً مختلفة المعنى، متميزة الغرض، ولم نجد إلا أن نتركها على حالها
الأساليب
ذكرت الجماعة أن في العربية أنواعاً من العبارات تعب النحاة كثيراً في إعرابها وفي تخريجها على قواعدهم مثل التعجب فله صيغتان هما - ما أجمل زيداً، وأجمِلْ بزيد - فرأت أن تدرس أمثال هذه العبارات على أنها أساليب يبين معناها واستعمالها ويقاس عليها، أما إعرابها فسهل - ما أحسن - صيغة تعجب والاسم بعدها المتعجب منه مفتوح، و - أحسن - صيغة تعجب أيضاً، والاسم بعدها المتعجب منه مكسور مع حرف الجر
ونحن نرى أن هذا أعراب ناقص لا يبين معنى الجملتين، وأنه لا شيء في أن نختار من إعراب النحاة فيهما أقربه إلى الفهم وأدناه إلى تصوير المعنى المراد من اللفظ، فالصيغة الأولى - ما أحسن زيداً - ما فيها أسم بمعنى شيء أبتدئ به لتضمنه معنى التعجب، وأحسن فعل ماض، وزيداً مفعول به، والمعنى شيء عظيم أحسن زيداً. والصيغة الثانية - أحسن بزيد - أحسن فيها فعل أمر، وفاعله ضمير المخاطب، والجار والمجرور متعلق بفعل الأمر، والمعنى أعجب بحسن زيد؛ فهذا إعراب تام عرف فيه موقع كل كلمة من هذا الأسلوب، وليس فيه ما يمكن أن تأخذه هذه الجماعة عليه
وقد انتهت الجماعة بهذا من رأيها في تيسير قواعد الإعراب ثم سكتت عما وجه إليها من النقد، لأنها قد أخذت فيه بأمور لا يمكنها أن تدافع عنها. ولا أدري ما يسكتها عنا وقد ذهبنا في نقدها مذهباً يتفق مع غايتها في إصلاح قواعد الإعراب، ويذهب في ذلك إلى أكثر مما ذهبت إليه، ويقوض من القواعد القديمة ما لم تمن به من يوم أن دونها الأقدمون من النحاة
وسيكون ما ذهبنا إليه من ذلك فخراً جديداً للأزهر الذي تناسته وزارة المعارف في هذا
الإصلاح الذي ظنت أنها تقدر بدون الأزهر عليه. وسيكون مذهباً نحوياً جديداً تباهي به مصر في عهد الفاروق نحاة البصرة والكوفة في عهد الرشيد والمأمون، ويقف به الأزهر مجدداً مجتهداً في النحو، وينفض عنه غبار التقليد الذي تراكم عليه حتى ناء به
وأما حظي من هذا المذهب فإني أدخره للمستقبل الذي يمكنني أن أصرح فيه باسمي، وآمن فيه على نفسي مما يمكن أن يصيبني بمخالفة المألوف في النحو من يوم خلقه وتدوينه، وأجد في الأزهر من يعنى بما جئت به من ذلك على خلوه من المآخذ التي أخذت بها جماعة وزارة المعارف، ومع هذا تجد هذه الجماعة من وزارة المعارف عناية بعملها، فتعرضه على رجالات العلم هنا وهناك، ولا يضيق صدرها بمخالفته للمألوف في ذلك العلم، وهذا أمر نحمدها عليه، وندعو الله تعالى أن يقرب ذلك اليوم الذي يأخذ فيه الأزهر بمثله
(أزهري)
ماضي القرويين وحاضرها
للأستاذ عبد الله كنون الحسني
- 2 -
ولم يصل الاشتغال ببقية العلوم الإسلامية بالقرويين إلى درجة الاشتغال بالفقه ولكنه لم يقصر عنها كثيراً؛ فكانت علوم الحديث والتفسير والأصول مما لم ينقطع تدريسه في الكلية في أي عصر حتى العصور المتأخرة. حين كان بعض هذه العلوم في بلاد أخرى لا يقرأ إلا للتبرك بسرده. وكانت هذه الدراسة مجال البحث والاستنتاج وفرصة المحاضرات القيمة في التربية والتهذيب، وحسبك أن تقرأ وصف مجلس من مجالس العلامة أبي القاسم العبدوسي الذي قضى التونسيون العجب منه في ذلك الوقت وأن تعلم أن ابن الصباغ أحد رجال هذه الجامعة أملى علي حديث: يا أبا عمير ما فعل النفير 400 فائدة
ومن ثبت أسماء النابهين في هذه العلوم وأسماء مؤلفاتهم تدرك مبلغ القيام الذي كان لأهل القرويين عليها. ونحن نذكر بعض البعض ممن نعرفهم ونعرف انقطاعهم في الكلية الذي تنقطع دونه الأطماع، ولا يمنعنا من التبسط في شرح ذلك إلا إرادة الإيجاز وخوف الإملال وهؤلاء مثل العالم الصوفي الجامع علي ابن حرزهم المتوفى سنة 550 والمتكلم أبي بكر السلالجي صاحب البرهانية في علوم الاعتقاد، كان يعد في طبقة أبي المعالي الجويني؛ توفى سنة 564، والمفسر المحدث ابن عبد الجليل القصري المتوفى سنة 615، والمفسر الأصولي أبي عبد الله المزدغي المتوفى سنة 655 والمحدث الرواية ابن رشيد السبتي المتوفى سنة 692، والعالم الصوفي الجامع الشيخ زروق المتوفى سنة 899، والحافظ أحمد بن يوسف الفاسي المتوفى سنة 1021، والحافظ أبي العلاء العراقي المتوفى سنة 1183 والمفسر المتكلم الشيخ الطيب ابن كيران المتوفى سنة 1227
ولا ننس أن ننبه إلى ما كان لعلوم القراآت من شأن كبير في الكلية فقد كانت العناية بها شديدة في كل عصر، وكان يتخصص فيها كثير من العلماء فضلا عن مشاركة جمهورهم فيها، لأن أوائلها كانت تتلقى في الكتاتيب القرآنية التي ما كان يتولاها إلا كبار الأساتذة المتحققين بتلك العلوم وغيرها. تأتي هي الثانية بعد الفقه في برنامج العلوم التي كانت تدرس في القرويين وفي جميع المغرب. ويكفيك أنه كان لطلبتها مدرسة خاصة بهم هي
مدرسة السبعيين (أي القراء بالروايات السبع) الواقعة بازاء مدرسة الأندلس والتي كانت قد درست معالمها وأغلقت منذ مدة ثم هي الآن قيد الإصلاح والترميم.
ومن نبغاء خريجي القرويين في هذه العلوم ميمون الفخار صاحب التحفة والدرة وغيرهما المتوفى سنة 716 وابن بري صاحب الدرر اللوامع المتوفى سنة 731 والخراز صاحب مورد الظمآن المتوفى سنة 818 وسواهم كثير.
وأما علوم اللغة والأدب فقد ظلت الكلية رافعة رايتها منذ انبثاق فجر النهضة العلمية في المغرب على عهد المرابطين إلى يوم الناس هذا. ومر عليها زمن لم يكن ينافسها معهد آخر أيا كان في أداء رسالة الأدب العربي والقيام على حفظ تراثه من الضياع، وذلك حين يقول الشيخ محمد بيرم الخامس في كتابه (صفوة الاعتبار):(لعمري أن صناعة الإنشاء في الدولة باللغة العربية كادت تكون الآن مقصورة على دولة مراكش)
ولقد درج في الكلية من فطاحل علماء اللغة وكبار أهل الأدب ما بقي فخراً لها على مر السنين والأعوام، مثل الشاعر الأديب يحيى بن الزيتوني الذي قهر ابن زيدون في بلاط ابن عباد، والشاعر الباقعة ابن حبوس الفاسي، والعلامة ابن رقية من ذرية المهلب ابن أبي صفرة كان حجة في الأدب وله كتاب في الشعر والأنساب توفى سنة 606هـ. والشاعر المشهور أبي العباس الجراوي الذي يعد من مفاخر هذه العدوة، وصاحب كتاب صفوة الأدب وديوان العرب المعروف بالحماسة المغربية الموجود مختصره في مكتبة بالأستانة توفى سنة 609 بعد وفاة المنصور الموحدي مخدومه بنحو 14 عاماً خلاف قول ابن خلكان أنه توفى في آخر أيامه. والشاعر الفيلسوف أبي العباس الجزنائي الذي كان محفوظه من شعر المحدثين فقط عشرين ألف بيت. توفى سنة 479؛ والنحوي أبي عبد الله بن آجروم المشهور المتوفى سنة 723؛ والنحوي اللغوي أبي زيد المكودي المتوفى سنة 807 والنحوي أبي العباس القدومي المتوفى سنة 992، والأديب الشاعر الناثر عبد العزيز القشتالي، مفخرة المغرب في عصره، المتوفى سنة 1032؛ والنحوي محمد المرابط الدلائي المتوفى سنة 1089؛ والشاعر الأديب أبن زاكور شارح الحماسة والقلائد وصاحب كثير من الكتب الأدبية القيمة المتوفى سنة 1120؛ والشاعر الرقيق ابن الطيب العلمي صاحب الأنيس المطرب المعروف المتوفى سنة 1134؛ وإمام أهل اللغة في عصره أبي عبد الله
محمد بن الصميلي صاحب الحاشية الفريدة على القاموس الذي استقى منها كثيراً السيد مرتضى صاحب (التاج)، وعنه يعبر بشيخنا وله عشرات الكتب غيرها في اللغة والأدب توفى سنة 1170، إلى غير ذلك. . .
بقى الكلام في العلوم الفلسفية بمعناها القديم الذي يشمل الرياضيات والطبيعيات ومنها نوعان لهما ماض زاهر في الكلية، فمنذ انضمام الأندلس إلى المغرب في أيام المرابطين، جعل الاحتكاك بأهل الجزيرة يفعل فعله في توجيه أنظار أهل هذه البلاد إلى الأخذ بأسباب تلك العلوم، وكان أن انتقل إلى هنا - بانتقال الدولة - كثير من علمائها المتحققين بأجزائها فتهافت عليهم طلبة القرويين يقتبسون من مشكاتهم ويأخذون بأدواتهم فما لبثوا أن شاركوهم في جميع تلك التعاليم ونظروا إليها نظرتهم ونبغ منهم أفراد كثيرون كان لهم قياس (حس) على فنون من العلم الطبيعي والرياضي والإلاهي وآثار جميلة في جميع ذلك وما برحوا عاملين على بثها ونشرها والتواصي بتبليغها وتلقينها لمن يأتي بعد جيلاً فجيلا حتى تأدت بقية منها إلى العصر الحاضر في مظهر من البلى والقدم لا يٌرضي أنصارها ومحبيها وإنما كان ما تحت ذاك المظهر لا يزال يحوي كثيراً من الفوائد القيمة والحقائق العلمية الثابتة
فمن رسل الثقافة العلمية من أهل الأندلس إلى المغرب أبو بكر ابن باجة الفيلسوف والعالم الطبيعي والرياضي والطبيب والموسيقار المشهور، وأبو العلاء بن زهر الطبيب البارع المدقق في شتى الأمراض، وابنه أبو مروان صاحب كتاب التيسير في المداواة والتدبير، والذي أثر تأثيراً بليغاً في الطب الأوروبي بترجمة كتبه وهو ميت فكيف يكون تأثيره في المغرب وهو حي؟ وأبو بكر ابن طفيل الفسكسي والطبيب والفيلسوف المشهور صاحب قصة حي بن يقظان وأبو الوليد بن رشد الذي ما أثر تأثيره أحد في نهضة العلوم بأوربا. وقد كان في بلاط الخليفة الموحد يوسف ابن عبد المؤمن الذي بلغ في رعايته وإكرامه وهو الذي حمله على شرح كتب أرسطو وتلخيص فلسفته
ومن الأفراد النابغين في هذه العلوم من أبناء البلاد الذين درجوا من الكلية وتخرجوا فيها العلامة أبو الياسمين كان فرداً في العلوم الرياضية من هندسة ونجوم وعدد، وله أرجوزة في الجبر قرأت عليه بأشبيلية سنة 587 وكان هو الذي نشر ذلك العلم بها. ويوسف بن مأمون الإسرائيلي الطبيب والرياضي الكبير قرين موسى بن ميمون وصاحبه بمصر
واجتمع هو وإياه على إصلاح ابن افلح الأندلسي. وهذا وان لم يدرس بالقرويين فإن تخرجه على يد علمائها لأنه من أهل فاس وبها درس كما يقول ابن القفطي. وابن البناء العدوي، العلامة الرياضي والفلكي والطبيب المشهور له موضوعات كثيرة في الحساب والجبر والفلك وغير ذلك وتفوق على كثير من علماء الرياضة قبله سواء في الشرق أو المغرب وخاصة في حساب الكسور، توفى سنة 721؛ وابن أبي الربيع اللجائي العالم الرياضي الفلكي المبدع له أعمال متفوقة وآلات نافعة في علم الهيئة، وكانت وفاته سنة 773 والعلامة الجادير صاحب روضة الأزهار في علم الهيئة المتوفى سنة 818؛ وأبي الفديم الوزير الطبيب والعالم النباتي المشهور صاحب مدينة الأنوار في شرح ماهية العشب والأزهار، وكان طبيب المنصور الذهبي الخاص. وأبي القاسم الغول العالم الرياضي والطبيب مؤلف كتاب حافظ المزاج ولافظ الأمشاج المتوفى سنة 1059 وابن حميدة المطرفي صاحب المقرب في الهيئة المتوفى سنة 1001، وأبي سليمان الشروداني الفيلسوف والرياضي البارع له أعمال وآلات لم يسبق بها في الفلك توفى سنة 1095 وعبد الرحمن العبابي العلامة الطبيعي والرياضي والفيلسوف مؤلف الأنتوم في مبادئ العلوم تكلم فيه على زهاء (150) علما واستوعب نظرياتها واستوفى حدودها فهو من الموسوعات العظيمة الفائدة توفى سنة 1096، وعبد الوهاب أدران الطبيب المدقق صاحب الذيل على أرجوزة ابن سينا وغيره من الكتب الموضوعية المتوفى سنة 1159، وعبد القادر بن شقرون صاحب الشقرونية وغيرها في الطب، وكثير غير هؤلاء لم نشر إلى أسمائهم اختصاراً لحصول المقصود من الرسالة على ما قامت به هذه الجامعة في الماضي من نشر الثقافة العلمية وتأدية رسالة العربية كما حملت. ولهذا لا يستغرب أن يؤمها الطلبة من أقصى بلاد أوربا وغيرها، فهناك في تلك العصور التي يدعونها عن حق - بالعصور المظلمة - لم يكن قد تقرر للعلم مدلول بعد. وقد اشتهر كثير ممن درس فيها من الأجانب وكان لهم تأثير قوي على العقلية الأوربية في ذلك الحين، ومن أعظمهم البابا سلفستر، الذي هو أول من أدخل إلى أوربا الأعداد العربية التي لا تزال مستعملة في المغرب إلى الآن وتعرف بحروف (الغبار) أو (بالغباري) بدون إضافة
ثم إن نظام الدراسة في القرويين لا يختلف عما هو عليه في الجامعات الإسلامية الأخرى،
كما لم يختلف عما كان عليه منذ الأزمان المتطاولة: يجلس الأستاذ فيحلق عليه الطلبة ويأخذ في إملاء درسه الذي يكون في الغالب تفسيراً لمتن وتقريراً لأقوال شراحها ونظراً فيما بينها من الاختلاف، وقد ينجر به الحديث إلى الخروج عن الموضوع، إنما إذا كان ضليعاً في مادته واسع الاطلاع عظيم المحفوظ فلا خوف على الطالب من ذلك الخروج، بل أنه ليستفيد منه ما لا يقدر أن يجده في كتاب أو يهتدي إليه بمجرد فهمه
وإذا كان الطالب ممن لازم الحضور بمجلس أستاذ ما، وظهرت عليه مخايل النجابة فانه يحق له أن يتقدم إلى ذلك الأستاذ بطلب إجازة تكون - كأنها أهم ما أنشأه في حياته الدراسية - بمثابة أطروحة منها تتقرب منزلته في التحصيل
(يتبع)
(طنجة)
عبد الله كنون الحسني
رسالة الشعر
مَيّ
للأستاذ إبراهيم العريض
وَلما تفيَّأنا ظِلَالَ خَمِيلَةٍ
…
تُساَقِطُ مِثْلَ الدُّرِّ فوق خُطاناَ
وحدَّثتُهاَ بالْحُبِّ وَهْيَ مُصِيخَةٌ
…
عَلَى أَمَلٍ أَن تلتقيِ شفَتَاناَ
أشاحتْ إلى الأزهارِ عنِّي بوجهِها
…
دَلَالاً وقالت لي كفَى هَذَياناَ
أَتأملُ مني أن أُصَدِّقَ بالهوَى
…
جُزافاً. وطرْفي لا يراهُ عياَناَ
فقلتُ لها يا مَيُّ ما الروضُ ناضِراً
…
ولا الطيرُ أحلى ما يكونُ لِساناَ
بِأَحْسَنَ من خَدٍّ تَوَرَّد في الصِّبا
…
وأعْذب من ثغر يفيضُ بيَاناَ
لقد كانَ أَولى أن نمتِّعَ بَعضْنَا
…
بأَنظارِ بعْضٍ في جُنونِ صِباناَ
وَما قِيمة الأزْهَارِ في جانِبِ الهوى
…
أَليسَ الهوَى يا مَيُّ أعظَمَ شاناَ
أُنَاشِدُكِ الْحُبَّ الذي عَهْدُنا بهِ
…
سوِيّاً كأخْفَى ما يكونُ مكاناَ
ألم تَشْعُري شيئاً تمثَّلَ بينْنَاَ
…
لأَوَّلِ عهدٍ تمَّ فيهِ لِقاناَ
أَبعْدَ تعاطِينا مَعاً كأسَ أُلْفَةٍ
…
يجوزُ لنا ألا نحِسَّ صَداناَ
فماَلكِ تَسْتَعْدِين قلبي عَلَى الهوَى
…
كأنَّكِ ما شاطرْتِهِ الخفَقاناَ
تعالَيْ إلى عَهْدٍ وَثيقٍ من الهوَى
…
نعِيشُ عليهِ في الْحَياةِ كلاناَ
فلا يَزْدَهِي قلبي بِشَيءٍ مُؤَمّلٍ
…
إذا لم يُصَادِفْ في فُؤَادِكِ شاناَ
ونُفرِغُ في كأسِ الأمانِيّ حُبَّناَ
…
فتَسعَى بِهِ ما بيْنَناَ شفَتاَناَ
وَلا نْلَتقِي إلا كما لَفّتِ الصَّبا
…
فُروعاً تفيَّأنا بِهن أَماناَ
ونختالُ في رَوْضِ المحبَّةِ وَحْدَنا
…
فلا يتَغَنّى طَيْرُها لِسِوَانا
وإن تَعْهَدِي يَوْماً فؤَادَكِ خافِقاً
…
شَعَرْتُ لقلبِي مِثْلَهُ خفَقاَناَ
كأنَّ الذي ينساَبُ مِلء كِليْهِماَ
…
صُباَبَةُ ما سَاقي الغَرَام سقاَناَ
وآناً نُبَكِّي كالطّيُورِ وُجُودَنا
…
بِلحْن وكالأزْهارِ نَضحَكُ آناَ
فنُسْعِد بعضاً باشتِرَاكِ سُرُورنا
…
ونُسْعِد بعضاً باشتِرَاكِ أَساَناَ
كذلِكِ نحْياَ بالسَّوَاءِ وَها فَمي
…
ضَماناً لعَهْدٍ لو أَرَدْتِ لكاناَ
فَعِنْدَئذٍ مالَتْ إليَّ ببِشْرِها
…
فأَيْقَنْتُ أَنّا شَيِّقاَنِ كِلاناَ
فأَدْنَيْتُ ثَغرِي باشْتِياَقٍ لِثَغْرها
…
فما افتَرَّ حتَّى قَبَّلَتْهُ حَناناَ
وقالت (إذاً هَذَا هُوَ الْحُبُّ) قلت ُ (لا
…
بَلِ الراحُ) قالت (فَلْنَبُلَّ صَدَاناَ)
(البحرين)
إبراهيم العريض
أنا ما لي.
. .
للأستاذ صالح جودت
تركَتْني في اعتلالي
…
وَرَمَتْني لليالي
بعدما أشهدْتُها القل
…
بَ فقالت: (أنا ما لي!)
أنتِ يا مَنْ أُرسلُ الدم
…
ع إليها. . . وهو غالِ
أنا ما آمنتُ قب
…
لك يوماً بالجمالِ
وأنا بالسحر والفت_نة ما كنتُ أبالي
ذهب الحبُّ بنفسي
…
ووقاري وجلالي
أيّ خَطْبٍ عندما تدْ
…
مَعُ آماق الرجال!
أَنتِ يا مَنْ أسأل الأيَّ
…
امِ عنها والليالي
ليتها تستشعر القس
…
وَةَ في ذُلِّ السؤال!
تركتني في اعتلالي
…
لم يَرُعْهاَ سوءُ حالي
فتضرعتُ إلى اللي
…
ل بقلبٍ غيرِ سالِ
قلتُ يا ليلُ أما عن
…
دكَ من طيفِ خيال؟
رَقَّ قلبُ الليل حتى
…
بَعَثَ الطيفَ حيالي
فتمنيتُ عليه
…
بشحوبي وهزالي
إن رَأَى رَيَّتَهُ قَ
…
صَّ عليها ما جرى لي
فانثَنى عني ملالاً
…
وَتَوَلَّى في دلال
بعد ما ردد ما يح
…
فظ عنها: (أنا ما لي!)
قلتُ لله وقد قَ
…
لَّ مع الدنيا احتيالي
أأنا يا رَبِّ عبدٌ
…
لك لم يخطرْ ببال؟
وإذا ضَلَّ فؤادي
…
أَفيعييكَ ضلالي؟
وإذا ضاقَتْ بيَ الأر
…
ضُ فهل تأبى احتمالي؟
آه لو قلت كما قا
…
ل حبيبي (أنا ما لي!)
حسناء في بحر الروم
للأستاذ محمود عماد
عومي على الماء يا أَصفَى من الماءِ
…
ثم ارسبي فيه ضوءًا طيَّ أضواءِ
واستقبلي موجَهُ يُقبلْ على عجل
…
إليكِ موجُ المحيطِ الهادئ النائي
يا فرحةَ البحر تَسْرِى في جوانبه
…
ووحشةَ البرِّ أقوَى أَيّ إِقواءِ
سَلِي الأجاجَ أَلم يفقدْ ملوحتَهُ
…
وأَنتِ مطويّةٌ منه بأطواءِ؟
كم من قلوب عليكِ اليوم حائمة
…
لا تغرقيها إذ ما غبتِ في الماءِ
كذا أظلتْ سليمانَ الطيورُ فهل
…
أتاكِ هدهدُكِ الوافي بأنباءِ؟
أم أنتِ (فينوس) تُجلَي من محارتِهاَ
…
في يوم ميلادها الثاني إلى الرائي؟
هاتي قصاراكِ من حُسنٍ ومن مرح
…
واعلِي على كل تشريع وإجراءِ
فعالَم البحرِ يَرْعَى شرعةً وسطا
…
ما بينَ عالم أشباحٍ وأَحياءِ
تجردَ الجسمُ فيه من كثافتهِ
…
وهام كالطيفِ في ماءٍ ولألاءِ
لم أدرِ ما الأرضُ لولا البحر لطّفهاَ
…
ولا الحياة بلا لهوٍ وإغراءِ
لحن جديد
للأستاذ فريد عين شوكه
أَسْلَمْت لِلْقَدَر الرَّضِىِّ يميني
…
فحناَ ولم يُخْلِف عليَّ ظُنُوني
وَمَضى فَوَافَى بي إلى سِيفِ المنَى
…
فَلَثَمْتُ طهْر ترابه بجبيني
وَعَبَأْتُ أحشائي بطيبِ نَسيمه
…
وكَحَلْتُ بالنُّور السنىِّ جُفوني
وَسَعَيْت في جَنَباَتِه أشكو لها
…
عَبَثَ النَّوَى وأَبثُّهُنَّ حنيني
يا طاَلماَ أَمَّلْت حُلوَ لقائه
…
فتحَّطَمت دون اللقاء سَفِيني
وظلِلْتُ في بحر الحياة مُغالبِاً
…
موجاً يثور عليَّ كالمجنونِ
ما كان أضعفني حِياَلَ كِفاَحِهِ
…
لولا المنَى بَرِقَتْ فجنَّ جُنوني
ٍلولا الأمانيُّ العِذابُ وَسِحْرها
…
ما عاش هذا الكون بِضْع سِنين
يا مَشرقَ الأمَل الرَّغِيبِ الْمُشْتَهَى
…
لا زال فَيْضُ سَناَكَ مِلَْء عُيُوني
لازِلْتَ تُسْعِدُنِي بكل رَجِيَّةٍ
…
تَجلُو الأسى عن قلبيَ المحزونِ
بَدِّدْ ظَلَام اليأس بينَ جَوَانحي
…
وَارْدُدْ علىَّ الْبِشرَ غيرَ ضنِين
وانشُرْ شُعاَعاتِ الرِّضى في خاطِرِي
…
تُسْكِنْ نَوَزِايَ ثَوْرَتِي وَشُجُوني
ما أَفْسَدَ الأيَّامَ يغمرها الأسى
…
فتضيع بينَ شكايةٍ وَأَنينِ
يا قَلْبُ وَافَتْكَ المنَى بَسَّامَةً
…
كالْبَدْرِ يَسْطَعُ في الليالي الْجُونِ
فَتَحَتْ ذراعَيْهاَ إِليكَ وَأَقبَلتْ
…
فَتَّانَةً تسعَى إِلى مَفْتُونِ
صَفِّقْ لها يا قلبُ بَعْدَ صَباَبَةٍ
…
وَاطْفِرْ بها يا قلبُ بَعْدَ سكونِ
وَاغْنَمْ لذاذَتَهاَ وَعُبَّ رَوِيَّهاَ
…
عَبَّ الظِّماَءِ وَرَدْن خير مَعَينِ
وَدِّعْ حياةَ الزُّهد فهي ثقيلةٌ
…
كالسجْنِ أَعْباَءٌ على المسْجُونِ
وَانْعَمْ فأَيَّام الحياةِ عزيزة
…
إِن وَدَّعَتْ أَرخَصْنَ كل ثمين
البريد الأدبي
بيننا وبين لجنة إنهاض اللغة العربية
أرسل ألينا صديقنا الأستاذ أحمد أمين هذا الكتاب جواباً عما سأل (سائل) في (البلاغ) وفي (الرسالة) ننشره ثم نعقب عليه:
أخي الأستاذ الزيات
سلام عليكم ورحمة الله
قرأت في مجلة الرسالة سؤالاً موجهاً إلى لجنة إنهاض اللغة العربية يسأل صاحبه لِمَ لم تقرر اللجنة كتب الأستاذ الزيات
ورداً عليه أقول: إن اللجنة لم تفتها كتب الأستاذ كتبت فيما كتبت للوزارة:
إن للأستاذ الزيات كتابين في مستوى الطلبة هما آلام فرتر ورفائيل، وهما من خير الكتب من حيث دقة الترجمة وجزالة الأسلوب ونصاعة التعبير وقوة البيان - ولكن آلام فرتر موضوعه حب هائم ينتهي بانتحار فضيع. ورفائيل رسائل غرام بن شاب وامرأة متزوجة
ولم نرى من الخير أن توضع أمثال هذه الكتب في أيدي الطلبة لناحيتها الأخلاقية لا لناحيتها البلاغية، ولو فعلنا لخالفنا ضمائرنا وهاج علينا أولياء أمور الطلاب بحق
أما كتاب (في أصول الأدب) فقد منعنا من اقتراحه عدم الوحدة في موضوعه واشتماله على مقالات فوق مستوى الطلبة
فهل يرى السائل بعد هذا البيان أن اللجنة تجنت على الأستاذ الزيات أو غمطته حقه في الأدب أو مست شيئا من مكانته في علو البيان؟
لا شيء من ذلك ولكنه الحق قدمته على كل اعتبار. وهل يطالب المرء بأكثر من أن يعمل وفق ما يعتقده من حق؟
أما ما وراء ذلك من لمز بأننا تملقنا الرؤساء وقصرنا اختيارنا على مؤلفات من نرجوهم أو نخشاهم فإننا نعرض عن الرد عليه والخوض فيه، فقد التزمنا في الحياة أن تصم آذاننا عن السباب وما يتصل به. والسلام عليكم ورحمة الله
17 -
8 - 938
أحمد أمين
ذلك هو جواب الأستاذ أحمد أمين عن أسئلة (سائل). والذي يعرف الأستاذ أحمد أمين ويعلم أن أخص ما يميزه حياة الضمير وسلامة المنطق، يدرك ما كابده الأستاذ من الجهد في إقناع نفسه بهذا الجواب. فإن (آلام فرتر) كتاب عالمي قرأه ولا يزال يقرأه ملايين من الفتيان والفتيات في جميع أمم الأرض، ولم نعلم أن أمة من هذه الأمم حضرته على الطلاب لأن (موضوعه حب هائم ينتهي بانتحار فظيع). وقد ترجم إلى العربية منذ ثمانية عشر عاماً، وأعيد طبعه سبع مرات، وقرأه كل مثقف في بلاد العروبة، ولم نسمع أن حاثة من حوادث الانتحار اليومية قد وقعت بسببه. وماذا يكون مصير التعليم والتمثيل إذا طبقنا عليه مثل هذا المبدأ على مآسي النوابغ في كل أدب؟. على أن فرتر مثال العفة والإخلاص والإيثار والتضحية، فلا يمكن أن يعاب من جهته الأخلاقية؛ والأستاذ أحمد أمين نفسه حين ألف كتابه (الأخلاق) قد اقتبس صفحة منه وعزاها إليه
أما (رفائيل) فحبه حب عذري صوفي لا نجد له مثيلا في الكتب ولا في الطبيعة. فهل يرى الأستاذ أن الحب جريمة وإن لم يجُرُّ إلى معصية؟ إن كان ذلك رأيه فلم لم يحضر القرآن على طلاب المسلمين لأن فيه (سورة يوسف)، والتوراة على الطلاب النصارى واليهود لأن فيها (نشيد الأناشيد)؟
لا أدري كيف قال الأستاذ: (ولم نر من الخير أن توضع أمثال هذه الكتب في أيدي الطلبة لناحيتها الأخلاقية لا لناحيتها البلاغية، ولو فعلنا لخالفنا ضمائرنا وهاج علينا أولياء أمور الطلبة بحق) فهل نسي صديقنا الأستاذ أحمد أمين أنه رئيس (لجنة التأليف والترجمة والنشر) وأنه هو نفسه الذي قرر طبع هذين الكتابين على نفقتها، وأنه هو نفسه الذي طلب إلى وزارة المعارف أن تشتري منهما لمكتبات مدارسها فاشترت؟
بقي الكتاب المسكين الثالث (في أصول الأدب)، وهذا الكتاب هو مجموعة مبتكرة من المحاضرات والمقالات تدور كلها حول الأدب وأصوله وقواعده. فليت شعري ماذا يريد الأستاذ بوحدة الموضوع الذي لم يجدها فيه؟ نحن لم ندع أنه قصة، ولم نقل أنه كتاب في موضوع معين. إنما هو بحوث نشرناها مفردة ثم جمعناها تحت وصفها العام كما فعل العقاد في (المطالعات)، والمنفلوطي في (النظرات)، والبشري في (المختار). ثم ما هذا المستوى الذي وضعه الأستاذ للطلاب وجعل فوقه (في أصول الأدب) وتحته (ضحى
الإسلام)؟ وهل يصعب على الطالب الذي يفهم ضحى الإسلام لأحمد أمين، وابن الرومي للعقاد، أن يفهم (في أصول الأدب) وأكثره مقرر على طلاب السنة التوجيهية حتى لم يجد المعلمون والطلاب في العام المنصرم مرجعاً غيره في هذا المنهج؟
الحق أن أسئلة (سائل) لا تزال تطلب الجواب، وأن اضطهادنا في وزارة المعارف يرجع إلى أسباب غير هذه الأسباب. .
الزيات
الثقافة النسوية واللغة العربية
أصدر صاحب المعالي وزير المعارف القرار التالي:
بعد الإطلاع على القرار الوزاري الصادر في 14 سبتمبر سنة 1931 بإنشاء معهد تربية للبنات به قسم للتخصص في اللغة العربية. وبناء على ما تجمع لدينا من معلومات بشأن هذا القسم وأنه في حاجة إلى رفع مستواه وإلى أن تكون فيه دراسة الدين والثقافة الإسلامية اللذين يتصلان اتصالاً وثيقاً باللغة العربية عنصراً مهماً بين مواد الدراسة، ورغبة في إعداد مدرسات لا تقتصر قدرتهن على التدريس في المدارس الابتدائية، وبناء على ما عرضه علينا وكيل الوزارة - قررنا ما يأتي:
المادة الأولى - ينشأ قسم بإحدى المدارس الثانوية للبنات بالقاهرة يسمى (قسم اللغة العربية الثانوي) تكون مدة الدراسة فيه ست سنوات تدرس التلميذات به في السنوات الأربع الأولى مواد الثقافة العامة على حسب منهج التعليم الثانوي للبنات مع مزيد عناية باللغة العربية والثقافة الإسلامية، وفي السنتين الأخيرتين توجه الطالبات توجيهاً كاملا في اللغة العربية وموادها وفي الثقافة الإسلامية
المادة الثانية - تؤلف لجنة لوضع المناهج التي يستلزمها إنشاء هذا القسم
المادة الثالثة - تعد مناهج انتقالية لشعبة اللغة العربية بمعهد التربية الحالي بالسنتين الأولى والثانية تسير عليها الدراسة في بدأ العام المقبل بحيث تكون هذه الدراسة متجهة إلى الغاية التي تنشدها الوزارة من التخصص في اللغة العربية والثقافة العربية
تاريخ الأدب المقارن في دار العلوم
رأى معالي وزير المعارف عند بحث مناهج القسم العالي لدار العلوم على أساس تنظيمها الجديد أن ضروريات الثقافة العربية لا تقتصر على دراسة الأدب العربي في كل عصوره، بل تشتمل دراسة الآداب الأجنبية الحديثة والإلمام بكيفية تدرجها في الممالك المختلفة ووجوه الاختلاف بينها وبين الأدب العربي من حيث الخيال وطرائق التصوير وروح الأسلوب وإرجاع ذلك إلى أسبابه من آثار البيئة واختلاف المواطن وقوة العقلية. وتحقيقاً لاستكمال هذه الغاية أشار معاليه على المختصين بإضافة دراسات أدبية من هذا النوع إلى مناهج الأدب بهذا المعهد، على أن تشمل فضلا عن الجانب التاريخي والدراسة المقارنة دراسة أخرى لتاريخ بعض البارزين من أدباء إنجلترا وفرنسا وألمانيا وروسيا في العصر الحديث وبعض البارزين في الممالك الأخرى التي اشتهرت بازدهار الأدب فيها
هذا وقد روعي في العمل بهذا الرأي ما لوحظ من أن القراءة الغربية لها أثر كبير في إنهاض اللغة العربية إذا ما كان القارئ ذا ثقافة عربية أصيلة وذا سيادة شخصية وطابع خاص في تقبله لمختلف الآراء والمذاهب
على أن فائدة هذا التوجيه الأدبي الجديد تكون في صورة أجلى وأوضح إذا ما راعينا أن أستاذ اللغة العربية الذي تعده وزارة المعارف للمستقبل يجب أن يكون من كافة النواحي كامل الثقافة حتى يحتفظ بهيبة الشخصية أمام تلميذه الذي يلم ولو بنزر يسير من الآداب الغربية
قرار جماعة كبار في قضية فلسطين
اجتمعت جماعة كبار العلماء بالجامع الأزهر يوم الخميس 22 جمادى الثانية سنة 1357 الموافق 18 أغسطس سنة 1938، واستعرضت حالة فلسطين وما يجري فيها من التصادم، وأسفت أشد الأسف لهذه الحالة التي هي بلا شك نتيجة للسياسة التي انتهجتها حكومة الإمبراطورية البريطانية نحو هذه البلاد وبخاصة سياسة التقسيم التي يراد فرضها على بلاد عربية إسلامية ذات ذكريات عند المسلمين لم تغب بعد عن أذهانهم، والتي من شانها تصبغ بلاداً عربية إسلامية صبغة أخرى بطريق لا مبرر له، ومن شأنها أن تؤثر في علاقات الأمم الإسلامية بحكومة الإمبراطورية البريطانية تأثيراً سيئاً
لذلك قررت جماعة كبار العلماء ما يأتي:
1 -
تحتج على استمرار هذه السياسة وعلى مشروع التقسيم على أية صفة يجري عليها التقسيم والمطالبة بأن تبقى للبلاد صفتها العربية الإسلامية وأن يحافظ على كيانها القومي
2 -
تدعو جماعة كبار العلماء زعماء بلاد الإسلام إلى التكاتف واتخاذ ما يرونه مفيداُ من الطرق للمحافظة على بلاد فلسطين، وعلى إيجاد حل ينهي هذه الحالة السيئة ليسود السلام بين الأمم
3 -
تدعو جماعة كبار العلماء المسلمين إلى تذكر قضية فلسطين ليلة المعراج وأن يتوجهوا إلى الله سبحانه في تلك الليلة بأن يحفظ هذه البلاد مما يراد بها، وأن يحفظ الآثار المقدسة من الأخطار القريبة والبعيدة
وقررت إبلاغ هذا إلى الجهات المختصة بواسطة حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء بالنيابة
احتجاج مسلمي الهند على كتاب للمستر ولز
روت جريدة الديلي اكسبرس أن المسلمين الهنود أعضاء جمعية الشبان المسلمين في لندن اجتمعوا أمس واحتجوا على فقرة واردة في كاتب ألفه المستر هـ. ج ولز الكاتب الإنجليزي وعنوانه (مختصر تاريخ العالم). وقد تكلم خطيب بعد آخر قائلين أن ولز أهان الإسلام وطلبوا من السلطات الهندية أن تمنع دخول الكتاب إلى الهند. واحرقوا نسخة من ذلك الكتاب
ثم اتفق المجتمعون على السير بموكب منظم إلى مكتب مندوب الهند السامي إلى وزارة الهند، واقترحوا أن يمروا بموكبهم على منزل المؤلف في لندن لمطالبته بالاعتذار
وقد جاء من كلكوتا أن ألوفاً من الهنود حضروا الاجتماع الذي عقد فيها أخيراً للاحتجاج على المؤلف
وقد نشر هذا الكتاب لأول مرة في سنة 1922. ولكنه ترجم في المدة الأخيرة بطريقة ملخصة إلى اللغة الهندوستانية. وقد نشرت جريدة تصدر هناك باللغة الوطنية مقالا عنه نددت فيه به وطعنت في المستر ولز فهاجت خواطر الناس وعقدوا اجتماعاً للاحتجاج في كلكوتا. وقام الآن بعض المخلصين لإيمانهم في لندن يصنعون كما صنع إخوانهم في وطنهم
وقد قابل ممثل إحدى الصحف الهندية الكبرى المستر ولز فقال أن انتقاداته لم تكن قليلة الاحترام للعقائد وهو عارف بما أدى الإسلام لثقافة العالم من الخدمات، وليس من العدل أن يحكم هؤلاء المسلمون على آرائه بفقرة شاردة وردت عرضاً في تلخيص كتابه
وقالت جريدة إيفنن ستاندر إن عشرة من المسلمين المتشددين يعملون الآن ليل نهار في صنع ثلاثة تماثيل من الورق الصفيق للمستر ولز يريدون إحراقها في أرض مسجد لندن. فيعقدون هناك اجتماعاً وبعد أن يصلوا يدفعون بالمستر ولز الرمزي إلى النار
تعليم الأميين في إيران
جاء من طهران أن المساعي المبذولة لتعليم الأميين في إيران قد وصلت إلى نتائج باهرة. فقد أنشأت الحكومة مدارس ليلية للكبار، وبعد سنتين منحت وزارة المعارف شهادات لخمسة وعشرين ألفا و245 شابا كانوا قبل ذلك أميين تماما.
وقد أنشئت هذه المدارس منذ ثلاثة أعوام في كل أنحاء المملكة وفي هذا العام تقدم للامتحان 24 ألفا و233 شابا أكثرهم تجار من أصحاب الحوانيت الصغيرة وباعة متجولون فمنحت الوزارة شهاداتها لخمسة عشر ألفا و722 منهم. ويرى الناس الآن إعلانا منشورا في كل مكان تعريبه: (العلم هو القوة)
الكتب
حول نقد ديوان
هكذا أغني
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
بقلم الأديب مختار الوكيل
يقول الأديب عباس حسان خضر إن محمود حسن إسماعيل، شاعر الريف النابغة، صاحب ديوان (هكذا أغني)(يمضي متدفقاً مندفعاً عنيفاً، وفي كثير من الأحيان يتبع هذا التدفق والعنف عدم اكتراث بسلامة الذوق، واعتساف في الفكر وفي التعبير - كما نبين فيما يأتي - معتمداً في ذلك على قوة طبيعته ونشاط خياله، غير متقيد ولا محترس، فهو يعول على الهبة الفطرية أكثر مما يعول على المهارة الاكتسابية.)
ولم يتبع هذا الكلام بيانٌ دقيقٌ عن عدم اكتراث الشاعر بسلامة الذوق واعتساف الفكر والتعبير كما قال؛ وإنما مضى يقول بعد ذلك:
(يمتاز شعر هذا الديوان بشيء لعلي موفق إذْ أسميه (الروعة) وهو ذلك الذي يستغرق المشاعر ويروع العواطف ويأخذ بالذهن إلى عوالم متنائية الأطراف، ولعل مبعثه بعد المدى في الخيال، والإيغال في تصوير الأشياء التي يكتنفها الغموض!)
ويفهم أي قارئ لهذا الكلام أن الكاتب يحاول أن يهاجم الشاعر النابغة ولكن إحساسه الباطني بشاعرية محمود إسماعيل تخونه في التعبير الذي يقصد! فالكاتب يذكر أول الأمر أن محموداً في شعره متدفق مندفعٌ عنيفٌ، ولكنه لا يكترث غالباً بسلامة الذوق الرفيع، ويعتسف في الفكر والتعبير؛ وبمعنى آخر يريد أن يقول إن محموداً شاعرٌ مطبوعٌ ملهمٌ ولكنه لا يجيد صناعة الألفاظ، وهذا الكلام في صالح محمود ولعل الكاتب لم يقصد إليه.
وقوله بعد ذلك إن الشاعر يأخذ الذهن إلى عوالم متنائية الأطراف وإنه بعيد مدى الخيال، وإنه يوغل في تصوير الأشياء التي يكتنفها الغموض اعتراف صريح بعبقرية الشاعر؛ فما أظن أن هناك تعريفاً لشعر شاعر أجمل من هذا التعريف الذي ندَّ به قلم الكاتب الفاضل عن غير قصدٍ. أقول عن غير قصد، ومعي الدليل البيِّن على ذلك، إذ لم تمض بضعة
سطور على هذه الإشادة الظاهرية بشاعرية محمود، حتى يفجأ الكاتب قارئه بنقدٍ لبيت رائع من قصيدة (دمعة في قلب الليل). فالكاتب يسخر من قول الشاعر النابغة في حديثه عن الدموع:
عصرت من مطارف الألم الدا
…
وي بقلبي وعتقت في دمائي!
بقوله: (فجعلنا نتمثل امرأة حاسرة عن ذراعيها أمام طست الغسيل تعصر تلك المطارف والأثواب. . .)
وهذا الكلام لا يجوز أن يدلي به ناقد يفهم المعادن الشعرية فهماً كاملاً، أو يكد ذهنه في اكتشاف الخبيء من المعاني الجميلة التي ينشط خيال الشاعر الجبار في اقتناصها
وكما بينت، يتردد الكاتب في إظهار حقيقة عواطفه نحو الديوان في بعض الأحيان، فهو يعود فيطري قصيدة (ثورة الإسلام في بدر). وما كان في وسعه أن يعدو ذلك أو يقول بنقيضه؛ بيد أنه يقول عن أبيات محمود الخالدة:
وقف المغني في حماك مجلجلاً
…
باللحن تخفق في الورى أصداؤه
فيه من الأقدار وهلة غيبها
…
خبأنه عن لمع الحجا أطواؤه
ومن الكتائب أرزمت أسلاتها
…
صخب يزمجر بالفتوح نداؤه
ومن المواكب هولها في فيلق
…
نشوان في يوم الفخار لواؤه
من قصيدة (يوم التاج) التي أذاعها الشاعر في مهرجان الوادي بتتويج صاحب الجلالة المليك المحبوب: (فأي مغن هذا المجلجل الذي اجتمعت فيه وهلة الأقدار وصخب الكتائب وهول الفيالق؟! إن هذه الصفات المروعة لا تصطلح على مغن ولو كان من (مطربي) محطة الإذاعة اللاسلكية بالقاهرة. . .)
يا أيها الكاتب المحترم، كيف عرفت أن الشاعر قال هذه الأبيات في مغن معين؟! لم يقل محمود هذه الأبيات في عبد الوهاب ولا في عبد الحي، ولو قال في أيهما لما كان شاعراً وإنما قالها في هذا الشعب العظيم الذي شملته نشوة روحية بيوم التاج السعيد، فانطلق يغني غناء الشعوب، تجلجل ويجتمع في غنائها هولة الأقدار وصخب الكتائب وهول الفيالق؟! كما تقول أنت حقاً!! ومحال أن تصطلح هذه الصفات على مغن من (مطربي) محطة الإذاعة اللاسلكية بالقاهرة كما تقول. . .! فالشاعر الذي يأخذ مثله الأعلى من أية محطة
للإذاعة، بل من أية موسيقى هزيلة ضعيفة، ليس بحقيق أن يدعى شاعراً، ولكن الشاعر الذي يبشر بمقبل باسم للموسيقى، إذ يتوجه بها إلى القوة وتصوير الحروب والكتائب، على نحو ما تأتي به موسيقى (فردي) و (بيتهوفن) و (موزار) وأضرابهم من العباقرة هو الشاعر الذي تحلم به مصر، وهو الشاعر الذي يأتي ليرقى الأحاسيس، وينمي الابتكار الخيالي، المنعدم مع الأسف في محيط الحياة المصرية قاطبة!!
ثم يهاجم الكاتب هذه الصورة الرائعة التي اغبط الشاعر عليها بحق:
الوجه ساج كصلاة الغديرْ
…
بين الطيورْ!
فهو كان يحب أن تصلي الطيور لغدير وهي تحسو الماء منه، وهذا هو المعنى الذي لا يصح أن يلتفت إليه الناقد المدقق، ولكن المعنى العميق الدقيق هو أن الغدير في سجوه وهدوئه يؤدي صلاة روحية عميقة، والطيور حواليه ترشف منه ساعة صلاته وذهوله؛ فهو ينظر إلى حركة الطيور الآلية عندما ترشف الماء من الغدير على أنها صلاة. والواقع أن الصلاة لا تصدق من الظامئ المفهوم المشغول بحسو الماء من الغدير، ولكنها تصدق كل الصدق من الغدير الساجي الهادئ المعطي الباذل ماءه لطيور الظماء!
وهل يجهل الناقد أن هنالك شيئاً في الشعر اسمه (امتزاج الأحاسيس) وأن هذا الشيء كتب فيه الشعراء واستعان به الكتاب ولعل ابن الرومي هو الذي أتقن هذا النوع من الشعر. ولماذا نذهب بعيداً فالرافعي رحمة الله عليه - يقول في بعض كلامه (واقتليني يا حبيبتي قتلة معطرة!!) وعلى هذا الأساس يجب أن يعيد الكاتب النظر في هذه الأبيات حتى يخرج منها بالصورة المركزة الدقيقة التي عانها الشاعر في قصيدته (في لهيب الحرمان) و (الذهول)
واختتم هذه الكلمة العابرة راجياً أن يراجع الكاتب الأديب مدارسة الديوان فسيجد فيه فتحاً جديداً في الشعر العصري، واتجاهات رائعةً أغفلها الشعراء عندنا. سيجد حديثاً عن الريف، ومظاهر الطبيعة الحزينة والطروب، وسيجد تعبيراً عن آلام الفلاح المصري، وسيجد غزلاً مطرباً صادقاً، وعند ذلك يكتب عن شاعر الريف الجديد الذي نبغ على صغر سنه، في هذا المضمار الرائع المستقل.
وسنتبع هذه الكلمة بحديث مسهبٍ عن شعر محمود إسماعيل إذا سمحت الظروف وسمحت
(الرسالة).
مختار الوكيل
المسرح والسينما
القصة المسرحية
بين حقيقة الواقع وخيال المتفائلين
أعلنت إدارة (الفرقة القومية) هذا العام، كما أعلنت في الأعوام السابقة، عن مباراتها في التأليف المسرحي والترجمة والاقتباس للمسرح المصري وحددت للمتفوقين عدداً من الجوائز المالية القيمة، واهمة أن في تلك الجوائز ما يغري كبار أدبائنا وكتابنا بمعالجة القصة المسرحية
وقد جرى لنا مع الأستاذ خليل مطران مدير الفرقة حديث في صدد القصة المسرحية والروايات التي تقدم للفرقة وأثر المسابقات والمباريات في ظهور المسرحيات القوية والمؤلفين المنسبين أو الذين لم تتح لهم فرصة التعرف إلى أصحاب الفرقة وتقديم مسرحياتهم لهم. وكان من دواعي سرورنا أن اتفقت وجهة نظر كل منا مع الآخر
وخلاصة هذه الوجهة المشتركة من النظر في التأليف المسرحي هي أن القصة المسرحية الناجحة، كانت وما تزال وستظل إلى ما شاء الله غاية الفرقة القومية التي لا تكل ولا تمل في سبيل الوصول إليها، والتمتع بما يدخل على المسرح المصري من نتائجها
ولكن الطريق إلى القصة الناجحة وعر، والرحلة إليها طويلة شاقة؛ فقد لوحظ أن المؤلفين الذين يتقدمون للمباريات في التأليف المسرحي يكونون عادة واحداً من أثنين: مشتغل بالمسرح يعرف كيف (يحبك) قصته ويطبعها بطابع الفن الناجح ولكنه ركيك العبارة ضعيف الأسلوب وليست لديه القدر الكافي من الثقافة العامة. وأديب أو كاتب ليست له براعة الأول في إجادة التصور وحبك الحوادث وإن كان جزل العبارة لطيف الأسلوب غني في الثقافة. هذا بينما القصة المسرحية التي تنشدها إدارة الفرقة هي القصة القوية الموضوع، السلسة الأسلوب، المحبوكة الحوادث، الملأى بالمواقف التي تستدر العاطفة وتثير الإعجاب.
وقد يكون من أشد ما يأسف له الكاتب أن يضطر إلى التصريح بالحقيقة المؤلمة التي يعرفها كل بصير وخبير بدولة الأدب والكتابة في مصر، وهي أن الكاتب المسرحي الناجح لا وجود له بين ظهرانينا حتى الآن. . .
وهناك جملة عوامل هي المسئولة عن هذه الحال التي يؤسف لها أشد الأسف. منها أن فترة النهضة المسرحية لم تدم أكثر من عشر سنوات، أقفلت بعدها لأغلب الفرق أبوابها، وأعلنت توقفها وإفلاسها. وأي صناعة لا يهتم زعمائها بالتدقيق والتركيز، مقضي عليها بالذبول والاندثار لا محالة. ومنها أن الضائقة المالية التي عرضت للفرقة على اختلاف ألوانها، حدت بأصحابها إلى التنكر لكبار أدبائنا وكتابنا الذين رأوا أن يساهموا في هذه الناحية الأدبية التي كانت وما تزال بكراً في بلادنا، ولا نذكر أن كاتباً كبيراً من كتابنا أثنى ذات يوم على مدير لإحدى فرقنا التمثيلية، المندثرة أو القائمة حتى الآن. . . ومنها أن نفراً من صغار النقاد جروا على الشماتة بكال رواية يقال إن صاحبها هو الأديب الكبير (فلان الفلاني) والزراية بجهوده وتأليفه بحق بغير حق، وبدافع من الفن أو من الحقد وصغار النفس. . .
والمباريات وإن كانت وسيلة من أحدث الوسائل لتشجيع البادئين والناشئين من المجتهدين، إلا أنها لا يمكن أن تؤدي النتائج المرجوة لرفعة المسرح والقصة المسرحية في أقصر زمن مستطاع. وبديهي أن الواجب إعداد المدرس قبل إيجاد التلميذ. . وإلا فعلى إي أساس يكتب البادئون قصص لزعماء الفن مشهود لها بالجودة، ومن أقلام كبار الكتاب والأدباء؟! لاشك أن كثيراً من شبابنا المثقفين عندهم استعداد كبير للظهور في ذلك الميدان الذي نكرر انه ما يزال بكراً، ولا تنقصهم إلا الإرشادات (الفنية) التي يمكن اكتسابها بالتعلم أو بتدقيق النظر في المسرحيات الناجحة.
سينمائي
أنباء سينمائية ومسرحية
فلم الدكتور
قطع الأستاذ نيازي مصطفى شوطاً كبيراً في الفلم الجديد الذي يخرجه لحساب استديو مصر. وهو الفلم الذي يسمى (الدكتور) وأن يقوم بالدور الأول فيه الأستاذ سليمان نجيب. والفلم مأخوذ من مسرحية قديمة للأستاذ نجيب، وحبذا لو غير اسمه حتى يتفق مع الحادث الكبير في الرواية
سينما تريومف
يفكر بعض المسئولين في شركة مصر للتمثيل والسينما في الطرق التي من شأنها تحويل هذه الدار الفخمة إلى سينما لعرض البرامج العربية، وقد تعاقدت الشركة مع وكالة المتروجلدوين على احتكار عرض أفلامها في الموسم القادم، ولكن ذلك كلفها نحو (250) ج م عن كل فلم
فلم الأستاذ أحمد سالم
بدأ الأستاذ أحمد سالم تصوير المناظر الخارجية لفلمه الذي تبدأ به الشركة الجديدة عملها، ونحن ننتهز هذه الفرصة فنهنئ عالم السينما المحلية بدخول الأستاذ سالم إليها مستقلاً وعاملاً لحسابه الخاص. وقد علمنا أن موضوع الفلم متصل بالطيران وأن بعض المناظر الخارجية اشتركت فيها بعض وحدات الطيران الحربية المصرية وسنعود إلى الحديث عن الأستاذ وجهوده السينمائية في فرصة أخرى
السينما في هوليوود
- يقوم (إدوارد ربنسون) بدلاً من (بون موني) بتمثيل دور (جواريه) في رواية (عرش من الفولاذ) وهي الرواية التي تقوم بالدور الأول فيها (بت ديفيز) أمام (فردريك مارش)
- أختيرت (كلوديت كولبير) و (كاي فرنسيس) للقيام بالدورين النسائيين الأولين في رواية (إخوان وارنر) الجديدة (عندما تسدل الستار)
- يعيد (سام جولدوين) رواية (ثلاثة أسابيع) التي كان قد أخرجها أيام السينما الصامتة - للكاتبة السينمائية الشهيرة (إلينور جلن)؛ وكان بطلاها السابقان هما (إيلين برينجل) و
(كونراد فيدت)
- أعدت شركة برامونت رواية خصوصية لإيزا ميراندا، وذلك بعد ما تقرر عدم إعطائها الدور الأول من رواية (زازا)